الفردية: الأساس الطبيعي للتنمية

temp21 مارس، 20121

لو كان البشر جميعهم، إلا شخصا واحدا منهم، متفقين على رأي واحد، وكان هذا الشخص الوحيد مخالفا لرأيهم هذا، فإن البشرية لا تملك ما يبرر لها إسكات هذا الشخص، تماما كما إن هذا الشخص لا يملك ما يبرر له إسكات البشرية لو كان يقدر على ذلك. وسواء أكان هذا الرأي ملكية شخصية لا قيمة لها إلا في نظر مالكها، وكان منع التمتع بها لا يتسبب إلا بضرر شخصي، فلن يكون هنالك إلا القليل من الفرق بين ما إذا كان الضرر واقعا على ثلة من الناس أو على كثير منهم. لكن الشر الخاص في إسكات التعبير عن الرأي، وهو سرقة من البشرية، من الجيل القادم والحالي، يتمثل في أن من يعارضون الرأي هم أكثر عددا ممن يؤيدونه. فلو كان الرأي مصيبا، فهذا يعني تجريدهم من فرصة استبدال الخطأ بالصواب؛ وإذا كان الرأي مخطئا، فسيخسرون فائدة من أعظم الفوائد، وهي الإدراك الأوضح والانطباع الأكثر حيوية الذي ينتج عن اصطدام الصواب بالخطأ.

وباختصار: من المستحسن أن تفرض الفردية نفسها في الأمور التي لا تهم الآخرين بشكل أساسي. وحينما لا تكون شخصية المرء قاعدة للسلوك، وإنما أعراف الآخرين وتقاليدهم، تبرز الحاجة إلى أهم المكونات الرئيسية للسعادة البشرية، والعنصر الأساسي في تحقيق التقدم الفردي والاجتماعي.

إذا أردنا الالتزام بهذا المبدأ، فإن الصعوبة الكبرى التي نواجهها لا تكمن في تقييم الوسيلة مقابل الغاية المبتغاة، وإنما في حيادية الناس بشكل عام تجاه الغاية ذاتها. وإذا كان هنالك توجه لاعتبار التطور الحر للفردية واحدا من ضرورات الرخاء، وأنها ليست مجرد عنصر مساعد يندرج ضمن العنوان العام للحضارة والإرشاد والتعليم والثقافة، وإنما هي بذاتها جزء لا غنى عنه وشرط فيها جميعا، فعندها لن يتهدد الحرية خطر الاستخفاف، ولن يكون من الصعب جدا أن نرسم الحدود ما بينها وبين سلطة المجتمع. لكن الخطر يتمثل في أن التلقائية الفردية تكاد لا تلقى الاعتراف بها ضمن أنماط التفكير الشائعة باعتبارها تملك أية قيمة جوهرية، أو تستحق أي احترام لمكانتها فحسب. إن رضى الأغلبية عن سلوكيات الناس كما هي حاليا (لأنها هي التي جعلتهم على هذه الحال) يجعلها عاجزة عن استيعاب السبب في عدم ملاءمة هذه السلوكيات للجميع؛ والأهم من ذلك أن التلقائية لا تشكل أي جزء من الفكرة المثالية التي تعتقدها الأغلبية حول المصلح الأخلاقي أو الاجتماعي، بل إن الأغلبية تنظر إليها بعين العداء باعتبارها مثيرة للمشكلات وعائقا متمردا أمام القبول العام لما يعتقده المصلح الأفضل للناس بحسب تقييمه الشخصي. وليس هنالك غير قلة قليلة خارج ألمانيا ممن يستوعبون المبدأ الذي استندت إليه كتابات العالم والسياسي الألماني الشهير فيلهيلم فون همبولت في إحدى طروحاته، حيث ورد فيها: “غاية الإنسان، أو ما تنص عليه التعليمات الأبدية الثابتة للعقل، والتي لا تستند إلى الرغبات المبهمة العابرة، تتمثل في التطوير الأعلى والأكثر تناغما لقواه نحو كيان واحد كامل ومنسجم”، ولهذا فإن الهدف الذي “يجب على كل إنسان أن يوجه جهوده نحوه بلا كلل، وعلى كل من يرغب بالتأثير في الآخرين أن ينتبه إليه، هو الفردية القوية المتطورة”، وينبغي توفير مطلبين لتحقيق ذلك، وهما: “الحرية، ومجموعة من متنوعة من الظروف”، ومن اتحاد هذين المطلبين ينشأ “الحماس الفردي والتنوع المتعدد”، واللذان يتوحدان في “الأصالة”.

لكن القليل منا من اعتاد على تعاليم مماثلة لما جاء به فون همبولت، وقد يتفاجأ البعض بوجود هذه القيمة العالية للفردية، ولكن على المرء أن يتفكر في ذلك، فهذه المسألة على قدر كبير من الأهمية. يجب على كل واحد منا أن لا يفكر بأن الأداء الممتاز يأتي عن طريق اقتصار الناس على تقليد بعضهم بعضا، وأن لا يُعتقد بأن الناس ينبغي عليهم أن يطبقوا في نمط حياتهم وفي أداء مهامهم أي انطباع ناتج عن تقييمهم الخاص أو شخصيتهم الفردية. من الجهة الأخرى، سيكون من العبث الادعاء بأن الناس ينبغي عليهم العيش وكأن العالم لم يكن يفقه قبلهم شيئا، وأن التجارب لم يكن لها من أثر في تفضيل نمط للمعيشة أو السلوك على نمط آخر. وما من أحد ينكر أن الناس ينبغي أن يتلقوا في صغرهم من التعليم والتدريب ما يكفي للانتفاع من النتائج الأكيدة للتجربة البشرية، ولكن امتيازات المرء وظروفه المناسبة التي تتأتى من نضوج قدراته هي التي تمكنه من تفسير هذه التجارب بطريقته الخاصة، ويبقى له أن يكتشف ذلك الجزء من التجارب المسجلة الذي يمكن تطبيقه بشكل مناسب ضمن ظروفه وشخصيته الخاصة به. إن تقاليد الآخرين وأعرافهم تشكل، إلى مدى معين، إشارة على ما تعلموه من تجاربهم، وهي إشارة افتراضية أيضا إلى المطالبة بخضوع المرء؛ ففي المقام الأول: ربما تكون تجارب الآخرين محدودة جدا، وربما لا يتمكنون من تفسيرها على الوجه الصحيح. وثانيا: ربما يكون تفسيرهم للتجارب صحيحا ولكنه لا يناسبه، فالتقاليد نشأت لظروف وشخصيات تقليدية، وربما لا تكون ظروف المرء أو شخصيته من النوع التقليدي. وثالثا: إذا كانت التقاليد جيدة وملائمة للمرء، فإن التلاؤم مع التقاليد لمجرد أنها تقاليد لا يعلّم المرء ولا ينمي فيه أيا من الخصال التي يتميز بها الكائن البشري. إن القدرات البشرية كالإدراك والمحاكمة العقلية والشعور التفضيلي والنشاط الذهني، وحتى التفضيل الأخلاقي، لا يمكن ممارستها إلا عبر (الانتقاء)؛ ومن يفعل أي شيء باعتباره من التقاليد، فهو لا يقوم بالانتقاء، ولا يكتسب من ذلك خبرة في معرفة الأصلح أو الرغبة فيه، فالقدرات العقلية والمعنوية تماثل القدرات العضلية في أنها لا تتحسن إلا بالتمرين، وتفتقر هذه القدرات إلى التمرين عند الاقتصار على فعل ما يفعله الآخرون، ناهيك عن الاعتقاد بأمر لا لشيء إلا اعتقاد الآخرين به. وإذا كان هنالك رأي لا يملك أساسا منطقيا قاطعا في عقلية المرء، فإن تبني هذا الرأي لا يقوي هذه العقلية، بل إن من المرجح أنه سيضعفها؛ وإذا كانت دوافع أمر ما تفتقر إلى الانسجام المطلوب مع مشاعر المرء وشخصيته (عند إغفال ميول أو حقوق الآخرين)، فإن قيامه به يؤدي إلى أثر كبير جدا على اتصاف مشاعره وشخصيته بالجمود واللامبالاة، عوضا عن النشاط والحيوية.

إن من يدع بيئته، أو حصته منها، تنتقي له خطة حياته فلا حاجة له بأي قدرة أخرى سوى قدرة القرود على التقليد؛ أما من يختار خطته بنفسه فهو يوظف كل قدراته: فيستخدم قدرته على الملاحظة للمشاهدة والتدبر، والمحاكمة العقلية للتوقع، والنشاط لجمع المواد التي يتطلبها القرار، والتمييز لاتخاذ قرار، وعندما يتخذ القرار يستخدم الإصرار وضبط النفس للالتزام بقراره المدروس. وهذه القدرات يحتاجها المرء ويمارسها بما يتناسب تماما مع ذلك الجزء من سلوكه الذي يقرره بناء على تقييمه ومشاعره الخاصة. من الممكن أن يتوجه المرء إلى طريق السلامة ويبتعد عن الأذى دون الاستعانة بذلك، ولكن ماذا ستكون في هذه الحالة قيمته بالمقارنة مع غيره من البشر؟ فمن شديد الأهمية أن نعرف: لا ما يفعله الإنسان، وإنما ما نوع الإنسان الذي يقوم بهذا الفعل؛ فمن بين إنجازات الإنسان، حيث يوظف الإنسان حياته على نحو ملائم لتحقيق كمالها وجمالها، لا ريب في أن أكثرها أهمية هو الإنسان ذاته. لنفرض أن من الممكن استخدام الآلة (الروبوت) في بناء المنازل وزراعة المحاصيل وخوض المعارك وحل القضايا وحتى تشييد الكنائس وترديد الصلوات فيها، فسيكون من الخسارة الكبرى أن نستعيض بهذه الروبوتات عن الرجال والنساء حتى في أكثر بقاع الأرض تحضرا، والذين يتوقون إلى ما تقدمه الطبيعة حاليا وفي المستقبل. إن الطبيعة البشرية ليست آلة يمكن بناؤها وفقا لنموذج مسبق، وجهازا يؤدي ما صمم لأجله، ولكنها أشبه بالشجرة التي تحتاج إلى العناية والتطوير من كافة النواحي طبقا لميول القوى الداخلية التي تجعلها كائنا حيا.

إن المرء الذي تكون رغباته ودوافعه خاصة به، وتعبر عن طبيعته الخاصة التي تطورت وتبدلت بتأثير ثقافته الخاصة، يقال بأن لديه شخصية. أما من كانت رغباته ودوافعه غير خاصة به، فليس لديه شخصية، كما أن المحرك البخاري ليست لديه شخصية. وعندما تكون دوافع المرء خاصة به، ويضاف إلى ذلك تمتعها بالقوة، ووقوعها تحت سلطة الإرادة القوية، فإن هذا يعني بأن شخصيته حيوية. ومن يظن بأن فردية الرغبات والدوافع ينبغي عدم التشجيع على كشفها للعيان، فعليه أن يعتقد بأن المجتمع لا يحتاج إلى الطبائع القوية (أي أنه من الأفضل أن لا يحتوي المجتمع على الكثير من ذوي الشخصية القوية)، وأن الطاقة الزائدة عن المعتاد ليست من الأمور غير المرغوبة.

إن الفرد لا يحقق ذاته بالانحطاط إلى التشاكل، ولكنه يصبح كائنا نبيلا وجميلا وجديرا بالتأمل عندما يصقل ذاته ويتقدم بها إلى الأمام ضمن الحدود التي تسمح بها حقوق الآخرين ومصالحهم. وبما أن الفعل يترك أثرا على شخصية من يقوم به، فإن هذه الآلية نفسها تجعل حياة الإنسان غنية ومتنوعة وحيوية وتقدم وفرة من مقومات الأفكار السامية والمشاعر البهيجة، وتقوي الأواصر التي تربط الفرد بالجماعة، وذلك عبر جعل هذه الجماعة تستحق الانتماء إليها تماما. وبقدر ما تنمو فردية المرء يصبح أكثر قيمة في نظره هو، وهذا يجعله جديرا بأن يكون أكثر قيمة في نظر الآخرين. إن وجود المرء يمنحه إحساسا عظيما بالحياة، وعندما يحس الأفراد بالحياة أكثر، فإن هذا يبعث حياة أكبر في المجموعة التي تتكون منهم. ولا شك في ضرورة بذل جهد هائل في الضغط على القوي كي لا يتعدى على حقوق الضعيف، ولكن ذلك يؤدي إلى تعويض كبير حتى من وجهة نظر التنمية البشرية. إن وسائل التنمية التي يخسرها الفرد عبر منعه من تلبية ميوله التي تؤدي إلى خسارة الآخرين، إنما يمكن الحصول عليها ولكن على حساب تنمية الآخرين؛ وحتى أنه يستفيد هو نفسه عبر مردود كامل يحصل عليه من تنمية أفضل للجانب الاجتماعي من طبيعته، وذلك ينتج عن تقييد الجانب الأناني. وإذا ما تم إلزام المرء بقواعد العدالة الصارمة من أجل الآخرين، فإن ذلك يؤدي إلى تنمية مشاعر وقدرات تهدف إلى صالح الآخرين؛ ولكن إذا تم تقييده بأمور لا تؤثر على صالحهم، وإنما تؤدي إلى استيائهم، فلن ينتج عن ذلك أي قيمة ما عدا قوة الشخصية التي قد تكشف عن نفسها في مقاومة القيود؛ أما إذا قبل بذلك دون معارضة فسيؤدي ذلك إلى إطفاء طبيعته وتبلدها تماما. وإذا أردنا أن نحكم بالعدل لكل من هذه الطبائع، فمن الضروري أن يسمح لكل من هؤلاء الأشخاص المختلفين أن يعيش حياته بشكل نختلف، وبقدر تطبيق هذا الموقف في كل جيل يكون الجيل التالي مقدرا للجيل السابق. حتى الاستبداد لا يفرز تأثيراته السيئة ما دامت الفردية موجودة، وكل ما يدمرها يمكن لنا أن ندعوه (الاستبداد) مهما تعددت أسماؤه، ومهما كانت الدواعي المزعومة: تطبيق حكم الرب، أو حكم الناس.

لقد أسلفت بأن الفردية والتنمية صنوان، وأن حصاد الفردية وحده الذي ينتج، أو يستطيع أن ينتج، كائنات بشرية حسنة التنمية والتطور. وهنا أرغب بإكمال هذا الطرح، فأقول: هل هنالك أكثر أو أفضل من هذا الظرف من ظروف أداء الشؤون البشرية يمكنه أن يجعل الناس أقرب إلى الحالة المثلى للإنسان؟ أو: هل هنالك عائق يقف في طريق الخير أسوأ من العائق الذي يعيق ذلك؟ ولكن لا شك في أن هذه الأسئلة لا تكفي لإقناع هؤلاء الذين يحتاجون إلى الاقتناع أكثر من غيرهم، ومن الضروري أن نوضح أيضا بأن هذه الكائنات البشرية المطورة ذات منفعة للكائنات البشرية غير المطورة، وذلك كي يبين لهؤلاء الذين لا يرغبون بالحرية، ولا ينتهزون فرصة وجودها، بأنهم يستفيدون على نحو واضح من السماح للآخرين باستثمار الحرية دون عوائق.

إذن، وفي المقام الأول، سوف أفترض بأن من الممكن أن يتعلم أولئك من هؤلاء شيئا؛ فلا شك في أن الأصالة عنصر قيم في الشؤون البشرية، وأن هنالك حاجة دائمة إلى أشخاص لا يكتفون باكتشاف الحقائق الجديدة وتبيين الحقائق التي لم تعد حقائق وحسب، وإنما يبتدعون ممارسات جديدة، ويطرحون مثالا لأداء أكثر تنورا، ويقدمون مذاقا وإحساسا أفضل للحياة البشرية. وهذا الطرح لا يمكن معارضته بسهولة ممن لا يعتقدون بأن العالم قد وصل فعلا إلى حالة من الكمال في كافة المجالات والممارسات. ولا شك في أن هذه الفائدة لا يمكن للجميع أن يقدموها، فهنالك قلة قليلة، بالمقارنة مع البشرية جمعاء، يمكن لتجاربهم، في حال تبنيها من قبل الآخرين، أن تؤدي إلى تحسين الممارسات المعمول بها؛ ولكن هذه القلة القليلة هي (ملح الأرض)، ومن دونها تتحول حياة البشر إلى بركة راكدة، ولا يقتصر ذلك على من يقدم أشياء نافعة جديدة لم تكن موجودة من قبل، وإنما من يحافظ على استمرارية الأشياء الموجودة بالفعل في الوقت الحاضر. ولو لم يكن هنالك من جديد يمكن ابتكاره، ألم يكن حريا بالفكر البشري حينها أن ينزل عن مكانته الضرورية؟ أليس ذلك سببا يدعو من اعتادوا على النهج القديم أن يتخلوا عن قناعتهم وأدائهم للعمل كقطيع لا كبشر؟ إن هنالك ميلا عظيما لدى أفضل المعتقدات والممارسات نحو الانحطاط إلى الآلية، وما لم يكن هنالك خلافة للأشخاص الذين تحول أصالتهم المستمرة دائما دون تحول أسس هذه العقائد والممارسات إلى مجرد أسس تقليدية، أي إلى مادة لا حياة فيها لا تقاوم أقل صدمة تتعرض لها من أي شيء حي فعلا، فلن يكون حينها أي سبب يمنع الحضارة من النهاية، كما حدث مع الامبراطورية البيزنطية. لا ريب في أن أصحاب الذكاء هم أقلية صغيرة دائما وأبدا، ولكن لنحصل عليهم تجب المحافظة على التربة التي ينمون فيها، فالذكاء لا يتمكن من التنفس بحرية إلا في جو من الحرية، وأصحاب الذكاء، بحكم طبيعتهم، أكثر فردية من الآخرين، وبذلك فهم أقل قدرة على ملاءمة أنفسهم دون انضغاط مؤذ في أي من القوالب القليلة التي يوفرها المجتمع للتسهيل على أفراده في مشكلة تشكيل شخصياتهم الخاصة بهم. فإذا افتقر هؤلاء إلى الثقة بالنفس وقبلوا مكرهين بالدخول في إحدى هذه القوالب، وبقيت الأجزاء التي لا تتوسع تحت الضغط غير متوسعة فإن المجتمع سيستغني عنهم حينها. أما إذا كانوا ذوي شخصيات قوية، واستطاعوا تحطيم قيودهم، فسيشكلون علامة مميزة لمجتمع لم ينجح في تحجيمهم ضمن القالب العادي، وذلك إلى حد إطلاق بعض الصفات المهيبة عليهم كـ”الجموح” و”النزوية” وما أشبه، كما هو الحال في الشكوى من أن نهر نياغارا لا يجري بسلاسة بين ضفتيه كما تفعل القناة الهولندية.

ولهذا فإنني أؤكد وأشدد على أهمية الذكاء، وضرورة السماح له بحرية التفتح سواء على مستوى الفكر أم الممارسة، مع الانتباه إلى أنه ما من أحد سينكر موقعه على الصعيد النظري، ومع العلم بأن الجميع تقريبا لا يبالون به على صعيد الواقع. إن الناس يعتقدون بأن الذكاء أمر حسن إذا أدى إلى تمكين المرء من كتابة قصيدة ممتعة، أو رسم لوحة؛ ولكنه في جوهره الحقيقي (أصالة الفكر والفعل)، وعلى الرغم من أنه لا يوجد أحد يتلفظ بإنكار منزلته المثيرة للإعجاب، فإن الجميع تقريبا يعتقدون في قلوبهم بأنهم أفضل حالا من دونه. من المؤسف أن هذه الظاهرة طبيعية إلى حد ينفي الاستغراب منها؛ فالأصالة أمر لا يمكن للأذهان غير الأصيلة أن تفهم الفائدة منها، ولا يمكنها أن ترى ما الذي يمكن أن تفعله لها، وأنى لها ذلك؟ فإذا كانت قادرة على رؤية ما تفعله لها، فعندها تنتفي صفة الأصالة عنها. إن الخدمة الأولى التي يمكن للأصالة أن توفرها لهم تتمثل في فتح عيونهم، وإذا تحقق ذلك بشكل كامل فستتاح لهم فرصة أن يكونوا أصلاء هم أنفسهم. وفي غضون ذلك، فإن انتباههم إلى أنه ما من شيء سبق فعله إلا كان هنالك من فعله لأول مرة، وأن جميع الأشياء الجيدة في عالم الوجود إنما هي من ثمار الأصالة، سيجعلهم ذلك متواضعين بما فيه الكفاية للاعتقاد بأن هنالك أمور لا يزال عليها أن تنجزها، والتأكيد لأنفسهم بأنهم في حاجة إلى المزيد من الأصالة كلما كانوا أقل وعيا بوجود الحاجة.

بصريح العبارة، ومهما كان الاحترام الذي نتلفظ أو نعمل به إزاء تفوق ذهني حقيقي أو مفترض، فإن الميل العام للأمور وعلى امتداد العالم يتمثل في منح (المستوى المتواضع) سلطة الهيمنة على الجنس البشري. ففي التاريخ القديم، والعصور الوسطى، وبدرجة متناقصة خلال الانتقال الطويل من الإقطاعية إلى وقتنا الحالي، كان الفرد سلطة بذاته، وكانت هذه القوة تتعاظم إذا كان يتمتع بمهارات عالية أو موقع اجتماعي مرموق. أما في الوقت الحالي فقد ضاع الفرد بين الحشود؛ وفي السياسة يعتبر من التفاهة أن ندّعي بأن الرأي العام يحكم عالم اليوم، فالسلطة الوحيدة التي تستحق هذه النعوت هي سلطة الجماهير، وسلطة الحكومة إذا جعلت من نفسها جهازا لتلبية ميول وغرائز الجماهير، ويصح هذا في العلاقات الأخلاقية والاجتماعية في الحياة الشخصية كما هو الحال في التعاملات العامة. إن الآراء التي تدعي انسجامها مع (الرأي العام) لا تشترك في المعنى نفسه لهذا (العام)؛ ففي أمريكا يفهمون من هذه الكلمة جميع سكان انكلترا من العرق الأبيض، وبالأخص (الطبقة الوسطى)، ولكن هؤلاء لا ينفكون عن كونهم (جماهير)، أي: مستوى متواضع جماعي. لكن الشيء الذي لا يزال جديدا في هذا الأمر هو أن الجماهير لم تعد تستقي آراءها من أولي المنزلة المرموقة في الدولة أو الكنيسة، أو من قادة مزعومين، أو من بطون الكتب، وإنما تتم عملية التفكير لديها عبر أشخاص من الطينة نفسها، يخاطبونها أو يتحدثون باسمها عفو الخاطر عن طريق الصحف. إنني لا أشتكي هنا من ذلك، ولا أؤكد على أن الأحسن يعني التوافق، كقاعدة عامة، مع الحالة المتدنية الراهنة للذهن البشري، ولكن ذلك لا يعيق تحول (حكومة التواضع) إلى (حكومة متواضعة). وليس هنالك حكومة، سواء أكانت ديمقراطية أم شديدة الارستقراطية، تمكنت من الارتفاع عن المستوى المتواضع أبدا، سواء أكان ذلك على مستوى الأداء السياسي أم على صعيد ما ترعاه من آراء وميزات ونمط في التفكير، وذلك باستثناء الحال عندما تقوم الكثرة المهيمنة بالانصياع لمشورة وتأثير شخص أو ثلة أكثر موهبة أو تعليما. إن زمام المبادرة في جميع الأمور الحكيمة أو النبيلة يقع، ويجب أن يقع، بيد الأفراد، وفي البداية: بيد فرد واحد عموما؛ ويكمن شرف ومجد الإنسان العادي في قدرته على اللحاق بهذه المبادرة: فيستجيب من ذاته للأمور الحكيمة والنبيلة، وأن يقاد إليها بعينين مفتوحتين. وهذا لا يعني أنني أوافق على ذلك النوع من “عبادة البطل” الذي يرحب باستيلاء الإنسان الذكي بالقوة على حكومة العالم وجعلها تطيع أوامره لا أوامرها، فكل ما يمكن لهذا الفرد أن يدعيه هو حرية توضيح الطريق، أما سلطة إجبار الآخرين على سلوك هذه الطريق فهي ليست متناقضة مع حرية وتنمية الآخرين فحسب، وإنما تؤدي إلى إفساد هذا الفرد أيضا. ومع ذلك، يبدو أن آراء الجماهير (مجرد الناس العاديين) عندما تصبح لها سلطة مهيمنة، أو تبدأ بالحصول على هذه السلطة، فإن موازنة هذا التوجه وتصحيحه يكون بالمزيد والمزيد من إعلان فردية هؤلاء الذين يتمتعون بالمكانة الفكرية الرفيعة. وفي هذه الظروف بالذات، ينبغي تشجيع هؤلاء الأفراد الاستثنائيين، لا تخويفهم، على التصرف بشكل مختلف عن الجماهير، وفي بعض الأحيان لا تكون هنالك فائدة ترتجى من التصرف بشكل مختلف إذا لم يكن التصرف الجديد أفضل من سابقه. وفي عصرنا هذا، فإن أي تصرف يخالف التشاكل، ومجرد رفض الانسياق للتقاليد، يعد في ذاته خدمة جليلة، وذلك بالأخص لأن استبداد الرأي يشجب الخروج عن المألوف، ومن هنا تكون الدعوة للخروج عن المألوف محاولة لاختراق هذا الاستبداد. ويكثر الخروج عن المألوف دائما في حالة كثرة الشخصيات القوية، وعادة ما يتناسب حجم الخروج عن المألوف في المجتمع مع ما يحتويه من الذكاء والطاقة الذهنية والشجاعة المعنوية، ولهذا فإن قلة عدد من يجرؤ على الخروج عن المألوف حاليا تمثل دليلا على خطر كبير داهم.

لو كان الناس متنوعي الأذواق، فسيكون من المعقول حينها أن لا يحاول أحدهم أن يصبهم في قالب واحد، ولكن اختلاف الأشخاص يقتضي أيضا اختلاف ظروف تنميتهم الروحية، فلا يمكنهم العيش بعافية في المناخ المعنوي ذاته، كما أن النباتات بتنوعها تعجز عن العيش جميعا في المادة والبيئة والمناخ نفسها. والعناصر التي تساعد شخصا على تنمية طبيعة أسمى، هي نفسها التي تعيق شخصا آخر عن ذلك.

يشكل استبداد التقاليد عائقا مستمرا بوجه تقدم الإنسان في كل مكان، مما يجعله في حالة نزاع لا تتوقف بهدف تحقيق ما هو أفضل مما درجت عليه التقاليد، وهذا ما يدعى بحسب الظروف: روح الحرية، أو روح التقدم، أو روح التطوير. وروح التطوير ليست مماثلة لروح الحرية دائما، وذلك لأنها قد تطمح إلى إجبار الناس غير الراغبين بتقبل التطويرات، وبما أن روح الحرية تعارض أمثال هذه المحاولات، فإنها قد تتحالف بشكل محلي ومؤقت مع معارضي التطوير؛ ولكن الحرية هي منبع التطور الوحيد الذي لا يكل ولا يتوقف، وذلك لأنه يحوي الكثير من بؤر التطوير الممكنة بقدر ما هنالك من أفراد. أما المبدأ التقدمي بشكليه: محبة الحرية أو محبة التطوير، فهو في حالة نزاع مع هيمنة التقاليد، ويتمتع بالتحرر من قيودها على الأقل، وما بين هذين الاثنين من نزاع يشكل المصلحة الرئيسية في تاريخ البشرية. والجزء الأعظم من العالم لا يملك في الحقيقة أي تاريخ، وذلك لأن استبداد التقاليد قد اكتمل فيه، ويبدو أن الشعوب قد تكون تقدمية طوال حقبة معينة من الوقت، ثم تتوقف؛ وإذا ما سألنا: متى توقفت؟، فسيكون الجواب: عندما توقفت عن امتلاك الفردية.

ما الذي حمى أوروبا حتى الآن من هذا الحال؟ ما الذي جعل أسرة الأمم الأوروبية متطورة بدلا من أن تكون جزءا خاملا من البشرية؟ لم يكن لديهم أي امتياز خارق؛ وهو عندما حدث كان نتيجة لا سببا؛ أما سببه فهو ما يتمتعون به من تنوع متميز في الشخصية والثقافة. فالأفراد، والطبقات، والأمم تختلف عن بعضها البعض بشدة في أوروبا، ونشأ عن ذلك تنوع كبير في المسارات التي يؤدي كل منها إلى مقصد نفيس، وعلى الرغم من أن الذين ساروا إبان كل حقبة في مسارات مختلفة كانوا لا يتسامحون مع بعضهم بعضا، وأن كل واحد منهم كان يعتقد بأن من الممتاز أن يجبر الجميع على السير في مساره، فإن محاولاتهم لإعاقة تطور بعضهم البعض لم تكن تحرز النجاح الدائم إلا نادرا، وتحمّل كل منهم في وقتها أن يتقبّل ما قدمه إليه الآخرون من خير. وفي رأيي أن أوروبا مدينة بالكامل لتعددية المسارات هذه في ما حققته من تنمية تقدمية متعددة الجوانب.

إذن: ما هو الحد المشروع لسيادة الفرد على نفسه؟ ومن أين تبدأ سلطة المجتمع؟ وكم من الحياة البشرية ينبغي أن يخصص للفردية، وكم للمجتمع؟

إن كلا منهما سوف يتلقى حصته المناسبة إذا حصل على ما يهمه أكثر. فالفرد ينبغي أن يخصص له ذلك الجزء من الحياة الذي يهتم به الفرد بشكل أساسي، ويخصص للمجتمع ما يهم المجتمع بشكل أساسي.

وعلى الرغم من أن المجتمع لم يتأسس وفق (عقد) ما، وأنه ليس هنالك من غاية سامية تتحقق عبر ابتكار (عقد) تنبثق منه التزامات اجتماعية، فإن كل من يتلقى حماية المجتمع ينبغي عليه أن يدفع ثمن هذه الفائدة، وحقيقة العيش في مجتمع تجعل مما لا غنى عنه أن يلتزم كل فرد بتصرف معين تجاه الآخرين. وهذا التصرف يتكون أولا من عدم التسبب بالأذى لمصالح الآخرين أو أية مصالح معينة أخرى يمكن اعتبارها حقوقا بسبب حماية قانونية صريحة أو تفاهم ضمني؛ وثانيا من تحمل كل شخص لحصته (تحدد وفق مبدأ يراعي الإنصاف) من الأعمال والتضحيات اللازمة للدفاع عن المجتمع أو أعضائه ضد الأذى والتحرشات.

أما في مسألة تولي الدولة مسؤولية التعليم ككل أو لجزء كبير منه، فإنني أشجب ذلك بكل ما أوتيت من قوة؛ فكل ما ورد سابقا عن أهمية فردية الشخصية وتنوع الآراء وأنماط السلوك يتضمن تنوع التعليم بالدرجة ذاتها من الأهمية الفائقة. إن التعليم العام الذي تنوء به الدولة ليس إلا أداة لقولبة الناس بما يجعلهم متماثلين تماما، وبما أن القالب المستعمل مصنوع وفق ما يرضي القوة المهيمنة على الحكومة سواء أكانت ملكا أم رجال دين أم أرستقراطية أم أغلبية الجيل الحالي بما يتناسب مع كفاءته ونجاحه، فإن ذلك يؤدي إلى تأسيس سلطة تهيمن على العقل، وتؤدي عبر الميل الطبيعي إلى السيطرة على الجسد. وإذا ما كان للتعليم الذي تؤسسه الدولة وتتحكم به أن يوجد، فليس له ذلك إلا أن يتحقق، كما هو حال العديد من التجارب التنافسية، بهدف طرح الأمثلة والتحفيز، وذلك كي يتاح للآخرين التمتع بمعيار معين من الامتياز.

جون ستيوارت ميل (1806-1873)

فيلسوف بريطاني

One comment

  • آيتن غزال

    4 ديسمبر، 2013 at 12:43 م

    شكرا لكم لهذه المعلومات المفيدة والشيقة وايضا الممتعة والتى فى غاية الروعة وحقا استفدت كثيرا وادعوا الله ان يجازيكم كل الخير وان تقدما لنا دائما الافضل.

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018