peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

تمثل سياسة إيران الخارجية دائما إشكالية سواء على المستوى التحليلي أو على المستوى العملي، وهو ما سبب إرباكا حقيقيا للمتعاملين معها، ومرد ذلك أن طهران لا تتحدث بصوت واحد، وأن ثمة معسكرين في إيران يتداولان تلك المسألة، فضلا عن طبيعة سياستها الحذرة والمعقدة.
والسياسة الخارجية هي تلك “السياسة التي يتم بها تنظيم علاقات الدولة ونشاط رعاياها مع غيرها من الدول، وتهدف إلى صيانة استقلال وأمن وحماية مصالحها، ووضع مبادئ وأهداف السياسة الخارجية هي من مسؤوليات القادة العليا للدولة”. وتتكون السياسية الخارجية لأية دولة من الوسائل التي تختارها لتحقيق أهدافها في حلبة السياسة الدولية. وعليه فإن السياسة الخارجية هي تصور وأداء لدور وطني معين.
ويلاحظ في الآونة الأخيرة، وبخاصة بعد سقوط النظام العراقي، تصاعدا في النفوذ الإقليمي لإيران، فهي تقبع على موقع  جيوبوليتيكي متميز قدم لها فرصة كبيرة في استثماره لجهة الدفع بمشروعها التوسعي الدفاعي والهجومي في نفس الوقت، بيد أنه، أي الجيوبولتيكي الإيراني، جعلها أيضا عرضة للمخاطر في منطقة تتسم بالتوتر واللاستقرار.
وعليه، تحاول إيران أن تستغل ما لديها من أوراق تؤهلها في بسط نفوذها داخل محيطها الإقليمي، بغية لعب دورا قياديا، يعكس قدراتها وإمكانياتها الحقيقية، وثقلها الحضاري والتاريخي، وإحساسها بالرسالة. وهذا ما يعتبر إحدى الإشكاليات التي واجهت إيران في سياستها الخارجية، حيث راوحت سياستها بين المثالية (العقائدية) والواقعية، بين القول والفعل. بالإضافة إلى أنها بلد نامي تفتقر إلى الإمكانيات الكافية لتنفيذ دورها الطموح، لاسيما أن هذا النفوذ الإقليمي جاء في كثير من الأوقات على حساب التنمية الإيرانية الداخلية واحتياجات المجتمع الإيراني، بخاصة في ظل الحصار المضروب عليها، فضلا عن الاحتجاجات الداخلية المعارضة لسياسة إيران الخارجية الطموحة ذات الكلفة العالية، وبخاصة تدخلها في لبنان والعراق وفلسطين وغيرها من المناطق والأقاليم الأخرى، حيث استنفذ ذلك من مواردها. وبالتالي لابد للدولة أن يكون لها إستراتيجية لسياستها الخارجية متوائمة مع واقعها وقوتها ووزنها الحقيقي، وإلا أصبحت سياستها الخارجية وحركتها الدولية مجردة إلى حد كبير من عوامل الفاعلية. إن أي خلل في هذا التوازن بين قوة الدولة الشاملة وسياستها الخارجية يؤدي إلى نتيجتين: الأولى، أن تكون السياسة الخارجية مجردة من الفاعلية إلى حد كبير. والثانية، أن تكون قوة الدولة غير مستغلة تماما في سياستها الخارجية.
تأسيسا على ذلك، ثمة مجموعة من القضايا تنال الأولوية لسير الدول في سياستها الخارجية، وهي تمثل الأهداف الحيوية:  الأمن، حفظ الذات، والاكتفاء الاقتصادي، والنفوذ والهيبة القوميين، ومحور السياسة الخارجية هو تقرير أفضل السبل التي يمكن اتخاذها لدفع هذه الأهداف إلى الأمام، وهي الأهداف التي تنصب عليها السياسة الخارجية الإيرانية. إذ تصاغ خيارات السياسة الخارجية على ضوء الموارد المتاحة، للوصول إلى الأهداف والخيارات المختارة. وفي بعض الأوقات تؤكد سياسة الدولة الخارجية على واحد أو أكثر من الأهداف هذه على حساب الأهداف الأخرى.
على ضوء ذلك يمكن أن نقيم السياسة الخارجية الإيرانية، بالرغم أن الأهداف الحيوية هذه تعتبر مفاهيم عامة بحاجة لتحويلها إلى خطوات إجرائية كمية. ومن هنا ندرك مدى الصعوبات التي تواجه أية محاولة لتقييم السياسة الخارجية الإيرانية. فمثلا إذا لجأنا إلى معيار الأمن، الذي يشكل بدوره  أبرز قضايا السياسة الخارجية الإيرانية الحرجة، ويعتبر بحق الأكثر إلحاحا لدى الطبقة الحاكمة الإيرانية ذات المصالح السياسية والاقتصادية الواسعة، وقيمنا سياستها بناءً على هذا المعيار نطرح السؤال التالي:  هل استطاعت إيران أن تحقق أمنها القومي ؟  و ما هو المحدد الرئيس الذي من خلاله يمكن الحكم على نجاح أو فشل  السياسات الأمنية لإيران ؟  تحت أي معيار يمكن أن نجيب على ذلك؟ هل حفظ الذات وكيان الجماعة القومية وضمان بقائها ككيان مستقل هو المعيار؟ أم الحفاظ على الطبقة الحاكمة وضمان بقائها في الحكم؟ أم  استمرار وديمومة النظام؟ أم التحرر من العدوان؟ سنجيب على هذه التساؤلات في متن هذه الدراسة من خلال المحددات التالية:
أولا، المحدد الأمني:
تبنت إيران سياسة خارجية ثورية منذ 1979 إذ كانت الطبقة الحاكمة آنذاك محملة برؤية مسبقة تجاه العالم الخارجي انعكست على سياستها الخارجية، جرّت هذه الرؤية عاصفة محملة بعزلة دولية ونظرة سلبية تجاه إيران. إلا أن مع نهاية الثمانينات من القرن الماضي وبداية عقد التسعينات، بدت إيران أكثر واقعية في سياستها الخارجية، لاسيما مع صعود التيار الواقعي. إثر ذلك سعت إيران إلى إعادة هيكلة علاقاتها الإقليمية والدولية مع الاحتفاظ بثوابتها الإستراتيجية، وانتقلت من الدور الثوري في عهد الخميني، إلى الدور المتوازن إذ ركزت على الدبلوماسية الهادئة والتوازن في علاقاتها الخارجية، وحاولت أن  تجمع بين القوة الصلبة والناعمة، بعيدا عن إثارة الحساسيات، بهدف إعادة بناء ما دمرته الحرب العراقية- الإيرانية. رغم ذلك استمرت دول الجوار تقابل كل سياسة إيرانية بنظرة يكتنفها الشك والحذر الشديد.
أما بخصوص علاقتها مع واشنطن، تمكنت الأخيرة من خلقِ نفوذٍ سياسي وعسكري في الشرق والجنوب والشمال وبعض مناطق الجبهة الغربية لإيران،  في كل من أفغانستان والمحيط الهندي وجمهوريات أسيا الوسطى والخليج وتركيا، وأخير العراق، وبالتالي إحكام الحصار الأمريكي على إيران، ولفق طوق أمني وسياسي وعسكري حولها، بغية عزلها وإبعادها عن أية ترتيبات في محيطها الإقليمي، إذ ” تشير متابعة السياسة الإيرانية خلال فترة ما بعد الخليج إلى أن هذه السياسة تشهد حالة من الذعر والتوجس من احتمالات تعرض إيران لضربات عسكرية أمريكية أو أمريكية-إسرائيلية”.
هذا البيئة المضطربة جعلت إيران تستحوذ عليها فكرة استهدافها عسكريا في إطار ما تسميه واشنطن بـ” محور الشر” . ولولا مأزق أمريكا في العراق وأفغانستان لفتحت جبهات أخرى ربما كانت إيران إحدى هذه الجبهات. ومع ذلك،  ورغم العداء التاريخي بين الطرفين، إلا أنهما لم يصلا حد التناقض الذي لا يمكن أن يتعايش كلاهما معه بحيث يدفع ذلك إلى حرب طاحنة يقضي أحدهما على الآخر، أي أن الواقع التاريخي لتطور العلاقات الأمريكية-الإيرانية يقول إن الطرفين استطاعا أن يتعايشا في رحم تناقضاتهما وإبقاء الأخير كامن.  وبالتالي أستطيع أن أقول: إن سياسة إيران الخارجية استطاعت أن تحافظ على كيانها القومي وحفظ ذاتها واستمرار الطبقة الحاكمة في الحفاظ على وجودها وهيمنتها على النظام.
ومع ذلك  فرغم هذا النجاح النسبي في سياستها الأمنية، إلا أن إيران  ما تزال في علاقتها الإقليمية والدولية ينتابها عدم ثقة عميقة، حيث تواجه 15 دولة جوار يغلب على تفاعلاتها سمة التوتر، تجعل إيران والأطراف الإقليمية والدولية في حالة شك دائمة، وهذا بالتأكيد سوف ينعكس على فاعلية سياسة إيران الخارجية، وهو ما يعتبر إخفاقا نسبيا في سياستها الأمنية مما يجعل نجاحها الكامل أمرا مشكوكا فيه، وبخاصة أن إيران ما انفكت تشعر بأنها مستهدفة من القريب والبعيد، وهذا ينعكس على رؤيتها للعالم بما يحول دون تفاعلها الايجابي والبناء، وهو ما له تداعيات سلبية على نظام سياستها الخارجية.  ولعل العزلة والتهديد الموجه ضد طهران جعلا التفكير السياسي الإيراني القائم على المؤامرة ربما يمثل القوة المحركة وراء محاولة الحصول على السلاح النووي. وجدير بالملاحظة أن التهديدات والحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على إيران، فرضا على الأخيرة التركيز على سلامتها ووحدتها الإقليمية وأيقظت وعي الإيرانيين والشعور بأهمية الوضع الإقليمي لإيران.
واستطرادا، لا تزال أنشطة إيران الخارجية تُقابل بنظرة من القلق والشك، لاسيما في العراق ولبنان وفلسطين واليمن ومعظم الدول العربية، ‏وهو ما يحول دون تجذر العلاقات الإيرانية- العربية. فتجذر هذه العلاقة يتطلب بناء مؤسسات مشتركة تؤطر تفاعلاتهما‏، وترعاها جهات نافذة ذات سلطان ونفوذ‏، حتى يتم التعامل مع هذه العلاقة باعتبارها جزءا من نسق علائقي كامل اقتصادي وثقافي وسياسي، عند ذلك يمكن أن تزال أزمة الثقة بين إيران وجوارها، وبخاصة أن إيران لم تقم بالجهد اللازم لتطمين هذه الدول.
لا يمكن لكل ذي عقل حصيف أن ينكر أن سياسة إيران الأمنية جعلتها طرفا لا يمكن تجاوزه في ترتيبات المنطقة الأمنية. وبالتالي فإن أي سياسة تحول دون دمج إيران في شبكة طبيعية من العلاقات الدولية والإقليمية، هي سياسة فاشلة وقصيرة الأجل. حيث  ترى المجموعة الأوروبية فرصة اقتصادية كبرى في المساعدة على تسوية الخلافات الأمريكية- الإيرانية. وعلى المستوى الداخلي في واشنطن أخذت شركات النفط والمؤسسات الاقتصادية الأخرى، بالإضافة لعدد متنام من الشخصيات السياسة الأمريكية، تنتقد واشنطن لفشلها في حل مشكلاتها مع إيران. وسعت دول عربية خليجية إلى تحسين علاقاتها مع إيران ورفض مشاركتها بأي عمل عسكري ضدها. ولكن يجب على دول الخليج  بخاصة امتلاك عناصر القوة الشاملة لجعل علاقتها مع إيران تقوم على التوازن حتى يمكن تطوير علاقات متوازنة ومنظومة أمنية متناسقة، لأنه بدون التوازن الاستراتيجي بين إيران ودول الخليج لن تنبني علاقات متوازنة بل ستكون علاقات مختلة لصالح الطرف الأقوى وهذا يؤدي إلى صراعات مدمرة وعدم استقرار وتوتر دائم.
إن الإستراتيجية الأمريكية المدعومة من الغرب والمؤيدة من قبل بعض الدول العربية التي ترى عزل إيران وتطويقها سوف يؤدي إلى ” تهدئتها” والى كبح جماحها، دفع السياسة الخارجية الإيرانية إلى مناكفة القوى المواجهة لها، وعدم الإذعان من خلال محاولات التخريب عليها والتهديد بضرب مصالحها. لعل ذلك هو ما دفع القوى الدولية إلى الاعتراف بالدور الإيراني في منطقة الخليج والى الاعتراف بإيران كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها. كما أن سياسة الحصار الأمريكي أضرت بالشركات الأمريكية نفسها من سياسة العقوبات. فوفقا لتقارير أمريكية فإن 670 شركة أمريكية تم منعها من التعاون مع دول من بينها إيران وهذه الشركات فقدت مصالحها في هذه الدول حيث تشير التقديرات إلى انه نتيجة سياسة العقوبات هذه فإن الاقتصاد الأمريكي يفقد سنويا 19 مليار دولار وهو الدخل الذي ذهب إلى الدول الأوروبية والشرق الأدنى وأوروبا الشرقية ونتيجة لهذا تبخرت إمكانية إيجاد 200 فرصة في الولايات المتحدة.
خلاصة ذلك،  رغم النجاح الذي حققته إيران في هذا الجانب الأمني، إلا أنه لا يمكن الركون إلى المعيار الأمني كمحدد رئيس للحكم على نجاح السياسة الخارجية، لأنه لو اعتبرنا أن حفظ المقومات المادية للذات الإيرانية واستمرارية الطبقة الحاكمة كمعيار وحيد، دليل على نجاح السياسة الخارجية لاعتبرنا كل الدول بمن فيها الدول “الفاشلة” ناجحة في سياستها الخارجية. فمثلا سورية استطاعت بالفعل أن تحفظ النظام العلوي، والطبقة الحاكمة، فهل نعتبر هذا مؤشرا على نجاح سياستها الخارجية رغم أن قضاياها الكبرى لم تنجح في تحقيقها إلى الآن؟ ولا يعني ذلك أن نقلل من أهمية المعيار الأمني كمؤشر على نجاح السياسية الخارجية، ولكن الاعتماد عليه كمؤشر وحيد يعتبر خطأ. وهذا ما يدفعنا إلى البحث في المعايير الأخرى، والنظر إلى كافة المعايير من منظور متكامل.
© منبر الحرية،07 غشت/آب 2010

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018