peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

إنها قصة مألوفة: فلإسرائيل وراعيتها العالمية علاقة متينة الوشائج. وقلّما يتذكرُ أحدٌ أن زمنا قد مرّ على البلدين لم تكن فيه عُرى العلاقة بينهما وطيدة. أما سرّ هذه الشراكة فهو تعاون البلدين القوي في احتواء تهديد الأنظمة والحركات الراديكالية في الشرق الأوسط.
وبعد سنوات من الاضطرابات السياسية والمشاكل الاقتصادية، أنتجت جولة انتخابات تاريخية عملية إعادة ترتيب في الدولة الراعية. فقد قام الرئيس المنتخب حديثا، ذو الشعبية الواسعة، ببعض الخطوات الجذرية نحو تحويل سياسة بلاده الخارجية، ولا سيما فيما يتعلق بالشرق الأوسط. حيث سحب قواته العسكرية من بلد عربي مُحتّل، ومضى إلى مسافات كبيرة في طريق تحسين أواصر العلاقات مع البلدان الأخرى في الإقليم.
وفي مواجهة هذا التغيير التاريخي، تزايد قلق إسرائيل حول ما إذا كان الرئيس الجديد سيواصل إدامة العلاقة المتينة الراسخة التي سعى أسلافه إليها، وأداموها. وعلى الرغم من قلقها المتزايد، فقد قررت الدولة اليهودية أن ترمي بنصيحة راعيتها عرض الحائط، وأن تَشُن ضربة عسكرية ضد بلد شرق أوسطي. فما كان من الرئيس الجديد للدولة الراعية إلا أن شجب واستنكر الهجوم، وبدأ مرحلة إنهاء التحالف الدبلوماسي والعسكري مع عميلهم في الشرق الأوسط. مما حدا بإسرائيل أن تبحث عن راع ٍ قوي جديد.
فعندما أتخذ الرئيس الفرنسي تشارلز ديغول بعض الخطوات لإنهاء التحالف مع إسرائيل، الذي امتد لعقدين من الزمن، عشية النصر العسكري الذي حققته الأخيرة في حرب الأيام الستة عام 1967، كان قراره قد أرسل موجات اهتزاز إلى كل العالم. فلطالما كانت إسرائيل وفرنسا صديقتين حميمتين منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين، وقد تحوّلت علاقتهما إلى تحالف إستراتيجي مثمر عندما بدأ الضابط المصري جمال عبد الناصر، ذو الشعبية والكاريزما الكبيرين، بتقديم الدعم للمتمردين الذين يقاومون الحكم الاستعماري الفرنسي.
عام 1956، انضمت إسرائيل مع فرنسا وبريطانيا في خطة موسّعة مشؤومة للهجوم على مصر واستعادة قناة السويس بعد أن أممها عبد الناصر. فبالإضافة إلى تزويد إسرائيل بالتكنولوجيا الحربية المتطورة، بما في ذلك طائرات الميراج والميستر الفرنسية الصنع، قام الفرنسيون بمساعدة الإسرائيليين في بناء المفاعل النووي الإسرائيلي ومصنع المعالجة النووية. كان التحالف الفرنسي الإسرائيلي الذي هدف إلى احتواء القوة العربية الوحدوية المتنامية، كان عاملا رئيسا في تحقيق الأمن القومي الإسرائيلي في ذلك الحين.
غير أن انتخاب ديغول عام 1958 غيّر كل هذا. فقد فاجأ ديغول العديد من أنصاره ومؤيديه عندما اعتنق أجندة تحولّية في سياسة بلاده الخارجية، أدّت إلى منح الجزائر استقلالها عام 1962، فضلا عن عملية ترميم العلاقات مع مصر وبقية العالم العربي. ومع التوتر الذي زادت حدته في الشرق الأوسط عام 1967، ضغط ديغول على الإسرائيليين لمنعهم من مهاجمة مصر، وأعلن في الثاني من حزيران (يوليو) حصارا يحرم فيه إسرائيل من الأسلحة، قبيل اندلاع الحرب بثلاثة أيام. لقد لعب موقف ديغول عام 1967 في حرب الأيام الستة دورا في تنامي شعبية فرنسا في أوساط العالم العربي، بينما اتجهت إسرائيل نحو الولايات المتحدة للحصول على الدعم العسكري و الدبلوماسي.
فهل يستطيع الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يلعب دور ديغول ٍ أمريكي؟ هل سيؤدي قرار إسرائيلي برفض نصيحة أوباما لها بعدم توجيه ضربة عسكرية ضد المواقع النووية الإيرانية المزعومة إلى إعادة تقييم تاريخي للعلاقات بين واشنطن وأورشليم؟
حذّرت المؤرخة مارغريت ماكميلان في كتابها الجديد الموسوم ’استخدامات التاريخ وسوء استخداماته‘ من أن التاريخ، في الوقت الذي يقدّم مقاربات نافعة لفهم الحاضر، فإنها – أي المقاربات- يمكن أيضا أن تؤدي إلى أخطاء جسيمة في الحكم أو التقدير.
إذن، ما الذي يميّز القضية الفرنسية عن الأمريكية؟ حسنا ً، من ناحية، إن السياسة الخارجية الأمريكية كانت تتأثر كثيرا بالقوة المستمدة من الرأي العام، ووسائل الإعلام، والكونغرس، أكثر مما هو الحال مع السياسة الخارجية الفرنسية التي تميل إلى كونها خاضعة لحسن تقدير السلطة التنفيذية القوية والمجموعات النخبوية. إن التوجه المناصر لإسرائيل بين أوساط الكونغرس الأمريكي قد لعب دورا كبيرا، وبشكل واضح، في تقييد أي رئيس أمريكي ومنعه من محاولة إعادة النظر في توجه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وعليه، فالتوقعات تفيد بأن الكونغرس سيلعب نفس الدور الراسخ في القدم إذا ما أقدم أوباما على أن “يحذو حذو ديغول.”
وعلى الرغم من هذا، فأن التغيرات الجذرية في العلاقات الفرنسية – الإسرائيلية في ستينات القرن العشرين تقدّم لنا قضية تعليمية في هذا الخصوص. فالعلاقات بين الأمم والدول، ولا سيما بين الدولة الراعية وعميلها، هي علاقات قابلة للتغيير، والعديد من الإسرائيليين يدركون هذا الأمر جيدا، كما اكتشفت من خلال زيارتي الأخيرة للإقليم.
في الواقع، إن التناظر بين ديغول و أوباما طُرح عدة مرات في المقابلات التي أجريتها مع المسؤولين والمحللين السياسيين الإسرائيليين، مما يعكس القلق المتنامي في إسرائيل، وعلى وجه الخصوص حكومة حزب الليكود بقيادة رئيس الوزراء بينامين ناتينياهو، من أن يكون الرئيس أوباما ينوي إعادة صياغة الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط.  والحق، أني خلال زيارتي، قد ذُهلت من حالة الحتمية التي يتقاسمها كل من الفلسطينيين والإسرائيليين من أن واشنطن ستتبنى في نهاية المطاف دورا ناشطا في حل الصراع على الأرض المقدّسة.
ولكن على الرغم من مثل هذه المخاوف من الطرف الإسرائيلي – وبارقة الأمل بين أوساط الفلسطينيين—فإن أوباما ومساعديه لم يصدروا حتى الآن أية خطة سلام شاملة في الشرق الأوسط، أو يتخذوا أية خطوات تنبئ بتغيّر تاريخي، على غرار ديغول.
كثيرا ما كرر الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون المواقف الأمريكية، بما فيها حاجة إسرائيل إلى الانسحاب إلى حدود عام 1967 – مع بعض التعديلات الطفيفة—كجزء من الاتفاق العربي- الإسرائيلي، ومعارضة تأسيس المستوطنات اليهودية في الأراضي العربية المحتلة، ودعم فكرة أن تكون السيطرة على القدس، بما فيها الأراضي الدينية، مشتركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
بالرغم من ذلك، فإن هناك إحساس مُدرك في واشنطن وفي عواصم الشرق الأوسط أن “شيئا ما” قد تغيّر في طريقة الولايات المتحدة. ولكن هذا “الشيء” يعكس تغيّرا في النبرة والأسلوب أكثر من كونه تغيّرا في الجوهر. كما أن هناك تناقض حاد أيضا بين أوباما وحكومة جورج دبليو بوش، التي  أكدت بقوة على الروابط الأمريكية – الإسرائيلية والمصالح المشتركة في محاربة التطرّف في المنطقة.  وبالمقارنة بالفنون البلاغية لمستشاري بوش من المحافظين الجدد، فإن فريق أوباما وإعادة صياغته لأهداف السياسة الأمريكية الراسخة يمكن أن يبدو، وبكل سهولة، على أنه يهزّ الأرض.
كما أن انتخاب بنيامين ناتينياهو رئيسا لوزراء إسرائيل قد وفّر لأوباما فرصة لخلق الإحساس بأن “شيئا ما” كان يتغيّر فعلا في طريقة الولايات المتحدة في التعاطي مع الشرق الأوسط. فلطالما كان ناتينياهو مفضّلا لدى المحافظين الجدد. وبعد سقوطهم المخزي من السلطة في الولايات المتحدة، بدا المحافظون الجدد وكأنهم حققوا نصرا سياسيا كبيرا في واحدة من القواعد الأمامية المتقدمة للإمبراطورية الأمريكية بفوز ناتينياهو وأنصاره من المحافظين الجدد، وكانت إدارة أوباما قادرة على تسويق رسالتها في التغيير في العالم العربي.
وتعود القضية السياسية والإيديولوجية بين ناتينياهو والمحافظين الجدد إلى عهد رئاسة ريغان والسنوات الأخيرة للحرب الباردة، عندما عمل ’بيبي‘ ممثلا لإسرائيل في الأمم المتحدة، ثم سفيرا لإسرائيل في واشنطن. وفي ذلك الوقت، كان الجيل الأول من مثقفي المحافظين الجدد – بما فيهم ريتشارد بيرل، جين كيركباتريك، إيليوت إبرامز، كينيث أيدلمان، وماكس كامبلمان – يشغل مناصب قيادية في السياسة الخارجية في إدارة ريغان. وبالنسبة لحزب الليكود الذي كان حاكما آنذاك، كانت سياسات الحزب الجمهوري تبدو وكأنها تمنح إسرائيل الوقت لإحكام قبضتها على الضفة الغربية وغزة، كما رأت واشنطن الصراع العربي الإسرائيلي من منظار الحرب الباردة، معرّفة الحركة القومية الفلسطينية على أنها مجرد امتداد للإرهاب الدولي الذي يرعاه الإتحاد السوفيتي.
وبانتهاء الحرب الباردة، عاد ناتينياهو إلى إسرائيل ليعمل أولا وزيرا للخارجية، ومن ثم رئيسا للوزراء. وقد أثبت مهارة في استبدال التهديد السوفيتي المحتضر ببعبع جديد من الشرق الأوسط، وإقناع العديد من الحلفاء الدائميين بأنه بعد ذهاب الإتحاد السوفيتي، بوسع إسرائيل حماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط ضد القوميين العرب (كصدام حسين)، والإسلاميين الأصوليين (كملالي إيران)، ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي تحوّلت، في خضّم دوران حزب الليكود المحافظي الجديد، من جناح يساري راديكالي إلى مجموعة إسلامية إرهابية راديكالية. غير أن جورج دبليو بوش ومستشاريه الواقعيين في الشؤون الخارجية لم يشتروا هذه الحكاية ولم يقبلوها، وقرروا مجابهة حكومة الليكود في قضية المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية.
وبعد إعادة انتخابه عام 1996، قام ناتينياهو بزيارة رمز المحافظين الجدد ريتشارد بيرل في واشنطن. وبحسب الصحفي كريغ أنغير، كان موضوع حديثهم هو ورقة سياسة عمل كان بيرل وبعض المحللين الآخرين قد كتبوها لإحدى مراكز الأبحاث الإسرائيلية الأمريكية، وهو معهد الدراسات الإستراتيجية السياسية المتطورة. وقد اقترحت الورقة الموسومة “انكسار نظيف: إستراتيجية جديدة لحماية المنطقة” رؤية راديكالية جديدة في السياسة الإسرائيلية. فقد اقترحت الورقة أنه من خلال شن الحروب على العراق، وسوريا ولبنان، بوسع إسرائيل- بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية—أن تعيد تشكيل المشهد السياسي وبذلك تضمن أمنها.
لقد اجتمع ناتينياهو مع أوباما في وقت مبكر من هذا العام تحديدا بعد ثمان سنوات من طرح تلك الأفكار التي ساعدت على وقوع واحد من أسوأ الإخفاقات الإستراتيجية في تاريخ الولايات المتحدة—ألا وهو غزو العراق عام 2003. إن قولنا بأن أوباما، على خلاف سلفه جورج دبليو بوش، ليس لديه الكثير من الإهتمام في الإصغاء لمحاضرات رئيس الوزراء الإسرائيلي بشأن الشرق الأوسط، سيكون تصريحا مجافيا للحقيقة. وبدلا من ذلك، طالب أوباما ناتينياهو بوقف توسيع المستوطنات في  الضفة الغربية.
إن هذا الموقف العادل للولايات المتحدة أغضب ناتينياهو. فخلال زيارته إلى واشنطن، أكد الأخير أن الحاجة إلى التعامل مع التهديد المحتمل الذي تشكّله إيران النووية قبل اتخاذ الخطوات بشأن الصراع مع الفلسطينيين، وهو وضع رفضه أوباما الذي أكد على أن القضيتين يجب التعامل معهما بشكل متوافق.
وبينما أعلن ناتينياهو، وبتذمر واضح، أنه سيدعم خلق دولة فلسطينية محدودة – رغم أنها غير مقبولة من جانب الفلسطينيين — كانت الحكومة الإسرائيلية تواصل مقاومة الضغوط الأمريكية الرامية لإيقاف بناء المستوطنات اليهودية. بقي بعض المحللين السياسيين غير واثقين من أن القائد الإسرائيلي راغب فعلا في تبنّي حل الدولتين، أو أنه يحاول كسب الوقت، ليس إلا.  وعلى كل حال، فإن الحكمة التقليدية في إسرائيل تقول بأن المواجهة بين ناتينياهو وأوباما ستودي بالحكومة الإسرائيلية الحالية إلى الإنهيار، وإلى حدوث انتخابات جديدة في إسرائيل، مما يجبر واشنطن على البدء بضغطها الدبلوماسي نحو السلام الإسرائيلي الفلسطيني.
في الحقيقة، لا الإسرائيليين ولا الفلسطينيين— بقياداتهم المنقسمة بشكل حاد—يمتلكون قادة يتمتعون بالكاريزما والسلطة الكافيتين للقيام بالخيارات الصعبة التي يمكن أن تضع المجتمعين على طريق المصالحة، حتى وإن كانت مصالحة شكلية مصطنعة.
هل يستطيع الرئيس أوباما أن يملأ الفراغ في إسرائيل وفلسطين والبدء في الضغط على الجانبين للنظر في مسألة اتخاذ بعض الحلول الوسط حتى وإن كانت مؤلمة؟ هل ستكون المملكة العربية السعودية، ومصر، والدول العربية الأخرى، قادرة على دعم الأمريكان إذا ما قرروا القفز في المياه الباردة لعملية السلام في الشرق الأوسط؟ وهل ستحاول إيران وحلفاؤها في المنطقة إجهاض الجهود الأمريكية، أو يقرروا الإنضمام إلى الجوقة التي تقودها أمريكا؟ وهل سيكون لدى أوباما القاعدة السياسية الرصينة لمواجهة المجموعات القوية التي تساند ناتينياهو في واشنطن؟
هذا بعض من الأسئلة التي تدور في خلد المراقبين في الشرق الأوسط، وكذلك في الأماكن الأخرى، وهم ينتظرون من أوباما إطلاق مبادرته حول الشرق الأوسط، والتي طال انتظارها، في الشهور القليلة القادمة. ولكن القلق الرئيسي الآخر—بالرغم من النوايا الحسنة للرئيس أوباما —  هو ما إذا كان تآكل القوة الإستراتيجية والاقتصادية الأمريكية قد يضع بعض القيود الهائلة على قدرة الرئيس على تحويل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وجلب السلام إلى الأراضي المقدّسة.
© منبر الحرية، 4 أغسطس/آب 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018