القضاء المصري وبناء الدولة المدنية في مصر

peshwazarabic1 مارس، 20110
لا يستقيم مبدأ المشروعية لدى المحكمة إلا باعتبار الدولة التي يتوافر لكل مواطن في كنفها الضمانة الأولية لحماية حقوقه و حرياته، ولتنظيم السلطة و ممارستها في إطار من المشروعية، وان هذه الضمانة يدعمها القضاء من خلال استقلاله وحصانته لتصبح القاعدة القانونية محورا لكل تنظيم، وحدا لكل سلطة ورادعا ضد العدوان....

قضت محاكم القضاء الإداري في العديد من المحافظات المصرية ببطلان إجراء انتخابات مجلس الشعب المصري التي أجريت في نهاية شهر نوفمبر 2010 في عشرات الدوائر الانتخابية، كما قبلت طعونا بوقف إجراء انتخابات جولة الإعادة بالعديد من الدوائر.
هذا الدور الذي لعبه القضاء الإداري في تلك الانتخابات هو امتداد للدور الثابت للقضاء المصري، في بناء الدولة الحديثة في مصر، وفي إقرار مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ومساهمة القضاء في تقوية الحياة السياسية في مصر.
فبالنسبة لبناء الدولة الحديثة، يعتبر القضاء المصري هو احد ابرز إنجازات مشروع الدولة الحديثة، الذي تأسس على صياغة مجموعة من القوانين، والهياكل، والمؤسسات القانونية والسياسية، وقد استمد مشروع الدولة الحديثة مرجعيته الأساسية من التجربة الأوروبية للدولة القومية الحديثة، وانطلاقا من هذه المرجعية الفكرية، فكانت فكرة دولة القانون وفصل السلطات لا يتجزأ من هذا المشروع كله. وقد لعبت الجماعات القانونية دورا محوريا في هذه العملية التاريخية، وخاصة القضاء، والمحامين، ورجال الفقه القانوني وقد استطاعت تلك الجماعات أن تقوم بعملية أقلمة للأنساق القانونية الغربية الحديثة مع الواقع الاجتماعي في مصر، واستطاع القضاة أن يطوعوا هذا الكيان الهائل المتشابك من القواعد القانونية لكي يتعامل مع أنماط من السلوك الاجتماعي والاقتصادي والقانوني مغايرة كثيرا للواقع السياسي- والاجتماعي الذي أنتج هذه الأنظمة القانونية كما استطاعوا سد الفجوة بين القانون وحركة الواقع، وكانوا مدركين لأهمية استقلال المؤسسات القضائية باعتبارها سلطة من السلطات الثلاث. ومن ثم كانت إشكالية فصل السلطات –المدنية- في إطار الدساتير المصرية جزءا لا يتجزأ من شواغل الجماعة القضائية المصرية. وإذ أن استقلال القضاء والقضاة في أدائهم للوظيفة القضائية، يمثل جزءا أصيلا من معاني، ودلالات دولة القانون، ومبدأ سيادته في الحكم، وعلى الرغم من المحاولات الضارية من سلطتي التنفيذ والتشريع لترويض القضاء كسلطة، و القضاة كجماعة إلا أن هذه المحاولات وجدت أغلبية كبيرة تتصدى لها بالرفض الصارم. ومن هنا يمكن القول أن السلطة القضائية، وجماعة القضاة قد بلورتا تراثا من الممارسات والقيم والتقاليد القضائية الاستقلالية إزاء السلطات الأخرى في الدولة، مما ولد حساسية شديدة إزاء كافة محاولات التأثير على صلاحيات القضاة، أو استقلالهم في أداء أعمالهم، أو المساس بمكانتهم كجماعة على مستوى الحياة العامة، أو الاجتماعية. وقد أثمرت تلك الممارسات إلى ظهور نسق عقيدي لدى جماعة القضاة حول القيم والقواعد التي تمثل القيم الدستورية والسياسية للدولة المدنية الحديثة، ونظام حقوق الإنسان، وقد تبلور هذا النسق العقيدي، حول الحريات العامة الأساسية، ورفض الأنساق القانونية والقضائية الاستثنائية، وعلى رأسها استمرارية قانون الطوارئ وغيره من القوانين التي تمثل خروجا على قواعد المشروعية الدستورية و القانونية. وقد تبلور هذا النسق العقيدي المدني عبر المبادئ القانونية، وتراث من الأحكام الوقائية التي تؤصل خطاب الحرية والمساواة وسيادة القانون وحقوق الإنسان. ومن الأمور الجديرة بالملاحظة والرصد أن هذا الخطاب يمثل موضوعا وأساسا للتراضي والوفاق والاتفاق العام بيمن الأجيال المختلفة لدى جماعة القضاة .
إن المتابعة التحليلية لقضاء المحكمة الدستورية – وهيئة مفوضيها. يؤكد على أننا إزاء ممارسة متميزة لتأصيل المبادئ الدستورية. ومن أهم معالم خطاب الحرية الذي صاغته المحكمة الدستورية العليا مفهوم الدولة المتمدينة إزاء الدولة المستبدة، وانه من الضروري أن تعمل الدول المتمدينة – وهو مفهوم مرجعي لدى المحكمة وقضائها ويتردد دوما في أحكامها الطليعية و الرائدة –على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة في جوانبها الموضوعية و الإجرائية لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها بالمخالفة للقيم التي تؤمن بها الجماعة في تفاعلها مع الأمم المتحضرة و اتصالها بها. كما تقرر المحكمة بان حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، و اعترافها بان الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وان الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها، تفرض نظاما متكاملا للجماعة يكفل لها مصالحها الحيوية، ويصون – في إطار أهدافه – حقوق الفرد و حرياته الأساسية. أما فيما يختص بدولة سيادة القانون. حيث يمثل هذا المبدأ جوهر الدولة المدنية الحديثة، ويمثل ابرز مظاهر تقدمها و مدنيتها. وهذا المبدأ يمثل احد عناصر خطاب الحرية. والنسق العقيدي لقضاة المحكمة و مفوضيها – و أحكامها. وترى المحكمة أن مبدأ خضوع الدولة للقانون، و استقلال القضاء و حصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات.
ولا يستقيم مبدأ المشروعية لدى المحكمة إلا باعتبار الدولة التي يتوافر لكل مواطن في كنفها الضمانة الأولية لحماية حقوقه و حرياته، ولتنظيم السلطة و ممارستها في إطار من المشروعية، وان هذه الضمانة يدعمها القضاء من خلال استقلاله وحصانته لتصبح القاعدة القانونية محورا لكل تنظيم، وحدا لكل سلطة ورادعا ضد العدوان.علاوة على ما تقرره فيما يختص بحقوق المواطن وحرياته والدولة القانونية. حيث ترى أن مضمون القاعدة القانونية التي تسمو في الدولة القانونية عليها، و تتقيد بها، إنما يتحدد على ضوء المسئوليات التي التزمتها الدولة الديمقراطية حيال مجتمعاتها. بل إن خضوع الدولة للقانون – في قضاء المحكمة يحدد على ضوء مفهوم ديمقراطي مؤداه –ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدول الديمقراطية أساسا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته و شخصيته المتكاملة.
إن خطاب المحكمة حول الدولة المدنية والحريات، وحقوق الإنسان، يمثل جوهر خطاب الحريات العصرية وعلى نحو أكثر تبلورا، ووضوحا، ونضوجا مقارنة مع خطاب الأحزاب والجماعات السياسية حول الحريات والدولة في مصر التي ينتابها غموض والتباس. في حين أن خطاب الحرية والدولة المدنية يمثل جزءا من عملية ممارسة الوظائف القضائية. وهذا الدور يتسم بصفات تاريخية عبر تأكيده على الحرية وضماناتها.
*كاتب وباحث مصري ومدير مركز الكنانة للبحوث والدراسات بمصر
© منبر الحرية،26 فبراير/شباط 2011

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018