سربست نبي

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

مفهوم الحداثة، بوجه عام، هو مفهوم مشّكلْ بالمعنيين التاريخي والمعرفي، إلى الدرجة التي يكاد يستحيل فيها اليوم، أن نجد تعريفاً موحداً، جامعاً ومانعاً له. فإذا كانت هذه الصعوبة تواجهنا في السياق التاريخي لنشوء المفهوم، فليس أقله أن تكون مقاربة المفهوم، على الصعيدين التاريخي والأيديولوجي للإسلام، أكثر تعقيداً وأشدّ إشكالاً.
إن السياق التاريخي الذي قاد الغرب إلى ما وصل إليه، لم تزل العديد من المجتمعات الإسلامية بعيدة عنه. وهو الوضع الذي يمكن تسميته، مستعيراً عبارة هابرماس، بـ(تعاصر اللامتعاصرات) إذ تبدو الأخيرة معاصرة للغرب الحداثي على الصعيد الجغرافي، وكذلك على صعيد استهلاك المنتجات التقنية لتلك الحداثة، دون أن تكون كذلك على المستويات الأخرى. وتلكم هي المفارقة الكبرى والمألوفة جداً. إذ نلحظ هنا (لا) حاسمة وقاطعة للحداثة وأيديولوجيتها، ونفاجأ إلى حدّ الدهشة، في الوقت نفسه، حين نجد تلك المجتمعات غارقة حتى أذنيها في مظاهر الحياة الحديثة. ثمة شره شيطاني بمنتجات الحداثة ووسائلها، وولع لامحدود بالتكنولوجيا وسائر التجهيزات والمعدات اللازمة لممارسة المتعة والرفاهية، وجشع بالمال والمتع والسلطة والشهرة. وتهيمن على سلوكها انتقائية فاشية متطرفة. ومع ذلك ترفض التنظيم الاجتماعي والسياسي الحديث.
هنالك سخط أيديولوجي مسبق إزاء الحداثة ومفهومها، يصاحب الخطاب الإسلاموي في هذه المجتمعات، يتخذ ردّات فعل عنيفة في أحيان عديدة. وأحيان أخرى تجابه الحداثة بمصدّات أيديولوجية قوامها النزعات الخلاصية والخرافات والأوهام العتيقة، التي لاتخلو من الفزع الثقافي والأخلاقي المسرف، الذي ينمّ عن كراهية للتحرر والتقدم والإصلاح والعقلانية. وتكشف عن هشاشة تلك المجتمعات وعجزها عن الصمود في وجه دوّامة التغيير التي تكتنفها. إن القوة المركزية، الجاذبة والساحقة، لتلك الدوامة لا تبقي على شيء، بمنأى عن صيرورتها، إذ تحدث تصدعات وشروخ، في العمق والسطح، وتكشف النقاب عن عمق هوة التفاوت في البنى والمؤسسات والرؤى والمعايير.
إن الوعي الإسلاموي المعبر عنه في الخطاب الفكري والعقائدي للجماعات والأفراد والمؤسسات، وحتى المفصح عنه في الممارسات الرمزية والطقوسية، العامة والشائعة، الإسلامية، يعكس إلى حدّ كبير الكيفية التي يدرك بها العالم  وصيرورته. وهو مطبوع بطابع الحيرة والقلق والتشاؤم والعدمية وعدم الثقة بالمستقبل. ذلك أن هذا الوعي لا يجد الحياة المثلى في الحاضر أو المستقبل، وإنما يتخذ العودة إلى الوراء سبيلاً للسير إلى الأمام. فالإسلاموي  أسير لهذا العالم الحديث على الصعيد المادي والمتع، لكنه في وعيه وروحه ينتمي إلى عالم تقليدي وماض، ويتطلع إلى حجب ضوء التقدم ورفض كل العناصر الإيجابية له. و يسعى جاهداً إلى طرح نموذج منهك للحياة، نموذج عتيق وبال تم تجاوزه، وثقافة متخطاة لا تصلح للأخذ بها نمطاً للحياة المعاصرة. إنه وعي مأزوم يسعى إلى إجبار البشر على السير بعكس التاريخ، متسلحاً بعجرفة أخلاقية ومكابرة جوفاء تأبى القبول بفكرة التقدم. ولهذا نراهم يتحذلقون في شؤون الدنيا برياء أخلاقي يلّف عباراتهم، وهم غارقون في حاضر الحداثة، ويلعنون ثقافتها، ولا يكفون عن إعلان حنقهم على دعواتها السياسية والثقافية.
من نافل القول، إن هيمنة الحداثة الفكرية والعلمية والتقنية، وحتى السياسية والأخلاقية، غدت أمراً مسلماً به، وبداهة معيشة في عالم اليوم. ولدى مقابلة الوعي الإسلاموي بالحداثة، نجد أنفسنا مدعوين إلى الانحياز لتجلياتها الغربية وخصائصها دون الانقياد الأعمى لها، ذلك لأنها تمثل النموذج الكوني الأكثر تقدماً. وهي تتجلى لنا من خلال السمات الأبرز والمعايير التالية:
–    طغيان النزعة العقلية الصارمة. إن الاستعمال التام للعقل يجب أن يكون دائماً حرّاً، كما كان كانط يقول، وغير محدوداً أو مقيداً بزمان أو مكان. وبالمقابل، فإن الوعي الإسلاموي يقيّد استعمال العقل الإنساني، لافتقاره إلى الثقة بالعقل والشجاعة في استعماله. ويكرس قيم الطاعة والخضوع بتقييد حرية استعمال العقل بأصفاد الأقانيم المقدسة، التي ترسخ عبودية الإنسان. إن الإيمان بالغيبيات والمعجزات يغني، برأيه، عن استخدام العقل.

–    نشوء التصور الكوزمولوجي الجديد للكون. وهو تصور يقوم على رفض التفسير الغائي للطبيعة والعالم، ويهدف إلى تأكيد سيطرة الإنسان على العالم الطبيعي، بحيث غدت الطبيعة موضوعاً للفعل الإنساني وغاية لتحقيق المزيد من الحرية والسعادة.. وبموازاة ذلك، فإن الإيمان بالعالم الطبيعي،هذا الإيمان الجديد الذي حملته الحداثة تضمن تحولاً جوهرياً من القيم الأخروية إلى القيم الأرضية. من هنا تعين على البشر تفسير ظواهر العالم باستكشاف عللها المادية الأصلية، لا عللها الغائية المقحمة في الطبيعة.

–    بالاتساق مع القناعة السابقة، صارت الممارسات الإنسانية في بعديها( السياسي والاجتماعي) تتم بمعزل عن التدين أو المقاصد الدينية، واختفت المعايير المقدسة العليا أو الوصايا التي كانت تستبد بالمصير السياسي والاجتماعي للإنسان. فقد حلّ الإيمان بالإنسان ومركزيته، بحيث أصبح معيار الأشياء جميعاً، كما يقول زريق، إنه الغاية والوسيلة معاً. وهو العامل الفاعل في صناعة التاريخ وتقدم الحياة وسيّد مصيره.

–    الحداثة في أحد مظاهرها الرئيسة تعدّ اعترافاً بأن الإنسان هو سيد مصيره وسيد العالم في آن. وتمثل انعتاقاً متواصلاً للإنسان تجاه الموروث وسلطة التقليد والتنظيم الاجتماعي. وهي تعادل الحرية الفردية والمساواة، وتقدس حياة الفرد ومبادراته الحرة بمقابل تماهيه في الجماعة المقدسة. وتقرّ باستقلال وعيه وعالمه النفسي ونزعاته الخاصة وخياراته وأبعاده العاطفية جميعاً. في حين أن خصوم الحداثة يراهنون على القبول بالموروث والتقليد، والخنوع لسلطة الجماعة، والخضوع للنظام الاجتماعي التراتبي الأبدي، في تعريف الفرد. ويدعون إلى كبح الفردية الحرة في سبيل الحفاظ على تماسك النظام الاجتماعي المغلق وانسجامه، ويركنون إلى التقليد والإتباع بإزاء التجديد والابتكار الفردي والإبداع. إنها، بعبارة مختصرة، دعوة إلى خلق الإنسان وفق نموذج ماضوي متقادم، لا يكترث بالحرية الفردية والإبداع والعقل الفردي، ولا حتى بالمساواة بين البشر سوى المساواة في العبودية.

–     الحداثة هي، بمعنى من المعاني، تفكير في التاريخ الواقعي ومن خلال التاريخ، لا في الأساطير التي توؤل التاريخ. وتحوّل من المعايير الأخروية إلى المعايير التاريخية، ومن النزعات الخلاصة الماضوية إلى البحث المتفائل والتقدم اللامحدود في التاريخ. والحال أن الوعي الإسلاموي يتمسك بالنهايات الحتمية، والعوالم المغلقة والمكتفية بذاتها. وهكذا يغدو مفهوم التاريخ لديه مستقلاً عن سياقه الزمني، مغلقاً، ينتمي كله إلى ماض مقدس، هو ليس الزمن البشري المعاش، المنفتح على المستقبل والصائر قدماً.

وطالما هو كذلك، فإنه تاريخ صائر في الزمان والمكان. إن ما يميز المفهوم الحداثي للتاريخ، طبقاً لـهيغل وماركس، هو حركيته  وصيرورته المحطمة لكل ما هو ثابت وأزلي ومقدس. والحال أن ركود التاريخ هو الوضع الأمثل بالنسبة للوعي الإسلاموي، الذي لا يعترف بموضوعية التغيير وحتميته إلا طبقاً لمشيئة مفارقة لهذا العالم.
© منبر الحرية، 28 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

من  الواضح  أن  بوسع  الدولة  أن  تكون  دولة  سلطة  سياسية  حاكمة،  دون  أن  تكون  دولة  مواطنين  إذا  لم تعترف  بأن  مهمة  النظام  السياسي،  هي  الاهتمام  بمصالح  المحكومين  ورعايتها  وبتنمية  الدور  السياسي للمواطن،  وضمان  مساهمته  الحرة  بوصفه  فاعلا  سياسياً . إذ  ينبغي  أن  يشعر  المواطنين  أنهم  يساهمون في  بناء  الحياة  والمجتمع  السياسيين،  فإذا  لم  يتعمق  لديهم  هذا  الشعور  بالانتماء  إلى  المجتمع السياسي  والدولة،  وإنما  إلى  أسرة  فقط،  أو  قرية،  أو  طائفة،  أو  عرق،  أودين،  فإن  هذا  الوعي  بالانتماء  الأخير يترسخ  على  حساب  شعورهم  بالمواطنة  العمومية  والمشتركة
.
تقاس المساهمة السياسية للمواطن بمعايير واضحة تتعلق بقدرته السياسية على التعبير عن آرائه بحرية وبترجمة قناعاته السياسية وتجسيدها خلال العمل الفردي أو الجماعي المنظم، وبدرجة تأثيره على آليات عمل النظام السياسي وقراراته، و تحكمه بسلوك ممثليه. فبمقدار ما يمتلك المواطن الوعي السياسي والأدوات والوسائل التي تتيح له ترجمة هذا الوعي في سلوك حرّ بعيد عن الإكراه، تكون البيئة السياسية هي الأمثل. وقد وجد الفلاسفة السياسيون أمثال لوك Locke ومل Mill وتوكفيلTocqueville  وغيرهم أن هذه المعايير هي أساسية لنظام ديمقراطي ناجح قائم على التعددية وحرية التعبير وحقوق الأقليات.
المشاركة السياسية الحرة والطوعية للمواطنين، هي شرط أساس لأي نظام سياسي حديث كفَ عن أن يكون مستبداً وبالياً. وقد أظهرت التجربة التاريخية للعديد من المجتمعات أن حيوية الأخيرة، وتماسكها واستقرارها، رهين بدرجة الإسهام السياسي والمبادرة لدى المواطنين. بينما يفسّر هشاشة النظام السياسي وعدم استقراره وضعف المجتمع المدني بعزوف الأفراد أو منعهم عن المشاركة السياسية، وتحاشيهم المساهمة وليس العكس. لقد مثل النظام العراقي البائد نموذجاً حيّاً لهذا الموقف. إذ اعتقد أن من شأن القمع وسلطة الخوف وحدهما أن توحدا المجتمع، فحوله إلى عبد لقوته المتعسفة. وقد  أفضى ذلك إلى تدمير روح الاجتماع الإنساني بالذات، فتحول المجتمع في أحسن أحواله إلى جمهرة قلقة وعدمية، محتقنة ومفككة، تسودها الكراهية وعدم الثقة.
يتعلم المواطن في زمن الاستبداد والقهر أن يكون سلبياً إلى أقصى درجة، وخلق الرعب لديه نوعاً من العدمية السياسية واللامبالاة، التي كرست الاغتراب الداخلي وعمقت من تصدع الوحدة السياسية والاجتماعية المطلوبتان إزاء أيّ تحدّ خارجي. ومن هنا أخفقت جيوش صدام الجرارة في الإنابة عن المجتمع دفاعاً عن نظامه وعن سيادة البلاد. إن الدرس الرئيس، الذي يمكن استخلاصه من التجربة العراقية هو، أن أقدام الطغاة والمستبدين هي التي تمهد الطريق أمام الغزاة حينما تجعل من أعناق مواطنيهم موطأ لها وتروضهم على الخنوع والذل.
لا يستطيع النظام السياسي الدفاع عن المجتمع وحمايته من دون مواطنين أحرار يستشعرون حريتهم، مهما ادعى ذلك. فالنظام الذي يؤثر القمع يولّد الخوف في  الأذهان ويخلق مقداراً كبيراً من عدم الثقة، ويؤدي كل ذلك، في نهاية المطاف، إلى القطيعة بينه وبين الأساس الاجتماعي لشرعيته وبقائه.
إن النظام السياسي الذي لا يثق بالوعي السياسي الوطني لمواطنيه، ليس له أن يفرض وعياً وطنياً مشتركاً بالقوة من دون أن يغامر بإثارة العداء والكراهية نحوه. إن عملية التعبئة الأيديولوجية التي تبدو مفروضة هنا، لا تخلق شعوراً وطنياً مشتركاً وفاعلاً، ومن  ثم عوضاً من أن تحقق تواصلاً سياسياً محتملاً بين النظام السياسي والمجتمع المدني، فإنها تحدث صدعاً بين الطرفين. إنها في أحسن الأحوال تجعل المجتمع يتحرك ويتكلم بشعارات لا تتفاعل ووعي أفراده وضمائرهم.
إن من شأن الكوابيس الأيديولوجية، التي تنجم عن تماهي المجتمع والدولة مع أيديولوجية حزب حاكم، أن تضعف الشعور بالمواطنة لدى الأفراد وتخنق لديهم كل ابتكار أو تنوع خصب في الرؤى، وتقيّد روح المبادرة. فالمجتمع الديمقراطي الحديث في أبرز تعريف له، هو المجتمع الذي يشرك أكبر تنوع ثقافي ممكن وتنوع في الآراء مع أوسع استخدام ممكن للعقل، مع ضمان أكبر قدر ممكن من الاحترام للتطلعات الفردية والجماعية، ودون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف أو القهر أو الإقصاء..
من جانب آخر، فإن الاعتقاد بأن المصلحة الوطنية تقتضي هذا التماهي بين المصادر الثلاث، إنما يقوض كل أساس سياسي أو قانوني لمعارضة تعسف السلطة، ويطيح بكل إمكانية لتصحيح مثالبها وتعويضها، وبالتالي يعدّ العدة لشرْعنة أخطائها، بجعلها القاعدة الناظمة للحياة السياسية. فيصير لزاماً على الدولة إذا شاءت أن تكون وطنية وديمقراطية حقاً، أن تعترف لمواطنيها بحقهم في   المعارضة ضمن إطار القانون، بالأسلوب الفردي أو الجماعي. فلا تقوم الدولة فقط بتحديد سلطتها على هذا النحو، وإنما تفعل ذلك من موقع وعيها بأن شرعية نظامها السياسي واستمراريته مرهونتان بدرجة تفاعلها وتواصلها مع المجتمع المدني، وبقوة الأخير ومقدار تأثيره.  فإذا لم تفعل ذلك، فإن ادعائها بأن شرعيتها مستمدة من تمثيل مواطنيها يعد نفاقاً بلا طائل..
إن اجتماع المساهمة السياسة للمواطنين مع تحديد السلطة وتقييدها  بوساطة الحقوق الأساسية، يعدّ الأساس الراسخ لأي نظام سياسي حديث، الذي بدونه لا تكون الدولة دولة مواطنين أحرار. لكن يتعين أن يتوج كل ذلك غياب مبدأ مركزة السلطة ونفي كل صفة جوهرية عنها، بوصفها حزب واحد، تنطق باسم الشرعية الأخلاقية والسياسية للمجتمع. الأمر الذي يمكن ترجمته بشكل ملموس في التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرّة ونزيهة تعتمد رغبة الأغلبية قانوناً لها.
© منبر الحرية، 28 يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic17 نوفمبر، 20100

شعب واحد, مدينة واحدة, في برهة واحدة من أشد لحظات القرن الماضي كثافة وعمقاً وخصوبة وتوتراً, احتل واجهة مسرح التاريخ المعاصر. كانت دوامة التغيير المعاصر تتركز هناك وتتحقق. حدثٌ تجاوز زمانه الخاص, ويمكن القول عنه إنه مثل كل شيء في نهايات القرن وكان ختامه الباهر. وليس ثمة شك حقيقي في أنه كان نهاية حقبة في تاريخ العالم وبداية حقبة جديدة.
تداعى جدار برلين في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 بعد 28 عاماً من بنائه. يكشف هذا الحدث عن الدور الشامل الذي لعبته مدينة, ليس في تقرير مصير أمة فحسب, وإنما في تاريخ أوروبا كلها. لن نشارك المؤرخين في وصف الواقعة مجدداًً, لكن الذي يبدو جديراً بالاهتمام هو مقاربة الحدث في كونيته وكليته, والسعي لفهم كيف استطاع هذا الحدث الجزئي أن يكون مقدمة لتداعيات عالمية أكبر وأشمل؟ فهو بخلاف الحوادث الأخرى يمنحنا مدلولاً كلياً للتغيير. لهذا يتعين البحث عن تصور موحد وكلي للتغيير الذي تم انطلاقاً من هذا الموقف الجزئي بالذات.
إن محاولة اكتشاف معنى هذا التحول التاريخي وإماطة اللثام عن مغزاه العميق, لن تكون ممكنة دون النظر إلى الحدث في عالميته. ذلك أن برلين التي عادت ألمانية بالتمام والكمال غدت بوابة للتغيير العالمي الأشمل, وصارت دروب التغيير كلها تقود إليها ومن خلالها.
لقد حقق الشعب الألماني مهمته التاريخية القومية بوحدته, إلا أنه, وفي الوقت نفسه, دشن مرحلة جديدة في تاريخ شعوب أوروبا والعالم, ومهد السبيل أمام تقدم نوعي لحريتها. ولهذا السبب فإن هذا التطور لايُنسب لتاريخ ألمانيا المعاصر إلا بمعايير جغرافية وسياسية محددة, فقد كانت له أبعاد أسمى وأشمل. وكما سيبرهن التاريخ فإن الوحدة الألمانية لم تك مجرد غاية قومية ألمانية فحسب, وإنما غاية كونية أكبر, كانت تعبيراً عن الإرادة العقلانية الحرة لشعوب أوروبا في التغيير من أجل حياة أرقى, ومن أجل تحقيق ذاتها عبر الانفتاح والتواصل. ومثلت تقدماً متزايداً نحو قيم الحرية والوحدة والعقلانية, وتشكل هذه العناصر الثلاثة قوام تطور التاريخ الأوروبي الراهن. هكذا بدا مالم يك قط عقلانياً بوجود الجدار, أصبح أكثر اتساقاً مع العقل بغيابه وانهياره.
قرابة ثلاثة عقود من الزمن تحدى الجدار تقدم أوروبا ووحدتها, ناهيكم بألمانيا المقسمة. وبسقوطه صار بالإمكان الحديث عن التاريخ الأوروبي بصفته تاريخاً للعقلانية والوحدة والحرية في آن. من هنا كان تشكل ألمانيا الموحدة نفياً للدولة الألمانية, بمعنى من المعاني, وخروجاً للألمان من ألمانيتهم السياسية إلى أوروبيتهم, وهذا هو التحول الحاسم في تلك العملية التاريخية..
كان الجدار هو اللغز الذي توقف على حله معضلة التقدم الأوروبي, وانهياره كان بمثابة ولادة أوروبا الجديدة, وسيأتي الوقت الذي لن تستطيع فيه أوروبا أن تكتشف سر وجودها إلا من خلال هذا الحدث العظيم. حينها فقط تغدو حكمة ف.هيغل F.Hegel أكثر واقعية ووضوحاً على هذا النحو( إن بومة منيرفا لم تشرع بالطيران إلا بسقوط الجدار).
© منبر الحرية،09 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

الحقد الديني ليس كمثله شيء في كثافته وعمائه وتأثيره الرهيب على وعي المتدين. ليس كمثله شيء في حماقته وجنونه وتعصبه. فتخيلوا إذن ذلك حين يكون هذا الحقد قوام الشعور السياسي لسلطة دينية تحتكر في نفسها شرعية السماء! كيف لها أن تحترم اختلاف الآخرين عنها سياسياً ومعتقداً؟ كيف تُعامل الآخرين، أفراداً وجماعات، دون تمييز حين تكون الهويّة الدينية قاعدةً لتصنيف الناس لديها؟
إيران، الدولة والمجتمع، تمثل ترسانة هائلة من العقائد التاريخية والثقافات العرقية المتنوعة. وتاريخها مفعم بالتحولات الفكرية والسياسية والمذهبية. ولم يكن بوسعها يوماً أن تكون غير ذلك بسبب من مكانتها الحضارية والجغرافية. وحينما شرع الإيرانيون بالتخلص من طغيان الشاه (16- كانون الثاني 1979) قَدِم رجل ملتحي وطموح، من أصول هندية، وراح يفرض نظاماً فجّاً متغطرساً ولامعقولاً على الحياة. أخذت المدينة كلها تغرق في الظلام والكآبة. فقد امتطى عربة الدين التي تجرها خيول المتعصبين. وجعل الشعب الإيراني يفقد عقله، جعله يهذي، وقاده إلى الهلاك!!! كما كان المخلوع محمد رضا بهلوي يقول وهو في حيرة من أمره ومصيره.
شكّل الإرث الديني والمذهبي للفرق الإمامية خلاصة سياسية لخطاب الخمينية. إذ عمد روح الله المصطفى إلى استلهام التراث الفقهي والسياسي للفرق المهدوية- الإمامية بهدف التأسيس لشرعية سياسية جديدة، وسعى إلى التماه مع الرؤى الميثولوجية الخلاصية بغرض اكتساب القداسة التاريخية. ومن هذا المنطلق أقام بنى سياسية ومؤسسات كُرّست بشرعية دينية، هيمنت على كل مناح الحياة.
في المبدأ فإن التشيّع نسق ديني سياسي خالص، وهو متخم بالمطالب الأيديولوجية والدنيوية المباشرة، وإن تلبس بلبوس التصورات الأخرويّة. ولهذا لم يكن عسيراً على قائد الثورة الطموح تأسيس نظام كليّ القدرة والقداسة تحت وصايته المطلقة، ومتمركز حول إرادته الذاتية، التي عدّت إرادة متعالية ومقدسة لارادّ لها، باعتباره التشيّع خميرة أيديولوجية لخطابه الثوري.
وفي هذا السياق يعدّ مفهوم” ولاية الفقيه” الذي جاء به الخميني تعبيراً عن هذا الطموح السياسي الصرف، الذي لا لبس فيه، لاحتكار السلطة، وإن اتخذ صيغة دينية أراد بها الخميني  أن تكون ذا سند أو مصدر إلهي يتعدّى إرادة البشر والتاريخ.
فصّل الخميني في كتابه” الحكومة الإسلامية” رؤيته في” ولاية الفقيه” وقصد بها أن يتقلّد المجتهد أو مرجع التقليد، أو نائب الإمام، أو المرشد جميع سلطات المهدي وصلاحياته الدنيوية حتى يتجلّى الأخير للبشر في آخر الزمان. وتنطوي هذه العقيدة على نوعٍ من التفويض الإلهي للمهمة الكوزمولوجية المقدسة للإمام الغائب للكائن الإنسان الذي يباشر الإمامة باسم المهدي.
وعبر هذا التفويض يستحيل الفقيه إلى إمام معصوم وحاكم منزّه، لا تناقش أوامره ووصاياه، التي تغدو مقدسة كذلك بالنسب. إذ طالما أن الإمامة ليست بالاختيار أو الانتخاب، وإنما هي من عند الله، فهي لأجل ذلك معصومة بالنسب المتتابع، وعليه لم يكن اعتباطاً إدعاء الخميني أن روح الله حلّت فيه، وبالتالي فإن إرادته تمثل تجسيداً للإرادة الإلهية.
إنه، على حدّ تعبيره في” كشف الأسرار”، ينوب مناب الإمام الغائب. فهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضايا، والحكم بين الناس. والرادّ عليه كالرادّ على الإمام، والرادّ على الإمام كالرادّ على الله تعالى، وهو على حدّ الشرك بالله.
برغم هذا، يعتبر المستحكمون برقاب الشعوب الإيرانية كل التهريج السياسي والانتخابي القائم ديمقراطية من طراز خاص، ديمقراطية إسلامية مشفوعة ببركة السماء. ويتجاهل هؤلاء واقع أن فلسفة الديمقراطية تقوم على القول بالمصدر البشري الدنيوي للسلطة، وبأن القرار الإنساني الحرّ هو مبدأ كل قيمة سياسية أو أخلاقية. وأن لكل نظام اجتماعي أصلاً إنسانياً دنيوياً.
هذه الفلسفة تتعارض تماماً مع العقيدة الدينية الراسخة، التي تقول بالمصدر الإلهي للحكم والوصاية السماوية. و هي ترفض النظر، من هذا الموقع، إلى رعايا الدولة على قاعدة المساواة في المواطنة وفي الحقوق الطبيعية التي تفرضها صفتهم كبشر، والتي تكمن في طبيعة الإنسان بالذات. فحسب الكائن أن يكون إنساناً حتى تكون له تلك الحقوق وهي حقوق سابقة على أي انتماء أو وضع ديني أو قومي. وبما أنه لا يمكن لأي إنسان أن يكون إنساناً أكثر من سواه أو أقل، وبما أن صفته كإنسان لايمكن استعارتها أو التخلي عنها، مثلما أفادنا فلاسفة الحق الطبيعي، فإن كل فرد يحمل في ذاته حقه كإنسان وهذا الحق واحد لجميع الناس، بصرف النظر عن هويتهم الدينية أو القومية. هذه القناعة تتنافى مع النظرة الدينية السابقة لمصدر الحكم والغاية منه، بل وحتى مع التصور الديني للإنسان. فإذا كان النظام الديمقراطي هو شكل الحكم الذي يجسد المساواة في شعب من المواطنين، فإن الأيديولوجية والمؤسسة الدينيتين تقولان بالنظام القائم على شعب من المؤمنين وتفرضان نمطاً معيناً من الطاعة هي طاعة ” مافوق الدولة”. وكل من يتعارض في إيمانه أو رأيه مع النسق المعتقدي السائد ويختلف عنه يصبح كافراً ويغدو خارج نطاق الرعاية ويحكم عليه بالحجر.
لا ينبغي أن نتوهم بأي حال أن المساواة ممكنة في ظلّ سلطة دينية تتكئ على شرعية ماورائية ولاهوتية مجردة، وأن الديمقراطية ممكنة طالما أن هناك إرادة مطلقة تتعدى الإرادات جميعها، وإن المواطنة ممكنة في ظلّ تعريف الأفراد بموجب هوياتهم الدينية أو المذهبية أو عقائدهم. إذ لا تعود العلاقة السياسية المجردة بين المواطنين الأحرار والمتساوين ممكنة، وإنما تستحيل إلى علاقة بين رعايا قوامها الإيمان الشخصي والشعور اللاعقلاني، وتعدّ الريبة الدائمة والكراهية وغياب التسامح ناظماً لها. وتغذي السلطة الدينية هذه الانفعالات، وتميل عادة إلى توجيه الأفراد بهذا المنحى بعيداً عن مبادئ  العقل. بحيث تستحيل الاختلافات السياسية لديها إلى مجرد اختلاف في الإيمان الديني،  وتغدو المعارضة السياسية في نظرها مروقاً دينياً وهرطقة، تجابه عادة  بالقسوة والعنف الذي يغذيه الحقد الديني لدى السلطة. التي لا يعود لها من عمل سوى إرهاب المختلفين عنها سياسياً وردعهم وترويعهم دون رحمة.
© منبر الحرية، 04 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

يكشف السياق التاريخي لنشوء المجتمع الأمريكي عن حالة فريدة, ذلك أن غياب ماض إقطاعي للولايات المتحدة، أدّى إلى خضوع الدولة للمجتمع المدني. ولهذا بقيت الدولة في هذه الحالة، دولة الحدّ الأدنى.
ظلت الدولة الأمريكية التي ظهرت على هذا النحو، كمستبد عديم الجدوى، منفصلة وتابعة للمجتمع المدني إلى حدّ كبير، وقد كرّس هذا الوضع النظام الاتحادي الذي مكّن سلطة المجتمعات المحلية لكل ولاية على حساب سلطة المركز حتى غدت كيانات سياسية أصيلة، شبه مستقلة, وكان الإسهام الأمريكي على صعيد نظرية النظام الفيدرالي أكبر تجديد جاءت به أمريكا في ميدان علم السياسة. فمنذ أمد غير قريب اتخذ الأمريكيون من الفيدرالية عقيدة ومبدأ رئيساً, وجعلوا من المجتمع المدني الديمقراطي أساساً, بحيث لايوجد أية سلطة بمعزل عن إرادته, ولا يمكن تصور فكرة البحث عن أية شرعية للسلطة خارج المجتمع. وبهذا فقط تكون الإرادة السياسية وحتى السيادة موزعة بالتساوي على كل فرد من أفراد هذا المجتمع, وتكون الخيارات السياسة تابعة لإرادة الجميع.
في مثل هذه الأحوال من المفيد أن نستعين بعبارات توكفيل, الذي لم يستطع مفكّر من قبله, ولا من بعده إلى حدّ ما, أن يصوّر الحياة الأمريكية بمثل دقته, ولا أن يتكهن مثله بقوّة الديمقراطية الأمريكية الثقافي وزخمها السياسي, التي أثبتت للتوّ تفوقها وامتيازها بأنها قادرة على التغلب على تناقضاتها, وأن تتخطى مثالبها السياسية أكثر من أي نظام سياسي آخر.
إن الشطر الأعظم من أسباب نجاح هذه الديمقراطية, لا ترجع إلى الدولة فحسب, وإنما إلى المبادئ السائدة في المجتمع الأمريكي والراسخة فيه, ذلك أن تاريخ الديمقراطية هو بالدرجة الأول تاريخ مؤسسات ومجتمعات ديمقراطية قبل أي اعتبار آخر. ويلاحظ أن الديمقراطية التي تستطيع أن تتجاوز مثالبها وعيوبها السياسية, وبخلاف الديمقراطيات الراكدة التي تنجم عن مجتمعات راكدة, يصاحبها عادة تحول في العادات والأخلاق والقوانين, إنها الديمقراطية الخصبة والحية. بهذا المعنى الديمقراطية في أمريكا كانت بالنسبة لـتوكفيل تمثل حالة أخلاقية وثقافية للمجتمع المدني أكثر من كونها نظاماً سياسياً. ومن هنا لانبدو مكترثين بديمقراطية النظام السياسي للدولة, وقد غدت أمراً واقعاً ومعاشاً, فحسب. إنما الأكثر أهمية من ذلك التنويه بثقافة المجتمع المدني الديمقراطية, حين يغدو الأخير حافزاً للحرية الفردية ويؤدي في المآل إلى إظهار إبداعات الفرد الخلاقة وتميّزه. نحن نبدو معنيين هنا بالبحث في الحرية المدنية والمساواة الفعلية وطبيعة السلطة التي يمارسها المجتمع على أفراده وجماعاته وأقلياته. هذا هو السؤال الذي يتوقف على إجابته فهم التحول الذي حدث في أمريكا بانتخاب رئيس من أصول أفريقية للمرة الأولى. وهو السؤال الذي يبحث في التوافق بين قوة الأغلبية في المجتمع المدني ودور الأقلية, وفي الشروط التي تؤمن تخطي استبداد الأغلبية العرقية أو الدينية أو السياسية؟؟
قوّضت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة العقبات الثقافية والأيديولوجية, التي كانت تحول دون انجاز المساواة التامة بين أفراد المجتمع الأمريكي, بسبب التباينات الثقافية والعرقية وغيرها, وأزاحت إلى حدّ كبير الحالة القديمة وتناقضاتها المضادة للمساواة. فلو كانت المسألة مجرد مساواة شكلية تتم عبر تحقيق إرادة الأغلبية باسم شرعية انتخابية لقادت إلى استبداد وهيمنة العنصر الأبيض فحسب, دون أن تمنح الفرصة أو الحرية, لبروز عنصر ينتمي إلى ثقافة الأقلية. وهذا هو التحدّي الخطير الذي استطاعت الديمقراطية الأمريكية أن تتخطاه, وذلكم هو النظام العقلاني القائم على الانسجام بين المساواة والحرية كما تكهن توكفيل. إن التهديد المرعب للحرية والمساواة يكمن هنا, في احتمال طغيان الأكثرية, وتلكم أحد أهم شرور الديمقراطية, التي تعمل في العمق, في المنطقة السرية للحياة, حيث تتغذى على الأفكار والعواطف الدينية, وعلى المشاعر العرقية اللاعقلانية.
وحققت الديمقراطية في حدها الأدنى, بهذا التحول, نوعاً من المساواة في الحقوق, ومن ثم نوعاً من المساواة في الشروط التي تقود إلى تقدير متساو لجميع الأفراد بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية والثقافية. وجعلت من الجميع متساوين دون أن تفقدهم خصوصياتهم أو حرياتهم الخاصة, وقادت باراك أوباما, المهاجر الأفريقي, إلى سدة الرئاسة في أعظم دولة رأسمالية, دون أن ترغمه على تغيير لون بشرته, وهذا ماكان الحلم المستحيل بالنسبة للسود الأمريكيين في وقت من الأوقات. إن الديمقراطية لاتحقق المساواة السياسية عبر ضمان ذات الحقوق فحسب, وإنما هي أداة لتخطي التباينات الثقافية والعرقية والاجتماعية, باسم الفضائل المدنية العليا. وهي تبين أن التفاوت, في الثروة والجنس والعقائد, لايقف حائلاً دون ممارسة الحقوق المدنية والسياسية ذاتها.
لقد أثبتت الثقافة الديمقراطية السائدة قدرتها هنا على التسامح وعلى حماية التنوع والانسجام في وقت واحد, وعلى ضمان الخصائص الثقافية والدينية المختلفة للمجموعات العرقية, وصون التطلعات الفردية على نحو متكافئ. وهنا تكمن جدارة المجتمع المدني الأخلاقية والثقافية, حين يبدو قادراً على مقاومة هيمنة عنصر أو ثقافة دينية أو عرقية بعينها على السلطة السياسية, أو السيطرة على المجتمع السياسي وطبعه بطابعه الخاص. فالمجتمعات المدنية القوية وحدها القادرة على مقاومة هيمنة دين أو عرق أو أية ثقافة معتقدية على السياسة, وعلى مجابهة تماه الدولة في أيديولوجية قومية أو مذهبية مستبدة. وبموازاة ذلك تبرهن هذه السابقة التاريخية على أننا نستطيع أن نعيش معاً بطريقة أفضل برغم اختلافنا, ونؤسس لحياة أرقى وأكثر انفتاحاً وإنسانية برغم التنوع القائم, الذي يعدّ شرطاً لأي تواصل إنساني, حقيقي ومثمر.
ويتعين علينا أن نذكر أيضاً, إن هذه الديمقراطية, علاوة على تعدديتها, هي في بعدها الشامل علمانية. وكما يشير آلان تورين فإن ميزة الديمقراطية تكمن هنا في تناقضها مع هيمنة معتقد بعينه أو دين على السياسة, وفي إثبات حرية الرأي لشخص أو طائفة. إن الاتكاء على ثقافة دينية, أومعتقدية, أو عرقية من جانب السلطة السياسية تقوض الديمقراطية وتقيد أسس المساواة.
إن انتخاب أوباما  يعكس شغفاً لامتناه بالمساواة لدى المجتمع الأمريكي, هذا الشغف الذي ينمو بلا انقطاع لديه ولا يشبع, لأن هذا المجتمع لن يتوصل قط إلى مساواة تكفيه, وقد بلغت الآن انبساطها الأكمل لديه بهذا الحدث. وأثبتت نبوءة توكفيل بأن التحول الديمقراطي الشامل بعيد عن أن يكون عارضاً ومؤقتاً أو ذا طابع محلي. إن الاندفاع المتواصل إلى تحقيق المساواة يوازيه هنا بالمثل تقدم نحو تحقيق الحريات الاجتماعية والسياسية, الأمر الذي يبرهن على الدور المتعاظم للمجتمع المدني في النظام السياسي, وعلى عزم مكوناته وذواته الفاعلة على التصرف بشكل مسؤول وحرّ في الحياة العامة.
© منبر الحرية، 17 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

تنصب الشعوب عليها الحكام ليدافعوا عن حريتها، لا ليستعبدوها، كما يقول ج.ج. روسو. من هنا تكتسب الحكومات شرعيتها السياسية والأخلاقية، التي تؤسَّس على حرية مواطنيها، وليس العكس. إذ بمقدار مايكون الشعب حرّاً فإن شرعية الحكم لاتزيد على أن تكون تعبيراً عنه، وممثلة لإرادته الحرّة. وبهذا المعنى فإن الشعب الحرّ حين يرتضي الخضوع لسلطة حاكمة منبثقة عن تلك الإرادة، فإنه لايخضع إلا لنفسه، فلا يجوز لأي حاكم مخوّل أو سلطة مفوضة الإدعاء بالسيادة على الشعب، الذي لاسيادة لأحد سواه. ولا تستطيع أية قوّة أو سلطة، تحت أية ذريعة، أن ترغمه على الخضوع لها أو تنتزع منه تلك السيادة، أو إدعاء الوصاية على حريته ومصيره.
يصعب البرهان على أن الحكومة القوية هي الأكثر مسؤولية وقدرة على صون حرية مواطنيها. ذلك أن قوّة الحكومة لا تبدو مبررة وضرورية إلا في حالات معدودة جداً، وهي تلك التي يعجز فيها المجتمع عن القيام بمهامه ومواجهة مشكلاته. فالمجتمع الأكثر كمالاً وصحة واستقلالاً، هو الأقل حاجة إلى سلطة سياسية قوية. ويستنتج توماس بين أن ثمة علاقة عكسية بين مجتمع حرّ وحكومة بسيطة تمثل الحدّ الأدنى من السلطة، وبين مجتمع مقيد مستعبد وحكومة معقدة، مركزية وقوية. ذلك أن الحكومات القوية هي الأكثر بُعداً عن الحرية، والأقرب إلى الاستبداد، ويتعذر في أيّة دولة تعتمد على تركيز لسلطة الحكم وعلى شمولية القوّة أن تصان الحريّة، إذ لابدّ أن تقع تحت إغراء إساءة استعمال السلطة وتتعسف حتى ولو كانت دولة ديمقراطية. من هنا تقتضي حرية الأفراد والمجتمع تحديداً للسلطة وتقييدا دائماً لاندفاعها، وكبحاً لها ولجماً، الأمر الذي يستحيل تحققه بوجود حكومة قوية، لا تكترث بالحدود، وتنعدم لديها الروادع المجتمعية والدستورية.
لقد غدا التمييز بين الدولة والحكومة، لجهة المنشأ والأهداف، أمراً بدهياً في أدبيات الفكر السياسي. ومن الواضح أن التباين في الغاية من القوّة بين الكينونتين هو أيضاً أساسي. فلا يجوز تزييف هذه المسألة عبر تحويل الهدف من قوّة الدولة إلى الداخل، واختزال ذلك في قوّة السلطة، الأمر الذي يعني ببساطة إضعاف المجتمع والهبوط إلى الدكتاتورية. إن قوّة الدولة لاتكون قط إزاء المجتمع، وموجهة نحو الداخل، بل تكون إزاء الآخر- الخارج، الذي ينافس وجودها ويهدده. وثمة ميل دائم لديها لإثبات قوتها إزاء الكينونات المماثلة، التي تشكل تحدياً لها وتستهدفها، وهي تحقق ذاتها على هذا الأساس. وبخلاف الحكومات القوية، فإن أكثر الدول قوّة هي تلك الأكثر ديمقراطية، وتكفل لمواطنيها أعظم قدر من الحرية والمساواة. فلا يمكن لأية دولة أن تبرهن على وحدتها وقوتها إزاء الخارج، مالم تكن ديمقراطية مبنية على المساواة بين مواطنيها وتعدّ حريتهم غاية أساسية لهم. والحال أن السلطة القوية أو الحكم الذي يتكئ على القوة يشعر باستمرار بضعفه إزاء المجتمع، لأنه يضمر اعتقاداً بأن التهديد الداخلي لها، لا الخارجي، هو الأشد خطراً على وجوده. ويعيش دائما تحت شعور هذا التهديد بهزيمته المحتملة أمام المجتمع مما يدفعه إلى التطرف في القوة والهيمنة.
الشعوب الحرّة فقط تستطيع أن تدافع عن وجودها وعن استقلالها. والبشر مالم يتركوا أحراراً، أو أن يعيشوا حريتهم ويشعروا بها داخل أوطانهم، لايمكن للفضيلة الوطنية أن تتحقق فيهم. والحال أن الشعب الجاث على ركبتيه لا يمكن أن يصمد أمام أي تهديدٍ خارجي أو يقاوم. وعلى الدوام كانت أقدام الطغاة في الداخل تمهد طريق الغزاة، وهذا ماحصل بالفعل في العراق، البلد الذي لم يجد شعبه بدّاً من التخلص من عبودية الداخل إلا عبر الرضوخ والقبول بالغزو الخارجي، وينبغي النظر إلى ردّة فعل العراقيين عشية سقوط بغداد على هذا الأساس.
ثمة استنتاج، عمومي ونسبي، يلزم عن معيار التمييز السابق نشير إليه هذا السياق. هو إن ما ينبغي البحث عنه في الدولة هو قوّتها، لا شرعيتها. فالحديث بهذا المعنى ينبغي أن يكون عن الدولة القوية، لا الدولة الشرعية. لأن شرعية الدولة هي في وجودها بالذات، في عقد تأسيسها، ولايفترض البحث عنها خارجها. ولا تبدو هذه المعادلة بالنسبة لسلطة الحكم غير ذي أهمية. إلا أن الأولوية هنا، وبخلاف الدولة، تكمن في الشرعية، شرعية الحكم والسلطة السياسية، التي تتمثل في توافق السلطة مع مصالح المجتمع. في حين أن قوة نظام الحكم ومركزيته لا يصلحان إلا لإضعاف المجتمع والشعب الذي يأخذ بهما، ويقودانه في المحصلة إلى العبودية والقهر.
يواجه العراقيون مجدداً مشكلة احتكار السلطة، عبر الدعوة إلى ( المرْكزة) والعودة إلى نظام حكم قويّ يختزل في نفسه السلطة والسيادة. بذريعة أن غياب مركز ثقل سياسي واقتصادي ونظام وصاية، هو الجذر الحقيقي للفوضى والعنف والانقسام السائد. والحال أن التجربة التاريخية، تدحض هذه الادعاءات، وتثبت أن أكثر أشكال العنف والاضطراب قسوة، وأكثر الحروب المدمرة حدثت بوجود سلطة قوية مستبدة. فهي عوضاً عن أن تكون سبباً للأمن والسلام، والحرية ووسيلتها، أصبحت مصدراً للفتن والقهر والخراب الشامل.
© منبر الحرية، 01 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

جاءت السلطة القومية في عدد من البلدان العربية بخطابها المختلف تماماً، في جوهره، عما كان ينبغي أن يكون عليه مستقبل الإنسان والتاريخ في هذه البلاد. وكانت بحاجة ماسّة إلى أن تستعير لسان الأمة والقضية القومية وتنصب نفسها وصية عليهما، ناطقة باسمها. ولم يكن لأحد أن يمتلك الجرأة على اختراق أو نقض هذا المطلب المركزي الذي أعلنته. أو ألا يتساوق مع هذه المركزية الأيديولوجية، أو المعيار الكلي الذي ساد لنصف قرن تقريباً. بل كان ثمة خضوع طوعي غالباً أو قسري له من جانب المؤسسات والأفراد. وقد استغلت تلك النظم القومية هذه القضية أحسن استغلال، وبررت بها جميع تحريفاتها السياسية. فلم يعد لأيّة قضية إنسانية أو ألم أو قهر من قيمة طالما أنه كان يستجيب للأغراض الأيديولوجية المباشرة لهذا الشعار، حتى أن خراب البصرة ودمار بغداد أو بيروت عدّ مقبولاً وأمر اعتيادياً متى ما كان مكرّساً له، ولم يكن يساوي شيئاً إزاءه.
إن ظهور هذا الشعار اقترن بصعود الأحزاب القومية التي أتت من أقبية التاريخ وأنفاقه ومن هوامشه الأيديولوجية في حقبة الخمسينات وما تلاها، عبر الانقلاب على مشروع الدولة الوطنية وابتلاعه. وراحت تمتطي دبابة العروبة لتحتل واجهة المسرح السياسي، مستعينة بأيديولوجية قومية شمولية، أثبت التاريخ إنها كانت في حقيقتها مضادة لمشروع الأمة الحداثي، ولتحققه على الأرض عوضاً عن أن يكون مجرد شعار ديماغوجي خالد مرفوع إلى السماء.
فرض خطاب السلطة القومية نظاماً معيارياً زائفاً وروّجت له، مفاده إن كل قضية إنسانية أو سياسية هي هامش بالنسبة للمركز الأوحد، الذي تقود إليه كل الدروب، ومن ثمّ ليس لها من معنى إلا لأنها تدور في فلكه. وسوى ذلك يعنى الانحراف عن المسار والخروج على دائرتها أو الانزياح عنها، أيّ التعين في العراء، في المساحة اللامتعينة للخطيئة الأيديولوجية، في المحيط الذي لا حدود له، لأن المتعين الوحيد هو هذا المركز، أو البؤرة المقدسة للقضايا القومية. وكل مسألة لاتكتسب أهميتها أو مبرر وجودها إلا بالقياس إليها. لكن هل كانت القضية الفلسطينية هي المركزية فعلاً بالنسبة للنظم التي أرادت لها أن تكون كذلك بالنسبة للعموم؟؟
السياسة المعلنة للأنظمة العربية كانت تتبع هذه  العقيدة أو الإستراتيجية. ذلك أن مطلب القضية المركزية يعني استحالة شرعية أي قضية أخرى سوى شرعية السلطة الممثلة لها أو الناطقة باسمها، وفي الواقع لم تك تستهدف من وراء ذلك سوى تأكيد مركزية سلطتها وإدامة استبدادها المعهود. فمركزية القضية المعلنة لديها لم تكن سوى تعبير مقلوب عن مركزيتها بالذات ورغبتها العميقة في مواصلة طَوَفان العالم والمجتمع في فلكها. وكلما أوغلت النظم القومية في كلامها عن مركزية القضية وتشدقت بها كان ذلك برهاناً وشاهداً على غياب الأصل ولامركزيته في وعيها، وعدّ دليل نفاق أيديولوجي ومراءاة سياسية.
إن تاريخ هذا الشعار الذي اعتبر المعيار المركزي للمشروع القومي العربي، هو تاريخ مركزية السلطة القومية واستبدادها الشامل والمحكم. وقد قام على المزاوجة والتماهي بين رغبة السلطة في البقاء والهيمنة من جانب والشرعية الأخلاقية والسياسية للمحنة الفلسطينية من جانب آخر، واستغلال الأخيرة لغاية استمرارها سلطة مطلقة لا تكترث بأية قضية إنسانية أو سياسية عادلة. وهنا يقبع التعارض بين الميتافيزيقا الأخلاقية للقضية السياسية وبين ذرائعية السلطة القومية وميكافيليتها، بين التمثيل السياسي لمشروع إنساني وسياسي وواقع ممارسة السلطة. ولهذا لايمكن وصف مطلب القضية المركزية إلا بأنه ضد عدالة القضية وروحها من حيث هي قضية إنسانية شاملة، وضد تحققها الواقعي والعادل.
لقد أتلفت القضية الفلسطينية بكثرة الحديث عن مركزيتها، حتى غدت قضية الهامش بالفعل بالنسبة لسياسات النظم القومية. التي كانت تغفل، وهي تتخفى وراءها، الكثيرَ من المطالب العادلة والملحة كقضايا التنمية الوطنية والحرّيات العامة وغيرها، وتمارس كل أشكال القمع والقهر بحق شعوبها، حتى غدا يسيراً على أي نظام عربي مستبد أن يرتّق كل جرائمه السياسية وممارساته الوحشية بخِرق شعارات القضية المركزية.
واقع الحال إن الحضور المباشر للقضية الفلسطينية في خطاب السلطة القومية لم يكتسب بالفعل مكانة مركزية إلا على مستوى التصوّر أو التمثيل الأيديولوجي المجرد والزائف، الذي هو أبعد مايكون عن التعبير الحقيقي لواقع القضية وآفاقها العقلانية والتاريخية. لأن المطلوب بالنسبة لتلك النُظم لم يكن حلّ المعضلة حلّاً واقعياً وعادلاً، وإنما تكريس احتكارها لشرعيتِها السياسية والإنسانية. وهكذا بدا أن مطلب مركزية القضية الفلسطينية كان نفياً للقضية من موقعها الحقيقي تحت وطأة مركزية السلطة القومية وإدعائها احتكار الشرعية الأيديولوجية، إقصاء لها من حيزها الفعلي واستبعاد لدورها، وبالمقابل استعادة لدور الاستبداد والتعامل معها كقناع أيديولوجي للشرعية القومية للسلطة.
كانت النظم العربية القومية تؤكد أولوية شكل العلاقة مع القضية الفلسطينية لترسخ، بالمقابل، العلاقة مع ذاتها، وتحتكرها لمصلحتها الذاتية. فهي حين كانت تعلن مركزية القضية الفلسطينية، لم يكن الهدف من وراء ذلك سوى إثبات المكانة الخاصة والحيوية لها وتكريس مركزية سلطتها بالذات من خلال هذا الادعاء. ومن ثم تعيد إنتاج مركزية شرعيتها القومية والسياسية وحتى الأخلاقية، إزاء إعادة إنتاج هامشية الآخر وقضاياه. إن جميع المسائل والقضايا الحيوية الأخرى بدت تافهة وسخيفة، رجعية وخاطئة، من وجهة نظرها، فقط لأن ثمة نظام قومي تقدمي وشرعي واحد، لايفتقر للضرورة التاريخية والعقلانية هو نظامها بالذات، وهو الوحيد المرشح والمؤهل لتحقيق التطابق بين المستقبل العربي ووحدته. هكذا كان الحال مع عدد من النظم القومية المتسلطة ولايزال.
إذن ثمة تفاوت هائل بين ماكانت تعلنه تلك النظم وتروّج له وبين اعتقادها الخاص على صعيد مركزية القضية الفلسطينية في مجالات السياسة والإعلام والممارسة عموماً، حيث يعاد تكريس ذلك المعيار لمصلحة بقاءها وإدامة سلطتها. من هنا فإن إعادة  اكتشاف حقيقة هذه القضية ومكانتها، من وجهة نظر مغايرة لكل ما ألفناه من خطابات جاهزة للحكومات العربية ومؤسساتها الأيديولوجية، يعدّ شرطاً سياسياً لاستقلال الخطاب الوطني الفلسطيني ومفاهيمه من جانب أول، ويعني من جانب ثان الإفلات من شرك الادعاءات الأيديولوجية للأنظمة القومية التي كانت تجيّر شرعية القضية لحسابها الخاص، ويترتب على ذلك تحرير جميع المسائل والقضايا الحيوية كالتنمية والحرّيات العامة وغيرها من قبضة التسويف والمماطلة والتأجيل، وتضع تلك الأنظمة عارية دون كساء أيديولوجي بمواجهة أسئلة شعوبها وقضاياها الملحة.
© منبر الحرية، 20 أبريل 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20105

هل هنالك فكر عربي معاصر خالص,لا ينتسب إلا لنفسه, لجهة الأسئلة والمشكلات النظرية, وكذلك لجهة المفاهيم والبناء والتنظيم الداخليين؟ وهل هو مستقل عن الخطاب الفلسفي الحديث والمعاصر؟ وهل ثمة أصالة حقيقية في سماته وأطاريحه؟ وفي الأصل يجدر بنا التساؤل هل هنالك فلسفة عربية معاصرة تشكل إطاراً نظرياً شاملاً للفكر العربي, ويعدّ الأخير نسقاً إيديولوجيا من أنساقه؟
يبدي العديد من المفكرين العرب ومؤرخي الفلسفة حماسة للقول بوجود فلسفة عربية معاصرة. ويلجأ هؤلاء إلى نوع من التحقيب التاريخي لها, أو نمط من المركزية والمركزية المضادة. وهذا ما يتعارض تماماً مع الوعي الفلسفي بصفته وعياً تاريخياً كليّاً بالعالم وبمشكلات الوجود, ويتعارض مع غاياته. فالمبدأ الرئيس هو أن الفلسفة واحدة في حقيقتها, وغاياتُها أعمق وأشمل من أن يتمّ حصرها في هوية تاريخية أو أيديولوجية معينة. وهذا يعني أن السؤال الفلسفي لا يكون كذلك ما لم يَتسِم, من حيث النشأة والديمومة, بالشمولية والكونية. وهذا المبدأ ليس تعميماً مجرداً أو شكلياً فحسب, وإنما يغدو واقعاً ملموساً حينما يتم الشروع في البحث التاريخي للفلسفة وفي تخصيصها وتعيينها.
إذاً, كيف نؤرخ للفلسفة؟  وما معنى الحاجة إليها, وكيف تنشأ الأخيرة؟ وهل ثمة تجربة فلسفية أصيلة يمكن تسميتها بالفلسفة العربية المعاصرة؟ بقول آخر, هل أنتج التاريخ الحديث والمعاصر للعرب رجالاً هم حقاً وفعلاً أهل للقب الفلاسفة؟ ثمّ هل أبدع هؤلاء, بدورهم, أنساقاً فكرية ترقى إلى مستوى القول: إنها تشكل خطاباً فلسفياً أصيلاً ومعاصراً؟ أيّ سؤال فلسفي شغل وعي هؤلاء وهيمن على تفكيرهم؟ وما هي المشكلات النظرية التي شغلت فلسفاتهم؟ هل هي أسئلة التاريخ المتخمة بالمطالب الأيديولوجية العملية, أم أنها أسئلة نظرية مجردة ليست نائية عن الفضاء الميتافيزيقي؟ وهل السؤال الفلسفي لديهم أصيل ومبتكر, ومتقدم بالمعنى الكوني؟ ما علاقة هؤلاء مع الفلسفة الإسلامية ومع تاريخهم؟ وما أثر الإسلام والخطاب الإسلامي في تجاربهم النظرية؟ ثم ما طبيعة علاقاتهم مع الفلسفات الحديثة والمعاصرة, بصفتها فلسفات عالمية, وتجارب أصيلة؟
الحق أن بداهة هذه الأسئلة وغيرها تفرض نفسها على وعي كلي منشغل بتاريخ الفلسفة. وتثير معها حزمة مشكلات تتصل بتعريف الفلسفة وطبيعة موضوعاتها ومناهجها وتاريخها.
إن التعارض الرئيس الذي ينبثق عن محاولة التأريخ للفلسفة, هو ذاك الذي يتم بين غاية الفلسفة, ونعني بها معرفة الكلي, الدائم والخالد, وبين رغبة تحقيبها في سياق تاريخي أو ثقافي نسبي ومحدد. فهل الحقيقة الكلية والمطلقة تدخل في دائرة التاريخ النسبي وتتحدد به؟
من غير المنطقي الادعاء أن هنالك جوهراً ثابتاً للفلسفة, أو أن الحقيقية الفلسفية راسخة منذ الأزل, معطاة ومنجزة على نحو تام. فالإرث الفلسفي الذي بات مألوفاً لدينا, وفي متناول يدنا, لم يأت عفوياً, ولم يخرج فقط للتو, وإنما هو نتاج ومحصلة كدح جميع الأجيال السابقة من الجنس البشري. حيث ندين بما نحن عليه, الواقع الراهن للفلسفة, إلى ذلك الإرث التاريخي الذي يتخطى كلّ ما هو عابر ومحدد, أو منجز. وهو لم يكن قط في يوم من الأيام إرثاً ثابتاً, في الكم والنوع. وإنما كان إرثاً يزداد ويكبر كنهر جارف بقدر ابتعاده عن مصدره أو رحمه الأصل. ولم يكن كذلك تمثالاً حجرياً, صلباً وجامداً, كما كان هيغل يقول, ولكنه كان كائناً حياً ينمو ويتشكل ويتضخم.
لهذا يمكن القول إن الحقيقة الفلسفية لها أن تتعين في سياق تاريخي معين, دون أن تفقد طابعها الكلي أو الشمولي, أو أن تحصر مصيرها به أو تنسب إليه فحسب. والتاريخ يعلمنا أن ثقافة ما لأمة بعينها يعتريها الجمود في برهة من تاريخها, فيبارحها الروح الحية اليقظة للتفكير الفلسفي لأمد غير قصير, كما كان حال الأوروبيين في العصور الوسطى قبل أن يصبحوا أوصياء على التفكير الفلسفي الحديث والمعاصر. فهذه الروح لا تمكث على حال في هذا السكون أو الغياب المطلقين. والتاريخ ذاته يظهر لنا أن الفلسفة لا بدّ لها أن تثبت حضورها كونياً في سياق زمكاني آخر. حتى تحقق صيرورتها وتستمر. إذاً ليس ثمة انقطاع على الصعيد العالمي في فعالية الفلسفة, ذلك أن غواية التقدم هي التي تدفعها إلى الالتصاق بالتاريخ والبشر أو الأمم الأكثر تقدماً ويقظة ونشاطاً.
إن ما نفترضه هنا هو أن الفلسفة لا تكترث كثيراً بالتباين في الدور الحضاري لأمة ما, أو بين الأمم في زمن ما, أو بالصدوع والتفاوتات التي تحدث هنا أو هناك, إلا بالقدر الذي تستجيب لنزوعها إلى تجاوز ذاتها, وتوقها إلى تخطي منزلتها القائمة, ويتوافق مع سيرورتها بصفتها وعياً كونياً بالعالم, وتحقق انتظامها الشامل.
الفرض الآخر, الذي نسارع إلى طرحه في هذا السياق, هو إن وجدت فلسفات شتى, تعيّنت على أنحاء متنوعة, فإن الفلسفة تظلّ واحدة في سيرورتها, وهي تشكل فلسفة واحدة في تواصلها. ويمكنها بمعنى ما أن تكون هي الفلسفة الحقيقية في وحدتها بصفتها تعبيراً عن حضور الوعي الإنساني الكلي. وهي وإن أكدت ذاتها وبرهنت على انتماء ما لبرهة تاريخية معينة, وعرّفناها على هذا الأساس, إنما تظلّ فلسفة وتشكل معرفة فلسفية واحدة. ومن المهم أن نعرف ماذا يعني هذا التنوع في المنظومات الفلسفية؟ وما دلالات هذا التحقق في الزمان والمكان المعينين؟  ثم ما هي طبيعة علاقة مضمون فلسفة ما بتعيّنها التاريخي؟
تهتم الفلسفة بالوحدة المطلقة للتنوع القائم في العالم, وهي تبرهن على هذه الحقيقة العامة في كل ما هو خاص ومتعيّن. حينما تتماهى مع واقع متقدّم وتنتسب إلى تاريخه, وتكون الفلسفة أكثر كمالاً في تطورها كلما كانت أشدّ التصاقاً بتاريخها.
فالفلسفة نظام واحد وشامل من حيث نموُّها وسيرورتها الداخلية, لكنها تغدو حقيقة خاصة, ملموسة ومتعينة, لجهة تحققها الخارجي وانتمائها ظاهرياً إلى التاريخ. ونعني من منظور تطورها كظاهرة في الزمن, ويكون لها تاريخها الخاص.
إن هذا الوجود في الزمان المحدد, مستلهماً عبارات هيغل, ليس سوى برهة متناهية من سيرورة دائمة ولامتناهية, ولحظة من لحظات وعيها التاريخي بالتقدم, حيث تتخارج الفلسفة في دوائر الفكر و في ثقافة شعب أو أمة قادرة على أن تحقق في ذاتها شمولية التقدم التاريخي حتى هذا الوقت, وتعبر في ذاتها عن التقدم المتنامي للواقع الإنساني في شموليته. وبمعنى من المعاني تغدو الأمة منتسبة إلى الفلسفة, لا العكس, ومنتمية إليها ومحددة تقدمها بتقدم الفلسفة. لأن الأمة في هذه الحالة لا تستطيع أن تفصح عن شمولية وعيها وتقدمها إلا من خلال هذا الشكل وحده, ونعني الوعي الفلسفي. هكذا استطاع الإغريق أن يثبتوا حضورهم الشامل على صعيد التاريخ العالمي, لا من خلال العمل العسكري وانتصارات المقدوني بقدر ما أنجزوا ذلك من خلال منطق أرسطو وفتوحاته الفلسفية التي كانت أكثر عمقاً ودواماً وشمولية من سواها.
لا مناص إذاً لدى عرض تاريخ الفلسفة في الزمان من كشف صلتها بالظروف التاريخية وعلاقتها الحميمة إذ تتعين في ثقافة شعب ما, وفي فكره وفنونه وأعرافه.  فالشكل المتحقق لفلسفة ما يكون معاصراً لنمط متحقق ومحدد من الشعوب, يعكس روح هذا الشعب, وتنظيم حياته, والجوانب المتنوعة لإبداعاته المادية والنظرية. إن روح شعب ما وعصره يكون قائماً في الفلسفة, بصفتها البؤرة التي تكثف في ذاتها فكره ووعيه بذاته. وهي تعكس تفتح هذا الشعب وتقدمه ودرجة وعيه بذاته ومصيره في التاريخ.
في ضوء ما سبق, يغدو الحديث عن فلسفة عربية معاصرة ادعاءًا لا يخلو من المجازفة المعرفية والمنهجية. مثلما يكون الكلام عن فكر عربي خالص أو محض, نظير الكلام عن الاشتراكية العربية, والإنسان العربي, والرسالة الخالدة للأمة العربية, كلامٌ يدعو للسأم والقنوط الفكريين ولا يستثير تفاؤل العقل.
لقد اشتغل شطر كبير من منظري العروبة ومفكريها بالفلسفة, ومن هذا الموقع استعان هؤلاء بالخطاب الفلسفي لدى التصدي لأسئلة التاريخ والهوية والمصير. وهؤلاء وإن برزت لديهم قراءات فلسفية مائزة وتجارب, إلا أن تلك القراءات لم ترقى إلى مستوى القول الفلسفي المتماسك, ولم تكتمل لديهم إلى مستوى الأنساق الفلسفية أو المذاهب المتكاملة, سواء من جهة المفاهيم أو الرؤى, أو من جهة المناهج. هكذا غدت التيارات الفلسفية ومذاهبها الحديثة والمعاصرة مصادراً رئيسة للوعي الفلسفي العربي المعاصرة, وأخذ المفكر العربي يجتهد في ضوء مفاهيمها و أوالياتها النظرية ومناهجها. فقد استلهمالأرسوزي و ميشيل عفلق الفلسفة الألمانية في نسقها الفيشتي لدى مواجهة مشكلة حرية الأمة والتأسيس لمفهومها. واستعان طه حسين بالشكّ الديكارتي في منهجية بحثه, ومثله أيضاًقسطنطين زريق, وكذلك الأمر مع أهمية الديكارتية لدى عثمان أمين. وكان حضور راسل و رايشنباخو كارناب صارخاً في وضعية زكي نجيب محمود المنطقية. إذ مضى صاحب كتاب( خرافة الميتافيزيقا, أو الموقف من الميتافيزيقا) في مواجهة تخلف الواقع العربي يبشر بالروح العلمية كسبب رئيس لنهضة الأمة. واتكئ فؤاد زكريا في كتابه( اسبينوزا و التفكير العلمي) على عقلانية ديكارت و اسبينوزا ليبشّر بقيم التسامح والعقلانية في مواجهة التعصب الديني. وكان هيديغر و سارتر و يسبرز حاضراً بقوة في وعيعبد الرحمن البدوي الوجودي, وكانت التومائية حاضرة في كتابات يوسف كرم وشروحاته الفلسفية, و تمتعت البرجسونية بذات الأهمية والمكانة في وعيّ بديع الكسم. وأخذ المغربي الحبابي بشخصانيةإيمانويل مونييه. وحضرت فينومينولوجيا هوسرل بقوة في تفلسف حسن حنفي الباكر, ولدى نازليإسماعيل التي ترجمت لـ هوسرل (تأملات ديكارتية). وتجلّت أخيراً تفكيكية جاك دريدا في كتاباتعلي حرب. وطغت بنيوية التوسير الماركسية و بولانتزاس على كتابات مهدي عامل. ولم يكن المفكرون العرب بمنأى عن تأثير الماركسية العميق, التي كان لأعلامها (ماركس, جورج لوكاتش, غرامشي) تأثيراً بالغاً عليهم, أمثال سمير أمين, الياس مرقص, ياسين حافظ, صادق جلال العظم, طيب تيزيني, أحمد برقاوي حسين مروةعبدالله العروي… وغيرهم.
وتبدو مرجعية المنظرين الإسلاميين العرب( سيد قطب, مالك بن نبي, عبدالله عبد الدايم, خالد محمد خالد, محمد عمارة, وسواهم) الذين لم ينزاحوا كثيراً عن النسق الأيديولوجي العروبي, أكثر تعقيداً وتركيباً نظراً لعلاقتهم الملتبسة بالتاريخ والعقيدة من جهة أولى وبالقراءات الأخرى من جهة ثانية.
إن غياب الحدود الفاصلة بين التفلسف والأيديولوجية, بين العلم والسياسة, كان سمة بارزة للأنساق الفكرية العربية. وقد طرح المفكرون العرب أسئلتهم المصيرية انطلاقاً من هذه المصادرة القبْلية, ومن هنا انهمكوا بمشكلات التاريخ والأمة والمصير بصورة عملية.  وعليه فقد طبعت صفة المفكر هؤلاء أكثر من كونهم فلاسفة كما يشير البرقاوي, إذ أمست الفلسفة الغربية في الأنساق الفكرية العربية ميتودولوجيا توجه رؤاهم وتحفّز أسئلتهم, ناهيكم عن كونها مصدراً ثرّياً لأجوبتهم الفكرية عن قضايا التحرر والتقدم والمصير.
© منبر الحرية ، 5 ماي /أيار2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

يتسم (إعلان مبادئ التسامح) الذي أعلنته منظمة اليونسكو( موسكو-1995) بأنه يتخطى الدلالة الدينية المألوفة أو الأخلاقية لمفهوم التسامح. إذ لم يعد التسامح مجرد التزام أخلاقي فحسب, وإنما حاجة سياسية وحقوقية تهدف إلى الاعتراف بالحقوق العالمية للإنسان وإلى ضمان الحريات الأساسية للآخر.
لقد غدا الوضع الإنساني المعاصر, عموماً, محكوماً بالتعايش والنزاع في الوقت نفسه, وهو الوضع الذي يقتضي مقداراً كبيراً من التسامح. ففي المجتمعات المتعددة الثقافات, التي تحفل بالاختلاف في أنماط المعيشة والتفكير, وتنطوي على تنوع كبير في الآراء والعقائد, يحتل مفهوم التسامح أهمية مركزية. إذ لامعنى للتسامح في أوضاع المماثلة والنمطية في الأفكار والعقائد. من هنا يؤكد راينر فورست في كتابه( التسامح في النزاع) على الارتباط العضوي بين التسامح  والتنازع, مشيراً إلى أن التسامح ينبثق عن التنازع ويولد من رحم النزاعات البشرية.
لا يمكن عدّ التسامح قيمة أخلاقية مجردة ومطلقة, منفصلة عن التاريخ والتطور. وهو ليس مجرد مبدأ يرنو من خلاله الإنسان إلى التعالي على تناقضات الواقع القائم، وإنما يتوقف معناه على ثقافة العصر السائدة, وعلى علاقاته الفعلية. وإذا ما فصلنا مفهوم التسامح عن سياقه التاريخي وعزونا إليه وجوداً مستقلاً عن التاريخ فإن من شأن ذلك أن يفقده كل قيمة إنسانية وعملية.
لم يرقَ مفهوم التسامح إلى مستوى المفاهيم الفلسفية المتماسكة إلا في إطار الصراع بين فكر الأنوار والكنيسة المسيحية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولكنه قبل هذا الزمن بكثير كان موضوعاً للتأملات الفلسفية والوصايا الدينية والأخلاقية. إن مقولة سقراط الذائعة (إني أعرف شيئاً واحداً هو أني لا أعرف شيئاً) تكرّس لوعي التسامح عبر إقرار عميق بالتواضع العقلي, الذي يحتمل القبول برأي الآخر والاختلاف معه في آن. وكذلك الأمر مع الإمام الشافعي الذي شاع عنه قوله (رأيي صواب يحتمل الخطأ, ورأيك خطأ يحتمل الصواب) لكن الأكثر جرأة ووضوحاً هو قولٌ ينسب إلى الإمام جعفر الصادق يرفض فيه التعصب بحسم  أخلاقي ومعرفي لامتناه, يقول: (التعصب حتى للحق خطيئة). في الخطاب الفلسفي المعاصر رسخ كارل بوبر مبدأ ( اللاعصمة من الخطأ) الذي أكدّ من خلاله على نسبية الحقيقة من وجهة نظر أبستيمية. ومن منظور أخلاقي أقرّ بضرورة الاختلاف ومشروعيته.
مجّد فولتير الاختلاف والتسامح من خلال جملته المشهورة (قد لا أتفق معك, ولكني سوف أدفع دمي ثمناً لحقك في الكلام) وبخلاف الأخير تحدّث الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط عن الوقع المتعجرف لكلمة( التسامح). وبالمثل كان غوته يعدّ التسامح مهانة. ويرى أن التسامح ينبغي أن يكون مؤقتاً وإلى حين, وأن يؤدي إلى الاعتراف في نهاية المطاف.
كان الألماني الأشد راديكالية فريدريك نيتشه يرى أن غاية الإنسان في الحياة هو السعي إلى امتلاك القدرة والقوة. ومن ثم فإن مطلب التسامح لا يعدو أن يكون سوى عقيدة للعبيد والضعفاء, الذين يفتقرون إلى الإرادة والقدرة على الانتقام. إن التسامح, من وجهة نظره, هو مؤشر على العجز والانحطاط, ومظهر من مظاهر الخنوع والترويض والاستكانة, علاوة على أنه ينطوي على مقدار كبير من المهانة والاحتقار للكرامة الإنسانية. ولم يجد الماركسي الروسي ليون تروتسكي بدّاً من التشكيك في جدوى التسامح قائلاً: لقد مضى ألفا عام تقريباً مذ أن قيل (أحبّ أعداءَك) و( أدر خدك الأيمن…) ومع ذلك حتى الأب الروماني المقدس لم ينجح في تحرير نفسه من كراهية أعدائه. ويبقى لاعتراف المهاتما غاندي, قديس اللاعنف, أهمية استثنائية على هذا الصعيد حين قال ( لا أحب التسامح, ولكني لا أجد أفضل منه) فقد وجد نفسه مرغماً على الاعتراف بأن شيئاً ما مكروهاً هو الأفضل بين الأشياء التي يراها وهو الأنفع.
خلاصة القول, يؤشر التسامح على الموقف من آراء الآخرين وعقائدهم ومصالحهم. كما يعكس مقدرة المرء على التعايش مع عاداتهم وأنماط السلوك لديهم. وتبرز الحاجة إلى التسامح بهدف الوصول إلى التفاهم والاتفاق حول المسائل الخلافية ووجهات النظر المتباينة, وبغرض الخروج على المصالح المتعارضة دون اللجوء إلى القسوة أو العنف أو الإقصاء. لكن السؤال الذي يظل قائماً هو: هل التسامح يعني أن نتسامح مع غير المتسامحين؟؟
*جامعي و كاتب سوري
© منبر الحرية، 26 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

يعرّف ستيوارت مِلْ الحرية الفردية في كتابه عن الحرية : “إنها حق الكيان الأخلاقي في أن يطوّر نفسه بطريقته الخاصة” (23)، وهو يهدف من وراء بحثه الشهيرتبيان القيمة الاجتماعية، التي تنجم عن تنمية الخصائص الفردية تنمية غنية وكامِلْة. وفي سبيل هذه الغاية يرى( مِلْ) أن الفرد يجب ألا يكون مقيداً بالاعتبارات الاجتماعية حين يعملْ على إنماء طبيعته العقلية والخلقية(24)، وعليه يدعو إلى أكبر قدر ممكن من تحرر الفرد من سلطة الجماعة على أن يكون هذا القدر متناسباً مع العيش  في مجتمع ما.(25)  من هنا يأتي دفاعه في مسألة حرية الرأي موجهاً ضد تدخل( السلطة الجماعية للرأي العام) في شؤون الأفراد التي لاتهمّ غيرهم من أعضاء المجتمع. فالنمو المحتم للمساواة الاجتماعية وسيطرة الرأي العام يقود، برأيه، إلى فرض نير ظالم من وحدة الرأي ووحدة العملْ على رقاب النوع الإنساني.  إن هاجسه الأساس نظير توكفيل، الذي كان يشعر أن المشكلة الأساسية في نظام مبني على حكم الشعب هي الحيلولة دون استبداد الطبقات العامة للشعب التي تؤلف الأكثرية- وهذه هي الطبقة غير المتعلمة التي تتألف من الجماعات العامِلْة- الحيلولة دون استبداد هذه الطبقة بالأقلية المؤلفة من الأفراد الممتازين (29)
كان أكثر الناس، برأي (مل)، ولا يزالون يخشون طغيان الأكثرية كما يخشون سائر أنواع الطغيان الأخرى، وذلك لأنه ينفذ في الغالب عن طريق إجراءات السلطات العامة. ولكن رجال الفكر يرون أن المجتمع حين يكون نفسه هو الطاغية-  أي حين يكون المجتمع بجمِلْته ضد الفرد-   فإن ذلك يعني أن أساليب طغيانه لا تنحصر بالإجراءات التي يمكن أن ينفذها عن طريق موظفيه السياسيين.(ص45) إن المجتمع قادر على إصدار الأوامر وعلى تنفيذها بنفسه. فإذا أصدر أوامر خاطئة بدلاً من الصحيحة، أو إن أصدر أوامر في شؤون يجب ألا يتدخل فيها، فإنه يمارس بذلك طغياناً اجتماعياً هو أ شد عتواً من كثير من ألوان الاضطهاد السياسي لأنه وإن لم تدعمه عادةً عقوبات شديدة، فإن وسائل النجاة التي يتركها قليلة، وهو ينفذ إلى الصميم في كثير من نواحي الحياة، ويستعبد الروح ذاتها. لهذا كان الاحتماء من طغيان الحكام غير كاف. وكان لا بد من حماية ضد طغيان الآراء و المشاعر الشائعة، وكان ميل ضد أن يفرض المجتمع  ( دون اللجوء إلى العقوبات المدنية) آراءه الخاصة وطقوسه كقواعد للسلوك، يفرضها حتى على أولئك الذين لا يوافقون عليها، ليكبل النمو و التطور، ويمنع إن أمكن تكوين أي شخصية فردية لا تكون منسجمة مع طرقه، ويجبر كل الطبائع على تكييف نفسها طبق أي نموذج من صنعه هو. إن هنالك حداّ للتدخل المشروع في استقلال الفرد من قبل الرأي الجماعي. وإن إيجاد ذلك الحدّ وصيانته من التجاوز أو الاعتداء عليه لازم لحسن سلامة شؤون الناس لزوم الاحتماء من الاستبداد السياسي.من هنا يوضح( مل) أن غرضه من  هذا البحث ليس الحرية التي تسمى حرية الإرادة والتي تقابل ما يسمى خطأ بالضرورة الفلسفية، وإنما موضوعه الحرية المدنية أو الاجتماعية، وطبيعة السلطة التي يمارسها المجتمع على الأفراد، وحدودها. (39)
السؤال الذي ينشأ، ويعدّه( مل) السؤال العملي والمباشر هو: أين يجب وضع الحدّ وكيف يمكن تحقيق التوفيق المناسب بين الاستقلال الفردي و السيطرة الاجتماعية..؟هذا السؤال يبقى الموضوع الذي عليه يتوقف كل شيء تقريباً.( 47) لا يعتبر مل أن حرية السلوك الذي يمس الغير غاية في ذاتها. فهو يشدد على قيمة الحرية و يلحّ على الاعتراف بها، ولكنه لا يدعي  أن أي حرية هي مطلقة. إن حرية الفرد مبررة  لأنها-  كما يرى-   تسهم في الصالح العام، وهي وسيلة قيمة لغاية أعلى منها هي( التقدم  الاجتماعي) الذي يهم كل عضو في المجتمع. ويعتقد مِلْ أن مبدأه يقدم مقياساً علمياً للتمييز بين تلك الأفعال التي تساعد التقدم وبين تلك التي تعرقله. فالأفعال الأولى يجب تشجيعها في الحياة العمِلْية أما الأخرى فيمكن تقييدها. هكذا يعتقد مِلْ أنه حل المشكلة في العلاقة بين الحرية و السلطة.
وبرأيه، فإن الغاية الوحيدة التي تجيز للبشر، أفراداً كانوا أم جماعة، أن يتدخلوا في حرية أفعال أي واحد منهم  إنما هي حماية الذات. أي أن الغرض الوحيد الذي من أجله يمكن ممارسة السلطة في أي مجتمع متمدن على عضو منه رغم إرادته إنما هو دفع للأذى عن الغير.فلا يكفي أن  يكون الهدف الخير الخاص للعضو، مادياً كان هذا الخير أم معنوياً. لا يجوز عدلاً إرغامه على القيام بأمر أو الامتناع عنه لأن ذلك خيراً له، أو لأن ذلك يجعله أسعد حالاً، أو لأن الآخرين يرون أن من الحكمة و الصواب فعل ذلك..( 55)  إذن الحالة الوحيدة التي تجيز إخضاع الفعل العفوي الفردي للقيد الخارجي هي حين تكون أفعال الفرد ماسة بمصالح الآخرين فإذا أتى امرؤ ما فعلاً يؤذي الغير فإن هناك وضع واضح يدفع إلى معاقبته عن طريق القانون أو بوساطة الاستنكار العام حين يتعذر تطبيق العقوبات القانونية بأمان. ولكن الشخص قد يسيء  إلى الغير لا بما يفعل فحسب ولكن بامتناعه أحياناً عن الفعل أيضاً وهو في كلتا الحالتين مسؤول أمام الغير عن الضرر.
ويشير( مل) إلى أن هنالك دائرة للأفعال، إن كان للمجتمع المتميز بجمِلْته عن الفرد مصلحة فيها فإنما هي مصلحة غير مباشرة، وتشمِلْ هذه الدائرة ذلك الجزء من حياة الفرد وسلوكه الذي لا يمس إلا شخصه وحده أو إن مسّ غيره من الناس فيكون ذلك بمحض إرادتهم، وموافقتهم التي لا خداع فيها،واشتراكهم. وهذا هو  نطاق الحرية البشرية الخاص بها. إنه يشمِلْ أولاً ممِلْكة الوعي الداخلية التي تتطلب حرية الضمير بأوسع معانيها وحرية الفكر والشعور، و الحرية المطلقة للرأي و العاطفة في كل المواضيع العلمية أو النظرية العلمية أو الأخلاقية أو الدينية……وثانياً يتطلب مبدأ حرية التذوق و المشارب، و حرية تصميم خطة لحياتنا توافق طبعنا، و حرية العمِلْ وفق ما نحب ونرغب…. وثالثاً، من هذه الحرية لكل فرد تنشأ ضمن الشروط نفسها حرية التكتل بين الأفراد،  حرية الإتحاد و التضامن في سبيل أي هدف لا ينطوي على إيذاء الغير….( 60) وكل مجتمع لا تحترم فيه هذه الحريات عموما ًلا يكون حرّاً مهما كان شكل حكومته، ولا يكون أي مجتمع حرّ حرّية تامّة إن لم تكن فيه هذه الحريات مطلقة و كامِلْة الشروط. و الحرية الوحيدة الجديرة بهذا الاسم هي حريتنا في أن ننشد خيرنا بطريقتنا الخاصة ما دمنا لا نحاول حرمان الغير من خيراتهم ولا نعرقل جهودهم في الحصول عليها.( 61)
ولكن وسائل الضغط المعنوي ضد الانحراف عن الرأي السائد قد استعملت هنا بشدة أعظم في المسائل التي تمس الفرد مما في المسائل الاجتماعية. ويعتبر(مل) هذا  الاستبداد أقسى بشكل يفوق ما فكر به أشد الفلاسفة القدماء صلفاً في تفكيرهم السياسي. وينكر(مل) على الأغلبية ممارسة حق الضغط والإكراه، سواء أكانت تمارس ذلك مباشرة أو عن طريق حكومتها الممثلة لها. ولو أجمع البشر كلهم على رأي وشذّ واحد بمفرده عنهم لما جاز لهم إسكاته، كما أنه هو، لو أوتي القوة، ولا يجوز له إسكاتهم…..ولكن الشر الخاص في إخماد التعبير عن الرأي أنه سرقة: أنه سرقة تقع على العرق الإنساني في الأجيال الحاضرة وفي الأجيال المقبلة، وتقع على مخالفي الرأي كما تصيب معتنقيه. فإن كان الرأي صحيحا حرموا فرصة استبدال الباطل(67) بالحقّ وان كان خاطئا خسروا فائدة كبيرة هي حصحصة الحق وظهوره جلياً واضحا بعد مقارعته بالباطل.( 68) إذ أن هناك، برأيه، بون شاسع بين افتراض صحة الرأي الذي يكون قد صمد في كل المناقشات ولم يدحض، وبين فرض صحة الرأي بغية عدم السماح بدحضه. والحرية التامة التي يتمتع بها كل إنسان في معارضة آرائنا ودحضها هي الشرط الأساسي الذي يبرر موقفنا في افتراض صحتها والعمِلْ بموجبها. وبدون هذا الشرط لا يستطيع أي مخلوق يحمِلْ معه المِلْكات الإنسانية أن يصل إلى ضمانة معقولة أنه على حق. ـ إن الميل القتّال إلى  إهمال التفكير والمناقشة في أمر لم يعد مشكوكاً فيه إنما هو سبب نصف أخطاء البشر ولقد أجاد احد الكتاب المعاصرين حين تحدث عن السبات العميق لرأي مقبول مقرر (114)
ويخلص ( مل) إلى البرهان على ضرورة النقد والتفكير والمناقشة  وحرية الرأي  استنادا إلى أربعة أسس هي :
أولاً: إذا أرغم رأي ما على السكوت، فمن الممكن أن يكون ذلك الرأي صحيحا وإنكار ذلك ادعاء منّا بالعصمة.
ثانياً: إذا كان ذلك الرأي الذي أخمد خاطئاً، فمن الممكن أن يحتوي على جزء من الحقيقة، وكثيراً ما يحدث ذلك. وبما أن الرأي العام أو الشائع في أي موضوع لا يكون كل الحقيقة، أو يندر أن يكون كذلك فلا أملَ في تأمين الجزء الباقي من الحقيقة إلا عن طريق احتكاك الآراء المتضادة .
ثالثاً: إذا كان الرأي المسلم به صحيحاً ويتضمن كل الحقيقة، فإنه، إذا لم يناقش بعزم وإخلاص، يبقى مجرد تحيز لدى معظم الذين يسلمون به، ثم إنهم لا يدركون إلا اليسر من أسسه المعقولة. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ وحده، بل وهنا يجب أن نضيف :
رابعاً: إن  معنى المذهب نفسه يصبح مهددا بالضياع أو الضمور والهزال، ويفقد المذهب أثره الحيوي على الخلق والسلوك إذ يصبح المذهب المقرر مجرد  اعتراف شكلي لا خير(130) فيه يقف عثرة تحول دون نمو أي اقتناع حقيقي صميمي صادر عن العقل أو الخبرة الشخصية) 131)
في حدود سلطة المجتمع على الفرد يتساءل( مل) أخيراً ما هو الحدّ الشرعي لسيادة الفرد على نفسه؟ أين تبدأ سلطة المجتمع ؟ماذا يجب أن يعود للفردية من الحياة البشرية و ماذا يجب أن يعود للمجتمع؟ إن كلا منهما ينال حصته العادلة إذا هو احتفظ بما يخصه أو يعنيه. فيكون للفردية جزء  الحياة الذي يهم الفرد، وللمجتمع الجزء الذي يهم المجتمع.
إن من ينال حماية المجتمع، باعتقاد مل، يكون مديناً له مقابل ذلك، والعيش في المجتمع(167) يقتضي حتماً أن يتقيد كل فرد بخطة من السلوك تجاه الآخرين. يتألف هذا السلوك أولاً من عدم إضرار الواحد بمصالح الآخر، أو بالأحرى عدم الإضرار بتلك المصالح التي يجب أن تعتبر حقوقاً إما بموجب نص قانوني صريح أو بموجب تفاهم ضمني. ويتألف هذا السلوك ثانياً من تحمل كل فرد نصيبه( الذي يقرر وفق مبدأ منصف)مما تقتضيه صيانة المجتمع  أو أعضاءه من أتعاب وتضحيات. ويحق للمجتمع مهما كلف الأمر أن يفرض تحقيق هذين الشرطين على من يحاول الامتناع عن ذلك.( (168
ويعتبر الشخص هو صاحب الشأن الأول فيما يختص بخيره الذاتي، ولا يعتد  بشأن الآخرين فيه إلا في حالات العلاقة الشخصية القوية، وما شان المجتمع به كفرد إلا شان جزئي غير مباشر…. إن تدخل المجتمع  للتحكم في حكمه وأغراضه الخاصة به لا بدّ أن يقوم على افتراضات عامة قد تكون خاطئة، وان كانت صحيحة فقد يسيء تطبيقها على الحالات الفردية أناس يجهلون تلك الحالات كما يجهلها أولئك الذين ينظرون إليها من الخارج فقط. في هذه الدائرة من شؤون البشر يقع مجال عمل الفردية.( 170)  ويجزم ( مل) هنا بأن الضرر الذي يلحقه شخص بنفسه قد يكون ذا أثر خطير على الغير ممن لهم علاقة به، وبدرجة أقل على المجتمع عموما. فإذا قاد مثل هذا السلوك شخصاً إلى الإخلال بواجب واضح نحو الغير، فإن القضية تخرج عن نطاق الشؤون الذاتية وتصبح في متناول التنديد الأخلاقي بمعناه الصحيح. ( 178)
وباعتقاده، فإن أقوى حجة ضد تدخل المجتمع بشؤون الفرد الخاصة هي بأن تدخله غالبا ما يكون خاطئا وفي غير محله. إن رأي العموم، أي الأكثرية السائدة  في مسائل الأخلاق الاجتماعية والواجب نحو الغير كثيراً ما يكون خاطئاً، رغماً عن أنه كثيراً ما يظهر مصيباً  لأن المطلوب منه إذ ذاك أن يحكم في مصالح الأكثرية، وفي الطريقة التي يمكن أن يؤثر عليهم فيها نوع من السلوك قد يسمح بممارسته. أما فرض رأي الأكثرية  كقانون على الأقلية في شؤون السلوك الخاص، فإنه قد يكون خاطئاً بقدر ما يكون صائباً لأن الرأي العام في مثل هذه الحالات لا يعدو كونه  رأي بعض الناس فيما هو خير أو شر للغير، بينما هو كثيراً ما لا يعني حتى هذا، فتهمله العامة ولا تبالي بإرادة أصحابه ورضاهم ولا تهتم إلا بما تفضله.(182)
© منبر الحرية، 18 يناير/كانون الثاني2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018