فقدان الاتصال بين الوعود السياسية والتنفيذ

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

ماذا يستطيع السياسيون أن يفعلوا لخلق وظائف تُدرّ أجوراً أعلى؟ لا بد أن السياسيين يظنون بأن معظمنا يعتقد بأن الجواب هو: الكثير. إن أحد أكثر الوعود الانتخابية تكراراً هي خلق وظائف جديدة بأجور جيدة. إنني سوف أحاول أن أُدلل بأن السياسيين يستطيعون عمل عدد من الأشياء لزيادة الوظائف ذات الأجور العالية. ولكن هذا لا يعني أنني أحبذ أن يحافظ السياسيون على وعودهم الخاصة بالأجور العالية، ذلك لأن الأشياء التي يستطيع السياسيون عملها لتحسين الوظائف ليست هي الأشياء التي سوفيفعلونها.
السياسيون يستطيعون تشريع سياسات من أمرين عامين اثنين، لتحقيق النتائج المرجوة، بما في ذلك خلق وظائف عالية الأجر: 1) السياسات القابلة للتنفيذ، ولكن بطريقة لا يستفيد منها السياسيون؛ 2) السياسات غير القابلة للتطبيق (وعادة ما تجعل الأمور أكثر سوءً)، ولكنها مع ذلك تخلف سراب الفعالية بطرق تخدم السياسيين.
وفق الترتيبات الديمقراطية السائدة، فإن النجاح الانتخابي يتطلب من السياسيين أن يظهروا كدعاة لتحقيق أهداف اجتماعية مرغوبة، مع عمل مباشر وحاسم يخدم جماعات المصالح الخاصة المنظمة. وحتى عندما تكون تلك المصالح مضرة اجتماعياً، وهي عادة كذلك، فإنها تفعل أكثر لخدمة مصالح السياسيين، بدلاً من السياسات التي تخدم الأهداف الاجتماعية العامة، بشكل غير مباشر، عن طريق خلق بيئة يستطيع الناس فيها تحقيق مصالحهم المختلفة من خلال التفاعل الإيجابي. المعضلة السياسية بالنسبة للتوجه غير المباشر تتألف من أمرين: الفوائد التي تتأتى تدريجياً وتعمّ ساحات واسعة بحيث أن القلائل فقط هم الذين يلاحظونها، وبذا يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل على السياسيين ادعاء فضل لهم في خلقها. وكما أوضح إف. إيه. هايك في مجلده الثالث بعنوان: القانون، والتشريع والحرية، فإن السياسيين “الذين يتطلعون إلى إعادة انتخابهم، على أساس ما حقق حزبهم خلال السنوات الثلاث أو الأربع التي مضت، في إعطاء مزايا خاصة وبارزة لناخبين، ليسوا في ذلك المركز الذي يتيح لهم إصدار القوانين العامة، والتي تكون بالفعل أكثر ما تكون خدمة للصالح العام.” عندما ننظر إلى السياسات التي تهدف إلى خلق وظائف عالية الأجر، فإننا بسهولة نجد أمثلة حيث يُفضل السياسيون “الفوائد” البارزة التي تسيء إلى الجمهور، بدلاً من الفوائد غير البارزة التي هي حقاً في صالح جماهير المواطنين.
كثير من السياسات تزيد من عدد الوظائف التي تعطي أجوراً عالية بشكل غير مباشر، ويبدو أن كثيراً منها تزيد العدد مباشرة، ولكنها في الحقيقة، تُنقص تلك الوظائف وتخفض مستوى أجورها. السياسات السابقة جميعها تفعل الشيء الضروري الوحيد لزيادة الأجور والرواتب: رفع إنتاجية العمل، بينما السياسات الأخرى جميعها تُخفض أو تؤخر زيادة الإنتاجية، وبالتالي تُخفض الأجور إلى ما هو أدنى مما كان يجب أن تكون عليه. التحيّزُ السياسي ضد السياسات الفعالة يبدو واضحاً من القائمة التالية، ومن البحث الموجز. لننظر أولاً في بعض السياسات التي تؤدي إلى زيادة الأجور.
 إلغاء القيود على الواردات: أحد أكثر الإجراءات فعالية يمكن للحكومة اتخاذها لزيادة إنتاجية العمل والأجور هو إلغاء التعرفة الجمركية والقيود على الاستيراد. تخفيض القيود على الاستيراد يزيد من المداخيل الحقيقية بوسيلتين. أولاً، إنه يخفض السعر الذي يدفعه العمال لتلك البضائع والخدمات التي يمكن إنتاجها بكلفة أقل في بلدان أخرى من تلك التي يدفعونها داخل بلادهم. ثانياً، إنه يزيد التنافس أمام المنتجين المحليين من قبل المنتجين في الخارج، وهذا يُوجه العمال إلى تلك المجالات التي تكون فيها إنتاجيتهم أعظم، والتي يتمتعون فيها بميزة نسبية.
رفع الإنتاجية هو أمر ضروري وكاف لرفع الأجور، على الأقل بشكل عام. لا يستطيع أي إنسان عاقل أن ينكر بأن هنالك كلفة تتأتى عن انتقال العمال إلى وظائف ذات إنتاجية أعلى، أو أن القليلين سوف لا يجدون وظائف تعطيهم أجوراً مساوية لتلك التي كانوا يتقاضونها. ولكن لا يمكن لأي اقتصاد أن يزدهر في غياب منافسة مفتوحة، والتي تبقي جميع الموارد، بما في ذلك الموارد العمالية، متنقلة من الوظائف الأقل قيمة إلى الوظائف الأعلى قيمة (من وجهة نظر المستهلكين)، استجابة لأحوال متغيرة على الدوام. لكن حتى أولئك الذين ينتهي بهم الأمر إلى قبض أجور أقل، بسبب التأقلمات الخاصة المطلوبة منهم، يظلون يكسبون أجوراً أعلى كثيراً من تلك التي كانوا سيتقاضونها لو ظل الاقتصاد مغلقاً على نفسه ضد إحداث مثل ذلك التأقلم.
 وضع نهاية لرفاه الشركات الكبرى الاحتكارية: القيود على الاستيراد هي شكل من أشكال الرفاه بالنسبة للشركات الكبرى، ولكنها ليست لسوء الحظ الشكل الوحيد. لقد نجحت تلك الشركات عن طريق لوبيات الضغط على الحكومة باكتساب عدد كبير من أساليب الدعم والأنظمة التي تجلب لهم الثروات، عن طريق فرض القيود على المنافسات التي تواجههم. إلغاء جميع أشكال المحاباة من شأنه زيادة عدد الوظائف التي تدفع أجوراً أعلى عن طريق تخفيض الضرائب والتأثير المشوِّه الذي تحدثه، وإتاحة المجال أمام التنافس الداخلي والخارجي بتوجيه الأيدي العاملة ورأس المال إلى أكثر الميادين إنتاجية، وفق ما يراه المستهلكون وليس كما يراه السياسيون الذين يخدمون مصالح عملائهم الخاصة.
 فئات ضرائب هامشية أقل: بغض النظر عن مدى كفاءة أية حكومة، فإن عليها أن تجمع الإيرادات للإنفاق على نشاطاتها، وهذا يعني فرض الضرائب. لسوء الحظ فإن جميع الضرائب تُخفض الإنتاجية عن طريق: 1) وضع فجوة بين السعر الذي يتلقاه المورد وبين ما يدفعه صاحب الطلب على البضاعة، وبالتالي، الحيلولة دون حدوث تبادل تجاري مُثمر؛ 2) دفع الناس إلى اتخاذ قرارات لتفادي دفع الضرائب، بدلاً من خلق الثروة. تلك التشوهات تسمى عادة بخسائر الأحمال الثقيلة، وهي كلفة لا مفر منها في دفع ضرائب فوق وبالإضافة إلى كلفة الفرصة لجني المال. إن تخفيض الخسائر الناتجة عن الأحمال الثقيلة نتيجة رفع نسب الضرائب يزيد من فعالية التعامل بين أصحاب العمل والعمال وإلى توجيههم إلى مناحي تستجيب لرغبات المستهلكين، ورفع مستوى الإنتاجية العامة، وكلاهما من شأنه رفع الأجور الحقيقية للعمالة. إذن، فإن طريقة فعالة لزيادة عدد من يتقاضون أجوراً عالية هي عن طريق تخفيض نسب الضرائب وتوسيع قاعدة دافعي الضرائب عن طريق إغلاق منافذ الهرب من دفعها. فكلما كانت نسبة الضرائب الهامشية أقل، كانت الفجوة أقل بين ما يتلقاه البائعون وما يدفعه المشترون. وكلما نقصت منافذ التهرب من دفع الضريبة (مصحوباً بنسب ضريبة أقل)، قلت الفائدة الضريبية من تحويل الموارد من الإنتاج ذي القيمة العالية إلى القيمة المنخفضة التي تتأتى عن تجنب دفع الضريبة.
 تجنب التضخم: تستطيع الحكومة أن تفعل الكثير لرفع أعداد الوظائف التي تدفع أجوراً عالية، وذلك عن طريق تجنب التضخم. التضخم يستنفذ الإنتاجية العمالية، ويخفض الأجور الحقيقية، تماماً مثلما يأكل من قيمة العملة. إن أكثر الأمور ضرراً بالنسبة للتضخم هي أنه يشوّه المعلومات التي تنقلها أسعار السوق، وتخفيض قدرة سوق المال على توجيه الموارد، بما في ذلك العمالة، إلى حيث تحقق أعلى إنتاجية لها. ومثلما أن المسطرة للقياس تفقد فائدتها في قياس ومقارنة المسافات، إذا كان طولها خاضعاً لتغييرات مفاجئة، كذلك، فإن أسعار السوق هي أقل فائدة لتقرير ومقارنة القيم، عندما تكون قيمة المال خاضعة لتقلبات فجائية. كذلك، فإن التشوهات الناتجة عن التضخم تجعل من المستحيل معرفة ما هي نسبة الفائدة المناسبة عندما يقترض الناس أو يقرضون مالاً لتمويل استثمارات طويلة الأجل. لذا، وفي أجواء من التضخم، فإن كثيراً من الاستثمارات الكفؤة، والتي تزيد من إنتاجية العمال في المستقبل، وتزيد من أجورهم المستقبلية، لا تأخذ طريقها إلى التنفيذ أبداً.
تجنُّب الترف
 خفض الإنفاق المترف: ليس هنالك من شك بأن تخفيض الإنفاق المُترف من شأنه زيادة الأجور الحقيقية عن طريق زيادة إنتاجية الاقتصاد. إن جزءاً كبيراً من الإنفاق تُحركه قدرة بعض دوائر المجلس التشريعي، أو جماعات المصالح الخاصة، على الاستحواذ على فوائد ومزايا عن طريق توزيع الكُلف على قاعدة دافعي الضرائب كلها. وحيث أن أولئك الذين يستفيدون أكثر من غيرهم يدفعون جزءً بسيطاً من الكلفة، فإن الضغط يتجه نحو توسيع الإنفاق إلى ما هو أبعد كثيراً من المستوى الأكثر كفاءةً اجتماعياً. الموارد تنتقل من الاستخدامات ذات الفوائد العالية إلى الاستخدامات الأقل فائدة بالنسبة للمستهلكين، وبالتالي تخفيض قيمة البضائع والخدمات المتاحة، وبالتالي تخفيض القيم الحقيقية للرواتب والأجور. الإنفاق الحكومي الزائد هو عنصر سلبي خارجي، تماماً مثلما هو التلوث الزائد، والأول ليس أقل هدماً للإنتاجية وليس أقل فعلاً في إذابة الأجور الحقيقية من الأخير. فإذا كان السياسيون قلقين بسبب النتائج السلبية الناتجة عن سياسة البذخ في الإنفاق، مثلما هم قلقون، كما يقولون، من التلوث الزائد، فإن النتيجة ستكون إنفاقاً حكومياً أقل مضيعة ووظائف برواتب وأجور أعلى.
 إلغاء الحد الأدنى للأجور: إن هذا سوف يزيد من الأجور عن طريق زيادة رأس المال البشري، والذي هو لكثير من الشباب الصاعدين يمكن تكوينه أفضل تكوين بالتدريب العملي في العمل. التشريعات الخاصة بالحد الأدنى للأجور تخلق البطالة بشكل واضح بين الشباب اليافع، والذين هم، ولأسباب عديدة، بما في ذلك مدارس عامة عديمة الجدوى، لا يملكون المهارات التي تستحق الحد الأدنى للأجور المنصوص عليه في القانون. النتيجة لن تكون فقط البطالة، التي قد تكون قصيرة المدى، بل تخفيضاً في الفرص لكثير من الشباب لكي يكتسبوا المهارات التي تجعلهم أكثر إنتاجية على المدى الطويل. وحتى أولئك الذين يحصلون على وظيفة بالحد الأدنى من الأجر هم أقل احتمالاً في الحصول على وظيفة يقدم فيها صاحب العمل فرص تدريب لهم، على حساب إنتاج فوري بشكل من الأشكال. الحد الأدنى يحرم الكثير من الشباب من فرص قليلة لمواصلة تعليمهم الرسمي من أجل كسب المهارات الضرورية التي تمكنهم من الحصول على مداخيل أعلى في المستقبل نتيجة العمل بأجور منخفضة عندما تكون عليهم مسؤوليات مالية قليلة. إلغاء قانون الحد الأدنى يجعل أمراً شرعياً للشباب الأقل حظأً بأن تتوفر لهم الفرص نفسها للحصول على وظائف في المستقبل بأجور أعلى، مثل تلك التي تتوفر لمن هم أكثر حظاً من خريجي الجامعات الذين يتلقون الدعم فيها.
 إنقاص سلطة نقابات العمال: إن إزالة بعضٍ من الامتيازات التشريعية المعطاة للنقابات العمالية سوف يكون أحد الوسائل الفعالة لزيادة الأجور. نقابات العمال تعمل على زيادة أجور بعض العمال، ولكنها تفعل ذلك عن طريق تخفيض أجور آخرين بقدر يؤدي إلى تخفيض الأجور بشكل عام. وبسبب الامتيازات التشريعية التي تتلقاها الاتحادات، فإن من الصعب، وفي بعض الأحيان من المستحيل على العمال أن يتأهلوا لبعض الوظائف، بدون الانتماء إلى أحد الاتحادات. وهكذا، فإن الاتحادات تستطيع رفع بعض الأجور عن طريق حظر الانتماء إلى بعض مجالات العمل وجعل أولئك العمال أقل كفاءة، مع وجود قوانين عمل صارمة.
جميع هذه الممارسات تؤدي إلى تخفيض في الإنتاجية للقوة العاملة. إن منع الدخول إلى بعض مجالات العمل يزيد من أجور بعض أعضاء النقابات الذين يعملون في تلك المجالات، بيد أن ذلك يزيد من عدد العمال في مجالات أخرى، حيث مهاراتهم أقل قيمة. هذا لن يؤدي فقط إلى تخفيض أجورهم، بل إنه يخفض من إنتاجية وأجور العمال بشكل عام، عن طريق الحيلولة بينهم وبين الالتحاق في وظائف تعطيهم مردوداً أعلى. وبسبب تقليص مرونة أصحاب العمل على نقل العمال من مجال عمل إلى مجال عمل آخر، استجابة لظروف متغيرة، فإن قوانينَ عملٍ غير مرنة تخفض كذلك من إنتاجية وأجور العمال.
اتحادات العمال على امتداد القطاع الصناعي قد خفَّضت أيضاً من الإنتاجية الاقتصادية العامة عن طريق تجمع العمال الذي يحول دون المنافسة. فإذا ما وافقت الشركات في صناعة ما بشكل صريح على تخفيض الإنتاج من أجل رفع الأسعار، فإنها تكون قد خالفت القانون الذي يمنع التواطؤ بين الشركات لتحديد الأسعار (والذي استُثني من تطبيقه نقابات العمال) والذي يفرض عقوبات صارمة، بما في ذلك السجن، لكبار المديرين. ومن الناحية الأخرى، فإن الشركات في الصناعات لا تقلق كثيراً إذا ما تم تنقيص الإنتاج بسبب إضرابٍ من الاتحادات. لذا، فإن أرباح الشركات وأجور أعضاء الاتحادات يمكن زيادتهما بسبب عدم كفاءة “الكارتل” (الاتفاقات لتحديد التجارة) التي تظل ضمن القانون فقط بسبب أن وراءها اتحادات العمال. (إنني لا أجادل بالنسبة لقوانين مكافحة التواطؤ لتحديد الأسعار، وحتى لو أمكن جعل تلك القوانين بمعزل عن الاعتبارات السياسية، وهذا لم يحدث أبداً ولن يحدث، فإنها سوف تظل تحد من التنافسية في المجتمع، بسبب نظريات الكتب الجامدة التي تفترض تنافساً كاملاً، وهو ما بُنيت عليه.)
جميع هذه النقائص الآتية من قوى اتحادات العمال تُخفض التنافس وبالتالي تؤدي إلى تناقص الأجور الحقيقية. إن تلك النواقص سوف تتناقص كما أن الأجور الحقيقية للعمال سوف تتزايد إذا تم تحجيم نفوذ اتحادات العمال. وكما بيّنت، فإن جميع السياسات التي بحثتها لها قاسم مشترك واحد: إن من شأنها زيادة الأجور عن طريق رفع الإنتاجية الاقتصادية. كما أن شيئاً آخر يجمعها: أنها ترفع الأجور على مستوى عريض، وبشكل غير مباشر، وتدريجياً، عن طريق خلق بيئة يتعاون الناس فيها تعاوناً منتجاً، من خلال السوق وبطرق تخدم مصالحهم المشتركة أفضل خدمة. هذا يعني أن الوظائف الأفضل والأجور الأعلى لن يظهرا على الفور، وحتى لو كان الأمر كذلك، فلن ينظر إليهما على أنهما نتيجة عمل حكومي تستحق عليه الثناء. وعليه، فإن فعالية تلك السياسات في خلق ذلك النوع من الوظائف التي يعد السياسيون دوما بخلقها لن تترجم إلى تأييد سياسي كبير بالنسبة لهم. يفضّل السياسيون تلقي الامتنان عندما يبدون وكأنهم يخلقون وظائف أفضل مصحوبة بنتائج عكسية، بدلاً من نيل الامتنان لسياسات تخلق بالفعل وظائف أفضل. وسوف نبحث الآن في سياسات لها شعبية سياسية لأنها ظاهرياً تعد بزيادة الوظائف ذات المداخيل الأعلى، بينما هي في الواقع تؤدي إلى انخفاضها.
السياسات التي تخفض الأجور

 تقييد الاستيراد: عندما يجادل السياسيون بشأن زيادة القيود على الاستيراد، أو ضد تخفيضها، فإنهم يدَّعون دائماً بأنهم يريدون حماية الوظائف التي تعطي أجوراً عالية. القيود على الاستيراد تحمي بالفعل بعض الوظائف ذات الأجور العالية، ولكن على حساب تخفيض خلق وظائف أخرى، حتى بأجور أعلى، بسبب الانخفاض العام في الإنتاجية والتي تخفّض معدل الأجور الحقيقية. بيد أن الوظائف المحمية يحتلها حالياً عدد معروف وقليل نسبياً من الذين يتمتعون بتمثيل سياسي جيد، وهم على وعي تام بالمزايا التي يحصلون عليها من السياسيين، الذين يدلون بأصواتهم إلى جانب فرض قيود على الاستيراد تحميهم من المنافسة الأجنبية. إن الخسائر الناتجة حتى عن وظائف أعلى إنتاجية يمكن أن يتجاهلها السياسيون، ما دام أنها مبعثرة وغير مركزة وليس من السهل ملاحظتها، ذلك أننا لا نفتقد ما لم نكن قد حصلنا عليه أصلاً. وحتى لو لوحظت الخسارة فإن السبب—تقييد الاستيراد—لا يُرى بسهولة.
 وضع الشركات الكبرى على قائمة من يتلقون المنح والعطايا: السياسيون يتأرجحون بين مهاجمة رجال الأعمال وبين الثناء عليهم، ويتوقف ذلك على نوعية الموضوع السياسي والجو المحيط به. بيد أنهم ثابتون في دفع كميات كبيرة من المنح والعطايا لصالح الشركات الكبرى، والتي يدفع ثمنها دافعو الضرائب، من خلال ضرائب أعلى وإنتاجية اقتصادية أقل. أكثر الأقوال شيوعاً في تبرير تلك العطايا هي أنها تخلق وظائف جديدة.
وفي الحقيقة فإنها تخلق وظائف جديدة، ولكن على حساب تدمير فرص قيام وظائف أكثر إنتاجية، كان يمكن أن تنشأ لو لم توضع قيود على التنافس، ولو كان قد سمح للمستهلكين بصرف أموالهم التي يدفعونها كضرائب لشراء ما يفضلون من بضائع، بدلاً من دفعها كعطايا لرفاهية الشركات الكبرى.
لسوء الحظ، فإن الوظائف التي تنشأ هي مرئية ويمكن رؤيتها بسهولة كنتيجة لإجراء حكومي، بينما الوظائف ذوات المردود الأعلى والتي لا تنشأ تظل غير مرئية—ذلك أن من الصعب افتقاد ما لم ينشأ أصلاً.
 رفع الضرائب: كثيراً ما يدعو السياسيون لفرض ضرائب أعلى كأفضل وسيلة لدعم النمو الاقتصادي، وخلق وظائف أكثر وأعلى مردوداً. الفرضية هي أن الضرائب الأعلى سوف تخفض العجز في الموازنة، والذي بدوره يخفض الفوائد التي تدفع على الاقتراض الحكومي. إن شعبية رفع الضرائب من أجل خلق وظائف جيدة يتعارض مع جوهر هذا البحث. إنها تقول بأن السياسيين مستعدون لاتخاذ قرار غير محبوب—رفض الضرائب—من أجل تحقيق فائدة أعم، ألا وهي نمو اقتصادي عام وخلق للوظائف. بيد أن رفع الضرائب ليس طريقة ناجعة لزيادة النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وحتى لو أدى رفع الضرائب إلى تخفيض عجز الموازنة، فإنه ليس من المحتمل أن يكون له تأثير كبير على نسب الفوائد. الذي يقرر نسبة الفائدة هو سوق رأس المال العالمي، حيث كثيراً ما تنخفض الفائدة في ذات الوقت الذي يرتفع فيه عجز الموازنة، وترتفع عندما يكون في حالة انخفاض. ثانياً، رفع الضرائب قلما يخفّض العجز في الموازنة، على الأقل ليس لأمد طويل. وحتى عندما تؤدي الضرائب الأعلى إلى موارد ضريبية أكبر، فإن الأموال الإضافية تُستخدم في جميع الحالات لتوسيع الإنفاق الحكومي والصرف على برامج الرفاه، مع نمو الإنفاق بأكثر من نمو الواردات. والنتيجة هي استبدال الإنفاق الخاص بالإنفاق العام الذي يكون خاضعاً للمؤثرات السياسية بدلاً من الاعتبارات الاقتصادية—وهي وصفة أكيدة لتخفيض الإنتاجية وتخفيض الأجور الحقيقية. كذلك، وبنسب ضرائب أعلى، فإن أصحاب المصالح الخاصة مستعدون لدفع مزيدٍ من المال للسياسيين مقابل إعطائهم منافذ للتهرب من الضريبة، ومن شأن ذلك إدخال اختلالات إضافية على الإنتاجية في توزيع الموارد بين الإنفاق والاستثمار. إن الثمن السياسي لرفع الضرائب يُعوَّض بما هو أكثر منه في المزايا السياسية الناشئة عما يبدو بأنه خلقٌ لوظائف جديدة، في الوقت الذي يُستخدَم فيه المزيد من الدخل القومي لشراء مزيدٍ من التأييد الانتخابي.
 زيادة الإنفاق الحكومي: إن قائمة الفوائد التي تنشأ من زيادة الإنفاق العام على بناء الطرق والتعليم ودعم الزراعة والمتنزهات العامة وتوسيع المطارات وتحويل منتوجات المياه وغير ذلك، تنطوي دائماً على وظائف إضافية. بيد أن الوظائف التي تنشأ تشكل جزءاً كبيراً من نفقات تلك المشاريع وليست فوائداً. إن الوظائف الضرورية لبناء طريقٍ أو لإعادة تحويل علب الألمنيون مليئةٌ بأناس لا ينتجون قيمة في غير ذلك من النشاطات. وما لم تؤخذ هذه الكلفة بعين الاعتبار، فإن الوظائف التي يتم إنشاؤها سوف تدمر الثروة الهامشية، لأن القيمة التي يصنعها العمال الذين يعملون في المشاريع التي تمولها الحكومة سوف تكون أقل من القيمة (في معيار تفضيل المستهلكين) التي كان يمكن لهم إنجازها في مناحي أخرى. إذن فالحوافز السياسية تجعل سوء التوزيع هذا للعمالة أمراً لا مفر منه.
 تنظيم سوق العمل: يستطيع السياسيون أن ينالوا الفضل في حماية وخلق الوظائف عن طريق فرض عددٍ من القيود التي تخفض الإنتاجية في أسواق العمل. لنذكر اثنين: أولاً، تنفيذ قوانين العمل الإلزامي يضع الضغط على أصحاب العمل لتوظيف عمال على أساس التنوع العرقي للمجتمعات التي يعملون فيها، ويزيد من صعوبة التخلص من العمال غير المنتجين. ثانياً، إن الذي يُعيَّن بإرادة سياسية يقلل من المرونة المتاحة لدى صاحب العمل بتعديل التعويضات بوسائل تجذب أفضل تشكيلةٍ من العمال في مصانعهم، وبأقل الكلف.
إن خيرة السياسات التي تخلق وظائف ذات مردودٍ أعلى بشكل غير مباشر يكمن في أنها تفعل ذلك عن طريق خلق مجموع إطار إيجابي يتم في كنفه تعامل الناس وتفاعلهم بشكل أكثر فاعلية. الزيادة ذاتها في الإنتاجية، التي ترفع المداخيل، ترفع كذلك المستوى العام للثروة، وترفع من مستوى حياتنا في العديد من المجالات. وعلى سبيل المثال، كلما ازدادت الثروة، فإن وفيات الأطفال تنخفض، وترتفع توقعات الحياة (ونوعية الحياة أيضاً) في جميع مستويات العُمر، وينخفض الفقر، وتصبح البيئة أكثر نظافة، ويزيد ارتياد النشاطات الفنية، وتزداد أوقات الراحة، وتصبح الوظائف أكثر أماناً وأبهجَ وأعلى مردوداً.
المشكلة في السياسات التي تعمل على خلق وظائفٍ ذات مردود أعلى مباشر هو أنها تفعل ذلك عن طريق التحويلات الحكومية وسياسات الحماية، وهي بمجموعها سلبية. ومع ذلك، فإن هذه السلبية مفروضة بدوافع سياسية لأن السياسيين يتلقون الكثير من الثناء والتقدير لتوفيرها، بينما لا يعانون أي ملامة للخسائر الأكبر التي تنتج عنها.
بالتنسيق مع مجلة فريمان، نيسان 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 8 شباط 2007.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018