peshwazarabic16 نوفمبر، 20101

التأريخ الذي يتحدث عنه الناس في كل مكان لم يكتب بعد، وحين يكتب سيتعلم أحفادنا أنّ كلّ ما ورثوه ليس أكثر من خرافات واساطير.
يجب أن نتفق أولا أنّ الحضارات تكمل بعضها على مدى التأريخ.
ويجب أن نعترف ايضا أنّه لم يصلنا شيء يدل على الحضارة العربية، فالمدنيات العربية التي قامت قبل الاسلام (السبأية والحميرية ودولة الغساسنة والمناذرة وغيرها) لم تخلف ما يدل على تحضر ولم تصنع حضارات أورثت العرب المعاصرين شيئا من تمظهرها، كل ما بنيت عليه حضارة العرب هو إسلامي، نشأ بنشوء الدول الاسلامية المتعاقبة  ورفده الاف المبدعين من العرب وغيرهم ممن إشتملت عليهم امبراطوريات الاسلام المتعاقبة.
آخر امبراطوريات المسلمين كانت الدولة العثمانية ( 1299-1924) والتي سادت منطقة الشرق الاوسط وأسيا الوسطى والحجاز والشام وشمال افريقيا بالأضافة الى السودان والصومال وأوروبا الشرقية علاوة على النمسا وايطاليا واليونان. حين انهارت هذه الامبراطورية المترامية ألاطراف لم تخلف سوى ولايات بدائية قبلية وأمارات بدوية، وبقي منجزها الحضاري محصورا في تركيا نفسها وبشكل لا يتعدى المساجد العثمانية وتركة ثقيلة من الإرث الاداري  المتخلف الفاسد.
مصانع الكولونيالية
واصطلح على تسمية القرنين السابع عشر والثامن عشر بعصور الإستعمار الكولونيالي ( وهو مصطلح ملتبس في الغالب يرتبط في اذهان العرب وغيرهم بمفاهيم الإستعباد وانعدام السيادة، في حين أن معنى “إستعمار البلاد” بالعربية هو اعمار البلاد ونشر التمدن فيها فكيف روّج السياسيون العرب المتخلفون مطلع القرن العشرين أن الاستعمار يعني الإستعباد؟).  بعد أن رفعت الحرب العالمية الأولى أوزارها أدرك ألاوروبيون وهم من حاولوا استعمار دول العالم عدم جدوى نشر التمدن والحضارة والديمقراطية بالقوة، فقرروا أنّ يصنعوا من الولايات والامارات التي خلفها العثمانيون دولا على نمط الدول العصرية الحديثة، ومضوا ليصنعوا في تلك الأصقاع كيانات سياسية قد تنجح في خلق تنافس سياسي داخل تلك الكيانات بما يحتمل أن يتنج عنه دولا متحضرة قد تلحق بركب الحضارة. بدأوا بتركيا مركز الأمبراطورية حيث جاءوا بكمال اتاتورك وعلموه كيف يخرج بعقول الناس عن 7 قرون من فساد وتخلف السلاطين بأن يخاطب فيهم الشعور القومي، وهذا ما كان، فنشأت تركيا الحديثة التي يحاول الأسلاميون اليوم العودة بها الى عصور السلاطين، الا أن جنرالات الجيش الذين طبختهم افران “الأستعمار” ما برحوا السد المنيع الذي يتصدى لمحاولات العثمنة.
النفط يخلط الاوراق
جاء النفط ليضيف الى مفهوم الدول التي صنعها الاستعمار عنصرا لم يكن في الحسبان، اذا أضحت معظم الكيانات المتخلفة البدائية فجأة مجتمعات غنية لامدنية، الأمر الذي دفع بأوروبا الى أن تستعجل نضوج طبخة الدول الجديدة، فسارع البريطانيون والفرنسيون بالذات في تشكيل دول الخليج لتظهر المملكة العربية السعودية الى وجه الصورة، ثم تعاقبت الكويت والبحرين وقطر والامارات وعمان لأعلان استقلالها ( أي خروجها من مصانع الاستعمار وهي لمّا تزل بعد فطائر لم تنضج!)، فيما لم تقع اليمن في دائرة اهتمام المستعمرين سوى في اجزائها الجنوبية المطلة على مضيق عدن، وغادرها الأنجليز عام 1967 لأسباب جيوسياسية تتعلق باغلاق قناة السويس عقب حرب الايام الستة . وصنع البريطانيون والفرنسيون من الشام والهلال الخصيب دول العراق العربي وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين وقسمّوها بما يضمن لكل منها منفذ بحري وما يتناسب مع علاقاتها بدول الجوار. ثم التفت “المستعمران ” بمصانعهما الى افريقيا فصنعوا مصر العربية وتونس والجزائر وليبيا والمغرب ( ولم يجدوا في المغرب ما يمكن أن يصنع دولة بمعنى الكلمة فتركوه ملتبسا بأرض شاسعة إنقسمت فيما بعد الى موريتانيا والصحراء الغربية ومملكة المغرب)، كما صنعوا السودان الكبير ودول القرن الافريقي الذي صارعتهم عليه بتخلفها الرث الأمبراطورية الأثيوبية وآخر اباطرتها “هيلاسي لاسي” – وهو اسم مسيحي يعني بالأثيوبية الثالوث المقدس-. ثم تعاقبت دول افريقيا كلها دون استثناء في الخروج من مصانع الأستعمار( وهنا كان للأسبان والبرتغاليين والهولنديين مصانعهم التي ساهمت في صنع الدول!) لتصبح 51 دولة لا يجمعها سوى التخلف والفقر والحروب الاهلية و حكام جلّ اهتمامهم أنّ يجمعوا الأموال من خزائن ” مشاريع الدول”.
واستمر مشروع صناعة الدول وامتد الى عمق آسيا الشاسعة، فصنع “المستعمرون” اندونيسيا وتايلاند وكوريا الجنوبية وبورما والفليبين وهونغ كونغ وتايوان وماليزيا وسنغافورة وافغانستان، فيما لم يهتموا بالنيبال ومنغوليا وتركوا فيتنام وكوريا الشمالية وكمبوديا ولاوس للشيوعيين كي يجربوا أن يصنعوا فيها دولا على طريقتهم. فخرجت علينا كوريا الشمالية -التي انخفض فيها معدل اعمار الناس الى 42 سنة! -بمشاريعها النووية، وطلعت فيتنام ولاوس بتصدير الخادمات والأيدي العاملة الأرخص في العالم.
وطلعت ناضجة من المصنع دولة الهند التي سرعان ما انفصل عنها المسلمون ليقيموا بنغلاديش وباكستان وهما كيانان ما برحا يطوران قدراتهما الحربية لحروب لا يعلم الا الله متى تبدأ ومتى تنتهي، كما اقاموا دولة الشاي في سيلان(سيريلانكا لاحقا) التي تمزقها الحروب الاهلية صراعا على مزارع الشاي ونشر الاسلام منذ قيامها حتى اليوم . أما الهند فمضت قدما وقد تأهلت لتصبح دولة عصرية في مصنع بريطاني بامتياز،وأضحت اليوم واحدة من أكبر وأقوى اقتصاديات العالم.
العالم الجديد
ولو التفتنا الى الأمريكتين فأن “مصانع الاستعمار” هي التي انتجت الولايات المتحدة الامريكية في امريكا الشمالية، والتي هي في الحقيقة 52 دولة اتفقت على الاتحاد في القرن الثامن عشر متأثرة الى حد كبير بمباديء الثورة الفرنسية ومختارة ان تتبنى لغة المنشأ، فصارت الانجليزية لغة البلاد الرسمية رغم ان سكانها جاءوا بدءا من كل اوروبا. كما اقتسم ” المصنعان” صناعة دولة كندا التي هي نموذج متواضع عن الولايات المتحدة الامريكية ما زالت الانجليزية والفرنسية لغتيها الرسميتين. اما المكسيك وهي موطن حضارة عريقة تعرف ب”الأزتيك” فقد خضعت لمدة 300 عام للأستعمار الأسباني، ثم قرر المستعمرون (قبل عصر الدول) في عام 1810 منحها الاستقلال لتصبح جمهورية المكسيك، إحدى أقدم الجمهوريات في العالم، لكنها ولدت خديجا وما زالت حتى اليوم تضج بالمشكلات والفقر وتخضع في الغالب لسلطة مناطقية تحددها العصابات، وفقدت لغتها الأم لتتبنى لغة المنشأ الأسبانية.
وفي امريكا الوسطى والجنوبية، لم يختلف الوضع كثيرا فقد صنعت مصانع اسبانيا والبرتغال ( ويلاحظ أنّ المانيا لم تكن دولة استعمارية على امتداد تأريخها وقد تفسر هذا حقيقة أنّ الالمان أنفسهم لم يصلوا الى مفهوم الدولة الحديثة الا في وقت متأخر)، فاحتل البرتغاليون البرازيل 500 عام وصنعوا منها دولة كبيرة رخوة، واحتل الأسبان الارجنتين وبيرو وبوليفيا وتشيلي لثلاثة قرون ليصنعوا منها دولا لا تقوى على أن تكون عصرية وبقيت مذبذبة بين الحداثة وبين روح المستعمرات الموروثة. وتنافست مصانع اسبانيا الخائبة مع مصانع البرتغال المتخلفة على صناعة الدول الاخرى في اورغواي وبارغواي والهندوراس وفنزويلا والاكوادور وسورينام وترينداد وتوباغو، وغويانا، وجاءت كل الطبخات التي تمت قبل قيام عصر الجمهوريات بنتائج مخيبة للآمال، أما كوبا فقد حاول الشيوعيون أن يصنعوا فيها دولة، ونجحوا في أن يضعوا لها رئيسا ما زال يحكم البلاد منذ استقلالها عام 1958، وقد أورث أخيه مؤخرا لكي يتولى عنه الحكم بالنيابة، لتصبح حين وفاته جمهورية شيوعية وراثية، تؤرّق الولايات المتحدة وتقض مضجعها بسياراتها المتحفية التي تنتمي الى خمسينات القرن الماضي ولا يستطيع الناس استبدالها لأن الحكومة لا تجيز التعامل مع الغرب!!
اما دويلات امريكيا الوسطى( هندوراس، جامايكا، غواتيمالا، كوستاريكا، بليز، بنما، السلفادور، نيكاراغوا) فقد جمعها مشروع دولة اقترحه الأسبان في القرن التاسع عشر،عرفت تلك الدولة ب(الولايات المتحدة في امريكا الوسطى)،الا أنها عاشت ثماني أعوام فقط لتسلم الدويلات الى مافيا الموز والمطاط والمخدرات والدعارة.
في أقصى جنوب الكرة الارضية قارة صغيرة تدعى”استراليا” تضم دولتين، “استراليا” و”نيوزيلنده” كلاهما تتكلمان الأنجليزية وكلاهما من دول الكومنولث، فهذه القارة باكملها بريطانية بامتياز.
ومن تم يمكن أن نعرف من صنع تأريخ العالم الحديث، ومن يكتب الآن مستقبله، إنها ليست الولايات المتحدة الامريكية، بل أوروبا التي لم تعد تحتاج الى قوات عسكرية لتثبّت الاوضاع في كل العالم، فكل دول العالم تقريبا صنعت في مصانع أوروبا، والولايات المتحدة الامريكية ليست استثناء. والسيادة والاستقلال الذي يتشدق به قادة كل هذه الدول ونخبها السياسية هو بركة المصانع الكولونيالية، لكن الجحود صفة بشرية ترمي بصاحبها الى مفاوز مجهولة في مغامرات لا تنتهي في الغالب الا بكوارث، وهذا حال عالمنا اليوم وغدا.
© منبر الحرية، 4 آب-أغسطس 2009

One comment

  • محمد

    24 فبراير، 2013 at 8:51 ص

    لو كان مقالك مكتوبا على ورق لاحتفظت به في سلة القمامة
    أضعت وقتي بعنصريتك و ضيق أفقك

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018