أود أن أبحث في هذا المقال مسألة كيفية تحديد الأسعار في ظروف تراجع معدل التكاليف. وأود، على وجه الخصوص، مناقشة إجابة واحدة لهذا السؤال وهي الإجابة التي أصبحت في هذه الأيام مألوفة لمعظم الاقتصاديين والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1. ينبغي أن تكون القيمة المدفوعة مقابل كل وحدة من المنتج مساوية لتكلفة الهامش.
2. وحيث أنه عند تراجع معدل التكاليف تكون تكلفة الهامش أقل من معدل التكاليف، فإن المبلغ الإجمالي المدفوع ثمناً للمنتج سيكون أقل من التكاليف الكلية.
3. المبلغ الذي تتجاوز به التكاليف الكلية المبالغ المستلمة (الخسارة كما تسمى أحياناً) ينبغي أن تسجل كدين على الحكومة وينبغي تنزيلها من الضريبة.
يدعم هذه النظرية كل من البروفيسور هوتلينغ، والبروفيسور ليرنر، والاقتصاديين ميد وفليمنغ. وقد أثارت هذه النظرية اهتماماً واسعاً واتخذت مكاناً لها بالفعل في بعض الكتب الدراسية الجامعية واقتصاديات المرافق العامة. بيد أنه وبالرغم من أهمية تطبيقاتها العملية، وطبيعتها المتناقضة ظاهرياً، وحقيقة أن هناك اقتصاديين عديدين يعتبرونها غير صحيحة، فإنها لم تتعرض حتى الآن سوى للقليل من النقد.
ربما كانت مجرد كمية الأدبيات التي حبذت هذا الحل وقلة كمية النقد السلبي نسبياً هي ما أدت بفليمنغ للادعاء بأنه حل “ليس، في اعتقادي، مفتوحاً لنقدٍ جاد” وللتحسر على حقيقة أنه لم يكن مفهوماً ومقبولاً على نطاق واسع “خارج الأوساط الضيقة للاقتصاديين”. إلا أن حلاً مختلفاً أعتقد أنه هو الصحيح من حيث الأسس التي يقوم عليها كان قد تم طرحه أصلاً من قبل الاقتصادي بين، عام 1937، ومن قبل البروفيسور كليمنز عام 1941. وقد كتبتُ في عام 1945 ملاحظة صغيرة انتقدت فيها الحل المطروح من قبل ميد وفليمنغ، كما أكدت أخرى كتبها ويلسون، حقيقة أنه لم يكن قد تم التوصل بعد إلى اتفاق في أوساط الاقتصاديين حول ذلك. والآن اقترح إخضاع حل هوتلينغ/ليرنر، كما أريد أن أسميه، لفحص أكثر تفصيلاً وللإشارة إلى نقاط الخلل الجوهرية التي أعتقد أنه يتضمنها.
عزل المشكلة على حدة
إن أي حالة اقتصادية هي معقدة بطبيعتها وليس هناك مشكلة اقتصادية منعزلة لوحدها. تبعاً لذلك، يحدث كثير من التشويش لأن الاقتصاديين الذين يتعاملون مع حالة حقيقية إنما يحاولون حل مشاكل عدة في وقت واحد. أعتقد أن ذلك يصدق أيضاً على المسألة التي أبحثها في هذا المقال.
المشكلة المركزية تتعلق باختلاف بين متوسط التكاليف وتكاليف الهامش. إلا أنه، وفي أي حالة حقيقية، تبرز هناك عادة مشكلتان أخريان: أولاً، إن بعض التكاليف معروفة لدى أعداد من المستهلكين وأي اعتبار لوجهة النظر القائلة بأنه يجب تحميل التكاليف الإضافية للمستهلكين يثير السؤال فيما إذا كان هناك أي منهج منطقي يمكن بواسطته توزيع هذه التكاليف المشتركة بين المستهلكين. ثانياً، إن العديد مما يسمى التكاليف الثابتة هي في الواقع أموال تم تخصيصها في السابق لعوامل معينة تعتبر العودة لها حالياً نوعاً من الريع، والنظر فيما يجب أن تكون عليه العودة لعوامل كهذه (لاكتشاف مجمل التكاليف) يثير مشاكل إضافية شديدة التعقيد. هاتان، في اعتقادي، هما المشكلتان الأخريان اللتان تتواجدان عادة معاً في مسألة الاختلاف بين متوسط التكاليف وتكاليف الهامش. إلا أنهما مسألتان منفصلتان أو، على الأقل، قابلتان للفصل. من هنا، فإن المثال الذي استخدمه البروفيسور هوتلينغ “مشكلة التسعير في حالة جسر مروري”، هو في الواقع حالة معقدة للغاية وليس الحالة البسيطة التي تبدو ظاهرة على السطح.
أقترح، في سبيل عزل السؤال مدار البحث، فحص مثال تُنسب فيه، رغم وجود اختلاف بين متوسط التكاليف وتكاليف الهامش، جميع التكاليف لمستهلكين أفراداً؛ والذي تمت فيه جميع التكاليف حالياً؛ والذي، تجنباً لمزيد من التعقيدات التي قد تزعج بعض القرّاء بخصوص معنى تكاليف الهامش، تكون فيه جميع العوامل متوفرة بمرونة.
لنفترض أن المستهلكين متواجدون في سوق مركزي يتوفر فيه مُنتجٌ معين بأسعار ثابتة. لنفترض أن هناك طرقاً تنطلق من السوق ولكن كل طريق تمر بمستهلك واحد فقط للمُنتج. لنفترض أيضاً أن بوسع المرء أن يحمل وحدات إضافية من المُنتج في كل رحلة دون تكلفة إضافية (على الأقل إلى نقطة تتعدى حدود استهلاك أي مستهلك فرد)(1). لنفترض أيضاً أن المنتج يباع في نقطة الاستهلاك. من الواضح أن تكلفة تزويد كل مستهلك فرد ستكون هي تكلفة الناقل إضافة لتكلفة السوق المركزي لعدد الوحدات المستهلكة من قبل ذلك المستهلك المحدد للمُنتَج. تكلفة الهامش هنا ستكون مساوية لتكلفة وحدة من المنتج في السوق المركزي. متوسط التكاليف سيكون أعلى من تكلفة الهامش، ثم يأخذ بالانخفاض لأن تكلفة الناقل قد توزعت على عدد متزايد من الوحدات(2). يُفترض أن حل هوتلينغ/ليرنر هو أن المبلغ الذي ينبغي أن يدفعه المستهلكون لكل وحدة من المنتج ينبغي أن يكون مساوياً فقط لتكلفة الهامش. نتيجة ذلك ستكون أن يدفع المستهلكون تكلفة المنتج في السوق المركزي وأن تتحمل الحكومة، أو بالأحرى دافعو الضرائب، تكلفة النقل. أريد أن أفحص مدى صحة هذا الحل، ولكن من الضروري قبل ذلك التحول إلى التفكير في نقاط جوهرية.
ما هو التسعير المثالي؟
نظام التسعير، في مفهومي، هو نظام يكون فيه للمستهلكين الأفراد سيطرة على مبالغ مختلفة من المال يستخدمونها للحصول على سلع وخدمات عن طريق إنفاق هذه المبالغ وفقاً لنظام أسعار. ليس هذا النظام بالطبع هو وحده النظام الذي يتم بموجبه تخصيص السلع والخدمات أو، بدقة أكثر، استخدام عوامل الإنتاج بين المستهلكين. قد تتمكن الحكومة من اتخاذ قرار بصدد ما الذي يجب إنتاجه وتخصيص السلع والخدمات للمستهلكين مباشرة. ولكن هناك سلبيات لهذا الأسلوب مقارنة بنظام تسعير. ليس بوسع أي حكومة التمييز بأي نوع من التفصيل بين الأذواق المتنوعة للمستهلكين الأفراد (وهذا هو السبب، بالطبع، في تبني نظام “نقاط” عند تخصيص الحصص التموينية في أوقات الحروب). إذا لم يكن هناك نظام تسعير، فلن يكون هناك دليل مفيد حول أفضليات المستهلكين. إضافة لذلك، فرغم أن نظام التسعير يحمّل المستهلكين والشركات تكاليف تسويق إضافية، فإن هذه التكاليف قد تكون في الواقع أقل من تكاليف التنظيم التي، خلافاً لذلك، ستتحملها الحكومة. هذه هي الأسباب التي قد تدفع بحكومة مستنيرة لتبني نظام تسعير—وسنرى لاحقاً أن لذلك صلة بالمشكلة التي نحن بصددها.
إذا تقرر استخدام نظام تسعير، فهناك مشكلتان رئيسيتان يتوجب إيجاد حل لهما. المشكلة الأولى مقدار المال الذي ينبغي أن يتوفر لكل مستهلك فرد—مشكلة التوزيع المثالي للدخل والثروة. المشكلة الثانية هي، ما هو النظام الذي سيكون عليه التسعير وفقاً لنوعية السلع والخدمات التي سيتم توفيرها للمستهلكين—مشكلة النظام المثالي للأسعار. ما يعنيني في هذا المقال هو المشكلة الثانية من هاتين المشكلتين، فالمشكلة الأولى هي جزئياً، وليس كلياً، مشكلة أخلاق. ولكن من الضروري إدراك أن هاتين المشكلتين موجودتان وأن من الضروري إيجاد حل لكليهما إذا كان لنظام تسعيرٍ أن يحقق نتائج مرضية. حيث أن في هذا الفصل أتعامل مع المشكلة الثانية فقط من هاتين المشكلتين، فسأفترض بأن توزيع الدخل والثروة يتم بصورة مثالية.
نظام الأسعار يمثل، بالنسبة للمستهلك الفرد، الشروط التي يستطيع بموجبها الحصول على مختلف السلع والخدمات. ما هي المبادئ التي ينبغي اعتمادها لتحديد الأسعار؟ تبدو المسألة الأولى (الشروط) أنه بالنسبة لكل مستهلك فرد ينبغي أن يكون لنفس العامل نفس السعر بصرف النظر عن الكيفية التي تم استخدامه بها، حيث أنه بعكس ذلك فإن المستهلكين لن يكون بوسعهم الاختيار بصورة منطقية، وعلى أساس السعر، نوع الاستخدام الذي يفضلونه لعامل معين. المسألة الثانية (المبادئ) تبدو بأنه ينبغي أن يكون سعر عاملٍ ما هو نفسه لجميع المستهلكين، لأنه بعكس ذلك سيحصل مستهلك واحد على المزيد مقابل نفس المبلغ من المال الذي دفعه مستهلك آخر. إذا تم تحقيق التوزيع المثالي للدخل والثروة، فإن تحديد أسعار مختلفة لنفس العامل لمستهلكين مختلفين سيكون من شأنه الإخلال بمبدأ التوزيع. إن تطبيقاً أكثر براعة لهذا المبدأ الثاني يقضي بتحديد السعر بحيث يسمح بأن تكون العوامل من نصيب أعلى المزاودين. أي، بعبارة أخرى، أن السعر يجب أن يكون ذلك الذي يوازن العرض والطلب وينبغي أن يكون هو نفسه لجميع المستهلكين وفي جميع الاستخدامات. هذا يعني أن السعر المدفوع لمنتجٍ ما ينبغي أن يكون مساوياً لقيمة العوامل المستخدمة في إنتاجه في استخدامٍ آخر أو لغرض استخدامٍ آخر. إلا أن قيمة العوامل المستخدمة في إنتاج منتجٍ ما في استخدامٍ آخر أو لغرض استخدامٍ آخر هي تكلفة المنتج. هذا يؤدي بنا، تبعاً لذلك، إلى الاستنتاج المألوف، ولكن المهم، وهو أن القيمة المدفوعة لمنتج ما ينبغي أن تكون مساوية لتكلفته. هذا المبدأ هو الذي سيمكننا من بحث مشاكل التسعير الفردي دون أن نتتبع عبر النظام الاقتصادي بكامله جميع التغيرات التي تترتب على تغيير سعرٍ مفرد.
جدلية التسعير متعدد الجوانب
كيف تنطبق هذه الجدلية العامة حول تحديد الأسعار على أساس التكاليف على الحالة التي نحن بصددها—حالة تخفيض معدل التكلفة؟ يبدو أن الكتّاب الذين أقوم بدراسة وجهات نظرهم يفترضون بأن البدائل التي يواجهها المرء هي فرضُ سعرٍ مساوٍ لمعدل التكلفة (وفي هذه الحالة لا تحدث خسارة). بيد أن هناك احتمالاً ثالثاً—تسعير متعدد الجوانب. سأطرح في هذا الفصل جدلية التسعير متعدد الجوانب وعندما تتوفر حالة معدل تكلفة متناقص.
من الواضح أنه إذا لم يسمح للمستهلك بالحصول، مقابل تكلفة الهامش، على وحدات إضافية من المنتج الذي يجري إنتاجه في ظروف معدل تكلفة متناقص، فهذا يعني عدم السماح له بالاختيار بصورة معقولة بين إنفاق نقوده على استهلاك وحدات إضافية من المنتج وبين إنفاقها بطريقة أخرى، حيث أن المبلغ المطلوب منه إنفاقه للحصول على وحدات إضافية من المنتج يعكس قيمة العوامل في استخدامٍ آخر أو لغرض استخدامٍ آخر. إلا أنه يمكن، ولنفس السبب، المجادلة في أن على المستهلك أن يدفع قيمة التكلفة الكلية للمنتج. ليس على المستهلك أن يقرر فقط ما إذا كان سيستهلك وحدات إضافية من المنتج، بل عليه أن يقرر أيضاً ما إذا كان المنتج يستحق الاستهلاك أصلاً بدلاً من إنفاق نقوده في مجالٍ آخر. يمكن اكتشاف ذلك إذا طُلب من المستهلك دفع مبلغٍ مساوٍ لمجمل تكاليف تزويده بالمنتج، أي المبلغ الذي يعادل القيمة الكلية للعوامل المستخدمة في تزويده بالمنتج. لتطبيق هذه الجدلية على مثالنا، لا يتعين على المستهلك أن يدفع فقط تكاليف الحصول على وحدات إضافية من المنتج في السوق المركزي، بل عليه أيضاً أن يدفع تكاليف النقل. كيف يمكن أن يتم ذلك؟ الإجابة الواضحة هي أنه ينبغي جعل المستهلك يدفع مبلغاً لتغطية تكلفة النقل بينما يدفع مقابل الوحدات الإضافية تكلفة السلعة في السوق المركزي. نصل بالتالي إلى الاستنتاج بأن صيغة التسعير المناسبة هي نظام تسعير متعدد الجوانب (ثنائي الجوانب في الحالة التي نحن بصددها)، وهو نوع من التسعير معروف جيداً للطلاب المتخصصين في المرافق العامة وقد تمت الدعوة لتبنيه لنفس الأسباب التي طرحتها في هذا المقال.
وأعتقد الآن أن من الأهمية بمكان أن لا يكون أحد من المدافعين عن حل هوتلينغ/ ليرنر قد درس الاحتمالات الكامنة في تسعير متعدد الجوانب كحل للمشكلة التي تواجههم. فهم يكتبون كما لو أن الأسلوب الممكن والوحيد للتسعير هو فرض سعر واحد للوحدة الواحدة وأن المشكلة التي يتعين عليهم إيجاد حل لها هي ما هو هذا السعر. قد يكون مبرر عدم التفاتهم لدراسة نظام التسعير متعدد الجوانب هو أنهم كانوا على يقين من أنهم قد توصلوا حقاً إلى نظام التسعير المثالي. تبعاً لذلك، يجب علينا مقارنة نتائج تبني حل هوتلينغ/ليرنر مع الحلول التي تستخدم تسعيراً متعدد الجوانب.
التسعير متعدد الجوانب مقارنة بحل هوتلينغ/ليرنر
إن حل هوتلينغ/ليرنر في حالة تبنيه في مثال سيعني أن تكلفة السلع في السوق المركزي سيتم دفعها من قبل المستهلكين، ولكن تكلفة النقل سيتم تحميلها على الضريبة. إعتراضي على هذا الحل مقارنة مع تبني نظام تسعير ثنائي الجوانب يقع تحت ثلاثة عناوين: أولاً، أنه يؤدي إلى خلل في توزيع عوامل الإنتاج بين استخدامات متعددة. ثانياً، أنه يؤدي إلى إعادة توزيع الدخل، وثالثاً، أن الضريبة الإضافية المفروضة تنحو لإنتاج تأثيرات ضارة أخرى.
أولاً، قد يبدو أن حل هوتلينغ/ليرنر يزيد الوسائل التي يستخدمها الزبائن للتوصل إلى اختيار منطقي بين استخدام العوامل التي تدخل في كلفة النقل كوسيلة نقل أم لأغراض أخرى. في هذا الاستخدام، سيكون العامل مجانياً، بينما في استخدام آخر، سيتعين الدفع مقابله (شريطة أن يدخل في تكلفة الهامش). وعلى نحو مماثل، قد يعني هذا الحل أن المستهلكين سيختارون بين مواقع مختلفة دون الأخذ في الحسبان أن تكاليف النقل تختلف بين موقع وآخر.
الجواب الذي قد يعطيه مؤيدو حل هوتلينغ/ليرنر على هذا الاعتراض سيكون—فيما يبدو—بأنه ينبغي للحكومة أن تقدر بالنسبة لكل مستهلك فرد في مثالي ما إذا كان سيشتري المنتج والموقع الذي قد يفضله إذا كان عليه أن يدفع كامل قيمة التكاليف. فقط في حالة كون المستهلك مستعداً لدفع كامل تكلفة المنتج في موقع معين، سيتم توفير ذلك المنتج في ذلك الموقع وفقاً لخطة هوتلينغ/ليرنر. يشير البروفيسور هوتلينغ إلى أن اتخاذ قرار فيما إذا كان هناك ما يكفي من الطلب لتسويغ تكلفة بناء جسر “سيكون مسألة تقدير حجم حركة الآليات والمشاة التي تبدأ وتنتهي في مناطق معينة مع مقارنة المسافات باستخدام طرق بديلة في كل حالة وكتقييم للتوفير في كل صنف من الحركة”. إذا كان من الممكن إجراء تقييمات كهذه بتكلفة منخفضة، وبدقة جيدة ودون معرفة، بما كان قد حدث في الماضي عندما كان يتعين على المستهلكين دفع التكلفة الكلية، فإن هذا سيؤدي على الأرجح، في رأيي، ليس لتعديل نظام التسعير بل بالأحرى لإلغائه. نظام التسعير، كما أشرتُ سابقاً، هو أسلوب محدد لتخصيص استخدام عوامل الإنتاج بين المستهلكين، والحجج التي تساق لتبنيه تستمد قوتها الرئيسية من وجهة النظر القائلة بأن مسألة تقديرات الطلبات الفردية، من قبل أي حكومة، ستكون تقديرات غير دقيقة أبداً.
وينبغي ملاحظة أنه لا البروفيسور ليرنر ولا السيد ميد يرعيان كثيراً بدقة هذه التقديرات. الواقع أن البروفيسور ليرنر كان قد حاجج في أحد الفصول الأولى من كتابه حول نظام تقديرات يقوم بدقة على أساس أنه من المستحيل على أية حكومة إجراء تقديرات كهذه. وفي رأيي أيضاً أنه لا البروفيسور هوتلينغ ولا السيد ميد قد أوليا أهمية كافية لضرورة تصحيح التنبؤات التي تنشأ عن اختبار سوق لاحق حول ما إذا كان المستهلكون مستعدين لدفع التكلفة الكاملة للمنتج. كما أنهما لا يقران بأهمية المساعدة التي توفرها نتائج اختبار السوق لإتاحة الفرصة لإجراء تنبؤات أكثر دقة في المستقبل. ويقول البروفيسور هوتلينغ: “إن المدافعين عن النظرية الحالية القائلة بأنه يجب توفير النفقات الإدارية لصناعةٍ ما بمعزل عن مبيعات سلعها أو خدماتها يعتقدون بأن ذلك ضروري لكي نعرف فيما إذا كانت إقامة صناعة ما سياسةً اجتماعيةً حكيمة. ليس هناك ما هو أسخف من ذلك”. إن هذا، في رأيه، “سؤال تاريخي مثير للاهتمام”. ويضيف فيما بعد: “عندما يبرز السؤال حول بناء سكك جديدة أو صناعات كبيرة جديدة من أي نوع أو شطب صناعات قديمة، فإننا لن نواجه مشكلة تاريخية بل مشكلة اقتصادية دقيقة”.
لا يستطيع المرء أن يجد في أي جزء من مقال البروفيسور هوتلينغ إقراراً بحقيقة أنه سيكون من الأصعب اكتشاف ما إذا كان يتعين بناء سكك حديدية جديدة أو صناعات جديدة إذا لم يكن بوسع المرء أن يعرف ما إذا كان إنشاء صناعات أو سكك جديدة في الماضي كان سياسة اجتماعية حكيمة. وليس من السخف بالتأكيد أن يؤخذ في الحسبان أن القرارات يمكن على الأرجح أن تتخذ بصورة أفضل إذا كان هناك فيما بعد نوع من الاختبار حول ما إذا كانت قرارات كتلك هي سياسة اجتماعية حكيمة أكثر مما لو يتم اختبار كهذا.
من ناحيتي، لا أعتقد أن بوسع أي حكومة وضع تقديرات دقيقة حول الطلب الفردي في نظام ترتكز فيه جميع الأسعار إلى تكاليف الهامش. ولكن ربما كان من المفيد التفكير في ماذا يحتمل أن يحدث إذا حاولت حكومة ما تنفيذ سياسة هوتلينغ/ليرنر. لنأخذ في الاعتبار المثال الذي كنت أناقشه. لا بد من اعتبار مستهلكين معينين في فئة القادرين على شراء المنتج، ويتعين على الحكومة في هذه الحالة أن تتعهد بدفع أي تكاليف نقل نيابة عن هؤلاء المستهلكين. ستواجه الحكومة صعوبة في كيفية تحديد الأمور، فإذا تبنت وجهة نظر ضيقة حول الشروط المطلوبة من هؤلاء المسموح لهم باستهلاك هذا المنتج، فإن المستهلكين الذين يفضلون استخدام العامل الذي جرى توظيفه في نقل المنتج بهذه الطريقة سيحرمون من ذلك. من جهة أخرى، إذا تبنت الحكومة وجهة نظر أكثر ليبراليةً، فإن كثيرين سيجدون أنه لم يعد هناك ما يردعهم عن استهلاك المنتج أو السكن في مكان أبعد عن السوق المركزي بفضل تكلفة العامل المستخدم في النقل، أي بفضل قيمته في استخدامات أخرى أو لمستخدمٍ آخر. سيكون من الممكن بالطبع للحكومة أن تتبنى سياسة ليبرالية لطبقة من المستهلكين وسياسة ضيقة لطبقة أخرى في نفس الوقت. ليس من السهل التكهن بالسياسة التي يمكن أن تنتهجها حكومة ما، ولكن في بريطانيا أظن أن الحكومة ستنحو لارتكاب أخطاء في الجانب الليبرالي وأنه سيكون هناك تبعاً لذلك توظيف كبير جداً للعامل المستخدم في نقل المنتج.
بيد أنه حتى لو استطاعت الحكومة تقدير الطلب الفردي بدقة، فإن حل هوتلينغ/ليرنر سيواجه اعتراضاً آخر. يفترض في الحكومة أن تستطيع تقدير من هم المستهلكين الذين قد يكونون مستعدين لدفع تكلفة النقل (وسنفترض الآن أن تقديرها صحيح)، ولكنها في الواقع لا تطلب من هؤلاء المستهلكين دفع هذا المبلغ، وعندها يصبح هذا المبلغ متوفراً للمستهلكين لإنفاقه في مجالات أخرى. تبعاً لذلك، فإن المستهلكين الذين يشترون منتجات يتم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص، سيحصلون على منتجات مقابل أي إنفاق معين يحوي قيمة أكبر للعوامل من تلك التي لا تحوي قيمة كهذه. هذه إعادة توزيع للدخل لصالح مستهلكي السلع التي يتم إنتاجها في ظروف معدل تكلفة متناقص(3).
ليس هناك في اعتقادي مكان للجدل في أن ما يعادل إعادة توزيع للدخل هو ما يحدث في هذه الظروف. إلا أن البروفيسور هوتلينغ هو الوحيد من بين الكتّاب الذين أقوم بتفحص وجهات نظرهم الذي يتعامل بصورة واضحة مع هذه النقطة. بناءً على ذلك، أود أن أدرس الأسباب التي جعلته يعتقد بأن هذا الاعتراض ليس له قيمة جوهرية. قبل كل شيء، أعتقد أن البروفيسور هوتلينغ يعتبر هذا الاعتراض ليس بذي صلة إلى حد كبير لأن التوزيع الأساسي للدخل، على الأقل في الولايات المتحدة، ليس هو حقيقة التوزيع المثالي. هو لا يقول ذلك مباشرة، ولكنه واضح من خلال كامل مقاربته للموضوع. عندما يحاجج بأن الخسارة الناجمة عن تطبيقٍ لقاعدة تكلفة الهامش ينبغي تحميلها خارج ضرائب الدخل وضرائب الميراث والضرائب على القيمة الفعلية للأراضي، فإنه، في اعتقادي، إنما يفعل ذلك بصورة جزئية لاعتقاده بأن الأثرياء وملاك الأراضي يملكون أصلاً حصة كبيرة من الثروة الكلية والدخل الكلي. ولكن لماذا ينبغي لمستهلكي السلع التي يتم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص أن يكونوا هم الوحيدون الذين يستفيدون من إعادة التوزيع هذه؟ السبب الذي يجعل البروفيسور هوتلينغ لا يرى ضرراً كبيراً في استخدام سياسة تسعير باعتبارها، جزئياً، وسيلة لإعادة توزيع الدخل، هو، في اعتقادي، أنه لا يقيم وزناً للفرق بين مستهلكين لمنتجات تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص ومستهلكي منتجات تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة ثابت أو متزايد. وهو يحاجج بأن حكومة تقوم بتنفيذ سياساته ستقوم بتنفيذ أشغال عامة متنوعة للغاية… “إن توزيعاً عشوائياً تقريبياً سيكون كافياً جداً لضمان أن توزيعاً كهذا للفوائد سيجعل معظم الأشخاص في كل جزء من البلاد أفضل حالاً نتيجة للبرنامج ككل”. هذا يعني القول إنه في نظام تسعير تكلفة هامش سيشتري جميع المستهلكين سلعاً تم إنتاجها في ظروف معدل تكلفة متناقص؛ أي أن ما يفقده مستهلك معين في إعادة التوزيع التي تتضمنها خطة ما سيتعادل نتيجة لإعادة التوزيع الناجمة عن خطة أخرى؛ وأنه نتيجة لذلك، فإن إعادة التوزيع الجوهرية ستكون من الأغنياء والملاك للآخرين جميعاً.
الواقع أنه سيكون نوعاً من الحذلقة الاعتراض على تحقيق هدف مرغوب به لمجرد أنه تحقق بطريقة غير عادية. ولكن هذه الجدلية تصمد أو تسقط عن طريق الافتراض بأنه لن تكون هناك إعادة توزيع جوهرية بين مستهلكي أنواع مختلفة من المنتجات. ليس هناك سبب يدعو للافتراض بأن الأمر سيكون كذلك. إن المكسب الذي قد يستمده مستهلكون أفراداً من سياسة هوتلينغ/ليرنر سيعتمد على مدى استعدادهم لدفع التكلفة الكلية لمنتجات تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص (حسب دخلهم الأولي)؛ وعلى الاختلاف المطلق بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش في حالة هذه السلع؛ وعلى المدى الذي تم فيه صرف الدخل الإضافي المتحقق نتيجة لسياسة هوتلينغ/ليرنر على سلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص؛ وعلى الاختلاف المطلق بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش في هذه الحالات. سيكون بالإمكان تقدير طبيعة إعادة التوزيع فقط بعد إجراء تحقيق واقعي مفصل. إلا أنه لا يبدو هناك سبب للافتراض بأنها ستكون إعادة توزيع عديمة القيمة.
تبين صناعات المرافق العامة بعض أكثر الحالات المدهشة لمنتجات تم توفيرها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. لنفترض أنها الصناعات الوحيدة التي توجد فيها هذه الظروف. المستهلكون الذين يعيشون في مناطق ذات كثافة سكانية منخفضة لن يكونوا مستعدين على الأرجح لدفع كامل تكاليف توفير خدمات المرافق العامة والتي ستكون بالنسبة لهم مرتفعة جداً ولن يستفيدوا شيئاً، نتيجة لسياسة هوتلينغ/ليرنر، لأنه لن يتم توفير الخدمات لهم. أما المستهلكون الذين يعيشون في المدن فسيجدون أن مكاسبهم محدودة لأنه، وفي ضوء الاستخدام المكثف نسبياً للمعدات هناك، فإن الاختلاف بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش سيكون على الأرجح أقل منه في أماكن أخرى؛ وحيث أنهم ربما كانوا يستخدمون أصلاً جميع خدمات المرافق العامة، فإن من المحتمل أن يتم إنفاق الدخل الإضافي على أشياء أخرى عدا خدمات المرافق العامة. أعتقد أن أكثر من يحتمل أن يحققوا أكبر فائدة من سياسة هوتلينغ/ليرنر هم أولئك الذين يقطنون في بلدات صغيرة تتوفر فيها بعض، وليس كل، خدمات المرافق العامة وحيث يوجد اختلاف كبير بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش. لست أرى سبباً للافتراض بأنه لن يكون هناك بعض إعادة توزيع، وربما بنسبة كبيرة جداً بسبب هذه السياسة إذا تم تطبيقها بشكل عام. البروفيسور هوتلينغ يعترف بهذا الاحتمال ولكنه يدعي بأنه بإعادة توزيع لاحقة فقد تنشأ حالة يصبح فيها الجميع أفضل حالاً مما كانوا عليه من قبل. وهو لا يصف كيف سيتم حدوث إعادة التوزيع هذه، ولكن من الواضح أنها ستكون ترتيبات أقل شأناً من تبني نظام تسعير متعدد الجوانب مما يجعل من غير الضروري أن تكون هناك إعادة توزيع في مرحلة لاحقة على الإطلاق. بيد أنني لا أستطيع فهم كيف أنه قد يكون من الممكن استخدام إجراءات الضرائب العادية لإعادة توزيع الدخل من مستهلكين لسلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص إلى جميع المستهلكين الآخرين. يمكن القيام بمحاولة لعمل ذلك من خلال ضريبة على استهلاك سلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. ولكن هذا سيكون إما مساوياً لاعتماد تسعير متعدد الجوانب (إذا تم فرض ضريبة كلية على المستهلكين) أو، إذا تم فرض ضريبة على وحدة الاستهلاك الواحدة، سيحدث فرقاً بين القيمة المدفوعة للوحدات الإضافية وتكلفة الهامش وهي نتيجة يهدف حل هوتلينغ/ليرنر إلى تجنبها.
أتحول الآن إلى الاعتراض الثالث على حل هوتلينغ/ليرنر. يقال بأنه يمكن تعويض الخسارة الحاصلة عن طريق زيادة الضريبة. الضرائب التي يفكر فيها البروفيسور هوتلينغ والآخرون الذين يؤيدون هذا الحل هي الضرائب على الدخل وعلى الميراث وعلى العقار. لنفترض الآن أن نوع الضريبة التي ستعوض الخسارة هي ضريبة الدخل، ولكن ضرائب الدخل عادة تُعدّ بحيث يتم فرض الضريبة على وحدات هامشية من الدخل، ولذلك فإن ضريبة الدخل سيكون لها نفس التأثير السيء على اختيارات المستهلكين كضريبة على السلع وستؤدي إلى نتائج مشابهة في طبيعتها لتلك النتائج التي تنجم عن زيادة في السعر مقابل وحدات إضافية من الناتج تزيد عن تكلفة الهامش. يبدو أنه قد تم لفت انتباه البروفيسور هوتلينغ، بعد ظهور مقاله الأول، إلى هذه النقطة من قبل البروفيسور ليرنر. يقول البروفيسور هوتلينغ في مناقشة مع البروفيسور فريش تلت مقاله الأول “بأن ضريبة الدخل من النوع العادي هي نوع من الرسوم على الجهد وعلى الانتظار إضافة للوسائل الأخرى، الأقل إمكانية للدفاع عنها، للحصول على دخل. ضريبة الدخل مرفوضة إلى حد ما لأنها تؤثر على الخيارين—الجهد والراحة والخيار بين الاستهلاك الفوري والمؤجل. تبعاً لذلك، يلحق بعض من نفس نوع الخسارة اللاحقة بضريبة الدخل بالرسوم المشار إليها. ما مدى شدة هذا التأثير، هو سؤال مطروح للدراسة الواعية؛ إلا أن هناك ما يدعو للافتراض بأن ضريبة دخل أكبر من ضريبة الرسوم على السلع الفردية في هذا المجال…”(4). البروفيسور هوتلينغ لا يعطي أي تبرير لاعتقاده أن ضرائب الدخل تميل لأن تكون أقل ضرراً في هذا المجال من ضرائب الرسوم. قد يكون الأمر كذلك فعلاً، ولكن من الواضح أن من المرغوب به معرفة ما هي الظروف التي تكون فيها ضريبة الدخل أقل ضرراً ومتى من المحتمل أن نجدها قبل تطبيق حل هوتلينغ/ليرنر، هذا إذا كان لهذه السياسة أن تؤدي إلى زيادات في ضرائب الدخل(5). يحاول البروفيسور هوتلينغ تجنب هذه الصعوبة عن طريق الإيحاء بأن “الواردات العامة، بما في ذلك تلك المطلوبة لتشغيل صناعات ذات مبيعات بتكلفة الهامش، ينبغي أن تُستمد بصورة رئيسية من تأجير الأراضي وسلع نادرة أخرى ومن ضرائب الميراث والأرباح غير المحسوبة ومن ضرائب مصممة لخفض الاستهلاك المضر اجتماعياً”. هذا ليس حلاً مرضياً للغاية، فهو يفترض أولاً أن ضرائب كهذه ستكون كافية لجمع المبلغ المطلوب. وهذا الحل يفترض، ثانياً، أن الخلل في توزيع الدخل والثروة الناجم عن الضريبة الإضافية على الذين يحصلون على دخولهم بهذه الوسائل هو أفضل من الخسارة التي قد تحدث في حالة توزيع عبء الضريبة الإضافية بطريقة أكثر توازناً بسبب كل الأفراد. من جهة أخرى، فإن رأي البروفيسور هوتلينغ ينطوي على الافتراض بأن التوزيع المثالي للدخل والثروة لم يتم تحقيقه أصلاً وأن الذين يحصلون على دخولهم بهذه الوسائل لم تكن قد فرضت عليهم ضرائب كافية في الماضي. ولكن بالطبع، وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الضريبة الإضافية مرغوبة بغض النظر عن مسألة سياسة التسعير وليس هناك ضرورة تذكر لربطها بمسألة التسعير تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. إضافة لذلك، يبقى السؤال حول الكيفية التي ينبغي أن يتم بها حل مسألة التسعير عندما يتم التوصل إلى توزيع مثالي للدخل. إن اقتراح البروفيسور هوتلينغ لتجنب الخسارة التي قد تنجم عن زيادة ضرائب الدخل هو اقتراح محدود التأثير.
لقد قارنت في هذا الفصل نتائج استخدام نظام تسعير متعدد الجوانب مع تلك التي قد تنتج عن سياسة هوتلينغ/ليرنر. لقد أظهرتُ أن حل هوتلينغ/ليرنر سيؤدي إلى سوء توزيع لعوامل الإنتاج وسوء توزيع للدخل وربما إلى خسارة مشابهة لتلك التي تم تصميم الخطة لتجنبها ولكنها ناشئة عن تأثيرات زيادات ضريبة الدخل. يمكن تجنب هذه النتائج باستخدام نظام تسعير متعدد الجوانب.
تسعير معدل التكلفة مقارنة بحل هوتلينغ/ليرنر
يبدو أن البروفيسور هوتلينغ، والبروفيسور ليرنر، والسيد ميد والسيد فليمنغ لم يدركوا بأن كثيراً من المشاكل التي كانوا يحاولون إيجاد حل لها كان يمكن التعامل معها بوسائل التسعير المتعدد وأن هذا النظام في التسعير من شأنه في الواقع تحقيق نتائج لن تكون عرضة للاعتراضات التي يمكن طرحها ضد حل هوتلينغ/ليرنر. ولكن، وإنصافاً لهم، فتجب الإشارة إلى أن النقد كان موجهاً ضد فرض سعر مفرد يستند إلى معدل تكلفة وليس ضد تسعير متعدد الجوانب. هل الجدل صحيح في هذه الحالة؟ إذا لم يكن التسعير متعدد الجوانب ممكناً، أليس من الأفضل تبني حل هوتلينغ/ليرنر بدلاً من تبني أسعار تستند إلى معدل التكلفة؟
ثمة دعم قوي في هذه الحالة لوجهة النظر التي تتبنى حل هوتلنغ/ليرنر من ناحيتين: أولاً، وقبل كل شيء، فمن الواضح أنه إذا لم يُسمح للمستهلكين بشراء وحدات إضافية حسب تكلفة الهامش، فسيكون هناك سوء توزيع لعوامل الإنتاج. وقد بحثنا في فصول سابقة في طبيعة الكسب الذي قد يتجمع في هذه الناحية من خلال تبني حل هوتلينغ/ليرنر(6). أما الناحية الثانية التي تتلقى فيها وجهة النظر التي تتبنى حل هوتلينغ/ليرنر دعماً فهي تتعلق بفعالية تسعير معدل التكلفة في توفير اختبار سوقي لمدى استعداد المستهلكين لدفع كامل التكاليف. وقد أشرتُ في الفصل السابق إلى أن التسعير متعدد الجوانب يوفر اختباراً كهذا. كيف ينطبق ذلك على حالة تسعير معدل التكلفة؟ إن حقيقة أن المستهلكين مستعدون للشراء بسعر يغطي معدل التكلفة يبين بالتأكيد بأنهم يفضلون الحصول على قيمة تلك العوامل بتلك الصيغة بدلاً من أي صيغة أخرى متوفرة لهم. الصعوبة، كما يوضحها البروفيسور هوتلينغ، أن العكس ليس هو الصحيح. لقد كان معروفاً للاقتصاديين منذ زمن طويل بأنه في الحالات التي يقع فيها منحنى الطلب في كل نقاطه تحت منحنى معدل التكلفة، فقد يكون من الممكن، عن طريق التمييز في الأسعار، رفع معدل الواردات بما يكفي لوصولها إلى مستوى معدل التكلفة. فإذا كان التسعير، تبعاً لذلك، هو على أساس معدل التكلفة، فستكون هناك حالات معينة قد يكون فيها المستهلكون مستعدين لدفع التكلفة الكاملة، ولكن ذلك غير ممكن بسبب التحديدات لهذا الأسلوب بالذات في التسعير. يمكن مباشرة الإنتاج في هذه الحالات إذا تم انتهاج سياسة هوتلينغ/ليرنر.
هذه هي ميزات حل هوتلينغ/ليرنر مقارنة بتسعير معدل التكلفة، ولكن تبقى أوجه القصور التي تم بحثها في الفصل السابق. ينبغي موازنة الميزات وأوجه القصور مقابل بعضها البعض. الميزة الأولى المتوفرة في حل هوتلينغ/ليرنر، مقارنة بتسعير معدل التكلفة، هي أنها تسمح باختيار أفضل على الهامش في الاستهلاك. ولكن قد تنخفض قيمة هذه الميزة وربما تتوازن مع الخسارة التي ستحدث إذا ما تضمن حل هوتلينغ/ليرنر زيادة في ضرائب الدخل. الميزة الثانية هي أن حكومة ما قد تتولى الإنتاج في حالات يكون فيها المستهلكون مستعدين لدفع التكلفة الكلية ولكن قد لا تتولى إنتاجها في حالة تسعير بمعدل التكلفة. إلا أنه ينبغي التذكر بأن هذه السياسة هي التي تقوم فيها الحكومة بتقدير الطلب الفردي وأنها لذلك تتأثر بالتحديدات التي بحثناها في الفصل السابق. ليس من الضروري تولي الإنتاج في كل الحالات التي لا يتم فيها الإنتاج وفقاً لسعر معدل التكلفة. إن حكومة ارتكبت أخطاء عديدة في تقديراتها حول الطلب الفردي يمكن لها بسهولة أن تمحو أي أثر طيب قد ينتج عن سياسة كهذه. تسعير معدل التكلفة قد يمنع عمل أشياء ربما كان يجب عملها، ولكنه أيضاً وسيلة لتجنب ارتكاب أخطاء معينة في الإنتاج، وبعضها لا يمكن تجنبه في حالة اتباع سياسة هوتلينغ/ليرنر. وكما أشرت سابقاً فإني لا أعتقد أنه من المنطق الافتراض بأن بوسع الحكومة إجراء تقديرات دقيقة للطلبات الفردية إذا كانت جميع الأسعار تستند إلى تكلفة الهامش. أخيراً، هناك إعادة توزيع الدخل والثروة التي يتضمنها حل هوتلينغ/ليرنر والذي قد يبدو، كما أشرت في الفصل السابق، من الصعب تسويته في غياب تسعير متعدد الجوانب دون إعادة العمل بذلك النوع من الضرائب الذي سيمنع الخيار المنطقي على الهامش، وهو ما يهدف حل هوتلينغ/ليرنر لتحقيقه.
سيتضح من البحث في هذا الفصل أن مسألة تسعير معدل التكلفة مقابل حل هوتلينغ/ليرنر لا تشكل حالة محددة تماماً. تبعاً لذلك، يجب رفض الادعاء باعتبار حل هوتلينغ/ليرنر متفوقاً بصورة مؤكدة على تسعير معدل التكلفة.
المشاكل الباقية
بحثتُ في هذا المقال مشكلة التسعير تحت ظروف معدل تكلفة متناقص، إلا أنني ألزمت نفسي بحالة واحدة محددة تكون فيها جميع التكاليف متعلقة بمستهلكين أفراداً والتي تم تحمل التكاليف فيها حالياً. وقد أظهرتُ، في ضوء هذه الافتراضات، أن حل هوتلينغ/ليرنر هو دون مستوى تسعير متعدد الجوانب، وأنه بمقارنته بمعدل سعر التكلفة، فإن توازن المنفعة ليس واضحاً. ويبدو أن الخطوات التالية ستكون فحص مشكلة التسعير عندما تكون هناك تكليف مشتركة. إذا كان هناك تكاليف لا يمكن عزوها لمستهلكين أفراداً، فهل يبرز حل هوتلينغ/ليرنر عندئذ كحل قائم بذاته؟ هل ينبغي تحميل تكاليف كهذه على الضرائب؟ أم هل أن المقاربة الصحيحة هي اكتشاف بعض الأسس التي ينبغي أن يتم وفقاً لتوزيع هذه التكاليف على المستهلكين؟ أخيراً، هناك مسألة المصاريف التي تم دفعها فعلاً مقابل العوامل. هل ينبغي تحميل هذه المصاريف على الضرائب؟ أم هل يتحملها المستهلكون؟ إذا تم قبول التحليل الذي ورد في هذا الفصل، فيبدو أن هذه الأسئلة هي ما يجب أن تكون موضوعاً للبحث في المرة القادمة.
ملاحظات:
(1) يجب ألا تكون هناك قابلية للتجزئة في جميع الحالات التي تتراجع فيها معدلات التكاليف. ورغم أني أفترض أنه من غير الممكن استخدام أقل من ناقل واحد، فقد يكون من الممكن افتراض أن خدماته متوفرة بمرونة تامة من حيث أن أجوره ستتنوع وفقاً للزمن الذي عمل خلاله وأن استخدام ناقلين إضافيين لن يرفع مستوى أجورهم.
(2) الافتراض بأن إجمالي التكاليف يتكون من نوعين متمايزين أحدهما يدخل في تكلفة الهامش بينما لا يدخل الآخر في هذه التكلفة ليس افتراضاً أساسياً. كان بوسعنا افتراض ازدياد تكاليف النقل بازدياد عدد الوحدات المنقولة ولكن أن تكاليف الهامش للنقل كانت دون المعدل. بيد أن ذلك سيساعد في الإيضاح إذا التزمنا بالافتراض الأصلي.
(3) هذا يفترض بأن الضرائب التي تقتطع منها الخسائر لا تقع كلياً على مستهلكي سلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. الأمر كذلك، بالطبع، لأن من المقترح أن تكون الضرائب المستخدمة هي ضرائب دخل وضرائب مماثلة.
(4) أود أن أضيف أيضاً بأن ضرائب الدخل تؤثر أيضاً على الخيار بين أن يقوم المرء بعمل ما بنفسه أو توظيف شخص ما للقيام به له، وبالتالي فإن ضريبة الدخل تبدد بعض مزايا التخصص.
(5) يبدو أنه قد تم إهمال هذه المشكلة في النظرية المالية العامة. تفترض المناقشات العادية لعبث الضرائب غير المباشرة بأن البديل هو دفعة كاملة واحدة.
(6) قد يتبادر للذهن أنه لو تم تسعير جميع السلع على اساس معدل التكلفة، بحكم أن جميع الأسعار سترتفع فوق مستوى تكلفة الهامش، فإن خيارات المستهلكين لن تتأثر. يصح ذلك فقط في حالة رفع السعر بصورة متناسبة مع تكلفة الهامش، وهذا ما يستبعد في الغالب أن يكون صحيحاً.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 17 كانون الثاني 2008.