لا يتضمن أي دستور سياسي قائم أو مقترح قيوداً أو حدوداً كافية تتعلق بسلطة الوكالات الحكومية على أنشطة الأفراد والجماعات، وأبرزها، على تلك الاقتصادية. كما لا يوجد دستور ليبرالي قائم أو من المحتمل أن يتوفر في المنظور القريب. وبهذا المعنى، فإن كافة الدساتير القائمة هي فاشلة، وعلى الأغلب أن كافة المقترحات الجدية للإصلاح لا تعطي أية وعود بالنجاح التام. لقد قدّمتُ هذه الانتقادات الشاملة للأنظمة الدستورية القائمة والمقترحة دون إطلاع على تفاصيل معينة، ولكن بإدراك واعٍ وتام بالحقيقة التاريخية أنه، ولأكثر من قرن من الزمن، كانت كافة الحوارات السياسية قد تشكلت بواسطة “الغرور القاتل” (هايك 1989)، بأن بمقدور التوجيه السياسي تسهيل، وليس إعاقة، التقدم الاقتصادي، وبناء عليه تأثرت النتائج المؤسسية.
إن كافة الدساتير التي وضعت منذ القرن الثامن عشر، وجميع ما تم “إصلاحه” إما بشكل صريح أو بواسطة الاستعمال والتفسير منذ ذلك الوقت، يجب أن تعكس جميعها إلى حد ما الصورة الرومانسية للدولة الخيرة المعطاءة، سواء كان ذلك واقعياً أم محتملاً، فهذه هي الصورة التي قدمها المثاليون السياسيون من جهة، والاشتراكيون الحالمون من الجهة الأخرى.
إن الدستور الذي يتضمن “السياسة الخالية من الرومانسية” (بيوكانن 1979) غير موجود في وقتنا هذا، ولا تدخل أية مقترحات للإصلاح تعكس مثل هذا النموذج الواقعي للسياسات بشكل مباشر في أي حوار جارٍ. ومن الممكن إيجاد بقايا مثل تلك الرؤية في بعض عناصر الماديسونية فقط، حيث استمرت في وثائق وسجلات الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مجادلات العدد الصغير نسبياً من الليبراليين الكلاسيكيين الموجود حالياً. ورغم هذا التقييم السلبي، والذي يمكن أن يبدو شاملاً إلى حد ما في اندفاعه للمصلحة العامة، إلا أنه قد توجد أسس لبعض التفاؤل السائد في الوقت الذي نتطلع فيه إلى المضي قدماً على نحو كافٍ إلى عصر ما بعد الثورة، وعلى الأخص إلى القرن المقبل.
مما لا شك فيه أن للأفكار عواقب، ولقد عشنا مع عواقب أفكار زائفة لقرابة قرنين من الزمن، وهي فترة طويلة جداً، لدرجة لا يمكننا أن نتوقع معها أن تحدث أية تغييرات بحلول أوائل التسعينيات. بيد أن العواقب، أو الأحداث نوعاً ما، تتغذى بشكل راجع على الأفكار، وبعد الثورات غير المتوقعة لأعوام 1989-1991، فلا بد وأنها برهنت أنه من الصعب المحافظة بشكل متزايد على الصورة الرومانسية لدولة معطاءة وقادرة. إن نظريات الفشل السياسي، التي قدمها بشكل هزيل الليبراليون الكلاسيكيون خلال فترة السيطرة الاشتراكية، والتي قوبلت بالازدراء والسخرية فقط، أثبت التاريخ بشأنها، فيما اعتبر على الأرجح أنها أعظم التجارب في العلوم الاجتماعية. وما لم يتملكنا اليأس تماماً من قدرة بني البشر على القيام بفعل عقلاني، علينا أن نتوقع أنه في فترة ما من قرن ما بعد الاشتراكية، سيبدي الرجال والنساء قدرات دستورية بناءة من الصعب تخيلها في الوقت الحاضر.
وبهذا المعنى، يُعتبر فرانسيس فوكوياما (1992) على حق بالتأكيد. أطلِق عليها ما يمكن أن يسميها المرء سمة تاريخية إلى حد ما، انتهت بشكل فاعل مع ثورات الأعوام 1989-1991. كما أصاب فوكوياما الحقيقة في إشارته إلى أن علم الاقتصاد الذي يوضح كيف يعمل اقتصاد السوق بشكل مستقل عن التوجيه والسيطرة المصبوغين بصبغة سياسية لينتج أكبر حزمة من السلع والخدمات المتوفرة ضمن قيود الموارد المتاحة تمت تبرئته أخيراً. ولكن، هل كان فوكوياما على حق أيضاً عندما تنبأ أن هذه النتيجة العلمية سيتم دمجها في الإصلاح المؤسسي-الدستوري؟ ولكي نتفق معه هنا، ربما علينا أن نفكر إلى ما هو أبعد من أفق عدد قليل من العقود المقبلة.
وكبداية، ربما من المفيد أن نوسع إدراكنا المتأخر ليشمل عهد ما قبل الرومانسية وما قبل الاشتراكية، إلى القرن الثامن عشر، ونحاول أن نلتقط من جديد الفهم الدستوري الذي أثار إلى حد كبير الفلاسفة، فضلاً عن السياسيين. وإلى أن، وما لم، يتم تحقيق مثل هذا التغيير في الذهنية المعاصرة بطريقة ما، فإن جميع جهود الحوار الدستوري الرامية إلى الإصلاح الأساسي ستضيع هباءً بلا شك. فالحكومات، بغض النظر عن درجة تنظيمها، ستبقى طليقة أساسياً، وسيستمر السياسيون البيروقراطيون في تسهيل الاستغلال المتبادل لكل منهم من قبل الجميع، في “حالة من الاضطراب والهيجان” الخاصة بأنثوني دي جاساي (1985). فالاقتصادات سوف تتعثر، ومن المحتمل بشكل متزايد أن تختفي المنتجات التي تحمل قيمة إلى “ثقب أسود” لما كان يمكن أن تكون عليه الحال (مكجي، بروك، ويانغ 1989).
النظام الدستوري لليبرالية الكلاسيكية
كان الليبراليون الكلاسيكيون في القرن الثامن عشر، سواء ممثلين بأعضاء التنوير الاسكتلندي، أو بالآباء المؤسسين الأمريكيين، شديدي التشكك في قدرة ورغبة السياسة والسياسيين في تعزيز مصالح المواطن العادي. وكانت الحكومات تعتبر شراً ضرورياً، ومؤسسات ينبغي الحماية منها، لكنها جعلت ضرورية نتيجة الحقيقة المبدئية بأن ليس كل الأشخاص ملائكة (ماديسون 1966 [1787]: 160). ولم يكن يتوجب الثقة بالحكومات، وبالأشخاص المكلفين كوكلاء لسلطتها، وكانت الدساتير ضرورية، وبشكل أساسي كوسيلة لتقييد السلطة الجماعية بجميع امتداداتها المحتملة. وكانت سلطة الدولة شيئاً يخشى منه الليبراليون الكلاسيكيون، وكان يُعتقَد أن مشكلة التصميم الدستوري تكمن في أن مثل هذه السلطة يمكن أن تكون محدودة جداً.
إن الوسائل لإنجاز هذا الهدف وسائل مألوفة. فالسيادة تم توزيعها بين عدة مستويات من السلطة الجماعية، وكانت الفيدرالية ترمي إلى السماح بعدم تركيز أو عدم مركزية سلطة الدولة القاهرة. وعلى كل صعيد للسلطة، تم وضع فروع وظيفية منفصلة للحكومة، وبشكل مدروس، في تواتر مستمر، الواحد مع الآخر. وفي بعض الكيانات، تم تقييد الفرع التشريعي المهيمن بواسطة المؤسسة الدستورية المكونة من كيانين، كل منهما منظَّم كمبدأ مستقل للتمثيل.
من المهم أن ندرك أن هذه العناصر البنيوية-الإجرائية الأساسية للدساتير السياسية قد تم تصميمها ومناقشتها، ووضعها موضع التنفيذ، من قبل ليبراليين كلاسيكيين في سياق هدف أو غرض مشترك، وهو ضبط أو تقييد السلطة القاهرة للدولة إزاء الأفراد. ولم تكن القوة المحركة لجعل الحكومة تعمل بشكل أفضل في تحقيق “السلع العامة” المختارة اعتباطاً، ولا في ضمان أن تحظى كل المصالح “بتمثيل أكثر اكتمالاً”.
وكانت العناصر البنيوية-الإجرائية للدستور الليبرالي الكلاسيكي، وتلك المذكورة أعلاه وغيرها، تعتبر أقل أهمية من تلك النصوص التي وضعت مدى ونطاق النشاطات التي تقوم بها السلطة الجماعية على نحو مناسب. ويعني هذا القول أن التعليمات الدستورية بالنسبة لما قد تقوم به الحكومات، أو لا تقوم به، كانت دائماً تعتبر أهم بكثير من كيفية قيام الحكومة بأي عمل، مثلما تفعل في الواقع. وقد غاب هذا الفارق المهم الذي كان مركزياً للمفهوم الليبرالي الكلاسيكي للنظام الاجتماعي عن الوعي العام خلال صعود الديمقراطية الانتخابية، خصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكان هنالك قبول عام للمغالطة التي كانت مكافئة لظهور الديمقراطية الانتخابية مع حاجة متضائلة لقيود دستورية جلية على مدى ونطاق النشاط الحكومي.
وفي النظام الدستوري الليبرالي الكلاسيكي، فإن أنشطة الحكومة، بغض النظر عن كيفية اختيار اللاعبين، تقتصر وظيفياً على مدارات التفاعل الاجتماعي، فقد كانت الحكومات، مثالياً، ستُمنع دستورياً من القيام بعمل مباشر يرمي إلى “تنفيذ” أية وظيفة من الوظائف الاقتصادية الأساسية العديدة: (1) وضع نطاق القيمة؛ (2) تنظيم الإنتاج؛ (3) توزيع المنتجات. وكان يتوجب القيام بهذه الوظائف خارج الهدف الواعي لأي شخص أو وكالة، وكانت تتم من خلال إدارة الأعمال اللامركزية لكثير من المشاركين في السلطة الاقتصادية المترابطة، كما تنسقها الأسواق، ومن خلال إطار “القوانين والمؤسسات” التي تم الإبقاء عليها وتطبيقها بشكل مناسب من قبل الحكومة.
ودور المحافظة على الإطار هذا، المعيَّن على نحو ملائم للحكومة في النظام الليبرالي الكلاسيكي، اشتمل على حماية الملكية، وتطبيق العقود الطوعية، والضمانة الفاعلة للدخول إلى والخروج من الصناعات، والتجارة، والمهن، والانفتاح المؤكد للأسواق الداخلية والخارجية، ومنع الاحتيال في المقابل. وكان يؤخذ بعين الاعتبار أن دور الإطار هذا للحكومة يشمل تأسيس معيار نقدي، وبطريقة تضمن قابلية توقُّع قيمة الوحدة النقدية المعينة (وعند تولي هذه المسؤولية النقدية بالتحديد، فشلت جميع الدساتير تقريباً، حتى تلك التي زُعم أن المبادئ الليبرالية الكلاسيكية حفزتها في الأصل، إذ تحركت الحكومات عبر التاريخ دائما على الأغلب إلى أبعد من حدود سلطتها النقدية المسموحة دستورياً).
وهناك مبدأ رئيسي متأصل في الدستور الليبرالي الكلاسيكي يملي بأنه، بغض النظر عما تفعله الحكومة، وسواء كانت الأنشطة الجماعية محتواة ضمن الحدود المشار إليها أم لا، يجب معاملة جميع الأشخاص والمجموعات بالتساوي. وكان يجب تمديد عمومية المبدأ المطبق على القانون، ليشمل السياسة أيضاً. ولم يكن هنالك دور للفعل الحكومي الذي يفرق بصراحة بين كافة الفرقاء المنفصلين، أو فئات الأشخاص. وفي المفهوم الليبرالي الكلاسيكي، لا تستطيع تحالفات الأغلبية الناجحة أن تفرض ضرائب مميزة على أفراد الأقلية السياسية، حتى لو كان ذلك لأهداف “المصلحة العامة” (بيوكانن 1992).
النظام الدستوري للاشتراكية
لم تحصل الرؤية الليبرالية الكلاسيكية للنظام الدستوري على انتشار جماهيري وقبول فلسفي واسع، لأكثر من عدة عقود من الزمن امتدت في الفترة بين القرنين الثامن والتاسع عشر. وإلى حد ما، كان سبب رد الفعل ضد هذه الرؤية هو تعصب أولئك المؤيدين الذين وسعوا مبدأ “دعه يعمل” الرئيسي بحماس مفرط، حتى في رفضهم لدور جماعي-حكومي في وضع معايير للتفاعل الاقتصادي. ولكن، من ناحية مبدئية، نبع رد الفعل ضد الليبرالية الكلاسيكية من عدم الرغبة العامة للمشاركين في الجسم السياسي بقبول النتائج التلقائية المخصصة والموزعة التي نشأت في خضم عملية اقتصاد السوق. لم يتم النظر إلى هذه النتائج على أنها “طبيعية”، ولم يتم فهمها على أنها كانت من صنع كافة الخيارات المنفصلة المعقدة التي اتخذها أشخاص لديهم قدرات عديدة. وتم النظر إلى نتائج عملية السوق على أنها “اصطناعية”—أي تم إنتاجها بدلاً من أن تبرز آلياً، وهي بناء على ذلك عرضة للتلاعب المباشر، والتغيير، وإعادة التوجيه من قبل عمل جماعي تم إضفاء الصفة السياسية عليه.
لقد تم تحفيز وإذكاء رد الفعل المضاد لليبرالية الكلاسيكية من قبل عاملين منفصلين تحديداً. أولاً، تكمن عبقرية كارل ماركس في قدرته على عزل، وتحديد، وإعلان تلك العناصر في رأسمالية عملية السوق التي بدت عرضة على الأغلب للانتقاد، على الأخص في السياق الفكري للنظرية الاقتصادية الكلاسيكية غير المكتملة، إلى جانب الفوضى المنتشرة فيما يتعلق بالتمييز بين العمليات الدستورية ودستورية الحكومات. وركز ماركس على هشاشة الرأسمالية أمام الأزمات المالية، وعلى ميلها للتمركزية (الاحتكار) في الصناعة، وعلى الاستغلال المدمر المزعوم للبروليتاريا (طبقة العمال). ثانياً، لقد استخدم المثاليون السياسيون ولقرون عدة ضمنياً نماذج من الدولة تنطوي على النزعة الافتراضية إلى الخير، وبإدراك تام. ويمكن تصويب أية إخفاقات للأسواق بموجب هذا الافتراض للمجموعة المثالية بالكامل عن طريق عمل سياسي موجه. لقد عمل النقد الماركسي المعمم إلى جانب افتراض الإدارة السياسية المثالية على تدمير الأساس الفكري العلمي الذي تم بناؤه لتبرير النظام الدستوري الليبرالي الكلاسيكي.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، برزت رؤية من نوع ما لنظام اشتراكي ولفتت، بدرجات متفاوتة من الحماس، أذهان الأشخاص في جميع المجتمعات المتقدمة، وحتى في تلك المجتمعات التي كانت فيها الماركسية قادرة على الحصول على دعم مباشر بسيط نسبياً. وفي جوهرها، رفضت الرؤية الاشتراكية بشكل مطلق المفهوم الليبرالي الكلاسيكي للاقتصاد الذاتي التنظيم الذي يعمل ضمن مجموعة من الحدود الدستورية التي تنفذها الحكومة والتي بدورها مقيدة بنفسها إلى حد كبير، إن لم يكن بشكل كامل، بالدور التطبيقي والتنفيذي. وإذا تم رفض الاقتصاد ذاتي التنظيم، أو الذي لا يحمل صبغة سياسية، بصفته المبدأ النظامي الأساسي، فإن الاقتصاد المضبوط أو المنظَّم يصبح عنصراً أساسياً من أي نموذج بديل للمنظومة الاجتماعية. وهذا التحول من نموذج الاقتصاد ذاتي التنظيم إلى اقتصاد مضبوط أو منظَّم يمكن أن يكون، ولكن ليس ضرورياً، متصلاً بشكل مباشر بقضايا تتعلق بالتغييرات البنيوية-الإجرائية التي تنطوي على طرق ووسائل تم بواسطتها اختيار وكلاء ووكالات الإدارة، إلى جانب الأوامر الدستورية المتعلقة بكيفية أداء وظائف السيطرة والتنظيم.
والنظام الدستوري الاشتراكي، سواء يتم تحديده لدى تطبيقه على حزب واحد، أو نظام استبدادي معين ذاتياً، أو أغلبية برلمانية ديمقراطية اشتراكية، يوسع بالضرورة مدى ونطاق الصبغة السياسية إلى أبعد من الحدود التي تم تحديدها على نطاق ضيق للسلطة الجماعية في ظل النظام الليبرالي الكلاسيكي. فإذا كان الاقتصاد برمته مفتوحاً للسيطرة والتنظيم “في سبيل المصلحة العامة”، فيمكن أن يكون هناك، في ظل هذا التحديد، قيداً دستورياً بسيطاً، أو غير سابق، على تحديد ما هي تلك المصلحة من جانب أولئك الوكلاء والوكالات المكلفون بمسؤولية تخصيص وتوزيع النتائج. في حين أن الحكومات في النظام الدستوري الليبرالي الكلاسيكي لديها مسؤولية محدودة إزاء النتائج التي تبرز من التفاعل بين الأشخاص ذوي القدرات العديدة، فإن الحكومات في النظام الدستوري الاشتراكي تتولى المسؤولية الكاملة أو الإجمالية إزاء جميع النتائج، بما فيها حجم، ومكونات، وتوزيع “حزمة القيم” التي تولدت من النظام برمته. وهذه المسؤولية المطلقة تبقى مناطة بالحكومة حتى لو أتيح للسوق، كوسيلة للتنظيم، بالعمل دون توجيه دقيق إزاء مجالات واسعة من التفاعل. وفي النظام الاشتراكي للحكومات، فلا يوجد، ولا يمكن أن يوجد، ضمانات دستورية مقدمة إلى الممثلين الاقتصاديين، سواء كانوا أشخاصاً أو شركات، مقابل التدخلات المتولدة سياسياً في حرية التجارة، سواء كان ذلك هامشياً أو إجمالياً. وفي المعنى الأصلي، وبعد الرجوع إلى هيكل الاقتصاد، فإن التعبير بحد ذاته “الدستور الاشتراكي” متناقض. وفي أفضل الأحوال، يتضمن النظام الدستوري للاشتراكية قيوداً حول الإجراءات السياسية وسلوك الوكلاء السياسيين في تنفيذ هذه الإجراءات، ولا يمكنها أن تمتد لتشمل القيود على الصبغة السياسية للاقتصاد بالمثل.
وكما نعلم الآن، وكما علمنا من الثورات العظيمة في وسط وشرق أوروبا خلال الأعوام 1989-1991، بالإضافة إلى التجربة الجماعية التاريخية من مناطق أخرى من العالم، وكما أضافت إلى ذلك النقاشات التحليلية، فإن المبدأ الرئيسي للنظام الاشتراكي تشوبه العيوب بشكل مهلك وقد كان كذلك منذ بداية انتشاره. والافتراض أن التنظيم-السيطرة بالصبغة السياسية لعلاقات الاقتصاد بإمكانها—بل وسوف تولد حزمة كبيرة مرضية من السلع والخدمات بتقييم من المشاركين أنفسهم—ثبت أنه متجذر بالمغالطات. وفي المجمل، لم تنجح التجارب الاشتراكية العظيمة لهذا القرن، كما أن الأشكال المحسنة لهذه التجارب لن تنجح أيضاً بالنظر إلى القيود الدافعية، والمعرفية، والتصورية لبني البشر. ويسود الآن قبول عام للاقتراح بأن منظومة اقتصاد السوق فقط، والتي تستغل القدرات البشرية، يمكنها أن تنتج تراكماً ملائماً مقبولاً للقيمة الاقتصادية.
التناقض الدستوري لفترة ما بعد الاشتراكية
إن مجموعة المواقف العامة، والمهنية، والسياسية، والفلسفية التي تبدو أكثر وصفاً للسنوات التي تلت مباشرة فترة ما بعد الاشتراكية خلال أعوام التسعينيات متناقضة داخلياً. فالرؤية الاشتراكية للسيطرة-التنظيم بصبغة سياسية للتفاعل الاقتصادي لم تغادر بأي حال من الأحوال الذهنية الحديثة، رغم الدليل الذي أبرزه المنطق أو التاريخ. فالاعتقاد أن الأشخاص، عندما يعملون معاً من خلال عضويتهم في الجماعة، باستطاعتهم بكفاءة “تحسين” نتائج عمليات السوق المتولدة تلقائياً، بقيت مخزنة في النفسية الحديثة. ورغم القوة الساحقة للدليل، ورغم الحجة الداعمة، لا يستطيع الأفراد الإذعان فوراً للحالة التي أشار إليها واقع ما بعد الاشتراكية. إذ أن رومانسية الاشتراكية، والتي تعتمد على كلٍ من السياسة المثالية، ومجموعة من الافتراضات الضمنية السلوكية المستحيلة، لم تختفِ بعد. ولن نستطيع أن نجزم بعيداً عن التوقعات المستقبلية ما إذا كانت الرومانسية ستتلاشى في الواقع، في الوقت الذي نتخطى فيه اضطرابات ما بعد ثورة أعوام التسعينيات ونمضي إلى القرن المقبل. وهناك عدة أسئلة يمكن طرحها: هل ستنتصر الحقيقة في النهاية على الرومانسية؟ وهل سيعود النظام الدستوري لليبرالية الكلاسيكية بشكل ما، ويلقى قبولاً على أنه النظام الوحيد الذي يجمع بين الحرية الشخصية والازدهار الاقتصادي؟ وهل أن اهتمام العامة في النمو الاقتصادي المتراكم، وفي التقدم الاقتصادي بحد ذاته، سيحقق المطلوب ويتم عكسه في إصلاحات دستورية أصلية؟ أم هل نتوقع بروز إيديولوجية جديدة من نوع ما ستقدم العون المتجدد للصورة الرومانسية للمثالية الجماعية؟ وبدون بروز مثل تلك الإيديولوجية، هل بإمكاننا أن نتوقع الإذعان العام للسيطرة الاستبدادية على السلطة؟ وبدون وجود مكافئ للصراع الطبقي الماركسي، بصفته دعامة أيديولوجية ترفع الشعارات، هل يستطيع السياسيون تفادي النقد المتشكك من جانب العامة، حتى لو كان هنالك فهم بسيط لوظائف السوق؟ وهل من المحتمل أن تظهر معرفة ضمنية من نوع ما للدستورية بصفتها مناهج القرن الحادي والعشرين؟
إن سياسة بلدي، الولايات المتحدة الأمريكية، في عام 1993 لا توفر أساساً كبيراً للتفاؤل قصير الأجل المتمثل في إجابة ضمنية على هذه الأسئلة. والخطاب البلاغي حول صراع الطبقات يستخدم الآن لتوليد الدعم من أجل توسيع القطاع الحكومي من الاقتصاد المنتفخ فعلياً، والشكوك المؤقتة حول أعوام الثمانينيات حول فعالية الجهود التنظيمية تبدو وكأنها استبدلت بالرجوع إلى علاجات مضى عليها نصف قرن من الزمن. إن “الاشتراكية على النطاق الصغير” على طريق الهيمنة، كما لو أن زوال “الاشتراكية على النطاق الكبير” ليس له علاقة. ويُزعَم أن السياسة التي رمت إلى “إجراء تحسينات” على نتائج عمليات السوق قادرة على النجاح، رغم أعمال نفس تناقضات الحوافز، ومحدودية المعرفة، وإغفال روح المغامرة التي أنتجت خلفية الثورات الكبرى لأعوام 1989-1991.
وكما أشرنا سابقاً، إذا أردنا أن نجد أسساً للأمل الدستوري، فربما من الضروري أن نمد أبصارنا، من حيث الوقت والمكان. ويجب أن نتذكر إصرار كينز على التأثير بعيد المدى للأفكار. ربما أن فترة ما بعد الاشتراكية قصيرة جداً بالنسبة لنا ببساطة، لكي نتوقع التغيرات في المواقف العامة والسياسية، وعلى وجه الخصوص في تلك المجتمعات التي لم تختبر بذاتها الجَيَشان الثوري. وربما أن أي إحياء لليبرالية الكلاسيكية من جديد يجب توقع حدوثه في تلك المجتمعات التي لم تعاني بالفعل من الثورات، وربما في تلك المجتمعات فقط كان هناك فقدان كافٍ للثقة في السياسة والسياسيين، ليسمح بإعادة بناء، من نوع ما، لأفكار القرن الثامن عشر للنظام الدستوري. ويبدو أن توقعاً واحداً فقط آمن هنا، وهو أن المشهد الدستوري للقرن المقبل سيكون مفاجئاً.
خــاتمــة
لقد ناقشتُ باختصار فقط المجموعة الكاملة للقضايا الدستورية التي تتعلق بالبدائل البنيوية والإجرائية للإدارة الرشيدة. ولم أناقش قضايا مثل الجمهورية مقابل الشكل البرلماني للحكومة؛ والتمثيل النسبي مقابل النظام الذي يضم حزبين؛ والفيدرالية الفعالة مقابل المركزية السياسية. بيد أن إهمالي لهذه القضايا كان متعمداً تماماً. إذ أن جميع هذه المسائل التنظيمية-الإجرائية تصبح غير ذات أهمية بالمقارنة مع التحدي الدستوري لوضع القيود على سلطة الحكومة إزاء العملية الاقتصادية. وإلى أن، وما لم، يتم تقييد الحكومة بشدة فيما يتعلق بتجاوزاتها الاقتصادية عن طريق المبادئ الليبرالية الكلاسيكية—نوعاً ما—بما فيها مبدأ العمومية، فعاجلاً أم آجلاً ستصبح الاختيارات المحددة التي اتخذت بين البدائل البنيوية والإجرائية غير مهمة نسبياً.
وبإمكان الأغلبية البرلمانية المنتخبة ديمقراطياً، والمغروسة بأفكار ورؤى اشتراكية، أن تدمر القيمة المحتملة التي يمكن أن تتأتى من اقتصاد سوقٍ حر، بقدر ما يمكن أن تفعل ذلك، أو أكثر، أنشطة النظام الاستبدادي. وبحسب النطاق الذي تستطيع من خلاله القيود الدستورية أن تقيّد الحكومات بفاعلية بسلطاتها التنظيمية، والمالية، والضريبية، عندها يحتل الشكل الدستوري للإدارة الرشيدة بذاته المرتبة الثانية. وبحسب النطاق الذي تستطيع من خلاله أن تبقى سلطات الحكومة دون حدود وغير مقيدة، يبدو عندها أن لأشكال الحكومة أهمية. ولكن ضمن معنى نهائي من نوع ما، فإن السياسة الممتدة إلى حد مفرط ستفشل بالتأكيد، بغض النظر عن الخصائص الهيكلية.
وفي جميع البلدان تقريباً، فإن الحوار والنقاش المستمر يتركز على تأسيس، وصيانة، والمحافظة على “الديمقراطية الدستورية”. ويمكن تلخيص حجتي الرئيسية في أن العبارة “الدستورية” هي العبارة المهمة جداً بين العبارتين السابقتين. فالازدهار أو التقدم الاقتصادي، محسوباً في القيمة المنتجة والمستهلكة، يمكن أن يحدث فقط في أوضاع تكون فيها أنشطة الحكومة مقيَّدة دستورياً، وبشكل مستقل عن كيفية اختيار وكلاء الحكومة.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 28 كانون الأول 2006.