لا يعرف المرء إذا ما كانت العودة إلى تقارير الأمم المتحدة المعنونة “الوضع الإجتماعي في دول العالم” الصادرة كل سنة يمكن أن توضع إلى جانب مؤتمرات “الأغنياء” العشرين. وبغض النظر عن المدلولات والمعاني العميقة لهذا الجمع بين نقيضين فإن للمرء أن يلاحظ تقارير الأمم المتحدة وما تنطوي عليه من صورة سوداوية قاتمة للوضع الإقتصادي الدولي الآن، خاصة بقدر تعلق الأمر بالإتساع السريع والمرعب للفجوة بين الدول الغنية والفقيرة. ربما تعكس هذه التقارير خلاصات تدق ناقوس الخطر من حدوث “ثورة” كونية للفقراء (الذين يزدادون فقراً) ضد الأغنياء الذين يضاعفون ثرواتهم ويمثلون أقلية تحتكر الثروات والقوة ومصادرهما عبر العالم. ليس المقصود بالثورة، في هذا السياق، هو أن يحدث هجوم من قبل الفقراء على “روما”، كما فعلت القبائل الجرمانية القوطية عندما هدت روما، المدينة والإمبراطورية، وإنما المقصود هنا حدوث عدد مهول من التغيرات والأزمات والتفاعلات التي تعكس لا عدالة توزيع الثروة في العالم، كما كانت عليه الحال بلا عدالة توزيع الشعر بين لحية برناردشو ورأسه، حيث تجسدت “الكثافة” في الإنتاج واللاعدالة في التوزيع !
بيد أن المشهد العالمي اليوم يزداد تحذيراً لما يطويه مرجل السنوات الجارية الذي يعتمل بتعابير الخوف من الفقر والفقراء، ذلك الخوف الذي ما إنفك يقض مضاجع الأغنياء عبر الأزمات والتفاعلات ونذر المجهول منذ أن إجتاح الجياع الباستيل الباريسي. إن من يتابع شيئاً من معطيات مؤتمر الدول الغنية المذكور أعلاه، لابد وأن يلاحظ أن الإجراءات والقرارات التي إتخذتها هذه الدول لم ترق إلى المستوى المطلوب أو المتوقع على سبيل مد يد العون لإنتشال الدول الفقيرة مما يحيق بها من مخاطر من النوع الذي لا يمكن إحتوائه بداخل حدودها، ذلك أن الفقر يترجم نفسه بلغة عابرة للحدود وعابرة للقارات، كما هي عليه الحال في إنتشاء وإنتشار فايروس نقص المناعة المكتسب المنتشر على نحو شبه وبائي في القارة السوداء، وهو مرض فتاك لا يمكن لمجتمع أن ينجو منه أو أن يعالجه ويشفي المبتلين به مهما كانت درجة تقدم ذلك المجتمع. والدليل يتمثل في معاناة أعداد لا بأس بها من المواطنين في أكثر دول العالم ثراء وتقدماً علمياً. وتنطبق ذات الحال على الأمراض الوبائية الصديقة للفقر من نوع إنفلونزا الطيور والملاريا والهيضة والجدري والسل وسواها كثير.
وإذا كانت الأمراض والأوبئة تمثل خطراً لا يستثني أحداً مهما ثقل جيبه وكبرت خزائنه، فإن هناك أمراضاً أخرى تطفو على جلد البشرية كبثور تنذر بالكثير من المخاطر المعتملة في دواخل الكينونة البشرية، مهددة المجتمعات الغنية بنفس درجة تهديدها للمجتمعات الفقيرة. هذه أمراض إجتماعية وسياسية وإقتصادية متشعبة وشائكة يصعب إجتثاثها أو القضاء عليها قضاء مبرماً. لاحظ أن مزارع الأفيون تكثر وتنتشر في الدول الفقيرة، بينما يكثر مستهلكوه وينتشرون في الدول الغنية. ويرد سبب ذلك إلى أن الفقراء يبحثون بكل الوسائل والطرائق المبتكرة عما ينقذهم من فكي الحاجة والفاقة، الأمر الذي يبرر لهم زراعة وتجارة مثل هذه المواد المخدرة والفتاكة التي تلقي بضلالها على المجتمعات المتخمة التي هي بدرجة من إستنفاد وسائل اللهو والتسلية والمتعة إنها راحت تبحث عن الغريب والممنوع والمحرم من أجل تجربة المزيد من النشوة والإنتشاء عبر المخدرات والمحرمات. وإذا كان التهريب واحداً من أهم إفرازات ثورة الفقراء التي اشرت إليها أعلاه، فإن آفته المتعددة الرؤوس لا تكتفي بتمرير المخدرات عبر الحدود إلى الأغنياء، وإنما هي تزيد في قائمة موادها وسلعها لتشمل الرقيق الأبيض والأصفر والأسود لإشباع شره الملذات في الدول الغنية، زد على ذلك سلعها الأخرى التي تحطم البيئة عبر الكرة الأرضية، والبيئة ثروة كونية مشتركة لأن ما يضر بها في أفريقيا أو آسيا لا يمكن إلاّ أن يترك آثاره الكونية على أوربا وأميركا الشمالية. وتنطبق ذات الحال على الحروب التي تدخلها الدول الفقيرة بإنفعالية وتسارع، وكأنها تحاول من خلالها التخفيف عن أعبائها السكانية ! لذا كانت الحروب البينية والحروب الأهلية من ظواهر ومعطيات الفقراء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عندما لقن الرايخ الثالث العالم الغربي درساً لن ينساه في معنى وثمن الحرب وخطورة آثارها.
إن الأسباب الخفية للحروب، وليس السباب المباشرة، تكمن فيما تعاني منه الدول الفقيرة من نكوص في المستوى التعليمي والثقافي وفي إنتشار الفساد والترهل الإداري والمالي وفي التبذير والهدر الآتي من سيادة الحكومات غير الرشيدة والدكتاتورية والشمولية، تلك الحكومات التي تبني صروح أمجادها بالبلاغيات الملفقة وبتبديد الأموال وبالطائرات الخاصة وبالصروح العمرانية الكبيرة في الوقت الذي تعاني فيه مجتمعاتها من أزمات سكن خانقة تجعل الأسر المتعددة تشترك في غرفة واحدة أو في بيت واحد مبني من الصفائح. هذا ما يبرر ويفسر إنتشار الفساد الإجتماعي وظواهر الإتصال الجنسي بالمحرمات وبيع الإنسان نفسه أو أعضائه لتهريبها إلى الإغنياء الذين غالباً ما يعانون من الترهل وعجز الأعضاء الجسمانية.
إن اي رصد، مهما كان عاجلاً، للطرائق التي تقدمها الدول الغنية لمساعدة الدول الفقيرة لن يخفق في تذكير المطلعين على الفجوة بين الفقراء والأغنياء إبان عصر الثورة الصناعية في بريطانيا. فالدول الغنية تتمسك بنفس مواقف كتّاب وروائيي بريطانيا العصر الفكتوري، حيث كان هؤلاء يلتزمون بدور المرآة التي تعكس معاناة وآثار الفقر، ولكن هؤلاء الكتّاب الرومانسيون، في ذات الوقت، كانوا يحذرون من خطر الفقراء الكامن، خاصة تحت شبح الثورة الفرنسية الذي كان قوياً آنذاك. لقد كان مفكرو تلك الحقبة الصناعية الأولى يتعاطفون مع الفقراء ويعكسون معاناتهم، ولكنهم كانوا يعجزون عن تقديم حلول لمآسيهم، فلا يقترحون سياسات حقيقية وعملية للقضاء على مسببات الجوع والعوز. لذا كانت كتاباتهم غالباً ما تنتهي إلى نوع من “الإصلاح” أو التسوية العاطفية، حيث تنتهي الرواية إلى زواج البطل الغني من البطلة الفقيرة. كانت هذه النقطة هي واحدة من أهم أدوات النقد الذي تلقته كتابات كبار الروائيين من نوع ديكنز ودزرائيلي والسيدة غاسكل وسواهم.
إن حكومات الدول الغنية تعرف جيداً أن الفقر لا يمكن أن يُزال من الدول الأفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية عن طريق تقديم الهبات والقروض وحذف السابق منها. فهي تدرك أن مثل هذه الهبات والحذوفات والقروض الجديدة لا يمكن أن تملأ “قربة مثقوبة” تتمثل بالحكومات اللامسؤولة وبالأنظمة التي ينخرها الفساد المالي والإداري. وبنفس القدر من الوعي، يدرك زعماء الدول الغنية أن القضاء على الفقر له أدوات ووسائل وحلول جذرية تتمثل في بناء قاعدة صحية وتربوية وسياسية موائمة ومستقيمة يمكن من خلالها، وعبر عقود من الزمن، أن تشفى المجتمعات الفقيرة من أمراضهاالمستعصية والمستوطنة العضال. بيد أن الدول الغنية لا تريد أن تقود الدول الفقيرة نحو نموذجي الهند والصين، حيث تمكنت هاتين الدولتين من لجم الفقر وبتر إفرازاته كي تدخلا معترك التنافس والتقدم الإقتصادي درجة إغراق الأسواق الأوربية والأميركية بالمنتوجات الصينية والهندية.
حسب هذا المنظور، يمكن للمرء أن يخلص إلى أن حكومات الدول الغنية تبدو غير جادة في إنتشال الدول الفقيرة من بين فكي الفقر. وسبب ذلك يرد إلى أن أقلية الأغنياء الذين يمتلكون السطوة والقوة الإقتصادية والعسكرية لا يمكن أن يسمحوا بظهور منافسين جدد من الدول الفقيرة التي تتجاوز كبواتها. إن إحتكار القوة من قبل أقلية الأغنياء لا يمكن أن يسمح لهم بغير الإستعراضات الدعائية (كالمؤتمرات والأضواء) المنطوية على المشاعر الإنسانية والنزعات الخيرية، لأنهم لا يريدون أن يروا منافسين وأنداد جدد إلى جانيهم. لذا تبقى مبادرات الدول الغنية جبيسة “الإصلاحات المحدودة”، من نوع الدبون وإطفاء الديون والمساعدات العينية والمالية والهدايا لأطفال الدول الفقيرة. بيد أن لحكومات الدول الغنية أن تدرك جيداً إن هذه السياسة تشكل سلاحاً ذا حدين، إذ أن تفاقم مشاكل الفقر، كالجهل والأمراض والتهريب، لا يمكن أن يبقى بمنأى عن المجتمعات المتقدمة إقتصادياً. فإذا كانت الأمراض الفتاكة ومشاكل الإرهاب قد أخذت طريقها عبر الحدود إلى الدول الغنية، فإن ما نلاحظه اليوم من ظاهرة تهريب العشرات والمئات من الأفراد من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية ينذر الأخيرة بنقل الأمراض الناتجة عن الفقر إلى مجتمعاتهم. وإذا كانت هناك سفينة أو باخرة هنا وهناك يمكن الإمساك بها من قبل شرطة الحدود وحرس الشواطيء في الدول الغنية، فإن هذه الظاهرة ستتفاقم مع تفاقم وتعاظم مشكلات الفقر عبر السنوات القادمة. وهكذا سيظهر نوع جديد من القبائل الجرمانية القوطية البربرية التي أطاحت بروما الغنية في الماضي، ولكن هذه المرة ستكون قبائل الفقراء من نوع جديد يهدد العواصم والحضارات الغنية القائمة.
© منبر الحرية، 19 يوليو/تموز 2009