نوح الهرموزي20 ديسمبر، 20111
التغيير الذي انتظرته الشعوب منذ خروج الاستعمار قبل نصف قرن و نيف، والذي "هرمت" في سبيله كما عبر عن ذلك المواطن التونسي أبلغ تعبير جاء من حيث لم ينتظره أحد. لكن المهمة لم تنته بعد، فالعديد من المؤشرات تقود إلى التنبيه أنه من الواجب تجاه الذات وتجاه الوطن، الانتقال إلى مبدأ الشك في كل شيء.....

” لا شيء يمنع من البكاء والضحك في آن واحد، ها هنا تشخصت المعاني المتناقضة، في مشهد عانقت فيه التراجديا المعنى الأسوأ للكوميديا. وتزاوج الميتوس مع اللوغوس دون نكاح شرعي وعلى حين غفلة، فولدا حكاية ربيع بأرض سياسية بور لا تعرف الفصول الأربعة. وبدت الفرجة تفرض شكلا من الإثارة والغموض والمرارة أيضا. فحينما يحل موعد الدفع بعد وعد بالبيع تأخر كثيرا، وتظهر غريزة الموت في معركة التسلط ضد التحرر، ويجد الشعب مسكنه في الفضاء العمومي، وتمضي لعبة الصبية ببراءة حتى إشعار آخر، وجب أن نمنح فرصة للتفكير.”

كاتب سهى البال عن اسمه

دون مقدمات نقف هذه الأيام بين عامين لا كالأعوام، عام يمضي تاركا بين طياتنا شجونا كثيرة يمتد معظمها لكي يتعلق برقبة العام المقبل، وأحداث خلدت ذكريات ووقائع خطت منعطفا جديدا على امتداد رقعة جغرافية كبيرة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

سنة تكفي الباحث ليرتاح من تعب المتابعة اليومية للأحداث، ويرتب الأفكار ويعلق جميع الصور أمامه بغية فهم أدق وقراءة أمثل وتحليل أعمق، لما حدث في منطقة كانت لعقود أرضا بورا، ومضربا للمثل في السكون و الاستقرار المرادف للموت بلغة الطبيعة.

فهم يكشف على أن ما خلقه الحدث الثوري أو الحراك الشعبي على أرض الواقع تجاوز ثنائية الأنظمة والمعارضة معا، فهو أفقد الأنظمة الاستبدادية مشروعيتها، كما تخطى المعارضة التي باتت وراءه، ليأكد على اللا رجوع بعد كل هذا إلى الوراء.

قراءة تعلن أن الحراك يفتح آفاقا وعوالما جديدة دون الحاجة لرائد أو قائد أو زعيم، فالحدث لم يكن صنيع النخب أو الأحزاب بمختلف أيديولوجياتها البائدة. بل ثمرة من ثمار العولمة بحداثتها وهوياتها وأزمنتها المتسارعة، ما أنجب ثورة تعد بنتا شرعية للعصر بشبكاته العنكبوتية و إعلامه الرقمي وصحافته المواطنة.

تحليل يقود إلى أن ما قدمه الناشطون في الساحات والميادين نموذج متقدم في العمل السياسي الديموقراطي لا علاقة له بالنماذج العتيقة قلبا و قالبا. فهذه التجربة توقفت عند المتناقضات وتوفقت في الجمع بينها، في إطار يستوعب الجميع دون استبعاد أي طرف، في مشاهد كنا نعدها حتى الأمس القريب من نسج الخيال. فالتصقت أدرع الأقباط بأكتاف المسلمين في ميدان التحرير بمصر. و خرجت تظاهرة في سوريا البلد القومي العربي تحت شعار “جمعه آزادی” / (جمعة الحرية). و في اليمن شكلت الفتنة القبلية والتنازع العرقي أساسا لوحدة وهوية جامعة بين الرجال والنساء.

قراءة وفهم وتحليل تفضي بنا إلى الإقرار بحقائق شبه يقينية، حول ما استوعبته الشعوب من الدرس الثوري الذي عرفته المنطقة على امتداد هذه السنة:

الأولى أن الشعوب تخوض معركة الاستقلال الثانية، للتخلص من الاستعمار الجديد، الذي جثم على صدرها فور رحيل الاستعمار الأول، أي أن كل هذه السنوات السالفة في ظل الأنظمة المستبدة لا تعدو أن تكون سوى هدرا سورياليا للزمان.

الثانية أفول شمس مختلف الشرعيات (ثورية، قومية، دينية، عسكرية و طائفية أو قبلية…) أو ما يعرف بالمنظومات المنتمية لحقبة ما قبل الدولة الوطنية، التي أثبت الواقع فشلها الذريع على كافة المستويات.

الثالثة إيمان الشعوب ـ بعد معاناة طويلة ـ بحكم الشرعية المؤسساتية المحكومة طبعا وطابعا بآلية الديمقراطية الدينامية، الرامية إلى تحقيق الحرية والعدالة كمقومات أساسية للمواطنة الحقة دون غيرها من الآليات.

عودا على بدء للوقوف عند تفاصيل دقيقة، كانت بمثابة فسيفساء تشكل ماهية لوحة اسمها الحدث الثوري، الذي تجاوز صانعيه فصار نموذجا بكرا بحاجة إلى تأطير نظري ومرجعية فلسفية تحدد بدقة هذه التجربة الأصيلة والمتفردة في التاريخ الإنساني.

تجربة لم تجعل لها نموذجا مثاليا تسعى إلى تحقيقه على أرض الواقع، كما لم تؤطر أو تخندق نفسها بنموذج سابق تريد استرجاع مجده التليد والسير على خطاه. فالحاجة فيها أساس الإبداع والخلق والإبتكار في العمل والتعبير والتدبير. أمر مكن الفاعلين فيها من تحويل البسيط والعادي واليومي إلى وسيلة للتعبير و رمز للنضال وآية للممانعة.

 تجربة فرضت على مختلف القوى السياسية الفاعلة في هذه البلدان ضرورة مراجعة برامجها النظرية وتصوراتها لتكون أكثر نضجا و مواكبة لمتطلبات المرحلة، فيما يتصل بالدولة و المواطنة و الحريات والتنمية والحقوق وغيرها.

تجربة استطاعت أن تسمو بصانعيها عن أمراض وعلل تنخر المجتمعات المقموعة، فالنفس الانتقامي من رموز الأنظمة الشمولية التي لم تحترم عقل ولا ذوق ولا أحلام الشعوب في البحث عن حياة جديدة لم يكن حاضرا إلا في حالات قليلة جدا. بل اعتبرت هذه التجربة الكل أبناء وطن واحد يفصل بينهم فيما كانوا فيه يختصمون بالعدل والمساواة وشرعية المؤسسات. فنجاح وانتصار هذه التجربة المحلية الصنع يبدأ من هذه النقطة التي هي بداية الطريق.

المحصلة مما سلف ذكره هي أن التغيير الذي انتظرته الشعوب منذ خروج الاستعمار قبل نصف قرن و نيف، والذي “هرمت” في سبيله كما عبر عن ذلك المواطن التونسي أبلغ تعبير جاء من حيث لم ينتظره أحد. لكن المهمة لم تنته بعد والحدث لم تصنعه ملائكة معصومة، فالعديد من المؤشرات تقود إلى التنبيه أنه من الواجب تجاه الذات وتجاه الوطن، الانتقال إلى مبدأ الشك في كل شيء، حتى يترائ العكس أمام أعين الجميع، إن أرادت الشعوب الحفاظ على هذه التجربة المتفردة.

*باحث من المغرب

© منبر الحرية،21 دجنبر/ديسمبر2011

نوح الهرموزي

الدكتور نوح الهرموزي: أستاذ الاقتصاد في جامعة ابن طفيل في القنيطرة بالمغرب.


One comment

  • ابو بكر الرازي

    22 ديسمبر، 2011 at 4:34 م

    مقال رائع علينا ان نكون ديكارتين كما اوردت، حتى يراء العكس امام اعين الناس لاننا نخشى ان لا يتغير شيء مع كل هذا وان يعيد التاريخ نفسه ويصدق الغرب في قولته انه ”في العالم العربي كل شيء يتغير من اجل أن لا يتغير شيءا” وتكون خلف مظاهر الاضطراب والتوتر والعنف طبقة سميكة من الثبات والتكرار. والتغييرات لا تحدث بإرادة الشعوب كما نرى وإنما من خلال الانقلابات والتواطئات والدسائس، وان جوهر الأنظمة لن يتغير مادام أن النخب المتنافسة تنهل من نفس المرجعية الثقافية ، المحافظة، الاستبداد، الفساد فتصبح الثورات سفاهة ومن يجري ورائها يجري وراء سراب

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018