شؤون سياسية

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

” وقال فرعون : يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غير … ”
(سورة القصص، آية 38).
“ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يُشارك بها الله أو تُعطيه متاعاً ذا علاقة بالله”
(عبد الرحمن الكواكبي – طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص44).
لا يكاد يذكر المرء مصطلح “الطاغية” والاستبداد السياسي حتى تتجه نظراته صوب العالمين العربي والإسلامي حيث يقرنه مباشرة بالحضارات الشرقية القديمة والوسطى والمعاصرة في قارتي أسيا وإفريقيا، فصور الاستبداد السياسي بقيت مرافقة للتطور البشري منذ العصور القديمة حتى العصر الحالي لكل الأمم والشعوب التي نشأت وقطنت في الشرق، خاصة المنطقة العربية.

نبيل علي صالح15 نوفمبر، 20100

لا يزال يسيطر على مختلف مواقعنا السياسية والفكرية العربية مناخ ثقافي وسياسي عام يقوم على فكرة الربط بين متطلبات التنمية الداخلية واستحقاقات المواجهة الخارجية مع المحاور والقوى الإقليمية والدولية الكبرى.. وذلك لجهة تأجيل استحقاقات البناء والتنمية الداخلية ريثما يتم الانتهاء من إيجاد حول ناجعة لمجمل أزمات الخارج وتحدياته المفصلية، ومنها تحدي الصراع “العربي-الإسرائيلي”.
وقد وجدنا سابقاً كيف نجحت الدول العربية الحديثة المتشكلة بعد عهود الاستقلال قبل حوالي ستين سنة، في استغلال وتوظيف الصراع مع إسرائيل للتغطية على فشلها في تحقيق أي تقدم مهم في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والحياة السياسية.
ولدى البحث في مسبببات هذا الفشل التاريخي الكبير، قدم مفكرون كبار إجابات فكرية ومعرفية على شكل رؤى ومشاريع نهضوية متعددة ومتناقضة أحياناً، قد نتفق معها أو نختلف، ولكننا بالنتيجة لا نرغب في تثوير الواقع وتجييش المشاعر وتسخين المواقف، ولسنا في وارد توزيع الاتهامات على أحد.. لا على الحكام ولا على المحكومين، إذ أنه من الطبيعي جداً التأكيد هنا على أن معظم الزعامات والقيادات العربية التي وصلت إلى مواقع الحكم والقيادة بالطرق المعروفة، لا تتحمل وحدها فقط مسؤولية تردي أوضاعنا، بالرغم من أن هذه القيادات هي التي حكمت وخططت، ولكن هؤلاء الحكام هم  جزء من تراثنا وثقافتنا، ولم ينزلوا إلينا من كوكب آخر، فقد ولدوا في أحضان مجتمعاتنا التي تحكمها نظم وتقاليد فكرية وسلوكية محددة، كما أنهم تربوا على عادات وأنماط ثقافتنا ومناخاتنا الفكرية والسياسية المهيمنة منذ قرون.. وبالتالي فهم –بمعنى من المعاني- صورة لنا، يعكسون طبيعة الثقافة التقليدية السائدة، ويشكلون قطعة أو جزء من صورة وضعنا العام الذي تشكل منذ فترة طويلة في هذا العالم المشرقي.
من هنا ليس من المنطق أن نوجه اللوم فقط لحكامنا ونخبنا السياسية، بل ينبغي علينا الوقوف ملياً ومطولاً أمام طبيعة البيئة والبنية “الثقافية-النفسية-السياسية” السائدة التي تهيمن على وعي الناس عندنا، وتوجه مساراتهم، وتحدد اختياراتهم القيمية والعملية.
وحالياً لا تبدو ولا تلوح في أفق هذه الأمة الغائم والعاصف بالتحديات والمتغيرات الكبيرة أية إمكانية أو فرصة حقيقية للخروج من مأزقها الوجودي المقيم الذي تسببت به تلك البنية المترهلة، حيث أنه طالما هناك هزيمة داخلية للفرد العربي في داخل مجتمعاته وأوطانه، وطالما أنه فاقد للثقة بسياسييه وسياساته، وطالما أنه غير قادر على تحصيل معاشه اليومي بشكل طبيعي من دون ذل أو مهانة، وطالما لا يشعر بالحرية الحقيقة في التعبير عن رأيه وتقرير مصيره، وطالما أن تنميته الداخلية مقرونة –أولاً وأخيراً- بحل كامل للصراع مع إسرائيل، فإنه لن يكون هناك أي أمل واقعي في تحسن الأمور وتطور البلاد ونهضة العرب على الإطلاق.
ثم إنه وبعد صراع طويل مكلف مع إسرائيل لم يجد العرب من طريق لاسترجاع أرضهم المحتلة سوى طريق السلام مقابل الأرض (أو بعض الأرض مقابل السلام، ولا أدري لماذا لم يطرح العرب عودة باقي أراضيهم المحتلة الأخرى هنا وهناك؟!!) وطرحوا مبادرتهم الشهيرة بهذا الخصوص (السلام خيارنا الاستراتيجي-والسلام مقابل الأرض)، وذلك بعد حدوث جملة متغيرات استراتيجية إقليمية ودولية على الصعيد السياسي والاقتصادي، أثرت آنذاك على الموقف العربي من قضية فلسطين.
وهنا نفتح هلالين لنقول (بأن هذا الصراع سيبقى قائماً ولفترة زمنية طويلة، في موقعه الهام والمصيري، وسيأخذ أبعاداً وتطورات جديدة طالما أن منطق القسر والظلم هو المنطق السائد حالياً في معالجة كل مشاكل الساحة الراهنة المتعددة والمتفرعة من المشكلة الأم، وأعني بها مشكلة “الصراع العربي الإسرائيلي”).
ويجب ألا يغيب عن أذهان العرب أن مجتمعاتهم قد وصلت إلى أدنى حالات السوء من تخلف وفقر وأمية حضارية، وشارفت درجة الغليان من الإحباط والاحتقان الكلي الشامل نتيجة انعدام أملها ونفاذ صبرها في تحسن الأمور وتغير الأوضاع واليأس شبه الكامل من قصة هذا الصراع الطويل والمكلف مع إسرائيل، ودفعهم لفواتير وأثمان باهظة من دمهم وعرقهم وأموالهم ومواردهم وثرواتهم.. الأمر الذي يحتم على كل القوى والتيارات والنخب الحية الفاعلة في السلطة وفي المعارضة العربية –على حد سواء- أن لا يتناسوا أبداً حاجتهم الملحة لإعادة التوجه نحو داخل بلدانهم بما يسمح لهم بإعادة النظر في أسس تنظيماتهم السياسية والمدنية التي أصابها العطب في الصميم نتيجة لتاريخ طويل من تفشي الفساد والإفساد والقهر والتسلط والظلم في كل مواقعها وامتداداتها، فأصبحت تعاني من القصور والشلل وانعدام الفاعلية الحضارة.
وبالنتيجة نقول إن معادلة التعامل مع الآخر لا يمكن أن تكون منتجة وفاعلة ومؤثرة في عالم اليوم والغد إلا بتغيير مقدماتها الأساسية والتي تتمثل أساساً في تأمين شروط النهضة العربية المنشودة بما يؤدي إلى تغيير موازين القوى الداخلية، ويقود مباشرة إلى إحداث تغير (واختراق) نوعي كبير في الاستراتيجية  التي اعتمدتها النظم العربية في تعاملها مع الآخرين في مجمل ملفات الأزمات القائمة. والأولوية في تلك المعادلة هي لإصلاح وجودنا الهش المبعثر، وليس للمتاجرة بالعروبة وفلسطين في ساحات وبازارات السياسة الإقليمية والدولية. وأول إصلاح الوجود يكمن أساساً وجوهرياً في إصلاح السياسة والدولة كما ذكرنا، أي إعادة السياسة إلى حضن المجتمع، وأنسنة السياسة والدولة. بما يتطلبه ذلك من بناء للدولة العادلة القادرة، وتمكين الحريات للمواطن الحر..
وهذا ما يعني إعادة الاعتبار القوي للمجتمع في مشاركته الحقيقية في العملية التنموية الشاملة.. أي نزع القيود عن مشاركة الناس في الحركة الوطنية العامة، والتعاطي معهم كأفراد يحتاجون إلى الاحترام والتقدير والشعور بالحرية والثقة بالنفس.
ونحن نجزم هنا بأن مجتمعاتنا وشعوبنا العربية عموماً كانت تقف على الدوام في موقع التضحية والبذل والعطاء، وهي لا تزال مستعدة الآن وفي المستقبل أيضاً لتقديم المزيد من التضحيات والعطاءات في سبيل الخروج من نفق الانهيار الوطني العام، شرط أن تكون هناك نتائج حقيقية مضمونة لتضحياتها على صعيد العمل والإنتاج والتطوير والازدهار المجتمعي، خصوصاً إذا شعر –أبناء مجتمعاتنا- أن النوايا طيبة وصادقة، والعمل الجدي الصحيح يسير على طريق الحرية و الإصلاح والتغيير الحقيقي. وإلا فإن المصائر المجهولة تتهددنا، وسنواجه لا محالة واقع الإفلاس والهامشية الحضارية، ولن ينفع عندها الندم ولطم الصدور والبكاء على الأطلال!!..
© منبر الحرية، 18مايو 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

تتيح وسائل الإعلام والإتصال الحديثة العديد من الفرص الثقافية والسياسية المفيدة والجديدة التي لم تكن متاحة في عصر ما قبل الفضائيات، على سبيل المثال. وكمثال واحد على ذلك، يمكن إنتقاء تجربة الإطلاع على “ثقافة المناظرات” الإنتخابية، وهي جزء لا يتجزأ من الممارسات الديمقراطية الغربية التي كنا نكتفي بالسماع عنها عبر الصفحة المطبوعة والكلمة المكتوبة فقط: فقد سمعنا (عن بعد) عن مناظرة تاريخية بين مرشحين إثنين للرئاسة الأميركية في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، وهما جون كينيدي الديمقراطي وريتشارد نيكسون الجمهوري. ويبدو أن هذه المناظرة قد تركت أثراً عميقاً في النفس الجماعية الأميركية والثقافة الشائعة درجة إتخاذها تقليداً في جميع التنافسات الرئاسية التالية وبضمنها التنافس المحتدم والساخن الذي جرى قبل بضعة أشهر بين باراك اوباما المرشح الديمقراطي الأسمر من ناحية، وبين جون ماكين المرشح الجمهوري الأشقر، من الناحية الثانية. لقد أتاحت المناظرات الثلاث التي سبقت الإنتخابات الرئاسية التي جرت بعد تلك المناظرات وتأسيساً على معطياتها للجمهور، فوفرت هذه المناظرات الفرص الثمينة للناخب الأميركي، ليس فقط للإطلاع على أفكار كل واحد من المرشحين على نحو مباشر، مرئي ومسموع، بل كذلك (ربما) للإطلاع على تفاصيل شخصية المرشح وطريقته في الكلام والجلوس وإختيار الملابس والحفاظ على اللياقة عبر الحفاظ على مسافة لائقة بينه وبين منافسه، وكيفية تلقيه للنقد ثم كيفية الرد، زد على ذلك طريقته في إنتقاء الألفاظ وحركة الجسم وتعابير الوجه والعيون، من بين أشياء أخرى body language لا يمكن أن تظهر إلا عبر مثل هذه المقابلات المباشرة والنادرة.
هذه جميعاً تأتي في قائمة “المحرمات” في الثقافة السياسية الشائعة عبر التاريخ الحديث للعالم الثالث، للأسف؛ إذ لا تتاح الفرصة للجمهور بالإطلاع، مباشرة، على المرشحين كي يقرر هذا الجمهور من ينتقي ولماذا. وبذلك تتمكن “الديمقراطية الأميركية” أن تسجل هدفاً للفوز بسباق الديمقراطيات العالمية، هدفاً في شباك العديد من هذه الديمقراطيات التي تكتفي، على سبيل المثال، بتقديم المتنافسين على نحو غير مباشر أو بالإنابة عبر وسائل الإعلام الأثيرية واللافتات المعلقة والملصقات والصور والبيانات الإنتخابية. هذه، بطبيعة الحال، طرائق مختلفة لعرض المرشحين وأفكارهم أمام الجمهور بهدف المساعدة على الإختيار الصحيح، بيد أنها جميعاً لا ترقى إلى فكرة الصراع المصور والمسموع على حلبة التلفاز. وهذا ما اتاحته وسائل الإتصال الحديثة لنا الآن عبر تجربة الإنتخابات الرئاسية الأميركية.
إنه لمن نافلة القول، أن يفكر المتابع في العالم النامي، عند الإطلاع على مثل هذه الممارسة الديمقراطية المفيدة: لماذا لا نفعل الشيء ذاته هنا؟ أي، لماذا لا نشاهد مناظرات من هذا النمط بين المرشحين للرئاسة والمرشحين للبرلمان أو للمجالس النيابية الوطنية أو لرئاسة الوزراء والحكومات؟ يبدو للمرء أن أسباب الحرمان من هذا النوع من المناظرات المباشرة لرؤية وسماع “من ننتخب” وننتقي، عديدة، ومنها أن طبيعة السلطة وإدارة القوة السياسية في مجتمعاتنا التقليدية تكمن على عدد من المسلمات، كأن يكون من المفترض أن يحرم المعارض من نعمة أو مَلَكة الصوت: فهو غالباً ما يكون مغموراً ومغموط الحقوق، لا يسمح بسماع صوته: ليس لأنه أخرس، ولكن لأنه يتجاوز حدوده، أو حدود “اللياقة” في طرائق مواجهته للأعلى أو للسلطة. من هنا صار تقليد المناظرة تقليداً غريباً ومضطرباً بل ومرفوضاً في ثقافتنا وفي عالم يكون فيه صاحب اليد العليا هو الكائن الوحيد القادر على إنتاج الصوت المسموع، بينما يكون غيره أخرساً لا قدرة لديه على التعبير عما يريد. لنلاحظ العديد من الممارسات الانتخابية في عالمنا الذي غالباً ما نسميه بـ”العالم الثالث” (عدا الهند، مثلاً)، إذ نجد أن أهم أسلحة مواجهة التغيير ومقاومة الجديد هو سلاح حرمان الخصم من أن يُسمع صوته. هذا لا ينطبق على الحياة السياسية الأميركية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتنافس على مؤسسة الرئاسة فيها. في عالمنا “الدافيء” تكون الإنتخابات الرئاسية بلا منافس أو تنافسات، إذ غالباً ما يسمى الرئيس ويكتفي الجمهور بالإحتفاء والإحتفال بـ”الترئيس”. وهكذا صار هذا تقليداً مؤسفاً حرم العديد من المنافسين الجيدين من فرص التنافس والخدمة العامة في عالمنا. أنا شخصياً قضيت حياتي في جمهورية لم ينتخب لها رئيساً واحداً قط. منذ تأسيسها في 14 تموز عام 1958. الرؤوساء يأتون ويذهبون مثل الغيوم العابرة، أي بالإنقلابات العسكرية أو بالتغيرات العنيفة، إن لم يكن بتناسل السلطة او توريثها. وللجمهور الإكتفاء بالقبول بالأمر “الواقع” الممرر عبر الإعلام الوحيد الجانب، المركزي أو “الموجه”. ليس لدينا الوقت الكافي للمناظرات ولمثل هذا “الهراء الأميركي”! ذلك أن الرئاسة تأتي وتذهب بطرائق أخرى، تتبعاً لخطى الأقدمين، ومنها طريقة “البيان رقم واحد” الذي تعودنا سماعه على حين غرة في إحدى صباحات شهر تموز، شهر الثورات!
لقد حاول الرئيس السابق صدام حسين إستثمار الإرتكان الأميركي إلى المناظرة وثقافتها الشائعة من أجل تحقيق مكاسب في الصراع الذي نشب مع الغرب بعد غزو دولة الكويت الشقيقة، مقترحاً على الرئيس السابق جورج بوش الأب نوعاً من “المناظرة” بواسطة تسجيل نداء أو حديث للرئيس الأميركي موجه إلى الشعب العراقي، مقابل حديث للرئيس السابق موجه إلى الشعب الأميركي، علّ في ذلك خلاصاً من الحرب التي كانت محققة، لا مفر منها. بيد أن هذه اللعبة لا يمكن لنا إتقانها أو لعبها بالطريقة الصحيحة في مقابل من هم خبراء بها، كالرئيس الأميركي اعلاه، فكانت النتيجة الضحك على الإعلام العراقي المركزي “الموجه” الذي سارع سنة 1991 على عرض حديث بوش للجمهور العراقي عبر محطة التلفاز الوحيدة العاملة في العراق وقتذاك حيث كانت الفضائيات من المحرمات، بينما رد البيت الأبيض بأنه لا يستطيع أن يفرض على الجمهور وعلى شبكات التلفاز الأميركية عرض حديث للرئيس السابق صدام حسين بطريقة قسرية، الأمر الذي أشعر النظام العراقي بأنه قد أستُغفل ببساطة متناهية. وقد حاول الرئيس السابق فعل الشيء نفسه في مقابلته الشهيرة مع صحفي الـCBS “دان راذر” Dan Rather الشهيرقبل حرب 2003 ببضعة أيام، إذ انه طالب بمناظرة مع الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، الأمر الذي قاد إلى شعور دان راذر بالمفاجأة والذهول خاصة وأن الحرب كانت قاب قوسين أو أدنى. لم تتحقق المناظرة التي طالب الرئيس السابق بها، ولم تتمكن من إعطائه الفرصة لتبرير الوضع المعقد بين العراق والولايات المتحدة، ولو أن مناظرة من هذا النوع قد عقدت بوساطة دان راذر، لكانت اليوم قد عرضت آلاف بل مئات الآلاف من المرات كي يحفظها الجمهور العراقي عن ظهر قلب: ثلاث مرات يومياً، مرة مع الفطور والثانية مع الغداء، وثالثة بعد العشاء!
إن خلاصة الكلام تتجسد في أن الديمقراطيات الفتية في الدول النامية هي بحاجة إلى ممارسات أعمق تسمح لها بالخروج من سلة العالم الثالث التقليدي إلى صنف العالم المتقدم حيث يكون لكل متنافس صوته المسموع وصورته المرئية، كما يحدث اليوم في العالم الغربي الذي نخصه بنظرات الإحتقار الدونية ولا نملك من الأدوات التي تجعله يخصنا بما يكفي من التقدير.
© منبر الحرية، 15 مايو 2009

نبيل علي صالح15 نوفمبر، 20100

كيف يمكن للمثقف والسياسي الأصولي بمختلف أشكاله وصوره المتناحرة والمتناقضة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين (والذي يؤمن إيماناً راسخاً بحتمياته ورواسخه الدينية أو القومية أو الماركسية) أن يتحدث عن الحريات والحقوق الفردية، ويطالب بتأسيس دولة القانون والمؤسسات، وهو لا يزال يعيش داخل دهاليز نضالاته الوهمية التي لا يفهمها إلا بلغته وأدواته القديمة البالية؟!.
ثم كيف يمكننا تصديق أقوال الداعية الأصولي الذي حمل السلاح في وجه أبناء المجتمع، ومارس الإقصاء الدموي ضد خيرة أبناء المجتمع، ومسؤولييه عن الديمقراطية، رافضاً حق جميع القوى والتيارات في تداول السلطة والحكم، وو…الخ؟!. وهو نفسه أقام وجوده الفكري والعملي على المطلقات التاريخية والعقائدية المقدسة التي تنفي –بمعظمها- الآخر من جذوره، وتستبعده كلياً من ساحة الحياة إلى حفرة القبر.
إنهما مشهدان يختصران مواقع الثقافة والسياسة في عالمنا العربي، ويقدمان صورة حية عن أيديولوجية الدمار والموت التي تتستر بالعقائد لتبرير عنفها ودمويتها وشبقها الأعمى للتعصب والقتل.
وهذا ما يلزمنا بضرورة تبني العقلانية في الفكر والوعي والممارسة. وأنه يجب على الكل مسامحة الكل إلا من ثبت تورطه في ممارسة القتل الرمزي والدموي بحق الناس والمجتمع)، لأن الكل (وهذه حقيقة صعبة وجارحة قد تصدم الكثيرين) متورط في ممارسة “الزنا السياسي والثقافي” –إذا صح التعبير- من ألفه إلى يائه.
ومن هنا ينبغي على هؤلاء جميعاً أن يقفوا أمام مجتمعاتهم كلها ليقروا ويعترفوا اعتراف المخطئ بكل الأعمال الظالمة والممارسات الشنيعة التي ارتكبوها بحق المجتمع والناس المستضعفين. ومن ثم يطلبوا الصفح والعفو الصريح والحقيقي من الشعوب التي عانت (ولا تزال تعاني) وتتحمل الكثير الكثير من نتائج عقم وسوء الاستراتيجيات وجملة الخيارات السياسية والتنموية والاقتصادية التي تبنتها ومارستها تلك النخب السياسية والفكرية.
ونحن عندما نتطلع إلى ضرورة أن يتقدم هؤلاء (من المثقفين والحكام) لطلب الغفران من الشعب، فإن ذلك لابد وأن يكون مبنياً على قواعد ومنظومات عمل جديدة في العمل السياسي والثقافي، تضمن عدم تكرار مثل تلك الممارسات والسياسات الخاطئة، وتمنع حدوثها مرة أخرى بضمانات الدولة المؤسساتية العادلة.
وإننا إذ نطالب بالسعي الجدي لتحقيق ذلك، فإننا لا نعتقد باستحالة حدوثه، ولا نطالب هؤلاء باجتراح المعجزات بالرغم من أنهم اجترحوا سابقاً معجزة وصولهم إلى دفة القيادة والحكم من دون أن تنتخبهم الجماهير بإرادتها الطوعية لا القسرية، الأمر الذي تسبب أساساً في إفشال كل خطط التنمية السياسة والاقتصادية العربية على مدار العقود الماضية، حيث أن الحكام الذين كانوا يأتون إلى السلطة كانوا يفتقدون على الدوام مفردة الشرعية الحقيقية، ولهذا كانوا عديمي الفاعلية والجدوى تقريباً في مجريات الأحداث، والتأثير في الواقع والشأن العام لمصلحة الناس عموماً.
ويبدو أن هذا التخلف الفكري والأيديولوجي المقيم عندنا –والمنطلق من خلال تعامل كثير من قياداتنا العربية مع شعاراتهم وقضاياهم ومع الواقع بعقليات طوطمية سحرية- هو الذي يملي عليهم نقصاً حاداً في الوعي تجاه مفهوم السلطة والحكم والحرية، وأساليب ممارسة الفكرة في الواقع.
فهم لا يزالون يؤمنون –بالرغم من ادعائهم الظاهري الإيمان بالعملية الديمقراطية- بأن عملية التغيير والتطوير (باتجاه قيم التعددية السياسية والفكرية، وفسح المجال الواسع أمام جماهير الأمة لتمارس حرياتها العامة، وتعبر عن آرائها في كل ما يتصل بمصائر عالمنا العربي) ستنطلق من فورها بقدرة قادر أو بسحر ساحر. أي بمجرد أن نصرح عن تلك القيم، أو نصدر صحيفة هنا، ونكتب مقالاً نقدياً هناك.
وتاريخنا المعاصر –الذي كتبت للأسف تلك النخب السياسية والفكرية الجزء الأكبر منه- مليء بكل ما يناقض ما كتبه أدعياء التغيير والتطور عن ضرورة التغيير، وضرورة الحرية والديمقراطية والتقدم.
من هنا نحن نعتقد بأن مشوار التغيير الحقيقي في مجتمعاتنا المتخلفة لا يزال طويلاً وهو لا يعني أن مجيء تيار ما إلى السلطة، يحمل أفكاراً معينة هو الحل، وهو المنقذ لهذا المجتمع الذي يرزح تحت أعباء التخلف والظلم السياسي والاجتماعي، بل إنه يعني أن مجيء بنية جديدة ونظام جديد وتصور جديد لمفهوم بنية الحكم والسلطة هو المنقذ لأشكال التأخر التي نعيشها (وربما يتعيش كثيرون عليها).
ويجب ألا ننسى هنا أن تراثنا السياسي فقير جداً في موضوع البنية التشريعية التي تتناول مفهوم السلطة. كما أن فكرنا الحضاري الإسلامي –الذي كانت له الريادة في مجالات العلوم الإنسانية (كالفلسفة، والاجتماع، والآداب، و..الخ)- يفتقر كثيراً للعلوم السياسية، ولا توجد فيه أية إنجازات تذكر على هذا الصعيد. الأمر الذي أثر سلباً على مستوى عدم إنضاج تجارب حقيقية لدى الأجيال اللاحقة فيما يخص عملية اجتراح بنية جديدة للسلطة، وإحداث التغييرات الكمية والنوعية الحقيقية في نواة الحكم.
ولذلك فإننا نعتقد –وننصح هؤلاء المثقفين والسياسيين ممن جربوا ودفعوا الأثمان الباهظة للنضالات القومية والماركسية والدينية الفاشلة من حاضر ومستقبل شعوبهم ومجتمعاتهم- أن الأمر الذي يمكن أن يُحدث تلك التغييرات الكمية والنوعية المطلوبة في طبيعة السلطة التي نبحث عنها، هو تقديم رؤى وأفكار جديدة لمفهوم السلطة والحكم، تتناول -في الأساس، وقبل أي شيء- شرعية السلطة، وامتدادها الاجتماعي، ورضى الناس الطوعي الحقيقي عنها.
فشرعية السلطة–أية سلطة- أهم بكثير من صبغتها ولونها وتركيبتها المعرفية، سواء كانت دينية أو ماركسية أو قومية أو حتى ليبرالية. وعلى الذين يريدون المساهمة الفاعلة في تطوير الواقع، وتغيير آليات العمل السياسية للمجتمع ككل، عليهم:
أولاً: عدم ممارسة دور القيمومة والوصاية الأبوية على معارفهم، والتخلي عن حراسة أفكارهم ومقولاتهم العاجزة عن مواجهة الواقع والتطورات السريعة والمتلاحقة فيه.
وثانياً: المصالحة الحقيقية العقلانية مع الذات بنقدها وتعرية نقائصها وسلبياتها، ووعي الواقع والحياة المعاصرة.
وثالثاً: الانكباب على إحداث التغييرات النوعية انطلاقاً من الواقع، وليس انطلاقاً من الأفكار المسبقة المعلبة والمتخشبة العاجزة عن قراءة ذاتها قبل قراءة الآخرين.. لأن العلة ليست في الواقع دائماً، أو في توجيه اللوم والاتهامات الاعتباطية للآخر، بل هي  –كما يؤكد علي حرب- في الأفكار المتحجرة والمفاهيم البائدة والنصوص المغلقة والقراءات الموقوتة والعقول القاصرة حيث أن هؤلاء يؤمنون بأن العلة في الواقع وليس في الفكرة والنظرية. ولذلك فهم يسعون دوماً –وهنا أصل الداء، وجذر العطالة- إلى محاولة كسر وتجيير الواقع ومطابقة وقائعه المتغيرة باستمرار مع مقولاتهم المتكلسة البائدة ومفاهيمهم العقيمة غير المنتجة، الأمر الذي سيؤدي –كما أدى سابقاً ويؤدي حالياً- إلى أن يصبح المثقف (وكذلك السياسي) ضحية أفكاره و(دونكيشوتاته) النضالية الفاشلة بحيث يظهر عملياً في الواقع، وهو يعمل ضد مبادئه وأهدافه المحملة بحمولات أيديولوجية شعاراتية ضخمة كلفته –وكلفت مجتمعه- كثيراً من الدماء والدموع. أي يظهر أمامنا حارس القيمة قاتلها، وفق مبدأ “حاميها حراميها”.
وعندما نبدأ جميعاً –كمثقفين وسياسيين- بالتحرك على طريق الإصلاح والتجديد الفكري والعقلي والديني، يمكن أن نصدق أفكارنا، ونصدق بعضنا البعض.. بعيداً عن النفاقية والتكاذب والتكاذب المضاد.
© منبر الحرية، 30 أبريل 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

منذ نحو أربعين سنة وهاجس الغزو الثقافي يسيطر على تفكير الكثيرين في واقعنا. وعندما سقط تقسيمُ العالم إلى كتلةٍ شرقيةٍ وكتلةٍ غربيةٍ في نهايةِ الثمانينيات وبدأ العالمُ يتحدث عن ظاهرةٍ جديدةٍ سماها البعضُ (ثم إنتشرت التسمية) بالعولمة بدأنا نتحدث عن “العولمة الثقافية” ومخاوف إجتثاثِ ثقافةِ العولمةِ لخصوصياتنا الثقافية. وقد كتبت كثيراً في هذا الموضوع وكانت خلاصة وجهة نظري أن أصحابَ المحصولِ المتواضعِ من الخصوصيات الثقافية هم المهددون فقط بسحقِ ثقافةِ العولمِة لثقافاتهم أما أصحابُ المحصولِ الهائل من الخصوصيات الثقافية مثلنا والذين ترجع خصوصياتهم الثقافية لعواملٍ متصلة بالتاريخ وعوامل متصلة بالجغرافيا فإنهم يكونون مثل اليابانيين غيرَ معرضين لزوال الخصوصيات الثقافية الكبيرة لهم. وكنت أكررُ أن كلَ الأمثلةِ التي يعطيها البعضُ على تأثر اليابان ثقافياً برياحِ تغيرٍ من الخارج كانت تصبُ في خانة “البنود الثانوية” مثل تناول الوجبات السريعة وإرتداء الملابس الأمريكية إلى آخر هذه السلسة من البنود الثانوية أما العلاقاتُ الإنسانية والقيم المعطاة للكبار في السن والعلاقات الأسرية اليابانية وغيرها من القيمِ الأصليةِ ومن بينها فهمُ الياباني للعمل، كل ذلك لم يطرأ عليه أي تغيرٍ منذ ستين سنة كانت فيها اليابان ذات تعاملات عارمة مع الآخرين.
ومع ذلك فإذا كان من حقِ البعض أن يتخوف على خصوصياتنا الثقافية في مواجهةِ ما يسمى بثقافةِ العولمٍة فإن الأمرَ مختلفُُ تماماً بالنسبةِ لقيمِ التقدم: فهذه القيم تجد كلها تأيداً وتعضيداً من الأسس التي ترِتكز عليها خصوصياتُنا الثقافية إذ يستحيل أن يقول قائلُُ أن الأسسَ المصريةَ أو العربيةَ أو الإسلامية أو المسيحيةَ تقف بأي شكلٍ من الأشكالِ موقف المخالفةِ والتضاد في مواجهةِ قيمٍ مثل الوقت والإتقان وعالمية المعرفة وعمل الفريق وثقافة النظام عوضاً عن ثقافة الأفراد أو الإيمان بأن الإدارة هي أحد أهم وأكبر أدوات صنع النجاح. بل إنني أتصور أن يزعم عديدون في واقعنا أن هذه القيم وجدت دعوة وتعضيداً لها في تاريخنا قبل مئات السنين وقبل أن تأتي دورةُُ من دوراتِ الحضارة الإنسانية وتوظفها توظيفاً جيداً لصنع حياة أفضل. وقد يظن البعضُ أن ما أقوله في هذا الفصل قد يكون منطبقاً على معظم قيم التقدم ولكن يصعب إنطباقه على قيمة التعددية إذ يعتقد البعض أن التفكيرَ الديني الإسلامي يقوم على “وحدانية نموذج الصواب” – وهذا في إعتقادي خطأ بحت فهناك العديد من النصوص القرآنية التي تعضد التعددية ولعل أهمها النص الذي يشير إلى أن الله لو أراد أن ي كون الناسُ على دينٍ واحد لفعل ذلك (سورة يونس – آية 99) كما أن هناك العديد من النصوص الواردة في السنة التي يمكن أن تكون دليلاً معضداً لكون التعددية من سنن الحياة.
وسيكون من الغريبِ (والمهينِ) للغاية وجود حوار حول “تضاد” بين خصوصياتنا الثقافية وقيم مثل الوقت أو الإتقان لأن زعماً كهذا سيكون بمثابة ترويج لقيم التخلف والبدائية(ناهيك عن كونه إهانة ذاتية منّا لنا). كذلك مما يدل على عدم وجود تضاد بين قيم التقدم وخصوصياتنا الثقافية أننا شهدنا خلال القرن الأخير فترات كان التواجد النسبي لمعظم هذه القيم في واقعنا أعلى منه في فترات لاحقة عندما تمت عمليةُُ يسميها البعض “تفكيك المجتمع المصري” فواكب ذلك إنخفاضُُ كبيرُُ في نسبةِ توفرِ قيمِ التقدمِ.
وأُذكرُ أنني (في الثمانينات) كنتُ في أحدِ مراكزِ التقدمِ الإقتصادي المبهرِ في جنوب شرق آسيا وكان الشعارُ العام للمؤسسات الإقتصادية في هذا الجزء من العالم أننا أمام مجموعتين بشريتين “المجموعة الصينية” و “المجموعة المالاوية” وكان العرفُ السائد أن من يريد تكوين تنظيم عملٍ على درجةٍ عاليةٍ من التميُز والكفاءة فإن عليه أن يعتمد كليةً على العنصر البشري الصيني لأنه يتقن العمل ويخلص فيه كما أنه مجبولٌ على العمل الجماعي ويبلغ تقديسه للعمل مبلغ تقديس كبار المتدينين لعقائدهم. أما المجموعة الأخرى فسماتها الأصلية الكسل وعدم الإتقان والتشرذم والبعد الكامل عن تقديس العمل. وكانت هذه المقولة شبه مطلقة حتى جاء رجلُُ واحدُُ في دولةٍ أكثر ثلثي سكانها من الطائفة المستبعد تميّزها في العمل وهي ماليزيا والتي يشكل المسلمون والمالاويون المنتمون للطائفة الثانية السواد الأعظم من سكانها وحقق معجزة وصول هذا الشعب لأعلى مستويات التميز في كل مجالات العمل الإنتاجية والخدمية ، وإذا بنا في أقل من عشرين سنة نرى كلَ قيم التقدم مجسدةً في هذا المجتمع الذي كان قبل ذلك يغط في سباتٍ التخلفِ والعجزِ والكسلِ… وإذا بالعالم يكتشف حقيقتين كبيرتين لم يكن من الممكن تصديقهما من قبل:
o الحقيقة الأولى أن التأخر ليس نتيجةً لحتميةِ بيولوجية وإنما لظروف إن تغيرت تغيرت الأحوالُ كليةً .
o الحقيقة الثانية أن قيم التقدم يمكن أن تُزرع في بيئاتٍ مسيحية وبيئات بوذية وبيئات مسلمة بل وفي أية بيئةٍ من البيئاتِ وأنها ليست حكراً على أحدٍ.
وإذا أردنا أن نضيف الآن حقيقة ثالثة فهي أن كل الخصوصيات الثقافية الماليزية والمتعلقة بالعلاقات الإنسانية والعلاقات الأسرية وإستمداد القيم من الدين بقت كما هي في زمن الإزدهار ولم يحدث أي تضاؤل لها عما كانت عليه في زمن الإنحدار . حتى الذين يقولون أن ما حدث في ماليزيا كان بتأَثير الأقلية الصينية فإننا نقول لهم أن هذا الكلام لا معنى له إلا معنى أخر غير الذي تقصدونه فالمعنى الوحيد لهذه الملاحظة أن (التقدم) يمكن أن يحدث بالعدوى.وهي فكرة لا بأس بها على الإطلاق وأن كنت أعتقد أن دحضَها في النموذج الماليزي سهلٌ للغاية: فالأقليةُ الصينية كانت دائماً متواجدة في ماليزيا أما الذي لم يكن متواجداً فهو الرجل الذي صنع هذا التغيير (محمد مهاتير أو محمد محاضر) أو بتعبير آخر (القيادة والقدوة).
* البروفسور طارق حجي كاتب و باحث مصري.
© منبر الحرية 28  أبريل 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

يبدو المشهد السياسي العراقي المعاصر مفتوحاً على احتمالات سياسية عديدة، ولا يمكن لأحدٍ الجزم بطبيعة المآل الذي ستؤول إليه التجربة الديمقراطية العراقية الوليدة حديثاً، والتي لا تزال عرضة للكثير من العقبات والتحديات الداخلية (على صعيد البنية والرؤية والمضمون) والخارجية (على صعيد وجود محاولات خارجية حثيثة لإسقاطها أو لحرفها عن تطورها ومسارها التجريبي الطبيعي).
وقد انطلقت شرارة الديمقراطية الحديثة في العراق بعد أن شنت الولايات المتحدة حرباً غير شرعية على العراق أفضت إلى احتلال بلاد الرافدين بالكامل، مما سمح لكل هذا المكبوت العراقي العنيف –عن قصد أو عن غير قصد- بالخروج والنفاذ إلى السطح بعد عهود طويلة من القمع العاري والعنف الدامي المادي والرمزي الذي مارسته سابقاً سلطة “المشروعية الثورية الانقلابية” القومية والاشتراكية بحق كل شرائح وفئات وأطياف المجتمع العراقي منذ ما بعد خروج الاستعمار البريطاني حيث شرعت وقتها النخب الوطنية -التي قادت النضال من أجل تحقيق الاستقلال- في محاولة بناء دولة حديثة تقوم على الأسس القانونية البرلمانية والدستورية الديمقراطية قبل أن ينقض عليها العسكر بانقلاباتهم العبثية والشعبوية التي مارست سياسة تحطيم منهجي تدرجي شامل ضد المجتمع العراقي قبل أن تقدمه على طبق من ذهب كفريسة متآكة للأطماع الخارجية. وقد رأينا كيف كان العراق ينتقل –مع هكذا نخب طغيانية- من حرب إلى أخرى، ومن دمار إلى آخر، فكان أن انحل مفهوم الدولة الوطنية التي قامت بعد الاستقلال، ليواجه المجتمع العراقي وحيداً سلطات دموية غاشمة تمارس العدوان والإبادة في الداخل وتحاول تعميم الإرهاب في الخارج.
ولا شك بأن القضاء على النظام الشمولي في العراق –الذي كان يتقوم بثقافة الإلغاء والعنف والفساد المعمم وتهشيم عرى الوحدة الوطنية عبر الممارسات الطائفية والعائلية- وفّر لهذا المجتمع لوناً من الحرية، كما سمح ببناء نظام سياسي تعددي لم يكن للعراقيين عهد به من ذي قبل (تحديداً منذ العام 1958م)، تمكنوا بموجبه من تنفس الصعداء وممارسة حرياتهم وإخراج كل ما لديهم من رؤى وتصورات وأحلام وتطلعات ثقافية ودينية وسياسية خاصة وعامة إلى عالم النور والحياة، بعد أن ظلت في عالم المكبوت واللاوعي المجتمعي.
ولا شك بأن مجتمعاتنا العربية –ومن ضمنها طبعاً المجتمع العراقي- تواقة إلى المشاركة في صنع السياسة والدخول إلى عصر الشعوب الحرة صاحبة القرار في تحديد مصيرها ومستقبلها من خلال إحداث التغيير الديمقراطي وبناء دولة العدل والقانون والمؤسسات.. ولكنها لا ترغب –وبغض النظر عن طبيعة تكويناتها الثقافية والسياسية- أن تكون طريقها إلى الديمقراطية مليئة بالجثث والضحايا وبحيرات الدماء، بل تتمنى أن يأتي التغيير المنشود داخلياً وسلمياً وهادئاً ومن دون أية خسائر بشرية أو غير بشرية.
وإذا أردنا أن نقيّم تجربة العراق الحديثة العهد نسبياً بصورة صحيحة وموضوعية، لا يمكننا الاكتفاء فقط بإجراء معاينة ومشاهدة خارجية لبعض المظاهر الشكلية لتلك التجربة داخل المجتمع العراقي، بل ينبغي علينا النفاذ عميقاً إلى بنية هذا المجتمع الذي لا يزال يشهد حضوراًَ طاغياً وبارزاً للثقافة الأهلية (ثقافة التدين الشعبي والتكليف الشرعي) في معظم مواقعه وامتداداته.
فالتكليف الديني الشرعي هو الذي يقود –بصورة عامة- ثقافة هذا المجتمع، ويتحكم بوجوده من تحت السطح، ويحدد لأفراده طبيعة الحراك الذي يجب عليهم القيام به وسلوك طرائقه بما يحقق أهدافهم ومقاصدهم التي يراها ويؤمن بها كل مكون من مكوناته.
وقد لاحظنا في الانتخابات التي جرت في العراق خلال السنوات الماضية التي أعقبت غزوه، هيمنة هذا البعد الديني على تفاصيل العملية الديمقراطية العراقية، قبل انعقاد الانتخابات وفي المرحلة التي تلتها بعد وصول النواب الجدد إلى سدة البرلمان، حيث لاحظنا أن جل اهتمام النواب الإسلاميين -أو أولئك المحسوبين على الثقافة والانتماء الديني الإسلامي- كان منصباً ليس على معالجة هموم ومشكلات مجتمعهم في مكافحة البطالة المقنعة والسافرة، ومحاسبة الفاسدين، وتدهور التعليم، وعدم وجود عدالة اجتماعية وانعدام تكافؤ الفرص، وتردي الأخلاق العامة، وهدر المال والثروة الوطنية، وتفشي ظواهر الإثراء غير المشروع الذي وصلت أرقامه إلى حدود فلكية.. أقول: كان الهم الأكبر والأعظم لدى أولئك النواب هو في محاولة إقرار تشريعات قانونية دينية ملزمة كالحد من حضور المرأة في المجتمع، وإلزامها بارتداء الحجاب، ومنع بيع الخمور وغيرها مما يدخل في ثقافة الحلال والحرام الدينية، مع العلم أن الحرام الأكبر الذي ينبغي تفاديه والتصدي له هو غياب المنهجية العلمية اللازمة لبناء المجتمع وتطويره وتحديثه وتنميته بعد عقود من التحطيم المنهجي المنظم الذي تلقاه على يد النظام الديكتاتوري السابق زمن صدام حسين..
وبالنظر إلى ذلك أؤكد بأنه إذا حاولنا تقييم تجربة العراق الديمقراطية من خلال ما تم بناؤه حتى الآن في العراق الجديد من مؤسسات وآليات وقوانين ديمقراطية، فإنه يمكن القول بأن العراق بدأ يحث الخطى نحو عالم التحول الديمقراطي وتداول السلطة، وإقامة أسس نظام ديمقراطي برلماني، حيث الانتخابات الحرة ووجود البرلمان الحقيقي الممثل لكل الأطياف الحضارية والدينية والثقافية للمجتمع العراقي، وحيث تعدد الأحزاب (من أقصى اليسار لأقصى اليمين) والنقابات والقوانين الناظمة لوجودها، وحيث الصحف الحرة ووسائل الإعلام المنتشرة بكثافة، وحيث بداية تشكل دولة القانون والمؤسسات والقضاء المستقل..
وأما إذا قيمنا تلك التجربة من زاوية إيمان والتزام أهل ونخب العراق الجديد –بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم الدينية والفكرية- بالفكر والنظرية الديمقراطية كآلية لتنظيم وإدارة شؤون الدولة والمجتمع، ونسبة نفاذها إلى عمق قناعاتهم الداخلية، وتطبيقها في ممارساتهم العملية على مستوى مؤسسات الدولة، فإنه يخالجنا شعور عميق بأن التجربة الديمقراطية العراقية لا تزال هشة ومحكومة، وفي بدايتها من الناحية البنيوية، وأن طريق المجتمع العراقي –مثل باقي مجتمعات العرب- نحو إنجاز بنية ديمقراطية وصيغة دستورية تعاقدية صحيحة وعصرية صعب وشائك وغير مفروش بالورود، بل دونه عقبات ثقافية وقيم قبلية وعادات نمطية قديمة لا تزال مهيمنة ومحددة لحركة الناس. فالصوت القبلي والعشائري لا يزال قوياً ومسموعاً وحاكماً في مجتمعاتنا. ورؤية أو فكر أو مفاهيم شيخ القبيلة –السياسي أم الديني- عندنا لا تزال هي الحكم والمرجعية الصالحة والرشيدة والموجهة لكثير من تفاصيل الحياة والمجتمع.
وربما يكون الدليل الأبرز على ذلك أمران أو شاهدان من العراق الحديث:
الأمر الأول: استعانة الديمقراطية العراقية الوليدة بشيوخ العشائر والقبائل (من مختلف الملل والمذاهب الإسلامية) لدعم وتثبيت أركان الأمن في أنحاء متفرقة من العراق الجديد. مما يقودنا إلى حقيقة أنه لو كانت الديمقراطية العراقية عميقة وضاربة الجذور هناك لما احتاجت الدولة –وهي صاحبة القرار الحاسم في إصدار الأمر والهيمنة على قرار الحرب والسلم والمعنية أولاً وأخيراً باستخدام العنف لتثبيت الأمن- للاستعانة بقوى ومليشيات مسلحة خارجة عن سياق الدولة، أو بالحد الأدنى رديفة لها (عشائر صحوة أنبار العراق وغيرها). ومع ذلك فلا مقدسات في السياسة، والغاية تبرر الوسيلة أحياناً، بل وتنظفها من بعض ما قد يعلق بها من شوائب وأخطاء، وإذا كانت الغاية هي الحد من العنف الدامي الذي كان مسيطراً في العراق من خلال الاستعانة ببعض القوى التقليدية، والاستفادة من خبراتها النوعية الكبيرة في هذا المجال، فلا مانع من ذلك شرط ألا يأتي على حساب مستقبل الديمقراطية الحقيقية في العراق.
الأمر الثاني: الزيارات الدائمة والمتكررة للوفود الدولية، وللقائمين على الديمقراطية العراقية الوليدة إلى النجف الأشرف لأخذ البركة من المرجع السيستاني (خصوصاً أثناء انعقاد الانتخابات)، وربما لأخذ موافقته وإمضائه على كثير من الأمور والنظم والقوانين التي يراد إنفاذها وتطبيقها في العراق الجديد على كل العراقيين.. مع كامل تقديرنا واحترامنا لهذا المرجع الواعي والمدرك لكثير من حقائق مجتمعه العراقي، حيث رأيناه يقف موقفاً سلبياً من غزو بلاده، ولكنه لم يورط شعبه في معارك خاسرة، واكتفى من ذلك كله بإعلان المعارضة السلمية للاحتلال، مؤيداً الانفتاح على الحياة والعصر والقيم الديمقراطية للاستفادة من ثمارها وخيراتها بما يلائم مجتمع العراق وبناه الفكرية وأنساقه الحضارية.
إن كل ما تقدم يؤكد لنا عدم امتلاك العراق الحديث لبنية ديمقراطية قوية وذات امتداد عميق في بنيته الثقافية والحضارية، كما ويؤكد لنا أكثر الحاجة المتواصلة لمجتمعاتنا العربية عموماًَ للتدرب على القيم وآليات العمل الديمقراطية كما يفعل العراق الجديد حالياً.
وباعتقادي لن يكتب لتجربة العراق النجاح ما لم يتم تعميقها في بنية المجتمع العراقي، بهدوء ووعي وتدريب عملي مستمر وطويل، وهذه –لا شك- مسؤولية القيادة والكيانات والأحزاب السياسية العراقية بالدرجة الأولى.
فالديمقراطية ثقافة ووعي والتزام قيمي عملي، وهي عملية تراكم مستمر وبناء متواصل لا بد لمجتمعاتنا العربية والإسلامية الغارقة في ثقافة التقاليد والأعراف القديمة من وعي تلك الأمور والالتزام بمقتضياتها إذا ما أرادت أن تحقق لذاتها الحضارية وجوداً وحضوراً نوعياً مهماً في عالم اليوم والغد، حيث الحضور مشروط بامتلاك القوة والمعرفة والإنتاج العلمي التقني التجريبي، ولا قوة ولا معرفة علمية إبداعية من دون المشاركة في صنع الإبداع وتهيئة مناخه وخلق شروطه ومتبنياته، وهذا غير ممكن من دون الاقتناع والإيمان الفعلي بالثقافة الديمقراطية العقلانية الحداثية.
© منبر الحرية، 09 أبريل 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

آمنتُ منذ سنواتٍ طويلة وفي مرحلةٍ كان الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” وأعماله الفكرية العظيمة مركز إهتماماتي الفكرية أن عبارة هذا الفيلسوف الشهيرة : (إن النقدَ هو أهمُ أداةِ بناءٍ طوّرها العقلُ الإنساني) . إن هذه العبارة هي من أحجارِ الزاويةِ لنجاح وإزدهار أي مناخٍ تعليميٍّ وثقافيٍّ . ويقابل عبارة كانط في أدبياتنا الشرقية مقولة عمر بن الخطاب (رحم اللهُ من أهدى إلينا عيوبنا) بمعنى أنه يطلب الجزاء الطيب من الله لمن يفتح عيونَنا على عيوبنِا ووسيلة ذلك (النقد).
بعد أن ترسخ في تفكيري أن الجو الثقافي العام الذي يحفل بالعقل الناقد هو الجو الثقافي الذي يسمح بالتطورِ والتقدمِ والإزدهارِ – بعد أن ترسّخ ذلك الإعتقاد في بنية تفكيري ، جاءت تجربةُ عشرين سنةٍ من العملِ بمؤسسةٍ إقتصاديةٍ من أكبر عشر مؤسسات في العالم لتحول هذا “الإعتقاد الفكري” لواقعٍ معاش في كل لحظةٍ . فهذه المؤسسة التي تشبه كبريات المؤسسات الإقتصادية العالمية ولا سيما التي يرجع تاريخها لأكثر من قرنٍ ، هي مؤسسات لها ثقافتها الداخلية الخاصة . وقد أذهلني في كل يومٍ من أيام السنوات العشرين المذكورة أن أرى في كل لحظةٍ ومناقشةٍ وإجتماعٍ وحلقةِ عملٍ تشخيصاً كاملاً لأن (النقد هو أحد أكبر أدوات البناء) : فنقد الأفكار .. ونقد الخطط .. ونقد البرامج .. ونقد المشروعات قبل وأثناء وبعد تنفيذها هي عمليات لا تتوقف من أَجل (تقليل السلبيات) و(تعظيم الإيجابيات) . والتناول النقدي لكل شئٍّ ليس حقاً من حقوق “الكبار” أو “الرؤساء” فقط وإنما هو حق لكلِ ذي عقلٍ ، فمن مجموع العقول الناقدة يتشكل النجاحُ والتميّزُ .
ولا شك عندي أن “النقدَ” الذي هو بمثابةِ آلةٍ لا تتوقف عن البحثِ عن السلبياتِ وتقليلها ورصد الإيجابيات وتعظيمها يحتاج لمُناخٍ عامٍ يُعلّم أبناءَ وبناتِ المجتمع “النقد الموضوعي” أي الذي يهدف للتجويدِ المستمرِ وهو يختلف في روحِه ونسيجه ومنطلقاته وأهدافه عن النقد في بعض الثقافات التي تغلب عليها “الشخصانيةُ” وتقل فيها “الموضوعيةُ” ، إذ يكون “النقد” في هذه البيئات أداة هجوم وإنتقام وإنتقاص وتجريح . والمعوّل هنا على المناخ الثقافي والتعليمي العام وكيفية تقديمه للنقد – منذ الصغر – كأداةٍ عقليةٍ موضوعيةٍ تهدف لمصلحةٍ عامةٍ لا لمصلحةٍ شخصيةٍ .
وغيرُ مستغربٍ أن يكون المُناخ الثقافي العام الذي رسّخ قبولَ وإحترام “التعددية” أكثر إستعداداً لإفراز النقد الموضوعي كأداةِ تعاملٍ عقليٍّ مع كلِ الأشياءِ على خلاف “مجتمعاتِ الرأيِ الواحدِ” و”النموذج الواحد للحق والصواب” فإنها غالباً ما تفتقر لروح النقد البناءةِ والمتسمةِ بالموضوعيةِ أي توجيه النقد “للمواضيع” وليس “للأشخاص” .. وبهدف “التجويد” لا “كسب الحروب الشخصية بين الأفراد” . كذلك ليس بمستغرب أن تكون البيئاتُ الثقافية التي سميتها في فصلٍ سابقٍ بثقافاتِ النظمِ (لا الأشخاص) أكثر قابلية أيضاً لأفراز عملياتِ نقدٍ موضوعيةٍ تهدف للتحسينِ والتجويدِ .
وليس بجديدٍ أن أَقول أَن هناك علاقة وثيقة بين “ثقافاتِ النقدِ البناء” و”ثقافةِ الحراك الإجتماعي” : ففي المجتمعاتِ التي ينشط فيها هذا الحراكُ وينشط فيها تبادلُ المواقع بوجهٍ عامٍ وبين النخبِ بوجهٍ خاصٍ توجد مساحة أفسح لبذرِ ثقافةِ النقدِ البناء على خلاف المجتمعات المغلقة حيث يصعب على الإنسان أن يفرق بين “الموضوعي” و”الذاتي” لأنه مشغولٌ بالذاتي إنشغالاً يدخل تحت باب “أكون-أو-لا-أكون” ؛ وهو ما يجعل الموضوعية في النقدِ كالحلمِ المستحيلِ .
كذلك فإنني أربطُ بشدةٍ بين “قيم المتوسطين” والتي أشرت إليها من قبل فيما كتبته عن “الإتقان” وبين صعوبةِ إنتشارِ ثقافةِ النقدِ البناء : فالمتوسطون لا يستطيعون البقاء في ظلِ مناخٍ عامٍ يقوم على النقدِ البناءِ ، لأن إكتشاف حقيقة قدراتهم ومُكنهم ومواهبهم ستكون أول نتائج شيوع ثقافة النقد البناء – حيث ستعم معايير لا يقبلونها في التقييم .
وخلاصةُ القول هنا ، أن “النقدَ البناء” وإشاعة مناخ ثقافي عام يرحب بالنقد ويشجع عليه ويرسّخ (من خلال القدوةِ والتعليمِ) الدورَ الفعّال للعقليةِ الناقدةِ وما يعود على المجتمع ككلٍ من عظيمِ الفوائدِ من وجودها هو من أهم قيم التقدم – وككل قيم التقدم فإن ذيوعها يكون دائماً في حاجهٍ ماسةٍ للقدوةِ والمثل (في البداية) ولبرامجٍ تعليميةٍ تغرسها في العقول (لعموم ذيوعها مكانياً وزمانياً) ….. يتبع
© منبر الحرية، 7 أبريل 2009g

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

مثلها مثل المحافل الدولية، فان القمم العربية تحظى باهتمام الدوائر الإقليمية والدولية والتغطية الإعلامية الواسعة قبل وبعد انعقادها، وكأن مصير العالم سوف يتحدد على ضوء جدول أعمال القمة وما سيصدر عنها من قرارات خطيرة، تحبس أنفاس العواصم العالمية ، مع أن الجميع يدركون بأن الفارق بين المحافل الدولية والعربية، هي أن المحافل الدولية تحترم نفسها وتلتزم بما يصدر عنها من قرارات التي سرعان ما تجد طريقها إلى التنفيذ، بينما المحافل العربية لا تحترم نفسها ولا تقيم اعتبارا لملايين البشر الذين ينتظرون منها معالجة القضايا الملحة التي تواجه دولهم ومجتمعاتهم، فإذا بقرارات الحكام العرب تتبخر قبل عودتهم إلى عواصمهم، فيكون انعقاد القمة من عدمها، ولهذا نسال هل من ضرورة لهذا الاهتمام الإعلامي والسياسي بالقمم العربية العادية منها والاستثنائية، طالما مقدماتها ونتائجها معروفة سلفا، حيث الديباجة هي هي من أول قمة إلى آخر قمة لم يتغير فيها شيء. فالجامعة هي جامعة الحكومات العربية وليست جامعة الشعوب العربية، فمن الطبيعي أن تخصص جهودها واهتماماتها حول حماية نظام الحكم العربي، وضمان بقاء الحاكم المستبد السلطة، ومعالجة كافة المشاكل التي تعكر صفو هذا الحاكم أو ذاك. لم يحدث مرة أن الإنسان العربي سأل نفسه : عجبا في كل قمة يتحفنا حكامنا بنفس الديباجة من القرارات المزركشة ولكننا بعد كل هذه العقود لم نجد قرارا واحدا قد اخذ طريقه إلى التنفيذ،والمصيبة أن المواطن العربي يقدس حاكمه مهما كان صالحا أو طالحا خيرا أو شريرا ليعتبر أن محاسبة أو مساءلة الحاكم من اكبر الكبائر، لم يحدث أن الشعوب العربية حاسبت حكامها على تهربها من قراراتهم التي يتخذونها في سلسلة قممهم المتكررة.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لعل من المناسب جيدا قبل الحديث عن أيّة ظاهرة فكرية أن يبدأ الباحث بوضعها أولا ضمن سياقاتِها التاريخيّة والمعرفيّة وصولا إلى الوقوف على أسبابها ومسبباتها، فضلا عن دراستها بصورة مقارَنةٍ مع الظواهر الموازية لها، والتمييز قدر الطاقة بين الأنماط والأشكال التي تكتسبُها، والتي تتفاوت من ناحية خطورتها وقابليتها للإدانة.
فهذا مطلبٌ منهجيٌ في الأساس يوفر علينا الدخول في زحمة التفاصيل الكثيرة الشائكة المرتبطة بظاهرة الأصوليّة من جهة، ويحولُ في الوقت نفسه دون الانطلاق من موقفٍ أيديولوجيٍّ مُسبق يؤثر سلبا في الحكم عليها أو قراءتها خارج سياقاتها العامَّة من جهةٍ ثانية.
ومن ثم، فإنَّ ما يُهِمُنا في هذا المقال، وبالدرجة الأولى، هو التعرف على موقف الأصوليّة الإسلامويّة من التعدديّة بمعناها العام والذي ما يزالُ يمثلُ بؤرة مُهمة مسكونة بالعديد من الالتباسات ومثقلة في الوقت ذاته بعبءِ الأحكام التاريخية.
صحيحٌ أنَّ الرفضَّ الأصوليّ القاطع للتعددّية الدينيّة خاصة، والسياسيّة عامَّة، يبدو للوهلة الأولى الموقفَ الأصوليَّ الموحد؛ لكن هذا لا ينسينا أنه حتى في سياق هذا الرفض هنالكَ على الأقل تنويعاتٍ شتى تتأرجحُ عادة ما بين تغاير الأسبابِ تارة، وأسلوبِ المعالجةِ وطرح البدائل تارة أخرى.
ومن الثابت تاريخيا أنه لم يكن لدى الأصوليين وقتٌ للديمقراطية أو التعددية الحزبية، ولا حتى للتسامح الديني أو الحفاظ على السلام. فالأصوليون المسيحيون، على سبيل المثال، قاوموا بشدة الاكتشافات العلمية الخاصة بعلوم الأحياء والفيزياء، وأصروا على أن كتاب “سفر التكوين” يبدو علميا في جميع تفاصيله ولا يحتاج إلى أية إضافات أخرى. وبالمثل أظهرَ الأصوليونَ اليهود أنَّ قانونهم المقدس، والذي مارسوه بصرامةٍ وتشدُّد، هو القانون الدولي الوحيد القابل للتطبيق (ولعل ذلك يفسر عدم اعتبارهم بما يسمى بالقانون الدولي الإنسانيّ).
نصلُ في مقاربتنا الأوليّة هنا إلى شرح ما يتعلقُ بتعريف التعدديَّة Pluralism، والتي على الرغم من أنها تعني : التسليم بالاختلاف واقعا لا يسع عاقلا إنكاره، وحقا للمختلفين لا يملك أحد- أو سلطة ما- حرمانهم منه، إلا أن وتيرة الخلاف حولها تشتد رفضا وقبولا، أخذا وتعاطيا في آن معا.
لكن يبقى التساؤل فيما يتعلق بموضوعنا قائما وهو: كيف، ولماذ،ا تنبثق الأصوليات، أو لا تنبثق، لدى أمة من الأمم دون غيرها أو في منطقة ثقافية معينة أو تشكيلة اجتماعية ما؟! ولماذا تهتزُ وتنكمشُ قاعدة التجديد والاجتهاد في بقعةٍ جغرافيةٍ ما فيما تتسعُ ضمنَ مناطق أخرى مرت تقريبا بنفس الظروف والملابسات التاريخية؟! وهل الأصوليّة ظاهرة عامّة في كل دين، أم  أنها بحسب البعض سِمة مميزة للفكر الإسلاميّ بصفةٍ خاصة؟! وما موقف الأصولية الإسلاموية من قضايا العلمنة والديمقراطية والحداثة والتعددية…إلخ؟!.
واقعُ الأمر، أنَّ ثمة منظومة فكرية كاملة يُناصبها الأصوليون الإسلامويون العداءَ على رأسِها: العِلمانية، الديمقراطية، التعددية بحيث يصح القولُ إنَّ هذا الثالوث، اللامقدس بنظر الأصوليين، قد استحقَ صرف أغلب جهودهم في اتجاه محاولة دحضِه وبُغية تحطيمه.
وبطبيعة الحال، فإنَّ الهحوم على هذه المنظومة هو أمرٌ مفهوم تماما بالنظر إلى طبيعة الأصولية ذاتها كحركةٍ تدعو إلى تفكيكِ البنية التأسيسية للتاريخ وبالتالي إنكارُ شرعيةِ إلزامية النظريات، في موازاةِ الحث على استخلاص المعنى الحقيقي للإسلام من النصوص المفسِرة مباشرة ومن منظور التجربة الحديثة لواقع الأمة ومعاناتها.
هذا ويمكن تلخيص البنى التأسيسية التي ينبني عليها تصور الأصوليين للآخر ونفيهم التعددية الدينية والسياسية في أربعة عناصر رئيسية، حسب ما يؤكد أحمد الموصللي، وهي: عالمية الرسالة (الحقيقة المطلقة التي يجب إنشاؤها)، وجاهلية العالم (الحقيقة الجزئية الفعلية التي يجب التخلص منها)، والجهاد (السبيل الوحيد لإنهاء الحقيقة الجزئية الفعلية “جاهلية العالم”)، وأخيرا السلام (كسبيل إلى تحقيق الحقيقة النظرية المطلقة “عالمية الإسلام” ونتيجة لها في آن معا!!).
والحال أنَّ عالمية الإسلام وجاهلية العالم لا يمكنهما التعايش معا بصورة شرعية، لأن كل واحدة منهما تسعى جاهدة إلى نفي الأخرى حيث تنطلق الأصولية الإسلاموية من الإيمان بأحقية قيادة الأمة الإسلامية للعالم على اعتبار أنها “خير أمة أخرجت للناس” متجاهلة أنها بذلك تسعى إلى تحقيق قطبية أحادية يخضع لها الجميع وينضوون تحت لوائها، حتى مع التذرع بأن مهمة الإسلام “انقاذية” والزعم بأن الأمة الإسلامية “أمينة على رسالة الله في العالم”!!.
عالمية الإسلام، بهذا المعنى، مبنية إذاً على مبدأ “الحاكمية” القائل بمطلق سلطة الله في الكون بما أنه المشرع ابتداءً. ومن ثم، يجب أن يتمحور عمل البشر حول تطبيق التشريع الإلهيّ “وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون” أما سلطة التشريع فلا تجوز إلا لله. أي أنَّ عالمية الإسلام تتضمن بداهة معارضة كل نظام إنسانيّ، فلسفيّ أو سياسيّ، لا يقفُ عند حكم الله!.
لذلك يقسم الأصوليون كلا من الفكر والممارسة إلى قسمين: الأول، ذلك الذي شرّعهُ الله. والثاني: ذلك الذي لم يشرعه. وتبعا لذلك، ينقسم البشر إلى قسمين: المتبعونَ لمنهج الله الذين ينظمون حياتهم وشؤونهم طبقا لشرائع الإسلام وهم “حزب الله”. أما “الآخرون” الذين يستمدون منهجهم من دستور أو نظام سياسيّ أو قانونيّ فهم أتباعُ دين الملِك، أو العشيرة، أو الشعب (باعتباره مصدرا للسلطات في النظم الديمقراطية)، أي يمثلون “حزبَ الشيطان”!!.
ومُضيا في هذا الطريق إلى آخِره، تجنحُ الأصولية الإسلاموية إلى القول بعدم جواز جمع الإسلام، أو حتى مقارنته، مع غيره من الأنظمة السياسيّة أو العقديّة ضمن نسق واحد بحجة أنَّ عدمَ الخلط سيؤدي إلى سُهولةِ تحدي الشر في حال عدم اختلاطه مع الخير!! فيما يؤدي اجتماعهما معا في “سلة” واحدة إلى عدم تجنب الأخطاء وصعوبة القضاء نهائيا على الشر!.
وتبعا لنفي التعددية أيضا يتأتى رفضُ الأصولية الإسلاموية مبدأ “الحق في تشكيل الأحزاب السياسية” بدعوى أنها تعملُ على تفريق “شمل الأمة”. وأنه، استنادا إلى القاعدة الفقهية الأصولية “مالا يتم الواجبُ إلا به فهوَ واجب”، ليس ثمة ضرورة في وجود الأحزاب السياسية على الرغم من أن “المذاهبَ أحزابٌ في الفقه، والأحزابُ مذاهب في السياسة”.. وتلك قضية أخرى!.
© منبر الحرية، 13 مارس 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20101

لي نفس أمّارة بالعشق، ولي قلب لايَبْرَم بضعفه الآسر، ولي ربٌّ وحدَه من يغفر خطايا العاشقين، ويبدلهم بسيئاتهم حسنات، ويدخلهم جنات ونعيماً،ولي سيرة هلاليّة يحفظها كلّ من ركب سَرْجَ قلبه، وشنّ حرباً دامية على كائن آخر اسمه حبيبه، وسيرتي يختزلها كلّ المؤرخين والمخلوعين في حرفي حاءٍ وباءٍ، وبين منحنيات حروفهما وانزلاقاتها تسكن كلّ اللّعنة، لعنة العشق التي توهب مجاناً لكلّ من يملك نفساً مثلَ نفسي.
أنا صاحبة أسعد قلب في الدّنيا، وصاحبة الحقيقة المطلقة، ونبيّة الكلمة، أنا الملعونة بلحظاتي، المتمرّدة على السّكون، أنا وريثة كلّ الافتقاد والاحتياج والجوع والشّهوة والارتواء والتنهّدات والخلجات والارتعاشات والدّوار اللّذيذ المسحور، أنا القائمة بأمر الله في الأرض، والموكلة بكلّ القلوب خلا قلبي، ولذا حُقّ لي ما لا يحقّ لغيري من حضور لحظة خلقي، كانتْ لحظة تختصر كلّ حكايا العشق، وما أكثرَها من حكايا! لم أكن وليدة لحظة اجتماع رجل وامرأة بل وليدة لحظة اختيار،وامتزاج روح بأخرى،أنا صنيعة ضَعْف وانتقاء،مِنْ بين ملايين الخيارات في لحظة كنتُ أنا.
ولدتُ منذورةً للعشق، ومن له أن يردّ قدره، ويبدِّل نذره؟! كانتْ عند والدي خطة آثمةُ تُختزل في وهبي أجمل ما يملكان من صفاتٍ وكروموسوماتٍ ؛لأكون مادة للفتنة ولفخار القبيلة ولجموح الرجال الآسرين المسجونين في الكلمة، فشغلتهما لحظة العشق عن مؤامرتهما الحلوة، فخرجت سليلة القبح المتعاظم على انكساره، فمن والدتي أخذتُ الشّعر الأجعد المنحول، ومن أبي أخذتُ الجسد الضّئيل حدّ الانكماش، ومن جديّ لوالدتي أخذتُ العيون الحلزونية الخاشعة كجبن أرنب، ومن زوجته أخذتُ الأنف المعقوف كأنف صقر كاسر، ومن جدتي لأبي أخذتُ المشية الطّاووسيّة، ومن زوجها أخذتُ البشرة الكابية كحزن، ومن جموع المورثين أخذتُ الفم الكبير والشّفاه الغليظة والأذنين الملتحمتين بأطراف شعر الرّأس والخصر المهصور كأرنب مسلوخ، والأطراف الوزغة، والأعضاء القاصرة،ومن الرّيح أخذتُ صوتي، ومن الشّيطان الرّجيم أخذتُ نفسي المعنّاة بتمرّدها، ومن الله أخذتُ نفسي الأمّارة بالعشق.
خيوط الشّمس أوّل من عشقتُ، لبريقها يدان تحتضنان النّماء والحياة، لوهجها إرادة آسرة، لاعتلائها كَبِد السّماء سطوة خالدة، لدفئها قدسيّة دمعة يتيم،أدمنتُ على أن أدفنها في عميق عيني، لاحقتها بنظراتي الفضوليّة التي لا تعرف الملل ليل نهار، وعندما أصاب حريقها عينيّ بالمرض، منعوني عنها بقوتهم المفروضة على طفولتي الرّضيعة في المهد، ومنعوني الشّمس، وأسكونني الظلّ، كان عمري وقتها أياماً،فكان الحرمان والفقد هما أوّل ما ذقت من الهوى، أضربتُ بإصرار عن الرَّضَاع، وأعلنت ثورة على الحليب، وعندما غلبني الجوع، وهزمني العيّ، استسلمتُ ليدي الجدّة الدّاية ذات الشّامة الخضراء، وقبلتُ ذليلة بمنقوع اليانسون والنّعناع بديلاً من الحليب الذي أضربت عنه للأبد تخليداً لذكرى حبي الشّمس الذي قُتل في مهده.
عاهدتُ نفسي يومها على كبتْ نفسي الأمّارة بالعشق، وعلى كبح جماحها، وبررتُ بعهدي المقدّس في عرف طهارة الأطفال لأيام أسطوريّة فلكيّة كريهة ثقيلة الخطى، فأصعب ماعلى النفس أن تعلن حرباً على ذاتها،ونجحتُ في حربي على الرّغم من كثرة القتلى ومواجع الإعدامات والنّفي والاضطهاد في وجداني.
وأعلنتُ التوبة على إثمي الأوّل في الأرض، ولكنّني من جديد اشتهيتُ الخطيئة والمعصية واللّعنة، ووقعتُ في حبّ كلّ شيء جميل، وما أكثر الأشياء الجميلة في عينين هما نافذتان على روح تضجّ بالتّفاصيل والألوان والرّوائح واللّمسات والحاجات والأمنيات المؤجّلة والأفراح المسروقة من جنّة الخلد حيث كان مسكنها الأوّل في غامض العدم. عشقتُ الفراشات الملوّنة، و زرقة السّماء، وثورة البحار، وصخب المحيطات، وسكون قيعان النّفوس، أخلصت في مشاعري وبرّي لكلّ وجوه الأمهات وأيادي الجدّات.
يا اللهُ ياجبارُ، ياخالقَ الحبّ، كم كانتْ طويلة قائمة من عشقتُ،أنتَ من وهبني قلباً عملاقاً، فهبني عمراً فيه كلّ الأعمار حتى أكون كاهنة الهُيام الخالدةَ التي أنّى كانتْ حضرتْ كلّ وجوه عشّاق الأرض والوطن والسّماء والخبز غير المغموس بدم الأبرياء، والآلاف الآلاف من وجوه الأيتام والمعذبين والمحرومين،ووجوه المستضعفين المنكودين، ووجوه الأيتام، وكلّ أرغفة الجائعين.
في كلّ ليلة احترفت تعاطي الممنوع المهرب من الرّائق الخالص من المشاعر لعشاقي الذين لا يحصيهم عدداً إلاّ الرب في عليائه، أحببتُ كلّ مَنْ قالوا لا، و كلّ مَنْ قالوا نعم تومىء إلى لا، أحببتُ علياً ولمبا وجيفارا وماو وصلاح الدّين وشجرة الدّر والحلاج وجميلة بوحيرد ومصطفى كامل وعلي الزيبق ومسرور السّياف ومعروف الإسكافي وجعفر الطّيار وابن عربي وديك الجن الحمصي وفارس عودة وجان دارك وهانبيال وإليسار والمتنبي وأبا العتاهية وهوميروس والظاهر بيبرس وفراس العجلوني والشّريف الرضي و نزار قباني وعمر أبو ريشة وفيكتور هيجو و كلّ الثائرين المبتغين الشمس، وأحببتُ كذلك صبر أمي وأبي،فقد كانا وريثي زمن الجوع والانتظار، ووهبتُ دموعي لعروس البحر، ولسندريلا صاحبة الحذاء المفقود، وسكنتُ أجساد كلّ محبوبات رجال الأرض، ودوختُ بكلمات كلّ الشعراء، وحظيتُ بكلّ قُبَل المقبّلين، ولمسات أكفّ المشتهين، ولعنات كلّ الفاعلين وآثامهم، ثم استغفرتُ الله، فغفر لي، أليس أرحم الراحمين؟؟
ونسيتُ أسماء كلّ عشاقي؛ إذ خاط لي ساحر مغربي يهودي آثم حجاب نسيان، فعلّقته في رقبتي ليل نهار بخيط قنّب، فنسيتُ كل ّ أثامي وسعاداتي، إلاّ مجيداً الأبكم، فقد كان حبّ طفولتي الأوّل، كان قذر الملابس والجسد شأنه شأن كلّ المعدمين المنكودين، حَرَمَه النّصيب، فأضاع فمه وأذنيه، كان ألعوبة أشقياء الحارة القديمة حيث أسكن مزروعة بين أشتال أمي، حين أشفقتُ على عجزه، فأشفق على دمامتي، وعلى أنوثتي المكسورة المأسورة في جسدي المزدرى، فكانتْ له دون العالمين قبلتي الأولى، لم يكن ممن يحفظون فطرياً أبجدية الإسعاد ولغة الجسد، ولكن كان عنده أبلغُ صمت،وأحرّ دمعه، وأنا أحبّ الدّموع، أجمعها في قوارير شفّافة، وأصنعُ منها ترانيم الفرح.
أحببتُ مجيداً حتى أحتلّ جارنا ذو العضلات المفتولة والشّعر الخيليّ مكانه في قلبي، كان يصطحبني معه إلى السّينما مع بناته الخمس المنحوتات بعناية إلهية واضحة على هيئة دمى جميلة،كان يعدّني ابنتَه، ويشفق على استحياء على أنوثتي القردة، وكان كلما حملني بيديه القويتين، ووضعني في مقعد قاعة العرض في السّينما الذي لا تصل قدماي إلى قاعدته، فيتمرجح شبشبي البلاستيكي البرتقالي القديم في الهواء، أحلم بأن أملكه روحاً وقلباً، وأعد بإخلاص خصلَ شعره الذهبيّة بقصائد خالدة، لكنّه ما كان ليبالي بصغيرة بشبشب برتقالي بلاستيكي وإن أهدته قصيدة.
أمّا جابر فكان معنياً بالقصائد والكلمات، ولها دفع عمره،أنا أحببتُ جابراً، ولكنّه أحبّ الكلمات أكثر مني، وكتبَ القصائد، وثوّر السّاكنين، وحمل السّلاح، ومات مشبوحاً على دكّة التعذيب، وما قال لا،فتوحّمتْ به كلّ النّساء الحبالى، وحملتُ منه العذارى بالثائرين دون أن يلمسهن، فغدا لي جيشٌ من الضّرائر والمنافسات، وأنا كمِسلة في كفِّ قتيل،لا أحبّ الشّركاء،فلتحبّ كلَّ النّساء جابراً، وليحبّه الوطن، أمّا أنا فلي أن أعانق الفَقْد.
للحق سرعان ما غار اسم حامد بين حشد أسماء قائمتي الحاضرة الغائبة،حيث حسّان الهبيلة، وجبر أبو ريحة، وسلمان أبو بربور، وعباس اللّص، وكايد اللّقيط الذي يعيش في دار الأيتام، ولا يعرف له ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً، وحسين الذي يعيش في علبة كرتون بجوار كلبه الأعور، ومخلد الألثغ الذي يقلب الراء غيناً، وناصر ابن الوالي الذي يصلّي دون وضوء، ويعاشر بنات الهوى في حوزة أبيه العلميّة، وكيمو المخنّث الممزّق بين عالمي الأنوثة والرّجولة،وسليمان الغجري الذي يحبّ قرده وموسيقاه ورحيله المتصل أكثر مني، وطارق الذي يعيش مع دزينة أخوة صغار في غرفة صغيرة في مخيم نسيه النّسيان، وعددٍ كبير من أولاد الجيران والمدينة والدّراسة الذين ماعدتُ أحفظ أسماءهم أو أتذكّر وجوههم، ولا سوء في ذلك؛ فللعشّاق جميعاً وجه واحد واسم واحد، ومن حفظ اسماً واحداً منها،فقد حفظ كلّ الأسماء.
وبقي اسم حبيبي الخالد الذي يجيء ولا يجيء مرقوماً في المجهول،وفي انتظاره اجتهدتُ أن أتعلّم مهنة الخياطة كي أطرح على من أحبّ عباءة من صنعي، أشك فيها سيلاً من النّجوم والكواكب والمجرّات.
وسريعاً أتقنتُ الخياطة ؛ فقد كنتُ أتمثّل في تعلّمي لها حكمة:” من يدرز ينجح”!!! ونجحتُ؛ لأنّني درزتُ دون توقف ليل نهار، وصنعتُ بعد سنين عجاف عباءة الغائب المتأخر. طويتها على غير هون، ومسّدتُ عليها بعطفي الخفيّ، وغلّفتها بتعويذة أثيرة، وانتظرتُ أن يأتي الحبيب، ومرّ العمر، وشاب الشّعر الأجعد، وتقبّض الأديم، وتقوّس الجسد الهزيل ذو المشية الطّاووسيّة المزعومة، وغادرني ضيف لذيذ حلو اسمه الشّباب.
واعترافاً بريادتي وتمرّدي، فقد عُيّنتُ رئيسة فخريّة لحزب الحبّ، ولرابطة المشاعر الجيّاشة،ولدارة العواطف، ورئيسة تحرير لمجلة السّعداء، ومستشارة في محطة المحظوظين الفضائية، فضلاً عن تأليف كتاب موسوعي عن العشق وطرائقه وأبوابه ومنافذه،وبات شعار مريديّ في الحياة قول الشّاعر:
ماتُبْتُ عن عشقي ولا استغفرته     ما أسخفَ العشّاقَ إنْ همُ تابوا!!
ولكنّني كنتُ أجزم بأنّ الله سيغفر لي، نعم سيغفر ؛ لأنّني على الرّغم من كلّ قصص عشقي لم أعشق قطُّ،فأنا امرأة تملك كلّ الحكايا وعباءات الانتظار،لكنّها أبداً لا تملك حكاية لها مع حبيب غير ورقي، وهذا قدر الأنفس الأمّارة بالعشق والمولعة بكتابة الرّجال الذين لا يأتون حقيقة إلاّ على الورق، ولا شيءَ غيرَ الورقِ، فنفسي أمّارة بالكتابة أيضاً!!!
© منبر الحرية، 12 مارس 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018