محمد الدعمي

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

لا يعرف المرء إذا ما كانت العودة إلى تقارير الأمم المتحدة المعنونة “الوضع الإجتماعي في دول العالم” الصادرة كل سنة يمكن أن توضع إلى جانب مؤتمرات “الأغنياء” العشرين. وبغض النظر عن المدلولات والمعاني العميقة لهذا الجمع بين نقيضين فإن للمرء أن يلاحظ تقارير الأمم المتحدة وما تنطوي عليه من صورة سوداوية قاتمة للوضع الإقتصادي الدولي الآن، خاصة بقدر تعلق الأمر بالإتساع السريع والمرعب للفجوة بين الدول الغنية والفقيرة. ربما تعكس هذه التقارير خلاصات تدق ناقوس الخطر من حدوث “ثورة” كونية للفقراء (الذين يزدادون فقراً) ضد الأغنياء الذين يضاعفون ثرواتهم ويمثلون أقلية تحتكر الثروات والقوة ومصادرهما عبر العالم. ليس المقصود بالثورة، في هذا السياق، هو أن يحدث هجوم من قبل الفقراء على “روما”، كما فعلت القبائل الجرمانية القوطية عندما هدت روما، المدينة والإمبراطورية، وإنما المقصود هنا حدوث عدد مهول من التغيرات والأزمات والتفاعلات التي تعكس لا عدالة توزيع الثروة في العالم، كما كانت عليه الحال بلا عدالة توزيع الشعر بين لحية برناردشو ورأسه، حيث تجسدت “الكثافة” في الإنتاج واللاعدالة في التوزيع !
بيد أن المشهد العالمي اليوم يزداد تحذيراً لما يطويه مرجل السنوات الجارية الذي يعتمل بتعابير الخوف من الفقر والفقراء، ذلك الخوف الذي ما إنفك يقض مضاجع الأغنياء عبر الأزمات والتفاعلات ونذر المجهول منذ أن إجتاح الجياع الباستيل الباريسي. إن من يتابع شيئاً من معطيات مؤتمر الدول الغنية المذكور أعلاه، لابد وأن يلاحظ أن الإجراءات والقرارات التي إتخذتها هذه الدول لم ترق إلى المستوى المطلوب أو المتوقع على سبيل مد يد العون لإنتشال الدول الفقيرة مما يحيق بها من مخاطر من النوع الذي لا يمكن إحتوائه بداخل حدودها، ذلك أن الفقر يترجم نفسه بلغة عابرة للحدود وعابرة للقارات، كما هي عليه الحال في إنتشاء وإنتشار فايروس نقص المناعة المكتسب المنتشر على نحو شبه وبائي في القارة السوداء، وهو مرض فتاك لا يمكن لمجتمع أن ينجو منه أو أن يعالجه ويشفي المبتلين به مهما كانت درجة تقدم ذلك المجتمع. والدليل يتمثل في معاناة أعداد لا بأس بها من المواطنين في أكثر دول العالم ثراء وتقدماً علمياً. وتنطبق ذات الحال على الأمراض الوبائية الصديقة للفقر من نوع إنفلونزا الطيور والملاريا والهيضة والجدري والسل وسواها كثير.
وإذا كانت الأمراض والأوبئة تمثل خطراً لا يستثني أحداً مهما ثقل جيبه وكبرت خزائنه، فإن هناك أمراضاً أخرى تطفو على جلد البشرية كبثور تنذر بالكثير من المخاطر المعتملة في دواخل الكينونة البشرية، مهددة المجتمعات الغنية بنفس درجة تهديدها للمجتمعات الفقيرة. هذه أمراض إجتماعية وسياسية وإقتصادية متشعبة وشائكة يصعب إجتثاثها أو القضاء عليها قضاء مبرماً. لاحظ أن مزارع الأفيون تكثر وتنتشر في الدول الفقيرة، بينما يكثر مستهلكوه وينتشرون في الدول الغنية. ويرد سبب ذلك إلى أن الفقراء يبحثون بكل الوسائل والطرائق المبتكرة عما ينقذهم من فكي الحاجة والفاقة، الأمر الذي يبرر لهم زراعة وتجارة مثل هذه المواد المخدرة والفتاكة التي تلقي بضلالها على المجتمعات المتخمة التي هي بدرجة من إستنفاد وسائل اللهو والتسلية والمتعة إنها راحت تبحث عن الغريب والممنوع والمحرم من أجل تجربة المزيد من النشوة والإنتشاء عبر المخدرات والمحرمات. وإذا كان التهريب واحداً من أهم إفرازات ثورة الفقراء التي اشرت إليها أعلاه، فإن آفته المتعددة الرؤوس لا تكتفي بتمرير المخدرات عبر الحدود إلى الأغنياء، وإنما هي تزيد في قائمة موادها وسلعها لتشمل الرقيق الأبيض والأصفر والأسود لإشباع شره الملذات في الدول الغنية، زد على ذلك سلعها الأخرى التي تحطم البيئة عبر الكرة الأرضية، والبيئة ثروة كونية مشتركة لأن ما يضر بها في أفريقيا أو آسيا لا يمكن إلاّ أن يترك آثاره الكونية على أوربا وأميركا الشمالية. وتنطبق ذات الحال على الحروب التي تدخلها الدول الفقيرة بإنفعالية وتسارع، وكأنها تحاول من خلالها التخفيف عن أعبائها السكانية ! لذا كانت الحروب البينية والحروب الأهلية من ظواهر ومعطيات الفقراء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عندما لقن الرايخ الثالث العالم الغربي درساً لن ينساه في معنى وثمن الحرب وخطورة آثارها.
إن الأسباب الخفية للحروب، وليس السباب المباشرة، تكمن فيما تعاني منه الدول الفقيرة من نكوص في المستوى التعليمي والثقافي وفي إنتشار الفساد والترهل الإداري والمالي وفي التبذير والهدر الآتي من سيادة الحكومات غير الرشيدة والدكتاتورية والشمولية، تلك الحكومات التي تبني صروح أمجادها بالبلاغيات الملفقة وبتبديد الأموال وبالطائرات الخاصة وبالصروح العمرانية الكبيرة في الوقت الذي تعاني فيه مجتمعاتها من أزمات سكن خانقة تجعل الأسر المتعددة تشترك في غرفة واحدة أو في بيت واحد مبني من الصفائح. هذا ما يبرر ويفسر إنتشار الفساد الإجتماعي وظواهر الإتصال الجنسي بالمحرمات وبيع الإنسان نفسه أو أعضائه لتهريبها إلى الإغنياء الذين غالباً ما يعانون من الترهل وعجز الأعضاء الجسمانية.
إن اي رصد، مهما كان عاجلاً، للطرائق التي تقدمها الدول الغنية لمساعدة الدول الفقيرة لن يخفق في تذكير المطلعين على الفجوة بين الفقراء والأغنياء إبان عصر الثورة الصناعية في بريطانيا. فالدول الغنية تتمسك بنفس مواقف كتّاب وروائيي بريطانيا العصر الفكتوري، حيث كان هؤلاء يلتزمون بدور المرآة التي تعكس معاناة وآثار الفقر، ولكن هؤلاء الكتّاب الرومانسيون، في ذات الوقت، كانوا يحذرون من خطر الفقراء الكامن، خاصة تحت شبح الثورة الفرنسية الذي كان قوياً آنذاك. لقد كان مفكرو تلك الحقبة الصناعية الأولى يتعاطفون مع الفقراء ويعكسون معاناتهم، ولكنهم كانوا يعجزون عن تقديم حلول لمآسيهم،  فلا يقترحون سياسات حقيقية وعملية للقضاء على مسببات الجوع والعوز. لذا كانت كتاباتهم غالباً ما تنتهي إلى نوع من “الإصلاح” أو التسوية العاطفية، حيث تنتهي الرواية إلى زواج البطل الغني من البطلة الفقيرة. كانت هذه النقطة هي واحدة من أهم أدوات النقد الذي تلقته كتابات كبار الروائيين من نوع ديكنز ودزرائيلي والسيدة غاسكل وسواهم.
إن حكومات الدول الغنية تعرف جيداً أن الفقر لا يمكن أن يُزال من الدول الأفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية عن طريق تقديم الهبات والقروض وحذف السابق منها. فهي تدرك أن مثل هذه الهبات والحذوفات والقروض الجديدة لا يمكن أن تملأ “قربة مثقوبة” تتمثل بالحكومات اللامسؤولة وبالأنظمة التي ينخرها الفساد المالي والإداري. وبنفس القدر من الوعي، يدرك زعماء الدول الغنية أن القضاء على الفقر له أدوات ووسائل وحلول جذرية تتمثل في بناء قاعدة صحية وتربوية وسياسية موائمة ومستقيمة يمكن من خلالها، وعبر عقود من الزمن، أن تشفى المجتمعات الفقيرة من أمراضهاالمستعصية والمستوطنة العضال. بيد أن الدول الغنية لا تريد أن تقود الدول الفقيرة نحو نموذجي الهند والصين، حيث تمكنت هاتين الدولتين من لجم الفقر وبتر إفرازاته كي تدخلا معترك التنافس والتقدم الإقتصادي درجة إغراق الأسواق الأوربية والأميركية بالمنتوجات الصينية والهندية.
حسب هذا المنظور، يمكن للمرء أن يخلص إلى أن حكومات الدول الغنية تبدو غير جادة في إنتشال الدول الفقيرة من بين فكي الفقر. وسبب ذلك يرد إلى أن أقلية الأغنياء الذين يمتلكون السطوة والقوة الإقتصادية والعسكرية لا يمكن أن يسمحوا بظهور منافسين جدد من الدول الفقيرة التي تتجاوز كبواتها. إن إحتكار القوة من قبل أقلية الأغنياء لا يمكن أن يسمح لهم بغير الإستعراضات الدعائية (كالمؤتمرات والأضواء) المنطوية على المشاعر الإنسانية والنزعات الخيرية، لأنهم لا يريدون أن يروا منافسين وأنداد جدد إلى جانيهم. لذا تبقى مبادرات الدول الغنية جبيسة “الإصلاحات المحدودة”، من نوع الدبون وإطفاء الديون والمساعدات العينية والمالية والهدايا لأطفال الدول الفقيرة. بيد أن لحكومات الدول الغنية أن تدرك جيداً إن هذه السياسة تشكل سلاحاً ذا حدين، إذ أن تفاقم مشاكل الفقر، كالجهل والأمراض والتهريب، لا يمكن أن يبقى بمنأى عن المجتمعات المتقدمة إقتصادياً. فإذا كانت الأمراض الفتاكة ومشاكل الإرهاب قد أخذت طريقها عبر الحدود إلى الدول الغنية، فإن ما نلاحظه اليوم من ظاهرة تهريب العشرات والمئات من الأفراد من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية ينذر الأخيرة بنقل الأمراض الناتجة عن الفقر إلى مجتمعاتهم. وإذا كانت هناك سفينة أو باخرة هنا وهناك يمكن الإمساك بها من قبل شرطة الحدود وحرس الشواطيء في الدول الغنية، فإن هذه الظاهرة ستتفاقم مع تفاقم وتعاظم مشكلات الفقر عبر السنوات القادمة. وهكذا سيظهر نوع جديد من القبائل الجرمانية القوطية البربرية التي أطاحت بروما الغنية في الماضي، ولكن هذه المرة ستكون قبائل الفقراء من نوع جديد يهدد العواصم والحضارات الغنية القائمة.
© منبر الحرية، 19 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

لابد من وقفة موضوعية جادة لرصد ظاهرة المراكز العلمية ومراجعة أدائها في دول الشرق الأوسط، وفي منطقة الخليج على نحو خاص، حيث راحت مثل هذه المراكز تنتشر كـ”الفطّر” على نحو ملفت للنظر في الجامعات والمؤسسات الحكومية ووسائل الإعلام، ولدى القطاع الخاص في حالات معينة.
المهم في هذا السياق هو الإعتراف بأن هذه الظاهرة صحية وواعدة بقدر تعلق الأمر بإعداد مثل هذه المراكز وبحقول تخصصاتها وتشعباتها التي تمتد لتحتضن مديات واسعة من الحقول العلمية: إبتداءً من دراسات السيرة والسنة النبوية الشريفة، مروراً بالبحوث الإستراتيجية والسياسية، وإنتهاءً بأبحاث التمور وألعاب الأطفال التراثية. ولكن مع هذا التوكيد على فوائد هذا النوع من النشاط، ينبغي رصد جدواه ومعطياته ومخرجاته الواقعية الملموسة تجنباً لتحول مثل هذه المراكز إلى مجرد ” تقليعة ” تعبر عن “حمى” لتأسيس مراكز غير مجدية أو مراكز بأسماء وأقنعة علمية مغرية يراد لها إخفاء الترهل والتغطية على قنوات صرف الأموال وإستحلابها من الرعاة بلا إنتاج حقيقي ملموس يرقى إلى المتوقع والمرجو.
ولكن قبل مباشرة مثل هذه الإستفهامات الحساسة، التي يمكن أن تستثير حفيظة البعض، يتوجب التسليم بحقيقة أن ظاهرة المراكز العلمية التخصصية إنما هي من إفرازات “محاكاة” المؤسسات العلمية الغربية، ذلك أن الأقاليم العربية لم تكن على معرفة وتجربة ملموسة بمثل هذه المراكز، اللهم بإستثناء تجربة قديمة ومنسية، وهي تجربة “بيت الحكمة” البغدادي الذي تاسس على عهد الخليفة العباسي المأمون لرصد وترجمة وأرشفة النتاجات العلمية للأمم الأعجمية، من أجل إفادة رأس الدولة والمختصين في الطب والفلسفة وسواهما من علوم ذلك العصر. بإستثناء هذه الحالة العتيقة والنادرة، لم تشهد حركة الثقافة والعلوم في البلدان العربية مراكزاً من هذا النوع، نظراً لعدم وجود الرعاية Sponsorship أو المؤسسات الأكاديمية والسياسية التي تحتاج إلى مثل هذه المراكز عبر العصور المظلمة بعد سقوط بغداد على أيدي هولاكو خان عام 1258م. لذا يمكن أن نخلص إلى أن هذه المراكز حديثة العهد في منطقتنا لأنها لم تكن سوى صدى للمراكز العلمية الغربية، صدى جاء إلينا بسبب الإحتكاك بالغرب ونتيجة لزيادة أعداد خريجي الجامعات الغربية في الأقطار العربية والإسلامية.
لذا فإن الظاهرة هي نوع من أنواع التشبث بالتقدم العلمي الذي أحرزه الغرب كي يتحقق مثله في الدول العربية. ويبدو أن الإنتشار السريع والواسع للظاهرة في مختلف دول الخليج يتصل بقوة بفوائض الموارد المالية الآتية مع تصدير البترول. لقد حضيت مقترحات تأسيس مثل هذه المراكز العلمية بالدعم والرعاية من قبل الممولين في المنطقة على نحو مشجع، وربما غير متوقع، الأمر الذي يفسر تسابق البعض إلى “إبتكار” الأفكار والموضوعات لتقديمها للرعاة كي تتم الموافقة عليها ويتم تأسيس المركز المطلوب على اسس مالية واعدة. وقد كانت الحكومات العربية (نظراً لإهتمامها التقليدي بالحقول التنموية والعلمية) وراء تمويل مثل هذه المراكز، الأمر الذي حدا (فيما بعد) بالمستثمرين والميسورين من الأفراد والشركات إلى تأسيس ودعم مراكز علمية من هذا القبيل، إما لخدمة مصالحهم وأهدافهم الحرفية الخاصة، وإما من أجل الصالح العام، حيث لاحظت في رصد إحصائي لمثل هذه المراكز ثمة ممولين أرادوا تخليد أسماءهم عبر تأسيس مثل هذه المراكز المختصة بالتراثيات والمأثورات أو بالدراسات الدينية، كنوع من أنواع “الأعمال الخيرية”. ومن ناحية أخرى، حاولت بعض الحكومات التعبير عن رعايتها لأصحاب الكفاءات من حملة الشهادات التخصصية العليا عن طريق تأسيس مثل هذه المراكز على أساس “ضرب عصفورين بحجر”، من خلال إجراء المكافآت والمرتبات السنوية لهؤلاء المتخصصين من ناحية، والإفادة من معارفهم وأبحاثهم على سبيل توظيفها في عملية صناعة القرار السياسي (كنشاط إستشاري)، من الناحية الثانية. أما الجامعات العربية، فقد إضطلعت بمشاريع من هذا النمط المؤسسي، بيد أنها بقيت أدنى مما كان مرسوم لها، ذلك أنها لم ترقَ قط إلى مستوى المراكز العلمية التخصصية ومراكز الدراسات الإقليمية في الجامعات الأميركية والأوربية الغربية عامة. ويرد سبب ذلك إلى إنهماك بعض الجامعات العربية بعمليات التخريج بالجملة، زد على ذلك ضعف التمويل الذي تحظى به مثل هذه المشاريع التي تعد “فرعية” في بعض الأقطار العربية. بل أن مثل هذه المراكز العلمية الجامعية وصلت حداً من التدني أنها صارت نوعاً من “المنفى” للتدريسيين من الجامعيين غير المرغوب بخدماتهم في قاعة المحاضرات، أما لأسباب فردية أو لأسباب سياسية أو لسواها من الأسباب. لذا لوحظ وجود مراكز علمية متخصصة بأسماء كبيرة ولكن بمخرجات مجهرية صغيرة في عدد من الجامعات العربية التي تفتقر أصلاً لما يكفي من الكوادر العلمية الرفيعة القادرة على الإبتكار والأصالة في البحث.
وفي مقابل هذه الحال، برزت ظاهرة الإندفاع الواسع الذي عبر عنه العديد من حملة الشهادات العليا والمتخصصين نحو الإنضمام أو الإلتحاق بمثل هذه المراكز العلمية (في الدول الغنية) نظراً لأنها تقدم المرتبات العالية والإيفادات العلمية المغرية دون الحاجة إلى العمل المثابر لساعات طوال وعلى نحو دوام رسمي، بإعتبار أن المنتمي إنما هو “باحث” لا يحتاج إلى مثل هذه التعقيدات الشكلية. وهكذا صارت بعض المراكز العلمية “لا علمية”، بل غدت نوعاً من أنواع البطالة المقنعة. ومن ناحية أخرى، شهدت وسائل الإعلام حالة من الإنجراف في تيار تأسيس المراكز والنوادي العلمية على  سبيل تجهيزها بالمواد الصالحة للنشر أوللضخ الإعلامي، الأمر الذي يبرر إعلانات الفضائيات العربية وبعض الصحف تاسيس مراكز من هذا النوع، ليس فقط من أجل تحقيق مثل هذه الأهداف، وإنما كذلك من أجل منح وسيلة الإعلام المذكورة مسحة من “الرصانة” العلمية وشيئاً من “الوجاهة” أو السمعة التي قد ترقى بها إلى مصاف (نيويورك تايمز) أو الـ(CNN). بيد أن الملاحظ هنا هو إساءة توظيف مثل هذه العناوين الكبيرة عبر نتاجات أدنى مستوى من المتوقع والمأمول. إن هذا، بطبيعة الحال، ليس بتعميم أعمى لأنه لا ينفي وجود مراكز بحث ودراسات إعلامية متخصصة بدرجة عالية من الجدوى و الفائدة الملموسة.
ولكن من منظور آخر، تبقى حالة هدر الأموال والتغطية على غياب الجدوى العلمية حالة مغرية لمتابع هذا الموضوع في بعض الدول العربية. والدليل هو تحول بعض هذه المراكز العلمية، بأسمائها المبهرجة والكبيرة، إلى مجرد “مكاتب” وسكرتيرات وحواسيب لجمع الغبار. بل أن بعض المراكز التي تعد نفسها أكثر نشاطاً هي تلك التي “تتوج” عملها العلمي بإصدار مجلة أو دورية متخصصة فصلية أو شهرية أحياناً من أجل أن تقدمها للجهة الراعية أو الممولة كتوكيد على نشاط المركز الذي يشبه نشاط وحيوية عمل النحل في بناء خلاياه. ولكن رصد المؤلفات والأبحاث المنشورة في مثل هذه الدوريات يبرهن على أن المركز لا يؤدي ماهو متوجب عليه من دراسات وأبحاث لأنه يستعين بأقلام باحثين من خارج المركز، من هؤلاء الذين يريدون نشر أبحاثهم في أي إناء علمي معتمد أكاديمياً. مثل هذه المراكز كثير للغاية: فعلى الرغم من فوائد أنشطة النشر من هذا النوع، على سبيل  تشجيع حركة النشر العلمي، تبقى المراكز “ستائر” لإخفاء البطالة المقنعة بداخلها.
هذا هو ما يسحبنا تلقائياً إلى ضرورات التمييز بين مراكز البحث العلمي من ناحية، وبين دور النشر من الناحية الثانية. وهذا مأزق طالما أرّق القياديين الأكاديميين الجادين الذين كانوا يريدون للمراكز العلمية التي يؤسسونها أن تكون مراكز بحث علمي بحق (بباحثين جادين ومثابرين، وبمكتبات كبيرة، وبمشاريع علمية مخططة ومدروسة مركزياًُ، بأهداف رصينة ومفيدة)، وليس دوراً للنشر تبحث عمن يضنيه البحث عن الناشر كي تنشر كتابه أو بحثه ضمن سلسلة أوراق أو أبحاث يصدرها المركز، مقابل مكافآت مالية. ومن أجل المقارنة والمقاربة، على المطلع أن يلاحظ أن مراكز البحث الرفيعة في الجامعات والمؤسسات الغربية تخصص أموالاً طائلة وربما أسطورية من أجل إضطلاع باحثيها بدراسات عالية ودقيقة التخصص، ليس من أجل النشر بحد ذاته، بل من أجل تقديمها للراعي (حكومة أو مؤسسة خاصة) على نحو سري أو محدود التداول. بيد أن هذه الظاهرة قلما تحدث في العديد من الدول العربية، نظراً لتباين المنظور (منظور الجهة الراعية) وبسبب تدني المستوى العلمي والدافعية البحثية في حالات عديدة منظورة. بل أنني قد لاحظت، عبر تجارب وزيارات شخصية عديدة أن بعض مراكز البحوث والدراسات “الإستراتيجية”، أن هذه المراكز إنما هي في جوهرها مجرد يافطات للإعلان، لأنها لا تزيد عن مكتب مستأجر في بناية، زائداً موظف او موظفة مع شيء من المرطبات الساخنة شتاءً، والباردة صيفاً.
هنا تكمن المعضلة الجوهرية في ظاهرة “محاكاة” الغرب شكلياً، ولكن بدون محاولة تحقيق ذات النتائج المرجوة من عمليات تأسيس المراكز العلمية المتخصصة لدينا في الأقطار العربية. إن هذه المراكز الموجودة، أو المزمع إقامتها، حيث نتلقى دعوات الإسهام بها هذه الأيام، هي بحاجة ماسة إلى المراجعة الشديدة والدقيقة من قبل الجهات الراعية والعاملين بها أنفسهم على سبيل تفعيلها وإحالتها من مراكز لجمع شحوم الترهل والتكاسل، إلى مراكز مجدية ونابضة بالحياة ترقى بصانع القرار السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي إلى مستوى المرجو من العطاء.
© منبر الحرية، 30 دجنبر/كانون الأول2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20101

لا يمكن لمؤرخ الأفكار العربي/المسلم خاصة، أن يفلت من ملاحظة ظاهرة التصحر الحضري التي ألمت بالمراكز المدينية العربية منذ عصر فجر السلالات في بلاد مابين النهرين، ثم حاصرتها ومحقتها حتى العصر الحديث كي تقدم أغلب المدن العربية، مشرقية كانت أم مغربية، نفسها كقرى أو واحات متضخمة، فيزياوياً واجتماعيا.
لقد تواترت هذه الحال عبر الحقب التاريخية ومتغيراتها الكبرى نظراً لحقائق جوار المراكز المدينية في العالم العربي مع البوادي، أو على حافات الصحارى الكبرى القادرة على ابتلاع كل شيء عبر ربوعها الخالية، الأمر الذي يفسر طغيان “فيزياء البادية” الرملي المتصحر الجاف على هذه المدن، لاغياً المناطق والأنطقة الخضراء ودافناً بأتربته الصفراء الخانقة منابع المياه والرطوبة النادرة في الفيزياء المدينية الشرق أوسطية. إنها حال طوبوغرافية تستحق الملاحظة والرصد والدراسة على سبيل محاولة تفسير كنه سر هيمنة قيم البادية على أشباه الحواضر أو أنصاف المدن التي نفتخر بها أحياناً، تلك المراكز التي نستورد لها أعلى ناطحات السحاب، الجاهزة المسلفنة، كي تبدو شبيهة بمدن العالم الغربي العملاقة.
لقد حاولت الأقوام القديمة في بلاد الرافدين والشام والنيل التأسيس لحواضر تسودها قيم الحاضرة والتحضر أو قيم المجتمع المدني؛ وفعلاً نجحت بعض المحاولات حتى ظهرت في منطقتنا مراكز حضرية كوزموبوليتانية في العصور الغابرة، ومنها بابل وآشور والقدس (أورشليم حقبة ذاك) والإسكندرية وصور، من بين مدن عظيمة أخرى، منتفعة من مجاورة مصادر المياه غير المالحة على سبيل إقامة حواضر ومراكز إشعاع حضري وثقافي عظمى تنأى بنفسها عن الصحراء وسكانها على سبيل تقديم أنموذج مديني عملاق يستحق الدراسة وحتى المحاكاة.
وللمرء أن يلاحظ، في سياق كهذا، أن ظاهرة تصحر المدينة في هذا الإقليم قد تبلورت فيما بعد عبر عصر الفتوحات الإسلامية، إذ لاحظ الفاتحون الآتون من بطون البوادي لدحر جيوش الفرس على الفرات والروم على سهول ووديان بلاد الشام وحوالي دلتا النيل، لاحظوا أن عليهم أن يؤسسوا “معسكرات” (وليس مدن) يستقر فيها الفاتحون وعوائلهم على نحو عشوائي، بطريقة تجعلهم على حافات الصحارى حتى يمكن من هذه المراكز أو المعسكرات ممارسة عمليات الكر والفر أمام جيوش الإمبراطوريات القديمة. وهكذا ظهرت أولى المدن العربية على سواحل الفرات والنيل: متصحرة مقفرة، تحت اسم “الأمصار”: الكوفة ثم البصرة، والفسطاط ثم القيروان. حول هذه النوى (جمع نواة) أخذت المدن العربية الجديدة تتضخم وتتوسع. وفي الوقت الذي انتخب فيه الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) الكوفة عاصمة لدولة الخلافة الفتية، كانت تلك المدينة/المعسكر مقسمة على نحو أحياء أو مناطق بأسماء القبائل العربية التي قطنته،ا وكونت أو شكلت القوات الفاتحة التي جاءت إلى العراق وانتقت موقع الكوفة معسكراً ثم مدينة لها. وتنطبق ذات الحال على بقية الأمصار الرئيسية بين الكوفة والقيروان.
المهم في هذا السياق التاريخي هو أن هذه المدن الناشئة بقيت ضحية لفيزياء البادية الداهم الذي كان يغزوها من آن لآخر على نحو عواصف رملية خانقة أو موجات بدوية، أو أحياناً على نحو جراد صحراوي جائع لا يبقي ولا يذر. أما بقاء أو تواصل عنصر البادية داخل هذه المراكز الحضرية، فقد عبّر عن نفسه في خطط هذه المدن المقسمة حسب أسماء العشائر والقبائل: فهذا حي تميم، وذاك حي بنو أسد، أو جشعم أو طي، وهكذا.
لم تحاول أمصار العرب المسلمين القادمين من بطون البوادي نزع جلدها الصحراوي على سبيل محاكاة حواضر الرافدين والشام ومصر المتطورة القديمة، بل هي تمسكت بهذا الجلد ونأت بنفسها عما ظهر لسكانها وكأنه “ترف” أو نعومة أهل الكفر والشرك من بقايا الثقافات والتقاليد الدينية القديمة التي هزمها العرب على أرض العراق وبلاد الشام. لذا راحت المراكز المدنية العربية الجديدة تمد جسور الصلة والتواصل مع الصحراء وليس مع بساتين وحدائق الوديان الخصيبة الغنّاء، الأمر الذي قاد إلى سيادة قيم البادية في هذه المدن أو أشباه المدن، بديلاً عن قيم التمدن والاستقرار: وهكذا راح سكان هذه المدن يعرفون بانتساباتهم القبلية وألقابهم العشائرية، ليس فقط بحدود التعريف والهوية، وإنما كذلك بحدود السلوك وأنماطه الفردية والجماعية، حيث هيمنت وحتى الآن قيم البداوة على مدن وسط وجنوب العراق، مثلاً، بديلاً عن قيم المدينة الثقافية المتحضرة، الأمر الذي يفسر دوافع وإرهاصات التمسك بالممارسات البدوية العتيقة كالثأر والانتقام ونصرة أقرباء الدم (العصبية القبلية)، من بين سواها من الممارسات والقيم التي نهى الإسلام عن بعضها، ولكنها بقيت متواصلة تتحرك وتسري تحت “رادار الرقيب المسلم” القادم من المدينة.
قد تكون هذه مداخلة مهمة الآن بقدر تعلق الأمر بما نلاحظه من تشبث الإنسان المديني في المشرق العربي خاصة بقيم الصحراء وبأصولها البدوية التي قد تتناهى إلى “جاهلية” من النوع المخيف الذي يراد تجنبه والحذر منه اليوم.
ربما كانت هذه المداخلة مهمة كذلك من ناحية ضرورات ملاحظة أولي الأمر في الحكومات العربية عملية وأهمية التخطيط الحضري: مصادر المياه، الأنطقة والمساحات الخضراء التي تمنح الإنسان المديني ما يحتاج إليه من صفاء ورواق المدينة، تلك السجايا القابلة للترجمة على نحو علوم وفنون وإبداع، ومدارس وجامعات. كم من مخططينا الحضريين اليوم وضع نصب عينيه أو في أولوياته وجود مكتبة عامة، للنشء وللكبار؟ وكم من هؤلاء فكر بمدارس للموسيقى والباليه في خططه لمدننا القديمة والجديدة؟ هل نتذكر بناء مسارح ودور سينما كافية للأنشطة الاجتماعية في مجتمعات تقيم أعلى الجدران الفاصلة بين الجنسين.
هذه قضايا تستحق الملاحظة وأنشطة تبادل الرأي ما دامت مدننا تستجيب للتصحر والصحرنة، فيزيائياً واجتماعيا على نحو متواصل مخيف.
© منبر الحرية ، 7 ماي /أيار2010

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

تحتدم المناقشات والمجادلات هنا وهناك، عبر وسائل الإعلام في عالمنا العربي بخاصة، حول التقارير السنوية التي تصدر عن الأمم المتحدة بشأن التنمية البشرية في البلدان العربية. ثم ما تلبث هذه المناقشات وأن تدور دوراناً عجيباً لتستقر على نقاط ومحاور لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تقلب أو تغير الصورة القاتمة التي ترسمها التقارير المشار إليها. بل أن طبيعة الإستقبال العربي المثقف ونصف المثقف لهذه الخلاصات الأممية المشحونة بالدلالات والنذر المخيفة، بالنسبة لمستقبلنا ولمستقبل أجيالنا الصاعدة، تكرس ذات الإختلالات والإخفاقات التي تقدمها هذه التقارير على نحو رقمي لا مجال فيه للشكوك وللظنون، حتى لو تركنا هامشاً من نوع ما للمبالغات وللـ”تدخلات” الغربية في صياغتها. لذا لم تكن دعوة صديقي الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان لنشر هذه التقارير من أجل إطلاع العالم، العربي خاصة، على حقائقها “المريرة” دعوة “مشبوهة” كما يحلو للبعض أن يدّعي، ذلك أننا يجب أن نرى أنفسنا بالمرآة بغض النظر عن إرهاصات فريدمان أو دوافع جامعي البيانات ومحرري التقارير موضوع المناقشة.
لا مراء من أن مثل هذه التقارير تصدر عن أهم هيئة دولية معترف بها عالمياً ومعتمدة من قبل جميع الدول العربية كسلطة عالمية مستقلة ومحايدة، الأمر الذي يجعل خلاصاتها (حتى بإفتراض وجود “التشويه” المتعمد وليّ الحقائق المشبوه) صحيحة بنسبة عالية جداً ربما تتجاوز التسعين بالمائة. وهذه فرصة لنا في العالم العربي لكي نراجع الذات ونحتكم إلى النقد الذاتي الذي قد يكون قاسياً أحياناً، آخذين بنظر الإعتبار إخفاق أغلب الحكومات والمنظمات الإقليمية العربية في تجهيز مثل هذا التقرير لصانع القرار السياسي ولجمهور القرّاء الصغير نسبياً في عالمنا الذي هاجر القراءة والكتابة إلى إغتراب الفضائيات الرخيصة والأغاني والفنون المتدنية.
ربما لا تعرف كتل كبيرة من المواطنين في الدول العربية المتباعدة معنى “التنمية البشرية”، أو أنها تجهل أبعادها الإستراتيجية والإقتصادية والإجتماعية الحقيقية. ولكن ينبغي، على أقل تقدير، ملاحظة أن مفهوم التنمية البشرية يصب في فكرة إحالة الإنسان “الخام” إلى إنسان مثقف أو إلى إنسان يمتلك من المهارات ما يمكنه من أن يكون عضواً نافعاً مفيداً في المجتمع، بدلاً من أن يبقى “عالة” عليه، الأمر الذي يعرّض هذا الإنسان لمزالق الإنحراف والجريمة واللاجدوى وحتى إلى “البطالة المقنعة” المتفشية في الأقطار العربية التي يرنو فيها الناس لأن يكونوا مدراء ورؤساء مؤسسات جميعاً، إعتماداً على المستورد والوافد من أصحاب المهارات الصناعية والزراعية الأجانب، الأمر الذي يؤول إلى إستهلاك مبالغ مهولة من مدخولاتنا الإقتصادية الوطنية. لذا تشكل العمالة الوافدة، خاصة تلك المستقدمة من دول أجنبية، دالة واضحة المعالم على إخفاق أغلب أنظمتنا التعليمية والتربوية والمهنية والجامعية التي تتكاثر على نحو مدارس وكليات أنيقة كـ”الفطر” عبر مدننا وقرانا ولكن بلا جدوى، حيث تكون المعطيات أو المخرجات في أغلب الحالات نوعاً من “الأمية المقنّعة” التي تقدم لنا خريجين لا يقرأون ولا يكتبون. هذا ما يفسر إنحسار حركة التأليف والإبداع وضآلة أعداد ونوعية المطبوع والمقروء والمكتوب بأيدٍ عربية. أما إذا أراد المرء أن يتساءل عن “تسويق” المنتج الثقافي العربي إلى القاريء العالمي، فإن هذا نوع من الأحلام الوردية التي قد لا تتحقق قط، بإستثناء ثلاث أو أربع حالات شهدت قبولاً دولياً لكتّاب عرب هم من بقايا الأنظمة التربوية القديمة التي يحلو للبعض الإشارة إليها بتعبير الـ”رجعية”. ويبدو أن الخلل الأخطر الذي تعاني منه العديد من الدول العربية لا يتمثل فقط في أن الجميع يريدون أن يكونوا مدراءً وقادة إداريين، بل يتمثل كذلك في غياب مؤسسات التعليم المهني ومؤسسات المعاهد الفنية التقنية التي تصنع الفئة أو الحلقة الوسطية في بنية الإنتاج الصناعي والزراعي والتجاري، الأمر الذي يفسر فتح الأبواب واسعة لإستقدام المهارات الأجنبية، من الفنيين الجيدين إلى المربيات الجاهلات. إن مشكلة أنظمتنا التعليمية والتربوية والمعرفية تتبلور في أن الحكومات العربية لا تدخر جهداً ولا تمنع الأموال عن بناء المدارس وتأسيس الجامعات، مهتمة بـ”الكم” بدلاً من “النوع”، حيث يغرم القياديون التربويون والجامعيون بعملية تقديم أرقام أعداد الخريجين من هذه المدارس والجامعات إلى ولاة الأمر الذين يطلعون عليها ويسعدون بها نظراً لتزايد هذه الأعداد ومضاعفتها. ولكن أن يسأل المرء عن مستوى هؤلاء الخريجين وهل يمكن أن يقارنوا حرفياً بأقرانهم من خريجي المدارس والجامعات في اليابان أو ألمانيا، فهذه قضية أخرى تثير القلق وكوامن الحذر. هنا يكمن مأزق الجامعة أو المؤسسة الأكاديمية العربية التي تُخرّج أطباء لا يعرفون سوى الأسبرين ومهندسين بلا مهارات عملية وخريجي لغات أجنبية لا يقرأون سوى العربية، كما يحدث في العديد من الجامعات والمدارس !
لذا كانت النتائج مأساوية بحق: فقد تحولت العديد من مجتمعاتنا المزركشة بالشهادات والدرجات العلمية الأولية والعليا إلى مجتمعات إستهلاكية بدلاً من أن تكون مجتمعات إنتاجية، حسب معايير أعداد الكليات والمدارس التي تفتحها الحكومات العربية حتى في القرى النائية. وبدلاً من أن ينتج حملة الشهادات الأولية والعليا الكتب التي تخاطب الجمهور وتصنع الثقافة، لم نزل نعاني من “عقدة الخواجة” في جميع حقول الثقافة المحلية، بعد أن كانت الثقافة العربية الإسلامية هي منبع الثقافات العالمية في القرون الوسطى، عبر العصر العباسي خاصة. حتى في حقول الموسيقى والغناء والفنون العادية التي تغزو عقول أبناءنا وبناتنا من النشء والشبيبة، يبقى الإنتاج نمطاً ضعيفاً من محاكاة الفنون الرخيصة الموجودة في دول العالم الأخرى. لقد سدت السبل أمامنا، وأغلقت الأقدار أبواب الإبداع والإبتكار بدرجة تثير المخاوف والقلق: المخاوف من تواصل الإندفاع إلى الإستهلاك، والقلق من مستقبل خال من الإيحاء ومن المبادرة الحضارية والثقافية.
لماذا، إذاً، يميل بعض المعلقين العرب لأن ينحي باللائمة على الدول الغربية وعلى إسرائيل لتبرير تردي معطيات التنمية البشرية العربية. إن تقارير الأمم المتحدة أعلاه تقدم لنا مرآة لرؤية الذات ولمراجعة كل ما يشوب وجهنا من كلف وبثور يعكس ما نعاني منه في دواخلنا من أمراض إجتماعية وتردي ثقافي. ولكن رؤية الحقيقة المؤلمة عبر المرآة تذكرنا بشاعرنا العربي الكبير الحطيئة الذي لم ينجُ أحد من هجائه اللاذع، حتى إذا ما رأى صورة وجهه معكوسة عبر سطح الماء في بركة، هجا نفسه ولعن صورته بأقبح الأوصاف. إن إحالة مشاكلنا التربوية والتنموية إلى “الآخر” هي أسهل وأسرع الطرق للتملص من المسؤولية التاريخية: فهل منعت الإدارة الأميركية حكومة عربية من أن تفتح جامعة أو كلية رصينة، أم أن إسرائيل فجرت الثانويات والإعداديات المهنية التي تخلق أجيالاً من المهنيين والحلقات الوسطية المهمة في العملية الصناعية ؟ هذا كلام مردود، ذلك أن الدول العربية تمتلك من الموارد والقدرات الطبيعية الخام ما يجعلها قادرة على مواكبة العديد من دول العالم المتسابقة اليوم في مضمار التنمية البشرية. الخلل ليس في “الآخر” ( الضحية دائماً) وإنما الخلل يقبع في قصر النظر وفي الميل إلى تقديم الأرقام لولاة الأمر، بدلاً عن تقديم الحقائق ومستويات التعليم والتربية كما هي وكما ينبغي أن تكون.
© منبر الحرية، 26 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic1 نوفمبر، 2010

كاتب وباحث أكاديمي عراقي. ولـد في الأعظميـة، بغـداد، عام 1955. متزوج وله ولدان. حاز على البكالوريوس في اللغة الإنكليزية وأدبها من كليـة الآداب في جامعـة بغداد، 1978، والماجستير في الأدب الإنكليزي، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1983. ثم أكمل الدكتوراه في الأدب الإنكليزي (الاستشراق) من المعهد المركزي للغـة الإنكليزية واللغات الأجنبية، الهنـد، 1993. من مؤلفاته: خمسة كتب (بالعربية) وكتاب (بالإنكليزية، نيويورك)، إضافة على عشرات الأبحاث المحكمة (بالعربية والإنكليزية) في مجلات عالمية وعربية معتمدة، إضافة إلى المساهمة الأسبوعية في الصحف المحلية والعربية.


فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018