peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

تنصب الشعوب عليها الحكام ليدافعوا عن حريتها، لا ليستعبدوها، كما يقول ج.ج. روسو. من هنا تكتسب الحكومات شرعيتها السياسية والأخلاقية، التي تؤسَّس على حرية مواطنيها، وليس العكس. إذ بمقدار مايكون الشعب حرّاً فإن شرعية الحكم لاتزيد على أن تكون تعبيراً عنه، وممثلة لإرادته الحرّة. وبهذا المعنى فإن الشعب الحرّ حين يرتضي الخضوع لسلطة حاكمة منبثقة عن تلك الإرادة، فإنه لايخضع إلا لنفسه، فلا يجوز لأي حاكم مخوّل أو سلطة مفوضة الإدعاء بالسيادة على الشعب، الذي لاسيادة لأحد سواه. ولا تستطيع أية قوّة أو سلطة، تحت أية ذريعة، أن ترغمه على الخضوع لها أو تنتزع منه تلك السيادة، أو إدعاء الوصاية على حريته ومصيره.
يصعب البرهان على أن الحكومة القوية هي الأكثر مسؤولية وقدرة على صون حرية مواطنيها. ذلك أن قوّة الحكومة لا تبدو مبررة وضرورية إلا في حالات معدودة جداً، وهي تلك التي يعجز فيها المجتمع عن القيام بمهامه ومواجهة مشكلاته. فالمجتمع الأكثر كمالاً وصحة واستقلالاً، هو الأقل حاجة إلى سلطة سياسية قوية. ويستنتج توماس بين أن ثمة علاقة عكسية بين مجتمع حرّ وحكومة بسيطة تمثل الحدّ الأدنى من السلطة، وبين مجتمع مقيد مستعبد وحكومة معقدة، مركزية وقوية. ذلك أن الحكومات القوية هي الأكثر بُعداً عن الحرية، والأقرب إلى الاستبداد، ويتعذر في أيّة دولة تعتمد على تركيز لسلطة الحكم وعلى شمولية القوّة أن تصان الحريّة، إذ لابدّ أن تقع تحت إغراء إساءة استعمال السلطة وتتعسف حتى ولو كانت دولة ديمقراطية. من هنا تقتضي حرية الأفراد والمجتمع تحديداً للسلطة وتقييدا دائماً لاندفاعها، وكبحاً لها ولجماً، الأمر الذي يستحيل تحققه بوجود حكومة قوية، لا تكترث بالحدود، وتنعدم لديها الروادع المجتمعية والدستورية.
لقد غدا التمييز بين الدولة والحكومة، لجهة المنشأ والأهداف، أمراً بدهياً في أدبيات الفكر السياسي. ومن الواضح أن التباين في الغاية من القوّة بين الكينونتين هو أيضاً أساسي. فلا يجوز تزييف هذه المسألة عبر تحويل الهدف من قوّة الدولة إلى الداخل، واختزال ذلك في قوّة السلطة، الأمر الذي يعني ببساطة إضعاف المجتمع والهبوط إلى الدكتاتورية. إن قوّة الدولة لاتكون قط إزاء المجتمع، وموجهة نحو الداخل، بل تكون إزاء الآخر- الخارج، الذي ينافس وجودها ويهدده. وثمة ميل دائم لديها لإثبات قوتها إزاء الكينونات المماثلة، التي تشكل تحدياً لها وتستهدفها، وهي تحقق ذاتها على هذا الأساس. وبخلاف الحكومات القوية، فإن أكثر الدول قوّة هي تلك الأكثر ديمقراطية، وتكفل لمواطنيها أعظم قدر من الحرية والمساواة. فلا يمكن لأية دولة أن تبرهن على وحدتها وقوتها إزاء الخارج، مالم تكن ديمقراطية مبنية على المساواة بين مواطنيها وتعدّ حريتهم غاية أساسية لهم. والحال أن السلطة القوية أو الحكم الذي يتكئ على القوة يشعر باستمرار بضعفه إزاء المجتمع، لأنه يضمر اعتقاداً بأن التهديد الداخلي لها، لا الخارجي، هو الأشد خطراً على وجوده. ويعيش دائما تحت شعور هذا التهديد بهزيمته المحتملة أمام المجتمع مما يدفعه إلى التطرف في القوة والهيمنة.
الشعوب الحرّة فقط تستطيع أن تدافع عن وجودها وعن استقلالها. والبشر مالم يتركوا أحراراً، أو أن يعيشوا حريتهم ويشعروا بها داخل أوطانهم، لايمكن للفضيلة الوطنية أن تتحقق فيهم. والحال أن الشعب الجاث على ركبتيه لا يمكن أن يصمد أمام أي تهديدٍ خارجي أو يقاوم. وعلى الدوام كانت أقدام الطغاة في الداخل تمهد طريق الغزاة، وهذا ماحصل بالفعل في العراق، البلد الذي لم يجد شعبه بدّاً من التخلص من عبودية الداخل إلا عبر الرضوخ والقبول بالغزو الخارجي، وينبغي النظر إلى ردّة فعل العراقيين عشية سقوط بغداد على هذا الأساس.
ثمة استنتاج، عمومي ونسبي، يلزم عن معيار التمييز السابق نشير إليه هذا السياق. هو إن ما ينبغي البحث عنه في الدولة هو قوّتها، لا شرعيتها. فالحديث بهذا المعنى ينبغي أن يكون عن الدولة القوية، لا الدولة الشرعية. لأن شرعية الدولة هي في وجودها بالذات، في عقد تأسيسها، ولايفترض البحث عنها خارجها. ولا تبدو هذه المعادلة بالنسبة لسلطة الحكم غير ذي أهمية. إلا أن الأولوية هنا، وبخلاف الدولة، تكمن في الشرعية، شرعية الحكم والسلطة السياسية، التي تتمثل في توافق السلطة مع مصالح المجتمع. في حين أن قوة نظام الحكم ومركزيته لا يصلحان إلا لإضعاف المجتمع والشعب الذي يأخذ بهما، ويقودانه في المحصلة إلى العبودية والقهر.
يواجه العراقيون مجدداً مشكلة احتكار السلطة، عبر الدعوة إلى ( المرْكزة) والعودة إلى نظام حكم قويّ يختزل في نفسه السلطة والسيادة. بذريعة أن غياب مركز ثقل سياسي واقتصادي ونظام وصاية، هو الجذر الحقيقي للفوضى والعنف والانقسام السائد. والحال أن التجربة التاريخية، تدحض هذه الادعاءات، وتثبت أن أكثر أشكال العنف والاضطراب قسوة، وأكثر الحروب المدمرة حدثت بوجود سلطة قوية مستبدة. فهي عوضاً عن أن تكون سبباً للأمن والسلام، والحرية ووسيلتها، أصبحت مصدراً للفتن والقهر والخراب الشامل.
© منبر الحرية، 01 يونيو/حزيران 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018