وليم إيسترلي

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

إنني أسوق السيارة خارج أديس أبابا، إثيوبيا، متوجهاً إلى الريف. صفوف لا نهاية لها من النساء والبنات يمشين في اتجاه معاكس نحو المدينة. أعمارهن تتراوح بين 9 إلى 59 عاماً. كل واحدة منهن محنية إلى حوالي الضعف، تحت وطأة حمولة من الحطب. الحِملُ الثقيل يدفع بهن إلى الأمام كأنهن يمشين خبباً. أفكر في عبيد يسيرهنَّ دفعاً من قِبل مُشرف على العبيد لا يُرى. إنهن يحملن الحطب من أميال بعيدة خارج أديس أبابا، حيث تتواجد أحراج شجر الكليبتس، على امتداد الأراضي الجرداء المجردة التي تحيط بالمدينة. إنهن يجلبن الحطب إلى سوق المدينة المركزي لبيع الحمل مقابل دولارين. هذه هي نهاية دخل كل منهن لذلك اليوم، ذلك أن نقل الحطب إلى أديس أبابا والعودة مشياً يستغرق يوماً كاملاً.
وقد وجدت في وقت لاحق أنَّ الـ بي. بي. سي. البريطانية للأخبار قد أذاعت قصة حول إحدى الحاطبات. أماريتش، عمرها 10 سنوات استيقظت في الساعة الثالثة فجراً لجمع عروف وأوراق الكليبتس، ثم شرعت في مشيتها الطويلة والمؤلمة نحو المدينة. أماريتش، الذي يعني اسمها “الجميلة”، هي أصغر أطفال العائلة الأربعة في العائلة. وقد قالت: “لا أود أن أحمل الحطب طوال حياتي. ولكن في هذه اللحظة، ليس لدي أي خيار لأننا على هذه الدرجة الكبيرة من الفقر. جميعنا نحن الأطفال نحمل الحطب لمساعدة أبَنا وأُمنا على شراء الطعام لنا. إنني أُفضل لو كنت قادرة على الذهاب إلى المدرسة، وأن لا أقلق حول كيفية جمع النقود.”
المأساتان

أدلى وزير المالية البريطانية جوردن براون مؤخراً بخطاب عاطفي حول مأساة الفقر المدقع الذي يعاني منه بلايين البشر، بما في ذلك ملايين الأطفال الذين يموتون من أمراض يمكن تجنبها بسهولة. وقد دعا إلى مضاعفة المساعدات الخارجية، برنامج مارشال لفقراء العالم. وقد أعطى الأمل بتوضيحه لسهولة كيفية عمل الخير. الدواء الذي يحول دون نصف الوفيات الناجمة عن الملاريا يبلغ سعره 12 سنتاً فقط للجرعة. ناموسية سرير تحول دون أن يصاب الطفل بالملاريا ثمنها أربعة دولارات فقط. الحيلولة دون وفاة 5 ملايين طفل على امتداد السنوات العشر القادمة يُكلَّف مجرد 3 دولارات لكل أم جديدة. برنامج لإدخال أماريتش للمدرسة يكلف القليل.
ولكن جوردن براون كان صامتاً حول المأساة الأخرى لفقراء العالم. إن هذه المأساة تتمثل في أن الغرب قد سبق وأنفق 2.3 تريليون دولاراً على المساعدات الخارجية، على امتداد العقود الخمسة الماضية، ومع ذلك فقد فشل في إعطاء الأدوية ذات سعر 12 سنتاً للأطفال لمنع أكثر من نصف وفيات الملاريا. لقد صرف الغرب 2.3 تريليون دولاراً، ومع ذلك لم يستطع توفير شبكات ناموس للعائلات الفقيرة. أنفق الغرب 2.3 تريليون دولاراً، ومع ذلك لم يوفر 3 دولارات لكل أم جديدة للحيلولة دون وفاة 5 ملايين طفل. أنفق الغرب 2.3 تريليون دولاراً، وما زالت أماريتش تحمل الحطب. إنها لمأساة أن يكون ذلك الكم الكبير من الرحمة والتعاطف لم يجلب تلك النتائج للعائلات المحتاجة.
جهود الغرب لمساعدة الآخرين كانت حتى أقل نجاحاً في تحقيق أهداف مثل تسريع النمو الاقتصادي، تغييرات في سياسات الحكومات الاقتصادية لتحفيز الأسواق، أو دعم قيام حكومات أمينة وديمقراطية. والدلائل على ذلك صارخة: 568 بليون دولاراً أنفقت على المساعدات لإفريقيا، ومع ذلك فإن البلد الأفريقي في المتوسط ليس أكثر رخاءً مما كان عليه قبل أربعين عاماً. عشرات من قروض “التصحيحات الهيكلية” (وهي مساعدات قروض مرتبطة بشروط الإصلاح) قُدِّمت لإفريقيا، والاتحاد السوفييتي السابق، وأمريكا اللاتينية ليتبين بعدها فشل سياسة الإصلاح والنمو الاقتصادي سواء بسواء. الدلائل تشير إلى أن المساعدات تؤدي إلى حكومات أقل ديمقراطية وأقل أمانة، لا أكثر. ومع ذلك، ومع عدم استفادتنا من هذه التجربة، ما زلنا نرى سخافات من أمثال المخططات عالية الطموح التي وضعها جفري ساكس والأمم المتحدة لتنفيذ 449 تدخلاً منفصلاً لتحقيق 54 هدفاً منفصلاً بحلول سنة 2015 (أهداف التنمية الألفية)، يصاحبها توسلات عاجلة لمضاعفة المساعدات المالية.
التنمية الاقتصادية تحصل، ليس من خلال المساعدات، ولكن من خلال الجهود الوطنية المحلية لرجال الأعمال وللمصلحين الاقتصاديين والسياسيين. وبينما كان الغرب يعصر تفكيره بشأن بضع عشرات بليون دولاراً للمساعدات، رفع مواطنو الهند والصين دخولهم بمقدار 715 بليون دولاراً نتيجة جهودهم الذاتية في اقتصاديات السوق. وعندما تدرك وكالات التنمية بأن المساعدات لا تستطيع تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية العامة، فإنها تبدأ في التركيز على إصلاح نظام فشل في توفير أدوية ثمنها 12 سنتاً لضحايا الملاريا.
الإستجابة والمساءلة
العنصران الرئيسيان الضروريان لإنجاح المساعدات، والذي كان غيابهما قاتلاً في إفشال فاعلية المساعدات في الماضي، هما الاستجابة في معرفة التقبل أو الرفض، والمساءلة. ضروريات الأغنياء تُلبّى من خلال الاستجابة والمساءلة. المستهلكون يقولون للشركة الصانعة “هذا المنتج جدير بسعره”، عن طريق شراء السلعة، أو يقررون بأن السلعة المذكورة لا قيمة لها ويعيدونها إلى المخزن. أصحاب حق التصويت يقولون لممثليهم المنتخبين بأن “هذه الخدمات العامة سيئة،” ويحاول السياسيون إصلاح المشكلة.
بطبيعة الحال، الاستجابة أو عدمها يكون لها مفعولها إذا كان هنالك من يسمع. الشركات التي تسعى لتحقيق الربح تنتج سلعة ترى أن عليها طلب كبير؛ ولكنها تتحمل المسؤولية إزاء السلعة المنتجة—إذا أدت السلعة إلى تسميم إنسان ما فإنها تصبح تحت المساءلة، أو على الأقل، فإنها تخرج من السوق. الممثلون المنتخبون يتحملون المسؤولية لنوعية الخدمة العامة. فإذا حدث خطأ ما، فإنهم يدفعون ثمناً سياسياً، ربما بخسارة مركزهم. وإذا كانت الخدمة ناجحة، فإنهم يحصدون الثمن سياسياً.
وكالات التنمية يمكن إخضاعها للمساءلة لمهام محددة، بدلاً من الحوافز الضعيفة التي تتأتى عن المسؤولية المشتركة لجميع تلك الوكالات والحكومات التي تتلقى المساعدات بالنسبة لتلك الأهداف العريضة، والتي تعتمد على عوامل كثيرة بجانب جهود وكالة التنمية. أمثلة على الأخير تشمل أهدافاً لا يمكن تحديدها أو المساءلة بشأنها، مثل الحملة الرائجة لتحقيق أهداف التنمية الألفية للأمم المتحدة، أو أهداف التنمية الاقتصادية الطموحة، وإصلاح الحكومات، والديمقراطية للبلدان الفقيرة التي ذكرت أعلاه. فإذا كانت البيروقراطية تشترك في المسؤولية مع وكالات أخرى لتحقيق أهداف عامة مختلفة كثيرة، والتي تعتمد بدورها على اعتبارات كثيرة، فإنها لا تكون مسؤولة أمام المستفيدين المستهدفين—أي الفقراء. لا يوجد موظف تنمية مسؤول شخصياً عن إنجاح أية مهمة في نظام المساعدات القائم. وفي غياب المساءلة، فإن الحافز لاكتشاف ما هو فعال يظل ضعيفاً. المساءلة الحقيقية تعني أن تتحمل وكالة التنمية المسؤولية عن مهمة محددة يمكن مراقبة تنفيذها لمساعدة الفقراء، وهذا بدوره يعتمد اعتماداً تاماً تقريباً على أداء الوكالة. عندها، فإن تقييماً مستقلاً حول أداء الوكالة للمهمة الملقاة على عاتقها سوف يخلق حافزاً قوياً لحسن الأداء.
ومع أن التقييم قد تم على المساعدات الخارجية منذ زمن طويل، فإنه كثيراً ما يكون تقييماً ذاتياً، مستخدماً تقارير من الأشخاص ذاتهم الذين يتولون تنفيذ المشروع. إن تلامذتي في جامعة نيويورك لن يدرسوا دراسة شاقة جداً إذا أعطيتهم الحق في إعطاء علاماتهم لأنفسهم.
البنك الدولي يحاول بعض الشيء تحقيق استقلال لدائرة تقييم عملياته، والتي تقدم تقاريرها مباشرة إلى مجلس إدارة البنك، وليس إلى رئيس البنك. ولكن موظفي البنك يتنقلون ذهاباً وإياباً بين دائرة التقييم وبقية أقسام البنك—وتقييم سلبي من شأنه أن يضر بسجلهم الوظيفي. إن تقييم دائرة التقييم نظري وليس موضوعي، والوسائل غير الواضحة تؤدي إلى تقييمات غير مترابطة، مثل ذلك التقييم الذي يصف الوضع في مالي:
“يتوجب أن نسأل كيف يمكن للنتائج التي في معظمها إيجابية أن تتلاءم مع نتائج التنمية الضعيفة والتي لوحظت فيما يتعلق بالفترة ذاتها (1985-1995)، وآراء السكان المحليين السلبية تجاهها.”
وحتى عندما تشير التقييمات الداخلية إلى الفشل، فهل تحمّلُ وكالات التنمية أي إنسان المسؤولية عن ذلك، أو تفضي إلى أي تغيير في ممارسات الوكالة العملية؟ من الصعب العثور على ذلك من مراجعة صفحة تقييم البنك الدولي على الإنترنت. لقد أوضحت دائرة التقييم في عام 2004 كيف أن ثماني “تقييمات مؤثرة” أثَّرت على ممارسات المقترضين في 32 طريقة مختلفة، ولكنها لم تذكر سوى حالتين أثرتا على السلوك داخل البنك الدولي نفسه (أحدهما أدّى إلى الأسوأ).
التقدم إلى الأمام
التقدم إلى الأمام محفوف بالمصاعب السياسية—تقييم علمي مستقل حقاً لجهود مساعدات محددة. ليس تقييمات كاسحة لبرنامج تطوير شامل على امتداد الأمة، بل تقييماً محدداً ومتواصلاً لأعمال تستطيع وكالات التنمية الاستفادة منها. الضغط السياسي الخارجي على وكالات التنمية هو وحده القادر على خلق الدوافع لإجراء تلك التقييمات. وفي دراسة للتقييم أجراها البنك الدولي عام 2000، بدأت الدراسة بالاعتراف بأنه “رغم صرف بلايين الدولارات على مساعدات التنمية كل عام، فما زال لا يعرف سوى القليل عن الأثر الفعلي لتلك المشروعات على الفقراء.”
الحل واضح بقدر ما هو مكروه—إقامة مجموعة مستقلة حقاً من ذوي الاختصاص في التقييم، والذين لا يعانون من تضارب المصالح مع البنك الدولي أو غيره من البنوك العالمية متعددة الجنسيات. بطبيعة الحال، لا بد من أن يكون هنالك دوافع لعمل شيء في ضوء النتائج—تخصيص الأموال لبنوك التنمية متعددة الجنسيات، زيادةً أو تخفيضاً في ضوء سجلها في العمل كما يصنفه المُقَيِّمون المستقلون. كما يتوجب الإشادة ببنوك التنمية الدولية إذا ما أوقفت تمويل مشاريع فاشلة، أو إصلاحها إذا كانت قابلة للإصلاح. كما يتوجب عقاب الفشل في اتخاذ إجراءات تصحيحية للمشروعات الفاشلة.
النجاح من خلال التقييم
في عام 1997، قدم مساعد وزير المالية المكسيكي، سانتياجو ليفي، وهو اقتصادي مرموق، برنامجاً مبتكراً لتمكين الفقراء من مساعدة أنفسهم. وقد نص البرنامج الذي حمل اسم بروجريساعلى تقديم منح نقدية للأمهات إذا أبقين أطفالهن في المدارس، واشتركن في برامج التعليم الصحي، وجلبن الأطفال إلى المراكز الصحية لتناول الأغذية الإضافية والرضوخ للفحوصات الدورية. وحيث أن موازنة المكسيك الفيدرالية لم تكن لديها المال الكافي للوصول إلى كل مواطن، فقد منح ليفي الأموال الشحيحة المتاحة بطريقة تضمن التمكن من إخضاعها للتقييم العلمي. وقد اختار البرنامج مائتين وثلاث وخمسين قرية بطريق القرعة لتلقي المساعدة، مع اختيار مائتين وثلاث وخمسين قرية أخرى (لم تعطى لها المساعدات) لإجراء عملية مقارنة. وقد تم جمع المعلومات عن جميع القرى الـ506، قبل وبعد الشروع في تنفيذ البرنامج. وقد منحت حكومة المكسيك مهمة تقييم البرنامج إلى المؤسسة الدولية لأبحاث سياسة الأغذية، والتي أجرت دراسات أكاديمية لنتائج البرنامج.
وقد أيدت الدراسة الأكاديمية فاعلية البرنامج. فقد تبين بأن الأطفال الذين تلقوا برنامج بروجريسا قد قلت إصابتهم بالمرض بنسبة 23%، وزاد طولهم بمقدار 1-4%، وانخفض فقر الدم لديهم بنسبة 18%. وقل عدد أيام التعرض للمرض لدى الشباب بنسبة 19%. وقد تحققت زيادة 3.4% في الالتحاق لجميع الطلاب في صفوف الأول إلى الثامن؛ وكانت الزيادة أكثر من غيرها بين البنات اللواتي أتممن الصف السادس، وبنسبة 14.8%.
وفي المسار نفسه، لاحظ الناس في قرية صغيرة اسمها بونافيستا أن البرنامج قد أحدث تغييراً. قالت أمٌ إنها تستطيع أن تطعم أطفالها اللحمة مرتين في الأسبوع، تدعيماً لأكل التورتلا، وذلك بفضل المساعدة التي تلقتها من برنامج بروجريسا. ولاحظ أستاذ اسمه ساندياجو دياز بأن الدوام في المدرسة التي تضم غرفتين قد ارتفع. وأضاف إلى ذلك قائلاً: “إنه بسبب التغذية الأفضل أصبح الأطفال أكثر قدرة على التركيز لمدد أطول. ولمعرفتهم بأن الفوائد التي تحصل عليها والدتهم تعتمد على وجودهم في المدرسة، فقد أبدى الأطفال رغبة أكبر في التعلم.”
وحيث أن البرنامج قد حقق نجاحاً واضحاً وموثقاً، فقد استمر العمل به على الرغم من رفض الناخبين للحزب الحاكم على مدى زمن طويل في ثورة المكسيك الديمقراطية عام 2000. وبحلول ذلك التاريخ، كان برنامج بروجريسا يصل إلى 15% من عائلات المكسيك، وبلغت موازنته 800 مليون دولار. وقد توسعت الحكومة الجديدة في تطبيقه بحيث أصبح يشمل الفقراء في المدن. وقد بدأ تنفيذ برامج مماثلة في البلدان المجاورة، بدعم من البنك الدولي.
الدرس الذي يمكن أن يتعلمه دعاة إصلاح المساعدات هو: الجمع بين حرية الاختيار والتقييم العلمي يمكن أن يبني التأييد لبرنامج مساعدات من خلال التوسع سريعاً في برامج ثبت نجاحها. إن النقد (المال) للتعليم وللتغذية يمكن التوسع به مع تعديلات محلية مناسبة، لعدد أكبر من البلدان، وعلى نطاق أوسع كثيراً مما هو عليه الآن. برنامج مثل هذا في إثيوبيا يمكن أن يُخلّص أماريتش وغيرها من الفتيات القاطنات في ضواحي أديس أبابا من عبودية حمل الحطب والالتحاق بالمدارس حيث يكتسبن المهارات التي تمكنهن من الخروج من دائرة الفقر.
هل جاء الوقت؟
لقد حان الوقت لوضع حد لمأساة فقراء العالم الثانية، والذي سوف يساعد على وضع حد للمأساة الأولى: أن يصبح في مقدور الفقراء وضع مراجعة لعاملين يخضعون للمساءلة، حول ما يعرفون وما الذي يريدونه أكثر من غيره، ويحتاجون إليه. إن الأحلام المثالية الكبيرة حول إنهاء الفقر في العالم مثل برنامج التنمية الألفية النابع من الأمم المتحدة لا يضع أحداً في موضع المساءلة. ألا نستطيع أن نضع العاملين في برامج العون في موقع المساءلة، حيث يقوموا بإيصال أدوية ثمنها 12 سنتاً للأطفال، للحيلولة دون وفاتهم بالملاريا، وتزويد شبكات منع الناموس لأسر الفقراء بكلفة 4 دولارات لمنع الملاريا، وإعطاء 3 دولارات لكل أم جديدة للحيلولة دون وفيات الولادة، وضمان دخول أماريتش إلى المدرسة؟
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 نيسان 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100
1. الجماعية الجديدة
كان ماركس محقاً على الأقل في مسألة واحدة: “التاريخ يعيد نفسه، مرة كمأساة، ومرة ثانية كمهزلة”. لقد أصبح القرن الحادي والعشرون نسخة هزلية من التهيؤات اليوتوبية الجماعية التي أدت إلى مثل تلك الكوارث التي وقعت في القرن العشرين. الجماعية الجديدة، لحسن الحظ، أقل اندفاعاً—أقل تطرفاً وأقل قوة وأقل جبرية—من الأيديولوجيات التي كانت سبباً في وقوع الكثير من المآسي في الكتلة الشيوعية في القرن العشرين. انهيار الشيوعية في أوروبا مع سقوط جدار برلين والنجاح الهائل لحركة الابتعاد عن التخطيط المركزي والتوجه نحو حرية السوق في أماكن أخرى مثل الصين وفيتنام اللتين بقيتا شيوعيتين (إضافة إلى فقر الدول غير المرتدة عن الشيوعية في كوبا وكوريا الشمالية)، كل ذلك أدى إلى نبذ الفكرة الشيوعية الداعية للتخطيط المركزي مرة واحدة وإلى الأبد. مع ذلك فإن الجماعية الهزلية الجديدة، وفي مفارقة تخلو من الظرافة بالنسبة للمستفيدين المقصودين بها، لا تزال حية في الأماكن الأقل قدرة على ممارستها—وهي الدول الأفقر في العالم التي تتلقى مساعدات أجنبية. بدلاً من جدار برلين لدينا اليوم “جدار مساعدات” يفترض أن الدول الفقيرة التي تقف خلفه ستتمكن من الخلاص من الفقر عن طريق خطة جماعية من الأعلى إلى الأسفل.[1] وبدلاً من إتاحة الفرصة للحرية الفردية لتحقيق الرخاء في الأسواق، وهو الأسلوب الناجح الذي سلكته الأمم الغنية الآن، يتعين على الشعوب الفقيرة جعل الخبراء الدوليين يبتكرون حلولاً جماعية لتعاساتهم.
جيفري ساكس و”نهاية الفقر”

أود، خشية من اتهامي بالمبالغة، أن تتأملوا في بعض أقوال أبرز دعاة الجماعية الجديدة للشعوب الفقيرة والناطق المتطرف باسمها وهو جيفري ساكس. فهو يقول في الصفحات الأولى من كتابه، نهاية الفقر، الصادر عام 2005:
“لقد تسنى لي أن أفهم تدريجياً، ومن خلال بحثي العلمي وعلى أساس العمل الاستشاري القوة العظيمة التي يملكها جيلنا بين يديه لوضع حد للمعاناة الهائلة لأولئك الأكثر فقراً… ورغم أن الكتب الأكاديمية التي تشكل المدخل إلى علم الاقتصاد تدعو إلى الفردية والأسواق الحرة فإن سلامتنا ورخاءنا يعتمدان، بنفس القدر على الأقل، على القرارات الجماعية لمكافحة المرض وتشجيع البحث العلمي الجيد والتعليم على نطاق واسع، وتوفير البنى التحتية الحيوية والعمل بصورة منسقة لمساعدة أشد الفقراء فقراً… العمل الجماعي الذي يتم من خلال إجراءات حكومية رشيدة في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية، إضافة للمساعدات الخارجية عند الحاجة، هو ما يشكل الأساس لاقتصاد ناجح” (ص 2-3).
يقول ساكس بأنه يتعين أن يكون لكل بلد فقير خمس خطط، مثل “خطة استثمار تبين حجم وزمن وتكلفة الاستثمارات المطلوبة”، و”خطة مالية لتمويل خطة الاستثمار بما في ذلك حسابات ثغرة تمويل أهداف التنمية الألفية والتي يتعين على المانحين تغطية جانب الاحتياجات المالية فيها” (ص 273). وسيتم دعم هذه الخطط بمساعدة من “المجتمع الدولي”:
“ينبغي أن يتوفر لكل بلد متدني الدخل فريق قطري فعال تابع للأمم المتحدة يقوم بتنسيق أعمال وكالات الأمم المتحدة المتخصصة في البلد الواحد، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ينبغي أن تسند قيادة فريق الأمم المتحدة في كل بلد إلى منسق مقيم للأمم المتحدة في ذلك البلد يكون مسؤولاً أمام برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة المسؤول بدوره أمام الأمين العام للأمم المتحدة” (ص 285).
يأخذ كل شيء وضعه المناسب في خطة عالمية كبيرة واحدة يديرها “الأمين العام للأمم المتحدة الذي يتعين عليه أن يتأكد من أن الخطة العالمية قد بدأت بالعمل” (ص 269).
ساكس، شأنه شأن أسلافه الجماعيين، يرى بأن تحقيق الرخاء مسألة فنية في الغالب: “أعتقد أن أهم سبب لانتشار الرخاء واستمرار انتشاره هو نقل التقنيات والأفكار الأساسية لها… أفكار ذات قواعد علمية لتنظيم الإنتاج” (ص 41)… مشاكل أفريقيا “قابلة للحل باستخدام تقنيات عملية ومجربة” (ص 208).
وهو لا يرى سوى نوع واحد من الخبراء العلميين—الطبيب—باعتباره النموذج لكيفية حل مشاكل الفقر:
“التنمية الاقتصادية هذه الأيام ليست كالطب العصري، ولكن عليها أن تسعى جاهدة لتكون كذلك، وهي قد تحقق تحسناً دراماتيكياً إذا استفاد اقتصاديو التنمية من الدروس الرئيسية للطب العصري سواءً في تطوير العلوم الأساسية أو في منهجية الممارسة السريرية، وهي النقطة التي يؤثر عندها العلم بصورة فعالة على مريض ما” (ص 75).[2]
هناك بالطبع أشياء مثل سلع عامة تستدعي حل مشكلة عمل جماعية لتوفيرها. هناك دور للحكومة لتوفير سلع كهذه، إلا أن ساكس (ومقاربات جماعية أخرى موصوفة بأدناه) لا يبدو أنهم يدركون كثيراً الفرق بين نقص السلع العامة ونقص السلع الخاصة، وهو ما يسمى بالفقر.
أهداف التنمية الألفية للأمم المتحدة

الأمم المتحدة هي الراعي الرسمي الرئيسي للتخيلات الجماعية هذه الأيام، وهي ما تسمى أهداف التنمية الألفية والتي يصفها موقع للأمم المتحدة على الشبكة كما يلي:
“أهداف التنمية الألفية الثمانية والتي تتراوح من خفض مستويات الفقر الشديد إلى النصف إلى وقف انتشار مرض الإيدز وتوفير تعليم أساسي للجميع، وكل ذلك في موعد مستهدف بحلول العام 2015—على أساس خطة وافقت عليها جميع دول العالم وجميع مؤسسات التنمية الرئيسية في العالم. لقد حفزوا بذلك جهوداً غير مسبوقة لتلبية احتياجات الأكثر فقراً في العالم.”
ويستخدم كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، المصطلح الجماعي (نحن):
“سيتوفر لدينا وقت لتحقيق أهداف التنمية الألفية—في سائر أنحاء العالم وفي معظم، بل في كل، البلدان—ولكن فقط إذا تخلينا عن الممارسات التقليدية. لن نستطيع النجاح بين عشية وضحاها، وسيقتضي النجاح بذل جهود مستدامة طيلة العقد الذي يفصلنا عن الموعد النهائي. نحتاج لوقت يتم فيه تدريب المعلمين والممرضين والمهندسين، ولبناء الطرق والمدارس والمستشفيات، وأن ننمي مشاريع أعمال صغيرة وكبيرة قادرة على إيجاد فرص العمل والدخل المطلوبة. لذا يتعين علينا البدء الآن ويجب علينا أن نزيد لما فوق الضعف حجم مساعداتنا في التنمية العالمية خلال السنوات القليلة القادمة. دون ذلك لا يمكن المساعدة في تحقيق الأهداف.”
يستخدم الأمين العام فعل “ننمي” في وصف إنشاء وإدارة مشاريع الأعمال، وأن ذلك شيء “يجب أن نبدأ به الآن”. أي أن العمل الجماعي سيولّد على نحو ما أعمالاً ودخولاً مقابل الجهود غير المركزية التي يقوم بها أفراد وشركات استثمارية تعمل في أسواق حرة.
وتصف حملة أهداف التنمية الألفية المستثمرين في مشاريع خاصة بأنهم “شركاء” يخضعون “لقرارنا”:
“نقرر، إضافة إلى ذلك، تطوير وتطبيق استراتيجيات توفر للشباب في كل مكان فرصة للعثور على عمل جيد ومنتج… ولتطوير شراكات قوية مع القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني سعياً لتحقيق التنمية والقضاء على الفقر.”[3]
يعود جزء من دوافع هذه الحملة ليس فقط لمساعدة فقراء العالم ولكن لمساعدة الأمم المتحدة كما أوضح كوفي عنان في كلمته أمام مؤتمر القمة العالمي في أيلول 2005 حول أهداف التنمية الألفية: “وهي أيضاً فرصة لإعادة تنشيط الأمم المتحدة ذاتها”. في هذه الناحية نجحت الأمم المتحدة، وعلى الأقل فيما يتعلق بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فمنذ زمن طويل وهاتان المؤسستان تزينان فضائل الأسواق الحرة وتتجاهلان بيروقراطيي الأمم المتحدة الذين يستخدمون لغة تروج لهيمنة الدول. إلا أنه ومنذ عام 2000 ولسبب غير واضح تبنى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أهداف التنمية الألفية وقسماً كبيراً من التخطيط لذلك. وتوضح وثيقة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هذا الانقلاب المفاجئ لصالح التخطيط الجماعي على النحو التالي:
“دخل حقل التنمية الدولي في تسعينات القرن الماضي حقبة من الإصلاح وإعادة التشكيل في ضوء زيادة الهوة بين البلدان الغنية والفقيرة. وقد أدرك قادة العالم، بالتعاون مع الأمم المتحدة والمؤسسات التعددية الأخرى الحاجة لاتخاذ إجراءات شديدة لضمان استفادة الدول النامية من العولمة وأن مخصصات المساعدة في التنمية تستخدم بصورة عادلة وفعالة لتحقيق أهداف التنمية العالمية الواردة ضمن أهداف التنمية الألفية وأهداف التنمية الوطنية الأخرى.”
في تقرير المراقبة العالمي: أهداف التنمية الألفية: تعزيز المسائلة المتبادلة، والمساعدات، والتجارة، والحكم الرشيد، يوضح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تبنيهما لكل ما يتعلق بمسألة إدارة تخطيط أهداف التنمية الألفية: “يتوجب على المانحين والمؤسسات المالية الدولية زيادة تدفق المساعدات، وتحسين نوعية المساعدات وتحقيق توافق أفضل بين ما تقدمه من دعم وأنظمة واستراتيجيات للبلدان المعنية” (ص 1). كيف يمكن القيام بذلك؟ يعيد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تأكيد التزامهما “بالمساءلة لتحقيق النتائج”، والذي لفتا إلى أنه كان قد تم تأكيده قبل أربع سنوات من ذلك في قمة مونتيري للأمم المتحدة. ويذكر التقرير في الصفحة نفسها، دون الإشارة إلى أي مفارقة، بأن “المؤسسات المالية الدولية [مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي] لا تزال تؤكد على القروض والتقارير بدلاً من التركيز على نتائج التنمية” (ص 1). ولا زالت هذه المؤسسات تواجه بعض الصعوبات، حيث أنه بعد بضع صفحات في التقرير يتبين أنها لا تستطيع التخلص من مزيد من التأكيد على القروض معتذرة بأن “الإقراض عام 2005 عن طريق نوافذ الامتيازات المقررة وغير المقررة من قبل مصارف التنمية التعددية قد تراجع” (ص 9).
وتخطط هذه المؤسسات لتغيير وسائلها في “تطبيق برامج النتائج”:
“دعا مؤتمر المائدة المستديرة في مراكش عام 2004 لإنشاء نظام مراقبة لتقييم توجيه نتائج جهود مصارف التنمية التعددية؛ وقد أطلق على هذا النظام كلمة COMPAS اختصاراً لـ (النظام المشترك لتقييم الأداء) والذي يعتمد على أطر مصارف التنمية التعددية لتطبيق مبدأ إدارة تحقيق نتائج تنموية MfDR” (ص 9).
إدارة تحقيق نتائج تنموية

ما المقصود بالضبط بإدارة تحقيق نتائج تنموية؟ تم تلخيص الإجابة في تقرير: إدارة تحقيق نتائج تنموية: كتاب مرجعي حول ممارسات جيدة في طور النشوء، الذي أعدته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بالاشتراك مع البنك الدولي والذي يحوي المخطط المفيد المبين في نهاية هذه الورقة (الشكل 2.1). ومنعاً لأي التباس يلفت الكتاب النظر إلى أن “إدارة الأداء هي تغيير ثقافي كلي” (ص 8). عندما تصبح إدارة تحقيق النتائج التنموية أكثر رسوخاً فإنها تطلب، فيما يبدو، كثيراً من التخطيط المركزي وفقاً لما يلي:
على المستوى الوطني (انظر القسم 2)، تُستخدم إدارة تحقيق النتائج التنموية في تخطيط وتطبيق الخطط الوطنية والموازنات واستراتيجيات مكافحة الفقر التي تعتمد على النتائج، ويمكن للمؤسسات الدولية دعم هذه العملية بمساعدات فنية.
في المشاريع والبرامج القطاعية (انظر القسم 3): تستخدم البلدان المشاركة ومؤسسات التنمية إدارة تحقيق النتائج التنموية في تخطيط برامج المساعدات أو المشاريع الفردية القائمة على مجمل ناتج وأولويات بلد ما حسب تحديدها في خطط التنمية الوطنية أو القطاعية (ص 4).
لا يجدي كثيراً قراءة الكتاب المرجعي حول إدارة تحقيق نتائج التنمية. في الجدول المبين على الصفحة 134 من الكتاب نجد المبدأ المعقول: “اجعل قياس النتائج وصياغة التقارير عنها بسيطة وفعالة التكلفة وملائمة للمستخدِم بقدر الإمكان” (ص 134). بأدناه مقتطفات من الجدول تبين وصفة للبساطة والتكلفة الفعالة والملائمة للمستخدم في قياس النتائج وإعداد التقارير:

الجماعيون القديمون كانوا مهلكين، أما الجماعيون الجدد فإنهم يعمدون فقط إلى دفن قضايا الحياة والموت تحت ست طبقات من البيروقراطية.
يستخدم كافة مخططي أهداف التنمية الألفية كلمة “مساءلة” بكثرة ولكن دون فهم معنى “المساءلة”. فالمساءلة في مفهوم أهداف التنمية الألفية تختلف عنها في المساءلة الفردية التي يواجهها كل منتج في الأسواق الحرة والتي تقوم على (إرضاء المستثمر أو الإفلاس) من حيث أنها تتضمن ما يوصف “بالمساءلة المتبادلة”. هذه الفكرة الضبابية تنطوي ظاهرياً على المساءلة، ولكن ليس للمستفيدين المقصودين بها، بل لبيروقراطيات أخرى تشملها خطة أهداف التنمية الألفية لها جميعاً مصلحة في استمرار النظام الحالي بغض النظر عن النتائج. وبدلاً من المسائلة الفردية يوجد لدينا المسؤولية الجماعية: “تقوم وكالات التنمية بوضع استراتيجيات مساعدة للبلدان تستند إلى تحقيق نتائج وذلك من خلال حوار مباشر مع الحكومات الوطنية… خلال هذه العملية تقوم وكالات تعددية بالتفاوض حول العمل بصورة مشتركة لدعم الناتج الإجمالي للبلد”. إن نظاماً تكون فيه كل الأطراف (الوكالات التعددية والحكومات) مسؤولة بصورة جماعية يعادل نظاماً لا يكون فيه أي شخص مسؤولاً بصورة فردية. وإذا كان هناك نتائج مخيبة للآمال فبإمكانك دائماً أن تنحى باللوم على جهة أخرى. إن المسؤولية الجماعية في المساءلة تماثل المزارع الجماعية فيما يتعلق بحقوق الملكية الفردية.
2. الحرية مقابل الجماعية في التنمية الاقتصادية

سجل التجربة
إن سجل التجربة حول الفرق بين الأداء الاقتصادي الحر والأداء الاقتصادي الجماعي واضح تماماً لكل من تابع أهداف نصف قرن مضى. كانت هناك فترة بين عامي 1930 و1950 حار فيها المراقبون، وهم يشهدون النمو السريع لاقتصاد الاتحاد السوفييتي (تبين فيما بعد أنه مبالغ فيه)، حول أي النظامين حقق نتائج اقتصادية أفضل. كان ذلك، لسوء الحظ، في سنوات التكوين الأولي لاقتصاديات التنمية وسياسات المساعدات الخارجية والتي دفعت العديد من المتخصصين الأوائل في اقتصاديات التنمية إلى التوصية بأن تقوم البلدان الفقيرة بتقليد النموذج الجماعي والدفاع عن التخطيط الاقتصادي الوطني (الذي يقبع في مكان ما في العالم السفلي بين التخطيط المركزي والأسواق الحرة). ورغم أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كانا قد نبذا بحلول ثمانينات القرن الماضي التخطيط المركزي كمنهج مفضل تأخذ به البلدان الفقيرة، فإن المساعدات الخارجية لم تستطيع أبداً التخلص من أصولها الجماعية. من ناحية واحدة واصل كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي العمل كمنظمات تخطيط ضخمة وكل ما تغير الآن أن الخطط الواردة من الأعلى إلى الأسفل والتي وضعها الخبراء أخذت تتضمن تبني تحرير الأسواق (تحت مسمى “تعديلات هيكلية”). التخطيط النازل من الأعلى إلى الأسفل من قبل خبراء وبيروقراطيين أجانب حول كيفية تطبيق نظام الأسواق الحرة لم يؤد إلى نتائج جيدة في المناطق التي تمت فيها هذه الممارسة بشكل مكثف وهي إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية و(للمفارقة) الاتحاد السوفييتي السابق: أدى ذلك إلى الردة ضد الأسواق الحرة التي نشهدها اليوم في أنحاء عديدة من تلك المناطق. وتراجعت منظمات المساعدات حماية لنفسها إلى ممارسة تخطيط أهداف التنمية الألفية التي تحدثنا عنها في الفصل الأول.
ثمة مفارقة هنا لأن سقوط جدار برلين وانكشاف كثير من المعلومات عن الاتحاد السوفييتي والبلدان التابعة له أوضحت بجلاء مدى الفشل الذريع الذي نتج عن أشد حالات الجماعية تطرفاً. بل إنه حتى قبل ذلك، كان من الواضح بأن المجتمعات الحرة تتفوق بكثير في أدائها الاقتصادي على المجتمعات التي تعيش في ظل الجماعية، وكان ذلك واضحاً من عقد أي مقارنة مثلاً بين ألمانيا الشرقية والغربية، أو كوريا الشمالية والجنوبية، أو الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
العلاقة بين النجاح الاقتصادي والحرية الاقتصادية

اليوم، وبعد وقت طويل من انهيار الشيوعية، لا يزال هناك فروق كبيرة بين المجتمعات الحرة وغير الحرة. ولزيادة في الإيضاح يصح القول بأن النجاح الاقتصادي يرتبط بقوة بالحرية الاقتصادية كما يتضح في الشكل (2.2). وقد استخدمت قياسات عام 2002 المنشورة في الحرية الاقتصادية في العالم: التقرير السنوي لعام 2004 وهي السنة الأخيرة التي توفرت فيها معلومات عن عينة كبيرة من الدخل.
هناك بالطبع مشكلة كبيرة تتعلق بسببيات محتملة عكسية—الأفراد الأكثر ثراءً الذين قد يطالبون بمزيد من الحرية الاقتصادية. كما أن نقّاد الإجراءات المنشورة في الحرية الاقتصادية في العالم قد يدّعون بأن هذه الإجراءات قد وضعت من قبل أشخاص لديهم قناعات مسبقة قوية بأن الحرية الاقتصادية ترتبط بالرخاء وتصبح المؤشرات، بالتالي، مشوهة بحيث تعطي نقاطاً أعلى لبلدان معروفة بتحقيقها لنجاحات. (ليس لدي أي سبب للشك في المؤشر المنشور في الحرية الاقتصادية في العالم والذي لا يستخدم سوى معلومات طرف ثالث ولا يتضمن أي أحكام متميزة، ولكني أنحني قليلاً للوراء تحسباً لانتقادات محتملة). إن أي تشوه من هذا النوع سينجم عنه نوع ثانٍ من المسببات العكسية. إزاء هذه الاعتراضات المحتملة أعرض قياساً في العوامل المتغيرة في الجدول (2.1). وحيث أن مؤسسات الحرية الاقتصادية قد تأسست أصلاً في أوروبا ثم انتشرت في المناطق المعتدلة مناخياً التي استقر فيها الأوروبيون (مع بعض الاستثناءات)، فإنني أستخدم البعد عن خط الاستواء كأداة لقياس الحرية. وحيث أن تقاليد قانونية مختلفة (خصوصاً البريطانية) قد حبذت الحرية الاقتصادية بينما نبذتها تقاليد أخرى (التقاليد القانونية الاشتراكية بالطبع)، فإني أستخدم الأصل القانوني كمجموعة أدوات أخرى لقياس الحرية. الإحصائيات الإخبارية حول صحة الأدوات مقبولة في معظمها ولا يزال بوسعنا إظهار علاقة قوية جداً بين الحرية الاقتصادية ومعدل حصة الفرد من الناتج الإجمالي.
“مصيدة الفقر” و”الدفعة الكبرى”

رغم أن الحرية الاقتصادية تبدو حقيقة راسخة كطريق للرخاء فإن المدافعين عن الحلول الجماعية للفقر في العالم يدعون بأن البلدان الفقيرة عالقة في “مصيدة فقر”. مصيدة الفقر تمنع الشعوب الفقيرة من تحقيق نمو اقتصادي حتى لو كان لديها حرية اقتصادية بحيث يحتاجون لعملية إنقاذ وفقاً للمبدأ الجماعي. ساكس، مرة أخرى، هو الذي يقوم بدور الشارح الرئيسي لنظرية “مصيدة الفقر”، وهو يقترح في كتابهنهاية الفقر ثلاث آليات رئيسية، الأولى منها أن الفقراء لا يوفرون بما فيه الكفاية:
“عندما يكون الناس… معدمين تماماً، فإنهم يحتاجون إلى كامل دخلهم أو أكثر منه لمجرد البقاء على قيد الحياة. ليس هناك هامش للدخل زيادة عن مستوى البقاء يمكن استثماره للمستقبل. هذا هو السبب الرئيسي في كون أفقر الفقراء معرضين جداً لأن يصبحوا عالقين في معدلات نمو اقتصادية متدنية أو سلبية. إنهم فقراء جداً بحيث لا يستطيعون التوفير للمستقبل وتجميع رأس مال يجعلهم قادرين على الخروج من تعاستهم الحالية (ص 56-57).”
السبب الثاني لمصيدة الفقر في رأي ساكس هو “المصيدة السكانية حيث تختار العائلات الفقيرة إنجاب عدد كبير من الأطفال” (ص 65). نسبة النمو السكاني مرتفعة جداً بحيث أنها تجاوز الادخارات (والتي هي متدنية جداً أصلاً في ضوء السبب الأول أعلاه).

العنصر الثالث هو زيادة العائد على رأس المال مقابل رأسمال أصلي منخفض للفرد الواحد (ودخل منخفض للفرد):
“الاقتصاد الذي تتضاعف فيه حصة الفرد من رأس المال يعني اقتصاداً تتوفر فيه طرق تعمل طيلة العام بدلاً من طرق تجرفها الأمطار في كل فصل شتاء، وطاقة كهربائية معتمدة طيلة اليوم والليلة وليست متقطعة ولا يمكن التنبؤ بها، وعمالاً أصحاء ومثابرين على أعمالهم وليس عمالاً غائبين معظم الوقت بسبب الأمراض. الاحتمال الأرجح هو أن مضاعفة قيمة رأس المال البشري والمادي سيؤدي فعلاً إلى زيادة مستوى الدخل بأكثر من الضعف، على الأقل عند مستويات منخفضة جداً من رأس المال للفرد الواحد” (ص 250).
يضرب ساكس مثالاً بطريق نصفها معبد والنصف الآخر لا يمكن المرور فوقه بسبب عدم وجود جسور أو انجراف أجزاء من الطريق. تصليح الأجزاء التي لا يمكن المرور منها سيضاعف مسافة الطريق ولكنه سيزيد بنسبة أكثر من الضعف الفائدة الناتجة عن استخدام الطريق. “هذا مثال حول تأثير نقطة البداية حيث لا يكون لرأس المال فائدة فعلية إلا إذا حقق حداً أدنى من المقاييس” (ص 250).
إن دور المساعدات الأجنبية هو زيادة رأس المال بما يكفي لاجتياز نقطة البداية فيما أصبح يعرف “بالدفعة الكبرى”: “إذا كانت المساعدة الأجنبية جوهرية بما فيه الكفاية ومستمرة بما فيه الكفاية فإن رأس المال سيزداد بما يكفي لرفع مستوى معيشة الناس إلى ما فوق الحد الأدنى… يصبح النمو ذاتي الدعم من خلال مدخرات الأسر والاستثمارات العامة المدعومة من الضرائب المفروضة على دخل الأسرة” (ص 246). ويمضي ساكس إلى القول بأنه: “إذا لم تتوفر مساعدات خارجية فإن كثيراً من البلدان التي تديرها حكومات رشيدة قد تكون فقيرة لدرجة لا تستطيع معها جعل الاستثمارات تصعد الخطوة الأولى من السلم.”
يجدر بنا أن نلاحظ، حتى قبل إخضاع هذه النظرية للاختبار، بأن هذه الأفكار ليست جديدة. الواقع أنها كانت جزءاً من اقتصاديات التنمية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي واعتاد خبراء اقتصاديات التنمية على استخدام هذه النظريات لإثبات أن المساعدات الخارجية كانت ضرورية للتنمية الاقتصادية في ذلك الحين، تماماً كما يفعل ساكس الآن بعد نصف قرن من الزمن.[4] الواقع أنه وبعد صرف 568 بليون دولار من المساعدات لإفريقيا واقتران ذلك بالركود الاقتصادي في تلك القارة طيلة أربعة عقود، واقتران ذلك أيضاً بالنجاح الذي حققته بلدان فقيرة في شرق آسيا تحصل على مساعدات أقل بكثير نسبة إلى مستوى دخلها، كل ذلك يجعل المرء يشعر بأن قليلاً من التشكك في هذا المجال قد يكون مفيداً قبل إعادة العمل بأفكار خمسينات القرن الماضي.[5]

في ضوء الدعاية التي تحيط بهذه الأفكار القديمة حول المساعدات الخارجية التي تجري إعادة تنشيطها فلنختبر نظرية مصيدة الفقر وضرورة “الدفعة الكبرى” إزاء التفسيرات التي تقول بأن البلدان تزدهر بسبب الحرية الاقتصادية. تقول نظرية مصيدة الفقر بأن البلدان الفقيرة متدنية النمو والبلدان الغنية عالية النمو، لذا فلا بد من وجود علاقة موجبة بين الدخل الأساسي والنمو. هذه العلاقة الموجبة ينبغي أن تكون صحيحة إذا استطعنا ضمان ما إذا كانت البلد “تحكم بطريقة رشيدة” (مثل ما إذا كانت الحكومة تعزز الحرية الاقتصادية). لذا فإنني أنظر للمسائلة بطريقة عكسية أقرن فيها الحرية الاقتصادية بالدخل الأساسي كما احتجت أن أفعل من قبل لاستخدام أدوات للحرية الاقتصادية لمعالجة سببيات معاكسة محتملة. إن قيمة كبيرة (مستوى المعدل) للحرية الاقتصادية بالنسبة للدخل الأساسي تشير إلى أن إمكانيات الدخل ستكون كبيرة (إذا كانت نظرية الحرية الاقتصادية صحيحة) مقارنة بالدخل الفعلي وبذلك سيتم توقع نمو أسرع.
الجدول (2.2) يبين النتائج. نظرية مصيدة الفقر تتراجع بشكل حاسم أمام تفسير الحرية الاقتصادية حول من يحقق الازدهار. الواقع أن البلدان الفقيرة تنمو في البداية بسرعة أكبر من البلدان الغنية حالما تستطيع ضبط الحرية الاقتصادية.[6]
ماذا عن دور المساعدات الخارجية في إطلاق النمو من صلب الفقر؟ هل تؤدي “دفعة قوية” من المساعدات الخارجية إلى تحقيق نمو؟ هناك أدبيات هائلة تستند إلى تجارب حول المساعدات الخارجية والنمو كان آخر ما توصلت إليه هو أن المساعدات الخارجية ليس لها تأثير قابل للقياس على النمو. أعود ثانية إلى البئر لأرى كيف يؤثر تدفق المساعدات على اختبار النظرية البسيطة المبينة في الجدول (2.2).
أضفت في الجدول (2.3) المساعدات الخارجية المستلمة كنسبة من الدخل القومي الإجمالي للبلد المتلقي كمتغير إيضاحي. تبرز هنا مرة أخرى مشكلة السببية المعاكسة. استخدم لوغارثم الحجم السكاني كأداة في احتساب المساعدات مستغلاً خاصية غريبة في نظام المساعدات مفادها أن البلدان الصغيرة تحصل على جزء كبير من دخلها عن طريق المساعدات لا يتناسب مع أدائها الاقتصادي أو احتياجاتها. الإعداد لمتغيرين على الجانب الأيمن في وقت واحد يؤدي إلى مزيد من المشاكل المعقدة حول الهوية والأدوات الضعيفة، لذا لنتعامل مع هذا التمرين باعتباره توضيحاً وليس نهائياً.
من حيث التحكم إحصائياً بالدخل الأولي—وليس نحو الحرية الاقتصادية—نرى أنه ليس للمساعدات تأثير جوهري على النمو الاقتصادي، وما أن نتحكم إحصائياً بالحرية الاقتصادية حتى يصبح للمساعدات دور سلبي ومؤثر على النمو. لدي تردد في التأكيد على هذه النتيجة بشدة حيث أن الأدبيات السابقة قد أشارت بشكل عام إلى تأثير للمساعدات على النمو مقداره صفر وليس سالباً. هناك حاجة لاختبارات أكثر فعالية قبل أن تؤخذ مسألة التأثير السلبي بصورة جدية، كما أن مسألة الأدوات الضعيفة تحتاج أيضاً لمزيد من الاختبار. إلا أن هذا التمرين التوضيحي يتسق، على الأقل، مع الأدبيات السابقة التي تشير إلى عدم وجود تأثير إيجابي للمساعدات على النمو.

3. هايك والـ iPod: لماذا يحتاج عالم ذو اقتصاد غير متوازن وغير قابل للتنبؤ إلى حرية اقتصادية[7]
تنسى الرؤية الجمعية دائماً أن النجاح حالة نادرة والشائع هو الفشل. النجاح الاقتصادي دائماً يكون غير متوازن وغير قابل للتنبؤ وهذا ينطبق تقريباً على أية وحدة تحليل محتملة قد تخطر للمرء.[8] الحرية الاقتصادية تتيح الفرصة لبحث غير مركزي عن النجاح الذي هو سمة الأسواق الحرة. من النادر أن يُعرف مسبقاً ما الذي سينجح. هناك آلاف عدة من الباحثين يقومون بأبحاث لا حصر لها حول ما يمكن أن يكون ممتعاً للمستهلكين. أنظمة السوق الحرة تعطي تغذية راجعة سريعة حول المنتجات التي تحقق نجاحاً وتلك التي لا تحقق النجاح ويقوم الباحثون في ضوء ذلك بإجراء التعديلات المناسبة. النشاطات التي تنجح تجتذب مزيداً من التمويل ومزيداً من عوامل الإنتاج بحيث يصبح من الممكن رفع الإنتاج بدرجة هائلة، أما النشاطات التي تفشل في اجتذاب المستهلكين فيتم وقفها. ليس لدى المخططين ذهنية البحث والتعقيب بل إنهم يقومون بتطبيق فكرة لهم قناعة مسبقة بأنها ستنجح ويواصلون تطبيقها سواءً نجحت أم لا.
إن قصص النجاح الاقتصادي غالباً ما تكون غير متوقعة وغير قابلة للتنبؤ بها، فقد تم اختراع أجهزة الموسيقى MP3 منذ عدة سنوات وكان يبدو أنها تعد بنجاح كبير باعتبارها وسيلة جديدة ممتازة لعشاق الموسيقى تمكنهم من الاستماع لكميات كبيرة من موسيقاهم المفضلة. رغم ذلك لم تستحوذ أياً من أجهزة MP3 في مراحلها الأولية على إعجاب المستهلكين. (كنت أحد أوائل من اختاروا هذا الجهاز فاشتريت أحدها بسعر مرتفع لكي أستطيع رؤيتها وهي تتلاشى بسرعة). شركة آبل للكمبيوتر كانت معروفة بإخفاقاتها الغريبة في سوق الكمبيوترات الشخصية، وأدهشت أبل للكمبيوتر الجميع عندما حققت مفاجأة ضخمة في جهاز iPod الرقمي المحمول الذي استأثر حتى شهر آذار 2006 بنسبة 78% من سوق أجهزة MP3. حتى الآن باعت آبل 50 مليون جهاز iPod وتستأثر برامج تطبيقات iTunes لبيع الأغاني عبر الإنترنت عن طريق تنزيلها على iPod بحوالي 87% من حجم الأغاني والموسيقى التي يتم تنزيلها بصورة قانونية في الولايات المتحدة.[9]
ري كروك كان مندوب مبيعات في خمسينات القرن الماضي يبيع خلاطات متعددة الاستعمالات، وهي آلة تخلط ستة أنواع من منتجات الحليب في وقت واحد. كانت فكرته الأساسية تقوم على بيع كل ما يمكنه من هذه الخلاطات. وفي عام 1954 قام بزيارة مطعم يدعى ماكدونالدز في سان برنادينو، كاليفورنيا، ولاحظ أن الإخوان ماكدونالد يديمون تشغيل ثمان خلاطات متعددة الاستعمالات بطاقتها القصوى على مدار الساعة. في البداية كان يريد أن ينصح زبائنه الآخرين باستخدام أساليبهم هذه مما يزيد من الطلب على أجهزته. إلا أنه غير رأيه فيما بعد، فقد رأى أن إعداد شرائح الهمبرغر والبطاطا المقلية وخليط المشروبات بالحليب في خطوط إنتاج يمكن أن يكون وسيلة لإدارة سلسلة ناجحة من المطاعم السريعة. تخلى تماماً عن أجهزة الخلاطات وما تبقى هو أقواس ذهبية تمتد على مد البصر. كم فقدت المساعدات الخارجية من (ري كروكات) بتركيزها على الخطط؟
هناك العديد من الأسواق الاستهلاكية في الولايات المتحدة تخضع بصورة مماثلة لهيمنة عدد قليل من العلامات التجارية الناجحة، فشركتي كوكاكولا وبيبسي كولا يهيمنان على 75% من مبيعات المشروبات الغازية في السوق الأمريكية، وتأتي دكتور بيبر وسفن آب في الدرجة الثانية بنسبة 15%، والعشرة بالمئة الباقية يتوزعها عدد كبير من شركات أصغر حجما بكثير. الملاحظة العابرة توحي بالكثير من هيمنة العلامات التجارية: مايكروسوفت، ستاربكس، أمازون دوت كوم، بوردرز، بارنز آند نوبل… إلخ. وفي حين أن هيمنة العلامات التجارية قد يعكس عوامل عديدة تتعلق بالمنظومة الصناعية فإنها تظهر أيضاً عدم التوازن الذي يكاد لا يصدق لنجاح منتج بسبب ارتباطه بشركة معينة (كما سنرى بعد قليل) وربما كان ذلك يعكس نوع المفاجآت التي توضحها أمثلة iPod ومكدونالدز.
يرتبط النجاح غير المتوازن للمنتجات بصورة وثيقة مع النجاح غير المتوازن للشركات. 0.3% فقط من الشركات في الولايات المتحدة استأثرت بما يصل إلى 6% من مبيعات جميع الشركات عام 2002. من المعروف على نطاق واسع أن حجم الشركات يتبع لقانون زيف—الذي يعرف أيضاً بقانون القوة—حيث أن هناك علاقة خطية سالبة بين لوغارثم الحجم وتردد حدوث الحجم (بما يعرف بالتواتر). كما أن قوانين القوة قد ولّدت كثيراً من التضليل، ويكفي، لأغراض هذه الورقة، الإشارة إلى مدى ندرة النجاحات الكبيرة في حين أن الفشل حالة شائعة. بعبارة أخرى فإن توزيع تواتر الشركات (أو أي وحدات تهمنا) يتبعها ذيل غليظ وطويل على الجانب الأيمن، وهناك حالات خاصة عديدة منها مثل توزيع عادي-لوغارثمي وقانون قوة (توزيع باريتو). بعبارة أخرى فإن معظم التوزيع يتركز عند مستوى عادي، ثم هناك عدد قليل من الشركات تقع تماماً خارج نطاق المؤشرات البيانية، بعيداً عما يمكن أن يتنبأ به منحنى على شكل جرس.
حتى مع أن الشركات الكبرى تهيمن على الأسواق فليس من السهل أن تبقى الشركات كبرى. هناك من بين أكبر 100 شركة في العالم عام 1912 بضع شركات مثل بروكتر آند غامبل وبريتيش بتروليوم أصبحتا أكبر بعدة مرات عام 1995. بيد أن تلك حالة استثنائية حيث أن أكبر 100 شركة عام 1912 شملت شركات عملاقة (الديناصورات) مثل سنترال ليثر وكودهاي باكنغ في الولايات المتحدة. فقط 19 شركة من أصل أكبر 100 شركة عام 1912 بقيت في القمة عام 1995 و48 شركة منها اختفت تماماً بحلول عام 1995. وتعرض كتب الأعمال أسرار نجاح عدد قليل من الشركات الكبيرة التي يحتفي بها مؤلف الكتاب وما تلبث هذه الشركات أن تسقط في براثن ظروف صعبة بعد نشر الكتاب. لقد احتفى كتاب الأعمال بشركة إنرون لاستخدامها أساليب مبتكرة حتى آخر لحظة قبل انهيارها. بل إن أنجح أساطين الأعمال يواجهون لحظاتهم المحرجة: لقد احتفى توم بيتر في كتابه الأكثر رواجاً، بحثاً عن التميز، بعدد من الشركات تعرضت للإفلاس فيما بعد مثل شركة آتاري ومختبرات وانج ودلتا إيرلاينز.
ليست مسألة تحقيق النجاح والمحافظة عليه حالة غريبة في أوساط الشركات الكبرى، ففي كل عام تخرج 10% من الشركات العاملة من مختلف الأحجام من السوق. لا يعني هذا أن من السهل بدء عمل جديد ليحل محل العمل الذي توقف، فأكثر من نصف الشركات الجديدة في الولايات المتحدة تتوقف عن العمل خلال أربع سنوات.
ومن المعروف أيضاً أن النجاح والفشل الاقتصادي لدى الأفراد يسلك هذه الميول المضطربة ذاتها. كما يتبع توزيع الدخل الفردي في البلدان عموماً مساراً لوغارثمياً عادياً في معظم فئات الدخل (مغطياً 97-99 بالمئة من الأفراد) مع قانون قوة يغطي الشريحة العليا من أصحاب الدخول التي تبلغ 1-3 بالمئة.
وإذا انتقلنا إلى المعلومات الدولية سنجد أن التنمية الاقتصادية ليست متوازنة بالطبع وبصورة صارخة بين البلدان وعبر الزمان. تنحصر الملاحظات على الدخول ذات المعدلات العالية في عدد قليل من البلدان في العهود الأخيرة وتبقى أجزاء كبيرة من العالم وأجزاء كبيرة من التاريخ البشري محرومة من هذا النوع من النجاح. ولو تعاملنا مع الملاحظات في جميع البلدان لفترات الأعوام 1820 و1870 و1913 و1950 و2001 كتجارب تنمية منفصلة ورتبناها من الدخل الأعلى إلى الأدنى لحصلنا على المخطط المبين في الشكل (2.3). فأقلية ضئيلة من الحالات تحصل على دخول عالية جداً ولكن هذه الحالات تنخفض بشدة عندما نتحرك نحو المستويات الأدنى.
حصة الفرد من الصادرات الصناعية
إحدى مؤشرات التنمية التي تبين فروقاً أكبر بين البلدان هي حصة الفرد من الصادرات الصناعية، فهي تعكس عوامل مختلفة عديدة: التحول من الزراعة إلى الصناعة نتيجة لتطور البلدان، والعوامل العديدة التي تؤثر على الانفتاح على التجارة العالمية والمنافسة في الأسواق الدولية، والنموذج الجاذب في التدفقات التجارية، وما إلى ذلك. بيد أن الصادرات الصناعية تعكس، على المستويات الأساسية التي تتعدى المؤشرات التجارية، شيئاً تستطيع جميع البلدان القيام به وتتنافس عليه جميعها في السوق العالمي نفسه. وكمؤشر فإن للصادرات الصناعية أيضاً ميزة إتاحة الفرصة لها لتقييمها بسعر السوق العالمي، خلافاً للدخول الوطنية التي تستند إلى أسعار محلية مختلفة من الصعب إجراء مقارنة لها. إضافة لذلك فإن الصادرات الصناعية تخضع بصورة تامة للقطاع الخاص وتواجه اختباراً في الأسواق خلافاً لبعض المكونات من الناتج المحلي الإجمالي ينتجها قطاع عام كبير وتقاس قيمتها بتكلفتها وليس بقيمتها لدى الأفراد. إن مدى نجاح الصادرات الصناعية يتراوح بين حصة الفرد منها في سنغافورة البالغة 25000 دولاراً إلى بوروندي حيث تبلغ حصة الفرد 2 سنتاً (الجدول 2.4).[10]
أياً كانت حسنات وسيئات الصادرات الصناعية كمقياس للنجاح فإن حصة الفرد من الصادرات الصناعية ترتبط بشكل وثيق مع حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي طبقاً للشكل (2.4). ليس نجاح الصادرات الصناعية يتفاوت بصورة هائلة بين البلدان ولكنه يتفاوت أيضاً ضمن البلد الواحد بين مختلف السلع المنتجة. وهناك معلومات متوفرة حول الصادرات الصناعية بمستوى تصنيف المنتجات المكون من ستة أرقام. تصدر البلدان ما يصل إلى 2236 منتجاً صناعياً مختلفاً بمعدل في النموذج يبلغ 1177 (الجدول 2.5). تشكل المنتجات الثلاث الأعلى في هذه المنتجات 34% من قيمة الصادرات بينما تشكل نسبة 1% الأعلى من المنتجات ما يزيد عن نصف الصادرات. وتوزيع قيمة الصادرات على مجمل الصادرات يعتبر لوغارثمياً عادياً على أساس احتساب القيمة ضمن 20% من المنتجات (التي تشكل 94% من قيمة الصادرات) تبعاً لقانون القوة.
بعبارة أخرى، فإن الفرق الكبير بين إيرلندا وبوروندي (كلاهما بلد قليل السكان ولكن بوروندي أكثر سكاناً) ليس في أن أداء إيرلندا أفضل في كل شيء بل لأنها اعتمدت على ثلاثة منتجات صناعية للتصدير (قطع وإكسسوارات لأجهزة معالجة المعلومات، ودوائر مدمجة موحدة عدا عن الرقمية، وتسجيلات صوتية عدا عن منتجات التصوير) وقد كسبت من تصدير هذه المنتجات 15 بليون دولار، في حين أن أعلى ثلاثة منتجات في بوروندي (شمعات احتراق لتشغيل محركات السيارات قياس 1500-3000 سي سي وصفائح/بلاط ومواد اسمنتية سيلولوزية/اسبستوس، وصفائح متموجة من الإسمنت السيلولوزي/الإسسبتوس) وكسبت من ذلك 151000 دولاراً.
كيف تستطيع تحقيق نجاح واسع النطاق من منتجات قليلة؟ الحرية الاقتصادية، مرة أخرى، هي التي ترعى النجاح والتي توفر الفرصة للعثور على موضع محدد وملائم في الأسواق الدولية يستطيع من خلالها البلد المعني الوصول إلى مستويات تصدير هائلة. بوروندي تحتل أحد أسوأ المراكز في العالم من حيث مدى الحرية الاقتصادية في حين تحتل إيرلندا أحد أفضل المراكز. الحرية الاقتصادية ترتبط بصورة وثيقة بمعدل حصة الفرد من الصادرات الصناعية (الشكل 2.5). وعندما نتعامل مع السببية باستخدام نفس الأدوات كما بأعلاه في الحرية الاقتصادية، فسنبقى نجد أن الحرية الاقتصادية تتنبأ بالنجاح في تصدير المنتجات الصناعية.
لكن لماذا تساعد الحرية الاقتصادية في تصدير المنتجات الصناعية على نطاق واسع وفي التنمية بشكل عام؟ ولماذا يفشل المخططون فشلاً ذريعاً؟ في عالم من عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ على نطاق واسع تنجح الحرية الاقتصادية للأسباب التالية:

1) هناك صعوبة بالغة في معرفة ما الذي سينجح. الحرية الاقتصادية ترعى المنافسة ومحاولات متعددة للتوصل إلى الأشياء التي تنجح وتقتلع حالات الفشل العديدة. بعد فترة يصبح الاقتصاد مكوناً بصورة رئيسية من نجاحات كبيرة وهذا ما يؤدي إلى ارتفاع مستوى المعيشة. ليس بوسع المخططين أن يعرفوا بما فيه الكفاية تعقيدات النجاح، وأكثر من ذلك فهم يعانون من وهم خادع بأنهم يعرفون الإجابات أصلاً.
2) الحرية الاقتصادية توفر الأسواق التي تشكل أجهزة تغذية راجعة ضخمة لمعرفة ما الذي ينجح والذي يفشل، أما التخطيط المركزي فيفتقر للتغذية الراجعة.
3) الحرية الاقتصادية تعيد بقسوة تخصيص الموارد بعيداً عما هو فاشل وباتجاه ما هو ناجح. أما بيروقراطيات التخطيط فلها دوائر تشكل كل منها مصالح خاصة ترفض إعادة التخصيص.
4) الحرية الاقتصادية تجعل من الممكن زيادة مستوى نجاح نشاط معين بسرعة كبيرة وحجم ضخم. تخصص الأسواق المالية أموالاً لتمويل التوسع في العمل ويسمح الهيكل التنظيمي للشركة إعادة تشكيل ذات النشاط الذي نجح على مستوى صغير ليعمل على مستوى أكبر بكثير. تحتاج الأسواق والمؤسسات المالية إلى الحرية الاقتصادية لتعمل جيداً، أما بيروقراطيات التخطيط فنادراً ما تبدي الكثير من المرونة في التوسع في النشاطات الناجحة على نطاق واسع.
5) الحرية الاقتصادية تجعل من الممكن إبرام عقود شديدة التعقيد تتيح للأفراد والشركات التعامل مع حالات عدم التأكد من بعض الجوانب. ففي ضوء ندرة حالات النجاح واحتمالات الفشل لا يقدم الأفراد والشركات على رهانات إلا إذا كانوا يتوقعون صفقة كبيرة لكي تكون لديهم قدرة على تنويع المخاطر وحماية أنفسهم من عواقب فشل كارثي. المسؤولية المحدودة للمؤسسات وقوانين الإفلاس والأسواق المالية كلها عوامل تساعد على تحقيق هذه المهمات في عالم تشكله الحرية الاقتصادية. أما بيروقراطيات التخطيط التي تتجنب المخاطرة فتختار القيام بالنشاطات ذات الحد الأدنى من المخاطرة والحد الأدنى من العوائد.

الحرية الفردية والتقدم

ليست الفكرة القائلة بأن الحرية الفردية تؤدي إلى تقدم أفضل من تخطيط الدولة فكرة جديدة، فهي جزء من تقليد فكري عريق يعارض التخطيط الجماعي من الأعلى إلى الأسفل ويدعو إلى بحث عن الحلول ينطلق من القاعدة إلى القمة وتعود هذه التقاليد إلى أيام آدم سميث وإدموند بيرك. وقد لاحظ إف. إي. هايك ببصيرة نفاذه قبل أكثر من 60 عاماً كيف أن تعقيدات المعرفة تستدعي حرية اقتصادية وتجعل التخطيط توجهاً مستحيلاً. وفيما يلي أورد هذا الاقتباس كنموذج:
“إن تفاعل الأفراد الذين لديهم معارف مختلفة هو ما يشكل الحياة للفكرة. نمو التفكير المنطقي عملية اجتماعية تستند إلى وجود هذه الاختلافات ولا يمكن بالضرورة التنبؤ بنتائج اختلافات كهذه، أي أننا لا نستطيع معرفة أي وجهات النظر ستساعد على تحقيق هذا النمو وأيها لن تستطيع—أي باختصار إن هذا النمو لا يمكن أن يكون محكوماً بأي وجهات نظر لدينا الآن دون أن نضع لها حداً في الوقت نفسه. إن السعي لـ”تخطيط” أو “تنظيم” نمو العقل أو، في هذا السياق، التقدم بشكل عام هو تناقض في المصطلحات… مأساة فكرة الجماعية هي أنها في الوقت الذي تشرع فيه بجعل المنطق هو المرجع الأعلى فإنها تنتهي بتدمير المنطق لأنها لا تستطيع فهم العملية التي يعتمد عليها نمو المنطق… الفردية إذن هي سلوك من التواضع إزاء هذه العملية الاجتماعية ومن التسامح مع وجهات النظر الأخرى وهي النقيض المباشر للغطرسة الفكرية التي تعتبر أساس مطلب التوجيه الشامل للعملية الاجتماعية.”
لا يعني هذا القول بأن الحرية الاقتصادية سهلة التحقيق. حتى لو كان من الممكن فهم مبادئ مثل الملكية الخاصة، وحرية اختيار العمل، والحماية ضد مصادرة الملكية من قبل الدولة، وحرية الدخول والمنافسة في الأسواق، وتحديد الأسعار وفقاً للسوق وليس بأوامر من الدولة، فإن من الصعب تطبيق هذه المبادئ عملياً. تستند هذه المبادئ إلى تشكيلة معقدة من العادات الاجتماعية وشبكات غير رسمية وقوانين رسمية ومؤسسات فعالة. وبقدر فهم المخططين لبعض هذه المبادئ فإن خطأهم الذي يتميزون به هو محاولتهم تقديم كل شيء دفعة واحدة من الأعلى إلى الأسفل في توليفة ذاتية التناقض تسمى “خطة السوق”. (ساكس في حياة سابقة، كان صاحب “العلاج بالصدمة” للبلدان الشيوعية السابقة التي كانت تحاول القيام بذلك بالضبط). الحرية الاقتصادية شيء لا يمكن له أن ينمو إلا بصورة تدريجية ضمن المجتمعات مصحوباً بالكثير من البحث والدراسة بدءاً من القاعدة وللأعلى سعياً لتحقيق إصلاحات تدريجية من قبل لاعبين سياسيين واقتصاديين—وهذا ما يفسر السبب في أن نجاح التنمية الاقتصادية ليس شائعاً نسبياً.
4. خاتمة
لم تستطع المساعدات الخارجية للأسف أن تهرب أبداً من أصولها الجماعية. إن التهيؤات الجماعية اليوم مثل “الدفعة الكبرى” لتحقيق أهداف التنمية الألفية ستفشل مثلما فشلت سابقاً أنواع مختلفة من الجماعية. الواقع أن الأمم المتحدة نفسها تقول بأنها آخذة بالفشل فعلاً (وهي إبداعياً ترى ذلك سبباً للبحث عن مزيد من التمويل للدفعة الكبرى). فمجرد إلقاء نظرة داخل أنماط النجاح الاقتصادي تظهر مدى تعقيدات المعرفة المطلوبة لتحقيق النجاح، والتي تدين جهود التخطيط وتوضح بجلاء أن الحرية الاقتصادية مرتبطة بصورة يعول عليها بالنجاح الاقتصادي.
يمكن للمساعدات الخارجية أن تخلق فرص جديدة لفقراء العالم، توفر لهم أساسيات مثل الدواء والتعليم والبنية التحتية ولكن فقط في حالة أن تعمد المساعدات الخارجية إلى تقليد الأسلوب الناجح للحرية الاقتصادية عن طريق تبني أسلوب البحث والتغذية الراجعة مصحوباً بالمسائلة الفردية بدلاً من انتهاج النموذج الحالي في التخطيط الجماعي. حتى مع إدخال هذه التغييرات فإن المساعدات الخارجية لا تستطيع تحقيق الهدف المبالغ فيه وهو تخليص المجتمعات الأخرى من الفقر وتحويلها إلى الرخاء. لا يمكن تحقيق ذلك لفقراء العالم إلا عن طريق حركات تدريجية تنبثق من المجتمعات ذاتها متبنية الحرية الاقتصادية. لحسن الحظ فإن هذا هو ما يحدث حالياً.
ظهرت هذه الورقة كفصل ثانٍ لتقرير الحرية الاقتصادية في العالم: التقرير السنوي 2006 عن معهد كيتو بواشنطن العاصمة وبالاشتراك مع معهد فريزر في كندا.




peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

من سوء حظ بول وولفوفيتز أنه يتسبب بمعضلة كلما حاول إجراء تغيير في نظام قائم. لقد ثارت كوادر البنك الدولي رداً على تسرب معلومات تفيد بقيام وولفوفيتز، الذي جعل الحملة العنيفة ضد الفساد سمة مميزة للفترة الوعرة لتوليه منصب رئيس البنك الدولي، بمنح صديقة له زيادة في الأجر مقدارها 60 ألف دولار. وطالب الموظفون الذين كانوا دائماً يكرهون العمل تحت إمرة منظّر الحرب على العراق باستقالته، وتُرك وولفوفيتز في عزلة تامة.
وإلى حد ما، كان السبب الأساس لهزيمته في البنك هو ذاته لفشله في العراق: العجرفة الفكرية في القمة التي تترفع عن الحقائق التي في القاع. لقد استسهل وولفوفيتز معالجة الحالة المرضية التي تعاني منها المعونات الأجنبية مثلما استسهل إنشاء الديمقراطية في الشرق الأوسط.
لقد جاء وولفوفيتز إلى البنك وهو عاقد العزم على محاربة الفساد، وربما تحرير نفسه وخلاصها بعد العراق، من خلال تقديم مساعدة ذات طابع رحيم ومحافظ لفقراء العالم. ولكن النجاح لم يكتب لبرنامجه أبداً.
لقد وضع وولفوفيتز حداً في أوزبكستان، حاجباً القروض عن إسلام كاريموف. وأعلن ان السبب في ذلك يعود إلى ان كاريموف سرق شعبه الفقير أصلاً وذبح المتظاهرين المدنيين. ولكن منتقدي وولفوفيتز يعترضون على ذلك ويزعمون ان السبب لهذا الموقف هو رفض كاريموف في تموز 2005 إعطاء إدارة بوش حق استخدام قاعدة عسكرية في أوزبكستان.
ولكن باستثناء حجب المعونة عن أوزبكستان وعن حالات قليلة أخرى، تعرض برنامج وولفوفيتز للخطر بسبب الأعمال الانتقائية. فوفقاً لمقاييس البنك، ينتشر الفساد في 54 دولة غير أوزبكستان أو ربما كان وضعها أسوأ. فهل يا ترى يتوجب على البنك حجب المعونة عنها كلها؟
لم يكن وولفوفيتز على استعداد للذهاب إلى هذا الحد، ما أوقع الجميع في حيرة حول معاييره الفعلية. فباكستان، وهي المحور الرئيس للحملة الأمريكية ضد “القاعدة” والتي لا تُعتبر نموذجاً للديمقراطية أو صلاح الحكم مثلها مثل أوزبكستان، استمرت في تلقي كميات كبيرة من أموال البنك الدولي. كذلك فتحت هذه الحملة العشوائية ضد الفساد المجال أمام مساعدي وولفوفيتز السيئي السمعة، روبن كليفلاند وكيفن كيليمز، وكانا يعملان سابقاً في إدارة بوش، لتهديد الموظفين المعارضين بوصفهم “متسامحين مع الفساد”. (هل يبدو هذا مألوفا؟)
لكن المشكلات المتعلقة بإدارة وولفوفيتز للبنك الدولي تجاوزت حملته الفاشلة لمكافحة الفساد وكانت أعمق. فقد تبنى أهداف سلفه جيمس وولفونسون الطوباوية الخيالية ووسّعها. فبينما كان وولفوفيتز أكثر صرامة مع “الحكومات السيئة” في أماكن مثل أوزبكستان، مثلاً، كان البنك يصر، في الوقت ذاته، على ان تُظهر برامج التنمية “ملكية الدولة”، ويعني هذا المصطلح ان تتولى الحكومة المستفيدة مسؤولية إدارة برامجها. ولكن كيف يمكن ان تكون صارماً مع الحكومات التي تسيء التصرف فيما تصر على ان تقوم هذه الحكومات بإدارة برامجك؟
هذه الحماقات ما هي إلا أحد أعراض الأزمة الفكرية العميقة حول ما إذا كان البنك يملك أدنى فكرة عن كيفية تحقيق أهدافه الطنانة الفخمة. وكانت الدروس المستفادة ازدهار الدول التي تجاهلت مبادئ البنك (الصين، فيتنام، الهند) في حين ضعف أداء الدول التي كانت تحت رعايته وإرشاده (روسيا، الأرجنتين، زامبيا).
كذلك استمر وولفوفيتز في الاتجاه المشؤوم ذاته الذي بدأه وولفونسون، والذي كان يرد على فشل البنك في تحقيق أحد أهدافه بإضافة ثلاثة أهداف جديدة أخرى. لقد وسع الإثنان الهدف الأصلي للبنك الذي يدور حول تعزيز النمو الاقتصادي بكل شيء بدءاً من ضمان حقوق الأطفال إلى تعزيز السلام العالمي. وفي هذه الأثناء، ضحى الإثنان بوضوح الاتجاه لصالح شعارات سخيفة وغير معقولة وملائمة فقط للعلاقات العامة مثل “تمكين الفقراء” و”تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية” (التي تغطي كل أوجه المعاناة الإنسانية).
وأدى هذا كله إلى زعزعة البنك وتداعيه. لقد ترك البنك العديد من أفضل الموظفين وأبرعهم بنزوح محبط مطرد، وبدأت الدول الفقيرة تهجر البنك وتسعى للحصول على قروض من أسواق رأس المال الخاصة أو منح من الجهات المانحة مثل الصين التي تسعى لتتبوأ المرتبة الأولى في ذلك. وفي هذه الأثناء، بدأت مؤسسات خاصة جديدة (مثل “مؤسسة بيل وميليندا غيتس”، و”غوغل دوت أورغ”، وغيرها) تستحوذ على المجالات التقليدية للبنك مثل الصحة والزراعة. وبإضافة الكارثة المتعلقة بصفقة صديقة وولفوفيتز إلى ذلك، يواجه البنك أخطر أزمة في تاريخه خلال العقود الستة الماضية.
يجب ان يتحمل البنك مسؤولية إطعام الجياع وتوفير المياه النظيفة الآمنة للعطشى ومعالجة المرضى. وقد حقق البنك تقدماً حقيقياً في كل هذه المجالات، وباستطاعته ان يحرز أكثر من ذلك إذا حُرر العديد من العاملين الموهوبين من جحيم البيروقراطية الحالية وسُمح لهم بأداء ما يحسنون عمله.
من المحزن ان هذه المبادئ الواضحة لم تُحتضن حتى الآن. ولا يسع المرء إلا ان يأمل في ان يكون الإصلاحيون، الذين يتميزون بمصدر قوة سياسية وحيد يتمثل في عطفهم على الفقراء، أقوياء بما فيه الكفاية في هذه الأزمة للتمكن من إنقاذ البنك لصالح أكثر الناس ضعفاً في العالم. وسيكون هذا مثابة تغيير لنظام يمكننا جميعاً ان نتعايش معه.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 7 أيار 2007.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018