الإسلام والسلطة

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

المشهد في طهران، ألاف الغاضبين يتظاهرون يوميا بعد إعلان فوز محمود احمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية. وسائل الإعلام الغربية رأت في ذلك “ربيع طهران” حيث المناقشات العلنية والمظاهرات والشعارات المؤيدة للإصلاحيين كشفت الانقسام الكائن في المجتمع الايراني وكشفت أيضا عن “طبقة وسطى غاضبة وجيل من الشباب يتوق للحرية”. هذه المظاهرات ليست الأولى في طهران مع أنها الأكبر والأخطر. ففي أوائل شهر يوليو من العام 1999 شهدت إيران مظاهرات طلابية وصفت بأنها الأعنف في تاريخ الثورة الإيرانية منذ نجاحها في عام 1979. هذه المواجهات تعاملت معها قوات الأمن بشكل عنيف مما أدى إلى سقوط عدد من الطلاب صرعى والقبض على عدد آخر، وما زاد من إحباط الحركة الطلابية موقف الرئيس الإصلاحي (آنذاك ) محمد خاتمى الذي اختار الانحياز إلى جانب الدولة والقانون والنظام في ما اعتبر تخليا منه عن جموع الطلاب الإيرانيين الذين حملوه إلى منصب الرئيس قبل عامين من هذه المظاهرات.
وبعد أربعة أعوام تجددت التظاهرات إحياء لذكرى من سقط في الجولة الأولي، بالرغم من قرار الحكومة الإيرانية بمنع أية تظاهرات، خاصة بعد الاحتجاجات الطلابية التي سادت العاصمة طهران وغيرها من المدن الكبرى في الفترة من العاشر وحتى العشرين من شهر يونيو 2003. هذه المظاهرات (مظاهرات شهر يونيو و يوليو ) ثم المظاهرات الحاشدة الحالية التي تشهدها طهران منذ الإعلان عن فوز نجاد بفترة رئاسية ثانية وتشكيك منافسه الإصلاحي مير حسين موسوي في نتيجة الانتخابات يعدها البعض علامة على بداية انهيار النظام الإيرانى في ظل الضغوط الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعانى منها النظام. ينظر البعض للفترة التي بدأت منذ يونيو 1997 وحتى تاريخه على اعتبار أنها تمثل الجمهورية الثالثة في التاريخ الإيراني المعاصر. هذه الفترة التي شهدت على عكس توقعات الداخل والخارج انتصار الرئيس محمد خاتمى الإيراني شهدت بشكل متواز تصعيد الصراع بين ما عرف بتيار الإصلاح الذي بلوره الرئيس الجديد وتيار المحافظين الذي كان من أهم رموزه الرئيس السابق هاشمى رفسنجانى والمرشد الأعلى على خامنئي.
فأهم القضايا الخلافية التي ميزت الفترة الرئاسية الأولى من 1997 – 2001 كانت تدور حول قضايا الحريات الاجتماعية والعامة. وبالرغم من العقبات التي واجهت الرئيس خاتمى في تنفيذ برنامجه الإصلاحي، إلا أنه قرر أن يخوض معركة الانتخابات الرئاسية لفترة رئاسية ثانية التي نجح فيها ولكنه أخفق مرة ثانية. ومن أبرز الإخفاقات فشله في توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية كي يستطيع تطبيق ما يراه مناسبا من إجراءات لحماية الدستور من منتهكيه على حد تعبيره  عازيا فشله في تحقيق ما وعد به من خلال برنامجه إلى حدود الصلاحيات الممنوحة لمنصب رئيس الجمهورية بموجب الدستور الإيراني.  هذا الدستور الذي يكاد لا يعطى لرئيس الجمهورية صلاحيات حقيقية في مقابل الصلاحيات شبه المطلقة للمرشد الأعلى باعتباره أعلى منصب في الجمهورية الإيرانية. بالإضافة إلى الصلاحيات الموسعة المعطاة لمجالس تخضع للمرشد الأعلى كمجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس الرقابة على القوانين.
فكانت أول خيبة أمل للإصلاحيين الذين انزووا بعد ذلك وسيطر المحافظين على الرئاسة عبر الرئيس محمود أحمدي نجاد وعبر البرلمان الإيراني المحافظ. ولم يظهروا الا قبل شهور من الانتخابات الرئاسية التي جرت في يونيو 2009.
أحد خصائص المتجمع الإيراني هو تميزه بقطبية ثنائية بين معسكر للإصلاح في مقابل معسكر للمحافظين.  إنها  ليست مجرد خلاف على السلطة أو توزيع موارد القوة في المجتمع وإنما تعكس في جوهرها اختلافا ( ولا نقول بالضرورة تضاربا ) في الرؤى حول كيفية إدارة الثورة/الدولة من خلال الحفاظ على كل من جوهرها ومظهرها. من أبعاد إدارة الثورة/ الدولة إدارة علاقاتها بالخارج وهو الأمر الذي فاضت العديد من الدراسات في وصفه وتحليله والتنبؤ بمستقبله.
وقد أستمر الصراع بين التيارين و أتخذ أشكالا عنيفة في بعض الأحيان ( مثل الاغتيالات والاعتقالات التي طالت رموزا من التيار الإصلاحي وخاصة الصحفيين والمثقفين الإيرانيين وكذلك المظاهرات والاحتجاجات التي تظهر بين حين وآخر في حرم الجامعات الإيرانية وبعض تجمعات الطلاب ). و قد أدى إلى ما أطلق عليه بعض الساسة الإيرانيين حالة من اليأس لدى قطاعات متزايدة من الشعب الإيراني وخاصة سكان المدن الكبرى. فالتيار الإصلاحي لم يستطع تحقيق الكثير مما وعد به سواء على مستوى الحريات أو مستوى الأداء الاقتصاد، وانشغل بموقف المدافع عن وجوده في مواجهة خصومه. وفي المقابلة لم يستطع التيار المحافظ حسم المعركة لصالحه وإقصاء التيار الإصلاحي تماما عن الساحة السياسية كما حدث في لحظات تاريخية سابقة. هذا اليأس والإحباط ترجم نفسه في تدنى نسب المشاركة في الانتخابات المحلية والبرلمانية وهزيمة الإصلاحيين. وبالرغم من التبريرات التي ساقها التيار الإصلاحي أو مؤيديه لأسباب تدنى المشاركة فإنها عكست المأزق الذي يعيشه ذلك التيار. إلا أن هذا التيار رأى –في الانتخابات الرئاسية الأخيرة – وسيلة لتقليص الهوة مع المحافظين. خاصة على ضوء قراءته للمتغيرات الداخلية من حيث ضعف الأداء الاقتصادي والخلاف بين الرئيس نجاد و الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني الذي يرأس مجلس تشخيص مصلحة النظام. ومتغيرات دولية تمثلت في إستراتيجية التواصل الدبلوماسي للرئيس أوباما تجاه إيران في محاولة لإقناع إيران بوقف جهودها لتطوير أسلحة نووية حيث يرى الإصلاحيون أنهم الأقدر على التفاوض مع الجانب الأمريكي. ومن ثم فقد حشد الإصلاحيون جهدهم في محاولة لقلب الموازين و فرض ما يسمى صار يسمى بربيع طهران.
© منبر الحرية، 21 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

يبدو أن الطريق إلى جنة السماء والأرض لم يعد بالضرورة مسيجا بالعنف ومفروشا بالدم، على الأقل بالنسبة لإسلاميي التوافق بالمغرب الذين يفترش عدد لا بأس به من قيادييهم كراسي البرلمان المغربي. ليس الأمر وليد الأمس القريب فثمة عقود ثلاثة تفصلنا عن زمن الشبيبة الإسلامية سليلة نهج الإخوان المسلمين بالمغرب، سالت خلالها مياه كثيرة تحت الجسور التي عمل بنكيران الأمين العام للحزب ومن معه على تشييدها مع الواقع السياسي في بلد أمير المؤمنين.
اليوم لم يعد لدى جيل العدالة والتنمية ما يربطه بجيل أتباع حسن البنا في مصر العشرينيات وأتباع جيل المودودي في باكستان الأربعينيات تسمية الإسلاميين التي تحيل على التنوع والاختلاف أكثر مما تحيل على الاتساق والتناغم. إسلاميو بنكيران اليوم يعقدون المؤتمرات الحزبية في القاعات العمومية المفتوحة بدلا من الحلقات السرية في المنازل المغلقة التي كان يعقدها سابقوهم وبعض من قياداتهم، ممن ينحدرون من جيل شبيبة السبعينيات ويضعون برامج انتخابية قد تقودهم إلى كراسي السلطة بدل مخططات جهادية كان من المفترض أن تقودهم إلى جنة الخلد. مدجنون وفق منطق خصومهم و واقعيون وفق منطق مناصريهم. إسلاميو التوافق هم اليوم حزب في مملكة أمير المؤمنين. الدولة الإسلامية قائمة في المغرب فما الداعي إلى إعادة ابتكار العجلة؟
ككل الأنساق الممكنة، قد لا يخل نهج إسلاميي التوافق من بعض المعقولية، وفق نظر مبدعيه ومن يناصرهم على الأقل.  فماذا يتبقى لك لتفعله حين تكون من تعتقدها ورقتك الرابحة قوة ضاربة في يد خصمك، وهل كان عبد الكريم مطيع معلم بنكيران وإخوانه جادا حين أعلن الثورة الإسلامية قدرا للمغرب. ألم يكن الإسلام قدرا للمغرب منذ مجيء الأمير العلوي إدريس الذي لم تكن له من مقومات بناء الدولة سوى شرعية دينية قابلة للانتقال عبر النطفة بما يجعل من مقولة عاش الملك، مات الملك ناموسا لتاريخ المغرب السياسي والديني.
ثم أليس هو نفسه المغرب الذي قامت الدول التي حكمته وتكسرت على نصال الإسلام. المغرب حيث تلتبس السياسة بالدين منذ الأزل وحيث رأى جون واتربوي أن المقدس و اليومي يجري تدبيرهما من خلال شخصيتين اثنتين رئيس الدولة وأمير المؤمنين، لكن الاثنين يتجسدان في شخص واحد الملك.  فماذا كان  لدى ربائب البنا وسيد قطب من جديد ليواجهوا به سلطة و هيبة أمير المؤمنين المشيدة على أساس نسق قوي البنيان يتداخل فيه الشعبي بالرسمي بالتقليدوي.
لقد وضع نهج مطيع الحركة الإسلامية المغربية في خضم أزمة هوية تتجاوز آليات الفعل و رد الفعل إلى جدوى الوجود نفسه. الإسلاميون منفذي مشيئة الله في الأرض و أمير المؤمنين ظل الله على الأرض, لكن الله واحد والأرض واحدة فلا مناص من أن يؤمن أحدهما على الأقل بسطوة الآخر.
وفق هذا كله لم يكن من الممكن لمجموعة بنكيران هويتها الخاصة و أساس وجودها إلا من خلال حسمها لموقفها من إشكالية إمارة المؤمنين بالمغرب فقد خيم فراغ نظري هائل على أدبيات جمعية الجماعة الإسلامية التي غطت فترة الثمانينيات من مسار إسلاميي التوافق. و كانت بداية الطريق ولادة جديدة للجمعية المذكورة أريد لها أن تكون محملة بالعبر.
فمقولة الإصلاح والتجديد التي اتخذت إسما للحركة في نهاية الثمانينيات تبدو صادمة حين تصدر من حركات ماضوية رامت طيلة تاريخها تأصيل الحاضر باسم الماضي وإعادة صياغته وفق رؤى السلف الصالح إلا إذا كان هؤلاء قد راجعوا تاريخهم و تحرروا من إواليات الخطاب الإسلامي في نسخته الكلاسيكية التي تحيل على أدبيات البنا، المودودي وسيد قطب فكان أن ترك الإخوان أمر السماء لأمير المؤمنين وسعوا في الأرض كمن سبقهم من مختلف المشارب والطوائف.
وفق منظري أطروحة فشل الإسلام السياسي فحالة إسلاميي التوافق لا تعدو أن تعزز القاعدة: فشل الإسلاميين المريع في تحقيق الجنة التي وعدهم الله بها على الأرض ووعدوا بها أنصارهم منذ بدايات القرن الماضي، فالأنظمة المصنفة كافرة من قبل جيل  المؤسسين قد أضحت واقعا ممكنا للاشتغال وفق قاعدة أخف الضررين والجنة الموعودة أضحت كراسي السلطة المسيجة بالتوافقات والتنازلات. وفق من لا زالوا يؤمنون بقدرة التيار الإسلامي على انتشال الأمة من متاهات التيه، فإسلاميو التوافق بالغرب في مكانهم الصحيح. النظام المغربي حكم طويلا من دون الإسلاميين حين كان له الخيار، لكنه يحكم اليوم بمعية الإسلاميين حين لم يعد لديه الخيار والتأثير من الداخل أيسر وأسلم والتنازل عن مطلب أسلمة الدولة لا يلغي الرغبة و التوجه القائمين حول مطلب أسلمة المجتمع.
إن الإسلاميين وفق هذا التوجه في أقوى حالاتهم فالنظام بكل تاريخه و شرعيته يفاوض معهم ويقتسم بمعيتهم تدبير شؤون السماء والأرض. أما بالنسبة لمن ناصبوهم العداء، فالإسلاميون هم الإسلاميون، ولا شيء تغير على الإطلاق. كل ما هناك أنهم أضحوا أكثر مناورة و قدرة على تحقيق المكاسب بأيسر وأسهل الطرق وواهم من اعتقد بإمكانية تنازل هؤلاء عن جنتهم الموعودة.
© منبر الحرية، 13 يونيو/حزيران 2009

عزيز مشواط19 نوفمبر، 20100

تفجرت في الأشهر الأخيرة أزمة حادة بين إيران والمغرب انتهت بقطع البلدين لعلاقتهما الدبلوماسية، على خلفية مساندة المغرب للبحرين وإدانته لتصريحات مسؤولين إيرانيين اعتبروا البحريين محافظة إيرانية. ساند المغرب برسالة ملكية قوية مملكة البحرين، وهي المساندة التي جاءت على غرار مساندة مجموعة من الدول العربية للإمارة الخليجية. لم تحتج إيران على باقي الدول العربية، واستدعت خصيصا السفير المغربي بطهران وأبلغته احتجاجها، مما اعتبره المغرب إهانة له. لكن بعيدا عن هذه الأسباب المباشرة تختبئ علامات استفهام كبيرة من قبيل: هل يتعلق الأمر بمجرد توتر دبلوماسي عادي كغيره من الأزمات التي تشهدها العلاقات الدولية في أكثر من مناسبة، أم أن الأزمة المغربية- الإيرانية دليل على دخول إيران مرحلة التجسيد الفعلي لدور دركي منطقة الشرق الأوسط ؟
لتبرير قطع علاقاته مع إيران أكد المغرب أن” نشاطات ثابتة للسلطات الإيرانية وبخاصة من طرف البعثة الدبلوماسية بالرباط تستهدف الإساءة للمقومات الدينية الجوهرية للمملكة والمس بالهوية الراسخة للشعب المغربي ووحدة عقيدته ومذهبه السني المالكي”، فانتهت الأمور إلى قطع العلاقة الدبلوماسية بين البلدين.
يعرف كل المتتبعين أن العلاقات الإيرانية -المغربية منذ 1979، لم تكن على ما يُـرام، فالملك الراحل الحسن الثاني استضاف الشّـاه بعد الثورة على نظامه، كما أخذت إيران على المغرب فتوى كان العلماء المغاربة قد أصدروها تقضي بتكفِـير آية الله الخميني. فيما ظلت العلاقات الدبلوماسية متوجسة رغم  إعادة ربطها في سنة 1991.
هذا التوجس المغربي من التمدد الشيعي تقوى بفعل النوايا الإيرانية المعلنة من أجل تصدير الثورة ونشر مذهبِـها الشيعي. وجد المغرب إذن، الفرصة المواتية لإعلان استيائه من التدخل الإيراني في شؤونه الداخلية، لكن الأمر لا يقتصر فقط على المغرب لأن الأثر الإيراني بدأ يتمدد في كافة المنطقة العربية، بل إن الأذرع الشيعية “للأخطبوط الملالي” صار على مقربة من حدود دول عربية ظلت إلى عهد قريب بعيدة عن الاهتمام الشيعي.
تعززت هذه المعطيات بصراع هوية مذهبية، تمظهرت في ما تعرفه الساحة العربية واللبنانية خصوصا من صراعات طاحنة بين شيعة حزب الله وغيرهم من أتباع إيران من جهة، وموالاة السعودية من جهة ثانية، فلم تكن الأزمة الأخيرة سوى مظهر من مظاهر التدخل الإيراني على أساس مذهبي في المنطقة. لقد أدخلت إيران المنطقة العربية عامة في أزمة هوية صارخة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، لأنها شكلت نموذجا شاذا في التاريخ المعاصر، إذ لم تكن ثورة الخميني عام 1979مجرد انقلاب أنهى الحكم السياسي للشاه، بل إن الأمر كان أعمق من ذلك بكثير مادامت الثورة الإسلامية الإيرانية، قدمت نموذجا مخالفا في الوقت ذاته للغرب وقيمه، كما هددت جيرانها العرب حينما تبنت شعار تصدير الثورة إلى الخارج.
وعلى هذا الأساس يمكن قراءة ردة الفعل المغربية، إذ لم تكن سوى انتفاضة لدق ناقوس الخطر، بعد أن قوت إيران نفوذها في كل بؤر التوتر التي تعاني من اللا استقرار. ففي العراق مثلا لا تخفي تنظيمات أساسية ولاءها للمرجع الأعلى في إيران. أما في لبنان وفلسطين فقد عملت إيران، عندما فشلت في استمالة الحكومات، على إحاطة نفسها بعدد من التنظيمات الجيدة التنظيم، من أجل تثبيت النفوذ وحماية نفسها من كل ضربة محتملة. وهكذا صار لها حلفاء ناطقين باسم مرشد الجمهورية الإيرانية في كل المنطقة، من قبيل حزب الله وبعض الأطراف العراقية وتنظيمات فلسطينية لا تخفي تبعيتها.
مؤشرات كثيرة تزكي خوفا كبيرا لدى الأوساط السياسية العربية من الخطر الشيعي القادم من بلاد فارس. فعلى خلفية الأزمة الأخيرة بين المغرب وإيران تحدثت الأوساط الأمنية المغربية أن هناك أكثر من 3000 مواطن مغربي اعتنقوا المذهَـب الشِّـيعي، مما جعل السلطات المغربية تنظُـر بكثير من القلق إلى النشاطات الإيرانية في أوساط الجالية المغربية في أوروبا واعتناق الآلاف منهم للمذهب الشيعي.
العديد من المهتمين رأوا في القلق المغربي وحدة التصريحات التي صدرت عن المسؤولين المغاربة تجسيدا لخوف كبير من تفكك الهوية وذوبانها بفعل الاختراق الشيعي المختلف الأشكال، وهو خوف لا يهم المغرب لوحده، بل ينسحب على مجموعة من الحالات المماثلة كمصر والسعودية والأردن ودول خليجية أخرى.
ويبدو أن إيران في أزمتها الأخيرة مع المغرب قد كشفت عن استرتيجية جديدة للتمدد، فبعد تقوية نفوذها بلبنان وفلسطين والعراق، تسعى إيران إلى توسيع نفوذها بكل الوسائل. ولم يكن قرار تصعيدها المواجهة مع المغرب سوى شكل من أشكال استعراض قوتها.
لتحقيق هذا التوسع وتثبيت نفوذها تعمد إيران إلى ثلاث تقنيات: أولا باستعراضها المستمر لقوتها من خلال الترويج الإعلامي لترسانتها النووية والصاروخية، لإرهاب الخصوم. وثانيا استغلال الصراعات والمآسي العربية للعب على حبل المشاعر الشعبية المعادية لإسرائيل والترويج لها بشكل واسع، من خلال ترسانة إعلامية تقوت كثيرا في السنين الأخيرة. أما المستوى الثالث، فيعتمد على ترويج التشيع ليس بمعناه الديني لكن في بعده الثقافي. ويشكل المستوى الأخير منفذا نبهت إليه أكثر من جهة، حيث تختفي وراء الأنشطة الجمعوية والخيرية الإيرانية مشاريع لاستقطاب الشباب ودعم تنظيمات طلابية ومدنية للتأسيس لأرضية التوغل الشيعي.
ضد هذه السياسة يمكن فهم الحركة المضادة التي قام بها المغرب من خلال قطع علاقاته مع الجمهورية الإسلامية الشيعية، رغم الخطورة التي تشكلها على قضاياه المصيرية، إذ لا يستبعد أن تلجأ إيران إلى معاودة دعمها لجبهة البوليساريو في قضية الصحراء. إن محاولة المغرب الوقوف في وجه الاختراق السياسي والرمزي والثقافي لإيران الشيعية يجب أن يقرأ من عدة زوايا. لكن الزاوية الجوهرية في الحادث كونه تنبيه جدي إلى خطورة التمدد الشيعي الذي وصل إلى حد لافت.
أثبتت إيران من خلال الأزمة الأخيرة مع المغرب كما في مناسبات أخرى أنها غير قادرة على نسيان “مجدها” الفارسي، وهو “المجد” الذي صار أكثر عنفا عندما تسلح بعقيدة شيعية. فمن احتلال الجزر الإماراتية، إلى التدخل الإيراني في العراق ولبنان وفلسطين، وصولا إلى الأزمة الأخيرة مع البحرين وما أعقبها من تطورات وصلت حد قطع المغرب علاقاته الدبلوماسية مع طهران، يختفي جبل من “أحلام توسعية” قد تدخل المنطقة في صراعات طاحنة بين الفرس الشيعة وأتباعهم من جهة من والعرب السنة من جهة أخرى حول هوية الخليج وهوية الشرق الأوسط عموما.
© منبر الحرية، 27 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20101

إن صلاح الأحوال في العالم العربي سوف يحدث عندما تنجح الأحزاب الحاكمة في التخلص من التراث الشمولي داخلها وهي التي كانت أحزاباً بيروقراطياً أمنية سلطوية؛ وعندما تتخلي جماعات الإسلام السياسي وفى طليعتها حركة الأخوان المسلمين وأشكالها الحزبية في العالم العربي عن فكرة الدولة الدينية التي تدمج بين الدين والدولة فيفسد كلاهما ويصير الأمر كله فاشية من نوع جديد. ولكن تعرضنا لخيبات أمل كثيرة؛ وبينما كانت الأحزاب الحاكمة على استعداد للتحرك نحو اقتصاد السوق الحرة فإنها كانت أكثر بطئاً عندما يتعلق الأمر بتداول السلطة في السوق السياسية.
ورغم بعض التنظيرات الغربية والعربية التي تتحدث عن أن “الحركات الإسلامية قد استوعبت الخطاب الديمقراطي و أضفت عليه مسحة ذاتية من خلال مفاهيم (الشورى) و (الإجماع) و (الاجتهاد) وأن الديمقراطية موجودة بالفعل في العالمين العربي و الإسلامي، “سواء أكانت كلمة ديمقراطية بحد ذاتها مستخدمة أم لا”. فأنه إذا كان ما يقوله هؤلاء صحيحاً، فلماذا لا تظهر الديمقراطية بوضوح و جلاء في الوطن العربي ؟. ولكن يظل الجدال دائراً حول حركة الإخوان المسلمين التي لها نفوذ وتأثير في العمل العام في العالم العربي، فلديهم القوة السياسية، ولديهم الفكرة الدينية، ولديهم التجارب السابقة. ولنحتكم إلي برنامج الإخوان الذي يقع في 128 صفحة، وفيه الكثير عن المبادئ والسياسات، ولكن ما يهمنا في المقام الأول مفهوم الجماعة للدولة وأصول الحكم فيها. ورغم أن البرنامج يقول بوضوح أن “الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بالضرورة” فإنه يعرف هذه الدولة المدنية بأنها تلك الدولة التي تكون الوظائف فيها على أساس «الكفاءة والخبرة الفنية المتخصصة والأدوار السياسية يقوم بها مواطنون منتخبون، تحقيقا للإرادة الشعبية الحقيقية، والشعب مصدر السلطات». ولكن هذا النص لا يمكن فهمه في برنامج الإخوان إلا على ضوء فهمهم للدستور الذين يرون أنه ليس هو أساس أو مصدر التشريع، وإنما الشريعة الإسلامية التي تصبح وظيفة الهيئات المنتخبة ـ المعبرة عن الشعب مصدر السلطات ـ مجرد تفسيرها، أي تنتفي الوظيفة التشريعية للمجالس النيابية وتحل محلها وظيفة الفتوى. برنامج جماعة الإخوان المسلمين مزق إربا كل المفاهيم المتعلقة بالدولة المدنية التي كان يتحدث عنها ممثلو الجماعة، ثم بعد ذلك وبلا مواربة أقاموا مكانها دولة دينية صريحة. وهذا يمثل ردة هائلة إلي الوراء في فكر الإخوان المسلمين الشائع، والذي حاول أن يقنعنا خلال السنوات القليلة الماضية أن الديمقراطية أصبحت هي فلسفتهم الرسمية، بل أن «الدولة المدنية» هي أساس الدولة التي يريدون إقامتها، وأن «المواطنة» بكل ما تعنيه في الفكر السياسي الحديث هي جوهر السياسة الإخوانية. وجاءت هذه الردة في الوقت الذي بدا فيه أن التجربة التركية، ومن بعدها التجربة المغربية، تمثل معملاً لاستخدام المرجعية الإسلامية في دولة حديثة وعصرية ومتصالحة مع عالمها ومحيطها، ولكن ما حدث لدى الإخوان المسلمين في مصر كان خطوة واسعة إلى الوراء. كما أن التجربة السودانية تثبت كيف انقضت الجبهة الإسلامية على الحكم الديمقراطي في السودان في عام 1989 بزعامة حسن الترابي وما المؤتمر الكاشف لأفكارهم إلا نموذجاً صارخاً على ذلك. ففي ذلك المؤتمر في أبريل عام 1991 أصدروا بياناً بعد أن حشدوا لمؤتمرهم عدداً كبيراً من الزعماء الإسلاميين. هذا البيان ذو النقاط الست تضمن هجوماً صريحاً على الديمقراطية وسمحوا لأنفسهم بالتعاون مع الحكومات غير الإسلامية بعد أن قسموا العالم إلي نظم خير ونظم شر ولم يمنع ذلك زعماء الحركة من التشديد على احترام الحقوق ومكانة وكرامة الفرد ولكن عندما كانوا يحاربون حركة جنوب السودان أنشأ الترابي الجيش الشعبي أرسله إلى الجنوب لمحاربة أهل الكفر. وأهل الكفر هؤلاء ما هم إلا مواطنون سودانيون من أهل الجنوب.
وتبرز مشكلة ملحة أخرى بشأن السماح للتيارات السياسية الشمولية بالمشاركة في العملية السياسية والخوف من انقضاضها عبر صناديق الانتخابات على الديمقراطية. ولذا فان المعضلة التي تواجهها مصر-مثلا- تتمثل في كيفية التوفيق بين توسيع دائرة التمثيل السياسي وفرصه من ناحية وضمان عدم استخدام آليات التحول الديمقراطي لوقف هذا التطور أصلا. فالاستقرار السياسي ينبع من مدي تمثيل المؤسسات والأحزاب للقوي الفاعلة الاجتماعية و ومدي قبول تلك القوي للنظام العام الذي يتحقق من خلال اشتراكهم في عملية التحول الديمقراطي وفي التأثير على مسار السياسة العامة.
وتتجسد تلك المشكلة تحديدا في الجماعات التي لجأت إلي استخدام العنف والإرهاب كأداة في العمل السياسي، أو تلك التي تلوح به أو تباركه، فاستخدام العنف يكون من شأنه عدم إتاحة الفرصة للمواطنين للتعبير عما يعتنقونه بحرية ويمثل أداة لقهر الآراء المخالفة، وتوجيه المواطنين في مسارات معينة دون غيرها.
من ناحية أخرى، فان خبرات عملية التحول الديمقراطي في دول أخرى تبين إنه كلما كان التنافس على سياسات وبرامج لا على اختبارات شمولية مطلقة أمكن لآليات الديمقراطية أن توطد أركانها. ويشير ذلك إلى أهمية توسيع دائرة الاتفاق بين القوي الرئيسية للجماعة السياسية حول قواعد العمل السياسي وإجراءاته وحدوده.
© منبر الحرية، 13 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

إذا كان رصد وتحليل الظواهر الفكرية والسياسية التي تطفو على السطح من مهمات المراقب السياسي، فإنه لمن الغريب أن تمر الحالات الغريبة في عالمنا العربي دون ملاحظة أحد. ليس هذا مدعاة للإستغراب بقدر تعلق الأمر بظاهرة يمكن أن نطلق عليها عنوان الـ”نوستولجيا العثمانية” التي تنتشر بشكل غريب بين أعداد كبيرة من الشباب العربي، بين الإسلاميين خاصة. ومفاد هذه الظاهرة هو الأسف (المتأخر) على سقوط الإمبراطورية العثمانية بمساعدة فئات كبيرة من العرب، إذ يذهب هؤلاء إلى أن هذه كانت “دولة خلافة” إسلامية، ما كان على الشعوب العربية خذلانها للإنسياق وراء “الإستغفال” الذي قادته الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية لوضع العرب، في وقت لاحق، تحت رحمة أنواع الإحتلالات والوصايات بذريعة قيادتهم نحو الإستقلال. ربما تكون الأوضاع الحالية المرتبكة والمتردية في العديد من الأقطار العربية وراء هذا النوع من “الرجوعية” الغريبة، خاصة وان ما لا يقل عن ثلاثة أجيال سابقة كانت قد ثقفت وثقفت على اساس النيل من “النير” العثماني الذي ظل جاثماً على الشعوب العربية طوال قرون.
إن المفارقة، المدعاة للتندر، تتمثل في أن تركيا الحديثة، العلمانية اليوم، تجري وراء القيادات الأوربية من أجل ضمها إلى الجسم الأوربي كدولة أوربية حديثة تمتاز بالعلمانية وبالنظم الليبرالية الديمقراطية. الأتراك يريدون أوربا، والبعض منا يحلم بإعادة الخلافة العثمانية إلى الأستانة! لا ريب أن الإسقاطات والإرهاصات الكامنة وراء هذا الحنين إلى  الماضي العثماني ينبع من شيوع التردي والنكوص النفسي بين شرائح الشبيبة والنشء في بعض الدول العربية درجة إعادة قراءة التاريخ بطريقة تفضي إلى “رجوعية” من هذا  النوع غير المتوقع. وربما وجد البعض في جاذبية عناوين من نوع “الخلافة” والرابطة الإسلامية غطاءً للترويج إلى هذا النوع من التفكير بهدف إمتطائه لتمرير رؤى أخرى تحمل عناويناً أكثر جاذبية وعاطفية بالنسبة للإنسان العربي المسلم.
إن الإرتجاع للماضي، وبغض النظر عن سيئاته ومثالبه، إنما هو من معطيات عصور اللايقين والخوف من المستقبل: فبدلاً من أجيال شابة تتطلع إلى بناء المستقبل من خلال التوثب إلى المبادرة الحضارية التي تجمع بين الحداثة والتراث، يرتمي العديد اليوم في أحضان رؤى إرتدادية لا يمكن إلاّ أن تبلور مقدار اليأس والقنوط الذي ينتاب فئات واسعة في بعض البلدان العربية.
ويبدو أن واحداً من أهم مسببات هذا النوع من التعمية التي يفرضها البعض إنما يعود إلى الجهل بالتاريخ وإلى عدم التمييز بين “الحقيقة التاريخية” و “الخيال التاريخي”، ذلك الخيال الذي يتجاوز مسببات إنهيار “الرجل المريض”، الدولة العثمانية، أمام الغزو الكولونيالي الأوربي، بمساعدة عربية كانت ترنو إلى ما وعد الأوربيون به العرب من دول مستقلة يقودها رجال من ابناء جلدتهم. لقد تجاوز الداعون لإعادة أمجاد الدولة العثمانية الإختلالات “القاتلة” التي ألمت بها، إبتداءً من من سراي الباب العالي الذي كان يضيق بالجواري والغلمان، وإنتهاءً بالحياة المتخلفة التي كانت تعيشها “الممتلكات العربية” للدولة العثمانية، تحت وطأة الأمية والجهل والأمراض الفتاكة. لذا يعد المؤرخون المنصفون الحياة العربية في العصر العثماني جزءاً لا يتجزأ مما يسمى بـ”العصر المظلم”.
ويبقى المرء في حيرة حيال الكيفية التي يمرر بها البعض تمجيد الإمبراطورية العثمانية إلى عقول شابة غضة على طريق الإبقاء على العقل العربي الشاب حبيساً في مجموعة أكاذيب وخيالات تقتل روح المبادرة الحضارية ودوافع التطلع إلى بناء مستقبل من النوع الإستثنائي العربي المميز. وعلى المتابع أن يستحضر الحال المأساوية التي كانت تعيشها الأقاليم العربية بضمن تلك الدولة الزائلة: فقد كانت “الممتلكات” العربية ممزقة على نحو ولايات، بينما كان الولاة الذين يتحكمون بها لا يزيدون عن جباة ضرائب و “خاوات” لإرسال حصة الأسد منها إلى الأستانة (إسطنبول اليوم) والإبقاء على شيء من هذه الثروات للوالي نفسه، مع شيء لحاشيته. صحيح أن العصر العثماني قد شهد ظهور بعض الولاة المصلحين في الأقاليم العربية، من نوع محمد علي باشا في مصر ومدحت باشا في العراق، بيد أن على المؤرخ أن يلاحظ أن هؤلاء المصلحين لم يقدموا على الأعمال العمرانية الجيدة إلاّ كإشارة تعبر عن تمردهم على الأستانة. وبكلمات أخرى، لم يكن المصلحون سوى حكاماً محليين يريدون الإنفصال أو الإستقلال الذاتي بما أغدقته عليهم الأستانة من أراضٍ وأقاليم. لذا حقق محمد علي باشا إستقلالاً واضح المعالم في مصر ثم في بلاد الشام، بينما لم يتمكن مدحت باشا من المضي قدماً في خطته لأنه عزل واستدعي إلى العاصمة ليبدأ رحلة أخرى في “تمرده” على الدولة العثمانية، عسكرياً وسياسياً، حتى تمت تصفيته.
وإذا كنا اليوم نمتلك المدارس، بل والجامعات في كل مدينة، وربما حتى في القرى، فإن أوضاع العرب في ذلك العصر الذي أسدل الستار عليه كانت مدعاة للإبتئاس. لقد كانت الأمية منتشرة على نحو فظيع في الأقطار العربية، بينما لم يكن العرب “المثقفون”، حسب معايير القرن التاسع عشر، سوى كتبة يعملون تحت سوط الوالي والجندرمة والإنكشارية الملتفين حوله. أما المحظوظون، للغاية، فقد كانوا ابناء الأقطاعيين وجباة الضرائب الذين كان يسمح للقلة من ابنائهم بالدراسة في الأستانة على سبيل تعيينهم ضباطاً في جيش الإمبراطورية “المقدسة”. الطريف أن هؤلاء العرب المحظيين من الذين تدربوا على السلاح وإرتدوا البزات العسكرية التركية هم الذين قادوا الثورة، مع لورنس العرب، ضد الدولة العثمانية. ومن هؤلاء نوري السعيد باشا (رئيس وزراء العراق المزمن والمقرب من جلالة المرحوم الملك فيصل الأول): فلو كان هؤلاء المستفيدون من سخاء الأستانة مقتنعين بهذه الدولة لما حاولوا إشعال التمرد عليها والإستعانة بالعشائر والقبائل العربية لإسقاطها.
لقد كانت هذه الأوضاع المتردية في الأقاليم العربية وراء التمرد على الدولة العثمانية التي كانت توظف الإسلام، يافطة، من أجل إبقاء الشعوب العربية ضحية للإستغلال، مع توظيف الإسلام والخلافة شعارات لتحقيق هذا الهدف. لقد عملت الدولة العثمانية بكل قسوة على الإقلال من شأن “لغة القرآن” العربية، حيث سادت سياسة “التتريك” على حساب إهمال اللغة العربية، بينما فرضت الأفكار الشوفينية التركية الطورانية على العرب والأكراد والأرمن، من بين سواهم من الأقوام الواقعة تحت هيمنة الدولة، من أجل الإقلال من شأن هذه الأقوام ومعاملتهم كمواطنين ولكن من درجات أدنى. والأدلة كثيرة على ذلك: فلم يكن أي مواطن عربي يستحق الإحترام والقبول إلاّ إذا ما كان يتكلم اللغة التركية، بينما سيق عشرات الآلاف من العرب جنوداً في حروب الدولة العثمانية التي تحالفت مع دول المحور. ولم يزل الشيوخ يتذكرون حرب القرم (السفر بر) حيث فقد وقتل آلاف الجنود العرب وهم يحاربون “المسقوفية” اي أهل موسكو. أما الولاة الذين كانت مصائر العرب بين ايديهم وتحت رحمة نزواتهم فلم يكونوا عرباً، وإنما شركسية أو جيورجيون أو كرجيون، من هؤلاء الصبية الشقر المسيحيين الذين كانوا ينتزعون من أحضان أمهاتهم صغاراً كي يؤخذوا للإستعمال كغلمان ثم ليتدربوا عسكرياً وإدارياً كي يحكموا الأقاليم العربية.
إن ما يجري اليوم من الترويج النوستالجي لدولة “الخلافة” العثمانية “الرشيدة” إنما ينطوي على حرف الحقائق وعلى محاولة حرف الشبيبة عن طريق التشبث بالمستقبل وبالإستنارة الفكرية. إن النوستالجيا العثمانية تعكس إمتطاء العابثين بالأفكار وبالتاريخ والأسطورة والخرافة على سبيل تبرير الإرتجاع إلى الخلف بدلاً من التطلع إلى الأمام.
© منبر الحرية، 14 فبراير 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تتراوح العلاقة بين الأذهان الذكية من ناحية، وبين الاستبداد، من الناحية الثانية، بين الشد والجذب، التوافق والتنافر، الأمر الذي قاد دائماً إلى شيء من الجفاء بين العبقريات والاستبداد عبر التاريخ البشري. بيد أن هذا الجفاء ينطوي على مفارقة تستدعي التندر أحياناً في حالة أغلب دول الشرق الأوسط خاصة، حيث أن حكومات هذه الدول غالباً ما انبثقت بعد نهاية العصر الذهبي للكولونياليات الأوربية، أي بعد ما يسمى بمرحلة الاستقلال السياسي الذي مرت به أغلب هذه الدول الشرق أوسطية عبر أواسط القرن الزائل، حيث تبلور التنافر بين العقل العبقري وبين السلطة في حالات الاغتراب والغربة الاختيارية، الأمر الذي يلقي الضوء على حقيقة مفادها: أن العقول الذكية غالباً ما تكون عقولاً متمردة، ميالة إلى التحرر والتنائي عن المفروض عليها من الأعلى. لذا إذا ما شئنا تورخة محايدة وصادقة للعقل العربي المثقف، فإننا يمكن أن ندعي، بلا مبالغة، أن العصر الحديث قد شهد حالة مفزعة ومخيفة من الطرد، حيث طردت أنظمة الاستبداد العقول الذكية الميالة للحرية باتجاهات مختلفة، الأمر الذي يبرر حالتين لا يمكن لأي مؤرخ أفكار أن يخطئهما، وهما:
(1) حالة الهروب إلى دواخل العالم الذاتي، حيث طفت بثور الخوف من السلطة والإستبداد على بشرة الثقافة العربية، بعدما خبرته العبقريات من حالات إضطهاد وضغط قادت إلى تعمد العبقريات المبدعة الحقيقية إدارة ظهرها نحو السلطة وعدم الاكتراث باهتماماتها الأنانية؛
(2) حالة الهجرة الاختيارية إلى خارج الوطن: وقد كانت العقود الأخيرة هي العصر الذهبي للاغتراب الجسدي والروحي الذي عاشته العقول العربية الذكية، من أرفع العقول الأكاديمية المتخصصة التي فضلت العمل في الأكاديميات الغربية، (حيث تحترم آراؤها وتقدر خلاصاتها الفكرية)، إلى أعظم شذرات الإبداع الفني، من أعظم شعراء العصر الحديث كـالشاعرين (محمد مهدي الجواهري، من العراق والشاعر أدونيس، من سوريا)، إلى أرقى الكتّاب الخياليين (ومنهم كتّاب فضلوا العيش والموت في المنفى، ومنهم الأستاذ إدوارد سعيد، من بين أسماء لامعة أخرى، كسعدي يوسف ومظفر النواب، وآخرون).
إن أهم ما يمكن أن يلاحظه المتابع في هذه الآصرة المتقلبة بين العبقريات والسلطة في الشرق الأوسط هي مفارقة مفادها: أن السلطة في أغلب دول الشرق الأوسط غالباً ما ترتكن إلى إستذكارات حقبة الاستقلال السياسي لتتحدث عن الحرية وترفعها شعاراً مزيفاً من أجل سحق من يمارسها في حالة تجاوز حدوده، الأمر الذي يفسر إمتلاء السجون بالعديد من الكتّاب والمفكرين والعلماء تحت ظل الأنظمة الاستبدادية، وامتلاء مقاهي مدن المنفى الاختياري في أوربا والولايات المتحدة وأميركا الشمالية بأعداد مهولة من الكتّاب والباحثين والفنانين الهاربين من جحيم الإستبداد والوصاية الأبوية المفروضة على الإنسان، منذ نعومة أظفاره حتى شيخوخته، ناهيك عما تقاسيه المرأة المفكرة أو المبدعة من ضغط وظلم مضاعف في مثل هذه المجتمعات الذكورية التي تخصها بنظرة دونية بوصفها مخلوقاً ضعيفاً يستحق المزيد من الاستضعاف والاستهانة، بإسم فروسية الصحراء العائدة للقرون الوسطى المظلمة، عندما لم تكن المرأة سوى وسيلة لتوالد السلالة عبر القرون المظلمة. لاحظ أن رائدة الشعر العربي الحديث، نازك الملائكة، عاشت معظم حياتها في الغربة حتى توفت قبل بضعة أشهر خارج وطنها العراق، وتنطبق ذات الحال على الشاعرة المبدعة لميعة عباس عمارة التي غادرت العراق في عهد الاستبداد البعثي لتقضي خارج الوطن ما تبقى لها من سنوات.
إن المفارقة تتجلى في أن أغلب الأنظمة الإستبدادية، ومنها الثيوقراطيات Theocracies (دكتاتوريات رجال الدين) غالباً ما تحاول تقديم نفسها كراعية للثقافة وللفنون والعلوم، بينما تكون الحقائق معاكسة لهذا الإدعاء، حيث تهرب أعمدة الثقافة أو تهاجر باحثة عن تربة أكثر تنوعاً وحرية وخصوبة، بعيداً عن الأوطان الزاخرة بالبوليس السري، إضافة إلى احتقانها بالثروات الطبيعية المهدورة في التسليح وبناء أدوات القهر والقسر التي تستخدمها الدكتاتوريات لسحق الإنسان.
© معهد كيتو، مشروع منبر الحرية ، 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018