peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

يبرز التعامل العادي مع التنظيم الحكومي للأسواق تمايزاً حاداً بين السوق العادي للسلع والخدمات وبين النشاطات التي يغطيها التعديل الأول [للدستور الأمريكي]—الكلام والكتابة وممارسة المعتقدات الدينية—والتي أطلق عليها اختصاراً (سوق الأفكار). عبارة (سوق الأفكار) ليست وضعاً لحدود المنطقة التي تم تطبيق التعديل الأول عليها بشكل دقيق. الواقع أنه يبدو أن هذه الحدود لم يكن قد تم رسمها بشكل واضح تماماً. ولكن ليس هناك شك يذكر بان سوق الأفكار، أي التعبير عن الرأي في الكلام والكتابة والنشاطات المماثلة، هو في صميم النشاطات التي يحميها التعديل الأول، وأن بحث التعديل الأول كان معنياً إلى حد بعيد بهذه النشاطات.
الجدلية التي أنوي البحث فيها تسبق بكثير إقرار التعديل الأول (والذي من الواضح أنه شمل أفكاراً كانت معتنقة أصلاً) وهناك خطورة بالنسبة للاقتصاديين، ولكن، ليس بالضرورة بالنسبة للمحامين الأمريكيين، تتمثل في حصر نقاشنا حول التعديل الأول بدلاً من بحث المشكلة العامة التي هو جزء منها. الخطر هو أن ينمو نقاشنا نمو التركيز على آراء المحاكم الأمريكية وخصوصاً آراء المحكمة العليا وأننا، تبعاً لذلك، سنجد أنفسنا منقادين لتبني مقاربة تجاه تنظيم الأسواق وجدتها المحاكم ملائمة بدلاً من مقاربة طورها الاقتصاديون، وهو أسلوب قطعنا فيه شوطاً طويلاً لتدمير اقتصاديات المرافق العامة والذي أضر كثيراً بالمناقشات الاقتصادية حول مشاكل الاحتكار بشكل عام. هذه المقاربة ملزمة بطريقة أخرى، حيث أنه بالتركيز على قضايا في سياق الدستور الأمريكي، فقد أصبح من الأكثر صعوبة الاستفادة من خبرة وأفكار بقية العالم.
ما هي وجهة النظر العامة التي أسعى لبحثها؟ هي أن الأنظمة الحكومية مرغوبة في سوق السلع ولكنها غير مرغوبة في سوق الأفكار وينبغي أن تكون محدودة للغاية. في سوق السلع تعتبر الحكومة بشكل عام قادرة تنظيمياً ولديها دافعية ملائمة. المستهلكون يفتقرون للقدرة على الاختيار الصحيح والمنتجون غالباً ما يمارسون سلطة احتكارية، وهم على أية حال، وفي غياب شكل من التدخل الحكومي، لا يتصرفون بطريقة مفيدة للمصلحة العامة. أما في سوق الأفكار فالموقف مختلف تماماً، فإذا حاولت الحكومة التدخل تنظيمياً في سوق الأفكار فلن تكون كفؤة لذلك وستكون دوافعها سيئة بشكل عام بحيث حتى لو أنها نجحت في تحقيق ما تسعى لإنجازه فإن النتائج لن تكون مرغوبة. المستهلكون، من ناحية أخرى، وإذا تركت لهم الحرية، يمارسون تمييزاً دقيقاً في الاختيار بين وجهات النظر المختلفة المعروضة أمامهم، في حين أن المنتجين سواءً كانوا أقوياء اقتصادياً أم ضعفاء، والذين يُعرفون بعدم الالتزام بمعايير الضمير والأخلاق في أسواق أخرى، يمكن الوثوق بهم للتصرف في سبيل الصالح العام سواءً كانوا ينشرون أو يعملون في الـ نيويورك تايمز أو شيكاغو تريبيون أو هيئة إذاعة كولومبيا. السياسيون، الذين تؤلمنا تصرفاتهم أحياناً، بارعون جداً في كلامهم. ومن المعالم الغريبة في هذا السلوك أن الإعلانات التجارية، والتي هي غالباً مجرد تعبير عن وجهة نظر وربما يُظنُّ، في ضوء ذلك، أنها محمية بالتعديل الأول، تعتبر جزءاً من سوق السلع. النتيجة هي أن إجراءات الحكومة تعتبر مرغوبة في تنظيم (أو حتى قمع) التعبير عن رأي في إعلان، والذي لو كان مطروحاً في كتاب أو مقال سيكون خارجاً تماماً عن نطاق الأنظمة الحكومية.
هذا التضاد بين دور الحكومة في سوق السلع ودورها في سوق الأفكار لم يتعرض عادة للنقد سوى من المتطرفين في اليمين أو اليسار—أي بين الفاشيين أو الشيوعيين. العالم الغربي يتقبل، إلى حد كبير، الفرق وتوصيات السياسة العامة التي تصاحب ذلك. بيد أن خصوصية الحالة لم تغب عن الأذهان وأود أن ألفت انتباهكم لمقال قوي بقلم آرون دايركتر.
يستشهد دايركتر ببيان قوي للقاضي ويليام دوغلاس ورد في قرار للمحكمة العليا، وهو نص كان القصد منه، دون شك، أن يكون مفسِّراً للتعديل الأول ولكن من الواضح أنه يشمل أيضاً وجهة نظر لا تستند إلى الاعتبارات الدستورية. يقول القاضي دوغلاس: “حرية الكلام، وحرية الصحافة، وحرية ممارسة العبادات منفصلة تماماً ومستقلة؛ إنها فوق وخارج نطاق سلطة الشرطة؛ وهي لا تخضع للتنظيم بالطريقة التي تخضع لها المصانع وأحياء الأكواخ وبنايات الشقق وعمليات إنتاج البترول وما شابه” [بيوهارنيس ضد إيلينوي]. وحول حرية الكلام، يلاحظ دايركتر بأنها “المجال الوحيد الذي لا زال يحظى بالاحترام.”
لماذا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو؟ ربما يعود ذلك جزئياً إلى حقيقة أن القناعة بسوق حر للأفكار ليست لها نفس الجذور مثل القناعة بقيمة التجارة الحرة في السلع. نقتبس من دايركتر ثانية: “ظهرت حاجة ملحة للسوق الحر كأسلوب مرغوب به لتنظيم الحياة الفكرية في المجتمع قبل وقت طويل من الدعوة له كأسلوب مرغوب به لتنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع. لقد تم إدراك فائدة التبادل الحر للأفكار قبل إدراك فائدة التبادل الحر للسلع والخدمات في أسواق متنافسة.” في السنوات الأخيرة وخصوصاً، فيما أظن، في أمريكا (أي أمريكا الشمالية) تعززت هذه النظرة للوضع الخاص لسوق الأفكار بالتزام بالديمقراطية كما هي مجسدة في المؤسسات السياسية للولايات المتحدة والتي تعتبر أن أسس الكفاءة في عملها تتطلب سوق أفكار لا يخضع لتنظيم حكومي. هذا يفتح المجال لموضوع واسع سأتجنب التعليق عليه. يكفي القول، من الناحية العملية، أن النتائج المتحققة فعلياً من هذا النظام السياسي بالذات توحي بأن هناك قدراً كبيراً من “فشل السوق.”
نظراً للرأي القائل بأن سوقاً حراً للأفكار ضروري لإدامة المؤسسات الديمقراطية، ولأسباب أخرى أيضاً في اعتقادي، فقد أبدى المثقفون ميلاً لتمجيد سوق الأفكار والتقليل من شأن سوق السلع. لا يبدو لي مثل هذا السلوك مبرراً، وكما قال دايركتر: “سيتعين على معظم البشر في المستقبل المنظور تخصيص جزء معتبر من حياتهم العامة للنشاط الاقتصادي. إن حرية الاختيار بالنسبة لهؤلاء الناس، باعتبارهم مالكين للموارد، في الاختيار ضمن فرص متوفرة ومتغيرة باستمرار، لمجالات العمل والاستثمار والاستهلاك، مهمة تماماً مثل أهمية الحديث والمشاركة في الحكومة.” ليس لدي شك في صحة ذلك. بالنسبة لمعظم الناس في معظم البلدان (وربما في كل البلدان) يعتبر توفير الطعام واللباس والمأوى أهم بكثير من توفير “الأفكار الصحيحة” حتى لو افترضنا أننا نعرف ما هي هذه الأفكار.
ولكن لندع جانباً مسألة الأهمية النسبية لكلا السوقين؛ اختلاف وجهات النظر حول دور الحكومة في هذين السوقين هو حقاً دور خارج عن المألوف تماماً ويتطلب تفسيراً. لا يكفي مجرد القول بضرورة استبعاد الحكومة من مجال نشاط معين لأنه حيوي لحياة مجتمعنا. حتى في الأسواق التي تهم بشكل رئيس الطبقات الأدنى فلا يبدو من المرغوب به تقليل الكفاءة التي يعملون بها. التناقض الظاهري هو أن تدخل الحكومة الشديد الضرر في مجالٍ ما يصبح نافعاً في مجال آخر، ويصبح التناقض باعثاً على مزيد من الدهشة عندما نلاحظ أننا نجد في أيامنا هذه أن أشد من يضغطون عادة لتوسيع التنظيم الحكومي إلى أسواق أخرى هم الأشد رغبة في تطبيق مشدد للإجراءات المقيدة للتنظيم الحكومي في سوق الأفكار!
ما هو تفسير هذا التناقض؟ طبيعة دايركتر اللطيفة لا تسمح له بأكثر من إلماحة حول ذلك: “ثمة تفسير سطحي حول أفضلية حرية الكلام في أوساط المفكرين والمثقفين يدور حول مصالح عمودية. كلٌ يحاول تضخيم أهمية مركزه وتقزيم مركز جاره. المثقفون مشغولون بملاحقة الحقيقة بينما الآخرون مشغولون فقط بكسب قوتهم. الواحد من هؤلاء يعمل في مهنة، مستنيرة عادة، بينما الآخر يعمل في تجارة أو نوع من العمل التجاري.” أود أن أسمي الأشياء بأسمائها فأقول بأن سوق الأفكار هو الذي يعتبره المفكر مهنة له. تفسير الظاهرة يرجع إلى المصلحة الذاتية والمنفعة الذاتية. المصلحة الذاتية تقود المفكرين إلى تضخيم أهمية سوقهم، بينما تنظيم الآخرين يبدو طبيعياً خصوصاً أن كثيراً من المفكرين يعتبرون أنفسهم مناطين بمهمة التنظيم. ولكن المصلحة الذاتية مقرونة بالمنفعة الذاتية يتضافران لضمان أنه، بينما يجري تنظيم الآخرين، فإن التنظيم ينبغي ألا يطبق بحقهم. وهكذا فمن الممكن التعايش مع وجهات النظر المتناقضة هذه حول دور الحكومة في هذين السوقين. النتيجة النهائية هي ما تهم. وقد لا يكون التفسير لطيفاً، ولكني لا أستطيع التفكير بتفسير آخر لهذه الحالة الغريبة.
أن يكون هذا هو التفسير الرئيسي لهيمنة وجهة النظر التي تعتبر سوق الأفكار أمراً مقدساً تدعمه بالتأكيد نظرة متفحصة على تصرفات الصحافة. الصحافة، بالطبع، هي أقوى المدافعين عن مبدأ حرية الصحافة، وهو سلوك في الخدمة العامة قادتها إلى أدائه يدٌ خفية. إذا أمعنا النظر في تصرفات وآراء الصحافة لوجدنا أنها متسقة في شيء واحد: الاتساق مع المصلحة الذاتية للصحافة دائماً.
تأمّل طرحهم الذي يقضي بأنه لا ينبغي إرغام الصحافة على الكشف عن مصادر المواد التي يتم نشرها. يسمون هذا دفاعاً عن حق الجمهور في المعرفة، الذي يمكن تفسيره ليعني بأنه ليس للجمهور حق في معرفة مصدر المادة المنشورة في الصحافة. الرغبة في معرفة مصدر القصة ليس مجرد فضول بليد، فمن الصعب معرفة مدى مصداقية معلومة ما إذا كان القارئ يجهل مصدرها. التقليد الأكاديمي، الذي يكشف فيه الكاتب إلى أبعد مدى ممكن المصادر التي اعتمد عليها وبذلك يطرحها لتفحص زملائه، يبدو لي تقليداً صحيحاً وعنصراً أساسياً في البحث عن الحقيقة. والحجة المضادة من جانب الصحافة، بالطبع، لا تخلو من المنطق، فهم يقولون بأن بعض الناس لن يقدموا على التعبير عن آرائهم بصدق إذا كان سيصبح من المعروف عامةً بأنهم يؤمنون بهذه الآراء. بيد أن هذه الحجة تنطبق بنفس الدرجة على كل تعبير عن رأي سواءً في الحكومة أو في مجال الأعمال أو في الحياة الخاصة حيث السرية ضرورية لإبداء الآراء بصراحة. إلا أن هذا الاعتبار لم يردع الصحافة بصورة عامة عن كشف أسرار كهذه عندما يكون ذلك في مصلحتها. بالطبع كشف مصادر المواد المنشورة في الحالات التي تنطوي على خيانة للأمانة أو حتى سرقة وثائق سيكون من شأنه أيضاً إعاقة تدفق المعلومات. وقبول مواد في ظروف كهذه لا يتسق مع المعايير الأخلاقية العالية والالتزام الصارم بالقانون التي تتوقعها الصحافة من الآخرين.
يصعب علي أن أصدق بأن الخطأ الرئيسي في قضية ووترغيت لم يكن من تدبير صحيفة النيويورك تايمز. ولست أرغب في المجادلة بأنه ليس هناك اعتبارات متضاربة في كل هذه القضايا يصعب تقييمها. النقطة التي أود التأكيد عليها هي أن الصحافة لا تجد هذه الاعتبارات صعبة على التقييم.
لنأخذ مثالاً آخر أكثر مدعاة للدهشة من عدة جوانب: سلوك الصحافة تجاه التنظيم الحكومي للبث الإعلامي. البث الإعلامي مصدر مهم للأخبار والمعلومات؛ وهو يقع في نطاق التعديل الأول. مع ذلك فإن محتوى برامج المحطات الإعلامية يخضع للأنظمة الحكومية. وقد يخطر للمرء بأن الصحافة، وهي تعتبر نفسها مكرسة للتطبيق الصارم للتعديل الأول، ستكون في حالة هجوم دائم على هذا التغاضي عن حق حرية الكلام والتعبير، إلا أنها في الواقع لم تفعل ذلك. خلال الخمسة وأربعين عاماً التي مرت منذ تأسيس هيئة الإذاعة الفيدرالية (أصبح اسمها الآن هيئة الاتصالات الفيدرالية)، لم تُبد الصحافة سوى القليل جداً من الشكوك حول سياسة هذه الهيئة. الصحافة، الحريصة جداً على البقاء طليقة من قيد الأنظمة الحكومية، لم تبذل أبداً أي جهد لضمان حرية مماثلة لصناعة البث الإعلامي. وكي لا يتبادر لذهن أحد أني أبدي عداءً للصحافة الأمريكية فإني أود الإشارة إلى أن الصحافة البريطانية قد تصرفت بطريقة مماثلة. بل إننا في هذه الحالة نجد التناقض أقوى بين الممارسة الفعلية والقناعات المزعومة لأن ما هو موجود في بريطانيا هو احتكار تسيطر عليه الحكومة للأخبار والمعلومات. وقد يتبادر للذهن أن هذه الاستهانة قد أفزعت الصحافة البريطانية. لم يحصل ذلك، بل إنها قد دعمت احتكار البث الإعلامي بصورة رئيسية، كما يبدو لي، لأنهم رأوا أن البديل لهيئة الإذاعة البريطانية سيكون إعلاماً تجارياً وأن ذلك سيشكل، تبعاً لذلك، منافسة متزايدة تحد من إيراداتهم الإعلانية. ولكن إذا كانت الصحافة لا ترغب في منافستها على الإيرادات الإعلانية فإنها لا ترغب أيضاً في منافسة متزايدة على مصادر الأخبار، وهكذا فقد بذلت كل ما في وسعها لكبح هيئة الإذاعة البريطانية، على الأقل كجهة مزودة للأخبار والمعلومات. وعندما تأسس الاحتكار في البداية (عندما كان يطلق على الهيئة اسم شركة الإذاعة البريطانية) كانت الشركة ممنوعة من بث أي معلومات أو أخبار إذا لم يكن قد تم الحصول عليها من وكالات أنباء محددة بالاسم. لم يكن مسموحاً ببث أي أخبار قبل الساعة السابعة مساءً وكانت هناك قيود أخرى أيضاً على أي أخبار قد تؤثر سلباً على مبيعات الصحف. ثم أخذت هذه القيود تخف تدريجياً، وعلى مدى عدة سنوات، نتيجة للمفاوضات بين الصحافة وهيئة الإذاعة البريطانية. ولكن الإذاعة البريطانية لم تقم ببث نشرة أخبار منتظمة قبل الساعة السادسة مساءً حتى ما بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ولكن ربما كان هناك من يجادل في أن حقيقة كون رجال الأعمال يتأثرون بصورة رئيسية باعتبارات مالية هي مسألة بديهية وليست اكتشافاً هاماً، فماذا يمكن للمرء أن يتوقع من اللاهثين وراء المال في عالم الصحافة؟ أكثر من ذلك، قد يقول معترض، فإن مجرد دعم نشر مبدأ من قبل أولئك الذين يستفيدون منه لا يعني أن هذا المبدأ غير سليم. ألم يتبنّ الدعوة لحرية الكلام والصحافة، في نهاية المطاف، كبار المفكرين الذين تتشكل قناعاتهم بتأثير ما هو حق وليس لاعتبارات مادية خسيسة؟ ليس هناك بالتأكيد مفكر أرجح عقلاً من جون ميلتون. وحيث أن أطروحته (من أجل حرية صحافة دون ترخيص) قد تكون على الأغلب أشهر دفاع كتب حول مبدأ حرية الصحافة، فقد بدا لي أن المسألة تستحق فحص طبيعة وجهة نظره في سبيل صحافة حرة. وأنوه قبل ذلك إلى أن لعمل ميلتون فائدة أخرى تخدم غرضي، فقد كُتب هذا العمل عام 1644 أي قبل وقت طويل من عام 1776، وعليه فبوسعنا أن نتعرض إلى طبيعة الجدلية قبل أن يكون هناك أي فهم عام لكيفية عمل الأسواق المتنافسة وقبل بروز الآراء الحديثة في الديمقراطية. لعله من العبث الذي لا طائل تحته أن أتظاهر أن بوسعي اتخاذ موقف المفسِّر لأفكار ميلتون، فأنا لا أعرف سوى القليل عن إنجلترا في القرن السابع عشر وهناك الكثير في أطروحة ميلتون مما لا أستطيع إدراكه. إلا أن هناك مقاطع من هذه الأطروحة تثب عبر القرون ولا حاجة لتفسيرها منحة تخصصٍ علمي.
يؤكد ميلتون، كما يمكن للمرء أن يتوقع، على أهمية سوق الأفكار: “أعطني الحرية لكي أتعلم وأتحدث وأجادل بحرية وفقاً للوعي قبل أي حرية أخرى” (ص 44). هذا شيء مختلف عن سوق السلع وينبغي عدم التعامل معه بنفس الطريقة: “الحقيقة والفهم ليستا سلعتين يمكن احتكارهما والمتاجرة بهما باستخدام اللوائح والقوانين والمقاييس. يجب ألا نفكر في جعل المعرفة في كل البلاد سلعة كبرى نمنحها ترخيصاً وعلامة تجارية كالقماش وبالات الصوف” (ص 29). إن ترخيص المادة المكتوبة إهانة للرجال المتعلمين والمقبلين على التعليم: “عندما يجلس رجل ليكتب للعالم فإنه يستجمع كل ما لديه من ذكاء ومهارة ليستعين بهما، فهو يبحث ويوازن ويثابر وقد يتحاور ويتشاور مع الحكماء من أصدقائه، وبعد ذلك كله يستشعر في نفسه الثقة بالإحاطة بما يريد الكتابة عنه إضافة على ما كان قد كُتب عن الموضوع من قبله. إذا كان مثل هذا الكاتب في مثل هذا العمل الذي أولاه كل ما لديه من براعة ودقة واكتمال، لا تستطيع السنوات ولا المثابرة ولا أي إثباتات سابقة لقدراته أن توصله إلى درجة النضج التي تجعله يبقى غير ذي ثقة بل وموضع شبهة ما لم يحمل خلاصة كدّه وسهر لياليه لأخذ موافقة سريعة من موظف ترخيص مشغول ربما كان أصغر منه سناً بكثير وربما كان أقل قدرةً منه بكثير في الحكم على الأمور وربما كان رجلاً لم يعرف في حياته مشقة الكتابة، ثم، إذا لم يُرفض عمله أو يقابل بالازدراء فيجب أن يظهر عند الطباعة كشخص هزيل يحمل على الجهة الأخرى من عنوان كتابه علامة يد راعية ورقيبة كفالة وضمانة بأنه ليس معتوهاً أو ضالاً، فلا يمكن لذلك إلا أن يكون امتهاناً وانتقاصاً للمؤلف والكتاب لرفعة وامتياز قيمة التعلم” (ص 27). الترخيص هو أيضاً إهانة لعامة الناس: “وليس الترخيص أقل امتهاناً لعامة الناس؛ فإذا كنا من الغيرة عليهم إلى هذا الحد بحيث لا نجرؤ على الثقة بهم في قراءة كتيّب باللغة الإنجليزية فماذا نفعل أكثر من أننا نلومهم باعتبارهم جمهوراً مترنحاً فاسداً مهزوزاً في حالة من ضعف الإيمان والقدرة على الاختيار تجعلهم غير قادرين على تناول أي شيء إلا إذا كان عبر أنبوب موظف الترخيص” (ص 30). في سوق الأفكار يتم اتخاذ الخيارات الصحيحة: “دعوا [الحقيقة] والكذب يتصارعان. من عرف يوماً أن الحقيقة ستفشل في مواجهة حرة ومفتوحة؟” (ص 45).
الذين يتولون سلطة الترخيص ليست لديهم كفاءة للقيام بذلك، فمن يتولى سلطة كهذه يجب، في رأي ميلتون، أن يكون: “مثابراً ومطلعاً، وحصيفاً.” ولكن من المستبعد أن نحصل على شيء كهذا في شخص هذا الموظف: “قد نستطيع أن نستشرف بسهولة نوعية موظفي الترخيص الذين يمكن توقعهم من الآن فصاعداً: إما أن يكونوا جهلة ومتغطرسين ولا مبالين أو مستعبدين مالياً” (ص 25). وسيكون موظفو الترخيص، على الأرجح، أكثر ميلاً لقمع الحقيقة من قمع الكذب: “وفي حالة الخطر، فسيتعدى الأمر في الأغلب الأعم حظر الحقيقة نفسها، التي سيكون ظهورها الأول لأعيننا وهي ضبابية وباهتة بسبب التحيز والتقاليد أكثر بشاعة وأقل صدقية من العديد من الأخطاء” (ص 47). ولا ينسى ميلتون أن يخبرنا بأن نظام الترخيص الذي كان يَكتُب ضده قد ظهر نتيجة لضغط الصناعة: “وكيف كانت لها اليد العليا… كان فيها خداع بعض أصحاب الامتيازات والمحتكرين في مهنة بيع الكتب” (ص 50).
ربما لعبت المصلحة الذاتية دوراً في تشكيل أفكار ميلتون، ولكن ليس هناك شك يذكر في أن محاججته تنطوي على قدر كبير من الكبرياء الثقافي الفكري من النوع الذي أشار له دايركتر. الكاتب رجل مطلع ومثابر وجدير بالثقة، أما موظف الترخيص فهو جاهل وغير كفؤ وذو دوافع مالية، وربما كان “أصغر” و”أقل قدرة في الحكم على الأمور.” كما أن رجل الشارع يختار الحقيقة باعتبارها على الطرف النقيض للكذب. الصورة ذات جانب واحد إلى حد ما بحيث يصعب اعتبارها مقنعة تماماً، وإذا كانت مقنعة للوسط الثقافي الفكري (ويبدو أنها كانت غالباً كذلك) فمن المؤكد أن ذلك يعود إلى أن من السهل إقناع الناس بأن ما هو في صالحهم هو بالضرورة في صالح البلاد.
لا أعتقد بصحة هذا التمايز بين سوق السلع وسوف الأفكار. ليس هناك فرق جوهري بين هذين السوقين، وعند اتخاذ قرار حول السياسة العامة إزاءهما يتعين علينا أن نأخذ في الحسبان الاعتبارات ذاتها لكليهما. في كل الأسواق هناك بعض الأسباب لدى المنتجين ليكونوا صادقين وبعض الأسباب ليكونوا غير صادقين؛ وتكون لدى المستهلكين بعض المعلومات ولكنهم غير ملمين تماماً بكل المعلومات أو حتى قادرين على استيعاب المعلومات المتوفرة لهم؛ والمنظمون عادة يرغبون في القيام بعملهم بشكل جيد، ورغم أنهم غير أكفاء غالباً ومعرضون لتأثيرات مصالحهم الخاصة، فإنهم يتصرفون بهذه الطريقة لأنهم، مثلنا جميعاً، بشرٌ، ليست أقوى حوافزهم هي الأفضل.
عندما أقول بأنه ينبغي أخذ نفس الاعتبارات في الحسبان فلا أعني بذلك أن السياسة العامة ينبغي أن تكون هي ذاتها في جميع الأسواق. فالمقومات الخاصة لكل سوق تعطي وزناً مختلفاً لنفس العوامل مما يجعل الترتيبات الاجتماعية الملائمة تختلف وفقاً لذلك. قد لا يكون من المعقول العمل بالترتيبات القانونية ذاتها التي تحكم صناعة الصابون والإسكان والسيارات والبترول والكتب. وجهة نظري هو أنه يتعين علينا استخدام (المقاربة) ذاتها لجميع الأسواق عندما نقرر سياسة عامة. الواقع أننا إذا قمنا بذلك واستخدمنا لسوق الأفكار ذات المقاربة التي استهوت الاقتصاديين في سوق السلع فمن الواضح أن ذلك يدعم حجة التدخل الحكومي في سوق الأفكار بشكل أكثر قوة مما عليه الحال عموماً في سوق السلع. وكمثال على ذلك، فإن الاقتصاديين يدعون عادة إلى التدخل الحكومي، والذي قد يشمل أنظمة حكومية مباشرة، عندما لا يعمل السوق بطريقة صحيحة—أي عندما يحدث ما يُعرف عادة بتأثيرات الجوار أو تشكل فائض أو “العوامل الخارجية” إذا ما كان لنا أن نستخدم هذه العبارة المشؤومة.
إذا حاولنا تخيل نظام حقوق الملكية الضروري والمعاملات التي يجب القيام بها لضمان أن يحصل كل من قام بنشر فكرة أو اقتراح للإصلاح على قيمة السلعة التي نتجت عن تلك الفكرة أو يدفع تعويضاً عن الضرر في حالة حدوثه فمن السهل أن نرى أنه سيكون هناك في التطبيق العملي، على الأرجح، قدر كبير من “فشل السوق.” حالات مثل هذه تقود الاقتصاديين عادة للدعوة لتدخل حكومي مكثف.
أو لنأخذ مسألة جهل المستهلك التي ينظر إليها عادة كمبرر للتدخل الحكومي. من الصعب الاعتقاد بأن عامة الجمهور سيكونون في وضع أفضل لتقييم وجهات نظر متنافسة حول سياسة اجتماعية واقتصادية أكثر من الاختيار بين أنواع مختلفة من الطعام. مع ذلك فهناك تأييد للتنظيم الحكومي في حالةٍ وعدم تأييد في الأخرى. أو لنأخذ مسألة منع الغش الذي يحظى عادة بحض على التدخل الحكومي. من الصعب إنكار أن مقالات الصحف وأحاديث السياسيين تحوي قدراً كبيراً من الكذب والبيانات المضللة—الواقع أنها تبدو أحياناً وكأنها لا تحوي خلاف ذلك. الإجراءات الحكومية لضبط الإعلانات الكاذبة والمضللة مرغوبة للغاية، إلا أن اقتراحاً لتشكيل هيئة صحافة فيدرالية أو هيئة سياسية فيدرالية على غرار هيئة التجارة الفيدرالية لن يحظى بأي اهتمام.
التأييد القوي الذي يحظى به التعديل الأول ينبغي ألا يحجب عنا أن هناك، في الواقع، قدراً كبيراً من التدخل الحكومي في سوق الأفكار. لقد تطرقت إلى الإذاعة، ولكن هناك أيضاً موضوع التعليم، الذي، رغم أنه يلعب دوراً حيوياً في سوق الأفكار، فإنه يخضع لكثير من التنظيم. قد يتبادر للذهن أن أولئك الذين يبدون حرصاً كبيراً على منع إجراءات التنظيم الحكومي عن الكتب والمواد المطبوعة الأخرى قد يرفضون أيضاً تنظيماً كهذا في مجال التعليم. إلا أن هناك اختلافاً بالطبع. تنظيم الحكومة لمجال التعليم يصاحب عادة التمويل الحكومي مع إجراءات أخرى (مثل إلزامية التعليم المدرسي) والذي يزيد من الطلب على خدمات المفكرين والمتعلمين، وبالتالي، على دخولهم (راجع إي. جي. ويست، ص 101). المصلحة الذاتية إذن، التي تؤدي عموماً إلى تأييد سوق حر للأفكار، هي التي توحي بموقف مختلف في مسألة التعليم.
كما أني لا أشك أن الدراسة المفصلة ستكشف حالات أخرى أيدت فيها مجموعات من العاملين في سوق الأفكار التنظيم الحكومي وتحديد المنافسة عندما يكون من شأنها زيادة دخولهم، تماماً كما وجدنا السلوكيات ذاتها في سوق السلع. ولكن الاهتمام بالاحتكار سيكون على الأرجح أقل في سوق الأفكار. هناك سياسة عامة لمفهوم التنظيم، هي أن تحديد السوق يؤدي إلى خفض الطلب على خدمات المثقفين والمفكرين. ولكن لعل الأهم من ذلك هو أن الجمهور معني أكثر بالصراع بين الحقيقة والكذب أكثر من اهتمامه بالحقيقة نفسها. إن الطلب على خدمات المؤلفين وكتاب الخطابات، يعتمد إلى حد كبير على وجود جدال—ولكي يكون هناك جدال فمن الضروري ألا تنتصر الحقيقة وحدها!
مهما فكر المرء في الدوافع التي أدت إلى القبول العام للوضع الحالي يبقى هناك سؤال حول أي السياسات هي، في الواقع، أكثر ملاءمة. هذا يتطلب منا التوصل إلى بعض الاستنتاجات حول الطريقة التي ستؤدي بها الحكومة أية مهمات يعهد بها إليها. لا أعتقد أنه سيكون بوسعنا تكوين حكم نستطيع الوثوق بصوابه ما لم نتخلّ عن التناقض الحالي في النظرة إلى أداء الحكومة في السوقين وتبني موقف أكثر اتساقاً. يتعين علينا أن نقرر فيما إذا كانت الحكومة قليلة الكفاءة كما يفترض عادة في سوق الأفكار، وفي حالة كهذه سنميل بالدعوة إلى خفض درجة التدخل الحكومي في سوق السلع، أو ما إذا كانت جيدة الكفاءة كما يفترض عادة في سوق السلع، وفي حالة كهذه سنميل بالمطالبة إلى زيادة درجة التدخل الحكومي في سوق الأفكار. يستطيع المرء، بالطبع، أن يتبنى موقفاً وسطاً—أي حكومة لا هي رديئة وقليلة الكفاءة كما يفترض في أحد السوقين ولا هي كفؤة ومثلى كما يفترض في السوق الأخرى. في هذه الحالة يتعين علينا أن نخفض درجة التنظيم الحكومي في سوق السلع وربما سنميل لزيادة التدخل الحكومي في سوق الأفكار.
وأتطلع إلى معرفة أي من الخيارات في وجهات النظر هذه ستكون موضع تأييد زملائي في المهنة الاقتصادية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 6 شباط 2007.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018