جيمس بيوكانن

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لا يتضمن أي دستور سياسي قائم أو مقترح قيوداً أو حدوداً كافية تتعلق بسلطة الوكالات الحكومية على أنشطة الأفراد والجماعات، وأبرزها، على تلك الاقتصادية. كما لا يوجد دستور ليبرالي قائم أو من المحتمل أن يتوفر في المنظور القريب. وبهذا المعنى، فإن كافة الدساتير القائمة هي فاشلة، وعلى الأغلب أن كافة المقترحات الجدية للإصلاح لا تعطي أية وعود بالنجاح التام. لقد قدّمتُ هذه الانتقادات الشاملة للأنظمة الدستورية القائمة والمقترحة دون إطلاع على تفاصيل معينة، ولكن بإدراك واعٍ وتام بالحقيقة التاريخية أنه، ولأكثر من قرن من الزمن، كانت كافة الحوارات السياسية قد تشكلت بواسطة “الغرور القاتل” (هايك 1989)، بأن بمقدور التوجيه السياسي تسهيل، وليس إعاقة، التقدم الاقتصادي، وبناء عليه تأثرت النتائج المؤسسية.
إن كافة الدساتير التي وضعت منذ القرن الثامن عشر، وجميع ما تم “إصلاحه” إما بشكل صريح أو بواسطة الاستعمال والتفسير منذ ذلك الوقت، يجب أن تعكس جميعها إلى حد ما الصورة الرومانسية للدولة الخيرة المعطاءة، سواء كان ذلك واقعياً أم محتملاً، فهذه هي الصورة التي قدمها المثاليون السياسيون من جهة، والاشتراكيون الحالمون من الجهة الأخرى.
إن الدستور الذي يتضمن “السياسة الخالية من الرومانسية” (بيوكانن 1979) غير موجود في وقتنا هذا، ولا تدخل أية مقترحات للإصلاح تعكس مثل هذا النموذج الواقعي للسياسات بشكل مباشر في أي حوار جارٍ. ومن الممكن إيجاد بقايا مثل تلك الرؤية في بعض عناصر الماديسونية فقط، حيث استمرت في وثائق وسجلات الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مجادلات العدد الصغير نسبياً من الليبراليين الكلاسيكيين الموجود حالياً. ورغم هذا التقييم السلبي، والذي يمكن أن يبدو شاملاً إلى حد ما في اندفاعه للمصلحة العامة، إلا أنه قد توجد أسس لبعض التفاؤل السائد في الوقت الذي نتطلع فيه إلى المضي قدماً على نحو كافٍ إلى عصر ما بعد الثورة، وعلى الأخص إلى القرن المقبل.
مما لا شك فيه أن للأفكار عواقب، ولقد عشنا مع عواقب أفكار زائفة لقرابة قرنين من الزمن، وهي فترة طويلة جداً، لدرجة لا يمكننا أن نتوقع معها أن تحدث أية تغييرات بحلول أوائل التسعينيات. بيد أن العواقب، أو الأحداث نوعاً ما، تتغذى بشكل راجع على الأفكار، وبعد الثورات غير المتوقعة لأعوام 1989-1991، فلا بد وأنها برهنت أنه من الصعب المحافظة بشكل متزايد على الصورة الرومانسية لدولة معطاءة وقادرة. إن نظريات الفشل السياسي، التي قدمها بشكل هزيل الليبراليون الكلاسيكيون خلال فترة السيطرة الاشتراكية، والتي قوبلت بالازدراء والسخرية فقط، أثبت التاريخ بشأنها، فيما اعتبر على الأرجح أنها أعظم التجارب في العلوم الاجتماعية. وما لم يتملكنا اليأس تماماً من قدرة بني البشر على القيام بفعل عقلاني، علينا أن نتوقع أنه في فترة ما من قرن ما بعد الاشتراكية، سيبدي الرجال والنساء قدرات دستورية بناءة من الصعب تخيلها في الوقت الحاضر.
وبهذا المعنى، يُعتبر فرانسيس فوكوياما (1992) على حق بالتأكيد. أطلِق عليها ما يمكن أن يسميها المرء سمة تاريخية إلى حد ما، انتهت بشكل فاعل مع ثورات الأعوام 1989-1991. كما أصاب فوكوياما الحقيقة في إشارته إلى أن علم الاقتصاد الذي يوضح كيف يعمل اقتصاد السوق بشكل مستقل عن التوجيه والسيطرة المصبوغين بصبغة سياسية لينتج أكبر حزمة من السلع والخدمات المتوفرة ضمن قيود الموارد المتاحة تمت تبرئته أخيراً. ولكن، هل كان فوكوياما على حق أيضاً عندما تنبأ أن هذه النتيجة العلمية سيتم دمجها في الإصلاح المؤسسي-الدستوري؟ ولكي نتفق معه هنا، ربما علينا أن نفكر إلى ما هو أبعد من أفق عدد قليل من العقود المقبلة.
وكبداية، ربما من المفيد أن نوسع إدراكنا المتأخر ليشمل عهد ما قبل الرومانسية وما قبل الاشتراكية، إلى القرن الثامن عشر، ونحاول أن نلتقط من جديد الفهم الدستوري الذي أثار إلى حد كبير الفلاسفة، فضلاً عن السياسيين. وإلى أن، وما لم، يتم تحقيق مثل هذا التغيير في الذهنية المعاصرة بطريقة ما، فإن جميع جهود الحوار الدستوري الرامية إلى الإصلاح الأساسي ستضيع هباءً بلا شك. فالحكومات، بغض النظر عن درجة تنظيمها، ستبقى طليقة أساسياً، وسيستمر السياسيون البيروقراطيون في تسهيل الاستغلال المتبادل لكل منهم من قبل الجميع، في “حالة من الاضطراب والهيجان” الخاصة بأنثوني دي جاساي (1985). فالاقتصادات سوف تتعثر، ومن المحتمل بشكل متزايد أن تختفي المنتجات التي تحمل قيمة إلى “ثقب أسود” لما كان يمكن أن تكون عليه الحال (مكجي، بروك، ويانغ 1989).
النظام الدستوري لليبرالية الكلاسيكية

كان الليبراليون الكلاسيكيون في القرن الثامن عشر، سواء ممثلين بأعضاء التنوير الاسكتلندي، أو بالآباء المؤسسين الأمريكيين، شديدي التشكك في قدرة ورغبة السياسة والسياسيين في تعزيز مصالح المواطن العادي. وكانت الحكومات تعتبر شراً ضرورياً، ومؤسسات ينبغي الحماية منها، لكنها جعلت ضرورية نتيجة الحقيقة المبدئية بأن ليس كل الأشخاص ملائكة (ماديسون 1966 [1787]: 160). ولم يكن يتوجب الثقة بالحكومات، وبالأشخاص المكلفين كوكلاء لسلطتها، وكانت الدساتير ضرورية، وبشكل أساسي كوسيلة لتقييد السلطة الجماعية بجميع امتداداتها المحتملة. وكانت سلطة الدولة شيئاً يخشى منه الليبراليون الكلاسيكيون، وكان يُعتقَد أن مشكلة التصميم الدستوري تكمن في أن مثل هذه السلطة يمكن أن تكون محدودة جداً.
إن الوسائل لإنجاز هذا الهدف وسائل مألوفة. فالسيادة تم توزيعها بين عدة مستويات من السلطة الجماعية، وكانت الفيدرالية ترمي إلى السماح بعدم تركيز أو عدم مركزية سلطة الدولة القاهرة. وعلى كل صعيد للسلطة، تم وضع فروع وظيفية منفصلة للحكومة، وبشكل مدروس، في تواتر مستمر، الواحد مع الآخر. وفي بعض الكيانات، تم تقييد الفرع التشريعي المهيمن بواسطة المؤسسة الدستورية المكونة من كيانين، كل منهما منظَّم كمبدأ مستقل للتمثيل.
من المهم أن ندرك أن هذه العناصر البنيوية-الإجرائية الأساسية للدساتير السياسية قد تم تصميمها ومناقشتها، ووضعها موضع التنفيذ، من قبل ليبراليين كلاسيكيين في سياق هدف أو غرض مشترك، وهو ضبط أو تقييد السلطة القاهرة للدولة إزاء الأفراد. ولم تكن القوة المحركة لجعل الحكومة تعمل بشكل أفضل في تحقيق “السلع العامة” المختارة اعتباطاً، ولا في ضمان أن تحظى كل المصالح “بتمثيل أكثر اكتمالاً”.
وكانت العناصر البنيوية-الإجرائية للدستور الليبرالي الكلاسيكي، وتلك المذكورة أعلاه وغيرها، تعتبر أقل أهمية من تلك النصوص التي وضعت مدى ونطاق النشاطات التي تقوم بها السلطة الجماعية على نحو مناسب. ويعني هذا القول أن التعليمات الدستورية بالنسبة لما قد تقوم به الحكومات، أو لا تقوم به، كانت دائماً تعتبر أهم بكثير من كيفية قيام الحكومة بأي عمل، مثلما تفعل في الواقع. وقد غاب هذا الفارق المهم الذي كان مركزياً للمفهوم الليبرالي الكلاسيكي للنظام الاجتماعي عن الوعي العام خلال صعود الديمقراطية الانتخابية، خصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكان هنالك قبول عام للمغالطة التي كانت مكافئة لظهور الديمقراطية الانتخابية مع حاجة متضائلة لقيود دستورية جلية على مدى ونطاق النشاط الحكومي.
وفي النظام الدستوري الليبرالي الكلاسيكي، فإن أنشطة الحكومة، بغض النظر عن كيفية اختيار اللاعبين، تقتصر وظيفياً على مدارات التفاعل الاجتماعي، فقد كانت الحكومات، مثالياً، ستُمنع دستورياً من القيام بعمل مباشر يرمي إلى “تنفيذ” أية وظيفة من الوظائف الاقتصادية الأساسية العديدة: (1) وضع نطاق القيمة؛ (2) تنظيم الإنتاج؛ (3) توزيع المنتجات. وكان يتوجب القيام بهذه الوظائف خارج الهدف الواعي لأي شخص أو وكالة، وكانت تتم من خلال إدارة الأعمال اللامركزية لكثير من المشاركين في السلطة الاقتصادية المترابطة، كما تنسقها الأسواق، ومن خلال إطار “القوانين والمؤسسات” التي تم الإبقاء عليها وتطبيقها بشكل مناسب من قبل الحكومة.
ودور المحافظة على الإطار هذا، المعيَّن على نحو ملائم للحكومة في النظام الليبرالي الكلاسيكي، اشتمل على حماية الملكية، وتطبيق العقود الطوعية، والضمانة الفاعلة للدخول إلى والخروج من الصناعات، والتجارة، والمهن، والانفتاح المؤكد للأسواق الداخلية والخارجية، ومنع الاحتيال في المقابل. وكان يؤخذ بعين الاعتبار أن دور الإطار هذا للحكومة يشمل تأسيس معيار نقدي، وبطريقة تضمن قابلية توقُّع قيمة الوحدة النقدية المعينة (وعند تولي هذه المسؤولية النقدية بالتحديد، فشلت جميع الدساتير تقريباً، حتى تلك التي زُعم أن المبادئ الليبرالية الكلاسيكية حفزتها في الأصل، إذ تحركت الحكومات عبر التاريخ دائما على الأغلب إلى أبعد من حدود سلطتها النقدية المسموحة دستورياً).
وهناك مبدأ رئيسي متأصل في الدستور الليبرالي الكلاسيكي يملي بأنه، بغض النظر عما تفعله الحكومة، وسواء كانت الأنشطة الجماعية محتواة ضمن الحدود المشار إليها أم لا، يجب معاملة جميع الأشخاص والمجموعات بالتساوي. وكان يجب تمديد عمومية المبدأ المطبق على القانون، ليشمل السياسة أيضاً. ولم يكن هنالك دور للفعل الحكومي الذي يفرق بصراحة بين كافة الفرقاء المنفصلين، أو فئات الأشخاص. وفي المفهوم الليبرالي الكلاسيكي، لا تستطيع تحالفات الأغلبية الناجحة أن تفرض ضرائب مميزة على أفراد الأقلية السياسية، حتى لو كان ذلك لأهداف “المصلحة العامة” (بيوكانن 1992).
النظام الدستوري للاشتراكية
لم تحصل الرؤية الليبرالية الكلاسيكية للنظام الدستوري على انتشار جماهيري وقبول فلسفي واسع، لأكثر من عدة عقود من الزمن امتدت في الفترة بين القرنين الثامن والتاسع عشر. وإلى حد ما، كان سبب رد الفعل ضد هذه الرؤية هو تعصب أولئك المؤيدين الذين وسعوا مبدأ “دعه يعمل” الرئيسي بحماس مفرط، حتى في رفضهم لدور جماعي-حكومي في وضع معايير للتفاعل الاقتصادي. ولكن، من ناحية مبدئية، نبع رد الفعل ضد الليبرالية الكلاسيكية من عدم الرغبة العامة للمشاركين في الجسم السياسي بقبول النتائج التلقائية المخصصة والموزعة التي نشأت في خضم عملية اقتصاد السوق. لم يتم النظر إلى هذه النتائج على أنها “طبيعية”، ولم يتم فهمها على أنها كانت من صنع كافة الخيارات المنفصلة المعقدة التي اتخذها أشخاص لديهم قدرات عديدة. وتم النظر إلى نتائج عملية السوق على أنها “اصطناعية”—أي تم إنتاجها بدلاً من أن تبرز آلياً، وهي بناء على ذلك عرضة للتلاعب المباشر، والتغيير، وإعادة التوجيه من قبل عمل جماعي تم إضفاء الصفة السياسية عليه.
لقد تم تحفيز وإذكاء رد الفعل المضاد لليبرالية الكلاسيكية من قبل عاملين منفصلين تحديداً. أولاً، تكمن عبقرية كارل ماركس في قدرته على عزل، وتحديد، وإعلان تلك العناصر في رأسمالية عملية السوق التي بدت عرضة على الأغلب للانتقاد، على الأخص في السياق الفكري للنظرية الاقتصادية الكلاسيكية غير المكتملة، إلى جانب الفوضى المنتشرة فيما يتعلق بالتمييز بين العمليات الدستورية ودستورية الحكومات. وركز ماركس على هشاشة الرأسمالية أمام الأزمات المالية، وعلى ميلها للتمركزية (الاحتكار) في الصناعة، وعلى الاستغلال المدمر المزعوم للبروليتاريا (طبقة العمال). ثانياً، لقد استخدم المثاليون السياسيون ولقرون عدة ضمنياً نماذج من الدولة تنطوي على النزعة الافتراضية إلى الخير، وبإدراك تام. ويمكن تصويب أية إخفاقات للأسواق بموجب هذا الافتراض للمجموعة المثالية بالكامل عن طريق عمل سياسي موجه. لقد عمل النقد الماركسي المعمم إلى جانب افتراض الإدارة السياسية المثالية على تدمير الأساس الفكري العلمي الذي تم بناؤه لتبرير النظام الدستوري الليبرالي الكلاسيكي.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، برزت رؤية من نوع ما لنظام اشتراكي ولفتت، بدرجات متفاوتة من الحماس، أذهان الأشخاص في جميع المجتمعات المتقدمة، وحتى في تلك المجتمعات التي كانت فيها الماركسية قادرة على الحصول على دعم مباشر بسيط نسبياً. وفي جوهرها، رفضت الرؤية الاشتراكية بشكل مطلق المفهوم الليبرالي الكلاسيكي للاقتصاد الذاتي التنظيم الذي يعمل ضمن مجموعة من الحدود الدستورية التي تنفذها الحكومة والتي بدورها مقيدة بنفسها إلى حد كبير، إن لم يكن بشكل كامل، بالدور التطبيقي والتنفيذي. وإذا تم رفض الاقتصاد ذاتي التنظيم، أو الذي لا يحمل صبغة سياسية، بصفته المبدأ النظامي الأساسي، فإن الاقتصاد المضبوط أو المنظَّم يصبح عنصراً أساسياً من أي نموذج بديل للمنظومة الاجتماعية. وهذا التحول من نموذج الاقتصاد ذاتي التنظيم إلى اقتصاد مضبوط أو منظَّم يمكن أن يكون، ولكن ليس ضرورياً، متصلاً بشكل مباشر بقضايا تتعلق بالتغييرات البنيوية-الإجرائية التي تنطوي على طرق ووسائل تم بواسطتها اختيار وكلاء ووكالات الإدارة، إلى جانب الأوامر الدستورية المتعلقة بكيفية أداء وظائف السيطرة والتنظيم.
والنظام الدستوري الاشتراكي، سواء يتم تحديده لدى تطبيقه على حزب واحد، أو نظام استبدادي معين ذاتياً، أو أغلبية برلمانية ديمقراطية اشتراكية، يوسع بالضرورة مدى ونطاق الصبغة السياسية إلى أبعد من الحدود التي تم تحديدها على نطاق ضيق للسلطة الجماعية في ظل النظام الليبرالي الكلاسيكي. فإذا كان الاقتصاد برمته مفتوحاً للسيطرة والتنظيم “في سبيل المصلحة العامة”، فيمكن أن يكون هناك، في ظل هذا التحديد، قيداً دستورياً بسيطاً، أو غير سابق، على تحديد ما هي تلك المصلحة من جانب أولئك الوكلاء والوكالات المكلفون بمسؤولية تخصيص وتوزيع النتائج. في حين أن الحكومات في النظام الدستوري الليبرالي الكلاسيكي لديها مسؤولية محدودة إزاء النتائج التي تبرز من التفاعل بين الأشخاص ذوي القدرات العديدة، فإن الحكومات في النظام الدستوري الاشتراكي تتولى المسؤولية الكاملة أو الإجمالية إزاء جميع النتائج، بما فيها حجم، ومكونات، وتوزيع “حزمة القيم” التي تولدت من النظام برمته. وهذه المسؤولية المطلقة تبقى مناطة بالحكومة حتى لو أتيح للسوق، كوسيلة للتنظيم، بالعمل دون توجيه دقيق إزاء مجالات واسعة من التفاعل. وفي النظام الاشتراكي للحكومات، فلا يوجد، ولا يمكن أن يوجد، ضمانات دستورية مقدمة إلى الممثلين الاقتصاديين، سواء كانوا أشخاصاً أو شركات، مقابل التدخلات المتولدة سياسياً في حرية التجارة، سواء كان ذلك هامشياً أو إجمالياً. وفي المعنى الأصلي، وبعد الرجوع إلى هيكل الاقتصاد، فإن التعبير بحد ذاته “الدستور الاشتراكي” متناقض. وفي أفضل الأحوال، يتضمن النظام الدستوري للاشتراكية قيوداً حول الإجراءات السياسية وسلوك الوكلاء السياسيين في تنفيذ هذه الإجراءات، ولا يمكنها أن تمتد لتشمل القيود على الصبغة السياسية للاقتصاد بالمثل.
وكما نعلم الآن، وكما علمنا من الثورات العظيمة في وسط وشرق أوروبا خلال الأعوام 1989-1991، بالإضافة إلى التجربة الجماعية التاريخية من مناطق أخرى من العالم، وكما أضافت إلى ذلك النقاشات التحليلية، فإن المبدأ الرئيسي للنظام الاشتراكي تشوبه العيوب بشكل مهلك وقد كان كذلك منذ بداية انتشاره. والافتراض أن التنظيم-السيطرة بالصبغة السياسية لعلاقات الاقتصاد بإمكانها—بل وسوف تولد حزمة كبيرة مرضية من السلع والخدمات بتقييم من المشاركين أنفسهم—ثبت أنه متجذر بالمغالطات. وفي المجمل، لم تنجح التجارب الاشتراكية العظيمة لهذا القرن، كما أن الأشكال المحسنة لهذه التجارب لن تنجح أيضاً بالنظر إلى القيود الدافعية، والمعرفية، والتصورية لبني البشر. ويسود الآن قبول عام للاقتراح بأن منظومة اقتصاد السوق فقط، والتي تستغل القدرات البشرية، يمكنها أن تنتج تراكماً ملائماً مقبولاً للقيمة الاقتصادية.
التناقض الدستوري لفترة ما بعد الاشتراكية

إن مجموعة المواقف العامة، والمهنية، والسياسية، والفلسفية التي تبدو أكثر وصفاً للسنوات التي تلت مباشرة فترة ما بعد الاشتراكية خلال أعوام التسعينيات متناقضة داخلياً. فالرؤية الاشتراكية للسيطرة-التنظيم بصبغة سياسية للتفاعل الاقتصادي لم تغادر بأي حال من الأحوال الذهنية الحديثة، رغم الدليل الذي أبرزه المنطق أو التاريخ. فالاعتقاد أن الأشخاص، عندما يعملون معاً من خلال عضويتهم في الجماعة، باستطاعتهم بكفاءة “تحسين” نتائج عمليات السوق المتولدة تلقائياً، بقيت مخزنة في النفسية الحديثة. ورغم القوة الساحقة للدليل، ورغم الحجة الداعمة، لا يستطيع الأفراد الإذعان فوراً للحالة التي أشار إليها واقع ما بعد الاشتراكية. إذ أن رومانسية الاشتراكية، والتي تعتمد على كلٍ من السياسة المثالية، ومجموعة من الافتراضات الضمنية السلوكية المستحيلة، لم تختفِ بعد. ولن نستطيع أن نجزم بعيداً عن التوقعات المستقبلية ما إذا كانت الرومانسية ستتلاشى في الواقع، في الوقت الذي نتخطى فيه اضطرابات ما بعد ثورة أعوام التسعينيات ونمضي إلى القرن المقبل. وهناك عدة أسئلة يمكن طرحها: هل ستنتصر الحقيقة في النهاية على الرومانسية؟ وهل سيعود النظام الدستوري لليبرالية الكلاسيكية بشكل ما، ويلقى قبولاً على أنه النظام الوحيد الذي يجمع بين الحرية الشخصية والازدهار الاقتصادي؟ وهل أن اهتمام العامة في النمو الاقتصادي المتراكم، وفي التقدم الاقتصادي بحد ذاته، سيحقق المطلوب ويتم عكسه في إصلاحات دستورية أصلية؟ أم هل نتوقع بروز إيديولوجية جديدة من نوع ما ستقدم العون المتجدد للصورة الرومانسية للمثالية الجماعية؟ وبدون بروز مثل تلك الإيديولوجية، هل بإمكاننا أن نتوقع الإذعان العام للسيطرة الاستبدادية على السلطة؟ وبدون وجود مكافئ للصراع الطبقي الماركسي، بصفته دعامة أيديولوجية ترفع الشعارات، هل يستطيع السياسيون تفادي النقد المتشكك من جانب العامة، حتى لو كان هنالك فهم بسيط لوظائف السوق؟ وهل من المحتمل أن تظهر معرفة ضمنية من نوع ما للدستورية بصفتها مناهج القرن الحادي والعشرين؟
إن سياسة بلدي، الولايات المتحدة الأمريكية، في عام 1993 لا توفر أساساً كبيراً للتفاؤل قصير الأجل المتمثل في إجابة ضمنية على هذه الأسئلة. والخطاب البلاغي حول صراع الطبقات يستخدم الآن لتوليد الدعم من أجل توسيع القطاع الحكومي من الاقتصاد المنتفخ فعلياً، والشكوك المؤقتة حول أعوام الثمانينيات حول فعالية الجهود التنظيمية تبدو وكأنها استبدلت بالرجوع إلى علاجات مضى عليها نصف قرن من الزمن. إن “الاشتراكية على النطاق الصغير” على طريق الهيمنة، كما لو أن زوال “الاشتراكية على النطاق الكبير” ليس له علاقة. ويُزعَم أن السياسة التي رمت إلى “إجراء تحسينات” على نتائج عمليات السوق قادرة على النجاح، رغم أعمال نفس تناقضات الحوافز، ومحدودية المعرفة، وإغفال روح المغامرة التي أنتجت خلفية الثورات الكبرى لأعوام 1989-1991.
وكما أشرنا سابقاً، إذا أردنا أن نجد أسساً للأمل الدستوري، فربما من الضروري أن نمد أبصارنا، من حيث الوقت والمكان. ويجب أن نتذكر إصرار كينز على التأثير بعيد المدى للأفكار. ربما أن فترة ما بعد الاشتراكية قصيرة جداً بالنسبة لنا ببساطة، لكي نتوقع التغيرات في المواقف العامة والسياسية، وعلى وجه الخصوص في تلك المجتمعات التي لم تختبر بذاتها الجَيَشان الثوري. وربما أن أي إحياء لليبرالية الكلاسيكية من جديد يجب توقع حدوثه في تلك المجتمعات التي لم تعاني بالفعل من الثورات، وربما في تلك المجتمعات فقط كان هناك فقدان كافٍ للثقة في السياسة والسياسيين، ليسمح بإعادة بناء، من نوع ما، لأفكار القرن الثامن عشر للنظام الدستوري. ويبدو أن توقعاً واحداً فقط آمن هنا، وهو أن المشهد الدستوري للقرن المقبل سيكون مفاجئاً.
خــاتمــة

لقد ناقشتُ باختصار فقط المجموعة الكاملة للقضايا الدستورية التي تتعلق بالبدائل البنيوية والإجرائية للإدارة الرشيدة. ولم أناقش قضايا مثل الجمهورية مقابل الشكل البرلماني للحكومة؛ والتمثيل النسبي مقابل النظام الذي يضم حزبين؛ والفيدرالية الفعالة مقابل المركزية السياسية. بيد أن إهمالي لهذه القضايا كان متعمداً تماماً. إذ أن جميع هذه المسائل التنظيمية-الإجرائية تصبح غير ذات أهمية بالمقارنة مع التحدي الدستوري لوضع القيود على سلطة الحكومة إزاء العملية الاقتصادية. وإلى أن، وما لم، يتم تقييد الحكومة بشدة فيما يتعلق بتجاوزاتها الاقتصادية عن طريق المبادئ الليبرالية الكلاسيكية—نوعاً ما—بما فيها مبدأ العمومية، فعاجلاً أم آجلاً ستصبح الاختيارات المحددة التي اتخذت بين البدائل البنيوية والإجرائية غير مهمة نسبياً.
وبإمكان الأغلبية البرلمانية المنتخبة ديمقراطياً، والمغروسة بأفكار ورؤى اشتراكية، أن تدمر القيمة المحتملة التي يمكن أن تتأتى من اقتصاد سوقٍ حر، بقدر ما يمكن أن تفعل ذلك، أو أكثر، أنشطة النظام الاستبدادي. وبحسب النطاق الذي تستطيع من خلاله القيود الدستورية أن تقيّد الحكومات بفاعلية بسلطاتها التنظيمية، والمالية، والضريبية، عندها يحتل الشكل الدستوري للإدارة الرشيدة بذاته المرتبة الثانية. وبحسب النطاق الذي تستطيع من خلاله أن تبقى سلطات الحكومة دون حدود وغير مقيدة، يبدو عندها أن لأشكال الحكومة أهمية. ولكن ضمن معنى نهائي من نوع ما، فإن السياسة الممتدة إلى حد مفرط ستفشل بالتأكيد، بغض النظر عن الخصائص الهيكلية.
وفي جميع البلدان تقريباً، فإن الحوار والنقاش المستمر يتركز على تأسيس، وصيانة، والمحافظة على “الديمقراطية الدستورية”. ويمكن تلخيص حجتي الرئيسية في أن العبارة “الدستورية” هي العبارة المهمة جداً بين العبارتين السابقتين. فالازدهار أو التقدم الاقتصادي، محسوباً في القيمة المنتجة والمستهلكة، يمكن أن يحدث فقط في أوضاع تكون فيها أنشطة الحكومة مقيَّدة دستورياً، وبشكل مستقل عن كيفية اختيار وكلاء الحكومة.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 28 كانون الأول 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

1. مقدمة
هنالك شيء يثير عدم الرضا العميق، عندما يتعلق الأمر بعلماء اقتصاد، الذين يقدمون موضوع بحثهم بالإشارة المعتادة إلى روبنسون كروزو، الذي يواجه “مشكلة اقتصادية” لأن عليه أن يقرر كيف يخصص موارده المحدودة (بما في ذلك الوقت) بين استخدامات متنافسة. مع هذه التقدمة، يصبح أمراً سهلاً للغاية الانزلاق من مصفوفة كروزو إلى إطار يواجه فيه “المجتمع” أيضاً “معضلة اقتصادية”، ثم القفز، لا شعورياً، من تحليل تعظيم الفائدة الفردية إلى اهتمام مباشر بتعظيم القيمة للمجتمع.
ما يظل خارج هذا السياق التدريسي البداغوجي هو التفاعل بين أشخاص مختلفين الذين يتألف منهم المجتمع. الأفراد يواجهون خيارات في إطار اجتماعي يكون فيه وجود وسلوك الأشخاص الآخرين، جنباً إلى جنب مع المؤسسات التي تحد من سلوكهم، أكثر أهمية بكثير من العوائق الفيزيائية التي تمثلها الطبيعة. الاقتصاد، هو، أو يجب أن يكون، حول سلوك الأفراد في المجتمع.
مثل هذا السلوك ليس بالضرورة “اجتماعياً” بمعنى أن يعترف الأفراد بمؤثرات متبادلة في تفاعلات مباشرة بين مختلف الأطراف. السلوك الشخصي في المجتمعات الكبيرة الحديثة قد يكون غير شخصي، كما يتجسد ذلك في الأنماط المثالية للأسواق المتنافسة. في القضايا المحددة، جميع المساهمين يستجيبون لأطر خارجية مقررة سلفاً: لا يمارس أي شخص نفوذاً مباشراً على غيره. إن نتائج الاعتماد المتبادل والمعقد بين جميع العاملين في الميدان، ليست متوافرة كمواضيع اختبار لأي واحد منهم.
وفي الحالات المحددة، أو في أطر عامة أكثر، حيث يعتبر جزء على الأقل من السلوك “الاجتماعي” بشكل محدد، فإن القواعد التي تنسق أفعال الأشخاص هي مهمة وضرورية لأي فهم لعملية الاعتماد المتبادل. الأشخاص نفسهم، مع الدوافع والقدرات نفسها، سوف يتفاعلون لتوليد مجموعة من النتائج التي تختلف تحت ظروف مختلفة، مع تداعيات مختلفة تماماً بالنسبة لمصالح كل مشترِك. إن تخصيص وقت وطاقة إنسان ما سوف يكون مختلفاً في إطار تكون فيه المكافآت مرتبطة بحسن الأداء، عما سيكون عليه في إطار يتقرر بمواصفات ومقاييس أخرى. ومنذ القرن الثامن عشر، على الأقل، وبالأخص منذ آدم سميث، فإن نفوذ الأحكام (أسماها سميث بـ”القوانين والمؤسسات”) على النتائج الاجتماعية كانت مفهومة، وهذه العلاقة كانت الأساس لمفهوم مركزي في علم الاقتصاد والاقتصاد السياسي، وبالأخص كما استنبط من جذوره الكلاسيكية.
إذا كانت القوانين تؤثر على النتائج، وإذا كانت بعض النتائج “أفضل” من أخرى، فإن مما يتبع ذلك القول، وإلى المدى الذي يمكن فيه اختيار القوانين، بإن دراسة وتحليل القوانين والمؤسسات المقارنة، تصبح موضوعاً يستحق منا كل الاهتمام. فبدون فهم كيف أن الأفراد الذين يشكلون النظام الاجتماعي يتفاعلون، وكيف أن مجاميع قوانين مختلفة تؤثر على تلك التفاعلات، فإن من المستحيل على المشاركين إحداث تغييرات ذات قيمة في القوانين القائمة حالياً، أو حتى أن تسلك بحكمة فيما يتعلق بالحفاظ على تلك القوانين التي أثبتت حيويتها في تفعيل المجتمع تفعيلاً جيداً ومقبولاً.
ما هي النصيحة التي نستطيع تقديمها لأنفسنا في مجتمعاتنا، حيث نقف أمام فوائد ومزايا التعاون من جهة، واحتمالات النزاع من ناحية أخرى؟ أية نواحي من حياتنا الاجتماعية يتوجب التخلي عنها؟ أين هي “قوانين النظام الاجتماعي”—الترتيبات المؤسسية التي تحكم تفاعلاتنا—والتي تقودنا إلى التفاعل سلبياً تجاه بعضنا بعضاً؟ أين هي القوى التي تدفع باتجاه التوافق، والتي يمكن تعبئتها؟ أية قوانين—وأية مؤسسات—يجب علينا أن نكافح من أجل الحفاظ عليها؟
هذه الأسئلة تمثل مجال التحقيق الذي نسميه “الاقتصاد الدستوري السياسي” (من وحي علماء الاقتصاد الكلاسيكيين، الذين كانت مثل هذه الأسئلة مركزية في تفكيرهم). إنها أسئلة مهمة حتى وإن كان يتم تجاهلها على نطاق واسع في الأبحاث الحديثة. وهي لا تسأل في فراغ فكري تحليلي تام. فلقد أشغلت في الواقع عقول بعض أعظم المفكرين في التراث الغربي. مما يدعو إلى الأسف أن كثيراً من الحكمة المتراكمة قد سقط بين الشقوق. مثل هذه الأسئلة كثيراً ما تعتبر أيديولوجية فكرية، بحيث أن الأجوبة هي ببساطة مسألة آراء ووجهات نظر، يتساوى فيها رأي ما مع الرأي الآخر. هنالك مجال كبير، بكل تأكيد، لوجود خلافات يمكن قبولها. ولكن هنالك أيضاً إجراءات تتعلق بتوجيه الأسئلة وطريقة للتحليل تتضمن مجموعة من الشروط يمكن في إطارها إجراء الحوارات.
الأسئلة نفسها، والإجراءات المناسبة للسؤال عنها، وطريقة التحليل المتصلة بها، هي ما يشكل أجندة هذا البحث. إن هدفنا في هذا البحث هو هيئة المشجب الذي تعلق عليه فيما بعد القبعات المختلفة. وبشكل محدد، سوف نقدم تشخيصاً لأنماط مختلفة من التفاعلات، بداية بعبارات مجردة. ولسوف نبين بشكل مجرد أيضاً الطرق التي تكون بموجبها القوانين والمؤسسات ذات علاقة بطبيعة التفاعلات التي تسود، ومن ثم سوف نذكر مختلف أنماط التفاعلات، في أطر اجتماعية مختلفة تكون في أحيان كثيرة مرتبطة بها. وأخيراً سوف نبحث بإيجاز القوانين بشكل عام، وأن نربط بين بعض الدروس التي نستفيدها منها إلى المسرح الاجتماعي-السياسي-الاقتصادي الذي هو، بطبيعة الحال، اهتمامنا الرئيسي.
2. مبررات الأحكام

إن عنوان هذا البحث هو مبررات الأحكام، وسوف نبحث أسباباً كثيرةً بالتفصيل كلما تقدمنا في البحث. ولكن أولاً، يجب بحث السبب الجوهري من بين جميع الأسباب، على الرغم من أنه قد بحث باستفاضة في كتب أخرى. إننا نحتاج إلى قوانين في المجتمع لأنه بدونها، تصبح الحياة كما وصفها لنا ثوماس هوبز المفكر الإنجليزي قبل أكثر من ثلاثة قرون مضت: “معزولة، فقيرة، بشعة، وحشية وقصيرة”. رومانسي فوضوي فقط هو الذي يظن بأن هنالك انسجاماً طبيعياً بين الناس من شأنه إزالة جميع النزاعات في غياب القوانين والأحكام. إننا نحتاج إلى الأحكام للعيش معاً لسبب بسيط هو أنه في غيابها، سوف نتقاتل بكل تأكيد. سوف نتقاتل لأن رغبة الفرد في شيء ما سوف يسعى إليه شخص آخر. الأنظمة تحدد المساحات الخاصة التي يمكن في إطارها لكل منا مواصلة رغباته ونشاطاته.
ربما تكون أفضل وسيلة، وأكثرها شيوعاً في الدلالة على احتمالات النزاع هذا بين الأفراد، والوسائل الممكنة لحل تلك النزاعات، هي معضلة السجناء الكلاسيكية. أنظر إلى المصفوفة (1-1) الذي تكون فيه الأعداد في كل خلية تمثل مزايا ذات قيمة إيجابية لكل من الشخصين (أ) و(ب)، مع معرفة أن الرقم إلى اليسار يشير إلى الميزة لصالح (ب)، والرقم على اليد اليمنى لصالح (أ). لاحظ أن هنالك صفاً وعاموداً للسيطرة. أو بعبارة أخرى، هنالك فقط مرة واحدة لأداء اللعبة: (أ) الذي يختار بين الصفوف، سوف يختار الصف 2، وبشكل مستقل عما يمكن أن يتوقعه حول ما سيكون عليه اختيار (ب). ومثل ذلك (ب)، الذي يختار بين الأعمدة، سوف يختار العامود 2. ونتيجة لهذه الاختيارات المنفصلة، فإن الحل يقع في الخلية رقم 4. هنالك في هذه المصفوفة رسالة واضحة وبسيطة: بالنسبة لمجموعة الأشخاص المشتركين في هذه العملية، هنالك حاجة إلى نظام، ملزم اجتماعياً، والذي يمنع الأفراد من التصرف بشكل يؤدي في النهاية إلى النتيجة التي تم وصفها في الغرفة 4، وهي نتيجة لا يرغب فيها أي من الجانبين.

عدة نقاط تستحق الملاحظة من هذا المثل البسيط. أولاً، وكما ذكر سابقاً، لا يستطيع (أ) ولا (ب) بمفردهما تقرير نتيجة التفاعل الاجتماعي. النتيجة تتأتى من سلوك الفريقين كليهما، سواء سمي ذلك السلوك نتيجة لتوقعات الفرد في تعظيم الفائدة لنفسه وبدون الركون إلى أحكام، أو نتيجة التمسك بنوع من النظام أو العادات.
ثانياً، إن إمكانية الاتفاق حول نوع من الأحكام أو العادات تكون قائمة ما دام أن هيكل التفاعل يظل باقياً كما وصف في المصفوفة. أو بعبارة أخرى، ليس من الضروري أن تكون ميزة اللعبة متناسقة، كما هو مبين. كل ما هو مطلوب هو أن تكون الدرجة الترتيبية للخلية أو الغرفة مطابقة كما تم وصفها لكل من الفرقاء المعنيين. فما دام أن (أ) يصنف الغرف 3، 1، 4، 2 و(ب) يصنفها 2، 1، 4، 3، فإن النتائج تظل قائمة. وبالتالي، نستطيع، إذا رغبنا، مضاعفة الأرقام إلى (أ) بمقدار مائة، بينما نبقي الأعداد لـ(ب) كما هو مبين، وبدون تعديل الهيكل الأساسي للتفاعل.
ثالثاً، حتى هذا الرسم التوضيحي البسيط يبين مسألة تطبيق الأحكام، على الرغم من إمكانية الوصول إلى اتفاق عام حول الرغبة في تطبيقها. لنفترض بأن (أ) و(ب) قد اتفقا على اختيار الصف 1 والعامود 1، وبالتالي يهيئان لنتيجة متوقعة في خلية رقم 1. فإذا كان (أ) يتوقع من (ب) التمسك بالاتفاقية، فإن (أ) يستطيع نفسه ضمان نتيجة أفضل باختيار الصف 2 بدلاً من الصف 1 كما تم الاتفاق عليه. كذلك، يستطيع (ب) اختيار العامود 2 وتحسين مركزه، إذا كان يتوقع أن يختار (أ) الصف 1. لذا فإن أية أحكام أو أنظمة تضمن مردوداً أعلى، إذا تم احترامها من قبل جميع الأشخاص، هي عرضة للمخالفة بدوافع عقلانية شخصية، من قبل بعض أو جميع الفرقاء للتفاعل الذي جرى فيما بينهم. الموضوع ليس أن المخالف هو منحرف أو غير عقلاني في تصرفاته. وفي الحقيقة، فإن مثل هذه الافتراض يجب أن يُعكَس. ففي غياب إجراءات تنفيذية فعالة، فإن التمسك بالأحكام، وليس بالابتعاد عنها، يتطلب من الأشخاص التخلي عن المنافع القصوى المتوقعة، على الأقل لأن مثل هذا السلوك المقترح هو عادة مُصاغٌ في النظريات الاقتصادية الحديثة.
إن مشكلة التفاعل بين السجناء هو مَثَلٌ غايةً في التبسيط، ولكننا نعتقد بأنه يحوي في كينونته معظم العناصر المطلوبة لفهم القضايا المركزية للنظام الاجتماعي، ألا وهي كيفية التوفيق بين سلوك أشخاص وراء تصرفاتهم دوافع مختلفة، من أجل خلق أنماط من النتائج تكون مقبولة لدى جميع المشاركين. زميلنا غوردن توللوك، كان صائباً عندما سمّى كتابه حول الموضوع: المشكلة الاجتماعية، وبالتالي التأكيد على مدى وجودها. وعندما تُعمَّمْ، سوف تتخذ المعضلة ملامح هيكلية عالية التعقيد. وعندما نوسع التحليل ليشمل أشخاصاً عديدين، والذين قد يتصرفون بشكل منفرد، في جماعات أو كوحدة مشتركة، من خلال الدوائر الحكومية، وإزاء خيارات عديدة تشمل عدة مستويات من تقرير الاختيارات، فليست هنالك أية قيود على عدد الأطر المتفاعلة المثيرة للاهتمام والتي يمكن إخضاعها للدراسة.
إن هدفنا في هذا البحث، مع ذلك، ليس إعطاء أمثولة حتى لجزء صغير من تلك التفاعلات. فمن الآن فصاعدا، فإن نقطة انطلاقنا ستكون فهم المعضلة العامة التي تدعو إلى ضرورة وجود أنظمة أو مجموعة من الأنظمة، التي تحدد القيود المناسبة على سلوك الأفراد والمجموعات والسلوكيات العامة. وفي الأقسام المتبقية من هذا البحث، سوف نعزل معالم الأنظمة في عدد من التفاعلات المعتادة، كوسيلة لتقديم بحث الأنظمة في الإطار الاجتماعي-السياسي.
3. أحكام الألعاب
عندما تذكر كلمة “أحكام”، فإنها أكثر ما تكون ارتباطاً بالألعاب. وسوف يكون مفيداً بحث الأحكام في الألعاب المعتادة—ألعاب صالونات البريدج المرفهة، أو الرياضة مثل التنس أو كرة السلة. جميع الألعاب لها قوانين تبين الحدود التي تجري الألعاب في أطرها—الأفعال المسموح بها للاعبين، الأدوات المستخدمة، وسائل فض الخلافات، الطريقة التي يتم بواسطتها تقرير من هو الفائز، وهكذا وهكذا.
ولدى بحث الألعاب العادية، فإننا لا نجد أقل صعوبة في التمييز بين أحكام اللعبة من حيث هي، وألعاب اللعبة في إطار تلك الأحكام. اللعب يتم من خلال تلك الأنظمة، بيد أن اللعب نفسه لا يشكل جزءً من تلك الأحكام. الأحكام تقدم الإطار للعب تلك المباراة، وأنماط عديدة من اللعب يمكن أن يتم ضمن أحكام محددة. وخلافاً لذلك، فإن نمطاً معيناً من أداء اللعبة هو ذو نهاية أو مغلق. وفي الحقيقة فإن من الأمور المشوشة أننا في الاستعمالات الدارجة، نستعمل كلمة “لعبة” في الإشارة إلى تركيبة الأحكام، وأيضاً إلى اللعب ضمن الأحكام المقررة لها.
وفي إطار اجتماعي–سياسي، فإن التمييز نفسه ينطبق بين أحكام التفاعل الاجتماعي وبين أنماط السلوك التي تتم ضمن تلك الأحكام. التمييز هنا هو غالباً ما يكون أكثر صعوبة منه في الألعاب العادية، وبحث الأخير مفيد بسبب ذلك على وجه التحديد. إن صحة التمييز بين الأنظمة والسلوك ضمن الأحكام بشكل عام مع ذلك، ينطبق على جميع أطر التفاعل. إطار اللعبة العادية، كذلك، يساعد البحث في موضوع قريب ولكن منفصل بين اختيار استراتيجية اللعب ضمن مجموعة من الأنظمة المحددة، واختيار الأنظمة نفسها. فاختيار مجموعة من لاعبي البوكر بين نوعين مختلفين منها، يختلف تماماً عن اختيار لاعب فرد ضمن أحكام النوع الواحد؛ بين الطي أو البقاء في طلب كرت إضافي.
إن التمييز الموازي في الإطار الاجتماعي–السياسي يجب التأكيد عليه. من الضروري فصل العملية التي يتم من خلالها تقرير الأحكام، عن العملية التي من خلالها تستنبط أحكام لأفعال محددة ضمن تلك الأنظمة. أيضاً، التمييز أكثر صعوبة بعض الشيء في الإطار الاجتماعي، بسبب التداخل المعقد بين الأنظمة التي تحدد القيود على السلوكيات الفردية، والأنظمة التي تحدد القيود على الاعبين السياسيين، الذين قد يشتركون في نشاطات تشتمل على تغييرات في المجموعة الأولى من الأنظمة. وبعبارة أخرى، الأغلبيات التشريعية قد تكون في سلوكها ضمن حدود القانون (الدستور السياسي) الذي يُقيّدُ سلوكهم أنفسهم بالنسبة لتغيير الأنظمة التي تقيّد سلوك الأشخاص بصفتهم الشخصية. لذلك، يجب أن يكون الإنسان حذراً في إيجاد تمييز بين اختيار أنظمة، وبين اختيار استراتيجيات ضمن الأنظمة، تكون قابلة للتطبيق في الحالة التي تواجه وحدة محددة بدقة لاتخاذ القرارات. على سبيل المثال، إذا كان نظام من أنظمة البناء يسمح بحرق الأعشاب في الأراضي التي نملكها، فإننا نتصرف ضمن حدود القانون عندما نقرر حرق كومة من القش في يوم محدد. صدور تشريع يمنع حرق الأعشاب هو بمثابة تغيير في القوانين التي نحن ملاك الأراضي نتبعها. بيد أن المشرعين في إصدارهم لهذا التشريع يتصرفون ضمن أنظمتهم الخاصة بهم، والتي تتألف من تصويت الأغلبية البسيطة. إذن، الميزة الأساسية لبدء بحثنا بالحديث عن لعب عادية معروفة، هي أن مستويي الخيار واضحان تلقائياً.
استخدام الأنظمة في المباريات العادية قد يكون مضللاً من بعض النواحي. فالألعاب العادية مصممة لكي تجعل اللعب ضمن قوانين اللعبة مثيراً. أي أن اللعب بحد ذاته هو هدف يشارك فيه جميع المشاركين المحتملين. المعضلة الأساسية التي قدمنا لها سابقاً، والتي تكون فيها الأحكام مرغوبة لأنها تؤدي إلى تفادي نتائج غير مرغوب فيها، تكون غير واضحة في التعامل مع الألعاب العادية.
وحيث ننقل الاهتمام إلى الأطر التي تتم فيها التفاعلات الاجتماعية–السياسية، لا حاجة إلى أي شيء يوازي التمتع باللعب، من حيث هو لعب، والمغانم التي تُعطى للاعبين الأفراد، لا حاجة لأن تصمم كمقابل من أجل جعل اللعب مثيراً. ليس هنالك من حاجة إلى هدف مشترك في أنظمة الاجتماع والسياسة. هنالك اعتراف بأن الأفراد يملكون أهدافهم الشخصية المقررة، خطط حياتهم، وهذه لا تحتاج إلى كونها مشتركة لجميع الناس. في هذا الإطار، الأحكام لها مُهمة تسهيل التفاعلات بين الأشخاص، والذين يرغبون في أشياء مختلفة تماماً. ولبحث هذا الجانب، فإن أفضل شيء هو الانتقال إلى إطار بديل.
4. أحكام الطرق
أحكام الطرق، وهي استخدام معروف آخر للتعابير في هذا المجال، ليست مصممة و/أو أنها لم تتطور على أساس أية مواصفات لأهداف الأشخاص الذين يستخدمون الطريق. لمستخدمي الطرق أهداف تتراوح وتختلف اختلافاً كبيراً—النشاط التجاري، التمتع أو الجمع بين هذا وذاك—وهي التي تفرض شق الطرق المختلفة، والسرعة ونوع المركبة. أحكام الطرق تخدم هدف السماح للأشخاص بانتهاج مجالاتهم المختلفة والمستقلة، والتي قد تتنازع في غياب الأحكام. هذه الأحكام لا تعني بأن أهداف مستخدمي الطرق يجب أن تُلخص في هدف واحد مواز لهدف التغلب في الألعاب العادية.
أحكام الطرق تجلب مَعْلَماً آخر لاهتمامنا. نجاعة مجموعة الأحكام لا تتوقف على مقارنة بين مستوى مهارات أولئك الذين يستخدمون الطرق. مجموعة الأحكام قد تُفَضّلُ لأنها تتحمل تعايش السائق الجيد والسيء على الطريق، وهي ظاهرة لا تنطبق على الألعاب العادية. لأحكام الطرق فعل اجتماعي، ألا وهو تسهيل تحقيق أهداف جميع الأشخاص الذين يستخدمون هذه البنية—وبغض النظر عن ماهية تلك الأهداف. ويُحكم على هذه القوانين بموجب قدرتها على تحقيق هذا المعيار.
وبنفس هذه الطريقة، فإن الأحكام التي تُقيِّد التفاعل الاجتماعي–السياسي—العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الأشخاص يجب أن تُقيَّم في نهاية الأمر في ضوء قدرتها على تحقيق الأهداف المختلفة لجميع الأشخاص في المجتمع. هل تسمح تلك الأحكام والأنظمة للأفراد بمتابعة أهدافهم الخاصة، وفي إطار يتوقف فيه تحقيق تلك الأهداف على التفاعل، وبطريقة يحقق فيها كل فرد الحد الأقصى من نيل أهدافه مشروطاً بإتاحة حرية مساوية للآخرين لتحقيق أهدافهم بدورهم؟ التركيز على المثل المتعلق بأحكام الطرق يتيح لنا التعرف على مَعْلَمٍ آخر، كثيراً ما يفوتنا. الأحكام توفر لكل مشترك التنبؤ مسبقاً حول سلوك الآخرين. هذه المعرفة المسبقة تأخذ شكل المعلومات أو الحدود المعرفية حول سلوكيات أولئك المشتركين في التفاعل.
على سبيل المثال، لنفترض أنه في بلد صغير نامٍ، السيارات ظاهرة جديدة وقليلة العدد. وقد تواجد في هذا البلد نفوذان: نفوذ فرنسي وآخر بريطاني، بحيث أن أوائل مستخدمي الطرق كانوا يستخدمون الجانب الأيمن أو الأيسر في سواقتهم. وبتزايد عدد السيارات، فإن غياب أنظمة مقررة يخلّف المشاكل. التأقلم المنفرد من قبل كل سائق عندما تتلاقى سيارتان، ودون أن يعرف أي منهما كيف سيتصرف الآخر، ينتج عنه نمط من النتائج مشابهة للعيش في الأدغال التي وصفها هوبز. جميع الأطراف سوف يكونون في وضع أفضل إذا أقروا أحكاماً، أية أحكام.
المصفوفة (1-2) تدلل على هذه القضية. اللعبة هنا هي في جوهرها لعبة تنسيق من حيث أن النظام القائم يخدم أهدافاً إعلامية. كل واحد من الفريقين يعطي القدرة على التنبؤ حول نوايا الطرف الآخر، وكيف سيكون سلوكه. ولا يهم، افتراضاً، ما إذا كان النظام الذي يتم إقراره ينطوي على استخدام اليد اليمنى أو اليد اليسرى في قيادة السيارة، ما دام أن النظام يؤدي إلى سلوك متوازٍ. في مثل هذه الحالة، قد يكون هنالك دور للحكومة في الإعلان عن النظام. التاريخ، مع ذلك، قد يفعل هذا أو ما هو أحسن منه، إذ أن المواثيق والعادات الاجتماعية كثيراً ما تقرر أنظمة السلوك المناسبة.
التفاعل المبين في المصفوفة (1-2)، يختلف عن القضية الأوسع والمبينة في مصفوفة اللعبة (1-1)، من حيث الأهمية النسبية لمحتوى التنبؤ في النظام، وما يتبع ذلك من تطبيق. المصفوفة (1-2) تصف لعبة هي في جوهرها مسألة تنسيق؛ المكاسب الرئيسية تتأتى عن إقرار نظام، أي نظام، وليس هنالك إلا أقل القليل من الفائدة التي تُجنى من التخلي عن النظام. كما هو مبين في المصفوفة، مع ذلك، هنالك بعض الكسب من التخلي، ومن هنا تنشأ أهمية التنفيذ. إذا كان (أ) يعرف، على سبيل المثال، بأن (ب) سوف يتَّبِعُ دائماً نظاماً متفقاً عليه، عندها فإن (أ) سوف يجد فائدة بين الحين والآخر من الخروج المنفرد عن النظام المقرر. بيد أن الإغراء لخرق القانون، عندما يُقرّ، ليس دائم الوجود مثلما هو الوضع عليه في إطار لعبة معضلة السجناء.

لعبة تنسيق مجردة (ليست مبينة في شكل مصفوفة هنا) تكون فيها الفائدة المتأتية عن الخروج الفردي عن الأنظمة المقررة، غائبة تماماً، واحدة لا يكون فيها أية مشكلة بالنسبة لتطبيق النظام، وبعض مثل هذه التفاعلات موجودة بكل تأكيد. إذ يمكن التفكير بعامل اللغة في مثل هذه الحالات. فجميع الأفراد في المجتمع لهم مصلحة في استخدام كلمات يفهمها الآخرون. إذ هنالك قوة طبيعية تعمل على خلق لغة وقواعد لغوية مشتركة. والوصف ذاته ينطبق على لغة السلوك والإتيكيت، حيث يكون الهدف الظاهر من السلوك هو نقل معنى من نوع معين للآخرين.
معالم مهمة أخرى غامضة في كل من قضية تفاعل السجناء، أو تفاعل المعلومات–التنسيق، في المصفوفتين (1-1) و(1-2). كلاهما موجه تجاه الخيار النهائي بين القانون وانعدام القانون. الخيار الثاني قد يشتمل على خيار بين قانونين أو نظامين، بعد أن تكون أبعاد اللعبة قد تمت، أي في اللحظة التي توافق فيها جميع الأطراف على الحاجة إلى وجود نظام.
تمعَّن إذن في حالة تكون فيها المسألة هي خلاف بين قوانين مختلفة، حتى وإن احتفظنا بالفرضية بأن هنالك تناسق وتماثل في الفائدة التي تُعطى للاعبين. “اللعبة” الموصوفة هنا هي في حقيقتها “جزء من اللعبة” المبينة في المصفوفة (1-2).

أنظر في المصفوفة (1-3) التي تجري “ضمن” الخلية 1 من المصفوفة (1-2). خيارات الفريقين كليهما في هذه الحالة ليست في إقرار نظام وأقلمة سلوك بدون نظام. الخيارات هنا هي التي تواجَه في مجموعة الأنظمة البديلة وكما هو مبين في المصفوفة (1-3)؛ فالنظام الذي يصنف على (قُد السيارة على اليمين) يسيطر على النظام الذي (نظام قُد السيارة يساراً). من المهم هنا أن يكون هنالك نظام (كما هو مبين في المصفوفة 1-2)، ولكن مسألة “أي نظام”، هي أيضاً مهمة. وبسبب التناسق في الكسب بين اللاعبين، فإن كليهما—إذا أعطيا الحق الدستوري في الاختيار—سوف يختاران نفس النظام.
هنالك نقطتان تستحقان البحث حول التفاعل الموصوف هنا. أولاً المواثيق الاجتماعية التي تأتي إلى الوجود تاريخياً، وتتخذ وضع “القانون غير المدوَّن”، لا تفرز بالضرورة أفضل الأنماط التي يمكن تصور نتائجها. بعض المحللين الاجتماعيين المحدثين (بشكل خاص هايك وأتباع مدرسته)، يبدون إيماناً واضحاً في تطور القوى الاجتماعية والثقافية بحيث تتمخض عنها أنظمة كفؤة. لا يبدو أن هنالك أي سبب للتنبؤ بأن تلك القوى سوف تضمن دائماً اختيار أفضل القوانين. في مثلنا مثلاً، فإن نظام “قيادة اليسار” قد تصبح الغالبة والأكثر استخداماً—وبالأخص إذا كانت التغييرات من نطاق خارجي من شأنها تغيير المزايا النسبية لأنظمة مختلفة مع الوقت. لن يكون عندها سوى القليل من الضغط، أو حتى لن يكون أي ضغط تطوري بالمرة لقيام أنظمة أكثر كفاءة. هذا الاحتمال ينبهنا إلى الحاجة، بين المرحلة والأخرى، لإعادة النظر في مجموعة الأنظمة البديلة، وأن ننظر إلى الأنظمة نفسها كأهداف للخيار تكون قابلة للتغيير وإعادة الصياغة، وفق أطر الحالات الاجتماعية التي يخلقونها. هذا الاحتمال يثير اهتمامنا لإمكانية لعب دور من قبل الحكومة بمجموعها الكُلّي، ألا وهو تسهيل الانتقال من قوانين قديمة إلى قوانين جديدة. و”الحكومة” في هذا الإطار يمكن الإشارة إليها بصيغ مختلفة—كمجلس وطني معين بالتوافق، أو جماعة كاملة من الفاعلين من ذوي العلاقة، أو، في آخر الطرف الآخر شكل من اشكال الدكتاتور–الملك، وما دام أن المكاسب في هذا المثل متوازية، فليس هنالك أية ميزة معينة لمن يختار القوانين، ولكن ربما يكون مهماً أن يكون هنالك شخص أو جماعة، أو عملية معينة يوكل إليها اختيار الأنظمة المناسبة.
ثانياً، الانتقال من “القيادة من جهة اليسار” إلى “القيادة من جهة اليمين” قد لا يكون أمراً مرغوباً فيه، على الرغم من هيمنة الأخيرة في المصفوفة. فإذا كان ينظر إلى الأنظمة بصفة كونها تقدم المعلومات التي تُمكِّن اللاعبين من التكهن بتصرفات بعضهم بعضاً، فإن ما يتبع ذلك هو أن أي تغيير في الأنظمة يدمر المعلومات. فإذا كان النظام الذي يقول (“القيادة من جهة اليمين” أو “القيادة من جهة اليسار”) يقرَّر مجدداً كل صباح بشكل عشوائي، فإن ذلك يعني عدم وجود أية أنظمة على الإطلاق. وحتى تكون فاعلة، تحتاج الأنظمة إلى الاستقرار. فإذا كانت الأنظمة خاضعة للتغييرات المستمرة، فإن المعلومات التي تعطيها تصبح لا قيمة لها. كل لاعب لا يعد يعتبر بأن الآخرين سوف يتقيدون بالقوانين المرعية، حتى لو كان هو مُلهمٌ بها، لأنه لا يمكن أن يعرف بأن الآخرين سيعرفون بأنه يعرفها. وعندما يكون اللاعبون يلعبون بأنظمة عفا عليها الزمن، فإن أياً منهم لن يكون له الحافز للعب بالأنظمة الجديدة.
هذه المقولة تُشير إلى أن هنالك ميلاً طبيعياً نحو المحافظة في المجال الدستوري. مجرد إظهار أن الحالة (أ) ستكون افضل من الوضع القائم، بمجرد أن تتحقق حالة (أ)، ليس كافياً للدليل على أن الانتقال من الوضع القائم له ما يبرره. فرياضياً، القمة الـ”محلية” قد تكون عالمية بمجرد تحقيق القمة المحلية.
إن الاعتراف بهذه الحقيقة يكشف النقاب عن تمييز بين “التصميم الدستوري” و”الإصلاح الدستوري”. في التصميم الدستوري حيث لا تكون هنالك أنظمة فعالة قائمة مسبقاً، كل ما هو مطلوب هو الاختيار بين نظام يؤدي إلى مجموعة معينة من النتائج، والنظام الذي يؤدي إلى مجموعة بديلة. النظام الذي يؤدي إلى مجموعة النتائج المفضلة هو النظام المفضل. ولكن عندما يتعلق الأمر بتغيير نظام قائم، كما هي الحالة في الإصلاح الدستوري، فإن النظام الذي يحقق أفضل مجموعة من النتائج، ليس بالضرورة الأفضل.
النقاش هنا يعطي بعض القوة لدعاة التطور التدريجي الاجتماعي الذين يكرهون حماس دعاة خلق الدساتير. فإلى المدى الذي توجد فيه أنظمة مستقرة ومقبولة، فإن من الأفضل للمجتمعات عدم محاولة التغيير. الاعتراف بهذا القول لا يقودنا مع ذلك إلى وجهة النظر القائلة بأن الإصلاح المتعمد للأنظمة القائمة لن يكون مرغوباً فيه في جميع الأحوال.
المقولة هذه إنما تنبهنا فقط إلى الحاجة للأنظمة المتعلقة بالإجراءات التي يمكن بواسطتها تغيير الأنظمة القائمة، وبالأخص للتأكد بأن تغيير الأنظمة لا يجب أن يتم مرات عديدة متتالية، ودون الأخذ بالاعتبار ثمن المراحل الانتقالية. الألعاب التنسيقية الأساسية في المصفوفة (1-2) و(1-3)، مبسّطةٌ في بعد مهم آخر. وبغض النظر عن النزاع المتجدد دوماً بين الفرد ومصلحة “المجتمع”، والذي يستدعي موضوع إلزامية التنفيذ، هو الاختلاف بين الأفراد أنفسهم حول اختبار النظم التي يرغبون فيها. هذا الصراع الممكن قد طُمس عمداً في الألعاب التنسيقية التي بحثت حتى الآن. فليس هنالك خلاف بين اللاعبين الاثنين في ترتيب الخانات في المصفوفة.

أنظر، مع ذلك، في مثل آخر يظل ضمن القواعد العامة لقوانين القيادة. لأسباب سبق شرحها، هنالك فائدة واضحة من وجود نظام ما؛ الإطار مطابق لذلك الذي وصفناه في خانة “القيادة من جهة اليمين”-“القيادة من جهة اليسار” ولكن لنفترض أن هنالك قانونين ممكنين لتنظيم السلوك في المنعطفات، وليس بالإمكان إلا اختيار واحد منهما. نظام يقول “إعطاء الأولوية لجهة اليمين”؛ الثاني يقول “إعطاء الأولوية لجهة اليسار”. المصفوفة (1-4) أعلاه تبين هذا المنحى. لاحظ بأن الترتيب المتسلسل للخانتين موضوع البحث، يختلف ما بين (أ) و(ب)، مع (أ) مفضلا كثيراً النظام الأول أي “إعطاء الأولوية لجهة اليمين”، و(ب) مفضلاً كثيراً النظام الثاني، أي افسح الطريق إلى اليسار. مثل هذه الخلافات في الترتيب قد تحصل، على سبيل المثال، إذا ظن (أ) بأنه في صباح معظم الأيام سوف يتجه إلى المنعطف من يمين توجه (ب).
اللاعبان الاثنان يفضلان أنظمة مختلفة، على الرغم من حقيقة أن كليهما يفضلان وجود نظام بدلاً من لا نظام. والخلاف حول أي نظام الذي يجب أن يطبق قد يُولّد تأخيراً ونزاعاً بين المشاركين، حيث أن كلاً منهما سوف يحاول تعظيم المزايا المتأتية عن تحديد المسارات التي يتضمنها الاختيار بين أنظمة بديلة.
إن المزايا المتفاوتة التي تنشأ عن أنظمة مختلفة، من قبل أشخاص متعددين، لا يجب أن يبالغ في أهميتها. فإلى المدى الذي تكون فيه الأنظمة قديمة العهد، وأن الأفراد يتوقعون أن يحتلوا في نطاقها مراكز مختلفة، في مراحل متلاحقة من اللاعبة، فإن من المتوقع أن يتوجه اللاعبون إلى الاتفاق على النظام الذي يجب تطبيقه، بسرعة تفوق كثيراً ما يتضمنه التحليل النظري البسيط. ففي المثل الذي قدمناه، إذا تنبأ اللاعبان بأن كلاً منهما سوف يتجه نحو المنعطف في بعض الأحيان من اليمين، وفي بعض الأحيان الأخرى من اليسار، فإن المصفوفة ستوضع بموجب (1-2) بدلاً من المصفوفة (1-4).
5. أنظمة السوق
كان هدفنا في القسمين 2 و3 التعريف بعناصر عدة من القوانين، من خلال أمثلة شائعة مستقاة من الألعاب العادية من ناحية، وأنظمة الطرق من الناحية الأخرى. ولكن، وكما لاحظنا، فإن اهتمامنا الرئيسي هو حول الأنظمة التي تحكم النظام الاقتصادي–السياسي. في هذا الجزء، سوف نُقدم نظام السوق، أو النظام الاقتصادي، وفي القسم 6 سوف نبحث في قوانين النظام السياسي.
في المثالين الاثنين السابقين، الحاجة إلى نظام كانت واضحة بشكل مباشر؛ لا يستطيع المرء أن يتصور ألعاباً عادية أو أنظمة مرور بدون وجود أنظمة. وفيما يتعلق بالتفاعل الاقتصادي بين الأفراد، وهو الأكثر أهمية، فإن الأنظمة التي تحكم سلوك الأفراد كثيراً ما يتم تجاهلها. علماء الاقتصاد أنفسهم كانوا مهملين بشكل فاضح في هذا المجال. إن تمرينات تحليلية معقدة حول أعمال السوق تتم في كثير من المناسبات بدون أدنى إشارة إلى الأنظمة التي يتعامل الأفراد في الأسواق ضمن إطارها. لم يكن آدم سميث واحداً من أولئك المتجاهلين؛ فقد أكّد على أهمية “القوانين والمؤسسات”، في النظام الاقتصادي.
إن التباعد والتخلي عن تأكيد سميث والعلماء الكلاسيكيين على النظام يظهر أكثر ما يظهر في تحليلات “فشل الأسواق” في اقتصاديات الرفاه، والتي تطورت في العقود الوسيطة من القرن الماضي، حيث ادّعت بأن الأسواق سوف تفشل عندما تقارن وتقاس بالأنماط المنمقة المستقاة من تمارين علماء الاقتصاد في المعادلات الرياضية. فقد تمت التحليلات وكأن القيود المؤسسية لا علاقة لها إطلاقاً بالطريقة التي يتفاعل فيها الأفراد ضمن هياكل السوق.
إن أهمية وجود الأنظمة ربما تتجسد بشكل واضح بالرجوع إلى المثل الدارج فيما يتعلق بالاستغلال المشترك للموارد، والذي يشار إليه أحياناً بـ”المأساة المشتركة”. إذا كان الافتراض هو تعظيم الفائدة القصوى للمستفيدين لشرح سلوك الأفراد، فإن المشترك سوف يكون مكتظاً ومستغلاً أكثر مما يجب. ويُدعى بأن السوق قد فشل في تكوين استغلال كفءٍ لاستغلال هذا المورد الشحيح. ومع ذلك، وكما أصبح واضحاً حتى الآن، فإن المشكلة لا تكمن في عمليات السوق، ولكن، في الأنظمة التي يعمل المستفيدون من خلالها. أي تغيير في الأنظمة، بحيث يتم استغلال هذا المورد الشحيح من قبل الأفراد ذوي الملكية الفردية، جنباً إلى جنب مع وجود قوانين لتنفيذ وحماية حقوق الملكية الفردية، سوف يزيل ذلك الفشل في استغلال المورد المتاح. المثل يدل على أن تحيُز علماء الاقتصاد المتمثل في النظر إلى النتائج بدلاً من الأنظمة التي أوصلت إلى تلك النتائج، كان سبباً في خلق حالة من الارتباك العميق. فإصلاح النتائج يتأتى من خلال إصلاح الأنظمة، وليس من خلال التلاعب بالنتائج مباشرة.
إن الاندفاع المعتاد لعلماء اقتصاد الرفاه كان يأخذ شكل تأييد الحكومة أو التدخل الجمعي في الأسواق. وهنالك إهمال مقارن واسع لأهمية النظم والقوانين في توجهات علماء الاقتصاد الذين يؤيدون مؤسسات السوق وتوجهاته. لقد اتجه أولئك العلماء إلى إهمال أهمية الأنظمة، تحت تأثير افتراض سطحي مفاده أن السوق سوف يصلح نفسه “بغض النظر عن القيود المؤسسية”.
الافتراض هو أن حلول الأسواق من القوة بحيث أنها قادرة على اجتياح أية قيود مؤسسية قد تكون قائمة. يبدو أنه كان هنالك بعض الخلط بين السلوك الاقتصادي الناشط ضمن قيود محددة، وإمكانية نشاط اقتصادي بدوافع شخصية تعمل على تعديل الأنظمة نفسها. ويبدو ممكناً تماماً أن تكون نتائج الأسواق ناجحة ضمن مؤسسات محددة، ولكن قد تكون تلك المؤسسات في الوقت ذاته غير واعية لأهمية التغيير بدون توجيه مباشر ومحدد يحث تلك المؤسسات على التغيير والإصلاح.
ونعود إلى مثل الملكية المشتركة، حيث يمكن أن توجد أسواق صيد السمك تعمل جيداً، وحيث يكون هناك توازن بين العرض والطلب لإحراز نتائج مجزية تماماً في التخصيص والتوزيع (مع اعتبار الحدود المؤسسية والموارد)، ولكن في الوقت ذاته، فإن غياب حقوق الملكية في مناطق صيد الأسماك، يفشل في تحديد مجموعة الأنظمة التي تكون في جميع الأحوال مثالية.
وجه آخر من أنظمة السوق تستحق الاهتمام. ففي تحليلاتنا السابقة لأنظمة الطرق، وجدنا بأن الفعل الأساسي للأنظمة يتمثل في منع الأفراد من التغول على تصرفات الآخرين: الأنظمة هنا لها دور سلبي ألا وهو منع وقوع أضرار مسيئة. هذه هي أصلاً المهمة الرئيسية التي أوكلها هوبز إلى أنظمة المجتمع المدني لكبح جماح الفوضى. ولكن ضمن منظور سميث لنظام السوق، هنالك وجه إيجابي مهم للتفاعل الإنساني. فضمن وجهة نظر سميث للعالم، فإن توزيع الأعمال يولد مكاسب متبادلة نتيجة التعاون بين التجار، مكاسب يحصل عليها كل تاجر، ولكنها تتجاوز قدرة أي شخص واحد على فهمها فهماً تاماً. ففي كل مرحلة من المراحل المتتابعة في نظام تقسيم العمل، كل مشترك يستجيب لبيئته باستخدام قواه الخلاقة مباشرة في خدمة مصالحه، وبشكل غير مباشر، لخدمة مصالح الآخرين. إن تتابع مثل هذه الأفعال الخلاّقة يخلق نظاماً يعكس المزايا الضخمة المتأتية عن التعاون الإنساني، مثلما يقدم مجالاً لمزيد من الإنجازات الخلاقة. في كل نقطة من النقاط، يستطيع المرء تصور نظام السوق السائد، وأن يدرك طبيعة وحجم المكاسب من التعاون الإنساني في ظل تقسيم العمل. ولكنه لا يستطيع سلفاً معرفة طبيعة وحجم تلك المكاسب. أن يستطيع فعل ذلك يتطلب من المحلل أن يتحلى بجميع الخيال البنّاء، والمنتشر حالياً على اتساع جميع العوامل الاقتصادية.
أمران يتبعان وجهة النظر هذه. أولاً، هنالك شيء هو ليس بالضرورة بدون غاية بالنسبة لاختيار قواعد السوق. إذ كيف يمكنك اختيار القوانين في ضوء النتائج المحددة التي تؤدي إليها تلك الأنظمة، إذا كانت الطبيعة الدقيقة لتلك النتائج لا تكتشف إلا بعد أن تظهر؟ ثانياً، عندما تكون مؤسسات السوق محددة بشكل غير كاف، أو أن مجموعة أخرى من الأنظمة البديلة تطبق والتي لا تملك العناصر الإيجابية للسوق، فإن الأبعاد الحقيقية “للفشل” الطبيعي لا يمكن معرفتها جميعها. نستطيع الافتراض بأن العربة التي تعبئ التعاون البشري لم تكن تعمل بكامل قوتها—ولكن، ما كان يمكن أن يكون خلاف ذلك يظل في حيز التنبؤ والافتراض.
6. النظام السياسي

كثير من المحللين الاجتماعيين قد يتفقون بأن عمليات السوق تتم ضمن قواعد واضحة المعالم، وأن مثل هذه القواعد هي مواضيع مهمة للبحث. ولكنهم سيكونون أقل رغبة في تطبيق نفس الآراء إلى العمليات السياسية، بيد أن “خيارات” سياسية تظهر أيضاً نتيجة تفاعل العوامل الفردية ضمن مجموعة من الأنظمة المؤسسية، حيث يكون كل فاعل مقيداً بأفعال الآخرين. اللاعبون السياسيون يعملون في ظل قواعد واضحة المعالم تقريباً، وهم يتخذون خيارات بين أهداف متاحة أمامهم من أجل تعظيم مكاسبهم (والتي هنا، كما في أطر أخرى، تشمل أهدافاً أخلاقية بالإضافة إلى الأهداف الاقتصادية). المحك الأساسي هو ما إذا كانت مجموعة الأنظمة التي تحدد العلاقات بين أفراد مستقلين هي تلك المجموعة التي تقود الأفراد لتحقيق أفضل المصالح للآخرين، أو على الأقل، أن تمتنع عن إلحاق الأذى بهم.
هنالك طرق عدة للنظر إلى العمليات السياسية بنفس المعايير التي ننظر بها إلى الأسواق. الأولى والأكثر أهمية هنا هي النظر إلى العملية السياسية كنظام للتفاعل بين الأفراد والذي تنتج عنه النتائج الموازية. وجهة النظر هذه متوافقة مع عدد من الدوافع التي يمكن أن نعزوها إلى الأفراد، وأي عدد آخر من المقاييس والتي بواسطتها يمكننا تقييم القواعد المطبقة. أما الدوافع والمقاييس، فيمكن اختيارها من جعبة أدوات عالم الاقتصاد.
ما هو مهم هنا، مع ذلك، ليس الدافع وراء اللاعب، ولا المعايير التقديرية، إنما الاستعداد لفحص العملية السياسية بالمعايير العامة ذاتها التي نقيس بها الأسواق. الأفراد بتفاعلاتهم الموضوعية، وفق مجموعة من النظم (المؤسسات السياسية) لتحقيق تلك الأهداف، والتفاعل في النهاية، يؤدي إلى إقامة نتيجة محدددة ينتج عنها التوازن. فإذا كانت قدرات وأهداف الأفراد معروفة، فإن الطريقة الوحيدة لتغيير نمط النتائج يكمن في تغير الأنظمة. وتغيير الأنظمة بالمقابل سوف يُغيّر النتائج التي تنبثق عن أي مجتمع من الأفراد.
يجب أن ننبه القارئ هنا إلى الدقة الضرورية في التمييز بين الأنظمة والنتائج في الإطار السياسي. في أحد المستويات، فإن أنظمة اللعبة السياسية واضحة بشكل كافٍ: حكم الأغلبية؛ الانتخابات الدورية؛ القيود المختلفة على مقدرة الحكومة على الأخذ؛ وجود تقديم حساب متكامل حول نفقات الأموال العامة؛ التكوين الجغرافي للترتيبات الانتخابية، بما في ذلك إمكانية تقسيم الصلاحيات السياسية نفسها وفق الأنظمة اللامركزية، إلخ. ومع ذلك، فإن كثيراً من تلك المعالم نفسها تتكون من العملية السياسية. على سبيل المثال، التفاهمات فيما يتعلق بالمجال المناسب للنشاط العام، والتي لها قيمة دستورية مهمة، تتم إلى حد كبير بقرارات سياسية متواصلة. ومن هذا المنطلق، فإن التمييز بين الأنظمة والنتائج يميل إلى الغموض في الإطار السياسي.
يضاف إلى ذلك أنه ما دامت الأنظمة والقرارات ضمن النظم نفسها تنبثق عن عمليات سياسية متشابهة، فإن أهمية التمييز بينهما تبدو مبالغاً فيها. إنها في الحالات التي لا يكون التمييز فيها واضحاً أن تتعرض الأنظمة الأساسية في اللعبة إلى الخطر—ولهذا السبب علينا المحافظة على التمييز بين الأنظمة والنتائج ضمن الإطار السياسي.
7. أهمية الأنظمة
الحجة الأولى لدراسة الأنظمة تعتمد على الاعتراف بالدور الذي تقوم به الأنظمة في فرز نتائج متوازية أو نمط من النتائج لمجتمع من المشاركين الاجتماعيين يتمتعون بقدرات وأهداف. لقد جهدنا في توضيح أن التفاعل الذي يجري بين الأفراد أنفسهم ضمن أي مجتمع من المجتمعات قد يُولِّدُ العديد من النتائج الاجتماعية، رهناً بالأحكام التي تكون مرعية ومطبقة. ولكن فقط تلك النتائج الاجتماعية التي تكون مقبولة وذات جدوى هي تلك التي ينتج عنها توازن ضمن ترتيبات مؤسسية، ولهذا السبب، فإن من التضليل بحث جميع النتائج الاجتماعية التي يمكن تصورها واختيار أحدها كمثال لما هو أنسب في تقييم مستقل للمعايير. فالترتيبات المؤسسية تقيّد مجموعة النتائج ذات الجدوى بشكل لا يقل أهمية عن القيود الفيزيائية الأساسية التي تحدد آفاق المنتجات المرغوبة.
لئلا نُتهم بأننا نبني إنساناً من قش هنا فلننظر في الأبحاث المعتادة حول توزيع العدالة أو “الإنصاف” في دوائر السياسة العامة. الإجراء المعتاد هو دراسة جميع توزيعات الناتج العام التي تكون متفقة مع العطاء الأولي للقدرات الإنتاجية، مع الخسارة الضرورية في الإنتاج المتأتية عن إعادة التوزيع (على الرغم من أنه في بعض الحالات، يتم تجاهل الأمر الأخير).
بيد أن السؤال الدستوري الطبيعي هو: كيف لنا أن نتأكد بأن الاختيار “الأفضل” سوف يتم عبر العملية السياسية؟ سوف يكون من الأجدى، بكل تأكيد، أن نحدد مجموعات بديلة من الأنظمة السياسية، وأن نتفحص التوزيعات التي تتأتى عنها. فإذا لم يتبين بأن أياً منها تتناسب مع “الأفضل”، عندها يجب أن نصل إلى قناعة بأن “الأفضل” ليس ممكنا.
إن أي مروِّج للدستور يُصر على دراسة الأنظمة لأنه يسعى إلى ضم جميع القيود ذات الصلة ضمن تحليلاته. ولكن، أن تُترَك القيود المؤسسية جانباً ليس أقل خطأ، من الناحية التحليلية، من تجاهل القيود على القدرات الإنتاجية لعناصر الاقتصاد، أو إهمال القيود الناتجة عن شح أساسي في الموارد.
الحجة الثانية لدراسة الأنظمة هي مستقاة من الطبيعة ولها أبعاد مختلفة. فالاختيار بين الأنظمة، كونها مطبقة على امتداد سلسلة طويلة من الأفعال، وتكون فيها حظوظ كل لاعب غير مؤكدة، ينطوي على بعض الخصائص الخاصة التي تكون غائبة من إطار الاختيار ضمن الأنظمة التي يكون فيها موقف كل لاعب من اللاعبين محدداً بشكل دقيق. وبشكل محدد، هنالك نزوع طبيعي لتعارض المصالح بين اللاعبين، ولكن ذلك يميل إلى الاعتدال الكبير عند اختيار الأنظمة، وبالتالي توسيع آفاق الاتفاق فيما يتعلق بالأحكام والأنظمة بينهم.
هنالك، مع ذلك، بُعد آخر للحجة المعيارية والداعية إلى الاهتمام بالأنظمة بدلاً من النتائج. هذا يشمل الادعاء بأنه لا يستطيع المرء أن يُقيِّم النتائج إلا إذا توافرت المعلومات حول كيفية الوصول إليها. مثل هذا الادعاء يمكن تقديمه على أساس أن العملية هي في جذورها ذات علاقة معيارية، أو على أساس أن المعلومات في العملية بدورها تقدم معلومات حول النتائج، والتي بدونها يكون صعباً أو مستحيلاً القيام بأي تقييم.
أنظر في مثل بسيط. لنفترض بأن نتيجة اقتصادية معينة قد قُدمت يكون فيها (أ) مالكاً لخمس تفاحات وست حبات برتقال، بينما يملك (ب) عشر تفاحات وتسع حبات برتقال. إن تقييم هذه النتيجة يعتمد جزئياً على معرفتنا بمعلومات حول كيفية حدوث ذلك. لنفترض بأننا وجدنا بأن ما حدث هو نتيجة أخذ (أ) لست برتقالات كانت في الأصل في حوزة (ب). وإذا افترضنا بأن ملكية (ب) الأصلية تثبت شرعية امتلاكه لها، فإن النتيجة تصبح غير جذابة لأنها كانت نتيجة سرقة ارتكبها (أ)، لأن (أ) من خلال هذه النتيجة كان قد ارتكب مخالفة للأنظمة المرعية.
وبالطريقة ذاتها، فإن نتيجة أية مسابقة—سباق ركض مثلاً قد لا يكون لها أي مغزى معياري: أية نتيجة تكون مقبولة ما دام أن الأنظمة عادلة ويتم التقيد بها. ومن ناحية أخرى، مع أن النتائج تكون عادة ذات صلة، يمكن أن تكون العملية الموصلة إليها ذات أهمية أيضاً. رجل بريء يحكم عليه خطأ بجرم، قد يجد راحة في معرفة أن المحاكمة كانت عادلة تماماً، وإن كان طاقم المحلفين قد أخطأ في تقرير الحقائق. كذلك، فإن شخصاً مذنباً قد يجد ميّزة في مجريات محاكمة صحيحة تماماً، على الرغم من أن النتيجة هي أمر مفروغ منه. في الحالتين كلتيهما، العملية والنتيجة لها علاقة بالأهداف المعيارية.
الأنظمة يمكن أن تكون لها علاقة بمعنى آخر—ليس بسبب أن العمليات تتم بموجب أنظمة معينة، بل لأن التمسك بأنظمة معينة يقدم معلومات حول النتائج. هذه هي الحالة بشكل خاص عندما تكون عناصر النتيجة المتوخاة في كفاءة أدائها.
وبشكل محدد وإذا كان توزيع التفاح والبرتقال بين الشخص (أ) والشخص (ب) قد تم نتيجة تبادل حُرّ بين الفريقين، من نقطة البدء، وإذا افترضنا بأن التفاح والبرتقال يتمتعان بخصائص “السلع الفردية” المعتادة، فإننا نستطيع الافتراض بأن نتيجة التوزيع كانت كفؤة، أو على الأقل، أنها تراعي معيار باريتو في التجارة. ففي غياب معلومات حول كيفية التوصل إلى النتيجة النهائية، لا يوجد أي سبب يدعو إلى افتراض الكفاءة. وفي الحقيقة، وما لم يكن المحلل يملك القدرة على قراءة عقول الأشخاص المعنيين، وأن يستخلص مع ذلك الفائدة المرجوة لكل سلوك، فإنه لن تكون المعرفة ممكنة مطلقاً.
حقيقة أن النتائج تظهر من عملية تحكمها أنظمة محددة هي التي تقدم معلومات حول الوضع المعياري للنتيجة، والذي لن يكون ممكناً في غياب ذلك. وهنا توعز الأهمية المعيارية للنتيجة لا للعملية، بيد أن العملية تقدم دليلاً على طبيعة النتيجة.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 2 نيسان 2007.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

“إن التقدم الاقتصادي في القرن العشرين أكد تماما أن اقتصاد السوق هو الوحيد القادر على تأمين فعالية عالية في الاقتصاد الوطني”—ليونيد أبالكين.


مقدمة
إن المعنى الرئيسي لعبارة أبالكين التي استشهدت بها في الافتتاحية واضح. وكما بينت هذه النقطة في مكان آخر، فهناك الآن اتفاق عام على أن اقتصاد السوق يعمل بشكل أفضل من الخيار الاشتراكي أو خيار التخطيط المركزي. وذلك يجعلنا متفقين على ما يعني أن الاقتصاد “يعمل بشكل أفضل”. لأن مثل هذا الاقتصاد ينتج حزمات أكثر من السلع والخدمات حسب احتياجات الأشخاص الذين يستهلكونها. كما أن الاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يستطيع أن يحقق معدلات إنتاجية ذات قيمة مضافة أعلى من تلك الناتجة عن اقتصاد يستند إلى مبادىء أخرى.
يشير أبالكين إلى “الكفاءة” في توليد القيمة. ويعزي ارتفاع الكفاءة النسبية لاقتصاد السوق إلى ثلاثة أسباب: كونه يجعل حوافز الأطراف المشاركة متوافقة مع القيمة الاقتصادية المولدة؛ كما أنه يوفر كافة المعلومات المحلية المتاحة للأطراف المشاركة في بيئة محايدة ولامركزية؛ وأخيرا يتيح اقتصاد السوق البيئة المواتية لبروز المواهب الخلاقة والمبدعة للأطراف المشاركة التي اختارت أن تكون من الرياديين المحتملين.
لن أقوم بالتطرق الى المزيد من الكلام بشأن الخصائص المتعارف عليها لاقتصاد السوق. إن الاهتمام الزائد والمبالغ فيه بميزات اقتصاد السوق المولدة للكفاءة قد يكون على حساب الميزة الطبيعية المرتبطة به والتي تُعتبر مساوية لها، إن لم تتجاوزها بالأهمية. وهذ الميزة التي تهمنا هنا هي أن الاقتصاد الذي يستند إلى مبادىء حرية السوق يقلل بشكل ملحوظ من عدد القرارات الاقتصادية التي يجب أن تؤخذ لاعتبارات سياسية من قبل مؤسسة ما تمثل الوحدات الجماعية. وبتعبير عملي آخر، فبالإمكان القول إن الاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يقلص من حجم وأهمية البيروقراطية السياسية. ولو اختار أبالكين أن يؤكد على هذه الميزة أكثر من ميزة الكفاءة لقال: “إن المنطق يؤكد أن اقتصاد السوق هو الوحيد القادر على السماح بالتسييس الأدنى للإقتصاد الوطني.” وإذا أراد أيضا أن يوسع نطاق هذه العبارة، لأضاف قائلا: “وإنه من خلال هذا الحد الأدنى للتسييس—وتخفيض البيروقراطية—يمكن تحسين الوصول الى مختلف الأهداف الاجتماعية مهما كانت هذه الأهداف.”
في الجزء الثاني من هذه الورقة سوف أقوم بوصف العلاقة بين التسييس ونظام السوق بينما أقوم بإظهار الفارق بين التسعير السياسي وتسعير السوق. وفي الجزء الثالث سأقوم بمناقشة الآثار المترتبة على التسعير السياسي في اقتصاد ما من خلال العلاقات بين المواطنين وبين مجموعات من المواطنين. وسيتحدد من خلال هذا التحليل، الذي يستخدم المساهمات الحديثة لنظرية الخيار العام، المصادر المحتملة لهدر القيمة الاقتصادية، إضافة إلى تحديد الظروف التي يوضع فيها الأشخاص موضع التبعية وفي مجابهة مع الآخرين. إن التداعيات المعيارية الناجمة عن ذلك واضحة. وسيتناول الجزء الرابع الدور المحوري للعمل السياسي أو الجماعي في تصميم وبناء وتنفيذ ومتابعة الإطار الهيكلي الذي يُسمح فيه بتوظيف اقتصاد السوق. ومن بين الخيارات المطروحة، يفضل الخيار الجماعي. ولكن مثل هذا الخيار سيكون مقيدا بردود الأفعال من التدخلات المعنية بتوليد القيمة ومن التدخلات البيروقراطية. وفي الجزء الخامس، سأعود للتفريق بين السعر السياسي وسعر السوق لبيان كيفية إمكان تطوير أهداف “اجتماعية” متفق عليها بدون تسييس علني للأسواق. كما وسأقدم فكرة حول سعر السوق المتأثر بالناحية السياسية، وسأظهر حدود التطبيق. وسيحتوي الجزء الأخير على الخاتمة والنتائج.
السعر السياسي وسعر السوق

إن الخاصية المميزة للأنظمة الاشتراكية تشتمل على استخدام أسعار محددة سياسيا لبعض السلع والخدمات المختارة والتي يُفترض أنها تستند إلى اعتبارات توزيعية ورعائية. ويتم إتاحة السلع والخدمات المختارة بواسطة هذه الطريقة للمستهلكين وفق أسعار تعكس تقديرات سياسية بدلا من أسعار تستند الى آليات الطلب والعرض. تشمل هذه السلع والخدمات المختارة عادة: الخدمات الطبية والخدمات التعليمية ورعاية الطفل ووسائل المواصلات داخل المدن والإسكان والحليب والخبز وغيرها. ويتم توفير وإتاحة بعض أو جميع هذه السلع والخدمات للمستهلكين أو المستخدمين بأسعار دون تلك التي يتم تحديدها بواسطة قوى السوق.[1]
فلنأخذ بعين الاعتبار مثالا مبسطا. نفترض أنه قد تم اتخاذ قرار سياسي جماعي لتزويد الخبز للمستهلكين بسعر “صفر”، والذي يمكن تسميته “سعرا سياسيا” لأنه بمعزل عن أية علاقة بين تكلفة الإنتاج والطلب. وإذا اقتصر الفعل السياسي على الإعلان عن هذا السعر السياسي، فإنه يمكن التنبؤ برد الفعل مسبقا. حيث سيقوم المستهلكون المحتملون بطلب كميات كبيرة من الخبز بسعر الصفر، في حين لن يكون هناك موردون محتملون يرغبون بتوفير الخبز في السوق بهذا السعر. ويتوجب على صانعي القرار السياسيين، الذين يحاولون بداية تلبية طلب المستهلكين المحتملين، تخصيص كميات كبيرة من الموارد لإنتاج الخبز، إما بواسطة الأمر المباشر أو بواسطة مخطط محدد لدعم الموردين المحتملين. وهذا يعني أنه حتى إذا توفر ما يكفي من الخبز لتلبية جميع الطلبات بالسعر السياسي الزائف، فإنه يجب القيام بعمل سياسي إضافي علاوة على تحديد الأسعار نفسها، لجعلها قابلة للتطبيق. وهذا بدوره يعني ضرورة سحب الموارد من استخدامات أخرى وتخصيصها لإنتاج الخبز، مما سيشجع الإسراف في استهلاك الخبز نظرا للسعر الزائف المنخفض. (إن المثال التوضيحي من التجربة السوفييتية الذي يقدم غالبا هنا هو قصة الفلاحين الذين يطعمون الخبز للماشية).
ومع ذلك، وكما ذكرت آنفا، لا أريد أن أشدد على آثار التسعير السياسي المتمثلة في الإسراف وخفض الكفاءة. وعليه، دعونا نفترض أن صانعي القرار السياسيين الذين يخططون باسم الجماعة سيوجهون الموارد لإنتاج الخبز بالكميات المثلى للطلب تقريبا وبسعر السوق. بينما يتم العرض بسعر الصفر وينتج عن هذا المزيج من توافر أقصى درجات العرض مقابل سعر صفر للطلب نتيجتان: سيكون هناك فائض من الخبز، وسيتطلب تمويل تكلفة انتاج الخبز توفير موارد مالية من مصادر أخرى من غير مستهلكي الخبز. ويستدعي ذلك اتخاذ قرارات وافعال سياسية على مستوى مؤسستين اضافة الى اجراءات بشأن ضبط ضمان عدم تجاوز تحديد السعر.
من الممكن مقارنة هذا النظام من التسعير السياسي مع نظام تسعير السوق بافتراض عدم وجود تدخل مسيّس في سوق الخبز؛ وعليه، فان السعر يعكس نتيجة التفاعل فيما بين الطلب والعرض. وفي هذا الإطار، من الممكن أن يقدم الموردون والمنتجون الخبز للمشترين المحتملين بالشروط التي يختارونها، ومن الممكن أن يختار المستهلكون المحتملون الشراء أو عدمه وبالكميات التي يريدونها. وبالتالي من خلال ذلك يتم التوصل للوضع الكفؤ تقريبا لسوق الخبز (“الكفؤ” مقاسا من حيث جداول الطلب في الاقتصاد). وبالتالي تحت هذا النظام من تسعير السوق ستغيب النتيجتان الناجمتان عن التسعير السياسي. ولن يكون هناك فائض أو نقص في الطلب على الخبز؛ كما لن يكون هناك فائض أو نقص في العرض. ولن يكون هناك أي داعٍ لقيام أطراف أخرى في الاقتصاد، بخلاف مستهلكي الخبز، بوجوب تمويل إنتاج الخبز. ولذا تصبح القرارات السياسية المتعلقة بـ(أ) وضع السعر السياسي، (ب) تخصيص العرض المتاح بين المستهلكين المحتملين، و(ج) تمويل إنتاج العرض المتاح، غير ضرورية في ظل نظام تسعير السوق.
ويتوقع بالطبع أن يكون هناك فروقات بين النظامين في مجال التوزيع. وقد يكون أولئك المستهلكون، الذين نجحوا في الحصول على الخبز بسعر الصفر تحت نظام التسعير السياسي، في حال أفضل بكثير عما قد يكونوا عليه تحت نظام تسعير السوق. (بالرغم من أنهم قد لا يكونوا في وضع أفضل حقيقة عندما يتم الأخذ بالاعتبار السعر الكامل، بما في ذلك كلفة الوقت الضائع في انتظار الدور). ولكن مقابل هذه المكاسب المحتملة للمستهلكين ستكون هنالك خسائر واضحة يُمنى بها من توجب عليهم تمويل العرض المتاح. كما أنه في ظل نظام التسعير السياسي يتم نوع من تحويل القيمة بين مستهلكي السلع وغير المستهلكين. بينما في إطار نظام تسعير السوق لا يوجد مثل هذه التحويلات في القيمة.
التسعير السياسي، التحفظ البيروقراطي، والهدر الاجتماعي

يستند نظام تسعير السوق الى وظيفتين تنسيقيتين يفشل نظام التسعير السياسي في أدائهما. يتم تخصيص العرض المتاح بين المستهلكين المحتملين، كما يتم تقديم الكمية المعروضة لمواجهة الطلب المحتمل. وإذا تم وضع سعر سياسي أقل من سعر السوق، يتوجب عندها اللجوء لاستخدام بعض وسائل الترشيد غير السعر لضبط العملية إلا إذا تم تعديل العرض لمقابلة أي طلب يظهر. وفي هذه الحالة، سينجم عنه فاقد ضخم في القيمة الاقتصادية.
تحت ظروف الطلب المفرط، فان وسائل الترشيد اللاسعري قد تأخذ أي شكل من الأشكال المتعددة، إما منفردة أو مجتمعة. من الممكن تخصيص العرض المتاح بواسطة بعض آليات الترشيد الواضحة، على سبيل المثال بواسطة إصدار كوبونات حصص للتمكن من الشراء. أو من الممكن القيام بالتقنين بواسطة نظام آخر مختلف يأخذ بالاعتبار “من يأتِ أولا، يُخدم أولا” والتي تشمل على فترات انتظار وطوابير طويلة في المحلات. وأخيرا، يمكن ترشيد استهلاك السلع عبر وسائل التسعير الخاص. ويترتب على اختيار أي من وسائل الترشيد هذه إنشاء مؤسسة بيروقراطية لتنفيذ هذه الإجراءات، لن يكون هنالك حاجة إليها في ظل نظام تسعير السوق.
كما تبرز الحاجة إلى إقامة مؤسسات بيروقراطية أخرى عندما نتناول الموضوع من جانب تنسيق العرض. فإذا كان التعديل التلقائي لأسعار العرض كما في ظل نظام السوق غير مسموح به، يتوجب عندئذ على المنتجين، وبطريقة ما، أن يحفزوا على إنتاج كمية السلع التي تم تحديدها سياسيا. ويمكن تنظيم الإنتاج مباشرة عن طريق مؤسسات الدولة أو يمكن دعم الموردين الخاصين. وعلى أية حال، يتم تحصيل الإيرادات من مصادر أخرى في الاقتصاد وهذا التحصيل يعتمد مرة أخرى على المؤسسات البيروقراطية. أو من الممكن أن يطلب حجم الإنتاج مباشرة بالأمر، وفي هذه الحالة يخضع الموردون لضغوط بيروقراطية قسرية.
يتطلب التسعير السياسي انشاء مؤسسة بيروقراطية يكون دورها مكمل وصلاحياتها متسعة لتحقيق التنسيق المطلوب لتحقيق الأهداف. إن جميع الافراد ليس فقط بصفتهم طالبين أو مستخدمين للسلع المنتجة النهائية، ولكن أيضا بصفتهم موردين للمدخلات التي تدخل في إنتاج مثل هذه السلع، لا بد أن يخضعوا للمعاملة التمييزية للمؤسسات البيروقراطية، التي لا ضرورة لوجودها في ظل نظام السوق. وسيخلق ذلك اعتمادا كاملا من قبل المواطنين على البيروقراطية القائمة بغض النظر عن خصائص السلوك الفردي للبشر الذين يعيشون في ظل حكم البيروقراطية. وحتى لو كانت البيروقراطية في ظل هذا الوضع مثالية وعادلة، إلا أن علاقة التبعية ستستمر.
ومع ذلك، وكما تقترح نظرية الخيار العام الحديثة، فإنه من غير المحتمل أن يكون العملاء البيروقراطيون مختلفين عن الأشخاص الآخرين في المجتمع؛ ولا يتوقع بروز أنماط سلوك مغايرة. وسيسعى البيروقراطي، كما سيفعل غيره، لزيادة منفعته الخاصة للحد الأقصى، رهنا بالقيود التي تواجهه. ونظرا لأن الهيكل المؤسسي في نظام التسعير السياسي يضع الأشخاص الآخرين في علاقة التبعية، فمن غير المتوقع أن يرفض البيروقراطي عمدا أن يمارس هذه السلطة التحفظية لكي يُعظّم منفعته. إن المحسوبية، والمعامله التمييزية (الإيجابية والسلبية)، والتصنيفات التعسفية، جميعها خصائص تُميز أي نظام يضع الناس في علاقة التبعية مع بيروقراطيين بشر يتنفسون ويعيشون.
ستكون هذه الخصائص موجودة تحت نظام التسعير السياسي وإن كان لا يوجد فساد بالمعنى المفهوم للكلمة. وسيكون للبيروقراطيين الذين يمتلكون سلطة تحفظية لتخصيص أو توزيع القيمة الاقتصادية، بالتأكيد، فرصاً لتحقيق المنافع الربحية لأن السلطة التي تقوم بالتخصيص والتوزيع يصبح لها قيمة بحد ذاتها. وبالتالي سيكون هنالك علاقة طردية مباشرة بين السلطة وفرص الربح واستغلال المكاسب.
لكن مشاكل التمييز البيروقراطي لا تكمن حصرا، أو حتى أساسا، في الرشوة. فأولا، تتواجد هذه المشاكل بسبب التمييز البيروقراطي، والذي يعني أنه يجب أخذ الخيارات بين مختلف المطالبين على أسس أخرى غير القيمة المضافة. وفي هذا الصدد، يصبح إدخال التمييز البيروقراطي، الذي برز بسبب التسعير السياسي، مصدرا لعدم الكفاءة على كافة مستويات الاقتصاد. وثانيا، فإن علاقة التبعية القائمة بين هؤلاء الأشخاص الذين يمتلكون سلطة تمييزية وأولئك الواقعين تحت تلك السلطة تخلق تفرقة طبقية تعسفية. وثالثا، وربما الأكثر أهمية، فإن النقص المفتعل في ظل نظام التسعير السياسي يصبح النتيجة الطبيعية لاستثمارات مبددة اجتماعياً. ويجد الافراد أنه من المنطقي استثمار الموارد في محاولة لتأمين الوصول التفضيلي إلى مكامن القوة الاقتصادية المتأصلة في التمييز البيروقراطي. إن الارباح المتولدة من أنشطة غير منتجة والتي يحصلها أولئك الذين يتنافسون لضمان الوصول، رغم صعوبته وندرته، إلى السلع المقيّمة (مثل أولئك الذين يطلبون الخبز بسعر الصفر)، تمثل استثمارات مبددة لجمهور الأفراد غير القادرين على النجاح في الجهد التنافسي.
يجب أن يكون هناك القليل من الخلاف أو أن لا يكون هناك خلاف أصلا بخصوص التحليل الاقتصادي العلمي (القائم على الحقائق وعلاقات السببية) لتأثيرات التسعير السياسي على حجم ومجال والحدود التمييزية والنتائج السلوكية الثانوية للمؤسسة البيروقراطية. فلا يوجد نتائج معيارية موحدة يمكن الوصول إليها مباشرة من التحليل. ومع ذلك، وللدرجة التي يمكن أن يتفق عليها المحللون والمراقبون، فان الآثار الناجمة في حد ذاتها تعتبر خصائص غير مرغوبة لأنظمة التسعير السياسي، كما ان المنافع النسبية التي تدعيها مثل هذه الأنظمة مقارنة مع أنظمة تسعير السوق ليست بالأهمية. يجب الاعتراف بأن تقليل التسييس-البيروقراطية في التفاعل الاقتصادي، والذي يحققه نظام تسعير السوق، هو عامل هام في مفاضلة الحكم النهائي، علاوة على المناقشة المألوفة حول الكفاءة.
الدستور السياسي للنظام الاقتصادي

لقد أشرت لغاية الآن إلى أنظمة التسعير السياسي وتسعير السوق بدون ذكر مباشر للبنية الدستورية التي تحدد الإطار الذي يعمل من خلاله أي نظام للتفاعل الاقتصادي. إنه في غاية الأهمية التأكيد على ضرورة العمل السياسي أو الجماعي في تأسيس وصيانة بنية النظام في جميع الأحوال. إن التقليل من مدى ونطاق التمييز البيروقراطي الذي تمت مناقشته في الجزئين السابقين يشير بشكل خاص إلى وضع التفاعل الاقتصادي داخل بنية النظام، أي داخل دستور النظام الاقتصادي. وكما اقترح التحليل، فإن أسعار السوق تميل إلى التقليل من التحفظ البيروقراطي بالنسبة إلى ذلك الذي يقتضيه التسعير السياسي. لكن أسعار السوق تعمل بفعالية فقط في إطار مجموعة من القواعد والذي يجب تأسيسها أو المحافظة عليها بشكل جماعي. ولا مفر من التسييس على مستوى الخيار الدستوري.
ساقصر مناقشتي علي مجمل هذه الملامح للبنية الدستورية التي ستسمح لاسعار السوق أن تبرز وأن تعمل. ولن أقوم بمناقشة كيف يتم أخذ الخيار الدستوري الأساسي ضمن مجموعات من القواعد. أولا، يجب أن يكون هناك توزيعا منتشرا ولامركزيا للقدرات لإنتاج القيمة الاقتصادية مع اعتراف سياسي وقانوني واضح لهذا التوزيع. يجب أن تنتشر الملكية أو حقوق الملكية على نطاق واسع في التملك، في كل من الموارد البشريه والأصول غير البشريه، كما أنه يجب توفر حماية قانونية صريحة لنمط الملكية نفسها. ثانيا، يجب السماح للملاك الخواص تبادل حقوق الملكية فيما بينهم، كما يجب أن يكون هناك إنفاذ سياسي وقانوني للعقود الطوعية المعتمدة لتبادل هذه الحقوق.
وفي ظل مثل هذا النمط من الملكية الخاصة المنتشرة واللامركزية، مع الاعتراف السياسي والقانوني وانفاذ العقود، ستكون العناصر الأساسية لدستور نظام السوق في مكانها. سيتم تخصيص مصادر الموارد بين عدة استخدامات منفصلة؛ وسيتم تنظيم الإنتاج من خلال مجموعة من المدخلات؛ وسيتم إنتاج السلع والخدمات وتوفيرها وتسعيرها للمستهلكين الذين يطلبونها. لا يُطلب من أي أحد مباشرة، سواء كفرد عادي أو في موقع سياسي، الاهتمام بتفاصيل الإنتاج، أو الأنماط المستخدمة للإنتاج، في ظل تشابك عمليات السوق. هذا الناتج، أو أنماط الانتاج، سيكون محصلة التفاعل المستقل بين العديد من الأشخاص. وبهذا لا تتم عمليات التخصيص أو التوزيع نتيجة لاختيار أي طرف.
وعند هذه النقطة بالتحديد قد تكون المبالغة في التركيز على معيار الكفاءة لتقييم أداء اقتصاد السوق مضللة. ومما لا شك فيه أن الكفاءة التي تم تحقيقها بواسطة تفاعل السوق تُعرّف بمثل هذا التفاعل. وتظهر جداول القيمة وفق خيارات السوق التي أخذها جميع المشاركين؛ ولكنها لا توجد بصورة مستقلة. ولا حاجة لأن يكون هناك علاقة بين أداء اقتصاد السوق والكفاءة لتحديد جداول القيمة من قبل المخطط أو صانع القرار السياسي. وفي حالة واحدة يمكن أن تكون عبارة أبالكين صحيحة، ألا وهي عندما يرغب صانعو القرار بالسماح للسوق تحديد الكفاءة.
سيظهر نظام السوق بأنواعه في اللحظة التي يتكامل فيها وجود العناصر الأساسية. بينما من الممكن أن تمتد البنية الدستورية لتشمل قواعد أخرى أو مؤسسات من المتوقع أن تيسر عملية التبادل الشاملة. ومن الممكن أن تأخذ المؤسسة السياسية، أي الدولة في هذه الحالة، مسؤولية تحديد الوحدة النقدية للنظام الاقتصادي، كما يمكن أن تسعى للحفاظ على استقرار قيمة هذه الوحدة. كما يمكن أن يكون هناك ترتيبات مؤسساتية متخصصة تهدف إلى تشجيع القوى التنافسية، وخاصة تلك التي تعزز حرية الدخول في الإنتاج والتي تحظر الترتيبات الاحتكارية. اما المرافق العامة والسلع الأخرى المستهلكة جماعيا (على سبيل المثال حماية البيئة) تبقى ضمن سلطة الدولة، كما أنه من الممكن إدخال التشريعات الدستورية التي تُحدد الوسائل التي يتم عبرها تمويل السلع والخدمات الموردة من قبل الدولة.
البيروقراطية الدنيا واقتصاد السوق الاجتماعي
يترتب على الاهتمام والتركيز على العلاقة بين الخصائص التنسيقية لسعر السوق ونطاق التمييز البيروقراطي تأثير على فعالية التدخل السياسي الذي يتم لتعزيز الأهداف الاجتماعية. وقد يرفض صناع القرار السياسي، الذين يعملون كوكلاء للنخبة الحاكمة أو أولئك الذين يدعون انهم يمثلون الدوائر الانتخابية في الديمقراطيات، معيار الكفاءة كما هو معرّف بإجراءات اقتصاد السوق حتى وإن تم توسيع القطاع الجماعي ليشمل تمويل السلع غير المستثناة والمستهلكة جماعيا. وقد يسعى هؤلاء الوكلاء، ولذات الأسباب التوزيعية والرعائية التي حفّزت العديد من التجارب الاشتراكية في الأنظمة التي تتحكم فيها الدولة بالأمور الاقتصادية والاجتماعية، إلى استخدام السلطة السياسية لتعديل نتائج نظام السوق، ولو بشكل جزئي.
في الوقت ذاته، يمكن قبول منافع نظام السوق من حيث إنتاج قيمة اقتصادية وتقليل دور التمييز البيروقراطي. والسؤال هو كيف يمكن الإبقاء على الخصائص التنسيقية للأسواق في ظل استخدام السلطة السياسية لتعديل الأنماط التوزيعية والحصصية في اتجاه تلك الأنماط المرغوبة بشكل أكبر من قبل صانعي القرار (والمخططين)؟
افترض أنه قد تم تأسيس القواعد الأساسية لاقتصاد السوق. عندها ستصبح حقوق الملكية لامركزية ويتم إنفاذ العقود الطوعية. استرجع مناقشتي السابقة في الجزئين الثاني والثالث. إذا تم توفير الإمدادات بشكل كاف لتلبية جميع المطالب بسعر الطلب المقرر سياسيا والذي يواجه المستهلكين والمستخدمين المحتملين، عندئذ، لا تستدعي الحاجة استخدام نظام مكمل للترشيد. وإذا قبلت جميع الإمدادات المعروضة بسعر العرض المقرر سياسيا، عندئذ لا تبرز الحاجة إلى استخدام نظام لترشيد البيع بين المزودين المحتملين. وعليه، يمكن استخدام السعر لترشيد الطلب ولتنشيط العرض. ولكن، في هذه الحالة، ستغيب خاصية توازن السوق. وقد لا يكون سعر طلب السلعة للمستهلكين معادلاً لسعر العرض للمزودين. وكما اشير سابقا، تتم تحويلات في القيمة في الأسواق في ظل نظام التسعير السياسي. وإذا شجع صناع القرار السياسي المشاركين في السوق على شراء المزيد من سلعة ما غير تلك التي تُمليها خياراتهم سيحدث خلل في هيكل الأسعار في السوق بين سعر الطلب الذي تعرض به السلعة إلى المستهلكين وسعر العرض الذي يقدم للمنتجين وبالتالي ينخفض سعر الطلب عن سعر العرض. وهنا يتوجب العثور على وسائل لتمويل الفارق حتى لو حققت هذه الأسعار هدف الترشيد المطلوب.
وفي هذه الحالة، يجب أن يرغب صانعو القرار السياسي بإحداث خلل في الاتجاه المعاكس في السوق لسلعة أو سلع أخرى. ويعني هذا جعل سعر الطلب أعلى من سعر العرض في سوق سلعة أخرى (أو عدة سلع) لتوليد العوائد اللازمة لتمويل الدعم المالي للسلعة أو الخدمة المفضلة. وأسوة بما حدث في السوق الأول، يمكن استخدام الأسعار لإلغاء الحاجة إلى التمييز البيروقراطي في آليات الترشيد التكميلية. لكن هذا الاعتراف بتحويلات القيمة عبر الأسواق يفترض توازن الموازنة. وهذا يعني أن العائدات المحصلة من السلع غير المفضلة يجب أن تساوي بالضبط الدعم المالي المدفوع للمنتجين والمستهلكين للسلع المفضلة. وبالتالي يمكن تشجيع إنتاج واستهلاك سلعة واحدة؛ ويمكن عدم تشجيع إنتاج واستهلاك سلعة أخرى. ويمكن تحقيق الهدف الاجتماعي المزعوم ضمن مجموعة من القيود التي تفرضها تفضيلات المشاركين في الاقتصاد من خلال دورهم كطالبين ومزودين للسلعتين (أو مجموعة السلع).
قصة الخبز والفودكا

يمكن هنا توضيح الفرق بواسطة مثال بسيط. افترض أن صانعي القرار السياسي، مهما كانوا، قد قاموا بتعديل نتائج اقتصاد السوق الحصصية والتوزيعية من خلال طريقة محددة. قد يكون الهدف الاجتماعي المعلن تشجيع إنتاج واستهلاك الخبز وعدم تشجيع إنتاج واستهلاك الفودكا، وفي الوقت ذاته، تقليل فقدان الكفاءة والتحفظ البيروقراطي.
يحدث التفاضل التمييزي من خلال دعم إنتاج الخبز بينما تفرض ضريبة على إنتاج الفودكا. وبموجب هذه الترتيبات، سيستمر تسويق السلعتين بأسعار تُحدد سياسيا رغم أنها لا تزال تعتبر من ناحية اخرى أسعار السوق. ولكي يعمل هذا المخطط بطريقة فعالة، يجب أن يتوازن جانبا الحساب. وكذلك، يجب أن يُعدّل النظام ليتوافق مع تغير جداول الطلب والعرض للسلعتين بتأثير تغير رغبات الطالبين والمزودين. ولا يمكن لصناع القرار السياسي أن يفرضوا وببساطة وحدة ضريبة على الفودكا بشكل مستقل عن وحدة الدعم للخبز. وبالنظر إلى سلوك طالبي الفودكا والموردين، فإن أية وحدة ضريبية على الفودكا ستولد إجمالي عائدات محددة ستكون متاحة لتمويل دعم الخبز. ولكن في هذه الحالة، سيعتمد حجم وحدة الدعم على سلوك طالبي ومزودي الخبز. ولا يمكن أن يقوم صانعو القرار السياسي ببساطة باختيار أي وحدة دعم للخبز إذا كانت رغبتهم تقليل الحاجة إلى التمييز البيروقراطي في توزيع الخبز. في المقابل، يجب تحديد حجم الإنفاق على أي وحدة دعم مختارة مسبقا للخبز، وفقا لسلوك طالبي وموردي الخبز. ويثبت حجم وحدة الدعم حتى يمكن تمويل الإنفاق عليه من وحدة الضريبة على الفودكا وفقا لسلوك طالبي الفودكا والموردين.
قد يرغب صانعو القرار السياسي باختيار حلول قد تتناقض بكل بساطة مع سلوك المشاركين في الاقتصاد. على سبيل المثال، قد تتجاوز العائدات المطلوبة لتمويل دعم كامل للخبز لكي يُقدم بسعر الصفر، كما ورد في العرض السابق، خارج الحدود التي يمكن توليدها عن طريق فرض ضريبة على الفودكا. وسيفرض سلوك العرض والطلب للمشاركين في جميع الأسواق، والذي يجب السماح به بدون أي ضغط بيروقراطي، قيودا على قدرة صانعي القرار السياسي لتعديل نتائج الأسواق. ضمن هذه الحدود، فإن هيكل أسعار السوق قد يحتاج الى تعديله بشكل ملحوظ ليحقق الأهداف الاجتماعية المتوخاة.
الخاتمة
يجب أن يتم تحديد الموارد وتجميعها في أي نظام اقتصادي لإنتاج مخرجات ذات منفعة والتي بدورها يجب أن توزع على المستهلكين. فالاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يستطيع أن يحقق هذه المجموعة من المهمات بفعالية أعلى وكذلك سيولد معدلات انتاجية ذات قيمة مضافة أعلى مقارنة بالاقتصاد الذي يستند إلى خيار التخطيط المركزي. لقد كان هدفي هنا التأكيد على أهمية الميزة الطبيعية لاقتصاد السوق الحر، التي تربط نظام الاقتصاد مع الخيارات السياسية والبيروقراطية. وإذا لم يتم تخصيص الموارد وتوزيع المنتجات من خلال نظام للسوق، عندئذ يجب أن يتم إنجاز الوظائف التخصيصية والتوزيعية مباشرة بواسطة مؤسسة سياسية بيروقراطية. والنتيجة المباشرة والواضحة هنا أن السوق يحد من التدخل البيروقراطي في حياة المواطنين للدرجة الممكنة.
إلا أن هذه النتيجة لا تعني أن الأسواق أو منظومة السوق تستطيع إزالة المحددات الجوهرية المحكومة بنُدرة الموارد كمفعول السحر، إلا أنها تستطيع تقليص حدة هذه المحددات بواسطة زيادة كفاءة استخدام الموارد. ومع ذلك، ستبقى المحددات الأساسية على الموارد قائمة؛ ويكون مفعول الاسواق عليها من خلال هياكل الأسعار الموضوعية، عوضا عن التدخل التمييزي والقسري للبيروقراطية المشخصنة. أي يتم استبدال النفوذ الخاضع لتقدير أو سلطة البيروقراطية بالسلطة الموضوعية للأسعار، وما يصاحب ذلك من انعكاسات على طبيعة العلاقات بين الاشخاص.
يقلل نظام السوق من التمييز البيروقراطي، ولكنه يعمل فقط في إطار دستوري مستدام وفعال سياسيا. إن وجود العناصر الأساسية—توزع الملكية الخاصة وإنفاذ العقود—ضرورية للسماح بنشوء الأسواق وإنتاج أنماط من المخرجات تعكس أعلى قيمة لأفضليات المشاركين، كما يُعبَّر عنها من خلال سلوك السوق.
وقد لا تحصر السياسة، كيفما تعمل ومهما كانت آلية اتخاذ القرار وكيف يتم اختيار صانعي القرار، أنشطتها لتأسيس ومتابعة الإطار الدستوري بإرادتها. وقد يطلب السياسيون، بصفتهم الشخصية وكممثلين لدوائر المواطنين، تعديل بعض المخرجات التي تظهر نتيجة لتفاعلات السوق غير المسيطر عليها. قد يشارك العديد من المواطنين في تصنيف بعض السلع بأنها “تستحق التشجيع” (تسمى أحيانا “سلع الجدارة”) وأخرى بأنها “لا تستحق التشجيع” (تسمى أحيانا “سلع الإسراف”). وسيحاول أي نظام سياسي تعديل نتائج تفاعل السوق باتجاه تشجيع المجموعة الأولى من السلع ومنع المجموعة الثانية.
هناك وسائل أفضل من أخرى للتدخل في آلية عمل الأسواق إذا تم القبول بنتيجة تخفيض التمييز البيروقراطي وتحسين الكفاءة. وقد تُعزَّز أهداف اقتصاد السوق الاجتماعي بواسطة التخطيط لآليات الضرائب والدعم المنتقاة بطريقة متوازنة تستجيب لسلوك العرض والطلب للمشاركين.


الاقتصاد السياسي للتحول الى اقتصاد السوق
بوريس ميلنر[2]
القرارات السياسية وقرارات السوق
لقد قمت بقراءة ورقة جيمس بيوكانن بمزيد من الاهتمام. إن تحليله الواضح والاصيل والحيادي لآليات التخطيط المركزي واقتصاد السوق يفوق المقارنات المماثلة، ليس فقط لتعمقه في الموضوع، بل أيضا بسبب جدة فرضياته واستنتاجاته.
الفرضية الأساسية للورقة هي التفسير الموسع لكفاءة اقتصاد السوق. لقد تم توسيع نطاق المعايير المألوفة المتعلقة بإنتاج السلع (العوامل المحفزة للاطراف الاقتصادية الفاعلة، التوافر التام للمعلومات في ظل نظام لامركزي، والبيئة المواتية لتوليد القدرات الخلاقة والمبدعة) من قبل بيوكانن ليضيف عليها ويتناول بالتحليل تأثير عامل مهم آخر هو: العلاقة بين القرارات السياسية وقرارات السوق.
وأعتقد هنا أن المبدأ الذي صاغه في غاية الأهمية:
“إن الاقتصاد الذي يستند إلى مبادىء حرية السوق يقلل بشكل ملحوظ من عدد القرارات الاقتصادية التي يجب أن تؤخذ لاعتبارات سياسية من قبل مؤسسة ما تمثل الوحدات الجماعية. وبتعبير عملي آخر، فبالإمكان القول إن الاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يقلص من حجم وأهمية البيروقراطية السياسية.”
إن هذه النتيجة المستخلصة صحيحة بوجه عام، عند تساوي المعطيات الأخرى، في الكيفية التي يعمل بها بشكل متواز نظامان اقتصاديان—نظام التخطيط المركزي ونظام السوق—وفق خصوصية كل منهما وحسب قواعد السلوك الخاصة بهما.
الانتقال من اقتصاد التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق

تبرز الحاجة إلى مزيد من التحليل في حالة الأنظمة المتحولة التي تستبدل الآليات التوظيفية لنظام بنظام آخر. وهنا يجدر الأخذ بعين الاعتبار بعض الخصائص التي تُميز الفترة الانتقالية للتحول إلى السوق، والتي يمر بها حاليا اقتصادنا (أي اقتصاد الاتحاد السوفييتي السابق).
الخاصية الأولى هي تفرد ميزة التحول بحد ذاتها؛ ولذلك نعاني من نقص في النظريات والإجراءات الممكن للدولة اتباعها في المرحلة الانتقالية، واستحالة التعلم مباشرة من التجربة التاريخية المتاحة. إن هذه الفترة الانتقالية فريدة من نوعها نظرا لعدم إضطرار أي دولة أخرى في العالم أن تتوجه نحو السوق الحر من خلال تفكيك البنية الهرمية الاحتكارية الكبرى لمنتجي وموزعي السلع التجارية، تلك البنية التي أقيمت بجهد كبير وعلى مدى عقود عديدة. لا يوجد تجربة مماثلة لبلد في العالم اضطر أن يُغير قواعد السلوك لنظامه الاقتصادي، وهو في طريقه للتحول إلي اقتصاد السوق الحر، بتفكيك كافة الروابط الإدارية المتأصلة والعلاقات القائمة على أسس غير اقتصادية وفي وقت قصير. ولم يضطر أحد أثناء التحول نحو اقتصاد السوق الحر لأن يتغلب على عقلية الهيمنة والخضوع التي اخترقت عقول الملايين بعمق عبر ما لا يقل عن ثلاثة أجيال وأصبحت لهم بمثابة النمط الطبيعي. وعليه، نجد أن المهمة معقدة بدرجة يصعب تصديقها، كما أن الحاجة متواصلة للاختيار بين العديد من الاحتمالات، مع بروز مثبطات لا مفر منها تبطىء التغيير، وضرورة العمل للتغلب على العقبات. إضافة إلى ذلك، فان البحث عن حلول لهذا الوضع لا يمكن الوصول إليه من خلال وصفات جاهزة. كما أنه لا يمكن توقع جميع التفاصيل والعلم بكافة الخلفيات أو تجنب أي خطأ أو سوء تقدير غير متوقع.
وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن الركون الى أن العلاقة بين الإدارة البيروقراطية (“التسعير السياسي”) وآليات السوق ستكون مستقرة في جميع الأوقات. إن تحرير الأسعار سيأخذ وقتا؛ وخاصة أننا نعتمد الاسلوب المتدرج (خطوة خطوة) لتحرير اسعار العديد من السلع.
لا يسع المرء إلاّ أن يلاحظ خاصية أخرى لهذه المرحلة: إن بناء العلاقات الاقتصادية الجديدة يتم إطلاقه وتنفيذه بدرجة أقل من خلال الاعتماد على آليات التطوير التلقائية المنبثقة “من الأسفل” من خلال الأطراف الاقتصادية الفاعلة الأساسية، وأكثر “من الأعلى”، إذ تقوم السلطات المركزية والجمهورية والإقليمية بدور مزدوج فهي تفكك التركيبة الإدارية القديمة وتأسس للتحول إلى اقتصاد السوق الجديد.
وباستعمال تعبير بيوكانن، يجب أن تؤدي هذه العملية إلى خلق “دستور سياسي اقتصادي”. ولهذا السبب يبدو لي، فيما يتعلق بالظروف الحالية التي تشهدها عملية التحول إلى اقتصاد السوق، أن الفقرة التالية من ورقة بيوكانن يجب اعتبارها بالغة الأهمية: “أسعار السوق تعمل بفعالية فقط في إطار مجموعة من القواعد والذي يجب تأسيسها أو المحافظة عليها بشكل جماعي. ولا مفر من التسييس على مستوى الخيار الدستوري.”
في هذا الإطار سيتم البحث عن أجوبة للأسئلة التالية: (أ) كيفية تقليل التأثير السياسي على الروابط والعلاقات الاقتصادية، (ب) كيف ستعمل مؤسسات الدولة التنظيمية في إطار اقتصاد السوق، و(ج) كيفية إجراء الانتقال من العلاقات الرأسية إلى الأفقية.
هناك طريقتان أساسيتان: (أ) أن تبرز المؤسسات السياسية وتحدد وظائفها من داخل اقتصاد السوق لخدمة مصالح القطاع الحر؛ (ب) أن تُغير الهياكل الحكومية طبيعتها المستندة إلى العلاقات غير المستمدة من السوق والتخصيص المركزي للموارد وتتحول إلى مؤسسات سياسية لخدمة مصالح السوق.
لا يمكن لهذه الطرق أن تنجح بمفردها، حيث أننا نتعامل مع نظام واسع ومعقد جدا ومتشعب من الارتباطات الإدارية والترتيبات الهيكلية التي تجذرت بشكل مدروس وثابت. ولهذا السبب بدأت عمليات الانتقال من خلال عدة قنوات للتحول إلى بنية حكومية جديدة مع ظهور الأطراف الاقتصادية العاملة في آن واحد والتي يجب أن تنمو معا.
إن أحد الأهداف هو إزالة تركيبة البنية المتكيفة مع “العلاقات غير المستندة إلى اقتصاد السوق” وخلق الحد الأدنى لبنية أخرى جديدة. ويمكن اللجوء إلى اتجاه آخر يتمثل في تأسيس بنية متوازية ويتم من خلالها الاستبدال التدريجي للمؤسسات القديمة بأخرى جديدة. وعلاوة على ذلك، هناك طريقة تحويل البنية الحكومية إلى الاطراف الاقتصادية العاملة التي تنشط في ظل سوق حر وتدار على أسس ديمقراطية.
هناك طرق أخرى ممكنة، ولكنه من الواضح مسبقا أن الفترة الانتقالية محتّمة، مع وجود كل من البنية القديمة والجديدة معا وجنبا إلى جنب مع قيام الجديدة بتهميش القديمة بتجذر علاقات السوق وتطورها وكذلك مع تجمع قوة كافة الاطراف الاقتصادية العاملة في اقتصاد السوق—الشركات، والمصالح المختلفة، والاتحادات، والجمعيات الاقتصادية، والشركات المساهمة، وبورصات الاسهم والسلع، والوسطاء التجاريين، والمشاريع الصغيرة العاملة في مختلف القطاعات.
إن عملية الانتقال تعني تطوير ظروف مختلفة من شأنها، كما يؤكد بيوكانن، إلغاء الحاجة إلى القرارات السياسية المتعلقة بتثبيت الأسعار السياسية وتخصيص الموارد المتاحة بين المستهلكين المحتملين و”تمويل” إنتاج السلع التي تم تخصيصها.
تحول الحكومة
يتم أثناء فترة التحول تقليص هيمنة ومهام الحكومة المركزية. وتصبح وظائفها منحصرة في المقام الأول على الإشراف على أنشطة السوق—ومثال ذلك، التنظيم الإداري المحدود؛ الرقابة على النظم المالية والائتمانية والضريبية؛ والحفاظ على شبكة الأمان الاجتماعي. وتصبح القوة الاقتصادية في المركز مجموع التفويضات المخولة لها من قبل بقية الجمهوريات.
وضمن إطار تجميع هذه القوة التي تم تأسيسها بالاتفاق، تمارس الحكومة المركزية سلطاتها في الإشراف على جميع أملاك اتحاد الجمهوريات وموارده المالية وبرامجه الاقتصادية، بما يضمن الدرجة القصوى من التنسيق في تنفيذ الإصلاح. وفي إطار هذه العمليات التي تستهدف مأسسة التحول إلى اقتصاد السوق، يصبح من الضروري التأكيد باستمرار على “أهمية الميزة الطبيعية لاقتصاد السوق الحر التي تربط نظام الاقتصاد مع الخيارات السياسية والبيروقراطية،” كما يفعل بيوكانن.
إن الصيغة التي قدمها بيوكانن متصلبة وتفيد بأنه: “إذا لم يتم تخصيص الموارد وتوزيع المنتجات من خلال نظام للسوق، عندئذ يجب أن يتم إنجاز الوظائف التخصيصية والتوزيعية مباشرة بواسطة مؤسسة سياسية بيروقراطية. والنتيجة المباشرة والواضحة هنا أن السوق يحد من التدخل البيروقراطي في حياة المواطنين للدرجة الممكنة.”
في المرحلة الانتقالية تخرج المؤسسات التي لها سلطة بيروقراطية مباشرة على المنشآت والمشاريع التجارية من المسرح؛ كما تنتهي مرحلة خضوع الاطراف الاقتصادية العاملة وتظهر مؤسسات مختلفة النوعية: خزينة للدولة، إدارة لمساعدة المشاريع الصغيرة، مجلس لمحاربة الاحتكار. وهنا تبدأ عملية واسعة لإعادة الهيكلة والتنسيق وتحول بُنية المؤسسات الحكومية ووظائفها. وهذه هي العمليات التي تفتح الطريق باتجاه تأسيس علاقة جديدة بين نظامي التسعير السياسي والاقتصادي، وكذلك باتجاه تقليص التدخل الحكومي في تحديد الأسعار. وعليه، إذا كنا نتحدث عن “أسعار سوق تتأثر سياسيا” فنحن ننطلق من الفرضية القائلة بأن الأسعار تتأثر بالسياسات الاقتصادية العامة وكذلك بسياسات الحكومة التي تؤثر على السعر: الاقتطاعات من الربح أو العوائد والضرائب والتعرفة والدعم وهكذا. ولكن كيف من الممكن أن ينتقل أحدنا إلى مثل هذا النظام في ظل الظروف الخانقة لأزمة اقتصادية صعبة؟
مشكلة التسعير
يتم حاليا تدارس ثلاثة طرق متباينة لمعالجة مشكلة التسعير اثناء عملية الانتقال الى اقتصاد السوق:
1. عملية الانتقال يجب أن تبدأ بإصلاح عام للأسعار (ترفع الأسعار لمرة واحدة مع تعويض دخول المواطنين على ذلك).
2. يتم إصلاح الأسعار بعد استقرار الأنظمة المالية والائتمانية والدورة النقدية وبعد إنهاء احتكارات الحكومة.
3. يتم التحول إلى نظام تحرير الأسعار تدريجيا بأسلوب الخطوة خطوة ومن غير قرارات إدارية تفرض رفع الأسعار.
وهكذا يجب أن تأخذ الفترة الانتقالية في الاعتبار هذه الطرق والتي تخضع لطبيعة ودرجة “التأثير السياسي على أسعار السوق”. ولقد أصبحت هذه المعايير متغيرة وديناميكية. وهناك خيارات عديدة ممكنة من ضمنها عدة حلول وسطية.
ولكن، ما هي العوامل المميزة والهامة لإحداث مثل هذا التأثير؟ من الممكن اعتبار الآتي:
 تنسيق السياسات المالية والائتمانية وسياسات العملة والضرائب؛
 التنظيم التشريعي للنشاطات الاقتصادية والمشاريع الخاصة وتشجيع التنافس وحماية المستهلك والبيئة؛
 خلق بنية تحتية لاقتصاد السوق؛
 تقليص عجز موازنة الحكومة بدرجة ملحوظة وربط الموارد المالية الفائضة؛
 الربط العضوي لعملية الانتقال إلى تسعير السوق بإزالة كافة الاحتكارات المسيطرة على نظم العلاقات الاقتصادية فيما بين المؤسسات والمنظمات والمواطنين.
مسألة الحماية الاجتماعية

تُصمم برامج موجهة خصيصا لتخفيف وطأة الإصلاح الاقتصادي وتوفير الحماية الاجتماعية للمواطنين. إن السكان شديدو الحساسية لبرامج الإصلاح مع قلقهم في مدى قدرتهم على ضمان الاحتفاظ بالحد الأدنى من مستوى المعيشة في ظل هذه البرامج.
في يومنا هذا، يتم التحول إلى اقتصاد السوق في خضم أزمة اقتصادية عميقة وروابط اقتصادية متحللة وعدم استقرار سياسي وتوترات عرقية إضافة إلى وجود بيئة اجتماعية ونفسية غير مواتية.
إذا كان الثمن المطلوب للإصلاح فوق طاقة احتمال المواطنين، فهناك احتمال كبير جدا بظهور حركات الاحتجاج بأشكال مختلفة وبروز مقاومة متنامية ضد إعادة هيكلة الاقتصاد. الأسعار والحوافز، الاسعار والبيئة الاجتماعية، تلك ستكون في مقدمة المشكلات طوال الفترة الانتقالية للتحول إلى اقتصاد السوق.
ملاحظات:

[1] من الممكن بالطبع أن تكون عدم الكفاءة الإدارية في التوزيع كبيرة جدا لتجعل الأسعار الشمولية لمثل هذه السلع أعلى من أسعار السوق الحرة وبالرغم عن قصد المخططين.
[2] نائب مدير المعهد الاقتصادي للأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 7 أيلول 2006.

peshwazarabic28 أكتوبر، 2010

زميل أقدم في معهد كيتو بواشنطن العاصمة. وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة جورج ميسن والمدير العام الاستشاري لمركز دراسات الخيار العام. في عام 1986 تم منحه جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية لمساهماته في تطوير نظرية الخيار العام وعملية اتخاذ القرار الاقتصادي والسياسي.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018