قد يبدو واضحا أن النمو الاقتصادي يحد من الفقر، ومع ذلك، يبقى هذا الموضوع مثار خلاف. اذ أكد بعض الباحثين أن النمو الاقتصادي لا يقضي على الفقر بل من الممكن أن يُفاقم مشاكل الفقراء (الأمم المتحدة 1997). فعلى سبيل المثال، أشار كل من دريز وسين (1990) أن النمو الاقتصادي لا ينتج عنه مردود يحسن الرفاه في العديد من الإجراءات غير المالية. إن الدعوة لزيادة الإنفاق الحكومي (سكويرز 1993) أو لإعادة توزيع الثروة (تودارو 1997) هما الامتداد المنطقي للنقاش حول القول أن النمو الاقتصادي لا يكفل القضاء على الفقر.
ويسمي تودارو (1997) هذا الزعم بأن النمو يقلل الفقر بشكل فعلي بـ “نظرية انسياب الفوائد إلى الأسفل.” وفي الظروف الأقل مثالية، لا يوجد حتى “انسياب” للأسفل. وببساطة، فإن التقدم الاقتصادي العام “لا يحسن من مستويات شديدي الفقر” (تودارو 1997: 155). وفي الواقع، أكد بعض اقتصاديي التنمية أن “عمليات النمو” “تنساب عادة للأعلى” إلى الطبقات الوسطى و”خاصة طبقة الأغنياء جدا” (تودارو 1997: 163).
من المواضيع التي لم يتم بحثها بتوسع هو تأثير الثروة النسبية للأغنياء والفقراء على مستوى الرفاهية. هناك الكثير من المؤلفات التي تؤكد على أنه يترتب على تحسين دخل الفقراء تأثير أكبر على متوسط مستوى الرفاهية والازدهار في بلد ما عن ذلك الذي يترتب على تحسين دخل الأغنياء (تودارو 1997). ولم تتم دراسة هذا المقترح بشكل مستفيض كما أن التحليل المتأني يشكل جدول أعمال هام للبحوث.
توزيع الثروة والفقر
من الممكن فحص السؤال الأول المتعلق بالعلاقة بين الأغنياء والفقراء عن طريق تقدير علاقة دخول الفقراء والأغنياء بعضها ببعض. وعلى سبيل المثال، من الممكن تقدير المعادلات التالية:
باعتبار أن Yp و Yr يمثلان معدل الدخل الفردي للفقراء والأغنياء، على التوالي، وأن βp و βr يمثلان مُعامِلات “تحويل دخل الفئة الاجتماعية”. وتظهر β الزيادة النسبية في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة واحدة كدالة لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للمجموعة الأخرى. فعلى سبيل المثال، تمثل βr التغير الذي يطرأ على دخل الفقراء بسبب التغير الذي يطرأ على دخل الأغنياء. فإذا كانت نظرية “انسياب الفوائد للأسفل” صحيحة، يجب أن تكون قيمة βr موجبة. وفي حال كون نظرية “الإنسياب للأعلى” صحيحة، فيجب أن تكون قيمة المعامل سالبة.
وعند تقدير المعادلات 1 و2 أعلاه، قد تبرز مشكلة محتملة للمتغيرات الإضافية التي من الممكن أن تؤثرعلى الدخل. ولقد تم فحص المتغيرات الهامة في كتاب بارو وسالا-إي-مارتن (1995) وتشمل رأس المال البشري والمؤسسات ومتغيرات أخرى. ويفترض أن تتجلى هذه التأثيرات في دخل الطبقة الأخرى. وهكذا، ستكون المتغيرات الإضافية الوحيدة المطلوبة هي تلك المتغيرات التي غالبا ما يتم حذفها في معادلات النمو عبر الوطنية. إن أكثر المتغيرات وضوحا هي المتغيرات الجغرافية. حيث تقع العديد من البلدان الفقيرة في العالم في بيئآت استوائية وغير ساحلية. ويقول كل من ساكس (1997)، وساكس وورنر (1997) وسويل (1994) بأن هذه العوامل منهكة وخاصة لرفاهية الإنسان. وغالبا ما تكون البلدان غير الساحلية معزولة عن الممارسات التجارية والافكار والابتكارات ومؤسسات تعزيز الأسواق. بينما تعاني البلدان الاستوائية من الأمراض وانعدام المرافق الصحية والمجاعات. وتهدد هذه الظروف قدرة السكان على الاستمرار في الحياة كما تؤثر بشكل معاكس على الدخل وتؤدي إلى إستدامة الفقر. وأخيرا، يقول لوكاس (1988) أن اقتصادات المدن تستتبع زيادة إنتاجية بشكل أعلى من اقتصادات الريف بسبب تأثيرات خارجية تعزى إلى رأس مال بشري يمتاز بإنتاجية أكبر.
السؤال الثاني المتعلق “بالانسياب للأسفل” هو سؤال مباشر بشكل أكبر ويرتبط بالعلاقة بين الفقر والدخل النسبي للفقراء والأغنياء. لنأخذ بعين الاعتبار مثالا بسيطا لمعدل مستوى الفقر (HP) لبلد ما:
وتمثل β درجة حساسية الفقر بالنسبة إلى الدخل، وp وr يمثلان الفقراء والأغنياء، على التوالي. ويفترض أنه في حال زيادة ثروة السكان في بلد ما سيؤدي ذلك إلى تخفيض الفقر، إلا إذا تم افتراض نظرة ماركسية بأنه سيتم انخفاض دخل الفقراء بسبب المكاسب التي حصل عليها الأغنياء—وهذه هي حجة “الانسياب للأعلى”—عند بعض اقتصاديي التنمية. وفي مثل هذه الظروف، تكون سياسات إعادة التوزيع أو السياسات التي تُعظم “نوعية التنمية” بدلا من التنمية فحسب، هي السياسات المفضلة لأن مثل هذه السياسات ستؤدي إلى تخفيض معدل مستوى الفقر في بلد ما.
وبالرغم من تأكيدات الماركسيين، هناك أسباب بسيطة للاعتقاد أن قيمة βr يمكن أن تتجاوز قيمة βp. وباعتبار التأثيرات الخارجية غير المسيطر عليها، فإذا قام الأغنياء في بلد ما بالاستثمار في بعض الخدمات التحتية التي تساعد الأغنياء، فقد يساعد ذلك الفقراء أيضا حيث أن تأثيرات هذه الخدمات التحتية سوف تنتشر وتمتد كمنافع للفقراء. وعلى سبيل المثال، فإن الاستثمار في مجال التعليم ينتج مؤثرات إيجابية للمجتمع بدرجة محسوسة وتعم على نطاق واسع.
ويمكن الأخذ بعين الاعتبار أيضا التفاعل بين دخل الأغنياء واقتصادات الحجم ودخل الفقراء. فإذا تم اعتبار اقتصادات الحجم في توفير الخدمات المختلفة (مثل الخدمات الصحية والصرف الصحي)، فان زيادة الطلب المرتبطة بارتفاع دخل الاغنياء ستدفع مستوى الاسعار الى الانخفاض، وبناء عليه، سيتيح ذلك المجال للفقراء لزيادة الاستهلاك (زيادة دخولهم الحقيقية)، شريطة أن لا تكون اقتصاديات الحجم قد أدت إلى سعر أعلى لقلة التنافس.
إذا أُخذ بالاعتبار أنماط الاستهلاك والاستثمار النسبي للأغنياء والفقراء، فانه، بافتراض أن الفقراء ينفقون معظم دخلهم على استهلاك الحد الادنى لمقابلة احتياجات معيشتهم، وأن الاغنياء يقومون باستثمار الجزء الأكبر من دخلهم، فانه في مثل هذه الظروف، فإن الزيادة في دخل الأغنياء ستؤدي إلى رفع معدل النمو الاقتصادي وبالتالي خفض معدل مستوى الفقر في بلد ما.
إستقراء من واقع التجربة العملية
لكي نفحص العلاقة بين دخل الأغنياء والفقراء فمن الممكن تقدير المعادلتين 1 و2 لعدد من الدول الواردة في تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية (1997) والتي تم احتساب وتسجيل مؤشر الفقر الانساني لها. ولقد تم احتساب هذا المؤشر لـ 78 دولة. ولكن فقدان مدخلات خاصة بفئآت دخل الأغنياء والفقراء تقلل عدد العينة التي يتم تقديرها.
تم احتساب هذا التقدير باستخدام التحليل باسلوب الانحدار البسيط، واستند الى نسبة السكان في المدن (الحضري) ونسبة المساحة الاستوائية من البلد واختير متغير إضافي للبلدان غير الساحلية. ويعرَّف الأغنياء بأنهم يشكلون ما نسبته 20% من الشريحة العليا لتوزيع الدخل بينما يعرف الفقراء بأنهم الذين يشكلون ما نسبته 20% من الشريحة الدنيا من توزيع الدخل. هذه التقديرات محسوبة باللوغارثمات الطبيعية. ولقد تم تسجيل نتائج التحليل الانحداري في الجدول 1.
وتبين البيانات الواردة في الجدول 1 أن زيادة دخل الأغنياء بمقدار دولار واحد يرتبط بزيادة تقدر بحوالي 75 سنتا في دخل الفقراء، وأن هذه العلاقة متماثلة. ولكن عندما يتم شمول متغيرات إضافية في التقديرات، فمن الواضح أن دخل الأغنياء والفقراء يتأثران بطريقة مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن نسبة الأرض والمياه في البلدان الاستوائية لها تأثير سلبي شديد على دخل الفقراء وليس على دخل الأغنياء، بينما يبدو أن نسبة السكان الذين يعيشون في المناطق الحضرية ذات تأثير إيجابي شديد على دخل الأغنياء ولكن ليس على دخل الفقراء. إن الزيادة في دخل الأغنياء مرتبطة بشكل وثيق مع الزيادة في دخل الفقراء، حتى في حال أن أدرجت المتغيرات الجغرافية. فزيادة دخل الأغنياء بمقدار دولار يزيد من دخل الفقراء بحوالي 71 سنتا. وفي المقابل، فإن إضافة المتغيرات الجغرافية، عندما يكون دخل الفقراء هو المتغير المستقل، يبين أن دخل الأغنياء أقل حساسية بالنسبة لدخل الفقراء. فإن زيادة دخل الفقراء بمقدار دولار سيؤدي إلى زيادة دخل الأغنياء بحوالي 41 سنتا فقط. هناك انسياب للأعلى بمعنى أن زيادة دخل الفقراء يزيد من دخل الأغنياء، ولكن زيادة دخل الأغنياء له تأثير إيجابي أكبر على زيادة دخل الفقراء.
في الواقع، إن التقديرات المستقلة لدخل فئتي الأغنياء والفقراء كدالة للطبقة الأخرى غير ذات معنى. ويتم تحديد دخل جميع الطبقات معا. غير أن جوهر قصة “الانسياب للأعلى” والمضمون العادي لمصطلح “الانسياب للأسفل” هو أنه هناك عوائق للتحديد المشترك لدخول الأغنياء والفقراء، وعليه، لا يستفيد الفقراء من الزيادة في دخل الأغنياء. ولكن حتى لو أخذنا فرضية الانسياب للأسفل لمحددات الدخل المستقلة لفئات الدخل المختلفة ظاهريا، فإن البيانات لا تدعم انسيابا قويا للأعلى ولا انسيابا ضعيفا للأسفل.
وللتمكن من دراسة تأثير دخل الأغنياء والفقراء على مقاييس الفقر، يمكن تقدير المعادلات 3 و4 مع شمول تأثيرات المتغيرات الجغرافية. إن أحد الاعتبارات الهامة هي كيفية قياس الفقر الإنساني. إن أحد المقاييس الملائمة والرسمية للفقر هو مؤشر الفقر الإنساني الذي تم تطويره من قبل الأمم المتحدة.
ويستند مؤشر الفقر الإنساني على فكرة سين (1997) عن الفقر وتعريفه على أنه حرمان الإنسان. ويقر تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية هذا “المنظور عن الحرمان.” ويحاول هذا المقياس أن يضع قيمة للرفاه “لأكثر الناس حرمانا في المجتمع.” ولقد تم تصميمه كأداة مدافعة باسم الفقراء في العالم وكأداة تخطيط لتحديد المناطق التي تحتاج إلى سياسات محددة لمكافحة الفقر.
تم تأسيس مؤشر الفقر الإنساني باستخدام مجموعة معقدة من المعادلات. وتشتمل مكوناته على ثلاثة مقاييس رئيسية للرفاه، هي: طول العمر والمعرفة ومستوى معيشة لائق. يُقاس طول العمر في بلد ما بنسبة السكان الذين لا يتوقع لهم أن يعيشوا حتى سن الـ 40. وتقاس المعرفة بنسبة البالغين الأميين المستثنين من وسائل القراءة والكتابة. كما تُقاس نسبة من لا يتوفر لهم مستوى لائق من المعيشة في المجتمع بنسبة من لا يتوفر لديهم مياه آمنة وخدمات صحية، وكذلك النسبة المئوية للأطفال تحت عمر الخمس سنوات الذين يعانون من سوء التغذية (نقص الوزن).
ولا يوجد مجال للشك لمناقشة إن كانت هناك بعض المقاييس الأخرى للحرمان والتي قد لا تشكل مقياسا أفضل للفقر. ولكن من الصعب تصور أن معظم المراقبين لن يتفقوا مع وجهة النظر القائلة بأن هذه المقاييس تقيس في الواقع الرفاه الإنساني المتضائل وبذلك تشكل مقياسا صحيحا لمقارنة الحرمان الإنساني.
في ضوء هذه الاعتبارات، يمكن تقدير المعادلتين 3 و4 باستخدام مؤشر الفقر الإنساني كمتغير تابع وإضافة مقاييس لنسبة المساحة الاستوائية من البلد ونسبة الحضر من السكان وكذلك متغير صنفي يعادل 1 إذا كانت البلد غير ساحلية و صفرا فيما عدا ذلك.
يتم الحصول على اختبار مباشر للرابطة بين الفقر/الدخل بتقدير مؤشر الفقر الإنساني لدخل الفقراء والأغنياء بالإضافة إلى باقي المتغيرات التي يفترض أنها تؤثر على مستوى الفقر في بلد ما. ويبين الجدول 2 نتائج التحليل بأسلوب الانحدار. تظهر البيانات أن مؤشر الفقر يرتبط سلبيا بدخل الفقراء والأغنياء. وفي كلتا الحالتين، تبدو التأثيرات واضحة وبالتأكيد قوية إحصائيا، بيد أن النتائج تنطبق بشكل أكبر على دخل الأغنياء مقابل دخل الفقراء. إذ يبلغ معامل دخل الأغنياء ضعف معامل دخل الفقراء تقريبا. وبالمثل، فإن قيمة القوة التوضيحية (R2 المعدلة) للتقدير الذي يشمل دخل الفئة الغنية كمتغير مستقل أعلى مقارنة مع التقدير الذي يشمل على دخل الفئة الفقيرة كمتغير مستقل.
إحدى الصعوبات التي تواجه النتائج الواردة في الجدول 2 هي صعوبة تفسير حجم التأثيرات. ومن أجل الحصول على نتائج سهلة التفسير، يتم تقدير مكونات مؤشر الفقر الإنساني كمتغيرات تابعة مع المتغيرات المستقلة نفسها. أما المتغيرات التابعة فتشمل نسبة السكان الذين لا يعيشون ليصلوا لسن الأربعين ونسبة السكان البالغين الأميين ونسبة السكان التي لا يوجد لديها سبيل للمياه الآمنة ونسبة الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية. ويبين الجدول 3 نتائج هذه التقديرات.[1]
النمط الذي يبرز في الجدول 3 يعكس أن مكونات مؤشر الفقر الإنساني غالبا ما تكون مرتبطة سلبيا مع دخل الفقراء ودخل الأغنياء، إضافة إلى المتغيرات الجغرافية. وعليه، فإن ارتفاع الدخل لأي مجموعة يميل إلى خفض معدلات الفقر.
إن السمة الأبرز في الجدول 3 هي أن تأثير مُعامِلات دخل الأغنياء على الحد من الفقر أقوى من تأثير معاملات دخل الفقراء. وهذه الملاحظة صحيحة لجميع الحالات. وتكشف اختبارات تقديرات المعاملات المحدودة أن معاملات فئة دخل الأغنياء تفوق حتما معاملات فئة دخل الفقراء لمتغيرات البقاء والأمية والأطفال الذين يعانون من سوء التغذية. وتُشير اختبارات الدلالة لسبل الوصول إلى المياه الآمنة والخدمات الصحية أنه في حين كون هذه المقاييس أكثر تأثرا وحساسية لدخل الأغنياء منها لدخل الفقراء إلا أن الفروقات غير ذات أهمية من ناحية إحصائية. وبشكل عام وأهم من ذلك، لا يوجد ما يدل على أن الفقراء لا يستفيدون من مكاسب الدخل للأغنياء، كما تدل عليه مقاييس الفقر الواسعة والراسخة على الأقل.
وتستحق نتائج الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية اهتماما خاصا. فيكون معامل دخل الأغنياء سالبا وهاما وذا مغزى حيث يشير إلى أن الزيادة في دخل الأغنياء تقلل من مقياس سوء التغذية للأطفال. في حين يكون معامل دخل الفقراء موجبا ولكن بشكل ضئيل وغير ذي أهمية. ويفترض أن يعكس التقدير علاقة خطية متعددة. إن إجراء تحليل انحداري لمتغير نقص التغذية على دخل الفقراء فقط يؤدي إلى خفض نسبة الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية. ومع ذلك، يكون تقدير التحليل الانحداري البسيط المشابه لدخل الأغنياء أكبر بشكل جوهري.[2] وعليه يكون التفسير الأسهل والأكثر احتمالا أن العلاقة بين دخل الأغنياء والأطفال الذين يعانون من نقص التغذية سالبة وقوية، ولكن العلاقة بين دخل الفقراء والانخفاض في سوء تغذية الأطفال أضعف وربما تكون غير موجودة.
يبدو واضحا من البيانات المتوفرة لدينا أن زيادة دخل الأغنياء تؤدي إلى تناقص في مستوى الحرمان الإنساني بدرجة أكبر من زيادة دخل الفقراء. التفسير الآخر هو أن قياس الخطأ لدخل الفقراء أكبر من قياس الخطأ لدخل الأغنياء. هناك العديد من المشاكل المتعلقة بالقياس والمرتبطة بالدخل والرفاه البشري في بلدان العالم ذات الدخول المنخفضة. ويفترض أن تكون مشاكل القياس أكثر حدية لسكان المناطق الريفية. ووفقا لذلك، من الممكن إظهار أن العلاقة الأضعف بين دخل الفقراء مقابل دخل الأغنياء في علاج الفقر الإنساني تعزى إلى صعوبة قياس الدخل الحقيقي لأكثر الشعوب فقرا في العالم. ولكن هذه الحجة نفسها تعاني من بعض الضعف لأنه وللمدى الذي يمكن لنا أن ننسب هذه المشكلة إلى الانقسامات بين المدن (الحضر) والريف، يجب أن يعتبر متغير الحضر ما يفسر هذه الحقيقة في التقديرات.
إن الأمر الأكثر ارتباطا هو دور النمو الاقتصادي في الحد من الفقر. فالرأي المتعلق بنظرية الانسياب للأعلى والنظرة المتحيزة لنظرية الانسياب للأسفل—والانسياب هنا يشير إلى انسياب طفيف—يستندان بشدة على الرأي القائل أن “نوعية النمو” وإعادة توزيع منافع النمو الاقتصادي يؤديان إلى التخلص من الفقر وليس النمو بحد ذاته. النتائج الموثقة في الجدولين 2 و3 يتحديان ذلك التصريح. لنفترض على سبيل المثال أن البلدان الفقيرة في العالم تعاني من معدل نمو اقتصادي يبلغ 5% سنويا. بعد خمسة سنوات سينتج عن الدخل المركب زيادة تقدر بحوالي 27.62%. وبتجاهل أثر مجموعة الدخل الأخرى، فإن تأثير نمو دخل الطبقة الغنية سيخفض معدل الوفيات (“الوفاة قبل 40”) بنحو 3.76%، في حين أن زيادة دخل طبقة الفقراء ستخفض معدل الوفيات بنحو 2.55%.[3] وبالتالي، وإذا تساوت جميع العوامل الأخرى، فإن تخفيض الفقر بواسطة نمو دخل الطبقة الأكثر ثراء سيولد أثراً أعظم من تخفيض الفقر الذي يُنسب إلى نمو دخل الطبقة الفقيرة. ومع ذلك، فإن دخل الأغنياء والفقراء لا ينموان بهذه الطريقة، بل في الواقع ينموان سويا كما هو موثق بوضوح في الجدول 1. والأهم من ذلك أن البيانات تُشير إلى إنخفاض الفقر عندما يزداد الغني ثراء. وعليه، يجب أن يُعزز النمو الاقتصادي رفاه الفقراء والأغنياء.
من الممكن أن يتم فحص دور النمو الاقتصادي في تحسين الفقر مُقاسا بواسطة مؤشر الفقر الإنساني مباشرة. ويحتوي الجدول 4 تقديرات التحليل الانحداري لتأثير النمو الاقتصادي، مقاسا بالنسبة المئوية لمعدلات النمو للناتج المحلي الإجمالي للفرد لمراحل زمنية متعددة، على مؤشر الفقر الإنساني. ولأغراض التحقُّق، تم شمول المستويات الأولية للناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في التقديرات لضمان من أن النتائج تتعامل مع النمو ولا تقتصر على توزيع الدخل عبر البلدان.[5] وتبين النتائج أن معدلات النمو لجميع الفترات تُعتبر محددات هامة لمعدلات الفقر، وتكون الإشارة سالبة في جميع الحالات—أي أن النمو الاقتصادي يؤدي إلى خفض معدلات الفقر. علاوة على ذلك، فإن القوة التفسيرية لمعدلات النمو تزداد نوعا ما بطول الفترة، مع حدوث القوة القصوى في تقديرات الفترة 1970-90.
إن استعمال مكونات مؤشر الفقر الإنساني في تحليلات انحدارية مماثلة في الجدول 5 وباستخدام التقديرات الواردة في الجدول 4 ذات القيمة الأعلى لـ R2 المُعدلة (تقدير 1970-90) يُعطي مزيدا من الدلائل على منافع النمو الاقتصادي للفقراء. وعلى الأخص، في حالة زيادة النمو الاقتصادي بمقدار انحراف معياري واحد عن متوسط النمو للفترة 1970-90 (أي بمقدار 0.44)، عندها ستزداد نسبة السكان الذين سيتجاوزون سن الأربعين بحوالي 6 نقاط مئوية. وعند متوسط العينة، سيكون هناك انخفاض في النسبة المئوية لأولئك الذين لا يعيشون ليبلغوا سن الأربعين من 21% إلى حوالي 15%.
إن الفقر في جنوب صحراء إفريقيا مسألة مزعجة للغاية. وأحد اختبارات قوة النمو الاقتصادي للحد من الفقر هو البحث في سجلات 25 دولة إفريقية. وبإجراء تحليل انحداري لمؤشر الفقر الإنساني على المتغيرات الجغرافية ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ونمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (باللوغارثمات)، يتم الحصول على التقديرات التالية:[6]
وبإجراء تحليل انحداري لنسبة السكان الذين لا يعيشون ليبلغوا سن الأربعين، وعلى نفس المتغيرات، فإن ذلك يؤدي إلى التقديرات التالية:
تُظهر التقديرات أعلاه أن البيانات في الجداول 4 و5 تتماشى أيضا مع النتائج لجنوب صحراء إفريقيا. وفي كلا التقديرين، يكون معامل النمو طويل الأمد سالبا وشديدا—أي إن النمو الاقتصادي هو أقوى متنبىء بالانخفاض في درجة الحرمان. وتُبين اختبارات F لمساواة المعاملات أننا لا نستطيع أن نرفض المقترح أن معاملات عينة إفريقيا لا تختلف بشكل ذي أهمية عن معاملات العينة الكاملة.[7]
الخاتمة
يرتبط دخل الفقراء بشكل وثيق مع دخل الأغنياء. وبينما هذه العلاقة ليست تناسبية بالتساوي، فهي جديرة بالذكر. حيث ترتفع دخول الفقراء بارتفاع دخول الأغنياء بمقدار أكبر من العكس. والأهم من ذلك أن لدخل الأغنياء الأثر الملموس في الحد من مقياس الأمم المتحدة التقليدي للفقر. وبشكل ملحوظ، يؤدي النمو في دخل الأغنياء إلى التخفيض التناسبي لآثار الفقر وبمقدار أكبر من الحالة التي يزداد فيها دخل الفقراء. إضافة إلى ذلك، فإن النمو الاقتصادي يخفض الفقر بشكل واضح. والنتائج التي تم الحصول عليها لبلدان جنوب صحراء إفريقيا لا تختلف بشكل ملحوظ عن باقي دول العالم.
إن مصطلح “الانسياب للأسفل” مصطلح مغلوط: فالنمو في الحقيقة يستلزم شلالا وليس قطرة. وقد تكون نوعية النمو مهمة، ولكن النمو نفسه هو أضمن السبل نحو التقليل من الحرمان الإنساني حول العالم.
ملاحظات:
[1] تم استعمال منحنى لوغارثم الأرجحية. ولقد تم إضافة الرقم 1 إلى المتغير التبعي لمتغيرات مياه الشرب الآمنة والخدمات الصحية لتفادي أن يكون اللوغارثم صفرا.
[2] معامل دخل الفقراء هو -0.46 ومعامل دخل الأغنياء -0.82.
[3] تم الحساب على أساس مقاييس متوسط العينة “الوفاة قبل الأربعين”.
[4] إحصاء F في العمود الأول هو الاختبار بأن معامل الدخل للفقراء يساوي معامل الدخل للأغنياء؛ إحصاء t يظهر بين القوسين.
[5] يمكن اعتبار متغير مستوى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي كمعدل “مستقر” طويل الأمد بالمعنى التقليدي للاقتصاد الكلي، واعتبار معدل النمو الفعلي بمعدل النمو الفائض.
[6] تم استعمال منحنى لوغارثم الأرجحية مرة أخرى للمتغير التبعي.
[7] لمؤشر الفقر، F = 0.03 و p = 0.034. ولنسبة الوفاة قبل سن الأربعين،F = 1.01 وp = 0.327.
[8] ∆(النتاتج المحلي الإجمالي) هي النسبة المئوية لمعدل النمو للنتاتج المحلي الإجمالي الواقعي للفرد بين عامي 1970 و1990؛ إحصاء t يظهر بين القوسين.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 تشرين الأول 2006.