ينظر العالم إلى مصر؛ فهي تحمل مفتاح تطور العرب، ولأن المحتجين المصريين يزحفون لأجلِ واحدٍ من أثمن عناصر الحكومة الجيدة، والديمقراطية، والحرية، والازدهار، ألا وهو: القضاء المستقل.
يفهم المحتجون، وبمنتهى الوضوح، أن القضاء المستقل ضروري للانتخابات الحرة، وكذلك لضمان احترام القانون واتّباعه، لكن الأمر ينطوي على أكثر من ذلك؛ فالقضاء المستقل هو عجلة المجتمع الحر والاقتصاد المزدهر.
ولا بد من أن يكون القانون متوقَّعاً، لأن من شأن ذلك أن يوفر النظام الاجتماعي. كما يجب أن يراه الناس عادلاً، ليحثهم ويشجعهم على التعاون. ومن البديهي أيضاً أنه لا ينبغي للشخص أن يكون قاضياً في قضيته، مهما كان جيداً أو نزيهاً؛ كما إن من بالغ الأهمية أن لا يكون الذين يسنّون القوانين هم أنفسهم من يحكمون بشأن كيفية تطبيقها على بعض القضايا المحددة، ولا سيما عندما تتداخل فيها مصالحهم الخاصة.
إن القضاة المحايدين والمستقلين ضروريون لكل من الديمقراطية والأسواق الحرة على حد سواء. وقد عرّف عالم الاقتصاد الشهير مانكور أولسون، الذي كرّس حياته لفهم أسباب وكيفية ازدهار بعض المجتمعات وإخفاق مجتمعاتٍ أخرى، عرّف استقلال نظام المحاكم على أنه المفتاح، لأن “نظام المحاكم هذا، والقضاء المستقل، واحترام القانون والحقوق الفردية، الضرورية للديمقراطية الدائمة، ضرورية أيضاً لحماية الملكية وحقوق العقد”.
ليست الديمقراطية مجرد تحقيق “لإرادة الأغلبية” الغامضة، بل هي نظام يستوجب فرض حدود على السلوك؛ كاحترام نتائج الانتخابات، واحترام حقوق الجميع في حرية التعبير عن آرائهم، واحترام حقوق المواطنين العاديين. وتحتاج كل هذه الأمور إلى كيان قانوني مستقل يستطيع أن يقيّد السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا سيما في حالات كحالة مصر، التي تمسك سلطتها التنفيذية بجميع زمام السلطة (الأخرى) بيديها.
ولا يمكن الوثوق بالحكام المطلقين أو الاستبداديين في أن ينفذوا القانون بعدالة، أو في أن يطبقوها على أنفسهم، إذ ليست هناك سلطة مستقلة تجبرهم على الامتثال. وبسبب هذا كله، لا يمكنهم إبرام التزامات صادقة. وكما أشار أولسون في كتابه الأخير القوة والرخاء، فإن الحاكم الاستبدادي ليس لديه دافع لاحترام وعوده: “وعود الحاكم المطلق لا يمكن تنفيذها بواسطة قضاء مستقل، ولا بأي مصدر سلطة مستقل آخر—فالمستبدون، كما تدل تسميتهم، يستطيعون التسلط على مصادر السلطة الأخرى كافة. ونتيجة لهذا الموقف، وللإمكانية الواضحة بأن يُقدِم الديكتاتور على اتخاذ وجهة نظر قصيرة الأمد، فإن وعوده لا يمكن أن تُصدّق بشكل تام”.
ويقودنا هذا إلى المشكلة التي أطلق عليها عالم الاقتصاد إدوارد بريسكوت، الحائز على جائزة نوبل، اسم “عدم الاتساق الزمني”، الذي يتخذ فيه الحاكم التزاماً في الوقت (س)، كعدم مصادرته لأملاك الذين يستثمرون في مشاريع التنمية الطويلة الأمد (المصانع مثلاً)، لكنه يجد في الوقت (ص) أنه ليس لديه باعث على احترام وعده السابق بعد أن تم الاستثمار. وطالما أنه في الوقت (ص) كان الاستثمار قد تحقق، فقد أصبح باعث المستبد هو نحو مصادرة ذلك الاستثمار. ونتيجة لعدم الاتساق الزمني هذا، لا يستطيع أحد الوثوق بالمستبد، ولا يستطيع أحد أن يستثمر. وبالتالي سيعاني الجميع.
لذا، فإنه من دون القضاء المستقل، لا تكون وعود الحكومة معقولة، ولا يستطيع أحد الوثوق بأن الحكومة لن تتراجع عن وعودها باحترام الحقوق. وعندما يهيمن السياسيون من أصحاب المصالح الذاتية على القضاء، فإن وعود المواطنين عندما يتعاقدون فيما بينهم ستصبح أقل صدقاً أيضاً، لأن أطراف العقد لن يكونوا واثقين من أنهم سيحصلون على استماع عادل في المحكمة خلال النزاع.
ويُعدّ الحكم القضائي العادل في المنازعات أمراً بالغ الأهمية لنجاح الاقتصاد. وعُرفَ منذ زمن بعيد أن الأنظمة الاقتصادية الأكثر نجاحاً هي تلك التي تنتج البضائع والخدمات التي تتطلب تخطيطاً طويل الأمد، والذي يتطلب بدوره مقداراً كبيراً من الثقة والتوقعات الواقعية بأن تُحترم الصفقات الطويلة الأمد.
لم تكن مصر دائماً خاضعة لحكم فردي استبدادي؛ فللبلد تقاليد فخورة، وتاريخ نبيل من الديمقراطية والحكومة البرلمانية والقضاء المحترف والمتمرّس. وكان ذلك القضاء يتعرض للهجمات منذ سنوات عدة، ولطالما ناضل في دفاعه من أجل مصلحة الأمة المصرية. ففي العام 1968، طالب القضاة بضمانات أكبر لاستقلالهم، فطُردَ أكثر من مائة قاضٍ. والآن، هناك جيل جديد من القضاة الذين يحتجون على إسكات بعض من زملائهم لفضحهم الفساد والتزوير الانتخابي.
إن القضاء المستقل أساسي لعملية الإصلاح في أي بلد كان، وفي أي جزء من أجزاء العالم؛ إذ لا ديمقراطية بلا قضاء مستقل. ليس هذا فحسب، بل لا عدالة نزيهة بلا قضاء مستقل، وبغياب العدالة النزيهة، لن يكون هناك استثمار طويل الأمد ولا تنمية اقتصادية.
لقد أصبح مستقبل مصر، والعالم العربي برمته، وبطرق عديدة، على المحك في الصراع من أجل استقلال القضاء.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 أيار 2006.