محمد الدعمي

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

منذ تجليات مرحلة محمد علي باشا في مصر، وعودة رفاعة رافع الطهطاوي من باريس في وقت لاحق، يحيا العالم العربي في ظل شعور قوي بأن هذا هو عصر النهضة العربية، أو مرحلة اليقظة العربية/الإسلامية. لقد بقي هذا الشعور مذاك سائداً لا يقبل النقاش لأسباب عدة، منها ما هو متصل بما سبق في الحياة السياسية والثقافية، ومنها ما هو متصل بما تمخض عنه التالي من الأعوام من نتاجات فكرية وتطورات سياسية قادت نحو تغيرات جذرية نحيا اليوم بعضاً من آثارها المتأخرة. ولكن، ألم يأتِ الوقت المناسب الذي يسمح لنا، ابناءً لما جاءت به النهضة العربية، أن نتساءل: هل نحيا عصراً حقيقياً للنهضة، أم إنه عصر لا يختلف عما سبقه من العصور المظلمة التي نقلل من شأنها متخذين من تغزل أحد شعرائها بـ”مخدة” أو بإبريق شاي دليلاً على التردي والنكوص الذي كان يحياه العقل العربي في ذلك العصر المظلم.
لقد قدم الطهطاوي، ومن ثم السيد جمال الدين الأفغاني ومريده محمد عبده، عدداً من الأسئلة، كان أهمها هو: لماذا نحن متأخرون أو متخلفون في العالم العربي الإسلامي، مقارنة بالأمم الغربية؟ وقد تمخضت محاولات الإجابة على هذا السؤال حصراً عن الكثير والمضني من الجدل والمناقشات التي ملأت الكتب والمجلات، كما هي الآن تملأ الدنيا ضجيجاً عبر الفضائيات وسواها من وسائل البث الأثيري. لقد كان المبدأ الأول الذي إعتمده “أساطين” النهضة المشار إليهم أعلاه هو إستمكانهم للتراجع والخنوع لهيمنة الإمبراطوريات الأجنبية، العثمانية خاصة، كواحد من أهم مسببات وتجليات العصر المظلم، كما نفضل أن نطلق عليه، ربما بتعسف. لذا دعا هؤلاء المفكرون إلى تحرير الأقطار العربية والإسلامية من الهيمنة العثمانية ومن سيطرة سواها من الإمبراطوريات الأجنبية، فعد الإستقلال السياسي شرطاً مسبقاً لأنطلاق نهضة عربية أو عربية إسلامية جديدة تتبلور، ليس فقط في التحرر من ربقة الإمبراطوريات، ولكن كذلك فيما سيقدمه العقل العربي الإسلامي من منجزات إبداعية ومبتكرة تذكرنا بالعصر الذهبي لحضارتنا على سنوات الدولة العباسية.
بيد أن الذي حدث مختلف تماماً عن هذه الرؤيا المثالية، فلم يكن بمقدور الشعوب العربية أن تتخلص من نير الإمبراطورية العثمانية لوحدها، الأمر الذي إضطرها أو إضطر نخبها السياسية لأن تستنجد بالإمبراطوريات أو الكولونياليات الأوربية الجديدة لمساعدتها على الثورة على العثمانيين. وهكذا إنزلقنا نحو عصر الهيمنات والوصايات الأوربية، البريطانية والفرنسية والإيطالية من بين سواها، فدخلت الشعوب العربية طوراً جديداً من “النضال” لتحقيق التحرر من “الإستعمار” الأوربي وبناء الدول العربية المستقلة الجديدة. وعبر هذه المرحلة المستطيلة بحسابات العصر الجاري لم يتوقف أصحاب الأقلام الوثابون إلى “المشروع النهضوي”، القومي أو الإسلامي، في نقد، وأحياناً، سباب “العصر المظلم” المسكين وأهله لأنهم لم يفكروا بشيء سوى التغزل بمخدة أو بإبريق الشاي. لقد شهدت هذه المرحلة بروز عدد من الأقلام العربية التي نحسد ذلك العصر عليها الآن، لأننا لم نتمكن من أن نأتي بمثلها اليوم !
لقد حققت أغلب الأقطار العربية إستقلالها السياسي عبر قصص طويلة من العمل والنضال والكفاح ضد “المستعمر الغاشم”. وكانت النتائج باهرة عبر القرن العشرين على نحو خاص، إذ تتابعت أخبار الثورات وإعلانات التحرر والإستقلال السياسي على نحو سريع، من المحيط إلى الخليج. بيد أننا إكتشفنا أن الإستقلال السياسي كان  مشوباً بالكثير، فبرز الحديث عن أن الإستعمار، إذا ما خرج من الباب، فإنه سيعود من الشباك بطرائق وأقنعة متنوعة، بينما ظهرت آفات الرجعية والدكتاتورية وتغييب الديمقراطية الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي، مقدماً لنا جروحاً لا تندمل. وهكذا بقيت الثقافة العربية، على تنوعات مشاربها، أسيرة بين مطرقة التأثيرات الغربية وسندان أعباء الماضي الذي فرض على العقل الحاكم رؤى “السلطنة” المطلقة المستوحاة من حكايات “الف ليلة وليلة”.
إن أية مراجعة لما قدمته ثقافتنا خلال القرن الماضي تعكس آثار هذين المولدين الأساسيين. حتى العقول العربية الأكثر ذكاءً وقدرة على التحليل والنطق، وهي تعد بالأصابع، لم تتمكن من أن تحرر نفسها من هذين المولدين. وبقيت تناقش قضايا لا تزيد عن التراث والمعاصرة أو التراث والحداثة، وهما تعبيران جديدان لتوصيف التأثير الغربي من ناحية، وعبء الماضي من الناحية الثانية. وكانت أبرز الكتابات العربية التي نفتخر بها اليوم تتمحور حول الماضي، ولكن بمنظورات وأدوات غربية، تم إكتسابها في الجامعات الأوربية أو الأميركية. لذا كانت محاور هذه “النهضة” لا تتعدى مناقشات حول الشعر الجاهلي وإعادة تقييم أو تقويم قصة الإسلام عبر منظورات ومحكات من نوع الصراع بين الإمام علي ومعاوية، بينما بقيت عقول عربية أخرى منكفئة على تعريب ما يقدمه الفكر الغربي من روايات وقصص ونظريات من النوع الذي لم نتمكن من أن نأتي بمثله في جدته وإبتكاره.
ولكن مع هذا كله، يتوجب علينا أن نحسد االعصر المتلاشي الذي شهد ظهور رجال من نمط طه حسين أو علي الوردي، من بين آخرين، ذلك أننا في العصر الجاري، لم نتمكن من إنتاج رجال من هذا العيار الذي لا نرى فيه ما يكفي من القدرة على الإبتكار والإبداع. لقد شيدنا مئات الجامعات وآلاف المدارس، كما طورنا أنواع المراكز العلمية ودور النشر الثقافية، لكننا لم نشهد ولادة كتاب من هذا النوع الذي يجهزنا بشيء من صدمة أو رجة الوعي عبر مراجعاته للتراث. أما إذا كنا نطالب بنظريات وأفكار مبتكرة من نوع جديد، لم تخطر على بال أحد في أوربا أو أميركا، فهذا نمط من أنماط أحلام اليقظة. لقد توفي أمثال هؤلاء الرواد الذين لم نزل نستذكرهم بشيء من الدفء وبقينا نكتب هوامشاً على آرائهم وأفكارهم لا أكثر. وحتى هذه الهوامش اللاإبداعية راحت تتلاشى مع ظهور بطش الدكتاتوريات والتحجر الآيديولوجي الذي يرفض أن يتلحلح في عصر العولمة والشبكات الرقمية والإنترنيت، إذ تحول الإنسان الشاب نفسه إلى هامش إستهلاكي للمعرفة، إن كان يبحث عنها. وإذا كان الشعر ديوان العرب، الحقل الذي تميز به العرب عن غيرهم، كما نعتقد، فإننا قد شهدنا ونشهد اليوم مجالس عزاء أواخر الشعراء الفحول الذين ظهروا في أواسط القرن الماضي، بينما لم نتمكن من تعويضهم. لقد غادر نزار قباني وغادر الجواهري وأخيراً غادرت نازك الملائكة، تاركين وراءهم إرثاً فنياً وثقافياً جيداً دون أن نجد بدائلاً عنهم، كما كان يحدث في العصر العباسي على سبيل المثال. وتنطبق ذات الحال على الكتّاب والناثرين من المفكرين الذين تمت الإشارة إليهم أعلاه: فقد غادروا دون بدائل بمستواهم أو على مستوى أفضل. وهكذا بقينا أسرى التعليقات التلفزيونية المملاة من قبل الحكام وضوضاء أدعياء الثقافة اللامسؤول: فهل نشهد اليوم عصراً مظلماً جديداً؟ أم أننا لم نفارق العصر المظلم منذ سنوات شعراء الجدية والتكسب إلاّ في الخيال؟ هذا سؤال يستحق الملاحظة وأنشطة تبادل الراي.
أما من الناحية السياسية، عندما كان العرب تحت نير الإمبراطوريات الأجنبية، فإنهم كانوا كذلك أكثر إتصالاً وتآصراً فيما بينهم، بينما كانت الثقافة العربية أو العربية الإسلامية تبدو أكثر إتساقاً وتمازجاً مما هي عليه اليوم، بالرغم من آلاف دور النشر ومئات المجلات الثقافية التي نشاهده اليوم. في ذلك العصر “المظلم”، كان السيد جمال الدين الأفغاني يتنقل بين النجف والقاهرة، بغداد وإسطنبول، بكل حرية دون أن تطلب منه اية سفارة أن “يبتاع” تأشيرة دخول وأن ينتظر أشهراً حتى تتم الموافقة على دخوله.
إن الحديث عن عصر النهضة أو عن المشروع النهضوي يمكن أن يكون مجرد خرافة. لذا على الأجيال الإنتظار: فقد يأتي اليوم الذي تدرس فيه أفكارنا وآدابنا بوصفها جزءاً من عصر مظلم زائل، بينما يتعامل باحثو المستقبل مع ما نقول بإعتباره حلماً قومياً لا مجدٍ.
© منبر الحرية، 07 أبريل 2009

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

في مقابلة متلفزة ومشحونة بدلالات وأبعاد البون الثقافي بيننا وبين أوربا، قال الضيف وهو “إريك راؤول”، مقرر اللجنة البرلمانية لمنع النقاب في فرنسا ما نصه أن “مجرد رؤية امرأة منقبة بالسواد من رأسها حتى أخمص قدميها في مكان عام بفرنسا يشكل “صدمة” بالنسبة للناظر الفرنسي. الرجل لم يبالغ بهذا القول، خاصة وأن العين الفرنسية أو الألمانية أو الأوربية عامة لم تتعود مشهداً للمرأة مثل هذا، باستثناء حالات مثل أفلام الخيال العلمي أو أفلام الرعب.
والحق، فإن البون الثقافي والاجتماعي بين العالمين الغربي والشرقي يجعل من “المشاهد الصادمة” أهم وأبدع مزايا السفر والسياحة والارتحال: فمن الطبيعي أن يكون مشهد شابة جميلة ترتدي سروال الجينز مسرعة في الشارع وبيدها سيجارة، نقول انه من الطبيعي أن يكون هذا المشهد صادماً لرجل عربي كان قد غادر قبل سويعات مطار عاصمة بلاده (حيث ينظر إلى تدخين المرأة كحال سلبية أو حتى لا أخلاقية، للأسف) لينزل إلى شوارع مدينة أوربية فيشاهد عجائب الأشياء، من نوع شاب وشابة يتبادلان القبل الساخنة بكابينة الهاتف العام في الشارع! هذه مشاهد صادمة بالنسبة للعين العربية، فما بالك بهذه العين إذا ما شاهدت عجائب وغرائب المتنزهات والنوادي العارية أو سواحل السباحة في إيطاليا وإسبانيا حيث يكون لحم البحر المتوسط مكشوفاً، ربي كما خلقتني؟
بالنسبة للعين العربية هذه مشاهد صادمة، ذلك أن مشاهداً بسيطة لا تتجاوز تقليصاً محدوداً لطول ثوب المرأة، أو فتح زائد لأزرار القميص بالنسبة للرجل، نقول تبدو لدينا مشاهد “لا أخلاقية” يمكن أن نحتج عليها بدعوى خدش “الذوق العام”.
لم تحاول المحاورة العربية الحسناء في هذه المقابلة المتلفزة أن تتفهم حجم الصدمة التي كان البرلماني الفرنسي أعلاه يحاول أن يعبّر عنها بمناسبة مشاهدة امرأة منقبة في شارع باريسي أو في مقهى على “الشانزلزيه” أو وهي ترفع الستارة المتدلية من غطاء الرأس التي تغطي الفم كي ترتشف شيئاً من العصير المقدم لها في ذلك المقهى. مثل هذا المشهد يُعد حالة كاريكتيرية في العالم الغربي.
أنا شخصياً شعرت بصدمة ثقافية قوية لحظة هبوطي بمطار مدينة “سوفا” عاصمة جزر فيجي عام 1981، حيث أن جميع الرجال يرتدون التنورات بدلاً من السراويل لباساً رسمياً (مع ربطات العنق والجاكيتات!) كان المشهد بالنسبة لي صادماً بكل معنى الكلمة.
ثمة “أبوان” ثقافية واجتماعية تمتد بين عالمين مختلفين: العالم الشرقي، العربي/المسلم من ناحية، والعالم الغربي الآري/العلماني من الناحية الثانية. هنا، بكل دقة يمكن أن ندرك لماذا كان البرلماني الفرنسي لا يبالغ عندما يقول أن مشاهدة المنقبة الصامتة بالنسبة للناظر الفرنسي الذي اعتاد النساء الفرنسيات الفارعات الطول وهن يتحدثن معه في الفكر والسياسة والفلسفة، هو مشهد صادم له، هو لا يبالغ قط، ولن يبالغ قط كذلك إذا ما شعر بذات الصدمة عندما يرى عربياً بكامل زيه الصحراوي وهو يقود ناقته في حي “مونامارتر”. هذا المشهد غير ممكن وغير متوقع في عاصمة الثقافة الغربية، باريس. هو ممكن في مهرجان ثقافي أو كرنفال عجائبي، وليس كحالة اعتيادية نريد أن نفرضها عليهم: فهل يعقل أن نطالب فرنسا بامتطاء الجمال في شوارعها باعتبارها الحالة الشائعة في صحارينا، متوقعين من المشرّع الفرنسي التخلي عن سيارات البيجو والرينو؟
لقد كان البرلماني الفرنسي يبذل قصارى جهده كي يوصل فكرة الصدمة أو المشهد الصادم للمذيعة العربية الحسناء التي حاولت جهدها (حسب أوامر الفضائية التي تريد أن تبدو وكأنها غيورة على الإسلام والمسلمين أكثر منهم في العالم العربي) أن تظهر البرلماني الفرنسي ظالماً أو مخطئاً، بالرغم من أن شكلها لم يكن يوحي بأنها مسلمة أو من مجتمع مسلم: لا حجاب ولا نقاب ولا خمار، ولا هم يحزنون.
هنا يكمن شيء من “نفاق” الإعلام العربي هذه الأيام، خاصة عندما حاولت بعض قنوات هذا الإعلام الانحياز إلى النقاب بتعامٍ لا مبرر له، بينما لم تحاول هذه القنوات ذاتها أن تدعو إلى النقاب داخل مجتمعاتنا العربية خشية الاحتكاك بمن لا تحمد عقبى الاحتكاك به! أليست هذه مفارقة نفاق من الدرجة الأولى: أن يعين الإعلام نفسه محامياً مدافعاً عن النقاب في أوربا بينما هو يقدم أجمل المذيعات المسلمات بلا نقاب ولا حجاب، بل هو لا يتجاسر على الدعوة إلى النقاب في المجتمع العربي الذي يعمل فيه.
الطريف في الحوار المتلفز أعلاه وحسب تعليمات إدارة القناة بطبيعة الحال، كان سؤال المذيعة الجميلة السافرة حول إمكانية أن يمدد الفرنسيون “الموجة المضادة للنقاب” لتشمل الحجاب الإسلامي البسيط في وقت لاحق. لقد حاول البرلماني الفرنسي الإجابة على هذا السؤال عبر جهده لإفهام المذيعة أن النقاب يختلف عن الحجاب البسيط، درجة أنه راح يوظف يديه للإيضاح باعتبار أن النقاب هو “قناع” يوضع على كامل وجه المرأة، وهو لذلك يختلف بالتمام عن الحجاب الاعتيادي الذي يمكن للعين الفرنسية تجاوز مشاهدته!
© منبر الحرية ، 13 يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

لا ريب في أن الإضطرابات والتداعيات التي تلت الإعلان عن نتائج الإنتخابات الرئاسية في جمهورية إيران الإسلامية تستقطب الإهتمام العالمي، الرسمي والإعلامي، ليس فقط بسبب الأهمية الجيوستراتيجية لإيران في منطقة تعد الأخطر والأكثر أهمية وإستعداداً للإلتهاب، ولكن كذلك بسبب تواصل طهران في في مشروعها النووي على نحو يوحي بالتحدي لإرادات الغرب بقيادة واشنطن، وبالرعب لإسرائيل التي تستشف بعداً عسكرياً من وراء المشروع النووي الإيراني المتواصل. ولكن إضافة إلى هذه الإعتبارات جميعاً، لم تبدو على الأوضاع الداخلية أية إشارات تنذر بعدم الإستقرار وبالفوضى اللامحدودة منذ إستتباب الوضع العام هناك بأيدي ثيوقراطية راسخة ومتنفذة. إلاّ أن المهم في سياق ما جرى من إضطرابات غليان في شوارع طهران عبر الأيام الأخيرة لا يمكن، برأيي، أن يسّوق على أنه “ثورة ثانية” أو “خضراء”، كما تحاول بعض وسائل الإعلام تصوير الأمر وتسويقه بطريقة تخدم أهدافاً سياسية،  باعتبار “إيران العصية على شروط الإذعان”.
أما الحديث عن ثورة جديدة، تذكيراً بالثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني، فإنه ضرب من ضروب الآمال المتمادية بالتفاؤل التي قد تقود الغرب إلى مفاجآت جديدة ومزعجة بقدر تعلق الأمر بالسياسات الإيرانية وبتمسك طهران بمشروعها النووي. لفظ ثورة revolution، بالمناسبة، يمكن أن يعني “دورة” (بالنسبة للعجلة في الفيزياء الآلية)، لذا يكون إفتراض وجود ثورة إنما هو إفتراض مبتنى على حدوث دورة، بحسب المنظور التاريخي الواسع: بعد ثلاثين سنة من تفجر الثورة الإسلامية. وهنا تكتمل فكرة الدورة الزمنية حيث تبرز الحاجة للتغيير أو للإنقلاب على الثابت الهامد على نحو 360 درجة، إذا ما إستخدمنا المصطلح الفيزيائي. إن هذا النوع من التفكير الذي هو في جوهره نمط من أنماط التمني المضاد للمشروع النووي الإيراني إذ أنه يراهن على ثمة تغيير جذري يجري داخل إيران، وهو تغيير سيكفي الآخرين شر القتال والإحتكاك، هذا التفكير يؤسس نفسه أو آلياته على ما شاع في الصحافة العالمية والعربية، حول الشأن الإيراني، عن ثمة تنافر بين الإصلاحيين reformists والمحافظين conservatives.
هذا التنافر المفترض صحيح ومقبول؛ ولكن بحدود، إذ يمكن للمرء أن يختزل الصراع داخل إيران اليوم بوصفه صراعاً بين فئتين: فئة الشبيبة المتطلعة للمستقبل وللتحرر على أنواعه، وهي فئة ذات طاقات مهولة، وبين فئة “العلما” Ulma، باستخدام المصطلح الإنكليزي، حيث انقلبت الموازين والقيم بين عام 1979 والعام الجاري: عام 1979 كان هناك ثمة إئتلاف أو تحالف بين الشبيبة والعلماء، وكان ذاك تحالفاً قوياً بسبب إحتماله لحيوية وعنفوان الشباب، سوية مع توازن ومنطق ورشد العلماء. لاحظ أن العلماء، سنة 1979، كانوا يمثلون قوة تقدم بوصفهم الرأس الصاعد لفكرة التغيير من خلال إنهاء إمبراطورية أسرة “آريامهر” ممثلة بتاج محمد رضا بهلوي.
لقد كمنت جذور الثورة الإسلامية آنذاك في فكرة مقاومة رمي الشاه نفسه ودولته بأحضان العالم الغربي تحت شعار وفلسفة التغريب Westernization، على نحو يذكرنا بسياسة كمال أتاتورك الذي وضع تركيا على أعتاب التغريب ومن ثم الإغتراب، باعتبار ان التغريب إنما هو مرادف للتحديث! كان العلماء آنذاك يمثلون قوة ثورية أو قائدة للثورة، وكان الشباب يمثلون مادة الثورة الأساس ووقودها الذي قدم نفسه ضحية لسطوة نظام بوليسي كان يعد نفسه “شرطي الخليج” آنذاك، باعتباره يمتلك “رابع” أقوى جيش في العالم. كانت الثورة عام 79 مبتناة على فكرة مقاومة تغريب إيران الإسلامية، لذا فانها وجدت نفسها في أحضان العلماء في نهاية المطاف، وحتى اللحظة.
إن ما يجري اليوم من إضطرابات الآن يقدم نوعاً من أنماط التكرار التاريخي، إذ يقدم الشباب (بمشاركة نسوية واضحة المعالم) مادةً ووقوداً لنوع جديد من التغيير، الذي يرنو إلى التفتح على العالم الخارجي، الغربي خاصة، عبر التفاعل والتناقل والتلاقح، الأمر الذي تحاول الإدارات الغربية تشجيعه وتغذيته إعلامياً واعتبارياً من خلال التركيز على الأدوات التي وفرها الغرب للشبيبة الإيرانية من أجل إختراق النظام الثيوقراطي وأدواته البوليسية (من هذه الأدوات: الإنترنيت والهواتف النقالة والرسائل القصيرة من بين أدوات أخرى). العالم الغربي، ومعه إسرائيل، يريدان تعميق الشرخ أو الطلاق بين الشباب والعلماء، أي بين تيار “الإصلاح” وتيار “المحافظة”، على عكس ما جرى عام 79 حيث كان التحالف بين الشبيبة والعلماء هو محور الثورة الإسلامية وورقتها الرابحة: وهي الثورة المضادة للتغريب. اليوم يحدث شيء معاكس، إذ يبدو أن الثورة الإسلامية قد حقنت الشعب الإيراني بجرعة زائدة من “المحافظة” (لمقاومة التغريب) د رجة إنقلاب الدواء إلى داء، حيث راح الشباب يطالبون بالتغريب والتحديث ومد الجسور الثقافية والإقتصادية مع العالم الخارجي بطريقة أو أخرى.
لذا فان ما جرى في شوارع طهران خلال الأيام القليلة الماضية إنما يمثل ردة فعل لجرعة المحافظة التي قدمتها الثورة الإسلامية بطريقة بدت وكأنها قطعت الجمهورية الإسلامية عن محيطها الكوني وكذلك عن محيطها الإقليمي.
ان الشعب الإيراني هو واحد من الشعوب الحيوية والقادرة على الإبداع، باعتبار تراثه العريق وحضاراته القديمة، لذا فانه شعب قادر على اختيار الطريق الصحيحة التي تقوده لأن يكون عنصراً فعالاً وبنّاءً في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي الذي هو الآن بأمس الحاجة للإستقرار وللعلاقات الندّية والسلمية الواعدة حيث إمكانية إحالة هذا الخليج من منطقة قابلة للإلتهاب إلى منطقة ترفل بالسلام والتعاون والأمن والإستقرار.
© منبر الحرية، 30 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

لا ريب في ان واحدة من أهم مزايا دراسة التاريخ، التاريخ الكوني خاصة، تتمثل في إيجاد أنماط تكرار patterns of recurrence تعود للظهور من حقبة لأخرى أمام المجتمعات، فتكون ملاحظة هذه الأنماط من سمات الحكماء الذين يلاحظونها في سياق محاولتهم لتتبع هذه الأنماط أو المتوازيات التاريخية parallelisms كي يستثمروا خبرات المجتمعات والحقب الأخرى على سبيل خدمة مجتمعاتهم وحقبهم. هذه الحال تنطبق، بدقة مثيرة على ملاحظة وجود أنماط تكرار أو حالات توازي بين ما يجري اليوم في المجتمعات التقليدية عبر الشرق الأوسط، من ناحية، وبين المجتمع البريطاني في عصر الثورة الصناعية (القرن التاسع عشر)، إذ تعيش مجتمعاتنا حالة إنتقال تاريخي، هي في جوهرها، حالة إنتقال من أنماط علاقات وبنى القرون الوسطى إلى أنماط العلاقات الجديدة التي أفرزها العصر الحديث، خاصة بعد الإحتكاك والتلاقح الثقافي مع العالم الغربي.
وبقدر تعلق الأمر بالحركة الديمقراطية وتوسيع دوائر الإنتخابات في المجتمعات الشرقية، فإن للمرء أن يرتد إلى عصر الثورة الصناعية أعلاه لإستخراج ما يفيد من دروس، ولتجنب ما يضر من حالات سلبية، خاصة وأن التاريخ هو في جوهره “رسالة تعليمية” A Letter of Instruction.
وللمرء أن يستذكر، في سياق مثل هذا، أن عصر الثورة الصناعية في بريطانيا لم يكن ليحدث لولا عدد من الأعمدة الفكرية الفلسفية التي أرستها أعظم العقول الذكية آنذاك لتمهيد الطريق أمام الحريات والليبرالية، ومنها حركة الإقتصاد الحر laissez-faire ونظرية تقسيم العمل Division of Labor اللتان مهدتا الطريق لإنتقال الفكر الحر من الإقتصاد ومن حدود العرض والطلب (بمنأى عن تدخل الحكومة) إلى الحياة الإجتماعية والسياسية، إذ توّج فيلسوف القرن التاسع عشر “جو ستيوارت مل”  Mill هذه الحركة الليبرالية بكتابه الكلاسيكي الفذ، On Liberty، (في الحرية) الذي خدم كأداة لتفجير طاقات المجمتع من خلال زج قدرات الفقراء والطبقات الوسطى في عملية التغيير الإجتماعي والإقتصادي، تلك العملية التي كانت حكراً على الارستقراطية the aristocracy التي راح دورها يتلاشى بعد فقدان بريقها الذي كانت تتمتع به عبر القرون الوسطى أو العصر المظلم، خاصة وأن تحالفها مع الكنيسة، من ناحية، ومع التاج، من الناحية الثانية، كان هو الأساس الذي بنيت عليه حالة الإستكانة والركود الإجتماعي التي تواصلت عبر أوربا حتى حدوث ثورتين عظيمتين، هما: (1) الثورة الفرنسية، (2) الثورة الصناعية (بريطانيا).
لقد بدا مل، مؤلف كتاب (في الحرية) رسولاً مبشراً بالعصر الجديد إذ أنه قد بشّر  بأخلاقيات وبنى إجتماعية جديدة، الأمر الذي فتح الطريق أمام الطبقات الفقيرة والوسطى للتمتع بحريات إجتماعية وسياسية، قد لا ترقى إلى ما كانت تتمتع به الارستقراطية، ولكنها كانت حريات أسهمت في تفجير طاقات أوسع الفئات الإجتماعية نحو بناء أول مجتمع صناعي في تاريخ العالم.
لقد كان جون ستيوارت مل، فعلاً، أشبه بـ”المعلم” الأول الذي هيأ الأطر الإجتماعية والسياسية الواسعة لإستيعاب حركة المجتمع البريطاني حقبة ذاك نحو الديمقراطية، بعد تفكيك الأطر الوسيطة medieval التي تواصلت منذ القرون الوسطى حتى ظهور الماكنة التي بشرت ببداية عصر الصناعة.
إن أهم الإعتراضات التي قدمتها القوى الرجوعية لمقاومة المد الليبرالي الذي بشر به رجال من أمثال مل آنذاك، كانت تتجسد في الإعتراض بأن الحرية الزائدة أو غير المقيدة يمكن أن تتسبب بالفوضى وبالكثير من السلبيات، الأمر الذي يفسر ظهور واحد من أعظم كتابات العصر، على سبيل مقاومة التحرر الزائد الذي بشر به “مل”. كان هذا هو كتاب “ماثيو آرنولد” Matthew Arnold الموسوم بـ(الثقافة والفوضى) Culture and Anarchy   الذي حمل العديد من الآراء والأفكار التي تستعملها الفئات الرجوعية المقاومة للتغيير وللحريات وللديمقراطية في الشرق الأوسط اليوم لمقاومة تقدم الحريات ولإرجاع مجتمعاتنا نحو عصور الظلام نصف الإقطاعية ونصف الخرافية المسكونة بالغيبيات التي أبقتها حبيسة في ظلمة الماضي الطللي، غير قادرة على قطع نصف المسافة الفاصلة بينها وبين الرغبة في مواكبة العصر الحديث، إذ تجد بعض هذه المجتمعات نفسها غير قادرة على إيجاد موطئ  قدم لها في عصر جديد وأجواء جديدة لم تخبرها من ذي قبل.
©معهد كيتو، منبر الحرية، 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20102

ليس هناك ثمة شك في أن بغداد قد بنيت لتكون مدينة، بل وعاصمة، بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما أرادها الخليفة المنصور العباسي، وتنطبق ذات الحال على القاهرة كما أرادها الخلفاء الفاطميون. بغداد مدينة والقاهرة مدينة، ولكن الكوفة والبصرة (الإبلة في الأصل) لم تكن مدناً بالمعنى الحقيقي للكلمة ذلك أن عدداً كبيراً من المدن العربية العريقة بنيت كمعسكرات. هذه الحال تنطبق على الكوفة والبصرة، بكل تأكيد، وهي تنطبق كذلك على سامراء (سُرّ من رأى)، إذ يتحول المعسكر إلى نواة للمدينة كي تتضخم وتتوسع حتى تدخل إليها الأسواق والحواري والأحياء، ثم ليتبع ذلك موجات الهجرات من الريف إلى المدينة كي تختلط الدماء كما تختلط الثقافات والعادات والتقاليد. من هنا يتوجب علينا أن نناقش موضوعاً مهماً سبق وأن طرح من قبل أذكى العقول العربية المعاصرة، وهو موضوع مفتوح للجميع ممن يودون المساهمة في أنشطة تبادل الرأي حوله، الموضوع، باختصار هو: لماذا لا نملك في العالم العربي مدناً أو حواضراً بالمعنى الدقيق للفظين، أي مدناً مثل لندن أو نيويورك حيث يشعر المرء أنه في ظل حضارة مدنية بالمعنى الصحيح؟ ثمة شعور بالانغمار في أجواء المدينة يعتريك وأنت تتمشى بين أنواع مختلفة من المارة في شوارع مونامارتر أو في سوهو: هل تكتسب المدينة صفتها “المدينية” من سكانها، أم مما يحملوه في دواخلهم من أخلاقيات وقيم إجتماعية؟ وهل هذا قد تحقق في أية مدينة عربية سابقاً كي ندّعي بأن لنا مدناً يمكن أن تقارن بالمدن الأوربية أو الأميركية؟ بلى، حاولت بيروت ما قبل 1973 أن تبلور صورة لمدينة عربية، شرق أوسطية يمكن أن تقارن شوارعها (الحمرا خاصة) بشوارع ومقاهي مدن أوربية جميلة.
هذا سؤال يستدعي الكثير من المناقشات والجدل الذي يمكن أن يقودنا، من منظور أول، إلى نظرية الفيلسوف الاجتماعي العراقي، علي الوردي، الذي لاحظ “ازدواجية الشخصية العراقية”، بمعنى الشرخ المؤلم الذي تعانيه وتئن تحت وطأته بين الانتماء للمدينة من ناحية، وبين الولاء لقيم البداوة من الناحية الثانية. أهمية هذه النظرية الوردية، برأيي، لا تنطلق من رصد الشخصية المدينية العراقية فقط، إذ أن الازدواج لا يتحدد بابن بغداد أو الموصل فقط، لأنه ينطبق كذلك على أبناء دمشق وعمّان والقاهرة وبيروت من بين سواها من المدن العربية التي لم تفلح الحياة في دواخلها من تنقية الإنسان المديني العربي من قيم البداوة المختفية في أعماق أعماقها. إن الأدلة على ما نذهب إليه اليوم من توسيع وتعميم لنظرية الوردي على جميع دول الشرق الأوسط تأخذ مدياتها كاملة في حنو الإنسان المديني في أغلب المدن العربية لأخلاقيات الصحراء، وتسييده لها بدلاً من تسييد قيم الحاضرة والمدينة. هذه القيم الصحراوية الجرداء تتجسد، ليس فقط في الاعتزاز والتباهي الذي يعكسه الإنسان المديني العربي بانتسابه للصحراء، بل كذلك في الاهتمام الذي يخص به سكان المدن العربية الألقاب العشائرية والقبلية، وهي من بقايا سيادة روح القبيلة في البادية وعصبياتها، الأمر الذي يدل، كما أرى، أن البادية هي التي تحكم المدينة في العالم العربي، ولذا كانت قيم الثأر والانتقام وغسل العار والاستخدام القسري المهين للمرأة كـ”ديّة” أو كأداة لتصفية النزاعات القبلية ولتسوية الخلافات العشائرية والعائلية!
لاحظ، في هذا السياق، دموية طرائق تسوية الحسابات في المدن العربية، ولاحظ كذلك رفع الكلفة مع القانون وأدوات تنفيذه كالشرطة والجيش والدرك. الإنسان المديني العربي يفضل تصفية حساباته بنفسه لأنه لم يزل يشعر بحماية الجار وابن العم، وهي الأهم من حماية القانون والجيش والشرطة بالنسبة له، ولا داعي للرجوع إلى عدد كبير من الأحداث الدموية التي عصفت بمدن عربية بسبب تفضيل الإنسان العربي، بغض النظر عن دينه أو ولائه المذهبي، وأدواته الخاصة لتصفية الحسابات. هذه عدالة البادية المستوحاة من خلو البادية من السلطة المركزية.
إذا كانت هذه هي الآفاق الواسعة التي قد يقودنا إليها عقل الوردي الذكي (لاحظ تعدد الدهاليز والمنعطفات الفكرية التي يمكن أن تظهر لنا)، فإن علينا أن نرد معضلة هيمنة القرية أو سيادتها على المدينة العربية إلى أصل آخر، وهو: أن الغالبية العظمى من المدن العربية إنما كانت قرى لم تلبث وأن تضخمت على حساب جوارها الريفي لتضم الريفيين وقيمهم إلى دواخلها، كي تخرج من ناحية ثانية “قرية متوسعة”، قرية  يفضل سكانها تربية الخيول والأبقار والنعاج على التعامل مع السيارة ووسائل النقل العام، من الطائرة إلى القاطرة والترمواي، بينما يستبدلون الديوانيات بالمقاهي وألعابها.
أعتقد أن علينا جميعاً ونحن نقود سياراتنا في شوارع مدن زاهرة كمسقط أو دبي أو الرياض، أقول علينا أن نعيد تقييم الذات، ليس فقط في قوة وسيادة قيم القرية وأنماطها السلوكية (وهي قيم وأنماط طالما تبخترنا بالمحافظة عليها تحت عناوين من نوع “نظرية التراث”!). هي أنماط سلوكية يمكن أن يحسدنا عليها أهل البادية بسبب تفوقها على أنماط السلوك البدوي في القفار حيث الأرض اليباب التي لا تتيح لساكنها شيئاً قط سوى الإستذكارات والتأمل والشعر المتناغم مع ذبذبة حركة الجمل.
هذه أسئلة تقودنا كذلك إلى سؤال أكثر أهمية، وهو: هل المدينة العربية تحكم نفسها بنفسها، أم أن القرية أو البادية هي التي تحكمها؟ هل أن الأنظمة السائدة في هذه المدن يقودها “مدنيون” بالمعنى الصحيح للكلمة، من نواحي القيم المستنيرة في دواخلهم ومن نواحي آفاقهم الفكرية والثقافية؟، أم أن اغلب هؤلاء يحتفظون بقيم لا مدنية؟، بل قروية غير قادرة على تحمل التوسع المدني أو المديني الذي يطرأ على العقليات قبل أن يتجسد في بناء  الجامعات الكبيرة والأبراج العالية، من بين سواها من مشتملات المدن الغربية، كالمراقص والنوادي الليلية وكظواهر الإختلاط في جميع نواحي الحياة. هي أسئلة تستحق التأمل والإرتدادات الفكرية الذكية.
‎© منبر الحرية،11 غشت/آب 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20101

تفرز أسئلة وقضايا “الجامعة والمجتمع” في البلدان العربية العديد من الموضوعات الساخنة المثيرة للجدل؛ وهي من النوع الذي ما فتيء يعيي ويشغل تفكير وتأملات الأكاديميين العرب. بيد أن واحداً من أكثر هذه القضايا إثارة للشجون ومدعاة للإهتمام يتشكل من شائكية علاقات الجامعات العربية بالجامعات الأجنبية، الغربية على نحو خاص. واحدة من الملاحظات التي تستحق الرصد والعناية في هذا السياق هي الشعور الوسواسي بـ”دونية” مؤسساتنا الأكاديمية مقارنة بمثيلاتها في الدول الأخرى، الأمر الذي يبرر ما يلاحظ من ظواهر التقييم العالي، والمبالغ به أحياناً، للأساتذة الأجانب ولخريجي الجامعات الأجنبية من الأساتذة المحليين مقارنة بخريجي جامعاتنا. بيد أن الطريف هنا هو أن أغلب القيادات الجامعية المحلية غالباً ما تتحدث عن المستوى العلمي اللائق لجامعاتنا درجة المطالبة بمعادلة الشهادات والمساواة بين الخريجين القادمين من الخارج وهؤلاء المتخرجين من الداخل. ولكن عندما يكون المسؤول الجامعي المعني “على المحك”، فإنه غالباً ما يعمد إلى التفاخر لأنه خريج هذه الدولة الأجنبية أو تلك، متخلياً عن إدعاءاته أن الجامعتين، المحلية والأجنبية، سيان في المستوى العلمي. والدليل على وطأة “عقدة” الأجنبي قد تمثلت مراراً في حالات إعتذار الجامعات العربية عن قبول أساتذة عرب على درجة رفيعة من اللياقة والتدريب الأكاديمي الرفيع للعمل فيها في الوقت الذي يقبل فيه الأساتذة الأجانب كأختيار أفضل على نحو متعام، تجسيداً لـ”عقدة الخواجة”.
لاشك في أن لهذه الظواهر ما يبررها من الأسباب، ذلك أن الجامعات الأجنبية (من نواحي الإنجاز والتاريخ الأكاديمي) متطورة للغاية مقارنة بجامعاتنا العربية التي تعد فتية نسبياً، لا تزيد أعمار أقدمها عن قرن واحد من الزمان في أفضل الأحوال، إذا ما إستثنينا مفهوم “المدرسة” التقليدي الموروث من العصر العباسي وما تلاه. بيد أن هذه الحال لا تعفينا من المعضلات التي إنبعثت من تعقيد العلاقة بين مؤسساتنا الأكاديمية ومكافئاتها في الدول الأخرى، خاصة بعد أن صار هذا الموضوع مثيراً للجدل الساخن بسبب الحساسيات من كل ما هو أجنبي، الأمر الذي أحال هذه القضية إلى نوعين من الإستجابة، هما: (1) الإستجابة الإنغماسية؛ (2) الإستجابة الإنكماشية. في الحالة الأولى، يدعو خريجو الجامعات الأجنبية إلى “الإستنساخ” أو المحاكاة المتعامية التي تقود مؤسساتنا الجامعية لأن تكون نسخاً مكررة للمؤسسات الأكاديمية الأجنبية. وبهذا تظهر لنا الجامعة في البلدان العربية وكأنها عضو غريب مستزرع أو منقول إلى أرض عربية لا تمت إليه بصلة، فهو يخشاها ويرفضها ويقاومها. أما في الحالة الثانية، يدعو بعض المنظرين الأكاديميين، المنغمسين حد الرأس بالمحلية وبالتراثيات، إلى “نسخ” التجارب الأجنبية والإمتناع عن محاكاتها بوصفها تجارب غريبة لا يمكن أن تناسب المجتمعات والتقاليد المحلية. وهكذا كان الإرتطام بين الرأيين والرؤيتين، متبلوراً في عدد من المحكات والمحطات التي أعيت الحياة الجامعية في العالم العربي عبر عقود طوال من الزمان وتركت آثارها حتى اللحظة.
واحدة من هذه المحكات المنطوية على التنافر بين رؤيتي النسخ والإستنساخ تتجسد في حركة “تعريب المناهج” الجامعية التي، كما يبدو على السطح، كانت من أهم المهمات الملقاة على عاتق المؤسسات الأكاديمية العربية بعد تحقيق الإستقلال السياسي. ففي الوقت الذي إندفع فيه العديد من القياديين الجامعيين والمنظرين العرب إلى تطبيق التعريب (إعتزازاً باللغة وبالتقاليد القومية)، ذهب البعض الآخر من خريجي الجامعات الغربية إلى ضرورة الإبقاء على اللغات الأوربية (الإنكليزية في المشرق العربي، والفرنسية في المغرب العربي) كوسيلة للتدريس وللدراسة وللبحث العلمي في جامعاتنا. وكانت النتيجة فوضوية بدرجة مقلقة: في الحالة الأولى، أدارت مجامع اللغة العربية والمؤسسات الترجمية في العواصم العربية عجلاتها بكل طاقاتها لتعريب المناهج والكتب الدراسية من الفيزياء إلى الطب، الأمر الذي إنتهى إلى ظهور العديد من هذه الكتب على نحو فوضوي مشوه وغير موحد بين الجامعات العربية نظراً لسيادة التشبث الفردي ولغياب لجنة مركزية لتوحيد المصطلح العلمي والفني وللإتفاق على تعريب وصياغات تشمل جميع الكليات والأقسام. زد على ذلك بروز مشكلة اللغات الأجنبية بين الطلبة العرب الذين يعانون أصلاً من صعوبات تعلمها منذ نعومة أظفارهم. وقد أدت هذه الحال إلى صعوبة إبتعاث خريجي بعض الجامعات العربية للدراسة في الجامعات الأجنبية بسبب المعوقات اللغوية والتمايزات الثقافية، علاوة على تعقيدات الإتصال بالمؤسسات الأكاديمية الأجنبية وصعوبات مواكبة الجديد في حقول العلم والثقافة، البحث والإستقصاء.
ولكن من ناحية ثانية، بقيت بعض المؤسسات الأكاديمية في العالم العربي متمسكة باللغة الأجنبية في الكتب المنهجية وفي الحاضرات وكتابة الأطروحات والبحوث العلمية، الأمر الذي أدى إلى نوع من التباعد بين الحقول العلمية الأكاديمية وبين الحقول الحياتية والإجتماعية التطبيقية. لقد كان حاجز اللغة من أهم العوائق التي شابت تقوية العلاقة بين المجتمع والجامعة. وهكذا سقط العديد من هؤلاء الأكاديميين في مأزق الإغتراب، حيث صارت الكلية أو القسم الدراسي “قلعة” محصنة منفصلة عمن يبحث عن فوائدها وجدواها ومردوداتها الإجتماعية العامة.
وإذا كان موضوع “التعريب” نموذجاً يستحق الرصد والمعاينة، فإن هناك أمثلة كثيرة تعكس تعقيد العلاقات بين مؤسساتنا الأكاديمية وبين مكافئاتها الأجنبية. بيد أن هذا لاينبغي أن يعمي المرء عن حقائق كونية المعرفة universality التي إشتقت لفظة “الجامعة” university منها، الأمر الذي يفرض علينا الإتصال والتواصل مع الآخر للإفادة من المؤسسات الجامعية الأجنبية لإغراض تبادل المعارف والتجارب والتراكم المعرفي والبحثي. إن المؤسسات الأكاديمية العربية بحاجة إلى تأسيس “شراكات” مع الجامعات الأجنبية لبلوغ المستويات العلمية الدولية وللحصول على الإعتراف العالمي بالشهادات الممنوحة لخريجي الجامعات المحلية. هذا ما لا يمكن أن يتحقق من غير مد جسور التعاون مع الجامعات الأجنبية ومع المنظمات الأجنبية المختصة في هذه الحقول من أجل تكريس دور الجامعة في تطوير الموارد البشرية والكوادر الإختصاصية والعالية المهارة. لذا ينبغي لإستراتيجيات التعليم العالي العربية التفتح على الإبتعاثات العلمية من ناحية، وعلى إستقبال الأساتذة الرفيعي المستوى لإلقاء المحاضرات وإجراء التطبيقات أمام الطلبة المحليين، علاوة على الإهتمام بـ”ورشات التدريب” للأكاديميين وللإداريين الجامعيين المحليين في الجامعات الأجنبية. إن تبادل الزيارات بين الأساتذة وإرسال مجاميع من الطلاب المتفوقين في دورات قصيرة أو متوسطة المدى ستصب في هدف الإتساق والتناغم بين ما يجري “هنا” وما يجري “هناك” . ومن أجل تعظيم الفوائد من تجارب الجامعات الأخرى، تظهر أهمية إستقبال معارض الكتب والمطبوعات والمجلات العلمية التي تصدرها دور النشر الجامعية العالمية كي تفتتح في كلياتنا وأقسامنا العلمية. وبضمن هذه الأنشطة تظهر أهمية إتفاقيات التعاون العلمي والأكاديمي بين الجامعات المحلية والجامعات الأجنبية، حيث إن مثل هذه الإتفاقيات تقوي التبادل المعرفي والتفاعل الأكاديمي عن طريق تبادل الزيارات العلمية وقيام أساتذة أجانب بالإشراف على باحثي الدراسات العليا المحليين، والعكس صحيح. وأخيراً، تبرز الآن ظاهرة “التوأمة” بين بعض الجامعات العربية وبين جامعات أجنبية كبرى، إذ تؤول هذه العملية المهمة إلى تحقيق وبلوغ شيء من التوازي في المستويات العلمية ومخرجات الأداء والكفاءة.
ولكي لا تثير مثل هذه الأفكار حفيظة المحافظين، فإنه من المفيد تجنب فتح “فروع” لجامعات أجنبية في بلداننا، بيد أن هذا لا يعني منع تأسيس جامعات محلية/أجنبية، جامعات تحاول الإفادة من معطيات التقدم الذي أحرزته الأكاديميات الأجنبية دون التضحية بسجايا الثقافة المحلية والهوية الوطنية، من الدين إلى اللغة.
© منبر الحرية، 23 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لايحتاج المرء للإطلاع على التقارير الدولية أو الإقليمية حول موضوع التنمية البشرية في أغلب بلداننا العربية ليخرج بخلاصة تؤشر “التصحر” الذي تعاني منه الطاقات البشرية. وتتبلور هذه الظاهرة الخطيرة على نحو مؤلم في النزعة الإستهلاكية والميل إلى المنتجات المستوردة الجاهزة وفي العزوف عن الإبداع والعمل المثابر. كل هذا أدى إلى تدنّي روح المبادرة وغياب لذة العمل، إن لم نقل بهجة الكدح، التي تمنح الحياة طعماً ومعنى. بيد أن زحف التصحر البشري آخذ بالإمتداد بسرعة مذهلة، وهو في طريقه إلى ملامسة وإبتلاع أكثر المناطق الخضراء في النفس البشرية حيث تمتد كثبان الجهل والترهل والأمية المقنعة إلى أكثر قطاعات الحياة حيوية، كما سنلاحظ ذلك لاحقاً.
لا تتطلب عملية تشخيص هذه الظاهرة المقلقة التي تؤدي إلى هدر الموارد البشرية وتبديد الطاقات الشابة سوى القليل من القدرة على الملاحظة: ملاحظة الميل الواضح لدى الشبيبة والنشء إلى الخمول والكسل والبحث عن الوظائف (وليس المهن) التي تشكل واحدة من أخطر مظاهر التراجع الإقتصادي، وهي الوظائف الشكلية التي يراد منها الحصول على موارد وأجور دون تقديم شيئاً يذكر. هذه هي البطالة المقنّعة التي تعاني منها الدول الميسورة إقتصادياً التي تلتزم حكوماتها بصيانة حياة المواطن وضمان أمنه الإقتصادي من خلال خطط التشغيل، بأية طريقة وبأي ثمن. بيد أن الظاهرة المؤسفة تأخذ مدياتها الأوسع عبر عزوف الشبيبة عن الأعمال التي تكسب المهارات والخبرات. وإذا كانت الوفورات المالية قد أهلت عدداً من المجتمعات العربية إلى إستيراد كل شيء حرفياً، فإن الموضوع يأخذ مدياته الإستراتيجية والإقتصادية البعيدة عندما يستذكر حقيقة أن الموارد النفطية، مثلاً، إنما هي موارد ناضبة، وإن أهم الخطوات التي ينبغي للحكومات في المنطقة الإضطلاع بها تتمثل في إستثمار هذه الموارد للتأسيس لموارد أخرى تخدم قواعداً لإقتصاد صلب مضمون للمستقبل. هذا ما تعمل على تحقيقه العديد من الحكومات العربية، بيد أنها تعاني من صعوبة صد طوفان النزعة الإستهلاكية التي جردتنا حتى من أبسط الصناعات والحرف التي أتقنتها الأجيال السابقة لعصر النفط والبترودولار. بل أن الظاهرة راحت تتفاقم لتلقي بآثارها حتى على القطاعات الزراعية والرعوية، حيث يغادر الأبناء حرف آبائهم وأجدادهم كي “يسعدوا” ببيوقراطية الجلوس خلف منضدة في مكتب أنيق لإحدى دوائر الدولة أو شركات للقطاع الخاص. لقد أدت “حمى” البيوقراطية إلى مظاهر مؤسفة كالخجل من الأعمال اليدوية والعزوف عن الإنتاج الملموس المثابر، الأمر الذي أدى إلى ظواهر أكثر خطورة مما قد نتصور: منها إستيراد الأيادي العاملة من البلدان الفقيرة كي تخدمنا مقابل أجور ثقيلة مأخوذة من الموارد الطبيعية التي كان ينبغي أن تخصص لإستثمارات ذات جدوى مستقبلية.
عندما يدير المرء جهاز التلفاز على العديد من الفضائيات العربية، فإنه لا يمكن أن يفلت من ملاحظة تلك الأعداد المهولة من الشبان والشابات الذين يتشبثون بفنون الترفيه كالغناء والرقص والعروض الرخيصة التي لا تحتاج إلى مهارات أو إلى ثقافة مهما كانت. هذه “الجيوش” من المتطلعين للشهرة وللكسب السريع تعبر عن مأزق وتعقيدات نكوص التنمية البشرية في أغلب الأقطار العربية، حيث يعتمد هؤلاء على أشكالهم الخارجية أو على ما حفظوه من أغانٍ وحركات كي يتمكنوا من حصد الأموال بلا مؤهلات علمية أو حرفية تستحق الذكر. لاريب في أن هذه الظاهرة، كما هي عليه حال ظاهرة التشبث بالمنضدة البيروقراطية، تضع أصابع الإتهام على الأنظمة التربوية، المدرسية والجامعية الأولية، حيث أصبحت الدراسة في المدارس والكليات شيئاً من “الوجاهة” الإجتماعية، بغض النظر عن المهارات والمعارف المكتسبة. وتتجلى الحال على نحو أكثر مرارة لدى حملة الشهادات العليا الذين تكفي مقابلة واحدة مع بعضهم لإماطة اللثام عن أن ما يحملون من شهادات علمية لايزيد عن “ديكور” شخصي.
ربما يسأل المسؤولون في الوزارات ودوائر التخطيط المختصة في العديد من الحكومات في المنطقة: إذاً، إلى أين تذهب الأموال الأسطورية المخصصة لخطط التنمية البشرية في حقول التعليم العالي والمدارس المهنية ؟ لا ريب بأن على هؤلاء السادة المحترمين أن يضعوا أيديهم على الخلل، بدليل أننا نستورد كل شيء: من الخادمات والمربيات الأجنبيات اللائي نضع أطفالنا “أمانة” بين أيديهن، إلى المهندسين والبناة الماهرين الذين يقيمون لنا الجسور ويشقون لنا الشوارع كي نتسلى بقيادة سياراتنا المستوردة عبرها! ولكن مالذي تفعله المدارس والكليات التي تُفتح بالعشرات في أغلب البلدان العربية ؟ إنه سؤال مضنٍ يستوجب المراجعة والتحقيق بعد إجراء حسابات مالية وزمنية بسيطة حول تاريخ التعليم والتعليم العالي في البلدان العربية: هذا التاريخ الذي صار طويلاً منذ أن تحقق الإستقلال السياسي لأغلب الدول العربية كان يكفي ضمانة لأن نوفر جميع الحرف والمهارات بداخل بلداننا دون الحاجة لإستيرادها أو للإستعانة بها من الغير. بيد أن المؤسف هو أننا نرسل مرضانا إلى لندن أو نيويورك لإجراء العمليات الجراحية، بالرغم من أن كليات الطب في بلداننا لها تراث طويل من العمل وأجيال من المتخرجين، وبالرغم من أن حكوماتنا لم تبخل بإبتعاث الآلاف من الأطباء للتخصص في الجامعات الغربية. هذا كله تم إنجازه ولكن مريضنا لا يثق بالجراح المحلي لأنه يفضل أن تجري عمليته في إحدى مستشفيات لندن، والأدهى هو أن الذي يجري هذه العملية هناك يمكن أن يكون جراحاً هندياً أو عربياً مهاجراً ! هذه مفارقة تستحق الملاحظة لأنها تجسد البون الكبير بين جدوى إستثماراتنا على الصعيد التعليمي والجامعي التخصصي وبين جدوى إستثمارات الدول الأدنى مستوى معيشي: الفرق يتلخص في أن جيوبنا ممتلئة بالمال، بينما تعتمد جيوبهم على العمل والمثابرة والإبداع كي يصيبها شيئاً منه.
ويجسد الوضع الإقتصادي في العراق، على سبيل المثال، هذا النكوص المؤلم: فبعد عقود من “الضوضاء” حول بناء قاعدة صناعية رصينة ومشاريع مهولة للتصنيع العسكري والمدني (أدت إلى الحروب الدموية المعروفة) نجد أنفسنا اليوم نستورد كل شيء حرفياً: من علب الكبريت والملابس البسيطة والمشروبات الغازية إلى الأجهزة الكهربائية والمكائن الصناعية. إذاً، أين ذهبت الأموال الأسطورية التي أُقتُطعت من رغيف المواطن فخصصت لخطط “التنمية الإنفجارية” عبر أكثر من خمسة عقود كلفتنا الكثير الكثير من الرفاه والتقدم. لدينا الآن عشرات الجامعات ومئات الكليات، بينما كنا نتحدث عن الصواريخ البعيدة المدى وعن تصنيع الدبابات والمدافع والسيارات وعن إطلاق أول قمر صناعي عراقي، أما الآن فنحن نستورد حتى الإبرة والمسمار. هذا النموذج ينبغي أن يُستحضر كي يلاحظ المسؤولون والمواطنون في جميع دول المنطقة كيف يمكن لخطط التنمية أن تغدو “حبراً على ورق” لأنها تفتقر إلى الجدية وإلى الرقابة الدقيقة والتقييس العملي.
لا ريب في أن الدول المتقدمة صناعياً تعمل على تكريس هذا التيار الإستهلاكي اللامجدي الذي راح يستهلك الإنسان قبل الإقتصاد في العديد من دول المنطقة: فالغرب لا يمانع من قبول المئات من طلبة البعثات والعشرات من المتدربين من بلداننا في دورات أكاديمية أو مهنية، ولكنه يدرك جيداً أن هذه الكوادر والأموال المخصصة لها ستذهب هدراً في ظل تعاظم النزعة الإستهلاكية وتراجع المبادرة العلمية والحضارية. لهذا السبب تبقى الدورة العالمية المبتناة على إستيراد الدول الصناعية الغنية مواردنا الطبيعية، لإعادتها إلينا، بأضعاف مضاعفة من أسعارها، كمنتجات صناعية، منها منتجات بسيطة كنا نضطلع بصناعتها حتى سنوات قليلة خلت. إن دورة التراجع المستديم (وليس التنمية المستدامة) التي تعاني منها العديد من الإقتصاديات العربية بحاجة إلى وقفة جادة تتجاوز البيانات الرقمية المقدمة للقيادات السياسية لإستدرار الإطراء والمكافأة، وقفة تقيس جدوى جميع المخصصات المالية الموجهة إلى التنمية البشرية من أجل تجنب الوقوع في “دائرة سحر” التخلف الدوري المتعاظم التي تبقينا حبيسي فتح الإعتمادات والإستيرادات حتى آخر برميل نفط تبتطنه أرضنا.
© منبر الحرية، 11 أغسطس/آب 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

تتيح وسائل الإعلام والإتصال الحديثة العديد من الفرص الثقافية والسياسية المفيدة والجديدة التي لم تكن متاحة في عصر ما قبل الفضائيات، على سبيل المثال. وكمثال واحد على ذلك، يمكن إنتقاء تجربة الإطلاع على “ثقافة المناظرات” الإنتخابية، وهي جزء لا يتجزأ من الممارسات الديمقراطية الغربية التي كنا نكتفي بالسماع عنها عبر الصفحة المطبوعة والكلمة المكتوبة فقط: فقد سمعنا (عن بعد) عن مناظرة تاريخية بين مرشحين إثنين للرئاسة الأميركية في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، وهما جون كينيدي الديمقراطي وريتشارد نيكسون الجمهوري. ويبدو أن هذه المناظرة قد تركت أثراً عميقاً في النفس الجماعية الأميركية والثقافة الشائعة درجة إتخاذها تقليداً في جميع التنافسات الرئاسية التالية وبضمنها التنافس المحتدم والساخن الذي جرى قبل بضعة أشهر بين باراك اوباما المرشح الديمقراطي الأسمر من ناحية، وبين جون ماكين المرشح الجمهوري الأشقر، من الناحية الثانية. لقد أتاحت المناظرات الثلاث التي سبقت الإنتخابات الرئاسية التي جرت بعد تلك المناظرات وتأسيساً على معطياتها للجمهور، فوفرت هذه المناظرات الفرص الثمينة للناخب الأميركي، ليس فقط للإطلاع على أفكار كل واحد من المرشحين على نحو مباشر، مرئي ومسموع، بل كذلك (ربما) للإطلاع على تفاصيل شخصية المرشح وطريقته في الكلام والجلوس وإختيار الملابس والحفاظ على اللياقة عبر الحفاظ على مسافة لائقة بينه وبين منافسه، وكيفية تلقيه للنقد ثم كيفية الرد، زد على ذلك طريقته في إنتقاء الألفاظ وحركة الجسم وتعابير الوجه والعيون، من بين أشياء أخرى body language لا يمكن أن تظهر إلا عبر مثل هذه المقابلات المباشرة والنادرة.
هذه جميعاً تأتي في قائمة “المحرمات” في الثقافة السياسية الشائعة عبر التاريخ الحديث للعالم الثالث، للأسف؛ إذ لا تتاح الفرصة للجمهور بالإطلاع، مباشرة، على المرشحين كي يقرر هذا الجمهور من ينتقي ولماذا. وبذلك تتمكن “الديمقراطية الأميركية” أن تسجل هدفاً للفوز بسباق الديمقراطيات العالمية، هدفاً في شباك العديد من هذه الديمقراطيات التي تكتفي، على سبيل المثال، بتقديم المتنافسين على نحو غير مباشر أو بالإنابة عبر وسائل الإعلام الأثيرية واللافتات المعلقة والملصقات والصور والبيانات الإنتخابية. هذه، بطبيعة الحال، طرائق مختلفة لعرض المرشحين وأفكارهم أمام الجمهور بهدف المساعدة على الإختيار الصحيح، بيد أنها جميعاً لا ترقى إلى فكرة الصراع المصور والمسموع على حلبة التلفاز. وهذا ما اتاحته وسائل الإتصال الحديثة لنا الآن عبر تجربة الإنتخابات الرئاسية الأميركية.
إنه لمن نافلة القول، أن يفكر المتابع في العالم النامي، عند الإطلاع على مثل هذه الممارسة الديمقراطية المفيدة: لماذا لا نفعل الشيء ذاته هنا؟ أي، لماذا لا نشاهد مناظرات من هذا النمط بين المرشحين للرئاسة والمرشحين للبرلمان أو للمجالس النيابية الوطنية أو لرئاسة الوزراء والحكومات؟ يبدو للمرء أن أسباب الحرمان من هذا النوع من المناظرات المباشرة لرؤية وسماع “من ننتخب” وننتقي، عديدة، ومنها أن طبيعة السلطة وإدارة القوة السياسية في مجتمعاتنا التقليدية تكمن على عدد من المسلمات، كأن يكون من المفترض أن يحرم المعارض من نعمة أو مَلَكة الصوت: فهو غالباً ما يكون مغموراً ومغموط الحقوق، لا يسمح بسماع صوته: ليس لأنه أخرس، ولكن لأنه يتجاوز حدوده، أو حدود “اللياقة” في طرائق مواجهته للأعلى أو للسلطة. من هنا صار تقليد المناظرة تقليداً غريباً ومضطرباً بل ومرفوضاً في ثقافتنا وفي عالم يكون فيه صاحب اليد العليا هو الكائن الوحيد القادر على إنتاج الصوت المسموع، بينما يكون غيره أخرساً لا قدرة لديه على التعبير عما يريد. لنلاحظ العديد من الممارسات الانتخابية في عالمنا الذي غالباً ما نسميه بـ”العالم الثالث” (عدا الهند، مثلاً)، إذ نجد أن أهم أسلحة مواجهة التغيير ومقاومة الجديد هو سلاح حرمان الخصم من أن يُسمع صوته. هذا لا ينطبق على الحياة السياسية الأميركية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتنافس على مؤسسة الرئاسة فيها. في عالمنا “الدافيء” تكون الإنتخابات الرئاسية بلا منافس أو تنافسات، إذ غالباً ما يسمى الرئيس ويكتفي الجمهور بالإحتفاء والإحتفال بـ”الترئيس”. وهكذا صار هذا تقليداً مؤسفاً حرم العديد من المنافسين الجيدين من فرص التنافس والخدمة العامة في عالمنا. أنا شخصياً قضيت حياتي في جمهورية لم ينتخب لها رئيساً واحداً قط. منذ تأسيسها في 14 تموز عام 1958. الرؤوساء يأتون ويذهبون مثل الغيوم العابرة، أي بالإنقلابات العسكرية أو بالتغيرات العنيفة، إن لم يكن بتناسل السلطة او توريثها. وللجمهور الإكتفاء بالقبول بالأمر “الواقع” الممرر عبر الإعلام الوحيد الجانب، المركزي أو “الموجه”. ليس لدينا الوقت الكافي للمناظرات ولمثل هذا “الهراء الأميركي”! ذلك أن الرئاسة تأتي وتذهب بطرائق أخرى، تتبعاً لخطى الأقدمين، ومنها طريقة “البيان رقم واحد” الذي تعودنا سماعه على حين غرة في إحدى صباحات شهر تموز، شهر الثورات!
لقد حاول الرئيس السابق صدام حسين إستثمار الإرتكان الأميركي إلى المناظرة وثقافتها الشائعة من أجل تحقيق مكاسب في الصراع الذي نشب مع الغرب بعد غزو دولة الكويت الشقيقة، مقترحاً على الرئيس السابق جورج بوش الأب نوعاً من “المناظرة” بواسطة تسجيل نداء أو حديث للرئيس الأميركي موجه إلى الشعب العراقي، مقابل حديث للرئيس السابق موجه إلى الشعب الأميركي، علّ في ذلك خلاصاً من الحرب التي كانت محققة، لا مفر منها. بيد أن هذه اللعبة لا يمكن لنا إتقانها أو لعبها بالطريقة الصحيحة في مقابل من هم خبراء بها، كالرئيس الأميركي اعلاه، فكانت النتيجة الضحك على الإعلام العراقي المركزي “الموجه” الذي سارع سنة 1991 على عرض حديث بوش للجمهور العراقي عبر محطة التلفاز الوحيدة العاملة في العراق وقتذاك حيث كانت الفضائيات من المحرمات، بينما رد البيت الأبيض بأنه لا يستطيع أن يفرض على الجمهور وعلى شبكات التلفاز الأميركية عرض حديث للرئيس السابق صدام حسين بطريقة قسرية، الأمر الذي أشعر النظام العراقي بأنه قد أستُغفل ببساطة متناهية. وقد حاول الرئيس السابق فعل الشيء نفسه في مقابلته الشهيرة مع صحفي الـCBS “دان راذر” Dan Rather الشهيرقبل حرب 2003 ببضعة أيام، إذ انه طالب بمناظرة مع الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، الأمر الذي قاد إلى شعور دان راذر بالمفاجأة والذهول خاصة وأن الحرب كانت قاب قوسين أو أدنى. لم تتحقق المناظرة التي طالب الرئيس السابق بها، ولم تتمكن من إعطائه الفرصة لتبرير الوضع المعقد بين العراق والولايات المتحدة، ولو أن مناظرة من هذا النوع قد عقدت بوساطة دان راذر، لكانت اليوم قد عرضت آلاف بل مئات الآلاف من المرات كي يحفظها الجمهور العراقي عن ظهر قلب: ثلاث مرات يومياً، مرة مع الفطور والثانية مع الغداء، وثالثة بعد العشاء!
إن خلاصة الكلام تتجسد في أن الديمقراطيات الفتية في الدول النامية هي بحاجة إلى ممارسات أعمق تسمح لها بالخروج من سلة العالم الثالث التقليدي إلى صنف العالم المتقدم حيث يكون لكل متنافس صوته المسموع وصورته المرئية، كما يحدث اليوم في العالم الغربي الذي نخصه بنظرات الإحتقار الدونية ولا نملك من الأدوات التي تجعله يخصنا بما يكفي من التقدير.
© منبر الحرية، 15 مايو 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

أنه لمن نافلة القول أن أقوى قوتين تؤثران على عالم اليوم هما: الإعلام والإستخبارات. وإذا كان هذان الذراعان متداخلات عبر العديد من الفضاءات والوظائف، فإن المؤكد هو أن واحداً من أهم موضوعاتهما هو الجمهور، أي إستهداف الرأي العام من أجل تشكليه وإدارته بالطرق التي تخدم مصالح القائمين عليهما. وهنا يكون الإنسان، فرداً وجماعات، هو الهدف النهائي. كما أن القوتين تشتركان كذلك في توظيف اللغة وسيلة وأداة لتحقيق أهدافهما. اللغة هي الإناء الذي يملأ بالمراد من الأفكار والحقائق والأكاذيب، من بين سواها من المطلوب بثه وإشاعته أو الترويج له. وإذا كان الجهاز الإستخباري يعمل أحياناً على صناعة وإنتاج وتسويق الإشاعات والإشاعات المضادة، فإن الإعلام يقوم بعمل مشابه عندما يصنع وينتج ومن ثم يسوّق أفراداً أو أفكاراً أو قضايا بحسب أهواء القائمين عليه. وبذلك تكون هذه جميعاً “مخلوقات إعلامية” mediacreatures، بمعنى أنها من إختلاق وتضخيم الإعلام، ليس إلاّ، شخوصاً كانت أم قضايا.
لقد لاحظ المخططون الإعلاميون البارزون منذ أمد طويل أهمية وسائل الإعلام في صناعة المعجزات وخلق الخرافات والأساطير وتمريرها. وقد تناغم هذا مع تطور وسائل البث الأثيري والعام الذي يصل إلى “كل الناس”. لذا تنبه هؤلاء إلى أهمية الإعلام، ليس فقط في إدارة الرأي العام على النحو المطلوب، ولكن كذلك في تصنيع وتسويق الأفكار والأساطير والشواخص، حسب الطلب. وكان الألمان، خاصة خلال الحرب العالمية الثانية، هم رواد هذا الحقل، إذ تفردوا، ربما للمرة الأولى في التاريخ، بخلق الشواخص الأسطورية. وهكذا تمت عملية أسطرة شخصية القائد المنزّه الذي لا يخطأ ولا يسهو، أدولف هتلر، على سبيل تعبئة الجماهير على طريق “عبادة الأبطال” hero-worship، كما إصطلح توماس كارلايل على تعظيم البطولة الفردية قبل ذلك بعقود. ناهيك عن اساطير وخرافات أخرى تم توظيفها في الحرب على سبيل خدمة المعسكر الألماني على حساب معسكر الحلفاء، ومنها “الأسطورة الآرية”، اي أسطورة تفوق الجنس الآري على سواه من الأجناس خاصة الجنس السامي.
مذاك تكررت عمليات صناعة الأبطال وتسويق البطولات على نحو مضطرد، خاصة مع ظهور العديد من الأنظمة الشمولية في الشرق والغرب على حد سواء. بيد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ تم توظيف الإعلام بطرائق فنية عدة على سبيل إنتاج “مخلوقات إعلامية” لا تمت للواقع بصلة. لقد صنع الإعلام نجوماً كثيرة عبر تاريخه العالمي في العصر الحديث. وهو لم يزل يفعل ذلك مسوقاً إياها على حساب الحقيقة ومن خلال إستغفال الجمهور: فإضافة للقادة التاريخيين المؤلهين، ظهر لدينا المفكرون التاريخيون والفنانون الإستثنائيون ولاعبو كرة القدم المعجزة، من بين شواخص أخرى لم تكن لتعني الكثير لولا ما نفخه الإعلام في صورهم من هواء حتى اضحوا بالونات لا تحتاج لسوى وخزة إبرة لتنفجر كالفقاعة على سطح ماء بارد.
وإذا كان الغربيون، قد حصلوا على القدح المعلى في صناعة وتسويق مخلوقات إعلامية لا قيمة تُذكر لها خارج عالم الإعلام، فإننا في العالم العربي غالباً ما نتتبع خطاهم بدقة متناهية، للأسف. لقد خلقت بعض وسائل الإعلام العربية عبر العقود الأخيرة اساطير وخرافات عدة، كان بعضها شواخصاً فردية، بينما كان بعضها الآخر قضايا ومشاكل مفتعلة. وكانت النتيجة هي صناعة رأي عام يعاني الكثير من الإختلال والتشويه، لاحظ إستحالة بعض الشخصيات المستبدة إلى “قيادات تاريخية” تستحق التقديس!.
واحدة من أهم طرائق صناعة وتسويق النجوم قد تمثلت في “تنجيم” أفراد لا يستحقون ما حصلوا عليه من سمعة وضجة من خلال وسائل الإعلام: فبينما تم تنجيم العديد من الشخصيات البائسة التي لم تقدم شيئاً يستحق الذكر، بقيت شخصيات “ثقيلة” ومهمة أخرى قابعة في الظل، لا يذكرها أحد، وقد لا يعرفها الكثيرون. وهكذا مكثت العقول الذكية والمبدعة أسيرة صوامعها ومعتكفاتها المغلقة البعيدة، بينما صعدت إلى القمة “الإعلامية” شخصيات لا تذكر بالأصالة والإبداع بحساب المعايير التاريخية والثقافية الموضوعية. وللمرء أن يحاول إجراء مسح بسيط لهؤلاء الذين ترفعهم بعض وسائل الإعلام إلى النجومية، ليقارنهم بهؤلاء المنسيين الذين لا تكلف وسائل الإعلام نفسها تقديمهم أو البحث عنهم، وهو سيخرج بنتائج باهرة بالمفاجآت. هذه واحدة من سلبيات ما يسمى اليوم “بالإعلام الموجه” الذي تديره وتوجهه الدكتاتوريات، خاصة في الشرق العربي الإسلامي.
المعضلة تتلخص في أنه “لا ضريبة على الكلام”، كما يقال. فإذا ما أرادت وسيلة إعلامية تحويل شخص عادي إلى نجم يذكر في كل مكان، فإن العملية بسيطة وقد لا تحتاج سوى لتزيين هذا الشخص بالألقاب جزافاً. لنلاحظ على سبيل المثال أن يقدم شخص ما في مقابلة على إحدى الفضائيات مترافقاً إسمه بلقب “المفكر الكبير”؛ أو أن يقدم شخص آخر بعنوان شهادة عليا هو لا يملكها، أو أن يقدم شخص ثالث مع لقب “شيخ”، وهو اللقب الذي راح ينتشر هذه الأيام بسرعة: فهذا شيخ المؤرخين، وذاك شيخ الشيوخ، وذاك شيخ المدينة، زيادة على شيوخ من أنواع أخرى. وعودة إلى المعضلة، فإنها تتلخص في أنه لا توجد هيئة أو منظمة يمكن لها أن تحاسب وسيلة الإعلام إذا ما أطلقت لقباً مفتعلاً أو مزوراً على أحد. كما أنك لا يمكن أن ترفع دعوى ضد وسيلة الإعلام المعينة لأنها أخطأت في منح شهادة جامعية عليا لشخص لا يمتلك سوى شهادة الثانوية العامة ! وهكذا تتلبد سماؤنا بالعناوين غير الصحيحة والألقاب المزيفة لتمطر على رؤوسنا أكاذيباً بهدف إنتاج وتسويق مخلوقات إعلامية، لا أكثر.
من المخلوقات الإعلامية الأخرى يجد المرء عمليات صناعة وتسويق القضايا والمشاكل والمسائل التي قد لا تستحق الكثير من العناء الإعلامي. وهنا يتطابق عمل الإعلام مع عمل الأجهزة الإستخبارية في تشكيل وإنتاج الإشاعات والإشاعات المضادة، بل حتى في صناعة وتسويق “النكات” المضحكة ضد فئة معينة من الجمهور، على سبيل الإقلال من شأنها كما حدث في عدد من البلدان العربية مؤخراً. وهكذا يمكن لوسيلة الإعلام أن تنفخ في مسألة معينة حسب أهواءها، كما أنها يمكن أن تفرغ الهواء عن مسألة أخرى حسب الطلب. هكذا تتم عمليات صناعة الخوف وتسويقه، وهكذا تتم عمليات إنتاج الأعداء وتسويقهم.
إن الإعلام، بالرغم من فوائده ودوره التنويري الكبير، يمكن أن يوظف كعدو للجمهور وكمشكل مُضلل ومزيف للرأي العام، الأمر الذي يحيلنا إلى مناقشة الحرفية أو الحيادية المطلقة في عالم الإعلام: هل هي حقيقة أم خيال؟ لاحظ كيف يتم ليّ الإعلام والتصرف بأدواته وقنواته لخدمة بعض الأنظمة الرجوعية التي لا تريد الإستجابة لمتطلبات العصر الملحة، خاصة الحريات والديمقراطية.
أن الحياد المطلق للإعلام هو مجرد أسطورة، كما يبدو من إستقراء المنتج الإعلامي اليوم. بل أن تتبع “سلوكيات” المؤسسات الإعلامية العربية والعالمية بدقة يشير إلى أن غياب النزاهة الكاملة في نقل الأحداث وفي طرائق تقديمها وأساليب إخراجها (عبر العاملين في الأجهزة الإعلامية وبواسطة المتعاملين والمتعاونين معها) إنما هو ظاهرة  تعبّر عن المصالح والأهواء الكامنة وراء أهواء ومصالح مديري هذه الأجهزة، تعبيراً عما يتمنوه من نتائج للأحداث ولأنفسهم من معطيات نهائية لهذه النتائج.
وليست الأحداث الجارية على الساحة العربية بأول المحكات التي تعكس “المصلحية” الإعلامية؛ فقد بيّنت الأحداث التاريخية خاصة عبر سنوات الحرب العالمية الثانية ( إبان الصراع الإعلامي الرهيب بين الرايخ الثالث ودول الحلفاء) بأن التشبث بحيادية مطلقة للإعلام يندرج في حقل التشبث بالمستحيل أو بالخرافة. ولكن أحداث العالم العربي الملتهبة الجارية اليوم تقدم لنا البينة الواضحة على أنه لا يوجد شيء اسمه إعلام مطلق الحيادية حتى بالنسبة لوسائل الإعلام العائدة إلى القطاع الخاص أو إلى الأفراد الذين لا ينتمون إلى هيئات إدارية حكومية. وبعكسه، لماذا يختار الفرد أو الشركة الاستثمار في وسائل الإعلام، مفضلين هذا الاستثمار على حقول استثمارية أكثر إدراراً مادياً مباشراً. وهذه الظاهرة التي تعني بأن الإعلام يشبه إلى حد كبير عملية كتابة التاريخ أو التورخة. فالإعلام يشترك مع التاريخ في أنه لا يمكن إلاّ وأن ينطوي على شيء من التفضيلات والتمنيات والمخاوف الكامنة لدى مالك الوسيلة الإعلامية ومديرها، زيادة على تأثيرات هؤلاء الذين يحاولون الفوز برضاهما واستحسانهما. وعليه، فإن أي جهاز إعلامي ومهما حاول أن يقدم الأنباء بحيادية لابد أن يقع فريسة لأهواء الممول الذي ” له رأي ” بالأحداث، وهو الرأي الذي يتبلور في طرائق تقديم المادة الإعلامية وحجبها أو حجب أجزاء منها على سبيل تحقيق المرجو من آثار على مستهلكي هذه المادة. وإذا كانت بعض وسائل الإعلام تتباهى بأنها “مفضلة” على غيرها بسبب حياديتها، فأن هذا لا يعني وجود حيادية مطلقة قط، فالموضوع شديد النسبية.
وإذا كانت وسائل الإعلام مرآة لمواقف مديريها ومموليها، فإنها تقدم كذلك صوراً دقيقة للانتهازيين الذين يحاولون ركوب الموجة لتحقيق أهدافهم الأنانية الخاصة. ولدينا في العالم العربي عدداً لا بأس به من هؤلاء المتحذلقين الذين يحاولون استثمار وسائل الإعلام عبر استثمار مصالحها لتمرير أنفسهم كمنقذين أو كوطنيين، أعلى من سواهم وطنية بدرجات. ومن هؤلاء الذين تستحسن بعض الفضائيات إظهارهم وتقديمهم، بسبب التقاء بعض المصالح المشتركة، أشخاص لا همّ لهم سوى الفوز بالشهرة ومن ثم السلطة. وهكذا تبقى مصائرنا في العراق مرتهنة بأمثال هؤلاء المزايدين وبسواهم من الذين يريدون أن يحكموا العراق عبر عمليات قطع الطرق وانتهاز الفرص.
ولا يبالغ المرء إذا ما استمكن شعوراً قوياً بأن هناك وسائل إعلام شائعة في البلدان العربية من تلك التي وجدت في أحداث الشرق الأوسط الساخنة فرصة ذهبية لسكب الزيت على النار وتأجيج الحرائق بلا أدنى شعور بالمسؤولية. بل أن المرء ليشعر بأن هؤلاء ينتظرون الحروب الأهلية وإنتشار الفوضى “بفارغ الصبر” عبر الحديث الملحاح عن التقسيمات الطائفية والعرقية بديلاً عن الدعوة إلى نشر الديمقراطية والفكر الليبرالي الذي يرتهن به التقدم والإنتقال من غياهب التقليدية الظلامية إلى انوار الحرية والتقدم، الأمر الذي يحيل الإعلام إلى “كائن” طفيلي (يعتاش على أحداث ومعاناة الغير) بدلاً عن إحالته إلى مرآة للحقيقة.
إن الأحداث في العالم العربي والشرق الأوسط عامة كثيرة وساخنة ولا يبدو بأنها ستتوقف، ولكنها تقدم لنا البينة على مصلحية وانتهازية العديد من وسائل الإعلام التي تنظر إلى هذه الأحداث كفرص عمل، فتحورها ثم تديرها على هذا الأساس وليس على أساس من الحياد المطلق الذي صار خرافة هي مدعاة للتندر بالنسبة لمن يحيا في أتون الأحداث الحقيقية. ولكن، مع هذا كله، يحاول رجال الإعلام الجادين التشبث بالحيادية أنموذجاً يستحق التمسك به، لذا كان هؤلاء أقرب إلى الجمهور لأنهم أقرب، نسبياً، إلى الحقيقة.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 11 ديسمبر 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لو كانت الإدارة الأميركية تدرك، على نحو الدقة، حقيقة النظام الشمولي القائم في الجمهورية اليمنية، لكانت فضلت الإمساك بهذا النظام بوصفه المسؤول الأول عن التفجير الإرهابي الذي حدث للسفارة الأميركية بصنعاء يوم الأربعاء 17 سبتمبر 2008، كما هي عليه الحال للتفجير التخريبي الذي لحق بالمدمرة كول قبل عدة أعوام، خاصة وأن الإدارة الأميركية تتعامى عن طبيعة النظام الشمولي المنافق القائم في صنعاء عبر عقود طوال فاقت عقود حكم حزب البعث في العراق “الجمهوري”، وهو النظام العشائري الذي امتد ليتجاوز الأنظمة الأبوية الشمولية، الملكية والجمهورية، التي تواصلت على سدة الحكم لعقود ثقيلة أشبه بتلك العقود التي هيمن خلالها الدكتاتور الكوبي كاسترو على السلطة في هافانا.
ان من يحاول رصد ودراسة هذا النظام الذي سيطر على السلطة بحركة عسكرية، فإنه لابد وأن يلاحظ حالة التكلس السياسي أو التحجر fossilization الإجتماعي التي غلفت الأوضاع داخل الشمال اليمني، ثم إمتدت لتشمل الجنوب وحضرموت حتى بحر العرب عبر هذه المرحلة الرجوعية. لذا فإن المتابع للشأن اليمني سيجد التالي من الحقائق المهمة:
(1)    إن النظام القائم قد هيمن على السلطة في صنعاء بانقلاب عسكري بقيادة “الأخ” العقيد علي عبد الله صالح قبل عقود.
(2)    أن الأخ العقيد بقي رئيساً للجمهورية طوال هذه الحقبة المستطيلة دون أن يسمح لمن ينافسه بضايقته على كرسي الرئاسة وعلى طرائق تشكيل النظام الذي سيبقى يسمح له بالرئاسة أو بالترئيس، لما لا نهاية من السنوات.
(3)    أن الأخ العقيد، وعلى سبيل الإبقاء على سيل المساعدات المالية المتدفقة على حكومته من المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى (والعراق قبلذاك) إعتمد سياسة منافقة hypocrite ومتقلبة، متأسسة على عدد من المباديء، وأهما: 1.مغازلة وتشجيع الحركات الإسلامية الأصولية من نوع الحركة “الوهابية” التي تعتمدها أغلب الأنظمة الشمولية في المنطقة، ؛ 2.محاربة ولجم أو بتر القطاعات الإجتماعية التي تمثل الغالبية الطائفية الدينية في اليمن (الشيعية الزيدية)، وهو جزء من تبرعمات النفاق الذي يعتمده النظام اليمني، خاصة وأن الرئيس اليمني نفسه، زيادة على رئيس البرلمان والشخصيات المهمة الأخرى هم من أتباع هذه الطائفة الزيدية برغم تحفظهم وإنكارهم المنافق لهذه الحقيقة (لاحظ تمرد الحوثيين).
إن من يحظى بزيارة إلى اليمن، فإنه سيلاحظ بلا أدنى مجال للشك كيف تنشط المنظمات الإرهابية الأصولية هناك بكل حرية، دون رادع أو خوف أو ضوابط على نحو الإطلاق، بالرغم من أن اليمن الجنوبي الذي غالبيته من أتباع وأدعياء الحركة الإشتراكية والشيوعية، بإعتبار النظام الذي كان سائداً في عدن قبل الوحدة.
لقد بقي الحكم اليساري، نصف الشيوعي، سائداً في اليمن الجنوبي لعقود، إلاّ أنه لم يتمكن من أن يغير طبيعة العقلية أو الذهنية القبلية اليمنية التي فضلت البقاء متكلسة على ما هي عليه لقرون، الأمر الذي يفسر “الردة” أو الإرتجاع retreat الإجتماعي السريع الذي حدث مباشرة بعد قيام نظام صالح الشمولي بضم ودمج جمهورية اليمن الجنوبية إلى الجمهورية اليمنية الموحدة، بداية تسعينيات القرن الماضي.
ويبدو أن ما يشيع بين أبناء اليمن الجنوبي، الممتعضين من النظام القائم، بأن علي عبد الله صالح إنما هو، في حقيقته، “تلميذ” صدام حسين إنما هو حقيقة لا شك فيها: حيث يذكر العديد من اساتذة الجامعة العراقيين العاملين هناك أنه من بين كل ثلاثة طلبة في الجامعة، هناك طالب واحد يعمل لصالح أجهزة الأمن والإستخبارات اليمنية لينقل كل صغيرة وكبيرة للجهات المختصة. وهذا يعني أن الرئيس صالح إنما كان تلميذاً نجيباً لصدام حسين، حيث اتبع وبدقة متناهية طرائقه في الحكم وفرض الأمن من خلال الإرتكان إلى جهاز بوليسي دقيق العمل يبتلع نصف ميزانية الدولة، مرتبات ومكافآت ورشاوي! لقد برهن الرئيس صالح على حقيقة أنه تلميذ صدام من خلال الطريقة التي تعامل بها مع حلفائه ومنافسيه السابقين في قيادة حكومة اليمن الجنوبي، إذ تم القضاء عليهم وإقصائهم بأبشع الطرق، دون إستذكار لرفقة أو لمواطنة مشتركة! لم تفعل الحكومة اليمنية القائمة، برغم أنها حكومة “مزمنة”، شيئاً لتغيير أو لتحسين البنية القبلية للمجتمع اليمني، وهي بنية يمكن أن نتابعها إلى القرون المبكرة من العصر الوسيط: فبقيت البنية القبلية الأوية هي المهيمنة على العمارة الإجتماعية، بينما بقي “القات” Cat هو “المنظم” غير المرئي لمجتمع سكوني راكد stagnant غير قابل للتغيير أو غير مرحب بالتحوير. هذا النوع من المجتمعات المترهلة يمثل أفضل بيئة لنشاط ولتنشيط الحركات الأصولية الرجوعية المتبرقعة بغطاء الدين، حيث يرى ذلك بوضوح في الجمهورية اليمنية دون حاجة للكثير من التمحيص أو التقشير. بل أن سطوة هذه الحركات الإرهابية تتجلى على نحو أوضح فيما تعاني منه المرأة اليمنية من نظرة دونية مشحونة بالإحتقار، خاصة وأنها حيث أنها توضع في الدرجة العاشرة أو أدنى في سلم البناء الإجتماعي: فالمرأة في اليمن هي مخلوق لا مرئي ولا مسموع، اشبه بفئة المنبوذين untouchables في الهند القديمة، حيث أنها تعمل وتكافح في البيت والحقل بينما يقعد الرجال متكئين على أرائكهم وهم يمضون الوقت في قضم وتخزين القات منذ الساعة الثانية عشر ظهراً حتى مابعد منتصف الليل، إذ يعودون إلى زوجاتهم ليروهن وقد إستسلمن للنوم دون توقع شيئاً من الإحترام ورفقة الحياة العائلية.
هذا الوضع الإجتماعي، وهذا التكريس لتخلفه من قبل حكومة غير قادرة على إحداث أو حث التغيير هو السر الذي يجعل اليمن واحدة من أفضل الآنية الإجتماعية لنشاط ولتناسل الحركات والتنظيمات الأصولية التي حطمت آفاق التقدم وأحالت اليمن إلى مفقس للإرهاب والإرهابيين حيث تصدرهم اليمن إلى مختلف دول الجوار، زيادة على دور النظام اليمني الخطير اليوم في إحتضان بقايا قيادات حزب البعث العراقي المنحل داخل اليمن، حيث وجدت هذه القيادات الترحيب والتوظيف والتشجيع من قبل السلطات اليمنية بطريقة تفوق ما قامت به أنظمة عربية أخرى سبق وأن اتُهمت بإيواء وتشجيع الحركات المضادة للديمقراطية ولتحرر العراق ولإنتقاله من فصيلة الأنظمة الشمولية الدكتاتورية إلى فصيلة الأنظمة الديمقراطية الليبرالية.
إن بقاء اليمن على هذه الحال ينذر بالكثير من الخطر خاصة وأن النظام القائم هناك غير قادر على تغيير منطلقاته النظرية وعاجز عن القضاء على مسببات التحجر والتخلف التي تمثل أفضل حاضنات الحركات الرجوعية regressive والإرهابية، حيث تبدو هذه الحركات وكأنها تباشر عملية “تصدير” الإرهاب إلى دول الجوار.
© منبر الحرية، 08 سبتمبر/أيلول 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018