رونالد كوز

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

أود أن أبحث في هذا المقال مسألة كيفية تحديد الأسعار في ظروف تراجع معدل التكاليف. وأود، على وجه الخصوص، مناقشة إجابة واحدة لهذا السؤال وهي الإجابة التي أصبحت في هذه الأيام مألوفة لمعظم الاقتصاديين والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي:

1. ينبغي أن تكون القيمة المدفوعة مقابل كل وحدة من المنتج مساوية لتكلفة الهامش.
2. وحيث أنه عند تراجع معدل التكاليف تكون تكلفة الهامش أقل من معدل التكاليف، فإن المبلغ الإجمالي المدفوع ثمناً للمنتج سيكون أقل من التكاليف الكلية.
3. المبلغ الذي تتجاوز به التكاليف الكلية المبالغ المستلمة (الخسارة كما تسمى أحياناً) ينبغي أن تسجل كدين على الحكومة وينبغي تنزيلها من الضريبة.

يدعم هذه النظرية كل من البروفيسور هوتلينغ، والبروفيسور ليرنر، والاقتصاديين ميد وفليمنغ. وقد أثارت هذه النظرية اهتماماً واسعاً واتخذت مكاناً لها بالفعل في بعض الكتب الدراسية الجامعية واقتصاديات المرافق العامة. بيد أنه وبالرغم من أهمية تطبيقاتها العملية، وطبيعتها المتناقضة ظاهرياً، وحقيقة أن هناك اقتصاديين عديدين يعتبرونها غير صحيحة، فإنها لم تتعرض حتى الآن سوى للقليل من النقد.

ربما كانت مجرد كمية الأدبيات التي حبذت هذا الحل وقلة كمية النقد السلبي نسبياً هي ما أدت بفليمنغ للادعاء بأنه حل “ليس، في اعتقادي، مفتوحاً لنقدٍ جاد” وللتحسر على حقيقة أنه لم يكن مفهوماً ومقبولاً على نطاق واسع “خارج الأوساط الضيقة للاقتصاديين”. إلا أن حلاً مختلفاً أعتقد أنه هو الصحيح من حيث الأسس التي يقوم عليها كان قد تم طرحه أصلاً من قبل الاقتصادي بين، عام 1937، ومن قبل البروفيسور كليمنز عام 1941. وقد كتبتُ في عام 1945 ملاحظة صغيرة انتقدت فيها الحل المطروح من قبل ميد وفليمنغ، كما أكدت أخرى كتبها ويلسون، حقيقة أنه لم يكن قد تم التوصل بعد إلى اتفاق في أوساط الاقتصاديين حول ذلك. والآن اقترح إخضاع حل هوتلينغ/ليرنر، كما أريد أن أسميه، لفحص أكثر تفصيلاً وللإشارة إلى نقاط الخلل الجوهرية التي أعتقد أنه يتضمنها.

عزل المشكلة على حدة

إن أي حالة اقتصادية هي معقدة بطبيعتها وليس هناك مشكلة اقتصادية منعزلة لوحدها. تبعاً لذلك، يحدث كثير من التشويش لأن الاقتصاديين الذين يتعاملون مع حالة حقيقية إنما يحاولون حل مشاكل عدة في وقت واحد. أعتقد أن ذلك يصدق أيضاً على المسألة التي أبحثها في هذا المقال.

المشكلة المركزية تتعلق باختلاف بين متوسط التكاليف وتكاليف الهامش. إلا أنه، وفي أي حالة حقيقية، تبرز هناك عادة مشكلتان أخريان: أولاً، إن بعض التكاليف معروفة لدى أعداد من المستهلكين وأي اعتبار لوجهة النظر القائلة بأنه يجب تحميل التكاليف الإضافية للمستهلكين يثير السؤال فيما إذا كان هناك أي منهج منطقي يمكن بواسطته توزيع هذه التكاليف المشتركة بين المستهلكين. ثانياً، إن العديد مما يسمى التكاليف الثابتة هي في الواقع أموال تم تخصيصها في السابق لعوامل معينة تعتبر العودة لها حالياً نوعاً من الريع، والنظر فيما يجب أن تكون عليه العودة لعوامل كهذه (لاكتشاف مجمل التكاليف) يثير مشاكل إضافية شديدة التعقيد. هاتان، في اعتقادي، هما المشكلتان الأخريان اللتان تتواجدان عادة معاً في مسألة الاختلاف بين متوسط التكاليف وتكاليف الهامش. إلا أنهما مسألتان منفصلتان أو، على الأقل، قابلتان للفصل. من هنا، فإن المثال الذي استخدمه البروفيسور هوتلينغ “مشكلة التسعير في حالة جسر مروري”، هو في الواقع حالة معقدة للغاية وليس الحالة البسيطة التي تبدو ظاهرة على السطح.

أقترح، في سبيل عزل السؤال مدار البحث، فحص مثال تُنسب فيه، رغم وجود اختلاف بين متوسط التكاليف وتكاليف الهامش، جميع التكاليف لمستهلكين أفراداً؛ والذي تمت فيه جميع التكاليف حالياً؛ والذي، تجنباً لمزيد من التعقيدات التي قد تزعج بعض القرّاء بخصوص معنى تكاليف الهامش، تكون فيه جميع العوامل متوفرة بمرونة.

لنفترض أن المستهلكين متواجدون في سوق مركزي يتوفر فيه مُنتجٌ معين بأسعار ثابتة. لنفترض أن هناك طرقاً تنطلق من السوق ولكن كل طريق تمر بمستهلك واحد فقط للمُنتج. لنفترض أيضاً أن بوسع المرء أن يحمل وحدات إضافية من المُنتج في كل رحلة دون تكلفة إضافية (على الأقل إلى نقطة تتعدى حدود استهلاك أي مستهلك فرد)(1). لنفترض أيضاً أن المنتج يباع في نقطة الاستهلاك. من الواضح أن تكلفة تزويد كل مستهلك فرد ستكون هي تكلفة الناقل إضافة لتكلفة السوق المركزي لعدد الوحدات المستهلكة من قبل ذلك المستهلك المحدد للمُنتَج. تكلفة الهامش هنا ستكون مساوية لتكلفة وحدة من المنتج في السوق المركزي. متوسط التكاليف سيكون أعلى من تكلفة الهامش، ثم يأخذ بالانخفاض لأن تكلفة الناقل قد توزعت على عدد متزايد من الوحدات(2). يُفترض أن حل هوتلينغ/ليرنر هو أن المبلغ الذي ينبغي أن يدفعه المستهلكون لكل وحدة من المنتج ينبغي أن يكون مساوياً فقط لتكلفة الهامش. نتيجة ذلك ستكون أن يدفع المستهلكون تكلفة المنتج في السوق المركزي وأن تتحمل الحكومة، أو بالأحرى دافعو الضرائب، تكلفة النقل. أريد أن أفحص مدى صحة هذا الحل، ولكن من الضروري قبل ذلك التحول إلى التفكير في نقاط جوهرية.

ما هو التسعير المثالي؟

نظام التسعير، في مفهومي، هو نظام يكون فيه للمستهلكين الأفراد سيطرة على مبالغ مختلفة من المال يستخدمونها للحصول على سلع وخدمات عن طريق إنفاق هذه المبالغ وفقاً لنظام أسعار. ليس هذا النظام بالطبع هو وحده النظام الذي يتم بموجبه تخصيص السلع والخدمات أو، بدقة أكثر، استخدام عوامل الإنتاج بين المستهلكين. قد تتمكن الحكومة من اتخاذ قرار بصدد ما الذي يجب إنتاجه وتخصيص السلع والخدمات للمستهلكين مباشرة. ولكن هناك سلبيات لهذا الأسلوب مقارنة بنظام تسعير. ليس بوسع أي حكومة التمييز بأي نوع من التفصيل بين الأذواق المتنوعة للمستهلكين الأفراد (وهذا هو السبب، بالطبع، في تبني نظام “نقاط” عند تخصيص الحصص التموينية في أوقات الحروب). إذا لم يكن هناك نظام تسعير، فلن يكون هناك دليل مفيد حول أفضليات المستهلكين. إضافة لذلك، فرغم أن نظام التسعير يحمّل المستهلكين والشركات تكاليف تسويق إضافية، فإن هذه التكاليف قد تكون في الواقع أقل من تكاليف التنظيم التي، خلافاً لذلك، ستتحملها الحكومة. هذه هي الأسباب التي قد تدفع بحكومة مستنيرة لتبني نظام تسعير—وسنرى لاحقاً أن لذلك صلة بالمشكلة التي نحن بصددها.

إذا تقرر استخدام نظام تسعير، فهناك مشكلتان رئيسيتان يتوجب إيجاد حل لهما. المشكلة الأولى مقدار المال الذي ينبغي أن يتوفر لكل مستهلك فرد—مشكلة التوزيع المثالي للدخل والثروة. المشكلة الثانية هي، ما هو النظام الذي سيكون عليه التسعير وفقاً لنوعية السلع والخدمات التي سيتم توفيرها للمستهلكين—مشكلة النظام المثالي للأسعار. ما يعنيني في هذا المقال هو المشكلة الثانية من هاتين المشكلتين، فالمشكلة الأولى هي جزئياً، وليس كلياً، مشكلة أخلاق. ولكن من الضروري إدراك أن هاتين المشكلتين موجودتان وأن من الضروري إيجاد حل لكليهما إذا كان لنظام تسعيرٍ أن يحقق نتائج مرضية. حيث أن في هذا الفصل أتعامل مع المشكلة الثانية فقط من هاتين المشكلتين، فسأفترض بأن توزيع الدخل والثروة يتم بصورة مثالية.

نظام الأسعار يمثل، بالنسبة للمستهلك الفرد، الشروط التي يستطيع بموجبها الحصول على مختلف السلع والخدمات. ما هي المبادئ التي ينبغي اعتمادها لتحديد الأسعار؟ تبدو المسألة الأولى (الشروط) أنه بالنسبة لكل مستهلك فرد ينبغي أن يكون لنفس العامل نفس السعر بصرف النظر عن الكيفية التي تم استخدامه بها، حيث أنه بعكس ذلك فإن المستهلكين لن يكون بوسعهم الاختيار بصورة منطقية، وعلى أساس السعر، نوع الاستخدام الذي يفضلونه لعامل معين. المسألة الثانية (المبادئ) تبدو بأنه ينبغي أن يكون سعر عاملٍ ما هو نفسه لجميع المستهلكين، لأنه بعكس ذلك سيحصل مستهلك واحد على المزيد مقابل نفس المبلغ من المال الذي دفعه مستهلك آخر. إذا تم تحقيق التوزيع المثالي للدخل والثروة، فإن تحديد أسعار مختلفة لنفس العامل لمستهلكين مختلفين سيكون من شأنه الإخلال بمبدأ التوزيع. إن تطبيقاً أكثر براعة لهذا المبدأ الثاني يقضي بتحديد السعر بحيث يسمح بأن تكون العوامل من نصيب أعلى المزاودين. أي، بعبارة أخرى، أن السعر يجب أن يكون ذلك الذي يوازن العرض والطلب وينبغي أن يكون هو نفسه لجميع المستهلكين وفي جميع الاستخدامات. هذا يعني أن السعر المدفوع لمنتجٍ ما ينبغي أن يكون مساوياً لقيمة العوامل المستخدمة في إنتاجه في استخدامٍ آخر أو لغرض استخدامٍ آخر. إلا أن قيمة العوامل المستخدمة في إنتاج منتجٍ ما في استخدامٍ آخر أو لغرض استخدامٍ آخر هي تكلفة المنتج. هذا يؤدي بنا، تبعاً لذلك، إلى الاستنتاج المألوف، ولكن المهم، وهو أن القيمة المدفوعة لمنتج ما ينبغي أن تكون مساوية لتكلفته. هذا المبدأ هو الذي سيمكننا من بحث مشاكل التسعير الفردي دون أن نتتبع عبر النظام الاقتصادي بكامله جميع التغيرات التي تترتب على تغيير سعرٍ مفرد.

جدلية التسعير متعدد الجوانب

كيف تنطبق هذه الجدلية العامة حول تحديد الأسعار على أساس التكاليف على الحالة التي نحن بصددها—حالة تخفيض معدل التكلفة؟ يبدو أن الكتّاب الذين أقوم بدراسة وجهات نظرهم يفترضون بأن البدائل التي يواجهها المرء هي فرضُ سعرٍ مساوٍ لمعدل التكلفة (وفي هذه الحالة لا تحدث خسارة). بيد أن هناك احتمالاً ثالثاً—تسعير متعدد الجوانب. سأطرح في هذا الفصل جدلية التسعير متعدد الجوانب وعندما تتوفر حالة معدل تكلفة متناقص.

من الواضح أنه إذا لم يسمح للمستهلك بالحصول، مقابل تكلفة الهامش، على وحدات إضافية من المنتج الذي يجري إنتاجه في ظروف معدل تكلفة متناقص، فهذا يعني عدم السماح له بالاختيار بصورة معقولة بين إنفاق نقوده على استهلاك وحدات إضافية من المنتج وبين إنفاقها بطريقة أخرى، حيث أن المبلغ المطلوب منه إنفاقه للحصول على وحدات إضافية من المنتج يعكس قيمة العوامل في استخدامٍ آخر أو لغرض استخدامٍ آخر. إلا أنه يمكن، ولنفس السبب، المجادلة في أن على المستهلك أن يدفع قيمة التكلفة الكلية للمنتج. ليس على المستهلك أن يقرر فقط ما إذا كان سيستهلك وحدات إضافية من المنتج، بل عليه أن يقرر أيضاً ما إذا كان المنتج يستحق الاستهلاك أصلاً بدلاً من إنفاق نقوده في مجالٍ آخر. يمكن اكتشاف ذلك إذا طُلب من المستهلك دفع مبلغٍ مساوٍ لمجمل تكاليف تزويده بالمنتج، أي المبلغ الذي يعادل القيمة الكلية للعوامل المستخدمة في تزويده بالمنتج. لتطبيق هذه الجدلية على مثالنا، لا يتعين على المستهلك أن يدفع فقط تكاليف الحصول على وحدات إضافية من المنتج في السوق المركزي، بل عليه أيضاً أن يدفع تكاليف النقل. كيف يمكن أن يتم ذلك؟ الإجابة الواضحة هي أنه ينبغي جعل المستهلك يدفع مبلغاً لتغطية تكلفة النقل بينما يدفع مقابل الوحدات الإضافية تكلفة السلعة في السوق المركزي. نصل بالتالي إلى الاستنتاج بأن صيغة التسعير المناسبة هي نظام تسعير متعدد الجوانب (ثنائي الجوانب في الحالة التي نحن بصددها)، وهو نوع من التسعير معروف جيداً للطلاب المتخصصين في المرافق العامة وقد تمت الدعوة لتبنيه لنفس الأسباب التي طرحتها في هذا المقال.

وأعتقد الآن أن من الأهمية بمكان أن لا يكون أحد من المدافعين عن حل هوتلينغ/ ليرنر قد درس الاحتمالات الكامنة في تسعير متعدد الجوانب كحل للمشكلة التي تواجههم. فهم يكتبون كما لو أن الأسلوب الممكن والوحيد للتسعير هو فرض سعر واحد للوحدة الواحدة وأن المشكلة التي يتعين عليهم إيجاد حل لها هي ما هو هذا السعر. قد يكون مبرر عدم التفاتهم لدراسة نظام التسعير متعدد الجوانب هو أنهم كانوا على يقين من أنهم قد توصلوا حقاً إلى نظام التسعير المثالي. تبعاً لذلك، يجب علينا مقارنة نتائج تبني حل هوتلينغ/ليرنر مع الحلول التي تستخدم تسعيراً متعدد الجوانب.
التسعير متعدد الجوانب مقارنة بحل هوتلينغ/ليرنر

إن حل هوتلينغ/ليرنر في حالة تبنيه في مثال سيعني أن تكلفة السلع في السوق المركزي سيتم دفعها من قبل المستهلكين، ولكن تكلفة النقل سيتم تحميلها على الضريبة. إعتراضي على هذا الحل مقارنة مع تبني نظام تسعير ثنائي الجوانب يقع تحت ثلاثة عناوين: أولاً، أنه يؤدي إلى خلل في توزيع عوامل الإنتاج بين استخدامات متعددة. ثانياً، أنه يؤدي إلى إعادة توزيع الدخل، وثالثاً، أن الضريبة الإضافية المفروضة تنحو لإنتاج تأثيرات ضارة أخرى.

أولاً، قد يبدو أن حل هوتلينغ/ليرنر يزيد الوسائل التي يستخدمها الزبائن للتوصل إلى اختيار منطقي بين استخدام العوامل التي تدخل في كلفة النقل كوسيلة نقل أم لأغراض أخرى. في هذا الاستخدام، سيكون العامل مجانياً، بينما في استخدام آخر، سيتعين الدفع مقابله (شريطة أن يدخل في تكلفة الهامش). وعلى نحو مماثل، قد يعني هذا الحل أن المستهلكين سيختارون بين مواقع مختلفة دون الأخذ في الحسبان أن تكاليف النقل تختلف بين موقع وآخر.

الجواب الذي قد يعطيه مؤيدو حل هوتلينغ/ليرنر على هذا الاعتراض سيكون—فيما يبدو—بأنه ينبغي للحكومة أن تقدر بالنسبة لكل مستهلك فرد في مثالي ما إذا كان سيشتري المنتج والموقع الذي قد يفضله إذا كان عليه أن يدفع كامل قيمة التكاليف. فقط في حالة كون المستهلك مستعداً لدفع كامل تكلفة المنتج في موقع معين، سيتم توفير ذلك المنتج في ذلك الموقع وفقاً لخطة هوتلينغ/ليرنر. يشير البروفيسور هوتلينغ إلى أن اتخاذ قرار فيما إذا كان هناك ما يكفي من الطلب لتسويغ تكلفة بناء جسر “سيكون مسألة تقدير حجم حركة الآليات والمشاة التي تبدأ وتنتهي في مناطق معينة مع مقارنة المسافات باستخدام طرق بديلة في كل حالة وكتقييم للتوفير في كل صنف من الحركة”. إذا كان من الممكن إجراء تقييمات كهذه بتكلفة منخفضة، وبدقة جيدة ودون معرفة، بما كان قد حدث في الماضي عندما كان يتعين على المستهلكين دفع التكلفة الكلية، فإن هذا سيؤدي على الأرجح، في رأيي، ليس لتعديل نظام التسعير بل بالأحرى لإلغائه. نظام التسعير، كما أشرتُ سابقاً، هو أسلوب محدد لتخصيص استخدام عوامل الإنتاج بين المستهلكين، والحجج التي تساق لتبنيه تستمد قوتها الرئيسية من وجهة النظر القائلة بأن مسألة تقديرات الطلبات الفردية، من قبل أي حكومة، ستكون تقديرات غير دقيقة أبداً.

وينبغي ملاحظة أنه لا البروفيسور ليرنر ولا السيد ميد يرعيان كثيراً بدقة هذه التقديرات. الواقع أن البروفيسور ليرنر كان قد حاجج في أحد الفصول الأولى من كتابه حول نظام تقديرات يقوم بدقة على أساس أنه من المستحيل على أية حكومة إجراء تقديرات كهذه. وفي رأيي أيضاً أنه لا البروفيسور هوتلينغ ولا السيد ميد قد أوليا أهمية كافية لضرورة تصحيح التنبؤات التي تنشأ عن اختبار سوق لاحق حول ما إذا كان المستهلكون مستعدين لدفع التكلفة الكاملة للمنتج. كما أنهما لا يقران بأهمية المساعدة التي توفرها نتائج اختبار السوق لإتاحة الفرصة لإجراء تنبؤات أكثر دقة في المستقبل. ويقول البروفيسور هوتلينغ: “إن المدافعين عن النظرية الحالية القائلة بأنه يجب توفير النفقات الإدارية لصناعةٍ ما بمعزل عن مبيعات سلعها أو خدماتها يعتقدون بأن ذلك ضروري لكي نعرف فيما إذا كانت إقامة صناعة ما سياسةً اجتماعيةً حكيمة. ليس هناك ما هو أسخف من ذلك”. إن هذا، في رأيه، “سؤال تاريخي مثير للاهتمام”. ويضيف فيما بعد: “عندما يبرز السؤال حول بناء سكك جديدة أو صناعات كبيرة جديدة من أي نوع أو شطب صناعات قديمة، فإننا لن نواجه مشكلة تاريخية بل مشكلة اقتصادية دقيقة”.
لا يستطيع المرء أن يجد في أي جزء من مقال البروفيسور هوتلينغ إقراراً بحقيقة أنه سيكون من الأصعب اكتشاف ما إذا كان يتعين بناء سكك حديدية جديدة أو صناعات جديدة إذا لم يكن بوسع المرء أن يعرف ما إذا كان إنشاء صناعات أو سكك جديدة في الماضي كان سياسة اجتماعية حكيمة. وليس من السخف بالتأكيد أن يؤخذ في الحسبان أن القرارات يمكن على الأرجح أن تتخذ بصورة أفضل إذا كان هناك فيما بعد نوع من الاختبار حول ما إذا كانت قرارات كتلك هي سياسة اجتماعية حكيمة أكثر مما لو يتم اختبار كهذا.

من ناحيتي، لا أعتقد أن بوسع أي حكومة وضع تقديرات دقيقة حول الطلب الفردي في نظام ترتكز فيه جميع الأسعار إلى تكاليف الهامش. ولكن ربما كان من المفيد التفكير في ماذا يحتمل أن يحدث إذا حاولت حكومة ما تنفيذ سياسة هوتلينغ/ليرنر. لنأخذ في الاعتبار المثال الذي كنت أناقشه. لا بد من اعتبار مستهلكين معينين في فئة القادرين على شراء المنتج، ويتعين على الحكومة في هذه الحالة أن تتعهد بدفع أي تكاليف نقل نيابة عن هؤلاء المستهلكين. ستواجه الحكومة صعوبة في كيفية تحديد الأمور، فإذا تبنت وجهة نظر ضيقة حول الشروط المطلوبة من هؤلاء المسموح لهم باستهلاك هذا المنتج، فإن المستهلكين الذين يفضلون استخدام العامل الذي جرى توظيفه في نقل المنتج بهذه الطريقة سيحرمون من ذلك. من جهة أخرى، إذا تبنت الحكومة وجهة نظر أكثر ليبراليةً، فإن كثيرين سيجدون أنه لم يعد هناك ما يردعهم عن استهلاك المنتج أو السكن في مكان أبعد عن السوق المركزي بفضل تكلفة العامل المستخدم في النقل، أي بفضل قيمته في استخدامات أخرى أو لمستخدمٍ آخر. سيكون من الممكن بالطبع للحكومة أن تتبنى سياسة ليبرالية لطبقة من المستهلكين وسياسة ضيقة لطبقة أخرى في نفس الوقت. ليس من السهل التكهن بالسياسة التي يمكن أن تنتهجها حكومة ما، ولكن في بريطانيا أظن أن الحكومة ستنحو لارتكاب أخطاء في الجانب الليبرالي وأنه سيكون هناك تبعاً لذلك توظيف كبير جداً للعامل المستخدم في نقل المنتج.

بيد أنه حتى لو استطاعت الحكومة تقدير الطلب الفردي بدقة، فإن حل هوتلينغ/ليرنر سيواجه اعتراضاً آخر. يفترض في الحكومة أن تستطيع تقدير من هم المستهلكين الذين قد يكونون مستعدين لدفع تكلفة النقل (وسنفترض الآن أن تقديرها صحيح)، ولكنها في الواقع لا تطلب من هؤلاء المستهلكين دفع هذا المبلغ، وعندها يصبح هذا المبلغ متوفراً للمستهلكين لإنفاقه في مجالات أخرى. تبعاً لذلك، فإن المستهلكين الذين يشترون منتجات يتم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص، سيحصلون على منتجات مقابل أي إنفاق معين يحوي قيمة أكبر للعوامل من تلك التي لا تحوي قيمة كهذه. هذه إعادة توزيع للدخل لصالح مستهلكي السلع التي يتم إنتاجها في ظروف معدل تكلفة متناقص(3).

ليس هناك في اعتقادي مكان للجدل في أن ما يعادل إعادة توزيع للدخل هو ما يحدث في هذه الظروف. إلا أن البروفيسور هوتلينغ هو الوحيد من بين الكتّاب الذين أقوم بتفحص وجهات نظرهم الذي يتعامل بصورة واضحة مع هذه النقطة. بناءً على ذلك، أود أن أدرس الأسباب التي جعلته يعتقد بأن هذا الاعتراض ليس له قيمة جوهرية. قبل كل شيء، أعتقد أن البروفيسور هوتلينغ يعتبر هذا الاعتراض ليس بذي صلة إلى حد كبير لأن التوزيع الأساسي للدخل، على الأقل في الولايات المتحدة، ليس هو حقيقة التوزيع المثالي. هو لا يقول ذلك مباشرة، ولكنه واضح من خلال كامل مقاربته للموضوع. عندما يحاجج بأن الخسارة الناجمة عن تطبيقٍ لقاعدة تكلفة الهامش ينبغي تحميلها خارج ضرائب الدخل وضرائب الميراث والضرائب على القيمة الفعلية للأراضي، فإنه، في اعتقادي، إنما يفعل ذلك بصورة جزئية لاعتقاده بأن الأثرياء وملاك الأراضي يملكون أصلاً حصة كبيرة من الثروة الكلية والدخل الكلي. ولكن لماذا ينبغي لمستهلكي السلع التي يتم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص أن يكونوا هم الوحيدون الذين يستفيدون من إعادة التوزيع هذه؟ السبب الذي يجعل البروفيسور هوتلينغ لا يرى ضرراً كبيراً في استخدام سياسة تسعير باعتبارها، جزئياً، وسيلة لإعادة توزيع الدخل، هو، في اعتقادي، أنه لا يقيم وزناً للفرق بين مستهلكين لمنتجات تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص ومستهلكي منتجات تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة ثابت أو متزايد. وهو يحاجج بأن حكومة تقوم بتنفيذ سياساته ستقوم بتنفيذ أشغال عامة متنوعة للغاية… “إن توزيعاً عشوائياً تقريبياً سيكون كافياً جداً لضمان أن توزيعاً كهذا للفوائد سيجعل معظم الأشخاص في كل جزء من البلاد أفضل حالاً نتيجة للبرنامج ككل”. هذا يعني القول إنه في نظام تسعير تكلفة هامش سيشتري جميع المستهلكين سلعاً تم إنتاجها في ظروف معدل تكلفة متناقص؛ أي أن ما يفقده مستهلك معين في إعادة التوزيع التي تتضمنها خطة ما سيتعادل نتيجة لإعادة التوزيع الناجمة عن خطة أخرى؛ وأنه نتيجة لذلك، فإن إعادة التوزيع الجوهرية ستكون من الأغنياء والملاك للآخرين جميعاً.
الواقع أنه سيكون نوعاً من الحذلقة الاعتراض على تحقيق هدف مرغوب به لمجرد أنه تحقق بطريقة غير عادية. ولكن هذه الجدلية تصمد أو تسقط عن طريق الافتراض بأنه لن تكون هناك إعادة توزيع جوهرية بين مستهلكي أنواع مختلفة من المنتجات. ليس هناك سبب يدعو للافتراض بأن الأمر سيكون كذلك. إن المكسب الذي قد يستمده مستهلكون أفراداً من سياسة هوتلينغ/ليرنر سيعتمد على مدى استعدادهم لدفع التكلفة الكلية لمنتجات تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص (حسب دخلهم الأولي)؛ وعلى الاختلاف المطلق بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش في حالة هذه السلع؛ وعلى المدى الذي تم فيه صرف الدخل الإضافي المتحقق نتيجة لسياسة هوتلينغ/ليرنر على سلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص؛ وعلى الاختلاف المطلق بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش في هذه الحالات. سيكون بالإمكان تقدير طبيعة إعادة التوزيع فقط بعد إجراء تحقيق واقعي مفصل. إلا أنه لا يبدو هناك سبب للافتراض بأنها ستكون إعادة توزيع عديمة القيمة.

تبين صناعات المرافق العامة بعض أكثر الحالات المدهشة لمنتجات تم توفيرها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. لنفترض أنها الصناعات الوحيدة التي توجد فيها هذه الظروف. المستهلكون الذين يعيشون في مناطق ذات كثافة سكانية منخفضة لن يكونوا مستعدين على الأرجح لدفع كامل تكاليف توفير خدمات المرافق العامة والتي ستكون بالنسبة لهم مرتفعة جداً ولن يستفيدوا شيئاً، نتيجة لسياسة هوتلينغ/ليرنر، لأنه لن يتم توفير الخدمات لهم. أما المستهلكون الذين يعيشون في المدن فسيجدون أن مكاسبهم محدودة لأنه، وفي ضوء الاستخدام المكثف نسبياً للمعدات هناك، فإن الاختلاف بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش سيكون على الأرجح أقل منه في أماكن أخرى؛ وحيث أنهم ربما كانوا يستخدمون أصلاً جميع خدمات المرافق العامة، فإن من المحتمل أن يتم إنفاق الدخل الإضافي على أشياء أخرى عدا خدمات المرافق العامة. أعتقد أن أكثر من يحتمل أن يحققوا أكبر فائدة من سياسة هوتلينغ/ليرنر هم أولئك الذين يقطنون في بلدات صغيرة تتوفر فيها بعض، وليس كل، خدمات المرافق العامة وحيث يوجد اختلاف كبير بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش. لست أرى سبباً للافتراض بأنه لن يكون هناك بعض إعادة توزيع، وربما بنسبة كبيرة جداً بسبب هذه السياسة إذا تم تطبيقها بشكل عام. البروفيسور هوتلينغ يعترف بهذا الاحتمال ولكنه يدعي بأنه بإعادة توزيع لاحقة فقد تنشأ حالة يصبح فيها الجميع أفضل حالاً مما كانوا عليه من قبل. وهو لا يصف كيف سيتم حدوث إعادة التوزيع هذه، ولكن من الواضح أنها ستكون ترتيبات أقل شأناً من تبني نظام تسعير متعدد الجوانب مما يجعل من غير الضروري أن تكون هناك إعادة توزيع في مرحلة لاحقة على الإطلاق. بيد أنني لا أستطيع فهم كيف أنه قد يكون من الممكن استخدام إجراءات الضرائب العادية لإعادة توزيع الدخل من مستهلكين لسلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص إلى جميع المستهلكين الآخرين. يمكن القيام بمحاولة لعمل ذلك من خلال ضريبة على استهلاك سلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. ولكن هذا سيكون إما مساوياً لاعتماد تسعير متعدد الجوانب (إذا تم فرض ضريبة كلية على المستهلكين) أو، إذا تم فرض ضريبة على وحدة الاستهلاك الواحدة، سيحدث فرقاً بين القيمة المدفوعة للوحدات الإضافية وتكلفة الهامش وهي نتيجة يهدف حل هوتلينغ/ليرنر إلى تجنبها.

أتحول الآن إلى الاعتراض الثالث على حل هوتلينغ/ليرنر. يقال بأنه يمكن تعويض الخسارة الحاصلة عن طريق زيادة الضريبة. الضرائب التي يفكر فيها البروفيسور هوتلينغ والآخرون الذين يؤيدون هذا الحل هي الضرائب على الدخل وعلى الميراث وعلى العقار. لنفترض الآن أن نوع الضريبة التي ستعوض الخسارة هي ضريبة الدخل، ولكن ضرائب الدخل عادة تُعدّ بحيث يتم فرض الضريبة على وحدات هامشية من الدخل، ولذلك فإن ضريبة الدخل سيكون لها نفس التأثير السيء على اختيارات المستهلكين كضريبة على السلع وستؤدي إلى نتائج مشابهة في طبيعتها لتلك النتائج التي تنجم عن زيادة في السعر مقابل وحدات إضافية من الناتج تزيد عن تكلفة الهامش. يبدو أنه قد تم لفت انتباه البروفيسور هوتلينغ، بعد ظهور مقاله الأول، إلى هذه النقطة من قبل البروفيسور ليرنر. يقول البروفيسور هوتلينغ في مناقشة مع البروفيسور فريش تلت مقاله الأول “بأن ضريبة الدخل من النوع العادي هي نوع من الرسوم على الجهد وعلى الانتظار إضافة للوسائل الأخرى، الأقل إمكانية للدفاع عنها، للحصول على دخل. ضريبة الدخل مرفوضة إلى حد ما لأنها تؤثر على الخيارين—الجهد والراحة والخيار بين الاستهلاك الفوري والمؤجل. تبعاً لذلك، يلحق بعض من نفس نوع الخسارة اللاحقة بضريبة الدخل بالرسوم المشار إليها. ما مدى شدة هذا التأثير، هو سؤال مطروح للدراسة الواعية؛ إلا أن هناك ما يدعو للافتراض بأن ضريبة دخل أكبر من ضريبة الرسوم على السلع الفردية في هذا المجال…”(4). البروفيسور هوتلينغ لا يعطي أي تبرير لاعتقاده أن ضرائب الدخل تميل لأن تكون أقل ضرراً في هذا المجال من ضرائب الرسوم. قد يكون الأمر كذلك فعلاً، ولكن من الواضح أن من المرغوب به معرفة ما هي الظروف التي تكون فيها ضريبة الدخل أقل ضرراً ومتى من المحتمل أن نجدها قبل تطبيق حل هوتلينغ/ليرنر، هذا إذا كان لهذه السياسة أن تؤدي إلى زيادات في ضرائب الدخل(5). يحاول البروفيسور هوتلينغ تجنب هذه الصعوبة عن طريق الإيحاء بأن “الواردات العامة، بما في ذلك تلك المطلوبة لتشغيل صناعات ذات مبيعات بتكلفة الهامش، ينبغي أن تُستمد بصورة رئيسية من تأجير الأراضي وسلع نادرة أخرى ومن ضرائب الميراث والأرباح غير المحسوبة ومن ضرائب مصممة لخفض الاستهلاك المضر اجتماعياً”. هذا ليس حلاً مرضياً للغاية، فهو يفترض أولاً أن ضرائب كهذه ستكون كافية لجمع المبلغ المطلوب. وهذا الحل يفترض، ثانياً، أن الخلل في توزيع الدخل والثروة الناجم عن الضريبة الإضافية على الذين يحصلون على دخولهم بهذه الوسائل هو أفضل من الخسارة التي قد تحدث في حالة توزيع عبء الضريبة الإضافية بطريقة أكثر توازناً بسبب كل الأفراد. من جهة أخرى، فإن رأي البروفيسور هوتلينغ ينطوي على الافتراض بأن التوزيع المثالي للدخل والثروة لم يتم تحقيقه أصلاً وأن الذين يحصلون على دخولهم بهذه الوسائل لم تكن قد فرضت عليهم ضرائب كافية في الماضي. ولكن بالطبع، وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الضريبة الإضافية مرغوبة بغض النظر عن مسألة سياسة التسعير وليس هناك ضرورة تذكر لربطها بمسألة التسعير تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. إضافة لذلك، يبقى السؤال حول الكيفية التي ينبغي أن يتم بها حل مسألة التسعير عندما يتم التوصل إلى توزيع مثالي للدخل. إن اقتراح البروفيسور هوتلينغ لتجنب الخسارة التي قد تنجم عن زيادة ضرائب الدخل هو اقتراح محدود التأثير.

لقد قارنت في هذا الفصل نتائج استخدام نظام تسعير متعدد الجوانب مع تلك التي قد تنتج عن سياسة هوتلينغ/ليرنر. لقد أظهرتُ أن حل هوتلينغ/ليرنر سيؤدي إلى سوء توزيع لعوامل الإنتاج وسوء توزيع للدخل وربما إلى خسارة مشابهة لتلك التي تم تصميم الخطة لتجنبها ولكنها ناشئة عن تأثيرات زيادات ضريبة الدخل. يمكن تجنب هذه النتائج باستخدام نظام تسعير متعدد الجوانب.

تسعير معدل التكلفة مقارنة بحل هوتلينغ/ليرنر

يبدو أن البروفيسور هوتلينغ، والبروفيسور ليرنر، والسيد ميد والسيد فليمنغ لم يدركوا بأن كثيراً من المشاكل التي كانوا يحاولون إيجاد حل لها كان يمكن التعامل معها بوسائل التسعير المتعدد وأن هذا النظام في التسعير من شأنه في الواقع تحقيق نتائج لن تكون عرضة للاعتراضات التي يمكن طرحها ضد حل هوتلينغ/ليرنر. ولكن، وإنصافاً لهم، فتجب الإشارة إلى أن النقد كان موجهاً ضد فرض سعر مفرد يستند إلى معدل تكلفة وليس ضد تسعير متعدد الجوانب. هل الجدل صحيح في هذه الحالة؟ إذا لم يكن التسعير متعدد الجوانب ممكناً، أليس من الأفضل تبني حل هوتلينغ/ليرنر بدلاً من تبني أسعار تستند إلى معدل التكلفة؟

ثمة دعم قوي في هذه الحالة لوجهة النظر التي تتبنى حل هوتلنغ/ليرنر من ناحيتين: أولاً، وقبل كل شيء، فمن الواضح أنه إذا لم يُسمح للمستهلكين بشراء وحدات إضافية حسب تكلفة الهامش، فسيكون هناك سوء توزيع لعوامل الإنتاج. وقد بحثنا في فصول سابقة في طبيعة الكسب الذي قد يتجمع في هذه الناحية من خلال تبني حل هوتلينغ/ليرنر(6). أما الناحية الثانية التي تتلقى فيها وجهة النظر التي تتبنى حل هوتلينغ/ليرنر دعماً فهي تتعلق بفعالية تسعير معدل التكلفة في توفير اختبار سوقي لمدى استعداد المستهلكين لدفع كامل التكاليف. وقد أشرتُ في الفصل السابق إلى أن التسعير متعدد الجوانب يوفر اختباراً كهذا. كيف ينطبق ذلك على حالة تسعير معدل التكلفة؟ إن حقيقة أن المستهلكين مستعدون للشراء بسعر يغطي معدل التكلفة يبين بالتأكيد بأنهم يفضلون الحصول على قيمة تلك العوامل بتلك الصيغة بدلاً من أي صيغة أخرى متوفرة لهم. الصعوبة، كما يوضحها البروفيسور هوتلينغ، أن العكس ليس هو الصحيح. لقد كان معروفاً للاقتصاديين منذ زمن طويل بأنه في الحالات التي يقع فيها منحنى الطلب في كل نقاطه تحت منحنى معدل التكلفة، فقد يكون من الممكن، عن طريق التمييز في الأسعار، رفع معدل الواردات بما يكفي لوصولها إلى مستوى معدل التكلفة. فإذا كان التسعير، تبعاً لذلك، هو على أساس معدل التكلفة، فستكون هناك حالات معينة قد يكون فيها المستهلكون مستعدين لدفع التكلفة الكاملة، ولكن ذلك غير ممكن بسبب التحديدات لهذا الأسلوب بالذات في التسعير. يمكن مباشرة الإنتاج في هذه الحالات إذا تم انتهاج سياسة هوتلينغ/ليرنر.

هذه هي ميزات حل هوتلينغ/ليرنر مقارنة بتسعير معدل التكلفة، ولكن تبقى أوجه القصور التي تم بحثها في الفصل السابق. ينبغي موازنة الميزات وأوجه القصور مقابل بعضها البعض. الميزة الأولى المتوفرة في حل هوتلينغ/ليرنر، مقارنة بتسعير معدل التكلفة، هي أنها تسمح باختيار أفضل على الهامش في الاستهلاك. ولكن قد تنخفض قيمة هذه الميزة وربما تتوازن مع الخسارة التي ستحدث إذا ما تضمن حل هوتلينغ/ليرنر زيادة في ضرائب الدخل. الميزة الثانية هي أن حكومة ما قد تتولى الإنتاج في حالات يكون فيها المستهلكون مستعدين لدفع التكلفة الكلية ولكن قد لا تتولى إنتاجها في حالة تسعير بمعدل التكلفة. إلا أنه ينبغي التذكر بأن هذه السياسة هي التي تقوم فيها الحكومة بتقدير الطلب الفردي وأنها لذلك تتأثر بالتحديدات التي بحثناها في الفصل السابق. ليس من الضروري تولي الإنتاج في كل الحالات التي لا يتم فيها الإنتاج وفقاً لسعر معدل التكلفة. إن حكومة ارتكبت أخطاء عديدة في تقديراتها حول الطلب الفردي يمكن لها بسهولة أن تمحو أي أثر طيب قد ينتج عن سياسة كهذه. تسعير معدل التكلفة قد يمنع عمل أشياء ربما كان يجب عملها، ولكنه أيضاً وسيلة لتجنب ارتكاب أخطاء معينة في الإنتاج، وبعضها لا يمكن تجنبه في حالة اتباع سياسة هوتلينغ/ليرنر. وكما أشرت سابقاً فإني لا أعتقد أنه من المنطق الافتراض بأن بوسع الحكومة إجراء تقديرات دقيقة للطلبات الفردية إذا كانت جميع الأسعار تستند إلى تكلفة الهامش. أخيراً، هناك إعادة توزيع الدخل والثروة التي يتضمنها حل هوتلينغ/ليرنر والذي قد يبدو، كما أشرت في الفصل السابق، من الصعب تسويته في غياب تسعير متعدد الجوانب دون إعادة العمل بذلك النوع من الضرائب الذي سيمنع الخيار المنطقي على الهامش، وهو ما يهدف حل هوتلينغ/ليرنر لتحقيقه.

سيتضح من البحث في هذا الفصل أن مسألة تسعير معدل التكلفة مقابل حل هوتلينغ/ليرنر لا تشكل حالة محددة تماماً. تبعاً لذلك، يجب رفض الادعاء باعتبار حل هوتلينغ/ليرنر متفوقاً بصورة مؤكدة على تسعير معدل التكلفة.

المشاكل الباقية

بحثتُ في هذا المقال مشكلة التسعير تحت ظروف معدل تكلفة متناقص، إلا أنني ألزمت نفسي بحالة واحدة محددة تكون فيها جميع التكاليف متعلقة بمستهلكين أفراداً والتي تم تحمل التكاليف فيها حالياً. وقد أظهرتُ، في ضوء هذه الافتراضات، أن حل هوتلينغ/ليرنر هو دون مستوى تسعير متعدد الجوانب، وأنه بمقارنته بمعدل سعر التكلفة، فإن توازن المنفعة ليس واضحاً. ويبدو أن الخطوات التالية ستكون فحص مشكلة التسعير عندما تكون هناك تكليف مشتركة. إذا كان هناك تكاليف لا يمكن عزوها لمستهلكين أفراداً، فهل يبرز حل هوتلينغ/ليرنر عندئذ كحل قائم بذاته؟ هل ينبغي تحميل تكاليف كهذه على الضرائب؟ أم هل أن المقاربة الصحيحة هي اكتشاف بعض الأسس التي ينبغي أن يتم وفقاً لتوزيع هذه التكاليف على المستهلكين؟ أخيراً، هناك مسألة المصاريف التي تم دفعها فعلاً مقابل العوامل. هل ينبغي تحميل هذه المصاريف على الضرائب؟ أم هل يتحملها المستهلكون؟ إذا تم قبول التحليل الذي ورد في هذا الفصل، فيبدو أن هذه الأسئلة هي ما يجب أن تكون موضوعاً للبحث في المرة القادمة.

ملاحظات:

(1)   يجب ألا تكون هناك قابلية للتجزئة في جميع الحالات التي تتراجع فيها معدلات التكاليف. ورغم أني أفترض أنه من غير الممكن استخدام أقل من ناقل واحد، فقد يكون من الممكن افتراض أن خدماته متوفرة بمرونة تامة من حيث أن أجوره ستتنوع وفقاً للزمن الذي عمل خلاله وأن استخدام ناقلين إضافيين لن يرفع مستوى أجورهم.
(2)   الافتراض بأن إجمالي التكاليف يتكون من نوعين متمايزين أحدهما يدخل في تكلفة الهامش بينما لا يدخل الآخر في هذه التكلفة ليس افتراضاً أساسياً. كان بوسعنا افتراض ازدياد تكاليف النقل بازدياد عدد الوحدات المنقولة ولكن أن تكاليف الهامش للنقل كانت دون المعدل. بيد أن ذلك سيساعد في الإيضاح إذا التزمنا بالافتراض الأصلي.
(3)   هذا يفترض بأن الضرائب التي تقتطع منها الخسائر لا تقع كلياً على مستهلكي سلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. الأمر كذلك، بالطبع، لأن من المقترح أن تكون الضرائب المستخدمة هي ضرائب دخل وضرائب مماثلة.
(4)   أود أن أضيف أيضاً بأن ضرائب الدخل تؤثر أيضاً على الخيار بين أن يقوم المرء بعمل ما بنفسه أو توظيف شخص ما للقيام به له، وبالتالي فإن ضريبة الدخل تبدد بعض مزايا التخصص.
(5)   يبدو أنه قد تم إهمال هذه المشكلة في النظرية المالية العامة. تفترض المناقشات العادية لعبث الضرائب غير المباشرة بأن البديل هو دفعة كاملة واحدة.

(6)   قد يتبادر للذهن أنه لو تم تسعير جميع السلع على اساس معدل التكلفة، بحكم أن جميع الأسعار سترتفع فوق مستوى تكلفة الهامش، فإن خيارات المستهلكين لن تتأثر. يصح ذلك فقط في حالة رفع السعر بصورة متناسبة مع تكلفة الهامش، وهذا ما يستبعد في الغالب أن يكون صحيحاً.

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 17 كانون الثاني 2008.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

يبرز التعامل العادي مع التنظيم الحكومي للأسواق تمايزاً حاداً بين السوق العادي للسلع والخدمات وبين النشاطات التي يغطيها التعديل الأول [للدستور الأمريكي]—الكلام والكتابة وممارسة المعتقدات الدينية—والتي أطلق عليها اختصاراً (سوق الأفكار). عبارة (سوق الأفكار) ليست وضعاً لحدود المنطقة التي تم تطبيق التعديل الأول عليها بشكل دقيق. الواقع أنه يبدو أن هذه الحدود لم يكن قد تم رسمها بشكل واضح تماماً. ولكن ليس هناك شك يذكر بان سوق الأفكار، أي التعبير عن الرأي في الكلام والكتابة والنشاطات المماثلة، هو في صميم النشاطات التي يحميها التعديل الأول، وأن بحث التعديل الأول كان معنياً إلى حد بعيد بهذه النشاطات.
الجدلية التي أنوي البحث فيها تسبق بكثير إقرار التعديل الأول (والذي من الواضح أنه شمل أفكاراً كانت معتنقة أصلاً) وهناك خطورة بالنسبة للاقتصاديين، ولكن، ليس بالضرورة بالنسبة للمحامين الأمريكيين، تتمثل في حصر نقاشنا حول التعديل الأول بدلاً من بحث المشكلة العامة التي هو جزء منها. الخطر هو أن ينمو نقاشنا نمو التركيز على آراء المحاكم الأمريكية وخصوصاً آراء المحكمة العليا وأننا، تبعاً لذلك، سنجد أنفسنا منقادين لتبني مقاربة تجاه تنظيم الأسواق وجدتها المحاكم ملائمة بدلاً من مقاربة طورها الاقتصاديون، وهو أسلوب قطعنا فيه شوطاً طويلاً لتدمير اقتصاديات المرافق العامة والذي أضر كثيراً بالمناقشات الاقتصادية حول مشاكل الاحتكار بشكل عام. هذه المقاربة ملزمة بطريقة أخرى، حيث أنه بالتركيز على قضايا في سياق الدستور الأمريكي، فقد أصبح من الأكثر صعوبة الاستفادة من خبرة وأفكار بقية العالم.
ما هي وجهة النظر العامة التي أسعى لبحثها؟ هي أن الأنظمة الحكومية مرغوبة في سوق السلع ولكنها غير مرغوبة في سوق الأفكار وينبغي أن تكون محدودة للغاية. في سوق السلع تعتبر الحكومة بشكل عام قادرة تنظيمياً ولديها دافعية ملائمة. المستهلكون يفتقرون للقدرة على الاختيار الصحيح والمنتجون غالباً ما يمارسون سلطة احتكارية، وهم على أية حال، وفي غياب شكل من التدخل الحكومي، لا يتصرفون بطريقة مفيدة للمصلحة العامة. أما في سوق الأفكار فالموقف مختلف تماماً، فإذا حاولت الحكومة التدخل تنظيمياً في سوق الأفكار فلن تكون كفؤة لذلك وستكون دوافعها سيئة بشكل عام بحيث حتى لو أنها نجحت في تحقيق ما تسعى لإنجازه فإن النتائج لن تكون مرغوبة. المستهلكون، من ناحية أخرى، وإذا تركت لهم الحرية، يمارسون تمييزاً دقيقاً في الاختيار بين وجهات النظر المختلفة المعروضة أمامهم، في حين أن المنتجين سواءً كانوا أقوياء اقتصادياً أم ضعفاء، والذين يُعرفون بعدم الالتزام بمعايير الضمير والأخلاق في أسواق أخرى، يمكن الوثوق بهم للتصرف في سبيل الصالح العام سواءً كانوا ينشرون أو يعملون في الـ نيويورك تايمز أو شيكاغو تريبيون أو هيئة إذاعة كولومبيا. السياسيون، الذين تؤلمنا تصرفاتهم أحياناً، بارعون جداً في كلامهم. ومن المعالم الغريبة في هذا السلوك أن الإعلانات التجارية، والتي هي غالباً مجرد تعبير عن وجهة نظر وربما يُظنُّ، في ضوء ذلك، أنها محمية بالتعديل الأول، تعتبر جزءاً من سوق السلع. النتيجة هي أن إجراءات الحكومة تعتبر مرغوبة في تنظيم (أو حتى قمع) التعبير عن رأي في إعلان، والذي لو كان مطروحاً في كتاب أو مقال سيكون خارجاً تماماً عن نطاق الأنظمة الحكومية.
هذا التضاد بين دور الحكومة في سوق السلع ودورها في سوق الأفكار لم يتعرض عادة للنقد سوى من المتطرفين في اليمين أو اليسار—أي بين الفاشيين أو الشيوعيين. العالم الغربي يتقبل، إلى حد كبير، الفرق وتوصيات السياسة العامة التي تصاحب ذلك. بيد أن خصوصية الحالة لم تغب عن الأذهان وأود أن ألفت انتباهكم لمقال قوي بقلم آرون دايركتر.
يستشهد دايركتر ببيان قوي للقاضي ويليام دوغلاس ورد في قرار للمحكمة العليا، وهو نص كان القصد منه، دون شك، أن يكون مفسِّراً للتعديل الأول ولكن من الواضح أنه يشمل أيضاً وجهة نظر لا تستند إلى الاعتبارات الدستورية. يقول القاضي دوغلاس: “حرية الكلام، وحرية الصحافة، وحرية ممارسة العبادات منفصلة تماماً ومستقلة؛ إنها فوق وخارج نطاق سلطة الشرطة؛ وهي لا تخضع للتنظيم بالطريقة التي تخضع لها المصانع وأحياء الأكواخ وبنايات الشقق وعمليات إنتاج البترول وما شابه” [بيوهارنيس ضد إيلينوي]. وحول حرية الكلام، يلاحظ دايركتر بأنها “المجال الوحيد الذي لا زال يحظى بالاحترام.”
لماذا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو؟ ربما يعود ذلك جزئياً إلى حقيقة أن القناعة بسوق حر للأفكار ليست لها نفس الجذور مثل القناعة بقيمة التجارة الحرة في السلع. نقتبس من دايركتر ثانية: “ظهرت حاجة ملحة للسوق الحر كأسلوب مرغوب به لتنظيم الحياة الفكرية في المجتمع قبل وقت طويل من الدعوة له كأسلوب مرغوب به لتنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع. لقد تم إدراك فائدة التبادل الحر للأفكار قبل إدراك فائدة التبادل الحر للسلع والخدمات في أسواق متنافسة.” في السنوات الأخيرة وخصوصاً، فيما أظن، في أمريكا (أي أمريكا الشمالية) تعززت هذه النظرة للوضع الخاص لسوق الأفكار بالتزام بالديمقراطية كما هي مجسدة في المؤسسات السياسية للولايات المتحدة والتي تعتبر أن أسس الكفاءة في عملها تتطلب سوق أفكار لا يخضع لتنظيم حكومي. هذا يفتح المجال لموضوع واسع سأتجنب التعليق عليه. يكفي القول، من الناحية العملية، أن النتائج المتحققة فعلياً من هذا النظام السياسي بالذات توحي بأن هناك قدراً كبيراً من “فشل السوق.”
نظراً للرأي القائل بأن سوقاً حراً للأفكار ضروري لإدامة المؤسسات الديمقراطية، ولأسباب أخرى أيضاً في اعتقادي، فقد أبدى المثقفون ميلاً لتمجيد سوق الأفكار والتقليل من شأن سوق السلع. لا يبدو لي مثل هذا السلوك مبرراً، وكما قال دايركتر: “سيتعين على معظم البشر في المستقبل المنظور تخصيص جزء معتبر من حياتهم العامة للنشاط الاقتصادي. إن حرية الاختيار بالنسبة لهؤلاء الناس، باعتبارهم مالكين للموارد، في الاختيار ضمن فرص متوفرة ومتغيرة باستمرار، لمجالات العمل والاستثمار والاستهلاك، مهمة تماماً مثل أهمية الحديث والمشاركة في الحكومة.” ليس لدي شك في صحة ذلك. بالنسبة لمعظم الناس في معظم البلدان (وربما في كل البلدان) يعتبر توفير الطعام واللباس والمأوى أهم بكثير من توفير “الأفكار الصحيحة” حتى لو افترضنا أننا نعرف ما هي هذه الأفكار.
ولكن لندع جانباً مسألة الأهمية النسبية لكلا السوقين؛ اختلاف وجهات النظر حول دور الحكومة في هذين السوقين هو حقاً دور خارج عن المألوف تماماً ويتطلب تفسيراً. لا يكفي مجرد القول بضرورة استبعاد الحكومة من مجال نشاط معين لأنه حيوي لحياة مجتمعنا. حتى في الأسواق التي تهم بشكل رئيس الطبقات الأدنى فلا يبدو من المرغوب به تقليل الكفاءة التي يعملون بها. التناقض الظاهري هو أن تدخل الحكومة الشديد الضرر في مجالٍ ما يصبح نافعاً في مجال آخر، ويصبح التناقض باعثاً على مزيد من الدهشة عندما نلاحظ أننا نجد في أيامنا هذه أن أشد من يضغطون عادة لتوسيع التنظيم الحكومي إلى أسواق أخرى هم الأشد رغبة في تطبيق مشدد للإجراءات المقيدة للتنظيم الحكومي في سوق الأفكار!
ما هو تفسير هذا التناقض؟ طبيعة دايركتر اللطيفة لا تسمح له بأكثر من إلماحة حول ذلك: “ثمة تفسير سطحي حول أفضلية حرية الكلام في أوساط المفكرين والمثقفين يدور حول مصالح عمودية. كلٌ يحاول تضخيم أهمية مركزه وتقزيم مركز جاره. المثقفون مشغولون بملاحقة الحقيقة بينما الآخرون مشغولون فقط بكسب قوتهم. الواحد من هؤلاء يعمل في مهنة، مستنيرة عادة، بينما الآخر يعمل في تجارة أو نوع من العمل التجاري.” أود أن أسمي الأشياء بأسمائها فأقول بأن سوق الأفكار هو الذي يعتبره المفكر مهنة له. تفسير الظاهرة يرجع إلى المصلحة الذاتية والمنفعة الذاتية. المصلحة الذاتية تقود المفكرين إلى تضخيم أهمية سوقهم، بينما تنظيم الآخرين يبدو طبيعياً خصوصاً أن كثيراً من المفكرين يعتبرون أنفسهم مناطين بمهمة التنظيم. ولكن المصلحة الذاتية مقرونة بالمنفعة الذاتية يتضافران لضمان أنه، بينما يجري تنظيم الآخرين، فإن التنظيم ينبغي ألا يطبق بحقهم. وهكذا فمن الممكن التعايش مع وجهات النظر المتناقضة هذه حول دور الحكومة في هذين السوقين. النتيجة النهائية هي ما تهم. وقد لا يكون التفسير لطيفاً، ولكني لا أستطيع التفكير بتفسير آخر لهذه الحالة الغريبة.
أن يكون هذا هو التفسير الرئيسي لهيمنة وجهة النظر التي تعتبر سوق الأفكار أمراً مقدساً تدعمه بالتأكيد نظرة متفحصة على تصرفات الصحافة. الصحافة، بالطبع، هي أقوى المدافعين عن مبدأ حرية الصحافة، وهو سلوك في الخدمة العامة قادتها إلى أدائه يدٌ خفية. إذا أمعنا النظر في تصرفات وآراء الصحافة لوجدنا أنها متسقة في شيء واحد: الاتساق مع المصلحة الذاتية للصحافة دائماً.
تأمّل طرحهم الذي يقضي بأنه لا ينبغي إرغام الصحافة على الكشف عن مصادر المواد التي يتم نشرها. يسمون هذا دفاعاً عن حق الجمهور في المعرفة، الذي يمكن تفسيره ليعني بأنه ليس للجمهور حق في معرفة مصدر المادة المنشورة في الصحافة. الرغبة في معرفة مصدر القصة ليس مجرد فضول بليد، فمن الصعب معرفة مدى مصداقية معلومة ما إذا كان القارئ يجهل مصدرها. التقليد الأكاديمي، الذي يكشف فيه الكاتب إلى أبعد مدى ممكن المصادر التي اعتمد عليها وبذلك يطرحها لتفحص زملائه، يبدو لي تقليداً صحيحاً وعنصراً أساسياً في البحث عن الحقيقة. والحجة المضادة من جانب الصحافة، بالطبع، لا تخلو من المنطق، فهم يقولون بأن بعض الناس لن يقدموا على التعبير عن آرائهم بصدق إذا كان سيصبح من المعروف عامةً بأنهم يؤمنون بهذه الآراء. بيد أن هذه الحجة تنطبق بنفس الدرجة على كل تعبير عن رأي سواءً في الحكومة أو في مجال الأعمال أو في الحياة الخاصة حيث السرية ضرورية لإبداء الآراء بصراحة. إلا أن هذا الاعتبار لم يردع الصحافة بصورة عامة عن كشف أسرار كهذه عندما يكون ذلك في مصلحتها. بالطبع كشف مصادر المواد المنشورة في الحالات التي تنطوي على خيانة للأمانة أو حتى سرقة وثائق سيكون من شأنه أيضاً إعاقة تدفق المعلومات. وقبول مواد في ظروف كهذه لا يتسق مع المعايير الأخلاقية العالية والالتزام الصارم بالقانون التي تتوقعها الصحافة من الآخرين.
يصعب علي أن أصدق بأن الخطأ الرئيسي في قضية ووترغيت لم يكن من تدبير صحيفة النيويورك تايمز. ولست أرغب في المجادلة بأنه ليس هناك اعتبارات متضاربة في كل هذه القضايا يصعب تقييمها. النقطة التي أود التأكيد عليها هي أن الصحافة لا تجد هذه الاعتبارات صعبة على التقييم.
لنأخذ مثالاً آخر أكثر مدعاة للدهشة من عدة جوانب: سلوك الصحافة تجاه التنظيم الحكومي للبث الإعلامي. البث الإعلامي مصدر مهم للأخبار والمعلومات؛ وهو يقع في نطاق التعديل الأول. مع ذلك فإن محتوى برامج المحطات الإعلامية يخضع للأنظمة الحكومية. وقد يخطر للمرء بأن الصحافة، وهي تعتبر نفسها مكرسة للتطبيق الصارم للتعديل الأول، ستكون في حالة هجوم دائم على هذا التغاضي عن حق حرية الكلام والتعبير، إلا أنها في الواقع لم تفعل ذلك. خلال الخمسة وأربعين عاماً التي مرت منذ تأسيس هيئة الإذاعة الفيدرالية (أصبح اسمها الآن هيئة الاتصالات الفيدرالية)، لم تُبد الصحافة سوى القليل جداً من الشكوك حول سياسة هذه الهيئة. الصحافة، الحريصة جداً على البقاء طليقة من قيد الأنظمة الحكومية، لم تبذل أبداً أي جهد لضمان حرية مماثلة لصناعة البث الإعلامي. وكي لا يتبادر لذهن أحد أني أبدي عداءً للصحافة الأمريكية فإني أود الإشارة إلى أن الصحافة البريطانية قد تصرفت بطريقة مماثلة. بل إننا في هذه الحالة نجد التناقض أقوى بين الممارسة الفعلية والقناعات المزعومة لأن ما هو موجود في بريطانيا هو احتكار تسيطر عليه الحكومة للأخبار والمعلومات. وقد يتبادر للذهن أن هذه الاستهانة قد أفزعت الصحافة البريطانية. لم يحصل ذلك، بل إنها قد دعمت احتكار البث الإعلامي بصورة رئيسية، كما يبدو لي، لأنهم رأوا أن البديل لهيئة الإذاعة البريطانية سيكون إعلاماً تجارياً وأن ذلك سيشكل، تبعاً لذلك، منافسة متزايدة تحد من إيراداتهم الإعلانية. ولكن إذا كانت الصحافة لا ترغب في منافستها على الإيرادات الإعلانية فإنها لا ترغب أيضاً في منافسة متزايدة على مصادر الأخبار، وهكذا فقد بذلت كل ما في وسعها لكبح هيئة الإذاعة البريطانية، على الأقل كجهة مزودة للأخبار والمعلومات. وعندما تأسس الاحتكار في البداية (عندما كان يطلق على الهيئة اسم شركة الإذاعة البريطانية) كانت الشركة ممنوعة من بث أي معلومات أو أخبار إذا لم يكن قد تم الحصول عليها من وكالات أنباء محددة بالاسم. لم يكن مسموحاً ببث أي أخبار قبل الساعة السابعة مساءً وكانت هناك قيود أخرى أيضاً على أي أخبار قد تؤثر سلباً على مبيعات الصحف. ثم أخذت هذه القيود تخف تدريجياً، وعلى مدى عدة سنوات، نتيجة للمفاوضات بين الصحافة وهيئة الإذاعة البريطانية. ولكن الإذاعة البريطانية لم تقم ببث نشرة أخبار منتظمة قبل الساعة السادسة مساءً حتى ما بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ولكن ربما كان هناك من يجادل في أن حقيقة كون رجال الأعمال يتأثرون بصورة رئيسية باعتبارات مالية هي مسألة بديهية وليست اكتشافاً هاماً، فماذا يمكن للمرء أن يتوقع من اللاهثين وراء المال في عالم الصحافة؟ أكثر من ذلك، قد يقول معترض، فإن مجرد دعم نشر مبدأ من قبل أولئك الذين يستفيدون منه لا يعني أن هذا المبدأ غير سليم. ألم يتبنّ الدعوة لحرية الكلام والصحافة، في نهاية المطاف، كبار المفكرين الذين تتشكل قناعاتهم بتأثير ما هو حق وليس لاعتبارات مادية خسيسة؟ ليس هناك بالتأكيد مفكر أرجح عقلاً من جون ميلتون. وحيث أن أطروحته (من أجل حرية صحافة دون ترخيص) قد تكون على الأغلب أشهر دفاع كتب حول مبدأ حرية الصحافة، فقد بدا لي أن المسألة تستحق فحص طبيعة وجهة نظره في سبيل صحافة حرة. وأنوه قبل ذلك إلى أن لعمل ميلتون فائدة أخرى تخدم غرضي، فقد كُتب هذا العمل عام 1644 أي قبل وقت طويل من عام 1776، وعليه فبوسعنا أن نتعرض إلى طبيعة الجدلية قبل أن يكون هناك أي فهم عام لكيفية عمل الأسواق المتنافسة وقبل بروز الآراء الحديثة في الديمقراطية. لعله من العبث الذي لا طائل تحته أن أتظاهر أن بوسعي اتخاذ موقف المفسِّر لأفكار ميلتون، فأنا لا أعرف سوى القليل عن إنجلترا في القرن السابع عشر وهناك الكثير في أطروحة ميلتون مما لا أستطيع إدراكه. إلا أن هناك مقاطع من هذه الأطروحة تثب عبر القرون ولا حاجة لتفسيرها منحة تخصصٍ علمي.
يؤكد ميلتون، كما يمكن للمرء أن يتوقع، على أهمية سوق الأفكار: “أعطني الحرية لكي أتعلم وأتحدث وأجادل بحرية وفقاً للوعي قبل أي حرية أخرى” (ص 44). هذا شيء مختلف عن سوق السلع وينبغي عدم التعامل معه بنفس الطريقة: “الحقيقة والفهم ليستا سلعتين يمكن احتكارهما والمتاجرة بهما باستخدام اللوائح والقوانين والمقاييس. يجب ألا نفكر في جعل المعرفة في كل البلاد سلعة كبرى نمنحها ترخيصاً وعلامة تجارية كالقماش وبالات الصوف” (ص 29). إن ترخيص المادة المكتوبة إهانة للرجال المتعلمين والمقبلين على التعليم: “عندما يجلس رجل ليكتب للعالم فإنه يستجمع كل ما لديه من ذكاء ومهارة ليستعين بهما، فهو يبحث ويوازن ويثابر وقد يتحاور ويتشاور مع الحكماء من أصدقائه، وبعد ذلك كله يستشعر في نفسه الثقة بالإحاطة بما يريد الكتابة عنه إضافة على ما كان قد كُتب عن الموضوع من قبله. إذا كان مثل هذا الكاتب في مثل هذا العمل الذي أولاه كل ما لديه من براعة ودقة واكتمال، لا تستطيع السنوات ولا المثابرة ولا أي إثباتات سابقة لقدراته أن توصله إلى درجة النضج التي تجعله يبقى غير ذي ثقة بل وموضع شبهة ما لم يحمل خلاصة كدّه وسهر لياليه لأخذ موافقة سريعة من موظف ترخيص مشغول ربما كان أصغر منه سناً بكثير وربما كان أقل قدرةً منه بكثير في الحكم على الأمور وربما كان رجلاً لم يعرف في حياته مشقة الكتابة، ثم، إذا لم يُرفض عمله أو يقابل بالازدراء فيجب أن يظهر عند الطباعة كشخص هزيل يحمل على الجهة الأخرى من عنوان كتابه علامة يد راعية ورقيبة كفالة وضمانة بأنه ليس معتوهاً أو ضالاً، فلا يمكن لذلك إلا أن يكون امتهاناً وانتقاصاً للمؤلف والكتاب لرفعة وامتياز قيمة التعلم” (ص 27). الترخيص هو أيضاً إهانة لعامة الناس: “وليس الترخيص أقل امتهاناً لعامة الناس؛ فإذا كنا من الغيرة عليهم إلى هذا الحد بحيث لا نجرؤ على الثقة بهم في قراءة كتيّب باللغة الإنجليزية فماذا نفعل أكثر من أننا نلومهم باعتبارهم جمهوراً مترنحاً فاسداً مهزوزاً في حالة من ضعف الإيمان والقدرة على الاختيار تجعلهم غير قادرين على تناول أي شيء إلا إذا كان عبر أنبوب موظف الترخيص” (ص 30). في سوق الأفكار يتم اتخاذ الخيارات الصحيحة: “دعوا [الحقيقة] والكذب يتصارعان. من عرف يوماً أن الحقيقة ستفشل في مواجهة حرة ومفتوحة؟” (ص 45).
الذين يتولون سلطة الترخيص ليست لديهم كفاءة للقيام بذلك، فمن يتولى سلطة كهذه يجب، في رأي ميلتون، أن يكون: “مثابراً ومطلعاً، وحصيفاً.” ولكن من المستبعد أن نحصل على شيء كهذا في شخص هذا الموظف: “قد نستطيع أن نستشرف بسهولة نوعية موظفي الترخيص الذين يمكن توقعهم من الآن فصاعداً: إما أن يكونوا جهلة ومتغطرسين ولا مبالين أو مستعبدين مالياً” (ص 25). وسيكون موظفو الترخيص، على الأرجح، أكثر ميلاً لقمع الحقيقة من قمع الكذب: “وفي حالة الخطر، فسيتعدى الأمر في الأغلب الأعم حظر الحقيقة نفسها، التي سيكون ظهورها الأول لأعيننا وهي ضبابية وباهتة بسبب التحيز والتقاليد أكثر بشاعة وأقل صدقية من العديد من الأخطاء” (ص 47). ولا ينسى ميلتون أن يخبرنا بأن نظام الترخيص الذي كان يَكتُب ضده قد ظهر نتيجة لضغط الصناعة: “وكيف كانت لها اليد العليا… كان فيها خداع بعض أصحاب الامتيازات والمحتكرين في مهنة بيع الكتب” (ص 50).
ربما لعبت المصلحة الذاتية دوراً في تشكيل أفكار ميلتون، ولكن ليس هناك شك يذكر في أن محاججته تنطوي على قدر كبير من الكبرياء الثقافي الفكري من النوع الذي أشار له دايركتر. الكاتب رجل مطلع ومثابر وجدير بالثقة، أما موظف الترخيص فهو جاهل وغير كفؤ وذو دوافع مالية، وربما كان “أصغر” و”أقل قدرة في الحكم على الأمور.” كما أن رجل الشارع يختار الحقيقة باعتبارها على الطرف النقيض للكذب. الصورة ذات جانب واحد إلى حد ما بحيث يصعب اعتبارها مقنعة تماماً، وإذا كانت مقنعة للوسط الثقافي الفكري (ويبدو أنها كانت غالباً كذلك) فمن المؤكد أن ذلك يعود إلى أن من السهل إقناع الناس بأن ما هو في صالحهم هو بالضرورة في صالح البلاد.
لا أعتقد بصحة هذا التمايز بين سوق السلع وسوف الأفكار. ليس هناك فرق جوهري بين هذين السوقين، وعند اتخاذ قرار حول السياسة العامة إزاءهما يتعين علينا أن نأخذ في الحسبان الاعتبارات ذاتها لكليهما. في كل الأسواق هناك بعض الأسباب لدى المنتجين ليكونوا صادقين وبعض الأسباب ليكونوا غير صادقين؛ وتكون لدى المستهلكين بعض المعلومات ولكنهم غير ملمين تماماً بكل المعلومات أو حتى قادرين على استيعاب المعلومات المتوفرة لهم؛ والمنظمون عادة يرغبون في القيام بعملهم بشكل جيد، ورغم أنهم غير أكفاء غالباً ومعرضون لتأثيرات مصالحهم الخاصة، فإنهم يتصرفون بهذه الطريقة لأنهم، مثلنا جميعاً، بشرٌ، ليست أقوى حوافزهم هي الأفضل.
عندما أقول بأنه ينبغي أخذ نفس الاعتبارات في الحسبان فلا أعني بذلك أن السياسة العامة ينبغي أن تكون هي ذاتها في جميع الأسواق. فالمقومات الخاصة لكل سوق تعطي وزناً مختلفاً لنفس العوامل مما يجعل الترتيبات الاجتماعية الملائمة تختلف وفقاً لذلك. قد لا يكون من المعقول العمل بالترتيبات القانونية ذاتها التي تحكم صناعة الصابون والإسكان والسيارات والبترول والكتب. وجهة نظري هو أنه يتعين علينا استخدام (المقاربة) ذاتها لجميع الأسواق عندما نقرر سياسة عامة. الواقع أننا إذا قمنا بذلك واستخدمنا لسوق الأفكار ذات المقاربة التي استهوت الاقتصاديين في سوق السلع فمن الواضح أن ذلك يدعم حجة التدخل الحكومي في سوق الأفكار بشكل أكثر قوة مما عليه الحال عموماً في سوق السلع. وكمثال على ذلك، فإن الاقتصاديين يدعون عادة إلى التدخل الحكومي، والذي قد يشمل أنظمة حكومية مباشرة، عندما لا يعمل السوق بطريقة صحيحة—أي عندما يحدث ما يُعرف عادة بتأثيرات الجوار أو تشكل فائض أو “العوامل الخارجية” إذا ما كان لنا أن نستخدم هذه العبارة المشؤومة.
إذا حاولنا تخيل نظام حقوق الملكية الضروري والمعاملات التي يجب القيام بها لضمان أن يحصل كل من قام بنشر فكرة أو اقتراح للإصلاح على قيمة السلعة التي نتجت عن تلك الفكرة أو يدفع تعويضاً عن الضرر في حالة حدوثه فمن السهل أن نرى أنه سيكون هناك في التطبيق العملي، على الأرجح، قدر كبير من “فشل السوق.” حالات مثل هذه تقود الاقتصاديين عادة للدعوة لتدخل حكومي مكثف.
أو لنأخذ مسألة جهل المستهلك التي ينظر إليها عادة كمبرر للتدخل الحكومي. من الصعب الاعتقاد بأن عامة الجمهور سيكونون في وضع أفضل لتقييم وجهات نظر متنافسة حول سياسة اجتماعية واقتصادية أكثر من الاختيار بين أنواع مختلفة من الطعام. مع ذلك فهناك تأييد للتنظيم الحكومي في حالةٍ وعدم تأييد في الأخرى. أو لنأخذ مسألة منع الغش الذي يحظى عادة بحض على التدخل الحكومي. من الصعب إنكار أن مقالات الصحف وأحاديث السياسيين تحوي قدراً كبيراً من الكذب والبيانات المضللة—الواقع أنها تبدو أحياناً وكأنها لا تحوي خلاف ذلك. الإجراءات الحكومية لضبط الإعلانات الكاذبة والمضللة مرغوبة للغاية، إلا أن اقتراحاً لتشكيل هيئة صحافة فيدرالية أو هيئة سياسية فيدرالية على غرار هيئة التجارة الفيدرالية لن يحظى بأي اهتمام.
التأييد القوي الذي يحظى به التعديل الأول ينبغي ألا يحجب عنا أن هناك، في الواقع، قدراً كبيراً من التدخل الحكومي في سوق الأفكار. لقد تطرقت إلى الإذاعة، ولكن هناك أيضاً موضوع التعليم، الذي، رغم أنه يلعب دوراً حيوياً في سوق الأفكار، فإنه يخضع لكثير من التنظيم. قد يتبادر للذهن أن أولئك الذين يبدون حرصاً كبيراً على منع إجراءات التنظيم الحكومي عن الكتب والمواد المطبوعة الأخرى قد يرفضون أيضاً تنظيماً كهذا في مجال التعليم. إلا أن هناك اختلافاً بالطبع. تنظيم الحكومة لمجال التعليم يصاحب عادة التمويل الحكومي مع إجراءات أخرى (مثل إلزامية التعليم المدرسي) والذي يزيد من الطلب على خدمات المفكرين والمتعلمين، وبالتالي، على دخولهم (راجع إي. جي. ويست، ص 101). المصلحة الذاتية إذن، التي تؤدي عموماً إلى تأييد سوق حر للأفكار، هي التي توحي بموقف مختلف في مسألة التعليم.
كما أني لا أشك أن الدراسة المفصلة ستكشف حالات أخرى أيدت فيها مجموعات من العاملين في سوق الأفكار التنظيم الحكومي وتحديد المنافسة عندما يكون من شأنها زيادة دخولهم، تماماً كما وجدنا السلوكيات ذاتها في سوق السلع. ولكن الاهتمام بالاحتكار سيكون على الأرجح أقل في سوق الأفكار. هناك سياسة عامة لمفهوم التنظيم، هي أن تحديد السوق يؤدي إلى خفض الطلب على خدمات المثقفين والمفكرين. ولكن لعل الأهم من ذلك هو أن الجمهور معني أكثر بالصراع بين الحقيقة والكذب أكثر من اهتمامه بالحقيقة نفسها. إن الطلب على خدمات المؤلفين وكتاب الخطابات، يعتمد إلى حد كبير على وجود جدال—ولكي يكون هناك جدال فمن الضروري ألا تنتصر الحقيقة وحدها!
مهما فكر المرء في الدوافع التي أدت إلى القبول العام للوضع الحالي يبقى هناك سؤال حول أي السياسات هي، في الواقع، أكثر ملاءمة. هذا يتطلب منا التوصل إلى بعض الاستنتاجات حول الطريقة التي ستؤدي بها الحكومة أية مهمات يعهد بها إليها. لا أعتقد أنه سيكون بوسعنا تكوين حكم نستطيع الوثوق بصوابه ما لم نتخلّ عن التناقض الحالي في النظرة إلى أداء الحكومة في السوقين وتبني موقف أكثر اتساقاً. يتعين علينا أن نقرر فيما إذا كانت الحكومة قليلة الكفاءة كما يفترض عادة في سوق الأفكار، وفي حالة كهذه سنميل بالدعوة إلى خفض درجة التدخل الحكومي في سوق السلع، أو ما إذا كانت جيدة الكفاءة كما يفترض عادة في سوق السلع، وفي حالة كهذه سنميل بالمطالبة إلى زيادة درجة التدخل الحكومي في سوق الأفكار. يستطيع المرء، بالطبع، أن يتبنى موقفاً وسطاً—أي حكومة لا هي رديئة وقليلة الكفاءة كما يفترض في أحد السوقين ولا هي كفؤة ومثلى كما يفترض في السوق الأخرى. في هذه الحالة يتعين علينا أن نخفض درجة التنظيم الحكومي في سوق السلع وربما سنميل لزيادة التدخل الحكومي في سوق الأفكار.
وأتطلع إلى معرفة أي من الخيارات في وجهات النظر هذه ستكون موضع تأييد زملائي في المهنة الاقتصادية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 6 شباط 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

المشكلة المطروحة للبحث
تتناول هذه الورقة تلك الممارسات للشركات التي تلحق تأثيرات ضارة بالآخرين. المثال النموذجي لذلك هو مصنع تؤثر الأدخنة المتصاعدة منه على المقيمين في المناطق المجاورة. وتنطلق التحليلات الاقتصادية لحالة كهذه عادة من الاختلاف بين المنتَج الخاص والمنتَج الاجتماعي للمصنع، ويسلك الاقتصاديون في ذلك إلى حد كبير المعالجة التي طرحها بيغو في اقتصاديات الرفاه. ويبدو أن الاستنتاج الذي يقود إليه هذا الضرب من التحليلات معظمَ الاقتصاديين هو أنه قد يكون من المرغوب به جعل مالك المصنع مسؤولاً عن الضرر الذي لحق بمن تأثروا بالدخان، أو، كبديل عن ذلك، فرض ضريبة على صاحب المصنع تتناسب مع كمية الدخان التي يطلقها المصنع ومساوية في قيمتها المالية للضرر الذي قد تسببه، أو أخيراً، عدم السماح بوجود المصنع في مناطق سكنية (ويفترض في أي مناطق أخرى تكون فيها للدخان تأثيرات ضارة على الآخرين). وفي رأيي أن الحلول المطروحة ليست ملائمة من حيث أنها تؤدي لنتائج ليست مرغوبة بالضرورة أو حتى عادةً.
الطبيعة التبادلية للمشكلة
لقد نزعت المقاربة التقليدية لحجب طبيعة الاختيار الذي يجب اللجوء إليه، والسؤال الذي يخطر في البال عادة هو بما أن (أ) يوقع ضرراً على (ب) فما الذي ينبغي فعله؟ كيف ينبغي لنا وضع قيود تضبط ممارسات (أ)؟ ولكن هذا خطأ، فنحن نتعامل مع مشكلة ذات طبيعة تبادلية، فتجنب إلحاق ضرر بـ(ب) سيلحق ضرراً بـ(أ). والسؤال الحقيقي الذي يجب طرحه هو: هل ينبغي لـ(أ) أن يلحق ضرراً بـ(ب) أو ينبغي لـ(ب) أن يلحق ضرراً بـ(أ)؟ المشكلة هي تجنب الضرر الأشد خطورة. لقد ضربت في مقالي السابق مثلاً على قضية صاحب مصنع للحلوى كان الضجيج والاهتزازات الصادرة من آلاته يزعج طبيباً أثناء عمله. تجنب إزعاج الطبيب سيلحق ضرراً بصانع الحلوى. والمشكلة التي تطرحها هذه القضية هي أساساً ما إذا كان سيكون من المجدي، إذا ما قيدنا أساليب الإنتاج التي يستخدمها صانع الحلوى، تأمين بيئة مناسبة للعمل الطبي على حساب تخفيض منتجات الحلوى. هناك مثال آخر توفره مشكلة الماشية الشاردة التي تتلف المحاصيل في الأراضي المجاورة. إذا لم يكن هناك مفر من أن تشرد بعض المواشي فليس بالإمكان تأمين قدر متزايد من اللحوم إلا على حساب انخفاض في المحاصيل الزراعية. إن طبيعة الاختيار واضحة: لحوم أو محاصيل زراعية. والجواب الذي ينبغي تقديمه غير واضح بالطبع إلا إذا عرفنا قيمة ما تم الحصول عليه إضافة إلى قيمة ما ضحينا به للحصول عليه. ومن الأمثلة الأخرى المثال الذي ضربه البروفيسور جورج جيه. ستيجلر حول تلويث جدول الماء. إذا افترضنا أن التأثير الضار للتلوث هو أنه يؤدي إلى نفوق الأسماك فالسؤال الذي يجب طرحه هو: هل قيمة الأسماك المفقودة أكبر أو أقل من قيمة المنتج الذي يؤدي إلى تلويث الجدول؟ غني عن القول تقريباً بأنه ينبغي النظر إلى هذه المشكلة من ناحية كلية ومن هوامشها.
نظام التسعير مع المسؤولية عن الأضرار
أقترح بدء تحليلي بدراسة حالة يفترض أن معظم الاقتصاديين يوافقون على إمكانية حل المشكلة فيها بطريقة مرضية تماماً: عندما يتعين على الجهة المسببة للضرر أن تدفع تعويضاً عن جميع الأضرار اللاحقة بينما يعمل نظام التسعير بسلاسة (هذا يعني بالضبط أن عملية نظام التسعير لا تكلفة لها أبداً).
قضية المواشي الشاردة التي تتلف المحاصيل الزراعية في الأراضي المجاورة توفر مثالاً جيداً للمشكلة المطروحة للبحث. لنفترض أن مزارعاً ومربي ماشية يعملان في ملكيتين متجاورتين، ولنفترض أيضاً أنه، وبحكم عدم وجود سياج بين الملكيتين، فإن زيادة في حجم قطيع مربي المواشي ستؤدي إلى زيادة الأضرار الكلية اللاحقة بمحصول المزارع. الذي يحصل للضرر الهامشي مع زيادة حجم القطيع مسألة أخرى. هذا يعتمد على ما إذا كانت المواشي في القطيع تميل لأن تتبع بعضها بعضاً أم التجوال جنباً إلى جنب، أو ما إذا كانت تميل لكثرة الحركة بازدياد حجم القطيع، وعوامل مماثلة أخرى. ليس ثمة قيمة مادية، للغرض المباشر لبحثي، لأي افتراض يتم الأخذ به بالنسبة للضرر الهامشي الناتج عن زيادة حجم القطيع.
أقترح، تبسيطاً للنقاش، استخدام مثال من الرياضيات. سأفترض أن التكلفة السنوية لإقامة سياج حول أرض المزارع هي 9 دولارات وأن سعر المحصول هو دولار واحد للطن. سأفترض أيضاً بأن العلاقة بين عدد مواشي القطيع والخسارة السنوية للمحصول هي على النحو التالي:

وفي ضوء أن مربي المواشي مسؤول عن الضرر الناتج فإن التكلفة السنوية الإضافية المفروضة على مربي المواشي إذا زاد من حجم قطيعه من رأسين إلى ثلاثة رؤوس هو 3 دولارات، وفي تقرير حجم القطيع يتعين عليه أن يضع هذا في حسابه إلى جانب تكاليفه الأخرى. أي أنه لن يعمد إلى زيادة حجم القطيع ما لم تكن قيمة اللحوم الإضافية التي سينتجها (بافتراض أن مربي الماشية يعدها للذبح) تزيد عن التكاليف الإضافية التي ستتبعها هذه الزيادة بما في ذلك قيمة المحصول الإضافي المُتلف. بالطبع إذا أمكن تقليل التلف باستخدام كلاب أو حراس أو طائرات أو أجهزة اتصالات لا سلكية أو أي وسائل أخرى فإن استخدام هذه الوسائل سيتم عندما تكون كلفتها أقل من قيمة المحصول والتي يجري استخدامها لمنع إتلافه. وفي ضوء أن التكلفة السنوية للسياج تبلغ 9 دولارات، فإن مربي القطيع الذي يرغب في أن يكون لديه قطيع يتكون من أربعة رؤوس أو أكثر من المواشي سيدفع تكاليف بناء وصيانة سياج بافتراض أن استخدام وسائل أخرى لتحقيق نفس الغرض لن تكون أقل تكلفة. عندما تتم إقامة السياج تصبح التكلفة الهامشية الناتجة عن مسؤولية الضرر صفراً باستثناء أن زيادة حجم قطيع المواشي ستتطلب سياجاً أقوى وبالتالي أغلى لأن عدداً أكبر من المواشي سيتدافع عنده في نفس الوقت. بالطبع، قد يكون من الأرخص لمربي المواشي عدم إقامة سياج ودفع تكاليف المحاصيل التالفة طبقاً لما ورد في مثالي الرياضي أعلاه عند استخدامه ثلاثة رؤوس ماشية أو أقل.
قد يتبادر للذهن بأنه طالما أن مربي المواشي سيدفع الأضرار عن جميع المحاصيل التالفة فقد يدفع هذا المزارع إلى زيادة المزروع في أرضه إذا كان مربي المواشي سيحتل الأرض المجاورة له. هذا غير صحيح. فإذا كان من الواضح أن المحصول يباع في ظروف منافسة صحيحة فإن التكلفة الهامشية ستكون مساوية لسعر الكمية المزروعة وأي توسع في الزراعة سيؤدي إلى تخفيض أرباح المزارع. وفي الحالة الجديدة فإن وجود تلف في المحصول سيعني بأن المزارع سيبيع كمية أقل في السوق ولكن إيراداته من محصول معين ستبقى كما هي لأن مربي المواشي سيدفع سعر السوق لأي كمية تالفة من المحصول. بالطبع إذا كان من المتعارف عليه أن تربية المواشي تؤدي إلى إتلاف محاصيل فإن إيجاد صناعة تربية مواشي قد ترفع سعر المحاصيل المعنية مما يجعل المزارعين عندئذ يزيدون من زراعاتهم. إلا أني أريد تركيز انتباهي على المزارع الفرد.
قلت سابقاً أن إشغال أرض مجاورة من قبل مربي مواشي لن يؤدي إلى زيادة كمية إنتاج المزارع، أو ربما لأغراض الدقة، زيادة الكمية المزروعة. الواقع أنه إذا كان لتربية المواشي أي تأثير فسيكون تخفيض الكمية المزروعة. السبب في ذلك أنه، وفي حالة أي قطعة أرض، إذا كانت قيمة المحصول التالف كبيرة بحيث تصبح الواردات من بيع الأجزاء غير التالفة من المحصول أقل من تكلفة مجموع تكاليف زراعة قطعة الأرض، فسيكون من المربح للمزارع ولمربي الماشية أن يعقدا صفقة تبقى فيها قطعة الأرض دون زراعة. يمكن إيضاح ذلك عن طريق مثال من الرياضيات. لنفترض مبدئياً أن قيمة المحصول التي يمكن الحصول عليها من زراعة قطعة أرض ما هي 12 دولاراً وأن التكلفة المترتبة على زراعة هذه القطعة هي 10 دولارات، فيكون الربح الصافي من زراعة الأرض هو دولارين، وسأفترض، لأغراض البساطة، أن المزارع يملك الأرض. لنفترض الآن أن مربي الماشية بدأ بعمله في القطعة المجاورة وأن قيمة المحصول التالف هو دولار واحد. في هذه الحالة يكون صافي ما يحصل عليه المزارع هو 11 دولاراً ثم يحصل على دولار واحد من مربي الماشية تعويضاً عن التلف الحاصل ويبقى الربح الصافي دولارين اثنين.
لنفترض الآن أن مربي الماشية وجد أن من المفيد له زيادة عدد قطيعه، حتى لو ارتفعت قيمة تعويض المحاصيل التالفة لجاره إلى 3 دولارات، وهذا يعني أن قيمة الإنتاج الإضافي من اللحوم يزيد عن التكاليف الإضافية بما في ذلك الدولارين الإضافيين المدفوعين لتعويض المحاصيل التالفة. ولكن مجمل التعويض عن التلف ارتفع الآن إلى 3 دولارات، وبقي الربح الصافي للمزارع نتيجة زراعة أرضه دولارين. سيكون مربي المواشي في وضع أفضل إذا وافق المزارع على عدم زراعة الأرض مقابل أي دفعة تقل عن 3 دولارات، وسيكون المزارع موافقاً على عدم زراعة الأرض مقابل أي دفعة تزيد عن دولارين. من الواضح أن هناك مجالاً لعقد صفقة متبادلة مرضية ستؤدي إلى التخلي عن الزراعة.[1] إلا أن الحجة نفسها تنطبق ليس فقط على زراعة كامل قطعة الأرض من قبل المزارع، بل على زراعة أي جزء منها. لنفترض، مثلاً، أن لقطيع الماشية مساراً محدداً إلى غدير ما أو مكان يستظل فيه. في حالة كهذه ستكون كمية التلف للمحاصيل الواقعة على جانبي هذا المسار كبيرة، وقد يجد كلاً من المزارع ومربي الماشية، تبعاً لذلك، أن من الأنفع لهما أن يعقدا صفقة يوافق المزارع بموجبها على عدم زراعة الأرض.
بيد أن ذلك يثير احتمالاً آخر. لنفترض أن هناك مساراً محدداً تماماً، ولنفترض أيضاً أن قيمة المحصول التي يمكن الحصول عليها من زراعة الأرض ستكون 10 دولارات ولكن تكلفة الزراعة ستكون 11 دولاراً. إذا لم يكن هناك مربي ماشية في الأرض المجاورة فستمرع الأرض خصباً عند زراعتها، أما بوجود مربي الماشية فمن الجائز جداً عند زراعة الأرض أن يتلف المحصول كله من قبل الماشية. في حالة كهذه يتعين على مربي الماشية دفع 10 دولارات للمزارع. صحيح أن المزارع سيخسر بذلك دولاراً، ولكن مربي الماشية سيخسر 10 دولارات. من الواضح أن هذه حالة لا يحتمل لها أن تستمر إلى ما لا نهاية لأن كلا الطرفين لا يرغبان في استمرار ذلك. سيكون هدف المزارع حث مربي الماشية على دفع مبلغ مقابل ترك الأرض دون زراعة. لن يستطيع المزارع الحصول على مبلغ أكبر من تكلفة إقامة سياج حول قطعته ولا مبلغٍ عالٍ جداً تجعل مربي الماشية يتخلى عن استخدام الأرض المجاورة. المبلغ الذي سيتم دفعه فعلاً سيعتمد على مدى براعة المزارع ومربي الماشية كمفاوضين. ولكن وحيث أن المبلغ لن يكون كبيراً بحيث يدفع مربي الماشية للتخلي عن هذا الموقع، وحيث أنه لن يختلف باختلاف حجم القطيع، فإن اتفاقية كهذه لن تؤثر على تخصيص الموارد ولكنها ستعمل فقط على تغيير توزيع الدخل والثروة بين المزارع ومربي الماشية.
أعتقد أن من الواضح أنه إذا كان مربي المواشي متحملاً لمسؤولية التلف الذي تسبب به وعمل نظام التسعير بسلاسة فإن انخفاض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى سيؤخذ في الحسبان عند حساب التكلفة الإضافية الناتجة عن زيادة حجم القطيع. ستجري موازنة هذه التكلفة مقابل قيمة الإنتاج الإضافي من اللحوم كما أن تخصيص الموارد لتربية المواشي سيكون مثالياً في ضوء المنافسة المثالية في هذه الصناعة. ما هو بحاجة للتأكيد عليه هو أن انخفاض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى والذي سيؤخذ في الحسبان عند احتساب تكاليف مربي المواشي قد يكون أقل بكثير من قيمة التلف الذي قد يسببه قطيع الماشية للمحصول في الأحوال العادية، لأنه قد يكون من المحتمل، نتيجة للتعامل في السوق، التوقف عن زراعة الأرض. هذا أمر مرغوب به في جميع الحالات التي يكون فيها التلف الذي يسببه القطيع والذي سيكون مربي القطيع مستعداً لدفع تعويض عنه، أكبر من المبلغ الذي سيدفعه المزارع لاستخدام الأرض.
في ظروف المنافسة المثالية تكون القيمة التي سيدفعها المزارع لاستخدام الأرض مساوية للفرق بين القيمة الكلية للإنتاج عند استخدام العوامل على هذه الأرض وقيمة المنتج الإضافي المتحصلة في أفضل استخدام مقبل لهما (وهو المبلغ الذي سيدفعه المزارع من أجل العوامل). إذا تجاوز التلف المبلغ الذي سيدفعه المزارع لاستخدام الأرض فإن قيمة المنتج الإضافي للعوامل المستخدمة في نواحي أخرى ستتجاوز القيمة الكلية للمنتج في هذا الاستخدام بعد احتساب قيمة التلف. يترتب على ذلك أنه قد يكون من المرغوب به التخلي عن زراعة الأرض وتوجيه العوامل المستخدمة في الإنتاج إلى أماكن أخرى.
إن إجراءات تتوخى فقط دفع تعويض عن تلف المحصول بسبب المواشي ولكن دون تفكير في إمكانية وقف الزراعة ستؤدي إلى استخدام ضئيل جداً لعوامل الإنتاج في تربية المواشي واستخدام كبير جداً لعوامل تربية المواشي. ولكن في ضوء احتمالات تعاملات السوق فلن تصمد حالة يتجاوز فيها تلف المحصول قيمة إيجار الأرض. سواءً دفع مربي المواشي للمزارع لترك الأرض دون زراعة أو قام هو نفسه باستئجار الأرض (إذا كان المزارع نفسه هو مستأجر الأرض)، فالنتيجة النهائية ستكون هي نفسها وسترفع قيمة الإنتاج للحد الأقصى. حتى عندما يكون هناك حافز لدى المزارع لزراعة محاصيل ليست زراعتها مربحة عند البيع في السوق فإن ذلك سيكون ظاهرة قصيرة المدى فقط وربما يكون متوقعاً منها أن تؤدي إلى اتفاقية يتم بموجبها التوقف عن الزراعة. سيبقى مربي المواشي في ذلك الموقع وستكون التكلفة الهامشية لإنتاج اللحوم هي نفسها كما كانت من قبل، وبذلك لا يكون لها أثر طويل المدى على تخصيص الموارد.
نظام التسعير دون مسؤولية عن الضرر
أعود الآن إلى الحالة التي، برغم أن نظام التسعير يعمل بسلاسة (أي دون تكاليف)، تكون فيها الجهة المسببة للضرر غير مسؤولة عن أي ضرر تسبب فيه. جهة كهذه ليست مسؤولة عن دفع تعويضات للمتضررين من نشاطاتها. أقترح بأن أعرض بأن تخصيص الموارد في هذه الحالة سيكون هو نفسه في الحالة التي تكون فيها الجهة المسببة للضرر مسؤولة عن الضرر الحاصل. وحيث أني بينت في الحالة السابقة بأن تخصيص الموارد كان مثالياً فلن يكون من الضروري إعادة الحديث في هذا الجزء من النقاش.
أعود إلى حالة المزارع ومربي المواشي. يعاني المزارع من مزيد من التلف لمحصول كلما ازداد حجم القطيع. لنفرض أن حجم قطيع مربي المواشي هو ثلاثة رؤوس (وهذا هو حجم القطيع الذي يجب عدم تجاوزه إذا لم يكن تلف المحصول سيؤخذ في الحسبان). في هذه الحالة سيكون المزارع مستعداً لدفع 3 دولارات إذا خفض مربي المواشي قطيعه إلى رأسين ولغاية 5 دولارات إذا أبقى رأساً واحداً وسيدفع 6 دولارات إذا تخلى مربي المواشي عن هذا النشاط تماماً. تبعاً لذلك فإن مربي المواشي سيتلقى 3 دولارات من المزارع إذا أبقى رأسين فقط في قطيعه بدلاً من ثلاثة رؤوس. هذه الثلاثة دولارات إذن هي جزء من تكاليف إبقاء الرأس الثالث. سواءً كانت الدولارات الثلاث هي مبلغ يتعين على مربي المواشي دفعه إذا أضاف رأساً ثالثاً إلى قطيعه (وهو ما سيحدث إذا كان مسؤولاً تجاه المزارع عن الضرر الواقع على المحصول) أو كانت مبلغاً سيتلقاه إذا لم يحتفظ برأس ثالث (وهو ما سيحدث إذا لم يكن مربي المواشي مسؤولاً تجاه المزارع عن الضرر الواقع على المحصول) فإن النتيجة النهائية لن تتأثر. في كلا الحالتين تكون الدولارات الثلاث هي جزء من تكلفة إضافة رأس ثالث من ضمن التكاليف الأخرى. إذا كانت الزيادة في قيمة الإنتاج من تربية المواشي عن طريق زيادة حجم القطيع من رأسين إلى ثلاثة رؤوس أكبر من التكاليف الإضافية التي سيتم تحملها (بما في ذلك 3 دولارات مقابل الضرر)، فإن حجم القطيع سيزداد. والعكس بالعكس. حجم القطيع سيبقى هو نفسه سواءً كان مربي المواشي مسؤولاً عن ضرر المحصول أم لا.
قد يحاجج البعض بأن نقطة البدء المفترضة—قطيع من ثلاثة رؤوس—هي نقطة جدلية، وهذا صحيح. ولكن المزارع لن يكون مستعداً لدفع أي مبلغ لتجنب تلف المحصول إذا لم يكن بوسع مربي المواشي التسبب في هذا التلف. على سبيل المثال، المبلغ الأقصى الذي قد يمكن حفز المزارع على دفعه سنوياً لا يمكن أن يتجاوز 9 دولارات، وهي قيمة التكلفة السنوية لإنشاء سياج. ولن يكون المزارع مستعداً لدفع هذا المبلغ إذا كان من شأنه خفض أرباحه إلى مستوى يجعله يتخلى عن زراعة قطعة الأرض هذه بالذات. زيادة على ذلك فإن المزارع لن يكون مستعداً لدفع هذا المبلغ إلا إذا كان مقتنعاً بأنه إذا لم يدفع أي مبلغ، فإن حجم القطيع الذي سيحتفظ به مربي المواشي سيكون أربعة رؤوس أو أكثر.
لنفرض أن هذا هو واقع الحال، وعليه فسيكون المزارع مستعداً لدفع ما يصل إلى 3 دولارات إذا خفض مربي المواشي عدد القطيع إلى ثلاثة رؤوس، ولغاية 6 دولارات إذا خفضه إلى رأسين ولغاية 8 دولارات إذا خفضه إلى رأس واحد ولغاية 9 دولارات إذا تم التخلي عن مشروع تربية المواشي. يلاحظ أن التغيير في نقطة البدء لم تغير من قيمة المبلغ الذي سيتوفر لمربي المواشي إذا خفض قطيعه إلى أي عدد. صحيح أن مربي المواشي يستطيع تلقي 3 دولارات إضافية من المزارع إذا وافق على تخفيض عدد مواشي قطيعه من ثلاثة رؤوس إلى رأسين وأن هذه الدولارات الثلاثة تمثل قيمة المحصول الذي سيتلف في حالة إضافة رأس ثالث للقطيع. ورغم أن قناعة مختلفة من جانب المزارع (سواءً كانت مبررة أم لا) حول حجم القطيع الذي سيحتفظ به مربي المواشي إذا لم يدفع له مقابل ذلك قد تؤثر على المبلغ الكلي الذي يمكن حفزه لدفعه، فليس صحيحاً أن هذه القناعة المختلفة سيكون لها أي تأثير على حجم القطيع الذي سيحتفظ به مربي الماشية فعلاً. سيكون هذا نفس الشيء إذا ما كان على مربي الماشية أن يدفع تعويضاً عن التلف الذي تسبب فيه قطيعه، حيث أن دفعة سابقة من مبلغ معين تساوي مبلغاً بنفس القيمة.
قد يخطر في البال أنه ربما كان في صالح مربي المواشي زيادة عدد رؤوس قطيعه عن الحجم الذي يريده بعد أن يكون قد تم التوصل إلى صفقة معينة لكي يحفز المزارع على دفع مبلغ أكبر. قد يكون هذا صحيحاً، ويماثل في طبيعته سلوك المزارع (عندما كان مربي المواشي مسؤولاً عن الضرر) في زراعة الأرض التي، وفقاً لاتفاق مع مربي المواشي، كان سيتم التوقف عن زراعتها (بما في ذلك الأرض التي لن تزرع أبداً في غياب تربية المواشي). ولكن مناورات كهذه إنما هي تمهيد لاتفاق ولا تؤثر على حالة التوازن القائمة منذ وقت طويل، وهي ذاتها سواءً كان مربي المواشي مسوؤلاً عن الضرر الذي توقعه مواشيه على المحصول أم لا.
من الضروري معرفة ما إذا كانت الجهة المسببة للضرر مسؤولة أم لا عن الضرر الناتج حيث أنه دون التحقق من هذا التحديد الأولي للحقوق فلن يكون هناك تعاملات ملحوظة لنقلها وإعادة جمعها. ولكن النتيجة النهائية (التي تعظم قيمة الإنتاج) تعتمد على الوضع القانوني إذا كان لنظام التسعير أن يعمل دون تكلفة.
إحتساب تكلفة معاملات السوق

وصل النقاش إلى هذه النقطة على افتراض أنه لم تكن هناك تكاليف تَدْخل في إجراء تعاملات في السوق. هذا، بالطبع، افتراض غير واقعي للغاية، فلكي يتم إجراء تعامل في السوق فمن الضروري معرفة من هو الشخص الذي ستتعامل معه وجعل الناس يعرفون بأنك ترغب في التعامل وبأي شروط، وإجراء مفاوضات تؤدي إلى عقد صفقة، وكتابة العقد وإجراء التدقيق الضروري للتأكد من الالتزام بشروط العقد وما إلى ذلك. هذه العمليات مكلفة جداً غالباً، ومكلفة بما فيه الكفاية على أي حال لدرجة إحباط عدة تعاملات كان يمكن أن تتم في عالم بنظام تسعير دون تكلفة.
عندما تناولنا، في فصول سابقة، مشكلة إعادة ترتيب الحقوق القانونية من خلال السوق، ذكرنا بأن إعادة ترتيبٍ كهذه ستتم من خلال السوق كلما كان من شأن ذلك أن يؤدي إلى زيادة قيمة الإنتاج. ولكن ذلك كان يفترض تعاملات في السوق دون تكلفة. ما أن تؤخذ تكاليف تنفيذ التعاملات في السوق في الحسبان حتى يصبح من الواضح أن إعادة ترتيب كهذه للحقوق لا يمكن أن تتم إلا عندما تصبح الزيادة في قيمة الإنتاج المترتبة على إعادة الترتيب أكبر من التكاليف التي تتطلبها الزيادة. إذا كانت أقل من التكاليف، فإن إصدار أمر قضائي (أو العلم بأنه سيصدر) أو مسؤولية دفع تعويضات عن الأضرار قد تؤدي إلى وقف نشاط ما (أو منع الشروع به) وهو النشاط الذي كان سيتم لو كانت تعاملات السوق دون تكلفة. في حالات كهذه يكون للتحديدات الأولية للحقوق القانونية تأثر على الكفاءة التي يعمل بها النظام الاقتصادي. فقد يؤدي أحد ترتيبات الحقوق إلى قيمة أكبر في الإنتاج من ترتيب آخر، ولكن ما لم يكن ذلك هو ترتيب الحقوق المقرر من قبل الجهاز القضائي، فإن تكاليف الوصول إلى نفس النتيجة عن طريق تبديل ودمج الحقوق من خلال السوق قد تكون كبيرة لدرجة تجعل من المحتمل عدم تحقيق هذه الترتيبات المثالية للحقوق والقيمة الأكبر في الإنتاج التي ستنشأ عنها. سنبحث في الفصل القادم الجزء المتعلق بالاعتبارات الاقتصادية في عملية تحديد الحقوق القانونية. أما في هذا الفصل فسأتناول التحديد الأولي للحقوق وتكاليف تنفيذ تعاملات السوق حسب الواقع.
من الواضح أن شكلاً بديلاً من النظام الاقتصادي الذي قد يحقق نفس النتائج بتكلفة أقل مما قد يتم تكبده باستخدام السوق سوف يؤدي إلى رفع قيمة الإنتاج. وكما وضحت قبل سنوات عديدة، فإن الشركة تمثل بديلاً كهذا لنظام الإنتاج عن طريق تعاملات السوق. داخل الشركة يتم وقف الصفقات الفردية بين مختلف العوامل المتعاونة في الإنتاج ويتم العمل بقرارات إدارية بدلاً من تعاملات السوق. بعد ذلك تجري إعادة ترتيب الإنتاج دون الحاجة لصفقات بين من يملكون عوامل الإنتاج. قد يكرس مالك يشرف على قطعة كبيرة من الأرض أرضه لاستخدامات متنوعة واضعاً في اعتباره تأثير التداخلات المتشابكة لمختلف النشاطات على الإيرادات الصافية للأرض وبذلك يجعل الصفقات بين من يقومون بالنشاطات المتنوعة مسألة غير ضرورية. إن مالكي بناية كبيرة أو عدة ملكيات متجاورة في منطقة معينة قد يتصرفون بنفس الطريقة. في النتيجة تحصل الشركة على الحقوق القانونية لجميع الأطراف ولا تتبع إعادة ترتيب النشاطات مسار إعادة ترتيب حقوق بموجب عقد بل نتيجة لقرار إداري يحدد كيفية استخدام الحقوق.
لا يعني ذلك، بالطبع، أن التكاليف الإدارية لتنظيم معاملة ما عن طريق شركة هي حتماً أقل من تكاليف تعاملات السوق التي تم إلغاؤها. إلا أنه عندما يكون من الصعب بصورة غير طبيعية صياغة العقود وأن تؤدي محاولة وصف ما اتفق أو لم يتفق عليه الأطراف (مثلاً كمية ونوع الرائحة والضجيج التي قد يحدثوه أو لا يحدثوه) إلى ضرورة إعداد وثيقة مطولة وعميقة التخصص، وعندما يكون من المرغوب به إعداد عقد طويل الأجل، كما هو مرجح، فليس مما يبعث على الدهشة ألا يكون بروز شركة أو تحديد نشاطات شركة قائمة حالياً هو الحل الذي يتم تبنيه في حالات عديدة للتعامل مع مشكلة التأثيرات الضارة. قد يتم تبني هذا الحل كلما كانت التكاليف الإدارية للشركة أقل من تكاليف تعاملات السوق التي ألغتها وكانت المكاسب الناجمة عن إعادة ترتيب النشاطات أكبر من تكاليف الشركة في تنظيمها. لا أحتاج للتوسع في فحص طبيعة هذا الحل حيث أني كنت قد شرحت ما ينطوي عليه في مقال سابق.
ولكن الشركة ليست هي الإجابة الممكنة الوحيدة على هذه المشكلة. فقد تكون التكاليف الإدارية لتنظيم التعاملات ضمن الشركة مرتفعة أيضاً خصوصاً عندما توضع عدة نشاطات مختلفة تحت سيطرة مؤسسة واحدة. في الحالة القياسية لإزعاجٍ ناجم عن الدخان، والذي قد يؤثر على عدد كبير من الناس يمارسون نشاطات مختلفة، فإن التكاليف الإدارية قد تكون عالية جداً بحيث تجعل من المستحيل أن ينحصر التعامل مع المشكلة في شركة واحدة. وأحد الحلول البديلة هو تدخل تنظيمي حكومي مباشر، فبدلاً من إيجاد تنظيم قانوني للحقوق يمكن تعديله بتعاملات في السوق، تستطيع الحكومة فرض أنظمة تنص على ما يجب فعله أو عدم فعله ووجوب إطاعة هذه الأنظمة. تبعاً لذلك، تستطيع الحكومة (بموجب نص قانوني أو على الأغلب عن طريق ترتيبات إدارية)، ومن أجل التعامل مع مشكلة التلوث الدخاني، أن تصدر مرسوماً مفاده السماح أو عدم السماح باستخدام وسائل إنتاج معينة (مثلاً، وجوب تركيب أجهزة منع انبعاث دخان أو عدم استخدام الفحم أو البترول) أو قد تحصر ترخيص نشاطات معينة في مناطق محددة (تنظيم مناطق).
الحكومة هي، على نحو ما، شركة كبيرة (ولكن من نوع خاص جداً) لأنها قادرة على التأثير على عوامل الإنتاج من خلال قرارات إدارية. إلا أن الشركة العادية تخضع لتدقيق عملياتها بسبب منافسة الشركات الأخرى والتي تستطيع إدارة نفس النشاطات بتكلفة أقل، وأيضاً بسبب أن هناك دائماً بديلاً هو تعاملات السوق مقابل التنظيم داخل الشركة إذا أصبحت التكاليف الإدارية كبيرة جداً. تستطيع الحكومة، إذا شاءت، تجنب السوق كلياً، وذلك ما لا تستطيعه الشركات أبداً. الشركات يتعين عليها عقد اتفاقيات سوق مع ملاك عناصر الإنتاج التي تستخدمها، بينما تستطيع الحكومة اللجوء إلى المصادرة والاستملاك وتستطيع أن تأمر بأن استخدام عوامل الإنتاج يجب أن تستخدم فقط بهذه الطريقة أو تلك. الأساليب السلطوية كهذه تخفف كثيراً من المشاكل (بالنسبة لمن يقومون بالتنظيم). إضافة لذلك، فَتَحْت تصرف الحكومة شرطة وأجهزة أخرى لتنفيذ القوانين والتأكد من تطبيق الأنظمة التي تصدرها.
من الواضح أن لدى الحكومة سلطات تمكنها من إنجاز أشياء بتكلفة أقل من المؤسسات الخاصة (أو على أية حال أي مؤسسة ليس لديها سلطات حكومية). إلا أن الجهاز الإداري للحكومة ليس مجانياً، بل الواقع أنه قد يكون باهظ التكلفة أحياناً. زيادة على ذلك فليس هناك سبب للافتراض بأن الأنظمة المحددة وأنظمة تحديد المناطق التي تضعها إدارة قابلة للوقوع في الخطأ وتتعرض لضغوط سياسية وتعمل دون تدقيق منافس ستكون دائماً وبالضرورة هي الأنظمة التي تزيد الكفاءة التي تعمل بها الأجهزة الاقتصادية. إضافة لذلك فإن أنظمة عامة كهذه والتي يجب تطبيقها على حالات متنوعة واسعة سيجري تطبيقها أحياناً في حالات من الواضح أنها غير مناسبة لها. بناءً على هذه الاعتبارات يمكن القول بأن التنظيم الحكومي المباشر لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج أفضل من ترك المشكلة للحل بأدوات السوق أو الشركة. بيد أنه يمكن القول وبدرجة متساوية أنه ليس هناك سبب لأن لا يؤدي تنظيم حكومي مباشر كهذا، في بعض الأحيان، إلى تحسن الكفاءة الاقتصادية. يبدو ذلك محتملاً غالباً عندما يطال التأثير عدداً كبيراً من الناس، كما يحدث عادة في مثال الإزعاج الناجم عن الدخان، وحيث، تبعاً لذلك، قد تكون تكلفة معالجة المشكلة، عن طريق السوق أو عن طريق شركة، تكلفة عالية.
هناك، بالطبع، بديل آخر، لا علاقة له بالمشكلة على الإطلاق. وفي ضوء أن تكاليف حل المشكلة عن طريق أنظمة يصدرها الجهاز الإداري الحكومي ستكون مرتفعة غالباً (خصوصاً إذا كان مفهوم التكاليف يشمل جميع العواقب الناجمة عن انشغال الحكومة في هذا النوع من النشاط) فما لا شك فيه أن النتيجة ستكون هي الحالة المتعارف عليها وهي أن المكسب الذي سيتحقق عن طريق تنظيم الأعمال المنتجة للتأثيرات الضارة سيكون أقل من التكاليف التي تتحملها الحكومة في عملية التنظيم.
إن بحث مشكلة التأثيرات الضارة في هذا الفصل (حيث تؤخذ في الحسبان تكاليف تعاملات السوق) قاصر للغاية، ولكنه قد أوضح على الأقل بأن المشكلة هي مشكلة اختيار الترتيب الاجتماعي الملائم للتعامل مع التأثيرات الضارة. هناك تكلفة لجميع الحلول وليس هناك ما يدعو للافتراض بأن الدعوة لتنظيم حكومي تأتي ببساطة لأن السوق أو الشركة لا يستطيعان معالجة المشكلة بطريقة جيدة. لا يمكن التوصل إلى آراء مرضية حول السياسة الضرورية إلا من خلال دراسة متأنية حول الكيفية التي تعالج بها عملياً الأسواق أو الشركات أو الحكومات مشكلة التأثيرات الضارة. يتعين على الاقتصاديين دراسة أسلوب عمل الوسيط في جميع الأطراف معاً، وفعالية التعليمات المقيِّدة، ومشاكل شركات تطوير العقارات الواسعة، وعمليات تخصيص المناطق من قبل الحكومات، والنشاطات التنظيمية الأخرى. في اعتقادي أن الاقتصاديين ومقرري السياسات بشكل عام يميلون للمبالغة في تقدير الفوائد الناجمة عن التنظيم الحكومي. ولكن هذه القناعة، حتى لو كانت مبررة، لا تعدو أن توحي بأن من الضروري تقليص التنظيم الحكومي. إنها لا تبين لنا أين نضع الحدود الفاصلة، ويبدو أن هذا ينبغي أن يأتي عن طريق دراسة مفصلة للنتائج الفعلية لمعالجة المشكلة بطرق عدة. ولكن سيكون من سوء الحظ أن تتم هذه الدراسة بالاستعانة بتحليل اقتصادي خاطئ. الهدف من هذا المقال هو الإشارة إلى ما ينبغي أن تكون عليه المقاربة الاقتصادية لهذه المشكلة.
التحديد القانوني للحقوق والمشكلة الاقتصادية
بالطبع، لو لم تكن هناك تكلفة لتعاملات السوق، فكل ما يهم (بمعزل عن الأسئلة المتعلقة بالإنصاف) هو ضرورة تحديد حقوق الأطراف المختلفة بوضوح وأن يكون من السهل التنبؤ بنتائج الإجراءات القانونية. ولكن، وكما رأينا، فالموقف مختلف تماماً عندما تكون تعاملات السوق مكلفة للغاية بحيث يصبح من الصعب تغيير ترتيبات الحقوق كما حددها القانون. في حالات كهذه فإن المحاكم تؤثر مباشرة على النشاط الاقتصادي. تبعاً لذلك يبدو من المرغوب فيه أن تفهم المحاكم العواقب الاقتصادية لقراراتها وعليها أن تأخذ هذه العواقب في اعتبارها عندما تصدر قراراتها، طالما كان ذلك ممكناً دون خلق الكثير من الشك في الوضع القانوني نفسه. حتى عندما يكون من الممكن تغيير التحديدات القانونية للحقوق من خلال تعاملات السوق فمن الواضح أن من المرغوب به تقليل الحاجة لتعاملات كهذه وبالتالي تخفيض استخدام المصادر المطلوبة لتنفيذها.
إن دراسة شاملة للافتراضات المسبقة للمحاكم في النظر في قضايا كهذه ستكون في غاية الأهمية ولكنني لم أتمكن من محاولة البدء بذلك. مع ذلك فمن الواضح من خلال دراسة سريعة أن المحاكم قد أدركت غالباً الأبعاد الاقتصادية لقراراتها وأنها تعي (بأكثر من العديد من الاقتصاديين) الطبيعة التبادلية للمشكلة. إضافة لذلك فإن المحاكم تأخذ، بين حين وآخر، هذه الأبعاد الاقتصادية في الاعتبار إلى جانب عوامل أخرى عند اتخاذ قراراتها. الكتّاب الأمريكيون المختصون في هذا المجال يشيرون إلى السؤال بطريقة أكثر وضوحاً من الكتّاب البريطانيين. من هنا، واقتباساً من عالم الاقتصاد بوزنر عن الجنح، يمكن لشخص ما استخدام أملاكه الخاصة أو ممارسة أعماله الخاصة على حساب بعض الإزعاج لجيرانه. يمكن له تشغيل مصنع ينتج عن دخانه وضجيجه بعض الإزعاج للآخرين طالما أن ذلك يتم في حدود معقولة. فقط عندما تصبح الممارسات غير معقولة—في ضوء طبيعة استخداماته والضرر الناتج عنها—يصح اعتبارها مؤذية. كما قيل في قضية قديمة حول صناعة الشموع في إحدى المدن الصغيرة (فائدة الشيء تغطي على وجود الرائحة الكريهة): يجب أن يكون هناك في العالم مصانع، ومعامل صهر، ومصافي بترول وآلات تُصدر ضجيجاً وانفجارات حتى لو كان ذلك على حساب بعض الإزعاج لأولئك الذين يعيشون في الضواحي المحيطة وقد يطلب من المدعي قبول بعض الإزعاج المعقول من أجل الصالح العام.
لا يوضح عامة الكتّاب البريطانيين على هذا النحو بأن مقارنةً بين المنفعة والضرر الناتج تعتبر عنصراً في تقرير ما إذا كانت التأثيرات الضارة تعتبر مؤذية. إلا أنه يمكن العثور على وجهات نظر مماثلة وإن كان التعبير عنها أقل حدة. المبدأ القائل بأن التأثير الضار يجب أن يكون ملموساً قبل أن تتدخل المحكمة، يعكس جزئياً، دون شك، حقيقة أنه سيكون هناك دائماً تقريباً نوع من المكسب يوازن الضرر. ومن الواضح في تقارير قضايا الأفراد أن القضاة قد أخذوا في اعتبارهم الخسارة مقابل الربح عندما يقررون توجيه إنذار أو الحكم بتعويضات.
المشكلة التي نواجهها في التعامل مع تصرفات ذات تأثيرات ضارة ليست ببساطة مشكلة تقييد أولئك المسؤولين عنها. ما يجب اتخاذ قرار بصدده هو ما إذا كان المكسب من منع الضرر أكبر من الخسارة التي قد تلتحق بآخرين نتيجة لوقف العمل المنتج للضرر. في عالم توجد فيه تكاليف لإعادة ترتيب الحقوق التي أوجدها النظام القضائي، تقوم المحاكم فعلياً في القضايا المتعلقة بالإزعاج والأذى باتخاذ قرارات حول المشاكل الاقتصادية وتقرر كيفية استخدام الموارد. قيل بأن المحاكم تدرك ذلك وأنها غالباً ما تجري مقارنة، ولكن ليس بطريقة واضحة تماماً، بين الكسب الذي قد يتحقق والخسارة التي قد تحدث في حالة منع أعمال ذات تأثيرات ضارة. ولكن تحديد الحقوق جاء أيضاً لسن قوانين، وهنا نجد أيضاً دليلاً على تقدير الطبيعة التبادلية للمشكلة. وفي حين أن القوانين التشريعية تضاف إلى قائمة المزعجات، يتم استحداث قوانين للسماح قانوناً بأعمال قد يمكن اعتبارها إزعاجاً ضمن الأعراف والتقاليد. إن نوع الحالة التي قد يُطلب من الاقتصاديين النظر في ضرورة إيجاد تشريع حكومي تصحيحي لها هي، في الواقع، غالباً ما تكون قد برزت نتيجة لعمل حكومي. عمل كهذا ليس غير حكيم بالضرورة، ولكن هناك خطراً حقيقياً في أن تدخلاً حكومياً ممتداً في الشأن الاقتصادي قد يؤدي إلى حماية أكثر مما ينبغي للمسؤولين عن إنتاج التأثيرات الضارة.
معالجة بيغو في “اقتصاديات الرفاه”

رأس النبع في التحليل الاقتصادي الحديث للمشكلة المطروحة للبحث في هذا المقال هو كتاب بيغو:اقتصاديات الرفاه، وخصوصاً ذلك الفصل من الجزء الثاني الذي يتناول الاختلاف بين المنتجات النهائية على المستوى الخاص والمستوى الاجتماعي التي تحدث لأن فرداً (أ) في سياق تقديمه خدمة ما، مدفوعة الأجر، لشخص آخر (ب) يقدم أيضاً ودون قصد خدمات أو يلحق ضرراً لأشخاص آخرين (ليسوا منتجين لخدمات مماثلة) بطريقة تجعل من غير الممكن تقاضي الثمن من الأطراف المستفيدة أو تفرض تعويضاً نيابة عن الأطراف المتضررة. يقول لنا بيغو أن هدفه في الجزء الثاني من اقتصاديات الرفاه هو التأكد من المدى الذي تميل فيه حرية التصرف في سبيل المصلحة الذاتية، ضمن النظام القانوني الحالي، إلى توزيع موارد البلاد بأفضل طريقة مناسبة لإنتاج عائدات قومية كبيرة وإلى أي مدى تفيد إجراءات الدولة في إدخال تحسينات على الميول “الطبيعية”.
إذا أردنا الحكم على الأمر من الجزء الأول لهذا النص نجد أن قصد بيغو هو اكتشاف ما إذا كان بالإمكان إدخال أي تحسينات على الترتيبات القائمة حالياً التي تحدد استخدام الموارد. وحيث أن استنتاج بيغو هو أن بالإمكان إدخال تحسينات فربما كان المرء يتوقع منه الاستمرار بالقول بأنه يقترح عرض التغييرات المطلوبة لإيجاد هذه التحسينات. عوضاً عن ذلك فإن بيغو يضيف عبارة تضع الميول “الطبيعية” في تناقض مع إجراءات الدولة، والتي يبدو أنها تساوي على نحو ما بين الترتيبات الحالية والميول “الطبيعية” والإيحاء بأن المطلوب لإيجاد هذه التحسينات هو الإجراءات الحكومية (إذا كانت مجدية). هذا هو تقريباً موقف بيغو كما يستدل من الفصل الأول من الجزء الثاني.
يبدأ بيغو بالإشارة إلى “الأتباع المتفائلون للاقتصاديين التقليديين” الذين حاججوا بأنه يمكن تعظيم قيمة الإنتاج إذا امتنعت الحكومة عن أي تدخل في النظام الاقتصادي والترتيبات الاقتصادية إذا كانت تجري بصورة “طبيعية”. ويمضي بيغو إلى القول أنه إذا كانت المصلحة الذاتية تروج الرفاه الاقتصادي فذلك لأن المؤسسات الإنسانية قد صممت لهذه الغاية. (هذا الجزء من محاججة بيغو، والذي طورها باقتباس من كارمان، يبدو لي صحيحاً). وينتهي بيغو إلى أنه:
“حتى في أشد الحالات تقدماً هناك قصور وأخطاء… عوائق عديدة تمنع من توزيع موارد المجتمع… بأقصى قدر من الكفاءة. دراسة هذه العوائق هي مشكلتنا الحالية… وأغراضها بصورة أساسية هي أغراض عملية، فهي تسعى إلى إيضاح بعض السبل التي تجعل من المجدي الآن أو قد يصبح من المجدي في نهاية المطاف للحكومات أن تسيطر على حركات القوى الاقتصادية بطريقة حكيمة لتشجيع الرفاه الاقتصادي، ومن خلاله، الرفاه الكلي، لمواطنيها جميعاً”.
يبدو أن فكرة بيغو الأساسية هي: حاجَجَ البعض بأنه لا حاجة لأي إجراء حكومي، ولكن النظام عمل بهذه الجودة بسبب الإجراءات الحكومية. مع ذلك فلا زال هناك أخطاء. ما هو الإجراء الحكومي الإضافي المطلوب؟ إذا كان هذا تلخيصاً صحيحاً لموقف بيغو، فإن العيب فيه يمكن إيضاحه عن طريق فحص المثال الأول الذي قدمه حول الفرق بين المنتجات الخاصة والمنتجات الاجتماعية. قد يحدث… أن تُلقى تكاليفٌ على أناسٍ ليسوا معنيين بالموضوع بصورة مباشرة، فلنقل، أضرارٌ دون تعويض لحقت بالغابات المجاورة بسبب نيران اندلعت من محركات قاطرات. جميع هذه التأثيرات ينبغي أن تكون مشمولة، بعضها سيكون إيجابياً وبعضها عناصر سلبية—في تقدير الناتج الاجتماعي الصافي من الزيادة الهامشية لأي حجم من الموارد تم تحويلها لأي استخدام أو أي مكان.
المثال المستخدم من قبل بيغو يشير إلى حالة حقيقية. ففي بريطانيا لا يتعين على هيئة السكك الحديدية عادة تعويض الذين يتعرضون لأضرار من النيران الناتجة عن شرر انطلق من محرك. أفهم توصيات بيغو في السياسة التي يجب انتهاجها في ضوء ما يقوله في الفصل التاسع من الجزء الثاني: أولاً، أنه يجب أن يكون هناك إجراء حكومي لتصحيح هذه الحالة “الطبيعية”، وثانياً أنه يجب إرغام هيئة السكك الحديدية على تعويض أولئك الذين تحرق غاباتهم. إذا كان هذا تفسيراً صحيحاً لموقف بيغو فأود القول بأن التوصية الأولى تستند إلى سوء فهم للحقائق وأن التوصية الثانية ليست أمراً مرغوباً به بالضرورة.
لندرس الآن الوضع القانوني. تحت عنوان “شررٌ من محركات” نجد ما يلي في القوانين الإنجليزية لهالسبوري:
“إذا استخدم القائمون على السكك الحديدية محركات بخارية في النقل على سككهم الحديدية دون سلطة قانونية لفعل ذلك فسيكونون مسؤولين، بغض النظر عن أي إهمال من جانبهم، عن النيران المشتعلة بسبب شررٍ انطلق من المحركات. إلا أن القائمين على السكك الحديدية لديهم صلاحيات تشريعية لاستخدام المحركات البخارية على سككهم الحديدية؛ وبناءً عليه، فإذا تم صنع محرك باستخدام الاحتياطات التي يقترحها العمل ضد النيران وتم استخدام هذا المحرك دون إهمال، فإنهم لا يكونون مسؤولين بموجب الأعراف والتقاليد عن أي ضرر قد يحدث بفعل الشرر… القائمون على السكك الحديدية ملزمون عند صناعة المحرك باستخدام جميع الاكتشافات التي وضعها العلم ضمن إمكانياتهم في سبيل تجنب إحداث أضرار، شريطة أن تكون هذه الاكتشافات معقولة بحيث تجعل الشركة تتبناها، مع إيلاء اهتمام مناسب لاحتمالات وقوع الضرر وللتكلفة وقابلية الإصلاح؛ ولكن لا يعتبر إهمالاً من جانب المسؤول في السكك الحديدية إذا رفض استخدام أجهزة أو أدوات مشكوك في كفاءتها وملائمتها. هناك استثناء لهذه القاعدة العامة ينطلق من قانون السكك الحديدية (النيران) لعام 1905 وتعديلاته عام 1923. وهذا يختص بالأراضي الزراعية أو المحاصيل الزراعية”.
في حالة كهذه فإن حقيقة أن المحرك قد تم استخدامه بموجب سلطات تشريعية لا يؤثر على مسؤولية الشركة في دعوى للتعويض عن الأضرار. بيد أن هذه المواد تنطبق فقط على الحالة التي لا تتجاوز فيها دعوى الضرر 200 جنيهاً [100 في قانون 1905] وحيث ينبغي أن تكون هناك مذكرة خطية عن حدوث الحريق والنية في المطالبة بتعويض قد تم إرسالهما إلى الشركة خلال سبعة أيام من وقوع الأضرار مع بيان مفردات الأضرار خطياً وبيان قيمة الدعوة على أن لا يتجاوز المبلغ 200 جنيهاً وأن ترسل المطالبة إلى الشركة خلال واحد وعشرين يوماً.
الأرض الزراعية لا تشمل الأرض الرعوية أو المباني، والمحاصيل الزراعية لا تشمل تلك التي تنقل بعيداً أو يجري تكديسها. لم أقم بدراسة عن كثب للتاريخ البرلماني لهذا الاستثناء القانوني، ولكن من الاطلاع على النقاشات في مجلس العموم خلال عامي 1922 و1923 يتضح بأن هذا الاستثناء قد تم تصميمه على الأرجح لصالح صغار الملاّك.
لنعد إلى مثال بيغو حول الأضرار غير المعوض عنها للغابات المجاورة التي نتجت عن شرر انطلق من محركات القطارات الحديدية. يفترض أن القصد من ذلك هو بيان كيف أن من الممكن “لإجراءات الحكومة أن تحسّن الميول [الطبيعية]”. إذا تعاملنا مع مثال بيغو باعتباره إشارة للوضع قبل عام 1905 أو باعتباره مثالاً جدلياً (من حيث أنه كان بإمكانه أن يكتب “بنايات مجاورة” بدلاً من “غابات مجاورة”) فعندئذ يصبح جلياً أن السبب في عدم دفع تعويض لا بد أن يكون أنه كان لسكك الحديد سلطة قانونية تخولها تسيير قطارات بخارية (والتي أعفتها من المسؤولية عن النيران الناتجة عن الشرر). هذا الوضع القانوني تأسس عام 1860 في قضية، وللغرابة، تتعلق بنشوب حريق في غابات مجاورة لسكة جديدة، ولم يتغير القانون حول هذه النقطة (ما عدا ذلك الاستثناء الوحيد) خلال قرن من التشريعات الخاصة بالسكك الحديدية، بما في ذلك التأميم.
إذا تعاملنا مع مثال بيغو حول “الضرر غير المعوض عنه للغابات المحيطة بسبب شرر انطلق من محركات قاطرات سكك حديدية” حرفياً، وافترضنا أنه يشير للفترة بعد عام 1905، عندئذ يصبح جلياً أن السبب في عدم دفع التعويض هو بالتأكيد لأن قيمة الضرر زادت عن 100 جنيهاً (في الطبعة الأولى من اقتصاديات الرفاه) أو اكثر من 200 جنيهاً (في طبعات لاحقة) أو أن مالك الغابة لم يبلغ السكك الحديدية خطياً خلال سبعة أيام من وقوع الحريق أو لم يرسل بياناً خطياً بمفردات الأضرار خلال 21 يوماً. في العالم الحقيقي، ليس هناك وجود لمثال بيغو إلا نتيجة لاختيار مدبر من قبل المشرِّع. ليس من السهل، بالطبع، تصور بناء سكة حديد بحالة طبيعية. أقرب ما يمكن للمرء أن يفكر فيه حول ذلك هو ما يفترض أنه سكة حديد تستخدم محركات بخارية “دون سلطة قانونية محددة”. إلا أن سكة الحديد ستكون ملزمة، في هذه الحالة، بتعويض أولئك الذين احترقت غاباتهم. أي، بعبارة أخرى، أن التعويض سيدفع في غياب إجراءات حكومية. الظروف الوحيدة التي لا يدفع فيها تعويض ستكون تلك الظروف التي لم تتخذ فيها إجراءات حكومية. ومن الغريب أن بيغو، الذي من الواضح أنه كان يعتقد بأن من الأفضل دفع التعويض، قد اختار هذا المثال بالذات للتدليل على كيف أن من الممكن “لإجراءات الدولة إدخال تحسينات على الميول [الطبيعية]”.
يبدو أنه كانت هناك أفكار غير صحيحة لدى بيغو حول حقائق هذه الحالة. ولكن يبدو أيضاً من المحتمل أنه كان مخطئاً في تحليله الاقتصادي. ليس من المرغوب فيه بالضرورة أن يتعين على سكة الحديد دفع تعويض للمتضررين من نيران اندلعت بسبب محركات القطارات. لست بحاجة إلى أن أبين هنا أنه إذا استطاعت شركة السكك الحديدية عقد صفقة مع كل من له عقار مجاور لخط السكك الحديدية ولم يكن هناك تكاليف في عقد هذه الصفقات، فليس من المهم فيما إذا كانت سكك الحديد مسؤولة عن الأضرار الناجمة عن النيران أم لا. لقد تم بحث هذه المسألة مطولاً في فصول سابقة. المشكلة هي فيما إذا كان من المرغوب به جعل السكك الحديدية مسؤولة في ظروف يكون فيها عقد صفقات من هذا النوع باهظ التكاليف.
من الواضح أن بيغو قد فكر أنه كان من المرغوب فيه إلزام السكك الحديدية بدفع تعويض ومن السهل فهم نوع النقاش الذي كان قد أدى به إلى هذا الاستنتاج. لنفرض أن شركة سكك حديدية تفكر في تسيير قطار إضافي أو زيادة سرعة قطار حالي أو تركيب أجهزة تمنع انطلاق الشرر من محركات قطاراتها. إذا لم تكن الشركة مسؤولة عن أضرار الحريق فإنها، عند اتخاذ هذه القرارات، لن تأخذ في الحسبان، كتكلفة، زيادة الضرر بسبب القطار الإضافي أو القطار الأسرع أو عدم تركيب أجهزة لمنع انطلاق الشرر. هذا هو مصدر الاختلاف بين الناتج الصافي الخاص والناتج الصافي الاجتماعي. إنه يؤدي إلى أن تقوم السكك الحديدية بأعمال من شأنها تخفيض قيمة الناتج الإجمالي—والتي لم تكن لتقوم بها لو كانت مسؤولة عن الأضرار. ويمكن إيضاح ذلك عن طريق مثال باستخدام الرياضيات.
لنفترض شركة سكك حديدية ليست مسؤولة عن الأضرار الناشئة عن اندلاع نيران بسبب شرر من محركات قطاراتها وتستخدم قطارين يومياً على خط معين. لنفترض أن تسيير قطار واحد يومياً سيمكن سكة الحديد من تقديم خدمات تساوي 150 دولاراً سنوياً وتسيير قطارين سيمكنها من تقديم خدمات تساوي 250 دولاراً سنوياً. لنفترض أيضاً أن تكلفة تسيير قطار واحد تساوي 50 دولاراً سنوياً وقطارين 100 دولار سنوياً. بافتراض منافسة صحيحة، تكون التكلفة معادلة لانخفاض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى بسبب استخدام عوامل إنتاج إضافية من قبل شركة السكك الحديدية. من الواضح أن الشركة ستجد أن من المربح لها تسيير قطارين يومياً.
ولكن لنفترض أن تسيير قطار واحد يومياً سيشعل حرائق تتلف محاصيل بقيمة 60 دولاراً (كمعدل خلال السنة) وتسيير قطارين سيؤدي إلى إتلاف محاصيل بقيمة 120 دولاراً. في ظروف كهذه يؤدي تسيير قطار واحد إلى زيادة قيمة الإنتاج الإجمالي ولكن تسيير قطار آخر سيؤدي إلى خفض قيمة الإنتاج الإجمالي. القطار الثاني سيجعل من الممكن تقديم خدمات إضافية بقيمة 100 دولار سنوياً، ولكن قيمة الإنتاج في نواحي أخرى ستنخفض بمقدار 110 دولارات سنوياً؛ 50 دولاراً نتيجة لاستخدام عوامل إنتاج إضافية و60 دولاراً نتيجة لإتلاف محاصيل. وحيث أنه سيكون من الأفضل لو لم يتم تسيير القطار الثاني، وحيث أنه لن يتم تسييره إذا اتضح بأن سكة الحديد ستكون مسؤولة عن الأضرار الواقعة على المحاصيل، فيبدو من الصعب مقاومة الاستنتاج بضرورة جعل الشركة مسؤولة عن الأضرار. ليس هناك من شك في أن منطقاً من هذا النوع هو الذي يحدد موقف بيغو.
الاستنتاج بأنه سيكون من الأفضل أن لا يتم تسيير قطارٍ ثان هو استنتاج صحيح. أما الاستنتاج بأن من المرغوب فيه أن تكون شركة سكة الحديد مسؤولة عن الضرر الذي تسبب به فهو خطأ. دعنا نغير افتراضنا الخاص بقاعدة المسؤولية. لنفرض أن سكة الحديد مسؤولة عن الضرر الناتج عن الحرائق الناشئة عن تطاير الشرر من المحركات. إن مزارعاً في الأراضي المجاورة لخط السكة الحديدية سيكون عندئذ في وضع يخوله، في حالة تدمير محصوله بنيران تسببت فيها الشركة، بتقاضي سعر السوق من الشركة، ولكن إذا لم يدمر محصوله فسيتقاضى سعر السوق نتيجة للمبيعات. تبعاً لذلك لا يعود هناك فرق لديه فيما إذا تم تدمير محصوله أم لا. الوضع مختلف تماماً إذا لم تكن شركة سكة الحديد مسؤولة، فأي تدمير للمحصول بواسطة نيران تسببت فيها الشركة سيخفّض عندئذ من عائدات المزارع، وتبعاً لذلك سيمتنع عن زراعة أي أرض يحتمل أن يكون فيها التلف أكبر قيمة من العائدات الصافية لزراعة الأرض (لأسباب تم شرحها باستفاضة في الفصل الثالث). تبعاً لذلك فإن تغييراً على نظام تكون فيه شركة سكة الحديد غير مسؤولة عن الأضرار إلى نظام تصبح فيه مسؤولة سيؤدي، على الأرجح، لزيادة في زراعة الأراضي المجاورة لخط السكة الحديدية. كما أن هذا التغيير سيؤدي أيضاً، بالطبع، إلى زيادة في كمية المحاصيل التالفة بواسطة حرائق تسببت بها القطارات.
لنعد إلى مثالنا الرياضي. لنفترض أنه مع تغير قاعدة المسؤولية تضاعفت كمية تدمير المحصول الناجمة عن نيران تسببت بها محركات القطارات. في حالة قطار واحد يومياً سيتم تدمير محاصيل بقيمة 120 دولاراً سنوياً وفي حالة تسيير قطارين يومياً سيتم تدمير محاصيل بقيمة 240 دولاراً سنوياً. رأينا سابقاً أنه لن يكون من المربح تسيير القطار الثاني إذا كان على الشركة أن تدفع 60 دولاراً سنوياً للتعويض عن الأضرار. وفي حالة أن كلفت التعويضات 120 دولاراً سنوياً فإن الخسارة من تسيير القطار الثاني ستزيد بمقدار 60 دولاراً. ولكن لنأخذ في الاعتبار مسألة القطار الأول، حيث قيمة خدمات النقل التي يقدمها هذا القطار تبلغ 150 دولاراً في حين أن تكاليف تشغيله هي 50 دولاراً. المبلغ الذي ستدفعه الشركة تعويضاً عن الأضرار هو 120 دولاراً. هذا يؤدي إلى الاستنتاج بأنه ليس من المربح تسيير أي قطار، فباستخدام الأرقام في مثالنا نصل إلى النتيجة التالية: إذا لم تكن شركة سكة الحديد مسؤولة عن الأضرار فسيتم تسيير قطارين يومياً، أما إذا كانت الشركة مسؤولة عن الأضرار فستوقف تشغيل قطاراتها كلياً. هل هذا يعني أن من الأفضل ألا تكون هناك سكة حديد؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال بالتفكير فيما قد يحصل لقيمة الإنتاج الكلي إذا تقرر إعفاء سكة الحديد من المسؤولية عن أضرار الحرائق، وبذلك يتم إعادتها للعمل (بتسيير قطارين يومياً).
تشغيل سكة الحديد سيؤمن تشغيل خدمات نقل بقيمة 250 دولاراً سنوياً، كما أن ذلك سيعني استخدام عوامل إنتاج من شأنها تخفيض قيمة الإنتاج في نواحي أخرى بمقدار 100 دولاراً. إضافة لذلك فسيعني أيضاً تدمير محاصيل بقيمة 120 دولاراً، كما أن تشغيل السكة سيؤدي إلى التخلي عن زراعة جزء من الأرض. ولما كنا نعرف أنه لو كانت هذه الأرض قد زرعت فإن قيمة المحاصيل التالفة ستبلغ 120 دولاراً وحيث أنه من المستبعد أن يتم تدمير كامل المحصول فيبدو من المعقول أن كمية المحصول من هذه الأرض ستكون أكثر من ذلك، ولنفترض أنها ستبلغ 160 دولاراً. ولكن التخلي عن زراعة الأرض سيحرر عوامل الإنتاج لتستخدم في أماكن أخرى. كل ما نعرفه أن كمية الزيادة في قيمة الإنتاج في أماكن أخرى ستكون أقل من 160 دولاراً. لنفرض أنها ستكون 150 دولاراً. عندئذ سيكون المكسب من تشغيل سكة الحديد 250 دولاراً (قيمة خدمات النقل) ناقص 100 دولاراً (قيمة عوامل الإنتاج) ناقص 120 دولاراً (قيمة المحاصيل التالفة بسبب النيران) ناقص 160 دولاراً (انخفاض قيمة إنتاج المحصول بسبب التخلي عن الزراعة) زائد 150 دولاراً (قيمة الإنتاج في أماكن أخرى نتيجة لتحرير عوامل الإنتاج). بالإجمال، سيزيد تشغيل سكة الحديد قيمة الإنتاج الإجمالي بقيمة 20 دولاراً.
من الواضح، بهذه الأرقام، أن سكة الحديد ينبغي ألا تكون مسؤولة عن الأضرار التي تتسبب بها وبذلك تتمكن من العمل مع تحقيق أرباح. بالطبع، إذا غيرنا الأرقام فسيكون من الممكن بيان أن هناك حالات أخرى قد يكون من المرغوب فيها أن تكون سكة الحديد مسؤولة عن الضرر الذي تتسبب فيه. يكفي للغرض الذي أقصده أن أبين بأنه، من وجهة نظر اقتصادية، فإن حالة توجد فيها “أضرار دون تعويض حصلت لغابات بسبب شرر انطلق من محركات قطارات” ليست حالة غير مرغوبة بالضرورة. أن تكون مرغوبة أم لا تعتمد على ظروف معينة. كيف حصل أن تحليل بيغو يبدو أنه يوفر الجواب الخطأ؟ السبب هو أن بيغو لا يبدو أنه قد لاحظ بأن تحليله يتناول مسألة مختلفة تماماً. التحليل من هذه الزاوية صحيح، ولكن لا يحق أبداً لبيغو أن يتوصل إلى ذلك الاستنتاج بالذات الذي توصل إليه.
السؤال المطروح للبحث ليس ما إذا كان من المرغوب به تسيير قطار إضافي أو قطار أسرع أو تركيب أجهزة منع حرائق؛ السؤال المطروح للبحث هو ما إذا كان من المرغوب به أن يكون هناك نظام يتعين فيه على شركة سكة الحديد تعويض أولئك الذين يتعرضون لأضرار بسبب حرائق تسببت بها الشركة أو نظام لا يتعين عليها فيه دفع تعويضات. عندما يقارن اقتصادي ترتيبات اجتماعية بديلة، فالأسلوب الصحيح هو مقارنة الناتج الاجتماعي الإجمالي الناجم عن هذه الترتيبات المختلفة. مقارنة الناتج الاجتماعي بالناتج الخاص ليس هنا ولا هناك، ويمكن استخدام مثال بسيط لإيضاح ذلك: تخيل بلدة فيها إشارات ضوئية. يقترب سائق سيارة من تقاطع ويتوقف لأن الضوء أحمر. ليس هناك سيارات أخرى تقترب من التقاطع من الجهات الأخرى. إذا تجاهل السائق الإشارة الحمراء فلن يقع حادث وسيزيد الناتج الإجمالي لأن السائق سيصل خلال وقت أقل إلى وجهته. لماذا لا يفعل ذلك؟ السبب هو أنه إذا تجاوز الإشارة الحمراء فقد تجري مخالفته. الناتج الخاص من اجتياز الشارع أقل من الناتج الاجتماعي. هل يتعين علينا الاستنتاج من ذلك أن الناتج الإجمالي سيكون أكبر إذا لم تكن هناك مخالفات لعدم الالتزام بالإشارة الضوئية؟ تحليل بيغو يبين لنا أن من الممكن التفكير بعوامل أخرى أفضل من العالم الذي نعيش فيه، ولكن المشكلة هي ابتكار ترتيبات عملية من شأنها تصحيح الخلل في جزء من النظام دون التسبب في مزيد من الأضرار الخطيرة في أجزاء أخرى.
لقد فحصت بالكثير من التفصيل في مثال واحد الاختلاف بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي ولست أقترح مزيداً من التدقيق في النظام التحليلي لبيغو. إلا أن البحث الرئيسي للمشكلة الذي تطرقنا له في هذا المقال موجود في ذلك القسم من الفصل التاسع في الجزء الثاني والذي يتناول الدرجة الثانية من التشعب في نظرية بيغو، ومن المثير للاهتمام ملاحظة الطريقة التي يطور بها بيغو مناقشته. لقد تم اقتباس وصف بيغو نفسه لهذه الدرجة الثانية من التشعب في بداية هذا الفصل. ويميز بيغو بين الحالة التي قدم فيها شخص خدمات لا يتلقى أجراً عنها والحالة التي يُحدِثُ فيها شخص ضرراً دون دفع تعويض للأطراف المتضررة.
لقد تركز اهتمامي الأساسي، بالطبع، على هذه الحالة الثانية، ومن المدهش، تبعاً لذلك، أن نجد، كما بين لي البروفيسور فرانسيسكو فورت، أن مشكلة المدخنة التي يتصاعد منها الدخان—”حالة الأسهم” أو “مثال غرفة الصف” في الحالة الثانية تستخدم من قبل بيغو كمثال على الحالة الأولى (خدمات دون أجر)—وليس لها ذكر أبداً، بشكل واضح على أية حال فيما يتصل بالحالة الثانية. يشير بيغو إلى أن أصحاب المصانع الذين يخصصون موارد للحد من تصاعد الدخان من مداخنهم يقدمون خدمات لا يتقاضون مقابلها أجراً. المعنى في ذلك، في ضوء نقاش بيغو في مكان لاحق من الفصل، هو أن مالك مصنع ذي مداخن ينبغي أن يُعطى منحة لحفزه على تركيب أجهزة لمنع تصاعد الدخان. معظم الاقتصاديين العصريين يقترحون فرض ضريبة على مالك المصنع ذي المدخنة التي يتصاعد منها الدخان. يبدو من المؤسف أن الاقتصاديين (باستثناء البروفيسور فورت) لا يبدو أنهم لاحظوا هذا الجانب من معالجة بيغو، حيث أن الإدراك بأنه يمكن معالجة المشكلة في أي من هاتين الطريقتين سيؤدي، على الأرجح، لاعتراف واضح بطبيعتها التبادلية.
عند بحث الحالة الثانية (إلحاق أضرار دون تعويض للمتضررين) يقول بيغو بأن هذه الأضرار تحدث “عندما يقوم مالك قطعة أرض في حي سكني في مدينة ببناء مصنع في أرضه وبذلك يدمر جزءاً كبيراً من مقومات الحياة في الأراضي المجاورة؛ أو، بدرجة أقل، عندما يستخدم موقعه بطريقة تحجب الضوء عن البيت المقابل؛ أو عندما يستثمر موارده في إقامة بنايات في منطقة مكتظة حيث ينجم عن ذلك، بسبب سد الفضاء وساحات الترويح في الحي إلى الإضرار بصحة ونشاط العائلات الي تعيش هناك”. بيغو محق تماماً، بالطبع، عندما يصف أعمالاً كهذه باعتبارها “أضراراً دون مقابل”، ولكنه على خطأ عندما يصف أعمالاً كهذه بأنها “غير اجتماعية”. قد تكون كذلك أو لا تكون. فمن الضروري موازنة الضرر ضد المنافع التي ستتحقق. وليس هناك ما يمكن أن يكون “غير اجتماعي” أكثر من معارضة أي عمل يسبب ضرراً لأي شخص. إن المثال الذي يفتتح به بيغو نقاشه حول “الأضرار دون مقابل” ليس هو، كما أشرت، حالة المدخنة التي يتصاعد منها الدخان بل حالة الأرانب الجائحة… أضرار عرضية دون مقابل تلحق بأطراف ثالثة عندما تشمل نشاطات المحافظة على الحيوانات البرية من جانب مالك أرض ما دخول أرانب جائحة إلى أرض مالكٍ مجاور.
هذا مثال ذو أهمية غير عادية، ليس بسبب كون التحليل الاقتصادي للقضية مختلفاً بصورة أساسية عن الأمثلة الأخرى، بل للخاصية الغريبة في الموقف القانوني والضوء الذي تسلطه على الدور الذي يستطيع ان يلعبه الاقتصاديون فيما يبدو أنه فقط مسألة قانونية تتعلق بتحديد الحقوق.
مشكلة المسؤولية القانونية عن سلوك الأرانب هي جزء من الموضوع العام المتعلق بالمسؤولية عن الحيوانات. سأحصر حديثي، مع أني متردد في ذلك، بالأرانب. القضايا الأولى حول الأرانب كانت تتعلق بالعلاقة بين مالك أرض وفلاحين يعملون لديه، إذ أصبح من المعتاد منذ القرن الثالث عشر وما بعده أن يزود مالك الأرض الفلاحين بمجموعات من الأرانب لأغراض لحومها وفرائها. إلا أنه في قضية بولستون عام 1597 تم رفع دعوى من قبل مالك أرض ضد مالك أرض آخر مجاور مدعياً بأن المتهم قد حفر جحوراً للأرانب مما جعل أعداد الأرانب تزداد وتسببت في إتلاف محصول المدعي من الذرة. لم تنجح الدعوى بسبب أنه كان بوسعه قتل هذه الأرانب حال ظهورها في أرض جاره لأنها حيوانات برية، ومن يحفر جحوراً للأرانب لا يملك هذه الأرانب ولن تجري معاقبته على أضرار سببتها الأرانب التي لا يملكها والتي يستطيع الطرف الآخر قتلها بصورة مشروعة.
وفي حين أن قضية بولستون قد عوملت باعتبارها ملزمة—قال جيه. بريه عام 1919 بأنه لم يكن يعلم أنه قد تم نقض الحكم في قضية بولستون أو مناقشتها—فإن مثال الأرانب الذي أورده بيغو قد مثل، دون شك، الموقف القانوني عند كتابة اقتصاديات الرفاه. وليس مما يبعد عن الحقيقة كثيراً في هذه القضية القول بأن الأحوال التي يصفها بيغو قد حصلت بسبب غياب الإجراءات الحكومية (على شكل قوانين تشريعية على أي حال) وأنها كانت نتيجة لميول “طبيعية”. مع ذلك فإن قضية بولستون تثير فضولاً قانونياً والبروفيسور وليامز لا يخفي استياءه من هذا القرار.
إن مفهوم المسؤولية في التسبب بالإزعاج على أساس الملكية هو، فيما يبدو، نتيجة لخلط بينه وبين مفهوم تجاوزات قطيع المواشي ويتناقض مع كل من المبدأ وسلطات القرون الوسطى حول الأضرار الناجمة عن تسرب الماء والدخان والأوساخ… الشرط الأساسي لأي معالجة مرضية للموضوع هي التخلي نهائياً عن مبدأ الإيذاء في قضية بولستون… ما أن تختفي قضية بولستون حتى تصبح الطريق ممهدة لإعادة النظر مرة ثانية في الموضوع برمته على أسس تتسق مع المبدأ السائد في بقية مواد قانون الإزعاج.
القضاة في قضية بولستون كانوا مدركين بالطبع بأن وجهة نظرهم حول الموضوع تعتمد على التمييز بين هذه القضية وقضايا الإزعاج: هذه القضية تختلف عن القضية المرفوعة في جانب آخر حول إنشاء فرن كلسي أو مصبغة أو ما شابه، لأن الإزعاج هنا ينجم عن تصرفات الأطراف التي تقوم به ولكن المسألة مختلفة هنا حيث أن الأرانب وحدها دخلت أرض المدعي وبوسعه، إن شاء، أن يأخذها عندما تدخل أرضه ويحقق ربحاً منها.
ويعقّب البروفيسور وليامز قائلاً: “مرة أخرى تبرز الفكرة المتوارثة حول مسؤولية الحيوانات وليس مالك الأرض. ليس هذا المبدأ بالطبع مقبولاً لتضمينه في قانون عصري حول الإزعاج. فإذا أنشأ (أ) بيتاً أو زرع شجرة بحيث يتسرب الماء من الشجرة أو البيت إلى أرض (ب) فإن هذا عمل قام به (أ) ويتحمل مسؤوليته تجاه (ب). ولكن إذا قام (أ) بتربية أرانب في أرضه بحيث أخذت تهرب إلى أرض (ب)، فإن هذا عمل قامت به الأرانب ولا يمكن أن يتحمل مسؤوليته (أ). هذا هو الفرق الخادع الناتج عن قضية بولستون”.
ينبغي الاعتراف بأن القرار في قضية بولستون يبدو غريباً إلى حد ما، فقد يكون رجلٌ ما مسؤولاً عن الأضرار الناجمة عن انبعاث دخان أو روائح كريهة دون ضرورة التأكد بأنه يملك الدخان أو الرائحة. ولم يتم الالتزام بالقاعدة في قضية بولستون دائماً في قضايا تتعامل مع حيوانات أخرى. ففي قضية (بلاند ضد ييتس)، على سبيل المثال، تقرر أن بالإمكان توجيه إنذار قضائي لمنع شخص من الاحتفاظ بكمية غير عادية وكبيرة من السماد العضوي الذي يتكاثر فيه الذباب والذي أخذ يغزو بيت شخص مجاور. لم يقم أحد بإبراز مسألة من الذي يملك الذباب، وليس هناك من اقتصادي يميل إلى الاعتراض لأن المنطق القانوني يبدو غريباً أحياناً. ولكن هناك سبباً اقتصادياً صحيحاً لتأييد وجهة نظر البروفيسور ويليامز التي تشير إلى أن مشكلة المسؤولية عن الحيوانات (خصوصاً الأرانب) ينبغي أن تدخل ضمن القانون العادي للإزعاج. السبب هو ليس أن الرجل الذي يؤوي الحيوانات هو الوحيد المسؤول عن الضرر، ولكن الرجل الذي أُتلف محصوله هو مسؤول بنفس الدرجة. وفي ضوء أن تكاليف تعاملات السوق تجعل إعادة ترتيب الحقوق مستحيلة، ما لم نكن نعرف الظروف بالذات، ليس بوسعنا القول فيما إذا كان من المرغوب به أم لا جعل الرجل الذي يؤوي الأرانب مسؤولاً عن الأضرار التي أحدثتها الأرانب في الأراضي المجاورة.
الاعتراض على القاعدة في قضية بولستون هو أن الشخص الذي يقوم بالإيواء لا يمكن بموجبها أن يكون مسؤولاً. هذه القاعدة تحدد المسؤولية تماماً على طرف واحد: وهذا أمر غير مرغوب به من وجهة نظر اقتصادية تماماً مثل تحديد المسؤولية على الطرف الآخر فقط بجعل الشخص الذي قام بالإيواء هو المسؤول دائماً. بيد أنه، وكما رأينا في الفصل السادس، فإن قانون الإزعاج، بالطريقة التي تعامله بها المحاكم، هو قانون مرن ويسمح بإجراء مقارنة بين المنفعة من عمل ما والضرر الناجم عنه. وفي ذلك يقول البروفيسور وليامز: “قانون الإزعاج برمته هو محاولة للتوفيق والتسوية بين مصالح متضاربة…”. إن تطبيق قانون الإزعاج العادي على مشكلة الأرانب لا يعني بالضرورة جعل من يؤوي الأرانب مسؤولاً عن الأضرار التي أحدثتها الأرانب. لا يعني هذا القول بأن الدور الوحيد للمحاكم في قضايا كهذه هو عقدُ مقارنةٍ بين المنفعة والضرر من عملٍ ما، كما أنه ليس من المتوقع أن تقوم المحاكم دائماً باتخاذ قرارات صائبة بعد عقد مقارنةٍ كهذه. إلا أنه، وما لم تتصرف المحاكم بطريقة غبية للغاية، فإن قانون الإزعاج العادي يبدو كافياً على الأرجح لإعطاء نتائج أفضل من تبني قاعدة ثابتة. توفر قضية بيغو حول الأرانب الجاثمة مثالاً ممتازاً على تشابك مشاكل القانون والاقتصاد، رغم أن السياسة الصحيحة التي ينبغي اتباعها قد تبدو مختلفة عن رؤية بيغو.
يفسح بيغو المجال لاستثناء واحد للاستنتاج الذي توصل إليه حول وجود اختلاف بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي في مثال الأرانب، ويضيف: “… ما لم تكن العلاقة بين المالك والمستأجر بحيث يُدفع التعويض كجزءٍ من تعديلاتٍ على العقد بينهما”. هذا الشرط مثير للدهشة حيث أن الدرجة الأولى من الخلاف في رأي بيغو تختص إلى حد كبير بالمشاكل الناجمة عن إعداد عقود مرضية بين الملاّك والمستأجرين. الواقع أن جميع القضايا الأخيرة حول مشكلة الأرانب التي استشهد بها البروفيسور وليامز تتضمن خلافات بين الملاك والمستأجرين حول حقوق الصيد. يبدو أن بيغو يميز بين الحالة التي يستحيل إجراء عقد فيها (الدرجة الثانية) والحالة التي يكون فيها العقد مرضياً (الدرجة الأولى). لذلك هو يقول أن الدرجة الثانية من الفروق بين صافي الناتج الخاص وصافي الناتج الاجتماعي لا يمكن تخفيفها، مثل الخلافات الناشئة عن قوانين الإيجار، بتعديل على العلاقة التعاقدية بين أي طرفين متعاقدين لأن الخلاف ينشأ بسبب تقديم خدمة أو إلحاق ضرر لأشخاص آخرين غير الطرفين المتعاقدين.
ولكن السبب في أن بعض النشاطات لا تكون موضوعاً لعقود هو بالضبط نفس السبب في أن بعض العقود تكون عادة غير مرضية—فهي تكلف كثيراً لصياغتها بطريقة صحيحة. الواقع أن كلا الحالتين متماثلتان تماماً حيث أن العقود غير مرضية لأنها لا تغطي نشاطات معينة. من الصعب اكتشاف التأثير الدقيق لمناقشة اختلاف الدرجة الأولى على المحاججة الرئيسية لبيغو. فهو يبين أن العلاقات التعاقدية بين المالك والمستأجر قد تؤدي، في بعض الظروف، إلى اختلاف بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي. ولكنه يمضي أيضاً ليبين أن إجراءات التعويض والشروط في عقود الإيجار المفروضة من قبل الحكومة تؤدي أيضاً إلى فروق. ويبين، إضافة لذلك، أن الحكومة عندما تكون في وضع مشابه لوضع المالك، أي عندما تعطي وكالة لجهة باستغلال منفعة عامة، تنشأ ذات الصعوبات التي تحدث في حالة أن يتعلق الأمر بأفراد من القطاع الخاص. المناقشة ممتعة، ولكني لم أستطع أن أتبين ما هي الاستنتاجات العامة حول السياسة الاقتصادية، إن وجدت، التي يتوقع منا بيغو التوصل إليها.
الواقع أن بيغو يتعامل مع المشاكل التي يطرحها هذا المقال بطريقة محيرة للغاية، وتثير مناقشة آرائه صعوبات في التفسير لا سبيل للتغلب عليها. تبعاً لذلك فمن المستحيل على المرء أن يتأكد من أنه فهم ما الذي يقصده بيغو بالضبط. ومع ذلك، فمن الصعب التنبؤ بالنتيجة. قد تكون هذه حالة غير عادية لاقتصادي في مكانة بيغو، حيث أن المصدر الرئيسي لهذا الغموض هو أن بيغو لم يقدر مركزه حق قدره.
مقاربة مختلفة
أعتقد أن فشل الاقتصاديين في التوصل إلى استنتاجات صحيحة حول معالجة التأثيرات الضارة لا يمكن أن يعزى ببساطة إلى عثرات قليلة في التحليل، بل يبدو أنه يعود إلى أخطاء أساسية في المقاربة الحالية لمشاكل اقتصاد الرفاه. المطلوب هو انتهاج مقاربة مختلفة.
يركز تحليل الاختلافات بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي على عيوب معينة في النظام ويميل لتعزيز الاعتقاد بأن أي إجراء لتلافي هذه العيوب هو، بالضرورة، إجراء مرغوب به. هذا التحليل يحول الانتباه عن تغييرات أخرى في النظام ترتّبت دوماً بالإجراء التصحيحي، تغييرات يمكن لها جداً أن تفرز ضرراً أكثر من العيوب الأصلية. لقد رأينا، في الفصول السابقة من هذا المقال، أمثلة عديدة على ذلك، ولكن ليس من الضروري تناول المشكلة بهذه الطريقة.
الاقتصاديون الذين يدرسون مشاكل الشركة يستخدمون مقاربة التكلفة كلما سنحت الفرصة. ويقارنون الإيرادات التي يمكن الحصول عليها من مجموعة معينة من العوامل مع ترتيبات تجارية بديلة. قد يبدو من المرغوب به استخدام مقاربة مماثلة عند التعامل مع مسائل سياسية اقتصادية ومقارنة الناتج الإجمالي الناجم عن ترتيبات اجتماعية بديلة. انحصر التحليل، في هذا المقال، كما هي العادة في هذا الجزء من علم الاقتصاد، بمقارنات بين قيم الإنتاج وفقاً لمقاييس السوق. ولكن من المرغوب به، بالطبع، أن يجري عرض الخيارات بين مختلف الترتيبات الاجتماعية لحل المشاكل الاقتصادية في نطاق أوسع من ذلك وينبغي الأخذ بالحسبان التأثير الإجمالي لهذه الترتيبات في مجالات الحياة كافة. وكما أكد فرانك إتش. نايت غالباً، فإن مشاكل اقتصاد الرفاه يجب أن تذوب في نهاية المطاف في دراسة لعلم الجمال والأخلاق!
ثمة ناحية أخرى للمعالجة المعتادة للمشاكل التي تم بحثها في هذا المقال وهي أن التحليل ينحو لإجراء مقارنات بين سياسة الحرية الاقتصادية من جهة ونوع من عالم مثالي من جهة أخرى. هذه المقاربة تؤدي بالضرورة إلى تشتت التفكير لأن طبيعة البديل الذي تجري المقارنة به لا تكون واضحة أبداً. هل يوجد، في حالة الحرية الاقتصادية، نظام مالي أو قانوني أو سياسي، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي ستكون عليه هذه الأنظمة؟ الإجابة على جميع هذه الأسئلة يحوطها الغموض ويحق لكل شخص أن يخرج منها بالاستنتاجات التي يريدها.
الواقع أنه ليس هناك حاجة للكثير من التحليل لإثبات أن عالماً مثالياً هو أفضل من عالم تسوده الحرية الاقتصادية، إلا إذا كان تعريف العالم المثالي والحرية الاقتصادية هو نفسه. ولكن النقاش بكامله لا صلة له إلى حد كبير بمسائل السياسة الاقتصادية، حيث أنه أياً كانت صورة العالم المثالي في أذهاننا، فمن الواضح أننا لم نكتشف بعد كيف نصل إليه من النقطة التي نقف فيها الآن. يبدو أن مقاربة أفضل قد تكون بدء التحليل من حالة قريبة من الواقع لفحص تأثيرات تغييرات مقترحة على السياسة، ومحاولة معرفة ما إذا كانت الحالة الجديدة ستكون في مجملها أفضل أم أسوأ من الحالة الأساسية. بهذه الطريقة يصبح هناك شيء من العلاقة بين النتائج التي تمخضت عنها السياسة والحالة الواقعية.
سبب أخير للفشل في تطوير نظرية ملائمة لمعالجة مشكلة التأثيرات الضارة يعود إلى مفهوم خاطئ لعوامل الإنتاج، التي يُنظر إليها عادة باعتبارها شيئاً مادياً تحصل عليه وتستغله المؤسسة العاملة (فدّان من الأرض أو طن من السماد.. إلخ) بدلاً من كونها الحق في ممارسة أعمال (مادية) معينة. قد نتحدث عن شخص يملك أرضاً ويستخدمها كعامل إنتاج ولكن ما يملكه صاحب الأرض في الواقع هو الحق في القيام بقائمة من الأعمال المحددة.
ليست حقوق مالك الأرض غير محدودة، بل إنه لا يستطيع دائماً أن ينقل تراباً من أرضه إلى أماكن أخرى، عن طريق إنشاء مقلع حجري مثلاً. ورغم أنه قد يحق له عدم السماح لبعض الناس باستخدام “أرضه” فإن هذا قد لا ينطبق على آخرين، فقد يحق لبعض الناس، مثلاً، المرور عبر الأرض. إضافة لذلك فقد يحق له أو لا يحق إقامة أنواع معينة من المباني أو زراعة أنواع معينة من المحاصيل أو استخدام أنظمة صرف معينة للمياه في أرضه. لا يعود ذلك ببساطة للأنظمة الحكومية، فذلك صحيح بنفس الدرجة طبقاً للأعراف والتقاليد، والواقع أنه صحيح بموجب أي نظام قانوني. إن نظاماً تكون فيه حقوق الأفراد غير محدودة هو نظام لا تكون فيه هناك حقوق يمكن اكتسابها.
إذا تم النظر إلى عوامل الإنتاج باعتبارها حقوقاً يصبح من الأسهل فهم أن الحق في عمل شيء له تأثيرات ضارة (مثل انبعاث أدخنة أو ضجيج أو روائح إلخ) هو أيضاً عامل إنتاج. تماماً مثلما نستطيع استخدام قطعة ارض بطريقة نمنع فيها أحداً من المرور عبرها أو إيقاف سيارته فيها أو بناء بيت عليها، فإن بوسعنا أيضاً استخدامها بطريقة تمنعه من الإطلال على جهة معينة أو تمنع عنه الهدوء أو تمنع عنه الهواء النقي. إن تكلفة ممارسة حق ما (لاستخدام عامل إنتاج) هي دائماً الخسارة التي تتحملها جهة أخرى نتيجة لممارسة ذلك الحق—عدم إمكانية المرور في الأرض، أو إيقاف سيارة، أو الاستمتاع بمشهد، أو التنعم بالراحة والهدوء، أو استنشاق هواء نقي.
من الواضح أنه من المرغوب به أن تكون الأعمال التي يمكن القيام بها هي فقط تلك التي يكون فيها الكسب مساوياً لأكثر من الخسارة. ولكن الاختيار بين الترتيبات الاجتماعية التي تتم في سياقها القرارات الفردية يفرض علينا أن نتذكر دائماً بأن التغير في النظام الحالي، والذي يؤدي إلى تحسن في اتخاذ بعض القرارات، قد يؤدي أيضاً إلى تدهور في اتخاذ قرارات أخرى. إضافة لذلك علينا أن نأخذ في الحسبان التكاليف التي ينطوي عليها تشغيل مختلف الترتيبات الاجتماعية (سواءً كانت عمل السوق أو عمل دائرة حكومية) إضافة إلى التكاليف التي يتضمنها الانتقال إلى نظام جديد. عند صياغة ترتيبات اجتماعية والاختيار بينها يتعين علينا الانتباه للتكلفة الإجمالية. هذا هو، فوق كل شيء، تغيير أسلوب المقاربة الذي أدعو إليه.
ملاحظات:
[1] انطلق توجه النقاش في النص أعلاه على أساس أن البديل لزراعة المحصول هو التخلي عن عملية الزراعة كلياً، ولكن ليست هناك حاجة لأن يكون الأمر كذلك. قد تكون هناك محاصيل أقل عرضة للتلف من قبل المواشي ولكنها قد لا تكون مربحة كالمحاصيل التي تزرع دون وجود تلف، وبالتالي فإذا كانت زراعة محصول جديد ستدر على المزارع ربحاً مقداره دولاراً واحداً بدلاً من دولارين وكان حجم القطيع الذي يسبب تلفاً مقداره 3 دولارات للمحصول القديم لا يسبب تلفاً سوى بقيمة دولار واحد مع المحصول الجديد، فسيكون من المربح لمربي الماشية أن يدفع أي مبلغ يقل عن دولارين لحث المزارع على تغيير نوعية محصوله (حيث أن ذلك سيخفض مسؤولية التلف من 3 دولارات إلى دولار واحد)، وسيربح المزارع أيضاً إذا تلقى مبلغاً يزيد عن دولار واحد (التخفيض ناتج عن تغيير المحصول). الواقع أنه سيكون هناك مجال لصفقة مناسبة متبادلة في جميع الحالات التي يؤدي فيها تغيير المحصول إلى تخفيض مقدار التلف بأكثر مما يخفض قيمة المحصول (عدا التلف) في جميع الحالات عندما يؤدي تغيير المحصول المزروع إلى زيادة قيمة الإنتاج.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 تشرين الأول 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

هناك قول شائع، وقد يكون صحيحاً، مفاده أن الاقتصاد المؤسساتي الجديد بدأ بمقالي “طبيعة الشركة” (1937) مع مقدمتها الواضحة لتكاليف التعاملات في التحليل الاقتصادي. بيد أنه ينبغي التذكر أن منبع النهر العظيم هو جدول صغير وأنه يستمد قوته من الروافد التي تصب في مجراه. وهذا هو الحال في الموضوع الذي نحن بصدده. لست أفكر فقط في مساهمات اقتصاديين آخرين مثل أوليفر وليامسون وهارولد ديمسيتز وستيفن تشيونغ، على أهميتهم ولكن أيضاً في أعمال زملائنا في القانون والأنثروبولوجيا والاجتماع والسياسة والعلوم والتخصصات الأخرى.
إن عبارة “الاقتصاد المؤسساتي الجديد” هي من ابتكار أوليفر ويليامسون وكان القصد منها تمييزها عن “الاقتصاد المؤسساتي القديم”. كان جون آر. كومونز وويزلي ميتشل والمتعاونون معهما رجالاً ذوي مكانة فكرية كبيرة ولكنهم مضادين للنظريات، وإذا لم تكن هناك نظرية تربط مجموعة الحقائق التي توصلوا إليها فلن يكون لديهم الشيء الكثير مما يستطيعون إيصاله للناس. من المؤكد أن التيار السائد في علم الاقتصاد يمضي في طريقه دون أي تغيير ذي شأن، وهو لا زال مستمراً في ذلك. عندما أتحدث عن الاقتصاد كاتجاه سائد فإني أشير إلى الاقتصاد الجزئي، وأترك للآخرين تقدير ما إذا كانت انتقاداتي هذه تنطبق أيضاً على الاقتصاد الكلي.
اقتصاد التيار السائد، كما يراه المرء في المجلات المتخصصة وفي الكتب الدراسية والدورات التي تعقدها أقسام الاقتصاد في الجامعات أخذ سمة تجريدية بمرور الزمن، ورغم أنه يوحي بغير ذلك فإنه في الواقع لا يقيم وزناً كبيراً لما يحدث في عالم الواقع. وقد قدم ديمسيتز تفسيراً لسبب حدوث ذلك: لقد كرس الاقتصاديون منذ آدم سميث أنفسهم لوضع صياغة لمبدأه حول اليد الخفية—تنسيق النظام الاقتصادي بواسطة نظام التسعير. كان ذلك إنجازاً مثيراً للإعجاب ولكن، وكما أوضح ديمسيتز، فإنه تحليل لنظام شديد اللامركزية. إلا أنه يحوي أخطاءً أخرى.
وقد أشار آدم سميث أيضاً إلى أنه يتعين علينا أن نولي عناية لتدفق السلع والخدمات الحقيقية بمرور الوقت، وبما يحدد تنوعها وحجمها. والحال أن الاقتصاديين يدرسون كيف أن العرض والطلب يقرران الأسعار ولكن ليس بنفس العوامل التي تحدد ما هي السلع والخدمات التي يجري تداولها في السوق وبالتالي تسعيرها. إنها وجهة نظر تستهين بما يجري في العالم الحقيقي ولكن الاقتصاديين اعتادوا عليها واستمروا العيش في عالمهم دون إزعاج. إن نجاح اقتصاد التيار السائد رغم أوجه الخلل فيه هو إشادة بقدرة احتمال أسس نظرية حيث أنه قوي بالتأكيد من ناحية نظرية ولكنه ضعيف من الناحية الواقعية. من هنا، وعلى سبيل المثال، فإن بينغت هولمستورم وجان تيرول يشيران في كتابهما دليل المنظومة الصناعية(1989، ص 126) إلى أن “نظرية الشركة تلحظ أن نسبة الدليل/النظرية هي نسبة ضعيفة جداً في هذا المجال حالياً”.
هذه اللامبالاة بما يحدث عملياً في العالم الحقيقي تستمد القوة من الطريقة التي يفكر بها الاقتصاديون في موضوعهم. كان هناك، أيام شبابي، تعريف شائع جداً للاقتصاد وضعه ليونيل روبنز (1935، ص 15) في كتابه مقال في طبيعة وأهمية علم الاقتصاد: “الاقتصاد علم يدرس سلوك الإنسان كعلاقة بين أهداف ووسائل نادرة لها استخدامات بديلة”. إنه دراسة للسلوك الإنساني كعلاقة. اقتصاديو هذه الأيام يشيرون، على الأرجح، إلى موضوعهم باعتباره “علم الاختيار الإنساني” أو يتحدثون عن “مقاربة اقتصادية”. ليس هذا تطوراً جديداً، فقد سبق لجون مانيارد كينز أن قال بأن “نظرية الاقتصاد هي أسلوب وليست مبدأ… أدوات للعقل، أسلوب في التفكير، تساعد من يؤمن بها على التوصل إلى استنتاجات صحيحة (المقدمة، إتش. دي. هندرسون، 1922، ص5). أما جوان روبنسون (1933، ص 1) فتقول في مقدمة كتابهااقتصاديات المنافسة غير التامة بأن “نظرية الاقتصاد تعطى للمحلل الاقتصادي باعتبارها صندوق أدوات”. معنى هذا أن الاقتصاديين يفكرون بأنفسهم بأن لديهم صندوق عِدّة ولكن ليس مادة موضوع… (لقد نسيت القصيدة والشاعر ولكن الأبيات لا تُنسى):
“أرى الرسن واللجام بوضوح،
ولكن أين هي الفرس اللعينة؟”

وقد أسهمت من جانبي بتعبير مماثل قلت فيه بأننا ندرس الدورة الدموية دون وجود جسم.
لا أريد بقول هذا أن يُفهم بأن هذه الأدوات التحليلية ليست مهمة للغاية، وأسعد عندما يستخدمها زملاؤنا القانونيون في دراسة عمل النظام القانوني أو عندما يستخدمها أولئك العاملون في العلوم السياسية في دراسة عمل النظام السياسي. النقطة التي أتحدث عنها مختلفة، فأنا أعتقد بأنه ينبغي لنا أن نستخدم هذه الأدوات التحليلية لدراسة النظام الاقتصادي. أعتقد أنه يوجد لدى الاقتصاديين مادة موضوعية: دراسة عمل النظام الاقتصادي، وهو نظام نتقاضى فيه دخولنا ونصرفها. إن رفاه المجتمع الإنساني يعتمد على تدفق السلع والخدمات وهذا بدوره يعتمد على إنتاجية النظام الاقتصادي. وقد أوضح آدم سميث بأن إنتاجية النظام الاقتصادي تعتمد على التخصص (يسميه تقسيم العمل)، ولكن التخصص لا يكون ممكنا إلا إذا كان هناك تداول—وكلما كانت تكلفة التداول (تكلفة التعامل إذا شئت) أقل كلما أصبح هناك تخصص أكثر وزيادة في إنتاجية النظام. بيد أن تكلفة التداول تعتمد على المؤسسات في بلد ما: نظامه القانوني، نظامه السياسي، نظامه الاجتماعي، نظامه التعليمي، ثقافته، وما إلى ذلك. من ناحية فعلية، المؤسسات هي التي تحكم أداء الاقتصاد، وهذا ما يعطي “الاقتصاد المؤسساتي الجديد” أهميته بالنسبة للاقتصاديين.
ثمة جانب اقتصادي آخر يوضح أن هناك ضرورةً لعملٍ كهذا، فبصرف النظر عن صياغة النظرية فإن الطريقة التي ننظر بها إلى عمل النظام الاقتصادي ظلت ثابتة بصورة غير عادية عبر الزمن. ينحو الاقتصاديون غالباً بحقيقة أن شارلز داروين قد توصل إلى نظريته في التطور نتيجة لقراءته توماس مالثوس وآدم سميث. ولكن قارن التقدم الذي حصل في حقل علم الأحياء منذ داروين مع ما حصل في الاقتصاد منذ آدم سميث. لقد قفز علم الأحياء خطوات كبيرة وأصبح لدى علماء الأحياء الآن فهم مفصل للتركيب المعقد الذي يحكم أداء الكائنات العضوية. أعتقد أننا سنحقق ذات يوم انتصارات مماثلة في الاقتصاد. ولكن ذلك لن يكون سهلاً. حتى لو بدأنا بالتحليل البسيط نسبياً حول “طبيعة الشركة” فإن اكتشاف العوامل التي تحدد التكاليف النسبية للتنسيق عن طريق الإدارة في الشركة أو التعاملات في السوق لن يكون أمراً سهلاً. بيد أن ذلك ليس كل القصة بأي حال من الأحوال. ليس بوسعنا حصر تحليلنا بما يحدث في شركة واحدة، وهذا ما سبق أن قلته في محاضرة لي نشرت في حياة النوابغ (كوز 1995، ص 245): “تتأثر تكاليف التنسيق ومستوى تكلفة التعاملات في شركة ما بقدرتها على شراء المدخلات من شركات أخرى، وقدرة تلك الشركات على توريد هذه المدخلات تعتمد جزئياً بدورها على تكاليف التنسيق ومستوى تكلفة التعامل لديها وهذه تتأثر على نحو مماثل بما يحدث في شركات أخرى. ما نتعامل به هو بناء متشابك معقد”. أضف إلى ذلك تأثير القوانين والنظام الاجتماعي والثقافة إضافة إلى تأثير التغيرات التكنولوجية مثل الثورة الرقمية وما صاحبها من انهيار دراماتيكي في تكلفة المعلومات (وهي إحدى المكونات الرئيسية لكلفة التعاملات)، فتجد لديك مجموعة معقدة من العلاقات المتشابكة تحتاج لاكتشاف طبيعتها إلى عمل جاد لفترة طويلة من الزمن. بيد أنه عندما يحدث ذلك سيصبح كل الاقتصاد ما نطلق عليه الآن “الاقتصاد المؤسساتي الجديد”.
لن يحدث هذا التغيير، في رأيي، نتيجة لهجوم جبهوي مباشر على اقتصاد التيار السائد، بل ستحدث نتيجة لاعتماد الاقتصاديين في الفروع أو الأقسام الاقتصادية مقاربة مختلفة كما يحدث فعلاً حالياً. عندما يتغير معظم الاقتصاديين فسيعترف اقتصاديو التيار الرئيسي بأهمية فحص النظام الاقتصادي بهذه الطريقة وسيزعمون بأنهم كانوا يعرفون كل ذلك من قبل.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 تشرين الأول 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018