لم يشهد ربع القرن الماضي أزمة اقتصادية إقليمية في الاقتصاد العالمي أعمق من الكارثة الاقتصادية العميقة التي لحقت بالعالم العربي. وباستثناء ملحوظ للبلدان التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي بعد انهياره والتي تعرضت لانكماش شديد في الناتج العام في سياق إدارة تحوّل هزيلة، فإن الشعوب العربية شكلت المنطقة الوحيدة في العالم الحديث التي تراجع فيها معدل الفرد من الدخل الوطني بالأسعار الثابتة عام 2005 إلى اقل مما كان عليه عام 1980. لقد تراجعت حصة الفرد الحقيقية من الناتج المحلي الإجمالي مقيّمة بالنسبة لسبعة عشر بلداً عربياً من 5375 دولاراً مقدرة بالقوة الشرائية المكافئة عام 2002 إلى 5189 دولاراً.
وفي الوقت الذي انكمشت فيه الاقتصادات العربية كان الاقتصاد العالمي يواصل النمو بمعدل ارتفاع في دخل الفرد بنسبة 1.8% سنوياً. نتيجة لذلك فقد اتسعت الفجوة بين البلدان العربية وغير العربية بشدة خلال الخمسة وعشرين عاماً الماضية. في عام 1980 كانت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في العالم العربي تساوي 93.2% من معدلها على المستوى العالمي، أما في عام 2005 فقد تراجعت إلى 57.9%، وهذا هبوط هائل في المكانة النسبية بلغ حوالي 38%. بل إن التراجع الاقتصادي في البلدان العربية مقارناً بالغرب (22 دولة متقدمة في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا) كان أكبر من ذلك: 41% تقريباً. في عام 1980 كانت حصة الفرد في البلدان العربية من الناتج المحلي الإجمالي تعادل 26.3% من مستواها في الغرب، وهبطت هذه النسبة في عام 2005 إلى 15.6% فقط.
حتى بلدان جنوب الصحراء الإفريقية، المعروفة عالمياً بأنها أكثر المناطق اضطراباً في العالم، شهدت تراجعاً في حصة الفرد فيها من الدخل مقارنة بالمستويات في البلدان الغربية بمعدل أقل من التراجع الذي حصل في العالم العربي: 1.8% و2.1% سنوياً على التوالي. وحتى بلدان الكتلة السوفييتية السابقة استطاعت بعد استئناف نموها الاقتصادي منذ عام 1998 تضييق الفجوة بينها وبين الغرب بمعدل 7 نقاط مئوية. البلدان العربية وحدها هي التي واصلت التراجع.
لماذا؟ لماذا يحدث مثل هذا الركود في إحدى أغنى المناطق في العالم؟ ما هي العوامل التي قد تفسر انحداراً استثنائياً كهذا؟ هناك عدة نظريات شائعة بهذا الخصوص: الدين (أي الإسلام)؛ الخصوصيات العرقية (أي القومية العربية)؛ ولعنة الموارد (أي الثروة النفطية). بيد أن أياً من هذه النظريات لا تعطي تفسيراً معقولاً عند إخضاعها لفحص دقيق.
لم تسلك البلدان الإسلامية غير العربية نهجاً مختلفاً فقط عن البلدان العربية بل إنها حسّنت من وضعها في الاقتصاد العالمي بصورة واضحة، فقد ازداد معدل حصة الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي من 40.9% من المستوى العالمي عام 1980 إلى 43.8% عام 2005.
التذرع بالقومية العربية كسبب للركود يبدو ايضاً موضع شك، فلثلاثة عقود متتالية سبقت عام 1980 كانت البلدان العربية تزيد من حصة دخل الفرد فيها بسرعة مدهشة—بلغت 3.9% سنوياً—وهي، لأغراض المقارنة، كانت بوتيرة أسرع من معدل نمو اقتصادات شهيرة خلال ربع القرن الماضي مثل تشيلي، وقبرص، وهونغ كونغ، والهند، وإندونيسيا، ولوكسمبورغ، وماليزيا، وسنغافورة.
أما مسألة “لعنة النفط” فمن الصعب إلقاء اللوم عليها أيضاً. فأولاً، النفط لم يكن عائقاً للنمو الاقتصادي السريع الذي تحقق خلال الفترة بين 1950-1980، وإضافة لذلك فإن زيادة أسعار النفط في سبعينات القرن الماضي قد عملت بصورة جوهرية على تسريع التنمية في العالم العربي. ثانياً، النمو الاقتصادي في البلدان العربية بقي بطيئاً بإصرار في الفترة من 1980-2005 بغض النظر عن سعر النفط—سواءاً كان مرتفعاً أو منخفضاً—أو طاقة إنتاجه تزايداً أو تراجعاً. إضافة لذلك فإن التدفق الهائل في الموارد المالية إلى المنطقة في السنوات الأخيرة قد فشل في إحداث أي تغيير إيجابي ملموس في المستوى النسبي مقارنة مع المتوسط العالمي أو متوسط المناطق الأخرى بما في ذلك الغرب.
لماذا حدث ذلك؟ ما هي نقطة التحول؟ ما الذي عكس نمو الاقتصادات العربية؟ ما الذي أعاد الشعوب العربية للخلف بما يعادل ثلاثة عقود من حيث معدل حصة الفرد من الدخل؟
إن الحل لهذا اللغز هو الأقطار المصدّرة للنفط (أوبك). إنه دخول هذا الكارتل الاحتكاري في أنشطة الحياة في منتصف سبعينات القرن الماضي بطريقة غيرت بشدة ديناميات النمو والرخاء الاقتصادي في العالم العربي. إنه تأميم المنشآت الإنتاجية في صناعة النفط وبنيتها التحتية، وتخصيص حصص الإنتاج، وإدارة الإنتاج الفائض، واللجوء إلى التخطيط المركزي في قطاع الطاقة، وإنتاج أسلوب “حزمة الأسعار العادلة”، وخلق “أسواق تحت السيطرة”، كل ذلك أدى إلى تدمير اقتصاد عربي فعال وحيوي وديناميكي.
حقيقة أن صناعة الطاقة تشكل في البلدان العربية الأعضاء في أوبك من 50%-70% من الناتج المحلي الإجمالي تعني أن الحكومات تملك الجزء الأكبر من الاقتصاد وتخضعه لتخطيط مركزي—وهو ما لا يختلف كثيراً عن البلدان الاشتراكية السابقة والعواقب الخطيرة المشابهة على النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية. الفرق الوحيد هو أنه، وخلافاً للبلدان الاشتراكية، فإن بلدان أوبك تقوم بإدارة صناعة النفط بصورة فعالة ليس فقط على المستوى الوطني بل على المستوى الدولي أيضاً. المسألة ليست فقط تخطيطاً مركزياً بل هي “تخطيط مركزي تام”!
هذا هو السبب في أن الأداء السيء للبلدان العربية الأعضاء في أوبك ينبغي ألا يثير دهشة أحد. لقد تراجعت مستويات حصة الفرد من الدخل في هذه البلدان بشدة بين 1980 و2005: في السعودية من 18 إلى 11 ألف دولار، وفي الكويت من 20 إلى 17 ألفاً، وفي ليبيا من 6 إلى 3 آلاف دولار، وفي الإمارات العربية المتحدة من 33 إلى 24 ألفاً، وفي قطر من 38 إلى 12 ألفاً.
المقارنة المدهشة أن حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان العربية غير الأعضاء في منظمة الأوبك قد ازدادت: في البحرين من 14 إلى 20 ألف دولار، في عُمان من 5 إلى 9 آلاف دولار، في تونس من 3800 إلى 6900 دولار، في مصر من 2700 إلى 4200 دولار، في سوريا من 4500 إلى 5200 دولار، وفي اليمن من 3000 إلى 3300 دولار. بل إن البلدان العربية التي ليس لديها نفط يذكر على الإطلاق مثل (الأردن، ولبنان، وموريتانيا، والمغرب) قد حققت نمواً اقتصادياً إيجابياً—وإن كان متواضعاً.
قد تبدو الأرقام المطلقة لحصة الفرد من الدخول في مجموعة البلدان الثانية غير مثيرة للاهتمام ومع ذلك فإن ازديادها قد أدى إلى تحسن الاقتصاد وحياة الناس. الأرقام المطلقة في البلدان الأعضاء في أوبك قد تبدو مدهشة، بيد أن تراجعها يشير إلى توجه إلى الجانب السلبي.
في عام 1980 كانت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان العربية الأعضاء في أوبك تزيد بنسبة الثلث عنها في البلدان العربية المجاورة غير الأعضاء. وبحلول عام 2005 كان الوضع قد انعكس بأكثر من الضعف، فقد أصبحت حصة الفرد من الدخل في الدول العربية غير الأعضاء في أوبك تزيد بنسبة 74% عنها في الدول العربية الأعضاء. لقد كانت نسبة حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان العربية الأعضاء في أوبك تعادل 167% من مستوى المعدل العالمي قبل 25 عاماً فأصبحت اليوم 72% فقط. البلدان العربية غير الأعضاء في أوبك تفوقت في أدائها ليس فقط على زميلاتها البلدان العربية الأعضاء في الكارتل بل حدث أن كانت المجموعة العربية الفرعية الوحيدة التي حققت نمواً متوازياً أيضاً مع الاقتصاد العالمي، وبذلك لم تتسع فجوة مستوى الدخل بينها وبين الاقتصاد العالمي.
لقد فشلت منظمة الأوبك في إنجاز ما وعدت به العالم عند إنشاء المنظمة الاحتكارية العابرة للحكومات. وبدت سياسات الإنتاج في المنظمة انحيازية، وغير قابلة للتنبؤ، ومقوِّضة للثقة، وليست غير تكرارية بل هي تكرارية بصورة أساسية. بعض عواقب “المرض الأوبكي” تشمل ارتفاع معدل أسعار النفط في العالم، وارتفاع تكلفة الاستكشاف والاستخراج والتطوير، والزيادة في أسعار الغاز، والتراجع الحاد في معدل نمو إنتاج النفط وتصديره. لقد أدت سياسات أوبك إلى قدرة احتياطية أكبر، واستثمارات أقل، ونمو أقل في معدلات الإنتاج، ونمو أقل في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وزيادة حدة “عدم الأمان النفطي”.
ولكن جميع هذه العواقب التي لحقت بالاقتصاد العالمي تَبْهت بالمقارنة مع الكارثة الاقتصادية التي جلبتها أوبك على البلدان الأعضاء فيها، بما في ذلك البلدان العربية منها. اليوم يبلغ معدل حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في سبعة بلدان عربية أعضاء في أوبك ما يقل بنسبة 33% عن معدله عام 1980. ولأغراض المقارنة فإن حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على المستوى العالمي زادت بنسبة 55%، وفي أوروبا بنسبة 49%، وفي أمريكا الشمالية بنسبة 65%، وفي آسيا بنسبة 140%، وفي الصين بمعدل 7.6 أضعاف، وحتى في جنوب الصحراء الأفريقية بلغت الزيادة 3.2%.
يتطلب وقف الكارثة الاقتصادية في العالم العربي إلغاء الأسس التي يقوم عليها وجود احتكار طويل المدى فرضه تدخلات حكومية على المستويات الوطنية والدولية. أفضل الطرق فعالية لتحقيق ذلك هي الخصخصة الكاملة لقطاع الطاقة وفتحه للاستثمارات الخاصة (بصرف النظر إن كانت محلية أو أجنبية) وإزالة جميع العوائق على الاستثمار في البنية التحتية المتعلقة بالوقود مثل خطوط الأنابيب والموانئ وشبكات الطاقة الكهربائية واستبدال الأسواق المسيطر عليها بأسواق تنافسية حرة. وينبغي تفكيك منظمة الأوبك، هذه المنظمة التي تقع عليها مسؤولية تراجع الاقتصادات العربية عن سائر اقتصادات العالم.
بعد ذلك ستصبح الدول العربية قادرة على تضييق فجوة الدخل وتجاوزها في نهاية المطاف، وهي الفجوة التي اتسعت بسرعة واستمرت بطريقة سخيفة طيلة العقود الأخيرة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 23 كانون الثاني 2007.