temp

temp14 مايو، 20120

الحكومة مؤسسة تتبوأ مركز السلطة الحصرية «لفرض» قوانين محددة للأداء الاجتماعي في منطقة جغرافية معينة.

هل يحتاج البشر إلى مثل هذه المؤسسة؟ ولماذا؟ بما أن عقل الإنسان هو أداته الرئيسية للبقاء ووسيلته لاستحصال المعلومات من أجل توجيه تصرفاته فقد بات الشرط الرئيسي لوجوده متمثلا في حرية التفكير والتصرف وفقا لتقييماته العقلانية. وهذا لا يعني أن الإنسان يجب أن يعيش لوحده وأن أي جزيرة مهجورة هي البيئة المثلى التي تلائم حاجاته. إذ يمكن للبشر أن يحصلوا على فوائد جمة من التعامل مع بعضهم البعض، والبيئة الاجتماعية هي الطريق الأفضل للنجاح في البقاء، «ولكن ضمن شروط بعينها فحسب».

«إن المنفعتين العظيمتين التي يمكن أن نكسبهما من الوجود الاجتماعي هما: المعرفة والتجارة. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع نشر وتوسيع مخزونه المعرفي من جيل إلى آخر، ومقدار المعرفة المتوفرة مسبقا للإنسان أكبر من مما يستطيع البدء في استحصاله خلال دورة حياته الخاصة به، وكل إنسان يحصل على فوائد لا حصر لها من المعرفة التي اكتشفها غيره. والفائدة العظيمة الثانية هي تقسيم العمل، والذي يمكّن الإنسان من تكريس جهوده في مجال محدد من مجالات العمل والتجارة مع غيره من المتخصصين في مجالات أخرى. إن هذا النوع من التعاون يمكّن كل المشتركين فيه من الحصول على قدر أكبر من المعرفة والمهارات والعائد الإنتاجي المتولد عن جهدهم وذلك بالمقارنة مع ما يمكنهم إنجازه لو توجب على كل واحد منهم أن ينتج كل ما يحتاجه في جزيرة مهجورة أو مزرعة يرعاها شخص واحد.

ولكن هذه المنافع ذاتها توضح وتحدد وتعرّف نمط الناس الذين تكون لهم قيمة ضمن بعضهم البعض، وكذلك نمط هذا المجتمع، وهم: الناس العقلانيون المنتجون المستقلون في مجتمع عقلاني منتج حر». (أخلاقيات الموضوعاني، فضيلة الأثرة).

أما المجتمع الذي يسلب من الفرد نتاج جهده، أو يقوم باستعباده، أو يحاول الحد من حرية عقله، أو يجبره على التصرف بخلاف ما تمليه عليه تقييماته العقلية الخاصة، أي: المجتمع الذي يشعل صراعا ما بين قوانينه وبين متطلبات الطبيعة البشرية، ليس مجتمعا بصريح العبارة، وإنما هو عصابة تجمعها قوانين إجرامية ضمن إطار مؤسساتي. إن مجتمعا كهذا يدمر كل قيم التعايش البشري، ولا يمكن إيجاد مبرر لتصرفاته، ولا يمثل مصدرا للمنفعة، وإنما الخطر الأكبر على بقاء الإنسان. والحياة على جزيرة مهجورة أكثر أمانا من العيش في روسيا السوفييتية أو ألمانيا النازية ولا يمكن المقارنة مع أفضليتها عليهما.

إذا أراد البشر أن يعيشوا سوية ضمن مجتمع مسالم ومنتج وعقلاني وأن يتعاملوا مع بعضهم البعض لتحقيق منفعة متبادلة، فعليهم حينها أن يقبلوا المبدأ الاجتماعي الأساسي الذي لا يمكن من دونه أن يوجد أي مجتمع أخلاقي أو متحضر، وهو: مبدأ الحقوق الفردية. والاعتراف بالحقوق الفردية يعني الاعتراف والقبول بالشروط التي تتطلبها طبيعة الإنسان لتحقيق البقاء على نحو ملائم. ولا يمكن انتهاك حقوق الإنسان إلا باستخدام القوة المادية؛ فبهذه القوة وحدها يمكن لإنسان أن يحرم إنسانا آخر من حياته، أو يقوم باستعباده، أو سلبه، أو منعه من السعي إلى تحقيق أهدافه الخاصة به، أو إجباره على التصرف بما ينافي تقييمه العقلي الخاص به. إن الشرط الأساسي في أي مجتمع متحضر يتمثل في الحيلولة دون تدخل القوة المادية في شؤون العلاقات الاجتماعية، ومن هنا يتأسس مبدأ ينص على أن من يرغب في التعاون مع الآخرين فعليه أن يقوم بذلك باستخدام (المنطق) فحسب، وذلك من خلال: النقاش، والإقناع، والاتفاق الطوعي غير المفروض.

تتمثل النتيجة الحتمية لحق الإنسان بالحياة بحقه في الدفاع عن النفس، ففي أي مجتمع متحضر لا يمكن للقوة أن تستخدم إلا في الرد على من استخدمها أولا وضده حصرا. وكل الأسباب التي تجعل البدء باستخدام القوة المادية أمرا شريرا، تجعل الاستخدام الانتقامي للقوة الانتقامية واجبا أخلاقيا. وإذا أعلن مجتمع «مسالم» عن شجبه للاستخدام الانتقامي للقوة، فسيضع نفسه بلا حول ولا قوة تحت رحمة أول سفاح يقرر التخلي عن أخلاقه، وهكذا ينتهي هذا المجتمع إلى تحقيق العكس من نيته: فعوضا عن إنهاء الشر سيقوم بتشجيعه ومكافأته.

إذا لم يقدم المجتمع حماية منظمة ضد القوة، فهذا سيجبر كل مواطن على البدء بالتسلح وتحويل منزله إلى قلعة وإطلاق النار على أي غريب يقترب من بابه، أو سيدفعه ذلك إلى الالتحاق بعصابة حماية تتكون من مواطنين آخرين للقتال ضد عصابات أخرى أنشئت للغاية نفسها؛ وينتج عن هذا تدهور المجتمع إلى هاوية فوضى حكم العصابات (أي: الحكم بواسطة القوة الهمجية)، والانغماس في آتون حرب قبلية مستمرة يخوضها برابرة من عصور ما قبل التاريخ.

إن استخدام القوة المادية، وإن كانت لأغراض انتقامية، لا يمكن أن يترك بحسب مشيئة المواطن لوحده؛ فالتعايش السلمي يصبح مستحيلا إذا توجب على المرء أن يعيش تحت تهديد مستمر بالقوة التي يمكن أن تطاله من أحد جيرانه في أية لحظة، وسواء أكانت نوايا جيرانه طيبة أم شريرة، وسواء أكان تقييمهم للأمور عقلانيا أم لا، وسواء أكانت تحرّكهم دوافع العدالة أم الجهل أم الحقد أم الكراهية، فإن استخدام القوة ضد أي شخص يجب أن لا يترك كقرار اعتباطي يتخذه شخص آخر. وعلى سبيل المثال: تخيل معي ماذا سيحدث لو فقد أحدهم محفظته، واعتقد بأنه قد تعرض للسرقة، فاقتحم كل بيوت الحي الذي يسكن فيه للبحث عنها، وأطلق النار على أول من نظر إليه بتجهم، معتبرا تلك النظرة دليلا على التهمة!

يتطلب الاستخدام الانتقامي للقوة قوانين (موضوعية) لتحديد ماهية الدليل لإثبات ارتكاب الجريمة و(إثبات) هوية من ارتكبها، بالإضافة إلى قوانين (موضوعية) لتحديد العقوبات وإجراءات تطبيقها؛ وإذا حاول الناس إقامة محاكمات للجرائم دون وجود قوانين كهذه فسيتحول الأمر إلى محكمة غوغاء، وعندما يترك المجتمع الاستخدام الانتقامي للقوة في يد المواطنين العاديين فسيتدهور حينها ليقع تحت سيطرة حكم الغوغاء وقانونهم ويعاني من سلسلة لا تنتهي من حالات الثأر الشخصي الدموية.

إذا تم إبعاد القوة المادية عن نطاق العلاقات الاجتماعية، فسيحتاج الناس عندها إلى مؤسسة تناط بها مسؤولية حماية حقوقهم وفق لائحة (موضوعية) من القوانين. وهذه هي مهمة الحكومة (الحقيقية)، وهي مهمتها الأساسية، والمبرر الأخلاقي الوحيد لوجودها، والسبب الذي يحتاج الناس من أجله إلى الحكومة. (فالحكومة هي الوسيلة التي يمكن من خلالها وضع الاستخدام الانتقامي للقوة المادية تحت السيطرة الموضوعية، أي: تحت قوانين محددة موضوعيا).

إن الاختلاف الجوهري ما بين التصرف الشخصي والتصرف الحكومي، والذي يتم تجاهله والتغاضي عنه حاليا، يتمثل في حقيقة مفادها أن الحكومة تحتفظ بحق حصري في الاستخدام المشروع للقوة المادية. ومن الواجب أن يكون للحكومة هذه الحصرية لأنها هي الوكيل المنوط به مسؤولية كبح استخدام القوة ومكافحته، ولهذا السبب ذاته ينبغي أن تكون تصرفاتها دقيقة التعريف والتحديد والتقييد، ولا مجال أبدا للسماح بالأهواء والنزوات في أدائها؛ إذ يجب أن تكون روبوتا لا روح فيه ولا دوافع غير ما تمليه عليه القوانين، وإذ ا أراد المجتمع أن يعيش حرا فيجب أن يسيطر على الحكومة.

يتمتع الفرد في النظام الاجتماعي السليم بحرية قانونية للتصرف كما يشاء (ما دام لا ينتهك حقوق الآخرين)، بينما يتقيد المسؤول الحكومي بما يمليه القانون في كافة الإجراءات الرسمية. وللفرد العادي أن يفعل أي شيء باستثناء ما (يحظره) القانون، بينما لا يفعل المسؤول الحكومي أي شيء إلا ما (يسمح) به القانون. إن هذا هو الوسيلة التي يمكن بها إخضاع «الجبروت» تحت سلطة «الحق»، وهو المفهوم الأمريكي عن «حكومة القوانين لا الناس».

إن طبيعة القوانين الملائمة للمجتمع الحر ومصدر شرعية حكومته يجب أن يشتقا كلاهما من طبيعة وهدف حكومة هذا المجتمع، وقد أشار إعلان الاستقلال إلى المبدأ الأساسي لهذين العنصرين بالقول: «لتأمين هذه الحقوق [الفردية]، يتم إنشاء الحكومات ضمن الناس، وتستمد سلطاتها المشروعة من موافقة المحكوم…»؛ وبما أن حماية الحقوق الفردية هي الهدف المناسب الوحيد للحكومة، فهي ذاتها العنصر الوحيد الذي يدور حوله التشريع، فكل القوانين ينبغي أن تكون على أساس الحقوق الفردية وتهدف إلى حمايتها. ويجب أن تكون كل القوانين موضوعية (ومبررة موضوعيا): إذ ينبغي على الناس أن يعلموا بوضوح، وقبل أي تصرف، ما يحظره القانون (ولماذا)، وماذا يعتبر جريمة وماهية العقوبة في حال ارتكابها.

تشكل «موافقة المحكوم» أساس سلطة الحكومة، وهذا يعني أن الحكومة ليست (الحاكم)، وإنما الخادم أو (الوكيل) للمواطنين، أي: أن هذه الحكومة لا تملك من الحقوق غير التي «يفوضها» لها المواطنون لغرض معين. وليس هنالك غير مبدأ أساسي وحيد يجب على المواطن أن يوافق عليه إذا أراد العيش في مجتمع حر ومتحضر: وهو مبدأ رفض استخدام القوة المادية وتفويض حقه في الدفاع المادي عن النفس إلى الحكومة وذلك بهدف تنفيذ هذا الدفاع بطريقة منظمة وموضوعية وبحسب القانون؛ أي: أن عليه، بعبارة أخرى، أن يتقبل (الفصل بين القوة والنزوات)، مهما تكن هذه النزوات، ومنها نزواته الشخصية.

ولكن، كيف نستفيد مما سبق في فض النزاعات بين المتخاصمين؟

لا يمكن، في المجتمع الحر، أن يُجبر الناس على التعامل مع بعضهم البعض، فهم لا يفعلون ذلك إلا في إطار الاتفاق الإرادي، وإذا تضمن التعامل عنصر الوقت فسيكون هذا (الاتفاق) عبارة عن (عقد). وإذا تعرض العقد للخرق بقرار اعتباطي من أحد المتعاقدين، فقد ينشأ عن ذلك ضرر مالي مدمر للمتعاقد الآخر، ولن يكون للضحية من تعويض إلا في الحجز على أملاك المذنب كتعويض لما أصابه؛ ولكننا نلاحظ هنا مرة أخرى أن استخدام القوة لا يمكن أن يترك لقرار الأفراد العاديين، وهذا يقودنا إلى واحدة من أهم وظائف الحكومة وأكثرها تعقيدا، وهي وظيفة (الحَكَم) الذي يبت في المنازعات بين الناس وفق قوانين موضوعية. إن المجرمين أقلية قليلة في أي مجتمع متحضر، ولكن حماية العقود وفرضها عبر محاكم القانون المدني تعتبر الحاجة الأكثر إلحاحا في أي مجتمع مسالم؛ فمن دونها لا يمكن لأي حضارة أن تتطور أو تستمر.

إن الإنسان عاجز عن البقاء بالطريقة التي تتبعها الحيوانات عبر التصرف في إطار اللحظة الراهنة؛ وإنما يجب عليه أن يخطط لأهدافه وينجزها خلال مدة زمنية معينة، وعليه أن يحسب تصرفاته ويرسم الخطط لمدة زمنية تمتد بطول عمره، وكلما كان عقله أذكى ومعارفه أكبر طال مدى تخطيطه. وكلما كانت الحضارة أكثر رفعة وتعقيدا استطال أمد الفعاليات التي تحتاجها، وهذا يؤدي إلى توسع مدى المواثيق العقدية بين الناس، وازدياد إلحاح حاجتهم إلى حماية سلامة هذه التوافقات. وحتى مجتمع المقايضة البدائي لا يمكنه أن يواصل فعالياته إذا اتفق شخصان على مقايضة كمية من البطاطا بسلة من البيض، وعندما استلم أحدهما البيض رفض تسليم البطاطا؛ فتخيل معي ماذا سيعني هذا التصرف الذي توجهه النزوات ضمن مجتمع صناعي يقوم فيه المرء بتسليم بضائع بمليون دولار مقابل اعتماد مالي، أو التعاقد لبناء منشآت تتكلف ملايين الدولارات، أو توقيع عقود إيجار تمتد إلى تسعة وتسعين عاما.

يتضمن انتهاك العقد من جانب واحد استخداما غير مباشر للقوة المادية: فهو يتكون في جوهره من شخص يستلم أغراضا مادية (بضاعة أو خدمات) من شخص آخر، ثم يرفض تسديد ثمنها، وهكذا يقوم بحيازتها عبر القوة (الحيازة المادية المجردة)، وليس عبر حقه فيها، أي أنه يحتفظ بها دون موافقة مالكها. وكذلك يتضمن الغش استخداما غير مباشر للقوة: فهو يتضمن الحصول على أغراض مادية دون موافقة مالكها بعد خداعه بادعاءات ووعود مزيفة. وكذلك الابتزاز: فهو يتضمن الحصول على أغراض مادية دون أن تكون مقابل أغراض أخرى، وإنما التهديد باستخدام القوة أو العنف أو بإلحاق الضرر.

من الواضح أن بعض هذه الأفعال إجرامية؛ وبعضها الآخر، كانتهاك العقد من جانب واحد، ربما لا ينتج عن دوافع إجرامية وإنما عن الاستهتار واللامنطقية. وهنالك أيضا قضايا معقدة قد يدعي فيها كل من الطرفين أن الحق في جانبه، ولكن مهما تكن هذه القضايا فإنها جميعها يجب أن تخضع لقوانين محددة موضوعيا وأن يوجد لها حل من خلال حكَم محايد يقوم بتطبيقها، أي: من خلال قاضٍ (وهيئة محلفين عندما يكون ذلك مناسبا).

لاحظ معي المبدأ الأساسي الذي يدور عليه محور العدل في تلك القضايا جميعها: وهو مبدأ مفاده أن المرء لا يمكنه الحصول على أي قيمة مادية من الآخرين دون موافقة المالك، وهذا يستدعي أن من حق المرء أن لا يترك تحت رحمة قرار من طرف واحد، أي: ما يقوم به الآخرون من خيارات اعتباطية أو غير عقلانية أو نزوات. وهكذا هو الغرض المقبول من الحكومة في جوهرها: تمكين الناس من الوجود الاجتماعي من خلال حماية المصالح ومكافحة الشرور التي يمكن أن يتسبب بها الإنسان لأخيه الإنسان.

إن الوظائف المناسبة للحكومة تتوزع في ثلاث فئات واسعة، وكلها تتعلق بقضايا القوة المادية وحماية حقوق الإنسان:

1.الشرطة: لحماية الناس من المجرمين.

2.القوات المسلحة: لحماية الناس من الغزاة الأجانب.

3.محاكم القانون: لفض المنازعات ما بين الناس وفقا لقوانين موضوعية.

وتنبثق عن هذه الفئات الثلاث العديد من القضايا والنتائج الثانوية التي يكون تطبيقها على أرض الواقع بصياغتها على هيئة تشريع معين أمرا فائق التعقيد. ويندرج ذلك ضمن مجال خاص من العلوم، وهو (فلسفة القانون). فالعديد من الأخطاء والخلافات قد تحدث أثناء التطبيق، ولكن الضروري هو تطبيق المبدأ، أي: المبدأ الذي يرى أن الهدف من القانون والحكومة يكمن في حماية الحقوق الفردية. أما اليوم فقد غاب هذا المبدأ في غياهب النسيان والتجاهل والتجنب؛ وكانت نتيجة ذلك الحالة التي نعيشها على امتداد العالم: من تراجع البشرية إلى حالة انعدام القانون في ظلة سلطة طاغية غير شرعية، إلى الهمجية البدائية التي يمارسها حكم وحشي.

وفي معارضة ساذجة لهذا التوجه يطرح البعض سؤالا عما إذا كان مفهوم الحكومة لدينا يجعلها شريرة بطبعها، وما إذا كانت الفوضى هي النظام الاجتماعي الأمثل. إن الفوضى، كمفهوم سياسي، هي تجريد ساذج متذبذب: فلجميع الأسباب التي ذكرناها في ما سبق، يقع المجتمع الذي ليست له حكومة منظمة تحت رحمة أول الواصلين من المجرمين ليدخلها في فوضى حرب بين العصابات. ولكن إمكانية حدوث أعمال غير أخلاقية ليست هي الاعتراض الوحيد على الفوضى: فحتى إذا كان جميع أفراد المجتمع عقلانيين تماما ومعصومين أخلاقيا فلا يمكنهم أن يمارسوا نشاطاتهم في حالة الفوضى: حيث تبرز الحاجة إلى تأسيس حكومة بسبب الحاجة إلى قوانين (موضوعية) وحكَم يفصل في المنازعات النزيهة.

لقد شهدنا مؤخرا ظهور أحد تجليات النظرية الفوضوية، وقد بدأ يستميل بعض المؤيدين الشباب للحرية، وهو السخافة الغريبة المدعوة «الحكومات المتنافسة»، وإذا ما قبلنا الطرح الأساسي للدولانيين الحديثين، والذين لا يفرقون بين وظائف الحكومة ووظائف الصناعة، وبين القوة والإنتاج، ومن يدعو إلى ملكية الحكومة لقطاع الأعمال، فإن مؤيدي «الحكومات المتنافسة» ليسوا إلا الوجه الآخر للعملة، حيث يرون بأن الأثر المفيد للتنافس في قطاع الأعمال يستدعي تطبيقه في مجال الحكومة، وعوضا عن حكومة وحيدة حصرية يجب أن يكون هنالك عدد من الحكومات المختلفة في الرقعة الجغرافية ذاتها تتنافس على الإخلاص للمواطنين، ويبقى كل مواطن حرا في «التسوق» والتعامل مع الحكومة التي يختارها. وهنا يجب أن لا ننسى أن الضبط باستخدام القوة هو الخدمة الوحيدة التي ينبغي على الحكومة أن تقدمها، وهنا يطرح السؤال التالي: كيف يتم تطبيق المنافسة في مجال (الضبط باستخدام القوة)؟

لا يمكن أن نصم هذه النظرية بتناقض المصطلحات، وذلك لأنه من الواضح خلوها من فهم لمصطلحات «التنافس» و»الحكومة»؛ كما لا يمكن أن ندعوها تجريدا متذبذبا، وذلك لخلوها من أي صلة أو إشارة إلى الواقع ولا يمكن تحويلها إلى واقع بأي حال من الأحوال. ويمكن إثبات ذلك بعرض الصورة التالية: لنفترض أن زيد، وهو زبون لدى الحكومة (أ)، يشك بأن جاره عمرو، وهو زبون لدى الحكومة (ب)، قد سطا على منزله، عندها تتجه فرقة من الشرطة (أ) إلى منزل عمرو وهناك تلاقيها فرقة من الشرطة (ب) لا تقبل بصحة ما ورد في شكوى زيد ولا تعترف بسلطة الحكومة (أ)؛ فمالذي سيحدث بعدها؟ لك أن تحزر ذلك.

لقد مر مفهوم «الحكومة» بتطورات عبر تاريخ طويل ومعقد، ويمكنك أن تجد ومضات عن وظائف الحكومة المناسبة في كل مجتمع منظم تقريبا، متجسدا في ظاهرة الاعتراف بوجود اختلاف خفي (وإن كان لا يوجد في معظم الأحيان) بين الحكومة وعصابات السرقة، أي: هالة الاحترام والسلطة الأخلاقية الممنوحة للحكومة باعتبارها حارس «القانون والنظام»، وهي حقيقة مفادها أن حتى أكثر أشكال الحكومة شرا أثبت أنه ضروري للحفاظ على شيء من النظام ومظهر للعدالة، حتى ولو كان ذلك عبر الروتين والتقاليد، والادعاء بوجود مبرر أخلاقي لسلطتها قد يكون منشؤه روحيا أو اجتماعيا. وذلك مطابق تماما لما حدث عندما لجأت الملكية في فرنسا إلى استخدام «الحق الإلهي للملوك»، وكذلك ما فعله طواغيت الاتحاد السوفييتي عندما أنفقوا ثروات هائلة على الدعاية الإعلامية التي تبرر حكمهم في أعين المحكومين المستعبدين.

لم يقم الإنسان عبر التاريخ باستيعاب الوظائف المناسبة للحكومة إلا في وقت قريب جدا: فلم تمض إلا مئتان من السنوات على عصر الآباء المؤسسين للثورة الأمريكية، وهم الذين لم يقوموا بتحديد طبيعة المجتمع الحر وحاجاته فحسب، وإنما صمموا الوسائل التي تترجم ذلك إلى واقع ملموس أيضا. إن المجتمع الحر، شأنه في ذلك شأن أي منتج بشري، لا يمكن تحقيقه بوسائل عشوائية، أو بالاكتفاء بالأماني و»النوايا الحسنة» للقادة. إذ ينبغي وجود نظام قضائي معقد يقوم على مبادئ نافذة (موضوعيا) لإنشاء مجتمع حر و(الحفاظ على حريته)، وهو نظام لا يستند إلى دوافع أي مسؤول أو شخصيته الأخلاقية أو نواياه، ولا يدع فرصة أو ثغرة قانونية تساعد على ظهور الاستبداد.

إن نظام (التوازنات) الأمريكي كان إنجازا رائع بحق، وعلى الرغم من وجود تناقضات معينة في الدستور تركت ثغرات تسمح بنمو الدولانية، فإن استثنائية الإنجاز كانت تتمثل في مفهوم الدستور كوسيلة للحد من سلطة الحكومة وتقييدها. وعندما تتعاون الجهود في يومنا هذا على طمس هذه النقطة، فلا يمكن أن نقول لمن يعمل على ذلك غير أن الدستور يحدد ماهية الحكومة، لا الفرد، أي أنه لا يصف كيفية أداء الأفراد، وإنما أداء الحكومة؛ وأنه ليس ميثاقا لسلطة الحكومة، وإنما لحماية المواطن من الحكومة.

لاحظ معي الآن إلى أي مدى وصل الانقلاب في الرؤية السائدة عن الحكومة؛ فعوضا عن أن تكون حامية لحقوق الفرد، تتحول إلى أخطر من ينتهكها؛ وبدلا من أن تحرس الحرية، تجدها تؤسس للعبودية؛ وعوضا عن حماية الفرد ممن يوجه ضده قوة مادية، تراها هي التي تستعمل القوة المادية والإجبار كما تشاء وفي أية قضية من القضايا؛ وبدلا من أن تؤدي دورها كأداة (للموضوعية) في العلاقات البشرية، هاهي تنشئ عهدا فتاكا سريا من الشك والخوف عبر قوانين غير موضوعية يُترك تفسيرها لقرارات اعتباطية تتخذها شريحة عشوائية من الموظفين؛ وعوضا عن حماية الناس من أن تطالهم النزوات بأضرارها، تقوم الحكومة بادعاء سلطة النزوة غير المحدودة؛ ولذلك فإننا نتجه بسرعة إلى مرحلة الانقلاب النهائي: المرحلة التي تكون فيها الحكومة (حرة) لتفعل ما تحب وتشتهي، بينما لا يتصرف المواطن أي تصرف إلا بعد الحصول على (رخصة)؛ وهي مرحلة شكلت العهود الأكثر ظلاما في تاريخ البشر، مرحلة الحكم بالقوة الهمجية.

لقد لوحظ دائما بأن البشرية لم تصل حتى يومنا هذا إلى درجة من التقدم الأخلاقي تضاهي ما حققته في سلم التطور المادي. وقد درجت العادة أن يتبع هذه الملاحظة استنتاج متشائم حول طبيعة الإنسان. ولا شك في أن الحالة الأخلاقية للبشر متدنية إلى حد مشين، ولكن إذا أخذ القارئ بعين الاعتبار الانقلابات الأخلاقية المتوحشة لدى الحكومة (والتي أصبحت ممكنة من خلال السلوكيات الإيثارية الجماعية)، والتي توجب على الإنسان أن يعيش تحت وطأتها في معظم مراحل التاريخ، فسيبدأ بالتعجب من كيفية تدبر الناس لأمر الاحتفاظ ولو بأقل القليل من الحضارة، ومما بقي فيهم من عزة النفس الجبارة التي أبقتهم يسيرون منتصبي الظهر وعلى قدمين اثنتين، لا أربع.

إن ذلك سوف يجعلنا أكثر قدرة على النظر بوضوح إلى طبيعة المبادئ السياسية التي يجب القبول بها والدفاع عنها كجزء من معركة الإنسان في سبيل النهضة الفكرية.

من كتاب (فضيلة الأثرة) للكاتبة الأمريكية آين راند

ديسمبر 1963

temp1 أبريل، 20121

إذا أراد المرء أن يناصر مجتمعا حرا  فعليه أن يدرك بأن هذا المجتمع يرتكز على أساس لا غنى عنه، وهو مبدأ الحقوق الفردية. وإذا أراد المرء أن يساند الحقوق الفردية فعليه أن يدرك بأن الرأسمالية هي النظام الوحيد الذي يمكنه مساندتها وحمايتها. وإذا أراد المرء أن يعرف مدى العلاقة بين الحرية والأهداف الحالية للمثقفين، فيمكنه أن يعتمد على حقيقة مفادها أن مفهوم الحقوق الفردية يتعرض للتهرب والتشويه والتضليل ونادرا ما تتم مناقشته في أوساط من يدعون «بالمحافظيين» بشكل خاص.

إن «الحقوق» مفهوم أخلاقي يقدم انتقالا منطقيا من المبادئ التي توجه تصرفات المرء إلى المبادئ التي توجه علاقته مع الآخرين، وهو مفهوم يحافظ على الأخلاقيات الفردية ويحميها في سياق اجتماعي، وهو الصلة ما بين المنظومة الأخلاقية للفرد والمنظومة القانونية للمجتمع، وما بين الأخلاق والسياسة، وبعبارة موجزة: الحقوق الفردية هي وسيلة إخضاع المجتمع إلى قانون أخلاقي.

يتأسس كل نظام سياسي على منظومة أخلاقية معينة، وقد سيطرت على تاريخ البشرية منظومة أخلاقية متنوعة الأشكال ولكنها تعتمد في جوهرها على قاعدة (الإيثار والجماعة) التي أخضعت الفرد إلى سلطة عليا، سواء أكانت روحية أم اجتماعية، ونتج عن ذلك أن معظم الأنظمة السياسية كانت مجرد أشكال متنوعة للطغيان الدولاني نفسه، ولا تختلف عن بعضها البعض إلا بالشدة، لا بالمبدأ الأساسي؛ واستمرت هذه الأنظمة عبر الزمن ولم تكن لتتوقف لولا حالات استثنائية مرت بها بفعل التقاليد والفوضى والصراعات الدموية والانهيار من حين لآخر. وكانت الأخلاق في هذه الأنظمة منظومة قابلة للتطبيق على مستوى الفرد، لا المجتمع؛ حيث وُضع المجتمع (خارج) القانون الأخلاقي باعتباره رمزا أو مصدرا أو مفسرا حصريا له، وتم تلقين الناس بأن واجب الإخلاص والتضحية بالنفس للمجتمع هو الهدف الأسمى للأخلاق خلال وجود الإنسان في هذه الدنيا.

وبما أن «المجتمع» ليس كيانا حقيقيا، وإنما هو عدد من الأفراد؛ فقد أدى ذلك في الواقع إلى أن يكون قادة المجتمع مستثنين من القانون الأخلاقي؛ وبما أنهم لا يخضعون لغير العادات والتقاليد فقد تمتعوا بسلطة كاملة فرضت الطاعة العمياء ضمن مبدأ ضمني مفاده: «الصالح هو ما يصلح للمجتمع (أو القبيلة، العرق، الأمة)، وما أوامر الحاكم إلا صوت المجتمع على أرض الواقع». ويصح هذا في كافة الأنظمة الدولانية، وضمن كافة أشكال الأخلاقيات (الإيثارية الجماعية) سواء أكانت روحية أم اجتماعية، وهما جانبان يتلخص الأول منهما في مقولة «الحق الإلهي للملوك»، ويتلخص الثاني في مقولة «صوت الشعب هو صوت الرب»، ومن أمثلة ذلك: الدولة الدينية في مصر القديمة حيث يعتبر الفرعون تجسيدا للرب، والحكم غير المحدود للأغلبية في أثينا القديمة، ودولة الرعاية التي حكمها الأباطرة في روما، ومحاكم التفتيش في منتصف العصور الوسطى، والملكية المطلقة في فرنسا، ودولة الرعاية في بروسيا إبان حكم بسمارك، وغرف الغاز في ألمانيا النازية، ومجازر الاتحاد السوفييتي. إن كافة هذه الأنظمة السياسية كانت تعبيرا عن الأخلاقيات (الإيثارية الجماعية)، وتجمع بينها صفة مميزة تتمثل في حقيقة مفادها أولوية المجتمع على القانون الأخلاقي ككيان يستهويه الطغيان والسيادة والنزوات، وبالتالي فهذه الأنظمة جميعها تعتبر، من الناحية السياسية، أشكالا متنوعة لمجتمع واحد عديم الأخلاق.

لقد كان (إخضاع المجتمع إلى قانون أخلاقي) أهم إنجاز ثوري قامت به الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث مثّل مبدأ الحقوق الفردية للإنسان امتداد يد الأخلاق لتطال النظام الاجتماعي. ومن خلال الحد من سلطة الدولة، وحماية الإنسان من همجية قوة الجماعة، وإخضاع «الجبروت» إلى «الحق»، أصبحت الولايات المتحدة أول مجتمع أخلاقي في التاريخ.

اعتبرت الأنظمة السابقة جميعها الإنسان بمثابة وسيلة يمكن التضحية بها لتنفيذ غايات الآخرين، والمجتمع الذي هو غاية بحد ذاته؛ أما الولايات المتحدة فقد اعتبرت الإنسان غاية بحد ذاته، والمجتمع كوسيلة لتحقيق تعايش الأفراد بشكل مسالم ومنظم وطوعي. وكل الأنظمة السابقة اعتبرت حياة المرء ملكا للمجتمع وأن المجتمع يمكنه التصرف بها بالطريقة التي يشاء، وأن أية حرية يتمتع بها ما هي إلا منّة من المجتمع يسمح بها حين يشاء، ويبطلها حين يشاء؛ أما الولايات المتحدة فاعتبرت حياة المرء ملكا له كحق من حقوقه (بمعنى المبدأ الأخلاقي والطبيعة البشرية)، وأن حق المرء ملكية فردية، وبهذا لا يكون للمجتمع أية حقوق، وأن الهدف الأخلاقي الوحيد للحكومة يتمثل في حماية الحقوق الفردية.

إن «الحق» مبدأ أخلاقي يعرّف ويصادق على حرية تصرف المرء ضمن السياق الاجتماعي. وهنالك حق أساسي (وحيد) فحسب (وكل ما عداه نتائج له)، وهو حق الإنسان في الحياة. إن الحياة عملية تتم فيها فعاليات للدعم والإنتاج على مستوى الذات، وهذا يعني: حرية اتخاذ كافة التصرفات اللازمة التي تقتضيها طبيعة الكائن العاقل لتوفير ما يلزم حياته الخاصة به من دعم وتطوير وإنجاز ومتعة. (وكذلك هو معنى الحق بالحياة والحرية والسعي إلى السعادة). ويرتبط مفهوم «الحق» ارتباطا مباشرا بتصرفات الإنسان، وبالأخص: حرية التصرف؛ وهي تعني التحرر من استخدام القوة للحث أو الإجبار أو التدخل ضد الآخرين؛ ومن هنا يكون الحق، بالنسبة لجميع الأفراد، إقرارا أخلاقيا للشخص (الموجب)، أي: حريته في التصرف وفق تقييمه الخاص، ومن أجل أهدافه الخاصة، وباستخدام خياره الخاص (الطوعي ودون إكراه). أما بالنسبة للمحيطين بهذا الشخص، فإن حقوقه لا تلزمهم بأية التزامات ما عدا (السالبة) منها، أي: الامتناع عن انتهاك حقوقه.

ويعتبر حق الحياة مصدر الحقوق جميعها، وحق الملكية هو التطبيق الوحيد لها جميعا؛ ومن دون حقوق الملكية لا يمكن للحقوق الأخرى أن تكون ممكنة؛ وبما أن الإنسان يجب عليه أن يستمر بحياته اعتمادا على جهده الخاص، فإن من لا يملك حق ملكية نتاج جهده يفتقر إلى وسيلة الاستمرار في الحياة، والإنسان الذي ينتج بينما يتصرف الآخرون بإنتاجه، هو عبد ولا ريب.

إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن حق الملكية هو حق اتخاذ التصرفات، فهو كأي حق آخر: ليسا حقا (بشيء)، وإنما هو حق بالتصرف وبنتائج إنتاج أو اكتساب ذلك (الشيء)، وهو ليس ضمانة للمرء بأنه (سوف) يكتسب ملكية ما، وإنما مجرد ضمانة بأنه سوف يمتلكها إذا اكتسبها؛ فهو حق اكتساب الأمور المادية، والاحتفاظ بها، واستعمالها، والتصرف بها.

إن مفهوم الحقوق الفردية حديث جدا في مسيرة التاريخ البشري إلى درجة نلاحظ معها أن معظم الناس لم يستوعبوها بشكل كامل إلى يومنا هذا؛ فبحسب النظريتين الأخلاقيتين الروحية والاجتماعية يشدد البعض على أن الحقوق هبة من الرب، ويشدد آخرون على أنها هبة من المجتمع؛ ولكن الحقيقة تقول بأن مصدر الحقوق ينبثق من الطبيعة البشرية.

لقد نص إعلان الاستقلال على أن الناس «منحهم خالقهم حقوقا ثابتة لا يمكن فصلها عنهم»؛ وسواء آمن المرء بأن الإنسان صنيعة الخالق أم الطبيعة، فإن قضية أصل الإنسان لا تغير من حقيقة أنه كيان ذو نوع خاص (كائن عقلاني) وأنه عاجز عن التصرف بنجاح إذا تعرض للإجبار، وأن الحقوق شرط ضروري لنمط البقاء الخاص به.

«إن مصدر حقوق الإنسان لا ينبع من قانون يأتي من السماء أو من قبة الكونغرس الأمريكي، وإنما من قانون الهوية؛ حيث (س = س) دائما، والإنسان هو الإنسان دائما؛ والحقوق شروط للوجود تقتضيها الطبيعة البشرية لتحقيق بقاء الإنسان بشكل مناسب؛ فحينما يتعين على الإنسان أن يعيش على كوكب الأرض، فمن (حقه) أن يستعمل عقله، ومن (حقه) أن يتصرف بحسب تقييمه الحر، ومن (حقه) أن يعمل لصالح قيَمه العليا وأن يحتفظ بنتاج عمله. ومن تكون الحياة على الأرض هدفا له، يكون من (حقه) أن يعيش باعتباره كائنا عقلانيا: فالطبيعة تحظر عليه أن لا يكون عقلانيا.» (أطلس يستريح)

إن انتهاك حقوق الإنسان يعني إجباره على التصرف بعكس ما يرتئيه تقييمه الخاص، أو مصادرة قيمه العليا؛ ولفعل ذلك توجد طريقة أساسية واحدة: استخدام القوة المادية. وهنالك عنصران اثنان يمكن استخدامهما لانتهاك حقوق الإنسان: المجرمون والحكومة. وقد تمثل الإنجاز الأعظم للولايات المتحدة في رسم حد فاصل يميز بين هذين العنصرين، وهو منع العنصر الثاني من أن يصبح نسخة مشروعة لنشاطات العنصر الأول. وقد وضع إعلان الاستقلال مبدأً مفاده أنه «لحماية هذه الحقوق تم تأسيس الحكومات بين الناس»، وقد قدم هذا النص التبرير المقبول الوحيد لوجود الحكومة وحدد الهدف الوحيد الذي يلائمها: وهو حماية حقوق الإنسان من خلال حمايته من العنف المادي. وهكذا تم تغيير وظيفة الحكومة من دور الحاكم إلى دور الخادم؛ حيث تم وضعها لحماية المرء من المجرمين، وتمت كتابة الدستور لحماية الإنسان من الحكومة، كما إن (وثيقة الحقوق) لم تكن موجهة ضد المواطن الفرد، وإنما ضد الحكومة كإعلان صريح بأن حقوق الفرد تتقدم على أية قوة شعبية أو اجتماعية أخرى.

نتج عن ذلك نمط اجتماعي متحضر اقتربت أمريكا من تحقيقه خلال حقبة زمنية قاربت قرنا ونصف القرن. والمجتمع المتحضر هو مجتمع يُحظر فيه على القوة المادية أن تتدخل في العلاقات البشرية، وتلعب فيه الحكومة دور الشرطي الذي يستعمل القوة للرد (فقط) وضد من بدأ باستخدامها (فقط)؛ وهذا هو المعنى الأساسي الذي كان في نية الفلسفة السياسية الأمريكية، مضمَّنا في مبدأ الحقوق الفردية، ولكن لم تتم صياغته بشكل صريح، ولم يتم القبول به تماما، ولم يمارَس على نحو متكامل.

لقد عانت أمريكا من تناقض داخلي يتمثل في الأخلاقيات (الإيثارية الجماعية)؛ فالإيثار يتضارب مع الحرية والرأسمالية والحقوق الفردية؛ إذ لا يمكن الجمع بين السعي إلى السعادة وبين الحالة المعنوية لحيوان تضحوي. لقد كان مبدأ الحقوق الفردية هو الذي تمخض عن المجتمع الحر، كما إن تدمير الحقوق الفردية هو الذي أدى إلى تدمير الحرية.

إن الاستبداد الجماعي لا يجرؤ على استعباد البلاد من خلال مصادرة قيمها على نحو صريح ومباشر؛ إنما يقوم بذلك عبر عملية فساد داخلي، كما يحدث على الصعيد المادي من خلال تبذير ثروة البلاد عبر التسبب بتضخم العملة، حيث نشاهد اليوم عملية التضخم وهي تطبق في مجال الحقوق، وهي عملية يتبعها نمو كبير في «الحقوق» الصادرة حديثا إلى حد لا يتمكن فيه الناس من ملاحظة حقيقة ما وقع، وهو أن مفهوم الحقوق قد تعرض إلى الانعكاس؛ وكما أن الأوراق المالية المزورة تسيء إلى قيمة الأوراق المالية الحقيقية، فإن «حقوق (اطبع وانشر)» تتناقض مع الحقوق الأصيلة. وهنالك حقيقة مثيرة للفضول ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وهي أن العالم لم يشهد أبدا مثل هذا النمو السريع لظاهرتين متناقضتين، وهما: «الحقوق» الجديدة المزعومة، ومعسكرات العمل الإجباري.

تمثلت أشد حالات التناقض في تحول مفهوم الحقوق من ميدان السياسة إلى ميدان الاقتصاد، وقد لخص (إعلان المبادئ) الذي أصدره الحزب الديمقراطي عام 1960 هذا التحول بجرأة وصراحة، حيث جاء فيه أن الإدارة الرئاسية الديمقراطية «سوف تؤكد مجددا على وثيقة الحقوق الاقتصادية التي كتبها فرانكلين روزفلت في ضمير الأمة قبل 16 عاما». وينبغي الانتباه هنا إلى معنى مفهوم «الحقوق» عندما تقرأ القائمة التالية التي جاءت في الإعلان:

1.الحق بوظيفة مفيدة وذات عائد مالي جيد في مصانع أو متاجر أو حقول أو مناجم الأمة.

2.الحق بتقاضي أجر كافٍ يفي بحاجات الغذاء واللباس والتسلية.

3.الحق لكل مزارع بتربية وبيع منتجاته بسعر يوفر معيشة كريمة له ولأسرته.

4.حق كل أرباب الأعمال، مهما كان حجم هذه الأعمال، بالتجارة في مناخ يتحرر فيه من المنافسة غير العادلة والهيمنة الناتجة عن الاحتكارات الداخلية والخارجية.

5.حق كل عائلة بمنزل مناسب.

6.الحق برعاية صحية مناسبة وتوفير فرصة تحقيق مستوى صحي جيد والتمتع به.

7.الحق بمستوى كاف من الحماية ضد المخاوف الاقتصادية التي سادت في عصور الماضي، والمرض، والحوادث، والبطالة.

8.الحق بمستوى جيد من التعليم.

يمكننا إضافة سؤال توضيحي وحيد في نهاية كل من البنود التي وردت أعلاه، وهو: (على حساب من؟)؛ فالوظائف والغذاء والتسلية (!) والمنازل والرعاية الصحية والتعليم وغيرها ليست من نتاج الطبيعة؛ وإنما هي قيم مادية يوفرها الإنسان كما يوفر البضائع والخدمات، (فمن) سيوفرها؟ وإذا كانت (حقوق) البعض تخولهم الحصول على منتجات عمل الآخرين، فهذا يعني أن هؤلاء (الآخرين) مجردون من الحقوق ومجبرون على العمل كعبيد.

إن أي «حق» يزعمه إنسان ما ويقتضي انتهاك حقوق إنسان آخر ليس حقا، ولا يمكن أن يكون حقا؛ فليس للإنسان أن يمتلك حقا يفرض على إنسان آخر التزاما لم يختره، أو واجبا دون عائد، أو خدمة غير طوعية. ولا يمكن أن يكون هنالك ما يشبه «حق الاستعباد»؛ فالحق لا يتضمن التطبيق المادي للحق من قبل الآخرين، وإنما يقف عند حدود الحرية باكتساب هذا التطبيق عبر الجهد الشخصي. وفي هذا السياق ينبغي أن نلاحظ الدقة الفكرية عند الآباء المؤسسين للولايات المتحدة عندما تكلموا عن حق «السعي إلى السعادة»، (وليس) الحق بالسعادة؛ وهذا يعني أن للإنسان حق اتخاذ الإجراءات التي يراها ضرورية لتحقيق سعادته، وهذا (لا) يعني أن الآخرين يجب عليهم أن يجعلوه سعيدا.

إن حق الحياة يعني أن من حق الإنسان أن يوفر احتياجات حياته من خلال عمله (على المستوى الاقتصادي وبمقدار ما يمكن أن تصل إليه قدراته)، وهذا (لا) يعني أن الآخرين يجب عليهم أن يزودوه بالممتلكات. كما إن حق حرية التعبير يعني أن من حق الإنسان التعبير عن أفكاره دون أن يتهدده خطر تعرضه للاضطهاد أو التدخل أو العقاب من الحكومة، وهذا (لا) يعني أن الآخرين يجب عليهم أن يزودوه بقاعة محاضرات أو محطة إذاعية أو مطبعة للتعبير عن أفكاره. إن أي التزام يتضمن مشاركة أكثر من شخص يقتضي الموافقة (الطوعية) من جانب كل المشاركين، وكل واحد منهم له (الحق) بصياغة خياره الشخصي، ولكن لا أحد منهم له الحق في فرض قراره على الآخرين.

ليس هنالك شيء يمكن أن يدعى «حق الوظيفة»، وإنما هنالك حق التجارة الحرة، أي: حق الإنسان بالحصول على وظيفة إذا قرر شخص آخر أن يوظفه. وليس هنالك «حق المنزل»، وإنما هنالك حق التجارة الحرة، أي: حق بناء منزل أو شرائه. وليس هنالك حقوق بأجر «عادل» أو سعر «عادل» إذا لم يقرر أحد أن يدفع هذا السعر أو يوظف هذا الشخص أو يشتري تلك السلعة. وليس هنالك «حقوق المستهلك» في الحليب أو الأحذية أو الأفلام أو العصير إذا لم يقرر المنتجون تصنيعها (وهنالك فحسب حق التصنيع لمن يريد ذلك). وليس هنالك حقوق لفئات خاصة، من أمثال «حقوق الفلاحين أو العمال أو أرباب الأعمال أو الموظفين أو من يوظفهم أو المسنين أو الشباب أو الأجنّة»، وإنما هنالك فقط «حقوق الإنسان»: الحقوق التي يمتلكها كل فرد و(جميع) البشر كأفراد.

إن حقوق الملكية وحق التجارة الحرة هي «الحقوق الاقتصادية» الوحيدة للإنسان (وهي حقوق سياسية في حقيقتها)، ولهذا لا يمكن أن يوجد ما يسمى «وثيقة الحقوق (الاقتصادية)»، ولاحظ معي هنا أن مؤيدي هذه الوثيقة الجديدة كادوا ينتهون من تدمير النسخة القديمة. ولا بد للمرء أن يتذكر هنا أن الحقوق مبادئ أخلاقية تعرّف وتحمي حرية الإنسان بالتصرف، ولكنها لا تفرض أية التزامات على الآخرين. فالمواطنون كأفراد لا يمثل أي واحد منهم تهديدا لحقوق الآخر أو حريته، ومن يلجأ منهم إلى القوة المادية وينتهك حقوق الآخرين فهو مجرم، والآخرون يملكون حماية قانونية ضده.

لا يشكل المجرمون إلا أقلية ضئيلة في أي عصر أو بلد، وما أحدثوه من أذى للبشرية يكاد لا يقارن بالأهوال والمجازر والحروب والاضطهاد والمصادرة والمجاعات والاستعباد والتدمير الشامل الذي ارتكبته حكومات البشرية؛ فمن طبيعة الحكومة أنها تشكل أخطر تهديد تواجهه حقوق الإنسان: فهي تمتلك تصريحا قانونيا حصريا باستخدام القوة المادية ضد ضحية منزوعة السلاح بشكل قانوني. وعندما لا تكون هذه الحكومة محدودة أو مقيدة بالحقوق الفردية فإنها تتحول إلى أشد أعداء الإنسان فتكا؛ ولهذا جاءت (وثيقة الحقوق) لا لتحمي من التصرفات (الفردية)، وإنما من التصرفات الحكومية.

لنلاحظ الآن العملية التي يتم من خلالها تدمير هذه الحماية؛ حيث تتضمن هذه العملية أن تعزى إلى المواطن الفرد تلك الانتهاكات التي يحظر الدستور على الحكومة ارتكابها (والتي لا يملك الفرد سلطة ارتكابها)، مما يحرر الحكومة من كل الضوابط. وهذا التحول يبدو شيئا فشيئا بأوضح صوره في ميدان حرية التعبير. فطيلة سنين وأنصار الجماعية يروجون لرأي مفاده أن رفض الفرد لتمويل من يعارضه يعد انتهاكا لحق هذا المعارض في حرية التعبير وعملا «رقابيا»؛ فالرقابة في رأيهم هي ما يحدث حينما ترفض إحدى الصحف توظيف أو نشر كتابات من تتعارض أفكارهم مع سياسة الصحيفة جملة وتفصيلا؛ أو حينما يرفض رجال الأعمال نشر إعلاناتهم في مجلات تشن عليهم حملات الانتقاد والإهانة وتشويه السمعة؛ أو حينما تعارض جهة راعية لبرنامج تلفزيوني أن يتضمن هذا البرنامج تصرفات غاضبة كما حدث عندما وجهت الدعوة إلى ألجار هيس ليشنع على نائب الرئيس السابق ريتشارد نيكسون. أضف إلى ذلك ما جاء على لسان رئيس اللجنة الفيدرالية للاتصالات نيوتن ميناو الذي أعلن ذات مرة: «هنالك رقابة بواسطة جهات التصنيف، والمعلنين، وشبكات البث، ومن يتبع لها ممن يرفضون البرامج المقدمة إلى مناطقهم». وهذا هو السيد ميناو نفسه الذي هدد بإبطال رخصة أي محطة لا تستجيب لما يرتئيه من برامج، وهو نفسه الذي زعم بأن هذا التهديد ليس من الرقابة في شيء.

لنناقش المعاني المضمنة في مثل التوجه؛ فالرقابة مصطلح لا يصح إلا على التصرفات الحكومية، فليس هنالك من تصرف فردي يمكن أن يندرج تحت هذا المصطلح، وليس من فرد أو وكالة يمكنها أن تخرس شخصا أو توقف مطبوعة، وإنما هذا ما تفعله الحكومات. إن حرية التعبير للفرد تتضمن حقه في أن لا يتفق مع معارضيه وأن لا يصغي إليهم وأن لا يقدم لهم التمويل، ولكن بعض الطروحات من أمثال «وثيقة الحقوق الاقتصادية» لا ترى للفرد حقا في استخدام وسائله المادية الخاصة على ضوء توجيه معتقداته الخاصة، وإنما ينبغي عليه وفقها أن يسلم ماله دون تمييز إلى أي خطيب أو مروج، فهم يملكون «الحق» في ممتلكاته.

هذا يعني أن توفير الأدوات المادية للتعبير عن الأفكار يحرم الإنسان من حق إيقاف أية فكرة؛ أي: أن الناشر يتوجب عليه نشر الكتب التي يعتبرها عديمة القيمة أو مزيفة أو شريرة، وأن من يرعى برنامجا تلفزيونيا ينبغي عليه أن يقدم المال للمعلقين الذين يختارون الإساءة إلى معتقداته، وأن مالك الصحيفة يجب عليه أن يسلم صفحات مقالات الرأي إلى أي شاب طائش يرغي ويزبد غضبا على «استعباد الصحافة». إن هذا يعني أن مجموعة من الناس تمتلك «الحق» برخصة غير محدودة، بينما يُضيَّق على الآخرين بطريقة غير مسؤولة لا يرتجى منها أي صلاح.

ولكن ما دام من الواضح استحالة توفير وظيفة أو ميكروفون أو عمود في صحيفة لكل من يطلب؛ فمن ذا الذي سيقرر عملية «توزيع الحقوق الاقتصادية» ويختار المستفيدين عندما يتم إبطال حق المالك بتقرير مصير ممتلكاته؟ حسنا، لقد أجاب السيد ميناو على هذا السؤال بوضوح كاف.

أما من يظن مخطئا بأن ما ذكرناه ينطبق على المالكين الكبار فحسب، فعليه أن يدرك بأن نظرية «الحقوق الاقتصادية» تتضمن «حق» كل كاتب مسرحي هاوٍ أو كل شاعر متطرف أو كل ملحن لا يعزف إلا الضجيج أو كل رسام دون هدف (وله تأثير سياسي) في الحصول على الدعم المالي الذي لم يتمكن من الحصول عليه عبر العروض الفنية. وإلا فما هو المغزى من مشروع ينفق أموال الضرائب للإنفاق على الفن؟

وبينما يثور الضجيج حول «الحقوق الاقتصادية» تجد تراخيا تجاه مفهوم الحقوق السياسية؛ حيث أصبح في طي النسيان أن حق حرية التعبير يعني حرية الإنسان في الدفاع عن آرائه وتحمل مسؤولية ما ينتج عنها تجاه الآخرين من خلاف ومعارضة وانعدام شعبية وقلة دعم. وتتمثل الوظيفة السياسية «لحق التعبير عن الرأي» في حماية المنشقين والأقليات التي لا تحظى بالشعبية من الاضطهاد العنيف، و(ليس) ضمان حصولها على الدعم والمنافع والمنح مقابل شعبية لم تكسبها.

لقد جاء في (وثيقة الحقوق): «يجب على الكونغرس أن لا يسن أي قانون… يحد من حرية التعبير، أو حرية الصحافة…»، فهو لا يطالب المواطنين بتوفير الميكروفون لمن ينادي بدمارهم، أو المفتاح للص الذي يسعى إلى سرقة خزائنهم، أو السكين للقاتل الذي يروم قطع رقابهم؛ لكن هذا هو حال أكثر القضايا إلحاحا في وقتنا الحاضر: إذ تتواجه الحقوق (السياسية) مع «الحقوق (الاقتصادية)» في معركة لا تنتهي بالتعادل، حيث يجب على أحدهما أن يدمر الآخر. وفي الحقيقة، ليس هنالك ما يسمى «الحقوق الاقتصادية»، أو «الحقوق الجماعية»، أو «حقوق المصلحة العامة»؛ حتى أن مصطلح «الحقوق الفردية» يعاني من زيادة الألفاظ، إذ ليس هنالك نوع آخر من الحقوق، وليس هنالك غير الفرد كي يدعي عائديتها؛ ومن يدافع عن سياسة (عدم التدخل الحكومي في الاقتصاد) الرأسمالية، إنما هو المدافع الوحيد عن حقوق الإنسان.

آين راند

الفصل الأول من كتاب (الرأسمالية.. المثل الأعلى المجهول)

أبريل 1963

temp29 مارس، 20120

الرسالة العاشرة لفولتير
إن التجارة التي جلبت الثروة إلى شعب بريطانيا، قد ساهمت أيضا في جعلهم أحرارا، وبدورها، أدت الحرية إلى تنمية التجارة. وبواسطة التجارة وصلت هذه الأمة إلى منزلة العظمة، ومن خلالها اشتد عود القوات البحرية شيئا فشيئا حتى جعلت من الانكليز سادة البحار، حيث وصل تعدادها إلى مئتين من السفن تقريبا. وستتفاجأ الأجيال الحالية عندما تعلم بأن أسلافها كانوا يعيشون على جزيرة ليس فيها من الموارد سوى القليل من الرصاص والقصدير وأتربة التنظيف والصوف الخشن، ثم أصبحت، مع التجارة، قوية بما يكفي لترسل في العام 1723 ثلاثة أساطيل في الوقت ذاته إلى ثلاثة أطراف مختلفة من أطراف الأرض: أسطول لحراسة مضيق جبل طارق الذي استولت عليه وحافظت عليه بفضل أسلحتها، وآخر إلى بورتبيلو لتجريد ملك اسبانيا من كنوز بلاد الإنديز، وثالث إلى بحر البلطيق للحيلولة دون تقاتل القوى الشمالية.
عندما كانت غزوات الملك لويس الرابع عشر تهز إيطاليا، وجيوشه تستعد للاستيلاء على تورين بعد أن فتحت سافوي وبيدمون، كان يتوجب على الأمير يوجين أن يزحف من أقاصي ألمانيا لنجدة دوق سافوي، ولم يكن يملك حينها أي أموال على الإطلاق، ومن دون الأموال يستحيل الهجوم أو الدفاع، فقدم طلبا بما يحتاج إلى بعض التجار الانكليز، وفي نصف ساعة استطاع الحصول على قرض مقداره خمسون مليونا، فتمكن من تحرير تورين، وهزيمة الفرنسيين، وكتب رسالة قصيرة إلى من أقرضه الأموال قال فيها: «أيها السادة، لقد تلقيت أموالكم، ويسعدني أنني وظفتها بما فيه رضاكم».
كل هذا يجعل التاجر الانكليزي محقا في افتخاره، ويسمح له بأن يجرؤ على مقارنة نفسه بالمواطن الروماني متسلحا بأسباب وجيهة، بل إنه يتفوق عليه، فالأخ الأصغر لأحد أرباب الحكم لا يتعرض للاحتقار إن هو قرر دخول ميدان التجارة، حيث نجد بأن اللورد تاونزند، وزير الخارجية، لديه أخ سعيد بكونه تاجرا في المدينة، وعندما كان اللورد أوكسفورد يحكم انكلترا، كان أخوه الأصغر يعمل وسيطا تجاريا في حلب، ولم يرغب بالعودة إلى وطنه حتى مات هناك.
هذا التقليد، والذي بدأ يغيب مع الأسف، يبدو أمرا غريبا لدى الألمان المفتونين بانتماءاتهم النبيلة، حيث لا يمكنهم أن يتخيلوا كيف يمكن لابن أحد الأسر البريطانية النبيلة أن يكون برجوازيا قويا وغنيا فحسب، بينما ينصب اهتمامهم على النبالة، ويصل الأمر بهم إلى أن يكون هنالك ثلاثون (فخامة) يحملون الاسم نفسه، ودون أن يكون هنالك ما يدعم هذه المنزلة غير الفخر وشعار العائلة.
أما في فرنسا فللكل الحق في أن يكون ماركيزا، كما إن كل من يصل من أقاصي مقاطعات فرنسا وبجيبه بعض المال وفي نهاية اسمه مقطع (اك) أو (إيل) فالمجال متاح أمامه للاستمتاع بنطق عبارات من أمثال «شخص من نوعي» أو «شخص من مرتبتي ومنزلتي»، والنظر بعين متعالية إلى تاجر الجملة. أما هذا التاجر فقد اعتاد على سماع عبارات الاحتقار بحق مهنته إلى حد يجعله شديد الحماقة فيحمر خجلا. ومع ذلك فإنني لا أعلم أيهما أنفع للدولة: نبيل معطر يعلم أوقات استيقاظ الملك ونومه ويتظاهر بمظاهر العظمة بينما يلعب دور العبد طلبا للقاء أحد الوزراء، أم تاجر عظيم يغني بلاده ويرسل شحنة من البضائع إلى الهند ومنها إلى مصر، ويساهم في رخاء العالم.
 

temp27 مارس، 20120

أدى تدهور الفلسفة في القرن التاسع عشر، ثم انهيارها في القرن العشرين، إلى مصير مماثل للعلوم الحديثة وإن كان بشكل أبطأ وأقل وضوحا. وما نراه اليوم من تقدم جنوني في ميدان التكنولوجيا يذكرنا كثيرا بالأيام التي سبقت الانهيار الاقتصادي عام 1929: حيث يتحرك بالسرعة نفسها، ويعتمد بشكل غير معلن على بقايا النظرية المعرفية الأرسطية، ويتوسع على نحو صاخب محموم مستهتر بحقيقة أن أساسه النظري تم استهلاكه، وأنه في المجال العلمي يعتبر عجز العلماء عن دمج معطياتهم وتفسيرها نوعا من التواطؤ لإحياء طريقة صوفية بدائية. أما في مجال العلوم الإنسانية فقد تحقق الانهيار فعلا في الماضي، أما الحاضر فيسوده الركود، وترى صور الدمار في كل جوانبها.

وأوضح شاهد على كلامنا قد يكون في الحال التي وصلت إليها العلوم الحديثة نسبيا، كعلمي النفس والاقتصاد السياسي؛ حيث نلاحظ في علم النفس محاولة لدراسة السلوك البشري دون الانتباه إلى حقيقة مفادها أن الإنسان كائن واعٍ؛ أما في الاقتصاد السياسي فنلاحظ محاولة دراسة الأنظمة الاجتماعية وتقديم النصائح بشأنها دون الاهتمام بالإنسان كفرد.

إن الفلسفة هي التي تعرّف وتؤسس المعايير الابستيمولوجية التي توجه المعرفة البشرية بشكل عام، وبعض العلوم المحددة بشكل خاص. لقد دخل علم الاقتصاد السياسي إلى دائرة الاهتمام في القرن التاسع عشر، في عصر تدهور الفلسفة ما بعد الكانتية، فلم يظهر أحد ليفضح طروحاته أو يتحدى أسسه؛ وهكذا تم القبول بعلم الاقتصاد السياسي بشكل ضمني ودون انتقاد بسبب غياب المنافسين، وأصبحت مقولاته معتقدات أساسية للجماعية.

لقد عرّف مختصو الاقتصاد السياسي، بمن فيهم مناصرو الرأسمالية، هذا الاختصاص بأنه: دراسة عمليات إدارة أو توجيه أو تنظيم أو التحكم «بالمجتمع» أو «بموارد» الأمة. ولكنهم لم يعرّفوا طبيعة هذه «الموارد»، حيث اعتبروا ملكيتها العامة أمرا محسوما، وكان الهدف المفترض من هذا الاختصاص هو دراسة كيفية استغلال هذه «الموارد» من أجل «الصالح العام». أما الحقيقة التي تقول بأن «المورد» الرئيسي هو الإنسان نفسه، وأنه كيان ذو طبيعة محددة وإمكانيات ومتطلبات خاصة، فلم يولوها إلا اهتماما سطحيا، هذا إن اهتموا بها أصلا؛ حيث اعتبروا الإنسان كعامل واحد من عوامل الإنتاج بكل بساطة، جنبا إلى جنب مع الأرض أو الغابات أو المناجم، أي: العوامل الأقل أهمية؛ وذلك لأن تركيز دراستهم كان مخصصا لتأثير وقيمة العوامل الأخرى دون النظر إلى دور الإنسان وقيمته. فالاقتصاد السياسي كان في حقيقته علما يمشي خطواته الأولى؛ ولاحظ أن الناس ينتجون ويتاجرون فأصبح لديه من المسلمات أن الناس دأبوا على هذه الحال دائما، وأنهم سيستمرون في ذلك، وتقبّل هذه الحقيقة كمقدمة منطقية دون النظر إلى أية اعتبارات أخرى، وأخذ على عاتقه حل مشكلة كيفية الوصول إلى الطريقة الأمثل لجعل «المجتمع» يتصرف بجهد الإنسان.

هنالك أسباب عديدة لنشوء هذه النظرة القبَلية عن الإنسان؛ ومنها الأخلاقيات الإيثارية، وازدياد هيمنة الدولانية السياسية على مثقفي القرن التاسع عشر. ومن الناحية النفسية تمثّل السبب الرئيسي لذلك في الفجوة ما بين الروح والجسد التي اخترقت الثقافة الأوروبية، فكان الإنتاج المادي يعتبر مهمة مهينة ذات منزلة متدنية لا ترقى إلى هموم الفكر البشري، وأنيطت بالعبيد والأقنان منذ بداية التاريخ الذي نعرفه؛ وهكذا استمرت مؤسسة العبودية بشكل أو بآخر حتى وقت متأخر في القرن التاسع عشر، حيث تم إبطالها سياسيا بسبب ظهور الرأسمالية؛ سياسيا لا فكريا.

إن مفهوم (الإنسان) كفرد حر مستقل كان غريبا تماما عن الثقافة الأوروبية التي تفشت فيها القبَلية حتى النخاع في ذلك الوقت؛ فقد كانت القبيلة في التفكير الأوروبي هي الكيان، والوحدة التي لا تتجزأ، ولم يكن الإنسان سوى خلية يمكن التصرف بها في هذه البنية، وتوافقت هذه الرؤية مع وضع الحكام والعبيد على نحو مماثل: فالحكام كان يعتقد بأنهم يمتلكون امتيازاتهم لا لشيء سوى فضيلة الخدمات التي يقدمونها للقبيلة، وهي خدمات ذات طبيعة نبيلة كالقوات المسلحة أو الدفاع العسكري بالأخص، ولكن النبيل لم يكن سوى بيدق تحركه القبيلة كما تحرك العبد: فحياته وممتلكاته تعود للملك. وهنا ينبغي التذكير بأن مؤسسة الملكية الخاصة، بالمعنى القانوني الكامل للمصطلح، ظهرت إلى الوجود بفضل الرأسمالية وحدها؛ ففي العصور التي سبقت ظهور الرأسمالية كانت الملكية الخاصة موجودة باعتبارها أمرا يفرضه (الواقع) لا (القانون)، أي بفعل العرف والفرض، وليس الحق أو التشريعات. أما في القبيلة فكان كل ما يوجد من ملكية يعود إلى رأس القبيلة (الملك) بحسب القوانين والمبادئ الناظمة، وأي حيازة للملكية كانت تتم بعد أخذ الإذن (منه)، وكان هذا الإذن عرضة للإبطال متى ما شاء الملك وكيفما أراد، ونجد على امتداد التاريخ الأوروبي حالات قام فيها الملك بمصادرة عقارات من يعصي أمره من النبلاء.

لم يتمكن المثقفون الأوروبيون أبدا من استيعاب الفلسفة الأمريكية في حقوق الإنسان استيعابا كاملا؛ حيث تكونت الفكرة المهيمنة عليهم في مجال (العتق) من تحويل مفهوم (الإنسان كعبد للدولة المطلقة التي يجسدها الملك) إلى مفهوم (الإنسان كعبد للدولة المطلقة التي يجسدها «الشعب»)، أي: التحول من (العبودية لزعيم القبيلة) إلى (العبودية للقبيلة). وهكذا لم تتمكن رؤية غير قبَلية لمفهوم الوجود أن تنفذ إلى أذهان اعتبرت ميزة التسلط على المنتجين بالقوة المادية أمرا يدل على النبل، وبالتالي لم يلاحظ المفكرون الأوروبيون حقيقة مفادها أن القرن التاسع عشر شهد تحول عبيد المطابخ إلى مخترعين للسفن البخارية، وحدّاد القرية إلى مالك مصنع لأفران الصهر، ومضوا يفكرون بمصطلحات متناقضة الكلمات من أمثال «عبودية الأجر» أو «الأثرة غير الاجتماعية عند الصناعيين الذين يأخذون الكثير من المجتمع دون أن يقدموا له شيئا في المقابل»، وذلك بناء على اعتقاد لم يتعرض للنقاش يفترض بأن الثروة منتَج يتيم الأب وتعود ملكيته للمجتمع والقبيلة.

ظل هذا الاعتقاد سليما من الانتقاد حتى يومنا هذا، حيث يمثل الافتراض الضمني الجوهري في أساس الاقتصاد السياسي المعاصر. وكمثال على هذا الاعتقاد وعواقبه، سأعرض ما جاء تحت عنوان (الرأسمالية) في الموسوعة البريطانية؛ حيث لا تعطي المقالة تعريفا للعنوان، وإنما تبدأ كما يلي:

«الرأسمالية: مصطلح يستخدم للإشارة إلى نظام اقتصادي استمر في هيمنته على العالم الغربي منذ انهيار النظام الإقطاعي. وكل نظام يدعى رأسماليا يضع منزلة أساسية للعلاقات ما بين المالك الخاص لوسائل الإنتاج غير البشرية (كالأرض والمناجم [والمصانع] وغيرها مما يطلق عليه بشكل شائع: رأس المال)، وما بين العامل الحر ولكنه ذو حصة أقل في رأس المال، حيث يبيع خدماته الوظيفية لرب العمل… وما ينتج عن المساومة من أجر هو الذي يحدد النسبة التي يتم على أساسها تقاسم الناتج الإجمالي للمجتمع بين طبقة العمال وطبقة المستثمرين الرياديين الرأسماليين».

وهنا تحضرني فقرة من خطاب شخصية (غالت) في رواية (أطلس يستريح) حيث يقول واصفا معتقدات الجماعية: «الصناعي، دعك من هذا، إذ لا يوجد شخص بهذا الاسم. فالمصنع (مورد طبيعي) حاله في ذلك حال أي شجرة أو صخرة أو بركة من الطين».

ثم تمضي الموسوعة البريطانية لتشرح أسباب نجاح الرأسمالية كما يلي:

«إن الاستخدام المثمر «للفائض الاجتماعي» كان الميزة الخاصة التي مكّنت الرأسمالية من التفوق على كل الأنظمة الاقتصادية التي سبقتها. فعوضا عن بناء الأهرام والكاتدرائيات، قرر القائمون على الفائض الاجتماعي أن يستثمروا ما لديهم في السفن والمستودعات والمواد الخام والبضائع النهائية وغيرها من الأشكال المادية للثروة، وبذلك تم تحويل الفائض الاجتماعي إلى إمكانية إنتاجية موسعة».

لقد قيل هذا عن عصر كان الأوروبيون يرزحون خلاله تحت فقر اقترب فيه معدل وفيات الأطفال من (50%)، وأدت فيه المجاعات المتكررة إلى القضاء على «فائض» (سكاني) عجزت الأنظمة الاقتصادية السابقة للرأسمالية عن إطعامه. ولكن الموسوعة البريطانية تقوم بالرغم من ذلك بالخلط بين الأنظمة الاقتصادية الممولة بمصادرة الأموال عبر الضرائب وبين الثروة المنتَجة صناعيا، فتشدد على أن (الفائض الاجتماعي) في ذلك الوقت هو الذي «قاده» أوائل الرأسماليين و»قرروا استثماره»، وأن هذا الاستثمار هو السبب في ظهور الثروة الهائلة للعصر الذي جاء بعد ذلك.

(ما) هو «الفائض الاجتماعي»؟ لا تعطي المقالة تعريفا أو شرحا لذلك، ولكن كلمة «فائض» تستلزم معيارا ما، فإذا كان الرزوح في مستوى المجاعة المزمنة فوق المعيار المعني، فماذا سيكون هذا المعيار؟ لا تقدم المقالة أية إجابة عن هذا السؤال.

ليس هنالك طبعا أي شيء يدعى «الفائض الاجتماعي»، فالثروة جميعها ينتجها شخص ما وتعود ملكيتها لشخص ما، أما «الميزة الخاصة التي مكّنت الرأسمالية من التفوق على كل الأنظمة الاقتصادية التي سبقتها» فهي (الحرية)، الكلمة التي غابت عن بلاغة نصوص الموسوعة البريطانية، والتي لم تؤدّ إلى مصادرة الثروة، وإنما إلى (خلقها).

وسيكون لي في مكان آخر تعليق إضافي حول ما جاء في تلك المقالة المشينة (وهي مشينة على مستويات عدة لا تقف عند المستوى الأكاديمي فحسب). أما في هذه النقطة، فقد أوردت ما اقتبسته منها لا لشيء إلا لإعطاء مثال واضح عن النظرة القبَلية التي تبطّن علم الاقتصاد السياسي في يومنا هذا، وهي مكون يتشاطره أعداء الرأسمالية وأبطالها على حد سواء: إذ يزود أعداءها بانسجام داخلي أكيد لطروحاتهم، وينزع أسلحة أبطالها بإعطائهم هالة رقيقة، ولكنها مدمرة، من النفاق الأخلاقي، كما يحدث في محاولتهم الدفاع عن الرأسمالية من منطلق «الصالح العام» أو «خدمة المستهلك» أو «التوزيع الأمثل للموارد»، وهنا نسأل: (لمن) تتبع هذه الموارد؟

إذا أردنا التوصل إلى فهم الرأسمالية، فيجب علينا أن ندقق في هذه (النظرة القبَلية) ونتناولها بالنقاش. فالبشرية ليست كيانا، أو كائنا حيا، أو شجيرة مرجانية؛ أما الكيان الذي تتضمنه عملية الإنتاج والتجارة فهو (الإنسان)، ومن خلال دراسة الإنسان، وليس ذلك التراكم الهش المعروف باسم «المجتمع»، ينبغي أن ينطلق أي علم يندرج تحت قائمة العلوم الإنسانية. وهذه النقطة تشكل واحدا من أوجه الاختلاف الابستيمولوجية ما بين العلوم الإنسانية والعلوم المادية، وواحدا من أسباب إصابة العلوم الإنسانية بعقدة نقص شديدة تجاه العلوم المادية؛ فالعلوم المادية لن تسمح لنفسها (حتى الآن على الأقل) بتجاهل مادة بحثها أو الالتفاف عليها، وارتكاب ذلك يشبه ما سيحدث لعلم الفلك إذا ركز جهوده على التحديق في السماء ورفض دراسة كل نجم أو كوكب أو قمر لوحده، أو ما سيحدث لعلم الطب إذا درس الأمراض دون أية معرفة أو معيار للصحة وجعل المستشفى ككل مادة أساسية للدراسة دون التركيز على كل مريض لوحده.

إن هنالك الكثير مما يمكن أن نتعلمه حول المجتمع من خلال دراسة الإنسان، ولكنها عملية لا يمكن أن تتم بالمقلوب؛ إذ لا يمكن تعلم أي شيء حول الإنسان من خلال دراسة المجتمع، أو دراسة العلاقات الداخلية ما بين الكيانات التي لا يوجد لها تحديد أو تعريف، ولكن ذلك يبقى منهجا يتبناه معظم مختصي الاقتصاد السياسي. حتى أن موقفهم هذا يصل في الواقع إلى مرحلة يطرح فيها اقتراحا ضمنيا غير مكتوب ينص على أن «الإنسان هو ما يلائم المعادلات الاقتصادية». وبما أن من الواضح عدم تلاؤم الإنسان مع هذه المعادلات، فإن هذا يقودنا إلى حقيقة مثيرة للفضول مفادها أنه على الرغم من الطبيعة العملية لعلم الاقتصاد السياسي، فإن المختصين به عاجزون بشكل غريب عن ترجمة عباراتهم المجردة إلى واقع ملموس، وهذا يقودنا إلى نوع محير من ازدواج المعايير أو تعدد المنطلقات في طريقتهم لعرض طبيعة الإنسان والأحداث: فعندما يدرسون (الإسكافي) لا يصعب عليهم الاستنتاج بأنه يعمل ليكسب لقمته، ولكن مكانتهم كمختصين في علم الاقتصاد السياسي وبتأثير من النظرة القبَلية يعلنون بأن هدفه (وواجبه) من عمله هو تزويد المجتمع بالأحذية؛ وإذا رأوا متسولا في زاوية أحد الشوارع فسيعرفون بأنه يتسول، ولكن علم الاقتصاد السياسي يجعله «مستهلكا سياديا»؛ وإذا استمعوا إلى البيان الشيوعي وهو يعلن بأن كل أشكال الملكية ينبغي أن تكون عائدة للدولة فسيرفضونه بكل تأكيد ويحسون (بصدق) أنهم سيحاربون الشيوعية حتى الموت، ولكن علم الاقتصاد السياسي يجعلهم يتحدثون عن واجب الحكومة في تحقيق «إعادة توزيع الثروة بشكل عادل»، ويتحدثون عن رجال الأعمال باعتبارهم أفضل وأكفأ جهة توضع في عهدتها «الموارد الطبيعية» للأمة.

هذه الصورة ترينا ما يمكن أن تتسبب به نظرة أساسية بالإضافة إلى الإهمال الفلسفي، فهذا هو ما تسببت به النظرة القبَلية التي تحدثنا عنها في ما سبق. وللتخلص من هذه النظرة والبدء من جديد في مقاربة الاقتصاد السياسي وتقييم الأنظمة الاجتماعية المختلفة، ينبغي البدء بتعريف طبيعة الإنسان، أي: الخصائص الأساسية التي تميزه عن كافة الكائنات الحية الأخرى. وتتمثل أهم خصائص الإنسان الأساسية في قدراته العقلية، حيث يشكل عقل الإنسان وسيلته الرئيسية للبقاء، ووسيلته الوحيدة لاكتساب المعرفة…

«فالإنسان لا يمكنه تحقيق البقاء كما تفعل الحيوانات من خلال توجيهات إحساسه فحسب… ولا يستطيع تأمين أبسط احتياجاته المادية دون عملية فكرية، وهو يحتاج إلى هذه العملية ليكتشف كيف يزرع غذاءه أو يصنع سلاحه للصيد. وقد يقوده إحساسه إلى كهف إذا توفر، ولكنه يحتاج إلى عملية فكرية لبناء أبسط مأوى له. ولا يمكن لأي إحساس أو «غريزة» أن ترشده إلى كيفية إيقاد النار، أو حياكة القماش، أو تشكيل الأدوات، أو صناعة عجلة أو طائرة، أو إجراء عملية استئصال للزائدة الدودية، أو إنتاج مصباح ضوئي أو صمام الكتروني أو مسرع ذرات أو صندوق من أعواد الثقاب. إن حياة الإنسان تعتمد على هذه المعرفة التي لا يمكن توفيرها إلا من خلال فعل واعٍ مقصود وعملية فكرية.» (آين راند: أخلاقيات الموضوعاني، فضيلة الأثرة)

إن العملية الفكرية هي عملية شديدة التعقيد تؤدي إلى تحديد الأشياء وتكامل معلوماتنا عنها، ولا يمكن لغير عقل الفرد أن يقوم بها؛ إذ ليس هنالك شيء اسمه الدماغ الجماعي، والإنسان يمكنه أن يتعلم من إنسان آخر، ولكن هذا التعلم يتطلب عملية فكرية من جانب كل متعلم كفرد لوحده؛ كما يمكن للناس أن يتعاونوا لاكتشاف معرفة جديدة، ولكن هذا التعاون يتطلب الممارسة المستقلة للقدرات العقلية التي يمتلكها كل عالم كفرد لوحده. إن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يمكنه بث وتوسعة مخزونه المعرفي من جيل لآخر، ولكن هذا البث يتطلب عملية فكرية من جانب كل مستقبِل كفرد لوحده، ونجد أمثلة لهذا في انهيار الحضارات، والحقب المظلمة في تاريخ التقدم البشري، وذلك عندما تلاشت التراكمات المعرفية من حياة الناس الذين كانوا عاجزين عن التفكير، أو غير راغبين به، أو ممنوعين منه.

من أجل الاستمرار بالحياة يسعى كل كائن حي إلى اتباع مجموعة معينة من التصرفات التي تقتضيها طبيعته؛ أما التصرف المطلوب لاستمرار حياة الإنسان فهو ذو طبيعة فكرية في الأساس؛ وكل ما يحتاجه الإنسان ينبغي عليه أن يكتشفه عن طريق العقل وينتجه عن طريق الجهد، فالإنتاج هو استخدام العقل لحل مشكلة البقاء.

وإذا لم يقرر البعض أن يفكروا، فعندها لا يمكنهم البقاء إلا عبر تقليد وتكرار عمل روتيني اكتشفه الآخرون، ولكن هؤلاء الآخرون كان عليهم أن يكتشفوا هذا العمل أولا، وإلا هلك الجميع. وإذا لم يقرر البعض أن يفكروا أو يعملوا، فعندها لا يمكنهم البقاء إلا عبر نهب البضائع التي أنتجها الآخرون، ولكن هؤلاء الآخرون كان عليهم أن ينتجوا هذه البضائع أولا، وإلا هلك الجميع. وبغض النظر عن القرار الذي يتخذه أي إنسان أو مجموعة في هذه القضية، وبغض النظر عن المنهج الأعمى أو غير العقلاني أو الشرير الذي سيتبعونه، فلن تتغير الحقيقة القائلة بأن العقل هو وسيلة الإنسان للبقاء، وأن نجاح الإنسان أو فشله، وبقاءه أو فناءه، يتحدد بالتناسب مع عقلانيته.

وبما أن المعرفة والتفكير والتصرف العقلاني من خصائص الفرد، وبما أن قرار ممارسة قدراته العقلية يعتمد على الفرد، فإن بقاء الإنسان يتطلب أن يتحرر من يفكر مِن تدخُّل مَن لا يفكر. وبما أن الناس غير منزهين عن الجهل أو الخطأ فيجب أن يكونوا أحرارا في التأييد أو المعارضة، والتعاون أو السعي نحو عمل مستقل خاص بهم، وهذا طبقا لتقييماتهم العقلية الخاصة بهم؛ فالحرية هي المتطلب الأساسي لعقل الإنسان.

إن العقل الحصيف لا يعمل تحت الإجبار؛ فهو لا يُخضع فهمه للواقع إلى أوامر الآخرين أو توجيهاتهم أو تحكمهم؛ وهو لا يضحي بما لديه من معرفة ورؤية عن الحقيقة أمام آراء الآخرين أو تهديداتهم أو أمانيهم أو خططهم أو «وضعهم المعيشي». إن هذا العقل قد يعرضه الآخرون إلى المعوقات أو الإسكات أو الحظر أو السجن أو التدمير، ولكنه لن ينصاع للإجبار، فالمسدس ليس حجة مقنعة (ولنا في غاليليو مثال ورمز عن هذا الموقف).

إن عمل أمثال هذا العقل وكرامته غير المدنسة لدى المبدعين الصامدين هو الذي أنتج كل ما لدى البشرية من معارف ومنجزات (راجع روايتنا: المنبع)، وتدين البشرية لها بالفضل في بقائها (راجع روايتنا: أطلس يستريح). وهذا المبدأ نفسه يسري على جميع البشر مهما اختلفت مستويات قدراتهم وطموحاتهم، فبقدر ما يكون المرء موجها وفق تقييمه العقلاني تجده يتصرف وفقا لمتطلباته طبيعته، كما ينجح بالقدر نفسه أيضا في إنجاز شكل إنساني من البقاء والرفاهية؛ وكذلك فبقدر ما يتصرف دون عقلانية يأتي إنجازه في عملية التدمير الذاتي.

إن الاعتراف الاجتماعي بالطبيعة العقلانية للإنسان، أي: الصلة ما بين بقائه واستخدامه لعقله، هو جوهر مفهوم (الحقوق الفردية). وهنا ينبغي التذكير أولا بأن «الحقوق» مبدأ أخلاقي يعرّف ويقر حرية الإنسان بالتصرف في سياق اجتماعي، وأنها مشتقة من طبيعة الإنسان ككائن عاقل وتمثل شرطا ضروريا لإنجاز نمطه الخاص من البقاء. كذلك ينبغي التذكير بأن حق الحياة هو منبع الحقوق جميعها بما فيها حق الملكية. ولمناقشة أكثر استفاضة في موضوع الحريات، أحيل القارئ إلى مقالة (حقوق الإنسان) في ملحق هذا الكتاب، وإلى مقالة («الحقوق» في ظل الجماعة) في كتاب (فضيلة الأثرة).

أما في ما يتصل بموضوع علم الاقتصاد السياسي، فإن هذا العلم يتطلب تأكيدا خاصا: أن الإنسان عليه أن يعمل وينتج من أجل تدبر معيشته. إن على الإنسان أن يتدبر معيشته بواسطة جهده الخاص وعلى ضوء توجيهات عقله، ومن لم يكن بإمكانه أن يتصرف بثمرة جهده، فليس بإمكانه أن يتصرف بهذا الجهد؛ ومن لم يكن بإمكانه أن يتصرف بجهده، فليس بإمكانه أن يتصرف بحياته؛ فمن دون حقوق الملكية لا يمكن ممارسة الحقوق الأخرى. وإذا أخذنا هذه الحقائق بعين الاعتبار فسيبرز أمامنا السؤال الآتي: ما هو النظام الاجتماعي الملائم للإنسان؟

إن النظام الاجتماعي هو مجموعة من المبادئ الأخلاقية السياسية الاقتصادية التي تتمثل في قوانين النظام ومؤسساته وحكومته، وتحدد العلاقات وشروط التعاون بين مجموعة من الناس تعيش في نطاق جغرافي معين. ومن الواضح أن هذه الشروط والعلاقات تعتمد على تعريف معين لطبيعة الإنسان، وأنها ستكون مختلفة إذا كانت تتعلق بمجتمع من الكائنات العاقلة أو مستعمرة من النمل. ومن الواضح أيضا أن الأمر سيكون مختلفا بصورة جذرية لو تعامل الناس مع بعضهم البعض كأفراد أحرار مستقلين على أساس أن كل إنسان هو غاية بحد ذاته، أو كان هذا التعامل على أساس أنهم أعضاء من رزمة يعتبر فيها كل منهم الآخر كوسيلة لتحقيق غاياته (هو) وغايات «الرزمة ككل».

هنالك سؤالان أساسيان فقط (أو جانبان للسؤال السابق نفسه) يحددان طبيعة أي نظام اجتماعي، وهما:

1.هل يعترف هذا النظام الاجتماعي بالحقوق الفردية؟

2.هل يحظر هذا النظام الاجتماعي تدخُّل القوة المادية في العلاقات البشرية؟

والجواب عن السؤال الثاني هو التطبيق العملي للجواب عن السؤال الأول.

يمكننا أن نصوغ السؤال الأول كما يلي: هل الإنسان فرد ذو سيادة يمتلك شخصه وعقله وحياته وعمله وإنتاجه، أم أنه ملك للقبيلة (الدولة، المجتمع، الجماعة) التي قد تتصرف به كما تشاء وتملي عليه معتقداته وترسم له مسار حياته وتتحكم بعمله وتصادر إنتاجه؟ هل للإنسان (الحق) بالوجود لصالحه الخاص، أم أنه يولد عبدا يفترض به العمل كخادم يستمر في شراء حياته من خلال خدمة القبيلة لكن دون أن يتمكن أبدا من امتلاك حياته على نحو حر وكامل؟

هذا هو السؤال الأول الذي ينبغي أن نوفر له الإجابة، أما ما بقي فليس إلا نتائج وتطبيقات عملية؛ فالقضية الأساسية هي: هل الإنسان حر؟ ولم يمر على تاريخ الإنسان نظام اجتماعي أجاب عن هذا السؤال بـ(نعم) غير الرأسمالية.

إن الرأسمالية نظام اجتماعي يقوم على الاعتراف بالحقوق الفردية، بما فيها حقوق الملكية، حيث تكون فيه كافة أنواع الملكية مملوكة للجهات الخاصة. والاعتراف بالحقوق الفردية يستدعي إبعاد القوة المادية عن التدخل بالعلاقات البشرية؛ ففي الأساس لا يمكن للحقوق أن تنتهك بغير القوة. وفي المجتمع الرأسمالي لا يمكن لأي إنسان أو مجموعة أن (تبادر) باستخدام القوة المادية ضد الآخرين. والوظيفة الوحيدة للحكومة في هذا المجتمع هي مهمة حماية حقوق الإنسان، أي: مهمة حمايته من القوة المادية؛ حيث تتصرف الحكومة باعتبارها وكيلا عن الفرد في عملية الدفاع عن النفس، وليس لها أن تستخدم القوة إلا كفعل انتقامي يوجه حصرا ضد من بادر إلى استخدامها أولا؛ وبهذا تكون الحكومة هي وسيلة وضع الاستخدام الانتقامي للقوة تحت سيطرة (موضوعية). ومن أراد الاستفاضة حول هذا الموضوع فليراجع مقالتنا (طبيعة الحكومة) في ملحق الكتاب.

إن الرأسمالية تعترف بالحقيقة الأساسية المجردة لطبيعة الإنسان وتعمل على حمايتها، وهي حقيقة تمثل الصلة ما بين بقائه واستخدامه لعقله.

كل العلاقات البشرية في المجتمع الرأسمالي طوعية؛ فالناس أحرار في أن يتعاونوا مع بعضهم أو أن لا يتعاونوا، وأن يتعاملوا مع بعضهم أو أن لا يتعاملوا، وذلك بحسب ما تمليه عليهم تقييماتهم ومعتقداتهم ومصالحهم الفردية الخاصة. إنهم لا يتعاملون مع بعضهم إلا وفق شروط العقل وبواسطته، أي: بواسطة النقاش، والإقناع، والاتفاق (العَقْدي)، وبقرار طوعي تنتج عنه فائدة مشتركة. إن حق الاتفاق مع الآخرين ليس مشكلة في أي مجتمع، ولكن (حق الخلاف) هو الذي يلعب الدور الحاسم؛ ومؤسسة الملكية الخاصة هي التي تحمي وتطبق حق الخلاف، وبذلك تحافظ على فتح المجال أمام أثمن خصائص الإنسان (أثمنها شخصيا واجتماعيا و»موضوعيا»)، وهو: العقل المبدع. وهذا هو الفارق الجذري ما بين الرأسمالية والجماعية.

إن القوة التي تقرر تأسيس الأنظمة الاجتماعية وتغييرها وتطورها وانهيارها هي الفلسفة. وفي هذا السياق يكون دور الفرصة والصدفة والعرف مماثلا لدورها في حياة الفرد: حيث تقف قواها في تناسب عكسي مع قوة الجهاز الفلسفي للثقافة أو (الفرد)، وتنمو مع انهيار الفلسفة. ولهذا ينبغي الاستعانة بالفلسفة لتعريف وتقييم طبيعة أي نظام اجتماعي. وإذا استعنّا بفروع الفلسفة الأربعة لتحديد الأسس الأربعة للرأسمالية، فستكون كما يلي:

1.ميتافيزيقيا: متطلبات طبيعة الإنسان وبقائه.

2.معرفيا: العقل.

3.أخلاقيا: الحقوق الفردية.

4.سياسيا: الحرية.

وهذا الطرح يشكل في الحقيقة أساسا لمقاربة ملائمة لعلم الاقتصاد السياسي وفهم الرأسمالية، دون الاعتماد على النظرة القبَلية الموروثة من عصور ما قبل التاريخ.

ولا يمكن إيجاد تبرير «عملي» للرأسمالية في ادعاء أنصار الجماعية بأنها تحقق «التوزيع الأمثل للموارد الوطنية»، فالإنسان ليس من «الموارد الوطنية» وكذلك عقله، ومن دون القوة المبدعة للذكاء البشري تبقى المواد الخام دون فائدة. كما لا يمكن العثور على تبرير أخلاقي للرأسمالية في ادعاء أنصار الإيثارية بأنها تمثل السبيل الأمثل لتحقيق «الصالح العام»؛ صحيح أن الرأسمالية تحقق ذلك، إن كان لهذه العبارة الشهيرة من معنى أساسا، ولكن ذلك ليس إلا نتيجة ثانوية لعملها؛ فالتبرير الأخلاقي للرأسمالية يتمثل في أنها النظام الوحيد الذي ينسجم مع الطبيعة العقلانية للإنسان، وأنها تحمي بقاء الإنسان بوصفه إنسانا، وأن مبدأها الأساسي هو (العدالة).

يقوم كل نظام اجتماعي، بشكل صريح أو خفي، على أساس نظرية أخلاقية معينة؛ وقد جاءت فكرة «الصالح العام» القبَلية كتبرير أخلاقي لمعظم الأنظمة الاجتماعية وكافة الأنظمة الاستبدادية في التاريخ، وتتحدد درجة عبودية أو حرية المجتمع من خلال مقدار استخدام أو تجاهل هذا الشعار القبَلي. وهذا المصطلح («الصالح العام» أو «المصلحة العمومية») هو مفهوم غير معرّف ولا يمكن تعريفه، إذ ليس هنالك كيان يمكن أن ندعوه «القبيلة» أو «المصلحة العمومية»، فالقبيلة (أو العموم أو المجتمع) ليست إلا عددا من الأفراد، وبهذا الاعتبار لا يمكن أن يكون أي شيء من «صالح» القبيلة؛ فما هو «صالح» أو «قيمة» يتعلق بالكائن الحي كفرد فقط، وليس بكتلة من العلاقات لا روح لها.

إن مفهوم «الصالح العام» لا يحتوي على أي معنى إلا إذا ناقشناه بشكل حرفي، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون له معنى (حصيلة الصالح التي يساهم فيها جميع الأفراد)، ولكن هذا المفهوم يفقد معناه أيضا باعتبارات المعايير الأخلاقية، حيث لا يوفر إجابة عن السؤال الآتي: ما هو صالح الفرد وكيف يمكن تحديده؟

على الرغم مما سبق فإن المعنى الحرفي ليس أساسا لاستخدام هذا المفهوم عموما؛ وإنما يستمد قبوله بشكل خاص من طبيعته المطاطة الخيالية العصية على التعريف، وهذا لا يوفر له دليلا أخلاقيا، وإنما ينجيه من مقاييس الأخلاقيات. وبما أن هذا (الصالح) لا يمكن نفخ الروح فيه، فإنه يتحول إلى غنيمة أخلاقية سهلة لمن يحاولون نفخ الروح فيه. وعندما يوهب «الصالح العام» في المجتمع منزلة تختلف عن منزلة «الصالح الفردي» وتتفوق عليها، فهذا يعني أن ما هو في صالح (البعض) له الأولوية على صالح الآخرين الذين يوضعون في منزلة الأضاحي. كما إن هذا المصطلح يحمل افتراضا خفيا مفاده أن «الصالح العام» يعني «صالح الأغلبية» في مواجهة الأقلية أو الفرد. ولاحظ معي هنا أهمية حقيقة (خفاء) هذا الافتراض، فحتى أشد الآراء المناصرة للجماعية يبدو عليها الإحساس باستحالة تبرير هذا المفهوم أخلاقيا، ولكن «صالح الأغلبية» أيضا ليس إلا ذريعة ووهما، وذلك لأن انتهاك حقوق الفرد يعني نقض كل الحقوق، وهذا المفهوم يوفر للأغلبية العاجزة قوة أية عصابة تدعي لنفسها منزلة «صوت المجتمع» وتنتقل إلى الحكم بالقوة المادية إلى أن تخلعها عن السلطة عصابة أخرى تستخدم الوسائل نفسها.

إذا بدأنا بتعريف صالح الفرد، فلن يكون أي مجتمع مقبولا إلا الذي يكون فيه هذا الصالح متحققا و(قابلا للتحقيق)، لكن إذا بدأنا بقبول «الصالح العام» كأمر بديهي واعتبرنا صالح الفرد كنتيجة محتملة غير ضرورية، فعندها سينتهي بنا الحال إلى حالة عبثية مرعبة كما في الاتحاد السوفييتي الذي يتظاهر بأنه يكرس جهوده «للصالح العام» بينما يعيش الشعب بأكمله، باستثناء زمرة حاكمة ضئيلة، حالة لاإنسانية من البؤس طوال أكثر من جيلين من الناس.

ما الذي يدفع الضحية، والأسوأ: المراقب، إلى الإقرار بهذه الفاجعة ومثيلاتها في التاريخ دون أن يتخلى عن خرافة «الصالح العام»؟ إن الجواب يكمن لدى الفلسفة، وبالأخص: النظريات الفلسفية حول طبيعة القيم الأخلاقية.

يوجد بشكل أساسي ثلاث مدارس فكرية تناقش طبيعة (الصالح): الجوهرية، والذاتية، والموضوعية. حيث ترى النظرية الجوهرية أن الصالح ليس من طبيعة الأشياء أو الأفعال بغض النظر عن السياق أو النتيجة، والمنفعة أو المضرة التي يمكن أن تتسبب بها للأطراف المشاركة. فهذه النظرية تفصل ما بين مفهوم «الصالح» ومن ينتفع منه، وما بين مفهوم «القيمة» ومن يقوم بشؤون التقييم وغايتها، من خلال الزعم بأن الصالح صالح بذاته ولذاته.

أما (النظرية الذاتية) فترى أن (الصالح) ليست له علاقة بحقائق الواقع، وأنه نتاج وعي الإنسان، وأنه ينشأ عن أحاسيسه أو رغباته أو «حدسه» أو نزواته، وأنه ليس إلا «شرطا اعتباطيا» أو «التزاما عاطفيا». وبينما ترى النظرية الجوهرية أن «الصالح» يتواجد في شيء من الواقع مستقلا عن وعي الإنسان؛ ترى النظرية الذاتية أن الصالح يتواجد في وعي الإنسان مستقلا عن الواقع.

و(النظرية الموضوعية) ترى أن الصالح ليس من صفات «الأشياء بذاتها»، ولا من صفات الحالات العاطفية للإنسان، وإنما هو تقييم لحقائق الواقع من خلال وعي الإنسان وفقا لمعيار عقلاني للقيمة، ونعني بالعقلانية في هذا السياق: الاستقاء من حقائق الواقع والمصادقة على النتائج عبر عملية عقلية. كما ترى هذه النظرية أن الصالح جانب من جوانب الواقع في ما يتعلق منه بالإنسان، وأنه ينبغي أن يكتشفه الإنسان لا أن يخترعه. وهنا يبرز سؤال أساسي حول علاقة هذه النظرية بمفهوم القيم: لمن تكون قيمة الصالح؟ ومن أجل ماذا؟

إن النظرية الموضوعية لا تسمح بإسقاط السياق من النقاش («سرقة السياق»)، فلا تسمح بالفصل ما بين «القيمة» و»الغاية»، أو بين الصالح والجهات المنتفعة منه، أو بين أفعال الإنسان وعقله.

ومن بين كافة الأنظمة الاجتماعية التي ظهرت خلال تاريخ البشرية نجد أن الرأسمالية هي النظام الوحيد من بينها الذي تأسس على نظرية موضوعية للقيم. أما النظريتين الجوهرية والذاتية (أو مزيجهما) فيشكلان أساسا ضروريا لكل نظام ديكتاتوري أو استبدادي أو أي نوع من أنواع الدولة المطلقة. وسواء أكانت هاتان النظريتان تحتلان موقعهما في الوعي (بشكل صريح كمعتقد فلسفي لدى الفيلسوف) أو في اللاوعي (بشكل فوضوي خفي نجد صداه في أحاسيس الإنسان العادي)، فإن هذه النظريات تمكّن المرء من أن يعتقد بأن الصالح منفصل عن عقل الإنسان ومن الممكن تحقيقه بالقوة المادية.

إذا اعتقد المرء بأن الصالح جوهري في تصرفات بعينها، فإنه لن يتردد في إجبار الآخرين على القيام بها. وإذا اعتقد بأن ما يصدر عن هذه التصرفات من منفعة أو مضرة ليست له أهمية، فإن بحرا من الدماء سيكون دون أهمية في نظره أيضا. وإذا اعتقد بأن المنتفعين من هذه التصرفات ليست لهم مكانة صميمية (أو يمكن استبدالهم بغيرهم)، فسيعتقد بأن ارتكاب مجزرة دموية واجب أخلاقي يخدم صالحا «أعلى». إن النظرية الجوهرية هي التي أنجبت روبسبير ولينين وستالين وهتلر، وليس من الصدفة إذا علمنا أن ايكمان من معتنقي الفلسفة الكانتية.

إذا اعتقد الإنسان بأن (الصالح) قضية اعتباطية وخيار ذاتي فإن مسألة الصالح والطالح (الخير والشر) تصبح بالنسبة له قضية: أحاسيسي أم أحاسيسهم؟ إذ ليس هنالك إمكانية لديه لإقامة الجسور أو التفاهم أو التواصل. إن العقل هو الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الناس، والواقع المُدرَك بموضوعية هو الإطار المشترك الوحيد الذي يمكن أن يرجع الناس إليه، وعندما يفقد هذان العنصران فعاليتهما في ميدان الأخلاق (من خلال الاعتقاد بعدم صميميتهما)، عندها تصبح القوة هي الطريقة الوحيدة للإنسان في التعامل مع الآخرين. وإذا أراد المؤمن بالنظرية الذاتية أن يسعى لتحقيق بعض المثل الاجتماعية العليا الخاصة به فسيشعر حينها باستحقاق أخلاقي لإجبار الناس «لصالحهم هم» انطلاقا من إحساسه بأنه على حق وأنه لا يقف في طريقه غير أحاسيسهم الضالة. وهكذا يلتقي أتباع المدرستين (الجوهرية والذاتية) ويمتزجون على مستوى الممارسة (يمتزجون على أساس نفسيتهم المعرفية أيضا: وإلا، فبأي وسيلة يكتشف أخلاقيو المدرسة الجوهرية «صالحهم» الغامض إلا بالحدس الخاص غير العقلاني والرؤى الروحية، أي: أحاسيسهم؟). ولا يمكن البت في ما إذا كان أي أحد قادرا على الاعتقاد بأي من هاتين النظريتين كمعتقدات حقيقية إن وصل إليها بطريق الخطأ؛ ولكن كليهما يقومان بتوفير مبرر لشهوة السلطة والحكم بالنار والحديد، مما ينتج عنه إطلاق الديكتاتور التالي ونزع السلاح من أيدي ضحاياه.

إن النظرية الموضوعية للقيم هي النظرية الأخلاقية الوحيدة التي لا تتوافق مع الحكم بالقوة. والرأسمالية هي النظام الوحيد المؤسس ضمنا على نظرية موضوعية للقيم، والمأساة التاريخية تتمثل في أن هذا الأمر لم يوضّح أبدا؛ فلو علم المرء أن الصالح موضوعي (أي أنه يتحدد وفق طبيعة الواقع ولكنه يُكتشف بعقل الإنسان) فسيعلم حينها أن أية محاولة لتحقيق الصالح باستخدام القوة المادية تعد تناقضا هائلا يتنافى مع مبادئ الأخلاق قاطبة لأنه يدمر قدرة الإنسان على تمييز الصالح، أي: قدرته على معرفة القيم. إن القوة تحبط التقييم العقلاني وتشله، لأنها تطلب من المرء أن يتصرف بخلاف ما يمليه هذا التقييم، فينتهي إلى حال من العقم الأخلاقي. إن القيمة التي يفرض على المرء اتباعها على حساب استسلام عقله، ليست قيمة لأي كان؛ فمن أُجبر على إطفاء جذوة عقله لا يمكنه تقييم القيمة أو اختيارها. وإن محاولة تحقيق الصالح بالقوة تشبه محاولة إعطاء معرض من اللوحات لإنسان مقابل إزالة عينيه. إن القيم لا توجد (ولا يمكن أن تُقيّم) خارج السياق الكامل لحياة الإنسان واحتياجاته وأهدافه ومعرفته.

يمكنك أن تجد الرؤية الموضوعية للقيم في كافة أنحاء المجتمع الرأسمالي؛ فالإقرار بالحقوق الفردية يعني الإقرار بحقيقة مفادها أن الصالح ليس مفهوما مجردا يسمو على الوصف ضمن نطاق روحي ما، وإنما هو قيمة تتعلق بالواقع، والأرض التي نعيش عليها، وحياة كل كائن بشري كفرد (لاحظ حق السعي إلى السعادة). إنه يتضمن أن الصالح لا يمكن فصله عن المنتفعين منه، وان الإنسان يجب أن لا يعتبر قابلا للاستبدال، وأن لا يحاول أي إنسان أو قبيلة أن يحقق صالح البعض على حساب إفناء الآخرين.

والسوق الحرة تمثل التطبيق الاجتماعي لنظرية موضوعية للقيم، وبما أن القيم ينبغي أن تكتشف بعقل الإنسان، فيجب أن يكون الناس أحرارا في اكتشافها: بأن يفكروا ويدرسوا ويترجموا معرفتهم إلى شكل مادي، ويقدموا منتجاتهم للتجارة، وأن يقيّموا هذه المنتجات ويختاروا منها سواء أكانت على هيئة سلع مادية أم أفكار، رغيفا من الخبز أم معتقدا فلسفيا. وبما أن القيم تتأسس ضمن سياق معين، فإن كل شخص ينبغي عليه أن يقيّم لنفسه في سياق معرفته وأهدافه ومصالحه الخاصة. وبما أن القيم تتحدد من خلال طبيعة الواقع، فإن الواقع هو الذي يلعب دور الحكَم المطلق: فإذا كان تقييم المرء مصيبا حصل على جائزته، وإذا كان مخطئا فسيكون الضحية الوحيدة لخطئه.

إن التمييز بين منظار كل من النظريات الجوهرية والذاتية والموضوعية للقيم يحتل أهمية خاصة عندما يتعلق الأمر بالسوق الحرة؛ فالقيمة السوقية لمنتَج ما (ليست) قيمة جوهرية، فهي ليست «قيمة بذاتها» موجودة لوحدها في الفراغ. والسوق الحرة لا ترفع عينيها عن السؤال التالي: ذات قيمة (بالنسبة لمن)؟ وفي الإطار الواسع للموضوعية لا تعكس القيمة السوقية للمنتج قيمته (الموضوعية فلسفيا)، وإنما قيمته (الموضوعية اجتماعيا) فحسب. وبعبارة «الموضوعية فلسفيا» أعني قيمة مقدرة على أساس أفضل ما يتمكن منه الإنسان، أي: وفق معيار الذهن الأكثر عقلانية والذي يمتلك أعظم المعارف في ميدان ما وزمان ما وسياق محدد (إذ لا يمكن تقدير قيمة أي شيء في سياق غير محدد). وعلى سبيل المثال: يمكن تقديم برهان عقلاني على أن الطائرة (موضوعيا) ذات قيمة أكبر للإنسان (الإنسان في أفضل حالاته) بما لا يقارن مع قيمة الدراجة، وأن كتابات فيكتور هوغو ذات قيمة أكبر لا تقارن مع قيمة مجلات الإشاعات، ولكن إذا كان الإنسان المقصود ذو قدرة فكرية لا تكاد تستمتع إلا بهذه المجلات، فليس هنالك من سبب يدعو لإنفاق ممتلكاته الضئيلة، وحصيلة جهده (هو)، على كتب لا يستطيع قراءتها، أو على تمويل صناعة الطائرات عندما لا تحتاج تنقلاته إلى أكثر مما توصله الدراجة إليه. كذلك، فليس هنالك من سبب يوجب على بقية البشرية أن تتوقف عند مستوى ذوقه الأدبي، أو قدراته الهندسية، أو دخله؛ فالقيم لا يمكن تتحدد بناء على صدور مرسوم أو تصويت أغلبية.

وكما أن عدد المناصرين لا يقدم دليلا على صحة الفكرة أو بطلانها، أو على جدارة عمل فني أو تدني شأنه، أو على كفاءة منتَج أو رداءته؛ فإن القيمة التي تعطيها السوق الحرة للبضائع أو الخدمات لا تمثل بالضرورة قيمتها الموضوعية فلسفيا، وإنما قيمتها (الموضوعية اجتماعيا) فحسب، أي: محصلة التقييمات الفردية لكل الأشخاص المتضمنين في التجارة في زمان معين، ومحصلة ما قاموا بتقييمه (هم)، كل منهم في سياق حياته الخاصة به. وهكذا فإن من ينتج أحمر الشفاه سيجني ثروة أكبر ممن ينتج المجهر، حتى وإن كان من الظاهر عقليا أن المجهر ذو قيمة علمية أكبر من قيمة أحمر الشفاه، ولكن بالنسبة (لمن)؟ فالمجهر ليست له قيمة بالنسبة لسكرتيرة تخطو أولى خطواتها المهنية، أما أحمر الشفاه فقد يعني بالنسبة لها الفرق ما بين الثقة بالنفس والتردد، وما بين الجاذبية والقبح.

لكن هذا لا يعني أن القيم التي تحكم السوق الحرة ذات طبيعة (ذاتية)، فإذا أنفقت تلك السكرتيرة كل ما تجنيه على مواد التجميل دون أن يبقى ما يكفي لاستخدام المجهر لدى زيارة الطبيب (عند الحاجة)، عندها ستتعلم طريقة أفضل لتنظيم دخلها؛ وهنا تلعب السوق الحرة دور المعلم: إذ لا يمكن لهذه السكرتيرة أن تعاقب الآخرين على أخطائها، وإذا نظمت ميزانيتها بعقلانية فسيكون المجهر حاضرا دائما لخدمة احتياجاتها الخاصة (ولا شيء آخر). وبقدر ما يكون الأمر متعلقا بها، فإنها غير مضطرة إلى دفع الضرائب لبناء مستشفى كامل، أو مختبر أبحاث، أو سفينة فضاء لاستكشاف القمر. ففي نطاق قدرتها الإنتاجية الخاصة تقوم فعلا بدفع جزء من تكلفة الإنجازات العلمية (عندما) تحتاج إليها (وبالقدر الذي يلبي حاجتها). إنها غير ملزمة «بواجب اجتماعي» ، وحياتها الخاصة بها هي مسؤوليتها الوحيدة، والشيء الوحيد الذي يطلبه النظام الرأسمالي منها هو ما تطلبه (الطبيعة) منها، وهو: العقلانية، أي: أن تعيش وتتصرف بما يحقق الأفضل وفق تقييمها الخاص.

ضمن كل صنف من السلع والخدمات التي توفرها السوق الحرة، يحصل المزوّد الذي يؤمِّن المنتَج الأفضل بالسعر الأقل على العائد المالي الأكبر في (هذا) المجال، أي: لا بشكل آلي ولا فوري، ولا بسبب صدور مرسوم بذلك، وإنما بفضل السوق الحرة التي تعلّم كل مشترك فيها أن يبحث عن (الأفضل موضوعيا) ضمن مجال تنافسه، وهكذا تعاقِب من يعمل وفق اعتبارات غير عقلانية.

لاحظ معي الآن كيف أن السوق الحرة لا تنزل بالناس إلى مستوى مشترك، وذلك لأن معيار (الأغلبية) الفكري لا يحكم السوق الحرة أو المجتمع الحر، وانتبه إلى أن الأشخاص الاستثنائيين كالمبدعين وعمالقة الفكر لا يمكن أن تنخفض منزلتهم، في السوق الحرة، بفعل الأغلبية. وفي الحقيقة، إن أعضاء هذه الأقلية الاستثنائية هم الذين يرفعون كامل المجتمع الحر إلى مستوى إنجازاتهم الخاصة، بينما يرتفعون هم أعلى وأعلى.

إن السوق الحرة عبارة عن عملية مستمرة لا يمكن إيقافها، وعملية تصاعدية تطلب الأفضل (والأكثر عقلانية) من كل شخص وتكافئه بحسب ذلك. وبينما تتمكن الأغلبية بالكاد من تسوية أثمان السيارات قامت الأقلية المبدعة بتقديم الطائرات. كما إن الأغلبية تتعلم بالمشاهدة بينما تتمتع الأقلية بحرية عرض ما يشاهده هؤلاء. إن القيمة «الموضوعية فلسفيا» لأي منتَج جديد بمثابة معلم لهؤلاء الذين يمتلكون عزيمة ممارسة قدراتهم العقلية، كل منهم بحسب قابليته؛ أما من لا يمتلكون مثل هذه العزيمة فسيبقون دون ربح، ويماثلهم في الحال أولئك الذين كانت طموحاتهم تتعدى قابلياتهم الإنتاجية.

ليس للخامل أو غير العقلاني أو الذاتي سلطة تخوله إيقاف المتفوقين عليه. أما الأقلية الصغيرة (العاجزة) عن العمل من البالغين، وليست غير الراغبة فيه، فعليها أن تعتمد على المساعدات الخيرية الطوعية؛ فسوء الحظ لا يعني إجبار الآخرين على العمل الإجباري، كما ليس هنالك شيء اسمه (حق) استهلاك أو تسيير أو تدمير هؤلاء الذين لا يمكن تحقيق البقاء من دونهم. أما الركود الاقتصادي والبطالة الواسعة فلا تلام السوق الحرة عليها، لأن الذي يتسبب بها هو تدخل الحكومة في الشؤون الاقتصادية.

إن المتطفلين على العقول، أي: المقلدين الذين يحاولون خدمة ما يعتقدون بأنه الذوق المعلوم لعموم الناس، يتعرضون للهزيمة باستمرار من قبل المبدعين الذين تقوم منتجاتهم برفع سوية معارف العموم وذوقهم إلى مستويات أعلى. وبهذا الاعتبار لا تكون عملية قيادة السوق الحرة بيد المستهلكين، وإنما بيد المنتجين، وأكثر هؤلاء المنتجين نجاحا هم من يكتشفون مجالات جديدة للإنتاج، مجالات لم يكن أحد يعلم بوجودها في السابق.

عندما يظهر منتَج جديد لأول مرة ربما لا يلاقي التقدير فورا، وبالأخص إن كان مفرطا في الاختلاف، ولكنه يربح ذلك التقدير على المدى البعيد بغض النظر عن أية حوادث ثانوية. وبهذا الاعتبار لا يتحكم المعيار الفكري للأغلبية بالسوق الحرة، لأن هذا المعيار يفعل فعله في اللحظة الراهنة من أجلها، أما السوق الحرة فيحكمها أولئك القادرون على الرؤية والتخطيط على المدى البعيد، وكلما كمل العقل طال أمد أهداف التخطيط.

تتحدد القيمة الاقتصادية لعمل الإنسان في السوق الحرة بناء على مبدأ وحيد: الموافقة الطوعية لمن يرغب بالاتجار معه بعائد من عمله أو منتجاته. وهذا هو المعنى الأخلاقي لقانون (العرض والطلب)؛ حيث يمثل الرفض القاطع لمبدأين شرسين: (النظرة القبَلية) و(الإيثار). إنه يمثل الاعتراف بحقيقة مفادها أن الإنسان ليس ملكية أو عبدا للقبيلة، وأن (الإنسان يعمل من أجل إعالة حياته الخاصة به) بحسب ما تمليه طبيعته البشرية، وأنه يجب أن يهتدي بمصلحته الشخصية العقلانية، وإذا ما أراد أن يتاجر بشيء مع الآخرين فعليه أن لا يتوقع منهم أن يكونوا قرابين يضحى بها من أجله، أي: أنه ليس بمقدوره أن يتوقع استلام قيم مادية دون أن يعطي في مقابلها قيما مادية مكافئة لها؛ وهذا التكافؤ له معيار جوهري في هذا السياق وهو تقييم المتاجرين على نحو حر وطوعي ودون إجبار.

إن العقليات القبَلية تهاجم هذا المبدأ من جانبين متضادين كما يبدو: إذ تدعي هذه العقليات أن السوق الحرة «غير عادلة» تجاه كل من المبدع والإنسان العادي، ويُعبَّر عن الاعتراض الأول في العادة بأسئلة من قبيل: «لماذا يجني المطرب الفيس بريسلي أموالا أكثر مما يجني آينشتاين؟»، والجواب عن هذا السؤال: لأن الناس يعملون من أجل إعالة حياتهم والتمتع بها، وعندما يجد كثير من الناس قيمة في ما يفعله بريسلي فهذا يستدعي إنفاق أموالهم على متعتهم، ومن يدقق في ثروة بريسلي يجد أنها غير مستمدة ممن لا يعبؤون بعمله (وأنا من هؤلاء)، كما إنها ليست مستمدة من آينشتاين. إن بريسلي لا يقف في طريق آينشتاين، كما لا يفتقر آينشتاين إلى ما يكفي من التقدير والدعم في المجتمع الحر ضمن المستوى الفكري الذي يلائمه.

أما الاعتراض الثاني، وهو الادعاء بأن الإنسان العادي يتعرض للمعاناة في ظل المضار غير العادلة التي تتسبب بها السوق الحرة، فنقول لمن ينادي به:

«انظر إلى ما وراء اللحظة العابرة، أنت يا من تصيح معلنا خوفك من المنافسة مع من يفوقونك في الذكاء، مدعيا بأن عقولهم تهدد معيشتك، وأن القوي لا يترك فرصة للضعيف في التجارة الطوعية… عندما تعيش في مجتمع عقلاني، حيث يتمتع الناس بحرية التجارة، سوف تكسب أرباحا لا تحصى: فالقيمة المادية لعملك لا تتحدد بحسب جهدك فحسب، وإنما بجهد العقول الأفضل إنتاجية (والتي) تتواجد في العالم المحيط بك… إن الآلة، وهي الشكل الجامد لذكاء حي، هي القوة التي تفتح آفاقا أبعد لحياتك من خلال رفع إنتاجية وقتك…»

«إن كل إنسان حر في السمو إلى أبعد ما يستطيع أو يرغب، ولكن درجة تفكيره فحسب هي التي تحدد درجة سموه. وبهذا لا يمكن للعمل البدني أن يتجاوز مدى اللحظة الراهنة، والإنسان الذي لا يؤدي غير العمل البدني يستهلك القيمة المادية المساوية لقيمة مساهمته في عملية الإنتاج، ولا يترك منها شيئا لا لنفسه ولا للآخرين. أما الإنسان الذي ينتج فكرة في أي مجال من مجالات التقدم العقلي (من يكتشف معارف جديدة) فهو المستفيد أبدا من البشرية… فقيمة الفكرة هي وحدها التي يمكن تشاركها مع عدد غير محدود من الناس، مما يجعل حصص الجميع أكبر دون الحاجة إلى تضحية أو خسارة من أحد، وهذا يؤدي إلى ارتفاع الطاقة الإنتاجية لعملهم مهما كان نوعه…»

«وبالتناسب مع الطاقة العقلية التي يصرفها، فإن الإنسان الذي يقدم اختراعا جديدا لا يستلم إلا نسبة صغيرة من قيمة اختراعه في حسابات القيمة المادية، وذلك مهما كان مقدار الثروة التي يجنيها، ومهما كان عدد الملايين التي يمتلكها. ولكن الإنسان الذي يعمل حارسا للمصنع الذي ينتج هذا الاختراع يستلم مبلغا هائلا بالمقارنة مع الجهد العقلي الذي يتطلبه عمله منه. وهذا يصح على جميع الناس الذين يتوزعون بين هذين الشخصين، وبتعدد مستويات طموحهم وإمكانياتهم. إن الإنسان الذي يتبوأ أعلى الهرم الفكري يقدم المساهمة الأكبر لجميع من يتبوءون المنازل التالية، ولكنه لا يحصل على غير العائد المادي، إذ لا يحصل على نصيب فكري من الآخرين كي يرفع من قيمة وقته. والإنسان الذي يتبوأ المنزلة السفلى، والذي سيجوع إن ترك لوحده مع ما يعاني من انعدام في الكفاءة بشكل ميؤوس منه، فإنه لا يقدم شيئا لمن هم فوقه، ولكنه يستلم نصيبا من نتاج عمل أدمغتهم. إن هذه هي طبيعة «المنافسة» ما بين القوي والضعيف عند أرباب الفكر. وهذه هي طبيعة «الاستغلال» التي تعرَّض القوي جراءها للعنة اللاعنين». (أطلس يستريح)

وكذلك هي علاقة الرأسمالية بعقل الإنسان وبقائه.

إن التاريخ يشهد بعظمة العملية التي أنجزتها الرأسمالية في وقت قصير، وحققت من خلالها تقدما رائعا في ظروف حياة الإنسان على هذه الأرض، وهذا مما لا يمكن إخفاؤه أو تجنبه أو دحضه من قبل أبواق الدعاية المعادية للرأسمالية، ولكننا نحتاج إلى تشديد خاص على حقيقة مفادها أن هذا التقدم تم إنجازه بواسطة وسائل (غير تضحوية). فالتقدم لا يمكن إنجازه بفرض الحرمان، واعتصار الضحايا الجوعى للحصول على «الفائض» الاجتماعي؛ وإنما يأتي عبر (الفائض الفردي) فحسب، أي: من عمل وطاقة وفائض الناس الذين تقوم إمكانياتهم بإنتاج أكثر من متطلبات استهلاكهم الشخصي، والذين تؤهلهم قدراتهم الفكرية والمالية للسعي إلى الجديد، وتطوير ما هو موجود، والمضي قدما. وفي المجتمع الرأسمالي، حيث يكون أولئك الناس أحرارا في التصرف وتحمل المخاطرة، لا يعتبر التقدم مسألة تتطلب التضحية من أجل مستقبل بعيد، وإنما هو جزء من الحاضر المعاش، وأمر عادي وطبيعي يمكن إنجازه بينما يعيش الإنسان حياته ويتمتع بها.

لننتقل الآن لمناقشة البديل، وهو المجتمع القبَلي، حيث يقوم الجميع بإلقاء جهودهم وأموالهم وطموحاتهم وأهدافهم في حوض القبيلة أو في وعاء مشترك، ثم ينتظرون ببطون خاوية على حافته بينما يقوم كبير زمرة الطباخين بتحريك المزيج حاملا العصا بيد وصكا مفتوحا بأرواحهم جميعا في اليد الأخرى. وأوضح مثال على هذا الأمر هو الاتحاد السوفييتي. فقبل نصف قرن من الزمان أصدر حكام الاتحاد السوفييتي أوامرهم لرعاياهم بأن يصبروا ويتحملوا الحرمان ويقدموا التضحيات في سبيل «التحول الصناعي» للبلاد، ووعدوهم بأن هذا الأمر مؤقت، وأن هذا التحول سوف يجلب لهم الرخاء، وأن التقدم السوفييتي سيتخطى مثيله لدى الغرب الرأسمالي. ولكننا نرى اليوم أن الاتحاد السوفييتي لا يزال عاجزا عن إطعام شعبه بينما يكافح حكامه لنسخ أو استعارة أو سرقة الإنجازات التكنولوجية الغربية. إن التحول الصناعي ليس هدفا ثابتا؛ وإنما هو عملية ديناميكية ذات معدل سريع من التلاشي، ولهذا تجد العبيد التعساء في الاقتصاد القبلي التخطيطي، والذين جاعوا انتظارا منهم لمولدات الكهرباء والجرارات الزراعية، يجوعون الآن انتظارا للطاقة الذرية والسفر ما بين الكواكب، وهكذا يتحول تقدم العلم في «دولة الشعب» إلى عدو لهذا الشعب، وكل فتح علمي جديد يستنزف مقدراته المتناقصة.

لكن هذا لم يحصل في تاريخ الرأسمالية؛ حيث لم ينتج رخاء أمريكا عن تضحيات الناس من أجل «الصالح المشترك»، وإنما عن ذكاء المنتجين الذين سعوا لتحقيق مصالحهم الشخصية وبناء ثرواتهم الخاصة، وهؤلاء لم يجيعوا الشعب الأمريكي كي يحققوا التحول الصناعي، وإنما أعطوا الناس وظائف أفضل، وأجورا أعلى، وبضائع أرخص مع كل آلة جديدة اخترعوها، ومع كل اكتشاف علمي أو تقدم تكنولوجي حققوه، وبهذا أصبحت أمريكا بقضها وقضيضها تتقدم إلى الأمام وتستفيد (ولا تعاني) من كل خطوة على هذا الطريق.

يجب أن نتجنب هاهنا ارتكاب خطأ التبديل ما بين السبب والنتيجة: فصالح البلاد أصبح ممكنا بفضل حقيقة بعينها مفادها أن هذا الصالح لم يُفرض على أي شخص كهدف أو واجب أخلاقي، وإنما كان مجرد نتيجة، أما السبب فكان حق الإنسان في السعي لتحقيقه صالحه هو، وهذا الحق، وليست نتيجته، هو الذي يمثل التبرير الأخلاقي للرأسمالية. ولكن هذا الحق لا يتوافق مع نظرية القيم الجوهرية أو الذاتية، أو مع الأخلاقيات الإيثارية أو النظرة القبَلية. وواضحة هي الصفة البشرية التي يرفضها المرء برفضه للموضوعية، كما إن سجل الرأسمالية يرينا بوضوح الصفة البشرية التي يتحد في مواجهتها كل من الأخلاقيات الإيثارية والنظرة القبَلية: إنها عقل الإنسان وذكاؤه، وبالأخص: الذكاء الذي يطبق لحل مشاكل بقاء الإنسان، أي: القدرة الإنتاجية.

وبينما تسعى الإيثارية إلى تجريد الذكاء من مكافأته من خلال التشديد على الواجب الأخلاقي للكفوء في خدمة غير الكفوء وتضحيته بنفسه لتلبية احتياجات الآخرين، فإن النظرة القبَلية تذهب إلى أبعد من ذلك، فتنكر وجود الذكاء ودوره في عملية إنتاج الثروة. إن من المشين أخلاقيا اعتبار الثروة دون هوية، وأنها منتَج قبَلي، والحديث عن «إعادة توزيعها». إن الرأي الذي يعتبر الثروة نتيجة لعملية جماعية غير تخصصية، وأن الجميع يشاركون في العمل مع استحالة تمييز عمل كل منهم، وأن ذلك يستدعي ضرورة وجود نوع من أنواع «التوزيع» المتساوي، إنما هو رأي يليق بغابة بدائية يعيش فيها حشود متوحشة تنقل الصخور بالقوة البدنية المجردة (وحتى في هذه الحال ينبغي وجود شخص ما يباشر عملية النقل وينظمها). إن اعتناق هذا الرأي في مجتمع صناعي، حيث تكون الإنجازات الفردية أمرا يعرفه الجميع، إنما هو اعتداء على درجة من الفحش بحيث أن حتى التذرع بدواعي الشك لفعل ذلك يعد بذاءة غير مقبولة. وكل من عمل كموظف، أو وظّف أحدا عنده، أو لاحظ كيف يعمل الناس، أو مارس عملا شريفا ولو ليوم واحد، يعلم الدور الحاسم للإمكانيات والذكاء لدى العقل التنافسي المهتم، وذلك في كافة مستويات العمل من أعلاها إلى أدناها؛ وهو يعلم أن وجود الإمكانية أو انعدامها (سواء أكان الانعدام حقيقيا أو مقصودا) يلعب دورا مصيريا في أية عملية إنتاجية. والدليل على هذا موجود على نحو لا يقبل الرد (نظريا وعمليا، منطقيا و»تجريبيا»، في أحداث التاريخ والكدح اليومي للإنسان) إلى درجة أن لا أحد يمكنه ادعاء الجهل به، ولا بد من التشكيك في نية من يزعمون الجهل به من باب الخطأ.

عندما بنى الصناعيون العظام ثرواتهم على أساس السوق الحرة (أي: دون استخدام القوة، ودون مساعدة الحكومة أو تدخلها)، فقد صنعوا ثروة من نوع جديد: فلم يأخذوها ممن (لم) يصنعوها، ومن يشك في هذا فلينظر إلى «الناتج الإجمالي الاجتماعي» ومستوى المعيشة في الدول التي سمحت لهؤلاء الصناعيين بأن يتواجدوا.

لاحظ معي ندرة وعدم كفاءة مناقشة قضية الذكاء البشري في كتابات المنظّرين القبَليين الدولانيين الإيثاريين، كما لاحظ الحذر الشديد الذي يبديه مناصرو النظام الاقتصادي المختلط في تجنب وتحاشي أية إشارة للذكاء والإمكانيات في مقاربتهم للقضايا الاقتصادية السياسية، وفي مزاعمهم ومطالبهم ومعاركهم الضاغطة في سبيل نهب «الناتج الإجمالي الاجتماعي». وكثيرا ما يطرح السؤال: لماذا تعرضت الرأسمالية للتدمير على الرغم من سجلها الذي لا يقارن في مجال المنافع التي تحققها؟ ويكمن الجواب في حقيقة مفادها أن كل نظام اجتماعي يستمد دماءه من الفلسفة المهيمنة على ثقافته، والرأسمالية لم تمتلك أبدا أي أساس فلسفي، حيث كانت آخر نتاج غير مكتمل (نظريا) للتأثير الأرسطي، وبينما انغمرت فلسفة القرن التاسع عشر بحركة إحيائية للروحانيات، تركت الرأسمالية في منطقة خالية فكريا، فانقطعت تلك الدماء عنها. ولم يتقدم أحد بدراسة كاملة أو تعريف وافٍ للطبيعة الأخلاقية للرأسمالية، ولا حتى مبادئها السياسية، واعتبرها محاموها المزعومون متوافقة مع ضوابط الحكومة (تدخل الحكومة في الاقتصاد)، متجاهلين معنى ودلائل مفهوم (عدم تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية)؛ ولهذا فإن ما وجد بالممارسة في القرن التاسع عشر لم يكن رأسمالية صافية، وإنما مزيجا من الأنماط الاقتصادية المتنوعة، وبما أن الضوابط تستدعي وتنتج المزيد من الضوابط، فإن العنصر الدولاني في هذا المزيج هو الذي أدى إلى انهياره، ولكن أصابع الاتهام توجهت إلى العنصر الحر الرأسمالي.

لم تكن الرأسمالية لتنجو بنفسها من ثقافة تهيمن عليها الروحانيات والإيثار والفجوة ما بين الروح والجسد والنظرة القبَلية؛ فليس هنالك نظام اجتماعي (ولا أي مؤسسة أو نشاط بشري من أي نوع) بقادر على النجاة من هذا الوضع دون استناده إلى أساس أخلاقي، وإذا ما نظرنا للقضية من منظار الأخلاقيات الإيثارية نجد أن الرأسمالية توجّب عليها أن تكون ملعونة منذ البداية، وهذا ما حصل فعلا، وللاطلاع على مناقشة الفراغ الفلسفي في ما يخص الرأسمالية، يمكن مراجعة مقالتنا (إلى المثقف الجديد) في كتاب يحمل الاسم ذاته.

ولمن لا يمتلك فهما كاملا للدور الذي تلعبه الفلسفة في القضايا الاقتصادية السياسية، سأقدم أوضح مثال قد يورده المثقف المعاصر، وذلك بالاقتباس مما أوردته الموسوعة البريطانية في مقالة (الرأسمالية):

«لا يميل إلا القليل من المراقبين لتحري أخطاء الرأسمالية باعتبارها محركا للإنتاج. فالنقد يصدر عادة إما من الرفض «الأخلاقي» أو «الثقافي» لجوانب معينة في النظام الرأسمالي، أو من التعثرات التي تحدث على المدى القريب (الأزمات وحالات الركود) التي تتخلل التطوير على المدى البعيد. (إشارات التنصيص من عندي)

هذه «الأزمات وحالات الركود» نتيجة لتدخل الحكومة، لا النظام الرأسمالي. ولكن ماذا عن طبيعة الرفض «الأخلاقي أو الثقافي»؟ لا توضح المقالة ذلك بصراحة، وإنما تورد إشارة فصيحة حول ذلك بالقول:

«لكن، وبهذا الحال الذي هما عليه، فإن كلا من الميول وحالات التحقق [للرأسمالية] تحمل سمة لا تخطئها العين من مصالح رجال الأعمال، بل أكثر من ذلك: نمط عقلية رجال الأعمال. وفضلا عن هذا، فإنها لم تكن سياسة فحسب، وإنما فلسفة لحياة الأمة والفرد، ومخطط لقيم ثقافية، هي التي حملت تلك السمة. وإذا ما تفحصنا منفعيتها المادية، وثقتها الساذجة بنوع محدد من التقدم، وإنجازاتها الحقيقية في مجال العلوم النظرية والتطبيقية، ومزاج إبداعاتها الفنية، فيمكن أن تقودنا إلى مصدر واحد هو «روح العقلانية» التي تنبع من مكتب رجل الأعمال. (إشارات التنصيص من عندي)

إن كاتب المقالة، والذي ليس «ساذجا» بما يكفي للاعتقاد بنمط رأسمالي (أو عقلاني) للتقدم، من الواضح أنه يحمل اعتقادا مختلفا؛ إذ يقول:

«في نهاية العصور الوسطى بقيت أوروبا الغربية تراوح مكانها في المكان نفسه الذي تشغله الكثير من الدول المتخلفة في القرن العشرين. [هذا يعني أن ثقافة عصر النهضة تكاد تقارب ثقافة الكونغو الحالية، أو أن التقدم الفكري للشعب ليس له علاقة بالاقتصاد] ففي البنى الاقتصادية المتخلفة تتمثل مهمة قيادة الدولة في المباشرة بعملية تراكمية من التقدم الاقتصادي، فما أن يتحقق تفعيل القوة الدافعة حتى تبدأ مراحل التقدم الإضافية بالظهور تباعا على نحو آلي تقريبا».

إن أمثال هذا الطرح تتضمنها كافة نظريات الاقتصاد التخطيطي، وقد أدى ما يشبه هذا الاعتقاد «المحنك» إلى انقضاء جيلين من الشعب الروسي وهم ينتظرون التقدم «الآلي».

لقد حاول الاقتصاديون التقليديون أن يقدموا تبريرا قبَليا للرأسمالية بالافتراض بأنها تقدم «التقسيم» الأفضل لما في المجتمع من «موارد». وإليك شيئا من الماضي الذي يتلبد الحاضر بغيومه:

«إن نظرية السوق حول تقسيم الموارد ضمن القطاع الخاص هي الفكرة الرئيسية في البنى الاقتصادية التقليدية. ومعيار التقسيم بين القطاعين العام والخاص يشبه في الشكل المعايير الأخرى لتقسيم الموارد، وبالأخص منها: أن من الواجب إعطاء المجتمع مقدارا مرضيا متساويا من الحد الأدنى للأرباح المتولدة عن الموارد المستخدمة في القطاعين العام والخاص… وقد شدد العديد من الاقتصاديين على أن هنالك دليلا واقعيا، وربما يكون حاسما، على أن الرفاهية الإجمالية في رأسمالية الولايات المتحدة، مثلا، من الممكن زيادتها في حال إعادة تقسيم الموارد لصالح القطاع العام، وذلك من خلال زيادة الصفوف المدرسية وتقليل مراكز التسوق، وزيادة المكاتب العامة وتقليل السيارات، وزيادة المستشفيات وتقليل نوادي البولينغ».

هذا يعني أن بعض الناس ينبغي أن يكدحوا طيلة حياتهم دون أن يحصلوا على مواصلات ملائمة (السيارات)، ودون عدد مناسب من الأماكن التي يشترون منها ما يحتاجونه من السلع (مراكز التسوق)، ودون الحصول على متعة الاسترخاء (نوادي البولينغ)، وذلك كي تتوفر للآخرين المدارس والمكتبات والمستشفيات.

وإذا أردت أن ترى النتيجة النهائية للمعنى الكامل للنظرة القبَلية عن الثروة، أي: الإلغاء الكامل للتمييز ما بين التصرفات الخاصة والإجراءات الحكومية، وما بين الإنتاج والقوة، والإلغاء الكامل لمبدأ «الحقوق»، والقضاء على الكينونة الواقعية للفرد، والاستعاضة عنها برؤية تعتبر الناس وحوشا قابلة للتبادل تستخدم لحمل الأثقال أو «كعوامل إنتاج»؛ فيمكنك أن تدرس ما يأتي:

«تتحيز الرأسمالية ضد القطاع العام لسببين اثنين: أولهما أن كل الإنتاج والحصيلة يتزايد في البدء لدى القطاع الخاص بينما تصل الموارد إلى القطاع العام عبر العملية المضنية المسماة بالضرائب. ولا يمكن تلبية الاحتياجات العامة دون رضى المستهلكين من خلال دورهم كدافعي ضرائب [ماذا عن المنتجين؟]، والذين يكون ممثلوهم السياسيون على وعي كبير بأحاسيس ناخبيهم المتألمة [!] حيال أخذ الضرائب منهم. والفكرة القائلة بأن (الناس يعلمون ما يفعلون بدخلهم على نحو أفضل من الحكومة) هي فكرة أكثر جاذبية من نقيضتها التي تقول بأن (الناس يستحصلون من أموال الضرائب المفروضة عليهم عوائد أفضل مما ينتج عن أنواع الإنفاق الأخرى). [أية نظرية طرحت هذه الفكرة؟ ومن استنتج ذلك؟] أما السبب الثاني فهو أن ضغط الأعمال الخاصة باتجاه البيع يقود إلى سلسلة هائلة من أدوات الترويج التجاري الحديثة التي تؤثر على قرار المستهلك وتنحاز بقيم المستهلك تجاه الاستهلاك الخاص. [وهذا يعني أن رغبتك بإنفاق المال الذي تمتلكه عوضا عن أن تأخذه الضرائب منك ليس إلا (تحيزا)] وهذا يؤدي إلى ذهاب معظم الإنفاق الخاص لاحتياجات غير ملحة جدا بحسب أي اعتبار أساسي. [ملحة لمن؟ وما هي الاحتياجات الأساسية؟ هل تتعدى توفير كهف وجلد دب وقطعة من اللحم النيء؟] وهكذا نصل إلى نتيجة تتمثل في إهمال العديد من الاحتياجات العامة وذلك لأن تلك الاحتياجات السطحية المصطنعة تنجح في التنافس على الموارد ذاتها… [لمن تعود هذه الموارد؟]».

«يمكن الاستفادة من مقارنة تقسيم الموارد بين القطاعين العام والخاص في ظل الرأسمالية والجماعية الاشتراكية [طبعا]. ففي الاقتصاد الجماعي تعمل كافة الموارد ضمن نطاق القطاع العام وتكون متاحة لأغراض التعليم والدفاع والصحة والحماية الاجتماعية وغيرها من الاحتياجات العامة دون الحاجة إلى تحويلها من خلال الضرائب. كما يتم تقليص الاستهلاك الخاص إلى حدود المطالب المسموح بها [من يسمح بها؟] مقابل الناتج الاجتماعي، وذلك بشكل شديد الشبه بتقليص الخدمات العامة في الاقتصاد الرأسمالي إلى حدود المطالب المسموح بها مقابل القطاع الخاص. وفي الاقتصاد الجماعي تتمتع الاحتياجات العامة بالنوع نفسه من الأولوية الجوهرية التي يتمتع بها الاستهلاك الخاص في الاقتصاد الرأسمالي. ففي الاتحاد السوفييتي يتمتع المعلمون بالثراء لكن السيارات نادرة، أما في الولايات المتحدة فيسود نقيض هذه الحال.»

ثم تخلص بنا المقالة إلى ما يأتي:

«يلعب تعريف الرأسمالية دورا في صياغة التنبؤات المتعلقة بمصيرها؛ ومن الملاحظ في كل مكان أن الدول الرأسمالية تنقل نشاطها الاقتصادي من الحقل الخاص إلى العام؛ وفي الوقت نفسه نجد [بعد الحرب العالمية الثانية] أن الاستهلاك الخاص بدا محكوما بالارتفاع في الدول الشيوعية [هل يعني هذا زيادة استهلاك الطحين؟] وبدا على هذين النظامين الاقتصاديين الاقتراب من بعضهما البعض بعد التغييرات التي انبثقت من كلا الاتجاهين؛ ولكن ذلك لا يعني عدم وجود اختلافات مهمة بينهما، ولكن يبدو من المعقول القول بأن المجتمع الذي يستثمر أكثر في الناس من شأنه إحراز تقدم أسرع والفوز بالمستقبل، وبهذا الاعتبار الهام تعاني الرأسمالية، بنظر بعض الاقتصاديين، تحت وطأة سيئات أساسية، ولكنها ليست عصية على الحل، تجعل الجماعية تتقدم عليها في المنافسة.»

لقد أُنجِزت الجماعية في زراعة الاتحاد السوفييتي من خلال المجاعة التي تم التخطيط لها وتنفيذها من قبل الحكومة بشكل متعمد لإجبار الفلاحين على الانضمام إلى نظام المزارع الجماعية، ويزعم أعداء الاتحاد السوفييتي أن (15 مليون فلاح) قضوا نحبهم في تلك المجاعة، أما الحكومة السوفييتية فتعترف بوفاة (7 ملايين). كما يزعم أعداء الاتحاد السوفييتي أن عدد العاملين في معسكرات العمل الإجباري السوفييتية بلغ في نهاية الحرب (30 مليون شخص)، وكانوا يموتون جراء سوء التغذية بتخطيط مسبق لأن حياة المرء كانت أرخص من الغذاء الذي يحتاجه، ويعترف مصطنعو الأعذار للاتحاد السوفييتي بوصول عدد الوفيات في هذه المعسكرات إلى (12 مليون). هذا هو ما تدعوه (الموسوعة البريطانية) بمصطلح «استثمار الناس».

إن الثقافة التي تصدر منها مثل هذه العبارة وهي محاطة بمناعة فكرية وبهالة من الصواب الأخلاقي، لا يكون المذنب الأكبر فيها هو المؤيد للجماعية، وإنما من يعجز عن امتلاك الشجاعة اللازمة لتحدي الروحانيات والإيثارية، فيحاول تجاوز قضايا العقل والأخلاق، ويقرر الاستناد إلى أسس بعيدة عن العقل أو الأخلاق في الدفاع عن النظام العقلاني والأخلاقي الوحيد في تاريخ البشرية؛ ألا وهو: الرأسمالية.

آين راند

من كتاب (الرأسمالية.. المثل الأعلى المجهول)، الفصل الأول. (نيويورك 1966)

temp27 مارس، 20121

الرسالة السادسة

حول البروتستانتية الحديثة

على الرغم من أن الكنيسة البروتستانتية الحديثة والكنيسة البروتستانتية الأسقفية تمثلان الطائفتين الأساسيتين في بريطانيا العظمى، فإن غيرهما من الطوائف مرحب بها جميعا هناك، وتعيش سوية في راحة كبيرة، وإن كان معظم الوعاظ يمقتون أقرانهم في الطوائف الأخرى…

اذهب إلى البورصة في لندن، وهو مكان يتمتع بمنزلة محترمة تتفوق على الكثير من الهيئات، وستجد هنالك ممثلين عن الأمم كلها مجتمعين لمصلحة الجنس البشري. ستجد هنالك اليهود والمسلمين والمسيحيين يتعاملون مع بعضهم بعضا وكأنهم أتباع دين واحد، أما (الكافر) فهو لقب يحتفظون به لمن يصيبه الإفلاس. في هذا المكان تجد أتباع البروتستانتية الأسقفية يثقون بأتباع (العمادية)، وأتباع (كنيسة بريطانيا) يتقبلون عهود (الصاحبيين). وعندما تنفض هذه الاجتماعات السلمية الحرة، يتوجه البعض إلى الكنيس، ويتوجه غيرهم إلى الحانة. يذهب هذا ليتعمد في حوض مقدس باسم الأب والابن والروح القدس، ويذهب ذاك ليختن ابنه بعد أن تلقى على مسامع الطفل ترتيلة عبرية لا يفهم منها شيئا، ويذهب أولئك إلى كنيستهم الخاصة لينتظروا إلهام الرب دون أن يخلعوا قبعاتهم، وكل حزب بما لديهم فرحون.

لو كانت هنالك طائفة واحدة في بريطانيا لكان يتهددها خطر الاستبداد، ولو كان هنالك طائفتان لكانت كل طائفة تذبح أتباع الأخرى؛ ولكن هنالك ثلاثون طائفة، وهي تعيش بسعادة وسلام مع بعضها بعضا.

temp27 مارس، 20120

موري ن. روثبارد: أكاديمي وكاتب لعب دورا هاما في إعادة إحياء المدرسة النمساوية في الاقتصاد وإعادة ولادة الأفكار الليبرتارية والليبرالية الكلاسيكية خلال القرن العشرين.

السوق الحر مصطلح يلخص مجموعة مرتبة من التبادلات التي تحدث في المجتمع. وكل تبادل يتم النهوض بأعبائه باعتباره اتفاقية طوعية ما بين شخصين أو بين مجموعات من الناس يمثلهم الوكلاء. وهذان الفردان (أو الوكيلان) يتبادلان نوعين من السلع الاقتصادية: المادية واللامادية. وهكذا، فعندما أشتري صحيفة من بائع الصحف مقابل خمسين سنتا، فهذا يعني أنني وبائع الصحف تبادلنا سلعتين: فقد تخليت عن خمسين سنتا، وتخلى هو عن الصحيفة. أو لنفرض أنني أعمل لدى شركة، فهذا يعني أنني أتبادل خدمات العمل التي تعود لي بطريقة متفق عليها بين الطرفين، وذلك مقابل راتب مالي، وهنا يمثل الشركة مسؤول (وكيل) يملك سلطة التوظيف.

إن كلا الطرفين ينهض بأعباء التبادل لأن كلا منهما يتوقع جني الربح من ذلك. كذلك، فإن كلا منهما سيعيد التبادل في المرة القادمة (أو يرفض ذلك) لأن توقعاته أثبتت صوابها (أو خطأها) في الماضي القريب. والتجارة، أو التبادل، إنما تجري لأن كلا الطرفين يستفيد منها، ولو كانا لا يتوقعان جني الأرباح منها لما اتفقا على التبادل أساسا.

هذا الاستدلال البسيط ينقض الحجة المضادة للتجارة الحرة والتي نجد نموذجا عنها في الفترة “الميركنتيلية” التي سادت في أوروبا من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، وقد وردت تفصيلات كلاسيكية لها في كتابات الكاتب الفرنسي الشهير مونتين (ق16). حيث رأى الميركنتيليون أنه في أية تجارة لا يمكن إلا لطرف واحد أن يربح وذلك على حساب الطرف الآخر، وأنه في أية تعامل تجاري هنالك رابح وخاسر: “مستغِل” و”مستغَل”. هنا يمكننا أن نلاحظ فورا المغالطة في هذا الرأي الذي لا يزال شعبيا حتى يومنا هذا: فالعزم على التجارة، وحتى التحمس لها، يعني انتفاع كلا الطرفين، وإذا استخدمنا مصطلحات نظرية اللعبة الحديثة، فإن التجارة هي وضع من النوع (رابح-رابح)، وهي لعبة ذات “محصلة إيجابية” وليست لعبة ذات “محصلة صفرية” أو “محصلة سلبية”.

كيف يمكن لكلا الطرفين أن يكسبا من تبادل ما؟ إن كلا منهما يقيّم السلعتين أو الخدمتين بشكل مختلف، وهذه الاختلافات تمهد الطريق لحدوث التبادل. فأنا، على سبيل المثال، أملك في جيبي مالا ولكنني لا أملك جريدة، أما بائع الصحف فلديه الكثير من الصحف ولكنه يتوق للحصول على المال، وهكذا فإننا نعقد صفقة عندما يجد أحدنا الآخر. وهنالك عاملان يحددان شروط أية اتفاقية: بكم يقيّم كل مشارك كل سلعة داخلة في الاتفاقية، ومهارات المساومة عند كل من المشاركين. فكم من السنتات ينبغي تبادلها مقابل صحيفة واحدة إنما يعتمد على كافة المشاركين في سوق الصحف، وشروط التبادل هذه، وهي تدعى “الأسعار” (هنا يكون سعر الصحيفة مقدرا بالمال)، يتم تحديدها بشكل نهائي من خلال عدد الصحف المتاحة في السوق مع مدى التفضيل لدى البائع في تقييم هذه السلع؛ وباختصار: يتم تحديدها عبر تفاعل (العرض) مع (الطلب).

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار (عرض) سلعة ما، فإن أي زيادة في قيمتها في أذهان المشترين سوف تزيد من (الطلب) عليها، وستتطلب مالا أكثر للحصول عليها، وسيزداد سعرها. ويحصل عكس ذلك إذا انخفضت قيمة السلعة، وبالتالي انخفض الطلب عليها. ومن جهة أخرى مع الأخذ بعين الاعتبار تقييم المشتري أو طلبه تجاه سلعة ما، فإذا حصلت زيادة (العرض) فإن كل وحدة من المعروض (رغيف خبز مثلا) ستنخفض قيمتها، وبالتالي: سعرها؛ والعكس يحدث عند انخفاض (العرض) لهذه السلعة.

إذن، فالسوق ليس مجرد مجموعة مرتبة من التبادلات، وإنما هو شبكة معقدة جدا من التبادلات المتفاعلة. لقد كانت التبادلات في المجتمعات البدائية تجري إما عن طريق المقايضة أو التبادل المباشر، حيث يتبادل شخصان سلعتين لهما نفع مباشر (خيول مقابل أبقار، مثلا)؛ ولكن مع تطور المجتمع ظهرت عملية متدرجة من النفع المتبادل وخلقت وضعا يختار فيه السوق سلعة أو اثنتين من السلع القيّمة ذات الفائدة الواسعة لتكون وسيطا في التبادل غير المباشر. وحينها تصبح هذه السلعة المالية، وغالبا ما تكون ذهبا أو فضة، مطلوبة لا لذاتها فحسب، وإنما للمساهمة في إعادة تبادل سلعة مرغوبة أخرى. فمن الأسهل بكثير أن لا تدفع لعمال إنتاج الفولاذ أجورهم على شكل أسلاك من الفولاذ، وإنما على هيئة نقود يمكن للعامل أن يستخدمها في شراء ما يشاء. كما إن هذا العامل مستعد لقبول النقود لأنه يعلم بحكم تجربته وفطنته أن المجتمع بأكمله سيتقبل منه هذه النقود عندما يدفعها. واستخدام النقود هو الذي جعل من الممكن ظهور هذه الشبكة الحديثة التي لا تنتهي من التبادلات، والتي تدعى السوق. إن كل شخص يعمل ضمن اختصاص أو فرع من فروع العمل لينتج ما يتقنه، وعملية الإنتاج هذه تبدأ مع الموارد الطبيعية، ثم تنتقل إلى الأشكال المختلفة للآلات والسلع الإنتاجية، ثم تباع السلع الناتجة في النهاية إلى المستهلك. وفي كل مرحلة من مراحل الإنتاج، من الموارد الطبيعية إلى السلع الاستهلاكية، يتم تبادل النقود بطوعية مقابل سلع إنتاجية وخدمات عمل ومواد خام. وفي كل خطوة من خطوات هذا الطريق يتم تحديد شروط التبادلات (النقود) عبر التفاعلات الطوعية ما بين أولي (العرض) وأولي (الطلب). وهو سوق “حر” لأن الخيارات، في كل خطوة، يتم اختيارها بحرية وطوعية.

إن السوق الحر ومنظومة السعر الحر تجعلان البضائع من أنحاء الأرض جميعها متاحة للمستهلك. كما إن السوق الحر يوفر أقصى مجال ممكن لعمل المستثمر الريادي الذي يخاطر برأسماله لتخصيص الموارد على النحو الذي يرضي الرغبات المستقبلية لجماهير المستهلكين على أفضل نحو ممكن. وحينها يمكن للادخار والاستثمار أن يطور السلع الإنتاجية ويزيد من الإنتاجية وأجور العمال، مما يؤدي إلى تحسين مستوى معيشتهم. ويضاف إلى ذلك أن السوق التنافسي يكافئ ويحفز الابتكار التكنولوجي الذي يسمح للمبتكر بالحصول على الدعم الأولي لتلبية احتياجات المستهلك بطرائق جديدة خلاقة. وهذا لا يؤدي إلى تشجيع الاستثمار فحسب، وإنما يؤدي إلى أمر أهم أيضا، وهو أن منظومة السعر ومحفزات (الربح والخسارة) في السوق من شأنها أن تقود عملية استثمار رأس المال وإنتاجه إلى الطريق المناسب. وشبكة التبادلات المعقدة يمكنها أن تنظم عمل جميع الأسواق و”تصفّيها” فلا يكون هنالك بعد هذا أي عجز أو فائض مفاجئ أو غير متوقع أو غير مفهوم في أية مرحلة من مراحل الإنتاج.

لكن التبادلات ليست حرة بالضرورة، فالكثير منها إجباري، وحينما يهددك اللص بقوله “نقودك أو حياتك” فإن ما تدفعه له ناتج عن الإجبار وليس طوعيا، وينتفع اللص على حسابك. إن اللصوصية، وليست الأسواق الحرة، هي من يتبع النموذج الميركنتيلي: فاللص ينتفع على حساب من يتعرض للإجبار. والاستغلال لا يحدث في السوق الحر، وإنما يحدث حينما يقوم المجبِر باستغلال الضحية. وعلى المدى البعيد، فإن الإجبار لعبة ذات (محصلة سلبية) تؤدي إلى انخفاض الإنتاج والادخار والاستثمار، ونضوب رأس المال، وهبوط الإنتاجية ومستوى المعيشة للجميع، وربما تصل هذه التأثيرات إلى المجبِرين أنفسهم.

إن الحكومة، في أي مجتمع من المجتمعات، هي منظومة الإجبار الوحيدة التي تتمتع بالشرعية؛ فالضرائب تبادل بالإجبار، وكلما كان عبء الضرائب باهظا على الإنتاج، أصبح النمو الاقتصادي مهددا أكثر بخطر التداعي والانهيار. وهنالك أشكال أخرى للإجبار الحكومي (كالتحكم بالأسعار أو القيود المفروضة على دخول منافسين جدد إلى السوق) تؤدي إلى إعاقة وعرقلة تبادلات السوق، بينما نجد أشكالا أخرى تؤدي إلى تعزيز التبادل الطوعي (كحظر بعض ممارسات الغش، وفرض تنفيذ العقود).

تمثل الاشتراكية نهاية المطاف في الإجبار الحكومي. ففي ظل التخطيط المركزي الاشتراكي تفتقر هيئات التخطيط الاشتراكية إلى منظومة أسعار للأرض أو السلع الإنتاجية، حتى أن اشتراكيين من أمثال روبرت هيلبرونر يعترفون بأن هيئات التخطيط الاشتراكية عاجزة لذلك عن حساب الأسعار أو التكاليف أو عن استثمار رأس المال بما يمكن شبكة الإنتاج المعقدة من التنظيم والتصفية. ولنا في التجربة السوفييتية، حيث لا يجد المحصول الوفير من القمح طريقا إلى المستهلك، مثال مفيد عن استحالة عمل الاقتصاد الحديث المعقد في ظل غياب السوق الحر، إذ لا يوجد هنالك أي محفز أو سبيل إلى حساب الأسعار والتكاليف التي تتطلبها شاحنات نقل القمح، أو التي تتطلبها الطواحين لاستلام القمح وطحنه، والحال لا يختلف عبر عدد كبير من المراحل التي يتطلبها الوصول إلى المستهلك النهائي في موسكو أو غيرها، وهكذا يكاد يضيع الاستثمار في القمح هباء منثورا.

وفي الواقع، ليست (اشتراكية السوق) غير تناقض في المصطلحات، وما يدور من نقاش حولها يتجاهل في الأغلب جانبا حاسما من مفهوم السوق؛ فعندما يتم تبادل سلعتين بشكل فعلي، فإن ما يتم تبادله في الواقع هو حقوق ملكية هذه السلع، فعندما أشتري صحيفة بخمسين سنتا فإن هذا يعني أنني أتبادل مع البائع حقوق ملكية: فأنا أتنازل عن ملكية الخمسين سنتا وأمنحها لبائع الصحف، وهو يتنازل عن ملكية الصحيفة ويمنحها لي. وهذه العملية نفسها تحدث عند شراء منزل، في ما عدا أن الأمر غير رسمي في حالة الصحيفة بشكل أكبر بكثير، ويمكن الاستغناء عن العمليات المعقدة من سندات وتوثيق للعقود ووكلاء ومحامين وسماسرة رهون وغير ذلك، ولكن الطبيعة الاقتصادية للتبادل تظل هي نفسها في كلتا الحالتين.

إن هذا يعني بأن الطريق إلى ظهور السوق الحر وازدهاره يتمثل في وجود مجتمع تتمتع فيه حقوق الملكية الخاصة بالاحترام والدفاع والحماية. أما الطريق إلى الاشتراكية فيتمثل في ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والأرض والسلع الإنتاجية. وهكذا، فلا يمكن أن يظهر السوق في أرض أو سلع إنتاجية لا هوية لها. وهنا يفشل المنتقدون في ملاحظة أن منظومة السوق الحرة توفر لكل شخص حق الملكية في شخصه أو عمله، وإمكانية التعاقد الحر بما يقدمه من خدمات. والعبودية تنتهك حق الملكية الأساسي للعبد في جسده وشخصه، وهو حق يشكل أساسا لأي حق ملكية في الأشياء المادية غير البشرية. ناهيك عن أن كافة الحقوق هي حقوق بشرية، سواء أكانت حق الغير في حرية التعبير أم حقوق ملكية فرد ما في منزله الخاص به.

هنالك تهمة شائعة توجه إلى مجتمع السوق الحر، وهي أنه يقيم “قانون الغاب”، ويشجع على “التكالب”، وأنه يستعيض عن التعاون البشري بالتنافس، وأنه يعلي من مقام النجاح المادي دون القيم الروحية أو الفلسفة أو نشاطات الترفيه. ولكن الحقيقة على العكس من ذلك، فلا شك في أن الغابة تمثل مجتمعا يسوده الإجبار واللصوصية والتطفل، وتتعرض فيه الحياة ومستوى المعيشة إلى التدمير؛ أما التنافس السلمي بين المنتجين في السوق فهو عملية تعاونية بالكامل يستفيد منها الجميع وترفع من مستوى معيشتهم (بالمقارنة مع ما عليه الحال في مجتمع يفتقر إلى الحرية). كما إن النجاح المادي الحتمي للمجتمعات الحرة يحقق الثراء العام الذي يسمح لنا بالتمتع بكم هائل من الترفيه بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى، وبالسعي إلى أمور روحية. والدول الإجبارية التي يغيب فيها نشاط السوق أو يخفت، وبالأخص في ظل الشيوعية، هي التي لا تقتصر فيها مطحنة الحياة اليومية على إفقار الناس ماديا، وإنما تتعدى ذلك إلى استباحة أرواحهم أيضا.

حول الكاتب

موري ن. روثبارد (ت 1995): كان أستاذا مميزا للاقتصاد (كرسي س. ج. هول) في جامعة نيفادا في ولاية لاس فيغاس الأمريكية، كما كان الاقتصادي الأبرز في (المدرسة النمساوية) للاقتصاد خلال النصف الأخير من القرن العشرين.

مراجع للاطلاع[…]

temp27 مارس، 20120

مصنع الدبابيس

حول دوافع تحسين قوى العمل الإنتاجية، وتحسين النظام الذي يمكن من خلاله التوزيع الطبيعي لناتج هذه القوى بين الشرائح المختلفة

آدم سميث

أولا. تقسيم العمل

تعتبر التأثيرات الناتجة عن تقسيم العمل أفضل تحسن طرأ على قوى العمل الإنتاجية وعلى الجزء الأكبر من المهارة والإتقان والمحاكمة العقلية أينما تم توجيهها أو تطبيقها.

إن تأثيرات تقسيم العمل، ضمن المسعى العام للمجتمع، يمكن فهمه بشكل أسهل إذا أخذنا بعين الاعتبار كيفية تأثيره في صناعات بعينها. ويشيع الافتراض بأن ذلك جائز حتى في بعض الصناعات التي لا أهمية لها، وذلك ليس لأن هذا الجواز يصح عليها أكثر من الصناعات ذات الأهمية الأكبر، وإنما لأن الصناعات الهامشية التي تلبي احتياجات صغيرة لشريحة ضئيلة من الناس لا بد لعدد الأيدي العاملة فيها أن يكون صغيرا، كما إن العمال ينحصرون في مكان عمل واحد مهما اختلفت فروع عملهم، ويخضعون للرقابة في آن واحد. أما الصناعات الكبيرة التي تلبي احتياجات هائلة لشريحة ضخمة من الناس، فإن كل فرع من فروع العمل المختلفة فيها يوظف عددا كبيرا من العمال، ويستحيل حصرهم جميعا في الورشة ذاتها، وإذا ما زرنا ورشة من الورشات فلن نرى فيها أكثر من العمال المتخصصين بما تنتجه. إن الصناعات الكبيرة يكون فيها العمل مقسما بالفعل إلى عدد أكبر بكثير من الفروع مما هو عليه الحال في الصناعات الصغيرة، ولكن هذا التقسيم لا يقترب منها أبدا في الوضوح، ولذلك فإن ملاحظته أصعب بكثير في الصناعات الكبيرة.

لنستعن بمثال من صناعة هامشية جدا، ولكنها تتصف بسهولة ملاحظة تقسيم العمل فيها، وهي صناعة الدبابيس، ففي هذه الصناعة إذا كان العامل غير حاصل على تعليم خاص بها (وهو من الأمور المميزة لتقسيم العمل)، ولم يكن ملما بشؤون الآلة التي يعمل عليها (وهي آلة كان اختراعها من نتائج تقسيم العمل) فيمكنه على الأقل أن ينتج دبوسا واحدا في اليوم، ولكنه لن يكون قادرا على إنتاج عشرين دبوسا في اليوم بالتأكيد. إن الطريقة التي تدار بها هذه الصناعة لا تجعل منها نشاطا مميزا فحسب، وإنما تقسمها إلى عدد من الفروع التي يشكل معظمها نشاطا مميزا أيضا. فهنالك شخص يسحب السلك، وآخر يجعله مستقيما، وثالث يقطعه، ورابع يجعل له طرفا حادا، وخامس يصقله من الأعلى لتركيب الرأس، وهذا الرأس يتطلب اثنتين أو ثلاثا من العمليات المميزة؛ ثم تلي ذلك عمليات مميزة أخرى: كتركيب الدبوس، وتلميعه، ووضعه في العلبة الكارتونية. وهكذا فإن هذه الصناعة المهمة تتكون من حوالي ثماني عشرة عملية مميزة، ونجد في بعض المصانع أن كل من هذه العمليات تمارسها أيد عاملة متخصصة بها، وفي مصانع أخرى نجد أن العامل نفسه قد يقوم بعمليتين أو ثلاث منها. ولقد شاهدت بنفسي مصانع صغيرة من هذا القبيل لا توظف أكثر من عشرة أشخاص، حيث يقوم بعضهم بأداء اثنتين أو ثلاث من العمليات الإنتاجية. وعلى الرغم من أن هذه المصانع فقيرة جدا، ولا تهتم باقتناء الآلات الضرورية لعملها، فإنها قادرة، إن أرادت، على إنتاج حوالي 12 رطلا من الدبابيس يوميا، حيث يحتوي كل رطل على حوالي (4,000) دبوس من الحجم المتوسط، أي أن هؤلاء العمال العشرة يمكنهم أن يصنعوا ما يصل عدده إلى (48,000) دبوس يوميا، أي أن كل عامل يصنع حوالي (4,800) دبوس يوميا. ولكن إذا عمل كل من هؤلاء العمال العشرة لوحده وبشكل مستقل، ودون أن يتلقى أي تعليم بخصوص هذه الصناعة، فمن المؤكد أن كل عامل منهم لن يتمكن من صناعة عشرين دبوس في اليوم، بل إنه ربما لن يتمكن من صناعة دبوس واحد، وهذا لا يشكل (1/240)، ولا حتى (1/4,800)، مما يقدر عليه العامل في حالة التقسيم المناسب للعمل وتنسيق العمليات الإنتاجية المختلفة.

وفي كل الفنون والصناعات الأخرى، تتشابه تأثيرات تقسيم العمل مع ما هي عليه في هذه الصناعة الهامشية؛ ولكننا نجد في الكثير منها أن العمل لا يمكن تقسيمه أو تقليصه إلى هذا المدى الهائل من التبسيط. ولكن تقسيم العمل، بأبعد مدى يمكن الوصول إليه، يترافق مع ارتفاع متناسب في قوى العمل الإنتاجية، وذلك مهما كان المجال الذي يطبق فيه، ويبدو أن الفصل ما بين الممارسات والوظائف المختلفة إنما جاء لخدمة هذا الهدف. وبشكل عام، يجري هذا الفصل بشكل أوسع في الدول التي تتمتع بأعلى درجات الصناعة والتنمية؛ فما يقوم به شخص واحد في مجتمع غير متطور، يقوم به عدة أشخاص في مجتمع متطور. وفي كل مجتمع متطور لا يعمل المزارع بغير الزراعة، ولا يعمل العامل الصناعي بغير مهنته؛ والعمل اللازم لإكمال عملية صناعية بعينها يكون مقسما دائما ما بين عدد كبير من الأيدي العاملة. فكم من الاختصاصات المختلفة تدخل في إنتاج كل فرع من فروع صناعات القطن والكتان، بدءا من زراعة هذين النباتين، ومرورا بتبييض الكتان وتنعيمه، وانتهاء بصبغ القماش وخياطته. والزراعة تقضي طبيعتها بالبعد عن هذا التقسيم للعمل، أو بالفصل الكامل ما بين اختصاص وآخر، كما هو حال الصناعة؛ فمن المستحيل الفصل بشكل كامل، كما في الصناعة، ما بين رعي المواشي وما بين زراعة الذرة، ولكنه ممكن ما بين النجارة والحدادة، ومن يقوم بالغزل يختلف عمن يقوم بالحياكة، ولكن حراثة الأرض لا تنفصل عن تسويتها ونشر البذور فيها وحصاد ثمارها. إن الأعمال الزراعية المختلفة تتوزع على مختلف فصول السنة، ومن المستحيل لشخص بمفرده أن يتخصص بشكل دائم في واحد منها، وهذه الاستحالة في الفصل الكامل والدائم ما بين كافة أنواع الأعمال الزراعية المختلفة ربما تشكل السبب في أن تطور قوى العمل الإنتاجية في الزراعة لا يتم بالسرعة ذاتها التي يحصل فيها تطور قوى العمل الإنتاجية في الصناعة. إن الأمم الأكثر ثراء تتصف عموما بالتفوق على جيرانها بالزراعة كما في الصناعة، ولكنها تتميز بالتفوق أكثر في المجال الثاني بالمقارنة مع تفوقها في المجال الأول، ومن يلاحظ الأراضي الزراعية فيها يجد أنها مستصلحة بشكل أفضل، وأنفق عليها قدر أكبر من الجهد والمال، وتؤدي إلى إنتاج أكبر مما توفره الخصوبة الفعلية للأرض؛ ولكن هذا التفوق الإنتاجي نادرا ما يعوض التفوق في مقدار ما يبذل عليه من جهد ومال؛ ففي الزراعة: لا يكون الجهد المبذول في الدول الغنية منتجا أكثر بالمقارنة مع الجهد المبذول في الدول الفقيرة، أو على الأقل: لا يكون أبدا منتجا أكثر بكثير، كما هو الحال مع الجهد المبذول في الصناعة. فلو تساوت ذرة بلد غني مع ذرة بلد فقير في الجودة، فهذا لا يعني أن سعرها أرخص في السوق من سعر ذرة البلد الفقير؛ فذرة بولندا رخيصة بقدر ذرة فرنسا، وذلك على الرغم مما تفوق به فرنسا على بولندا من الثروة والتنمية. كما إن الذرة الفرنسية تماثل الذرة الانكليزية في الجودة، كما تماثلها في السعر تقريبا في معظم السنوات، وذلك على الرغم من أن فرنسا تلي انكلترا من حيث الثروة والتنمية. إن حقول الذرة في انكلترا تلقى عناية زراعية أفضل من مثيلتها في فرنسا، وحقول الذرة في فرنسا يعتنى بها بشكل أفضل بكثير من مثيلتها في بولندا؛ ولكن البلد الفقير، وعلى الرغم من تخلفه في رعاية الأرض، يستطيع في بعض الاعتبارات أن يتنافس مع البلد الغني في رخص السعر والجودة، وهذا ما لا يمكن أن يدعيه في المجال الصناعي، وذلك ما لم تتماثل مصانع البلد الفقير مع مثيلاتها في البلد الغني من حيث شروط التربة والمناخ والوضع العام. إن الحرير الفرنسي أفضل وأرخص من الحرير الانكليزي، وذلك لأن صناعة الحرير، على الأقل مع ما يفرض حاليا من رسوم عالية على استيراد الحرير الخام، لا تلائم مناخ انكلترا كما تلائم مناخ فرنسا؛ ولكن المنسوجات الصوفية الانكليزية لا تقارن في جودتها مع مثيلتها الفرنسية، وإذا ما كانت بالجودة نفسها فإن ثمنها سيكون أرخص بكثير. أما في بولندا فليس هنالك أي صناعة، وإذا وجدت فهي صناعات منزلية نادرة، ومن دون الصناعة لا يمكن لأي بلد أن يحقق الازدهار.

إن هذه الزيادة الهائلة في كمية العمل، والتي يمكن للعدد نفسه من الناس أن يؤدوها بفضل تقسيم العمل، ترجع إلى ثلاثة ظروف مختلفة:

1. ازدياد مهارة كل عامل متخصص.

2. توفير الوقت الذي كان يضيع في الانتقال من عمل إلى آخر.

3. اختراع عدد كبير من الآلات التي تسهل العمل وتختصره، وتمكّن شخصا واحدا من أداء عمل كان يقوم به الكثير من الأشخاص.

فأولا، إن تحسن مهارة العامل لا بد أن يزيد كمية العمل الذي يمكنه أن يؤديه، كما إن تقسيم العمل، وذلك عبر تقليص انشغال كل عامل بعملية بسيطة واحدة وجعل هذه العملية محور مهنته في الحياة، لا بد أن يزيد من مهارة العامل بشكل كبير جدا. إن الحداد العادي معتاد على استخدام المطرقة، ولكنه قد لا يكون معتادا على صنع المسامير، فإذا تعين عليه أن يحاول صنعها فإنني واثق من أنه لن يتمكن من صنع أكثر من مئتي أو ثلاثمئة مسمار في اليوم، ولكنها مسامير من النوع الرديء جدا. أما الحداد المعتاد على صناعة المسامير ولكن عمله ليس منصبا على ذلك، فلن يتمكن إلا بصعوبة من صنع أكثر من ثمانمئة أو ألف مسمار يوميا. لقد شاهدت عدة شباب لم يبلغوا العشرين من العمر، ولم يمارسوا أي عمل غير صناعة المسامير، يمكنهم إذا ركزوا جهدهم أن يصنع كل منهم أكثر من (2,300) مسمار يوميا. إن صناعة المسامير ليست من الأعمال البسيطة أبدا؛ فالشخص نفسه يضغط المنفاخ، ويحرك النار أو يعدلها بحسب ما يلائمه، ويسخن الحديد، ويطرق كافة أجزاء المسمار، وعندما يوصل الرأس يضطر إلى تغيير أدواته. إن العمليات المختلفة الداخلة في صناعة دبوس أو زر معدني تتصف بالتفرع، وكل فرع ينشأ منها يتسم بأنه أبسط من سابقه بكثير، كما إن مهارة الشخص الذي تعتمد مهنته في الحياة على أدائه، تتسم بأنها أكبر بكثير عموما. إن السرعة التي يتم بها أداء بعض عمليات هذه الصناعات تتجاوز ما يفترض باليد البشرية أن تؤديه بعد أن تمتلك المهارات اللازمة للعمليات التي لم تألفها من قبل.

ثانيا، إن المنفعة المكتسبة من توفير الوقت الذي يضيع عموما في الانتقال ما بين نوع معين من العمل إلى نوع آخر، هي منفعة تتجاوز بكثير ما يمكن أن نتخيله للوهلة الأولى. فمن المستحيل أن ننتقل بسرعة كبيرة من نوع معين من العمل إلى نوع آخر يجري في مكان آخر وبأدوات مختلفة كليا. فمثلا، إذا كان الحائك يقوم على رعاية حقل في الريف فسيفقد قدرا كبيرا من الوقت في الانتقال من نول النسيج إلى الحقل، ثم الرجوع إلى النول. ولا شك في أن خسارة الوقت تكون أقل بكثير عندما يجري العملان في المكان ذاته، لكن الخسارة تبقى كبيرة جدا حتى في هذه الحالة. إن من عادة الإنسان أن يتلكأ قليلا في الانتقال بين عملين، وعندما يبدأ العمل الجديد لا يكون على قدر كبير من الحماس، ولا ينتبه له ذهنيا، ويفضل الاستهانة به على التركيز عليه. إن عادة التلكؤ والعمل البطيء المهمل، والتي يكتسبها بشكل طبيعي كل عامل ريفي يتحتم عليه تغيير عمله وأدواته كل نصف ساعة والخوض بيديه في عشرين عملا طوال كل يوم من حياته، إنما هي عادة تجعله متراخيا وكسولا دائما، وعاجزا عن أي عمل يتطلب النشاط حتى في أحلك الظروف. ولذلك، فإن تخلصه من نقص المهارة يعد سببا كافيا لوحده في التخفيف الكبير من كمية العمل التي يمكنه أن يؤديه.

ثالثا، وأخيرا، يجب على الجميع أن يحيطوا علما بما يمكن لتطبيق الآلة المناسبة أن يحدثه من تسهيل العمل واختصاره، والأمثلة هاهنا كثيرة لا داعي لذكرها. وينبغي التذكير بأن اختراع هذه الآلات جاء أصلا بسبب تقسيم العمل. فالناس أكثر ميلا بكثير إلى اكتشاف أساليب أسهل وأكثر جاهزية للحصول على أي شيء عندما يكون التركيز الكلي لأذهانهم منصبا على ذلك الشيء بعينه، وذلك بالمقارنة مع ما يكون عليه الحال حينما يتشتت الانتباه على أشياء كثيرة متنوعة. وفي حالة تقسيم العمل يكون التركيز منصبا بشكل طبيعي على شيء واحد بسيط جدا، ولهذا فمن الطبيعي أن نتوقع قيام أحد المتخصصين بفرع من فروع العمل باكتشاف أساليب أسهل وأكثر جهوزية لأداء ما يقوم به من عمل، وذلك إذا كانت طبيعة العمل تسمح بإدخال هذا التحسين. إن الكثير من الآلات المستخدمة في المصانع التي تعتمد تقسيم العمل إنما جاءت في الأصل كاختراعات لعمال عاديين أدى توظيفهم في عمليات بسيطة جدا إلى تركيز أذهانهم بشكل طبيعي على إيجاد أساليب أسهل وأكثر جاهزية لأدائها، ومن يعتد على زيارة أمثال هذه المصانع يصادف الكثير من الآلات الجميلة التي اخترعها أمثال هؤلاء العمال لتسهيل وتسريع ما يقومون به من أقسام العمل. وإليك هذا المثال: في المحرك الناري الأول كان يتم توظيف فتى يقوم بالفتح والإغلاق الدائم للوصلة ما بين المرجل والأسطوانة، وذلك بحسب ما إذا كان المكبس صاعدا أم نازلا؛ وكان هنالك فتى يعمل في هذه الوظيفة ويحب اللعب مع أقرانه، ولاحظ ذات يوم أنه يمكن ربط حبل ما بين مقبض الصمام الذي يفتح الوصلة وما بين الجزء الآخر من الآلة، وعندها يمكن للصمام أن يفتح ويغلق دون مساعدته، مما يعطيه الحرية للعب مع أقرانه. وهكذا فإن أحد أفضل التحسينات التي دخلت على هذه الآلة منذ اختراعها كانت بفضل اكتشاف فتى أراد استثمار عمله بشكل أفضل.

ولكن كل هذه التحسينات المدخلة على الآلات لم تكن أبدا من اختراع أشخاص تعاملوا معها بشكل عرضي. فالكثير منها جاء بفضل مهارة صانعيها عندما تحولت صناعة الآلات إلى مجال خاص من مجالات العمل، ومنها ما جاء بفضل من يدعون بالفلاسفة أو المتفكرين والذين لا يقوم عملهم على القيام بأي شيء وإنما على ملاحظة كل شيء، والذين يقدرون بهذا الاعتبار على تجميع قوى الأشياء الأكثر تباعدا واختلافا. وخلال تقدم المجتمع تصبح الفلسفة أو التفكر، شأنها شأن أي وظيفة أخرى، الاتجاه والعمل الرئيسي والجوهري لفئة محددة من المواطنين. وكما هو حال أي وظيفة أخرى، فإن الفلسفة أو التفكر تنقسم إلى عدد كبير من الفروع المختلفة، وكل فرع يشكل وظيفة لفئة معينة من الفلاسفة، ومن شأن هذا التفرع أن يؤدي إلى النتائج نفسها التي نتجت عنه في فروع العمل الأخرى، وهي: تطوير المهارات، وتوفير الوقت. وهكذا يمكن لكل فرد أن يصبح أكثر خبرة في فرعه التخصصي، ونحصل على مزيد من العمل في المحصلة الإجمالية، وترتفع السوية العلمية على نحو كبير.

إن التضاعف الكبير في إنتاج كافة المجالات المختلفة بعد تطبيق تقسيم العمل، يتمخض عن ثروة شاملة تصل إلى متناول أدنى طبقات المجتمع، وذلك بشرط توفر حكومة جيدة تدير المجتمع. وبذلك يحصل كل عامل على كمية كبيرة من عوائد عمله الخاص لإنفاقه في مجالات تتجاوز ما يريد، كما إن أي عامل آخر، في الوضع نفسه، يمكنه أن يتبادل كمية كبيرة من بضائعه مقابل كمية كبيرة من بضائع عامل آخر، أو مقابل ثمن كمية كبيرة من هذه البضائع الأخرى؛ فيوفر لهم ما يريدونه بقدر ما يشاؤون، ويزودونه في المقابل بما يريد ويشتهي، وهكذا تنتشر الثروة ما بين كافة شرائح المجتمع.

إذا ما لاحظت المستوى المعيشي لمعظم العمال المحترفين أو العاديين في بلد متحضر ومزدهر فستجد أن هنالك عددا لا يحصى من العمال الذين يشاركون ولو بشكل جزئي في تأمين هذا المستوى المعيشي؛ ولنأخذ المعطف الصوفي الذي يرتديه العامل العادي كمثال: فمهما كان هذا المعطف خشنا وعاديا، فإنه يمثل حصيلة العمل المشترك لعدد هائل من العمال: الراعي، ومنتقي الصوف، ومن ينظفه ويمشطه، والصباغ، والمشذب، والغزّال، والقصّار، والخياط وغيرهم الكثير ممن تتضافر اختصاصاتهم في إنتاج حتى هذه السلعة المتواضعة. وإلى جانب هؤلاء، كم هنالك من التجار والناقلين الذين ينقلون مواد الإنتاج من عامل إلى آخر مهما تباعدت بينهم المسافات! وكم هنالك من بناة السفن والبحارة ووكلاء الرحلات البحرية وصانعي الحبال الذين تتم الاستعانة بهم لإيصال كافة المواد الكيميائية التي يحتاجها الصباغ من بقاع الأرض النائية! وكم هنالك من التنوع الضروري في العمل لإنتاج الأدوات التي يستخدمها أبسط العمال الذين تتضمنهم صناعة ذلك المعطف! فإذا غضضنا النظر عن الآلات المعقدة كسفينة البحّار وآلة القصّار وحتى نول الحائك، لا بد أن نلاحظ كم من العمل المتنوع نحتاجه لإنتاج المجزّ الذي يقص به الراعي صوف الغنم: فهنالك عالم المنجم، ومن يبني الفرن الذي يصهر فيه المعدن الخام، وقاطع الأخشاب، وصانع الفحم الذي يستخدم في فرن الصهر، وصانع الآجر، وباني الفرن، وعامل الفرن، والمتخصص في إنتاج المعادن، ومن يحول الحديد الخام إلى حديد مطاوع، والحداد؛ فكل هؤلاء يمزجون فنونهم المختلفة لإنتاج هذا المجزّ. وإذا أردنا أن نتناول بالطريقة نفسها كافة ملابس ذلك العامل وما في منزله من أثاث: قميصه الداخلي المصنوع من الكتان، وحذاءه الذي يغطي قدميه، وسريره الذي يستلقي عليه وما به من مكونات، وموقد النار الذي يطبخ به طعامه، وما يستهلكه الطبخ من فحم يستخرج من أعماق الأرض ويصل إليه عبر رحلات بحرية وبرية طويلة، وكل ما في المطبخ من أوعية، وكل ما على طاولة الطعام من سكاكين وشوكات وصحون يقسم فيها الطعام، والأيدي العاملة المختلفة التي شاركت في صنع خبزه وشرابه، والنافذة الزجاجية التي تسمح بدخول الحرارة والضوء دون الرياح والمطر، مع كل المعرفة والمهارة المستخدمة لتحضير الابتكارات الجميلة البهيجة التي ما كان ممكنا لولاها أن تحظى الأجزاء الشمالية من هذا الكوكب بمستوى معيشي مريح جدا، وذلك بالإضافة إلى الأدوات التي يوظفها مختلف العمال القائمين على إنتاج وسائل الراحة المختلفة التي ذكرناها. فإذا ما تفحصنا كل ذلك، وتفكرنا في كل مجال متنوع من العمل يوظف لإنتاجها، فسندرك بأنه من دون مساعدة وتعاون الآلاف من الناس لن يكون ممكنا لأكثر الناس تواضعا في المستوى المعيشي في الدول المتحضرة أن يوفر، حتى في أشد التخيلات جموحا، ما يعيش به من مستوى معيشي سهل وبسيط. إن هذه السهولة والبساطة تبدو بشكل شديد الوضوح عندما تقارن بفخفخة أمير أوروبي، ولكن تسهيلات الحياة التي يتمتع بها هذا الأمير لا تبتعد كثيرا عما يتمتع به فلاح مجتهد مقتصد، وذلك إذا قارنا ذلك بالهوة التي تفصل مقتنيات هذا الفلاح عن مقتنيات ملك أفريقي يتحكم بمصائر وحريات عشرات الآلاف من الهمج العراة.

temp26 مارس، 20120

يمكن ملاحظة النتائج النفسانية للإيثار في حقيقة مفادها أن الكثير جدا من الناس يقاربون موضوع الأخلاق عبر طرح أسئلة من مثيل: «هل ينبغي على المرء أن يخاطر بحياته لإنقاذ شخص يغرق، أو تحاصره النيران، أو يمشي أمام سيارة مسرعة، أو يتشبث بأظافره على شفير هاوية؟»

لنتأمل ما تنطوي عليه هذه المقاربة؛ فمن يتقبل أخلاقيات الإيثار سيعاني من العواقب التالية (بحسب درجة تقبله لها):

1. غياب عزة النفس: وذلك لأن همه الأول في ميدان القيم لا يدور حول كيفية عيشه لحياته، وإنما كيفية التضحية بها.

2. غياب احترام الآخرين: وذلك لأنه يعتبر البشرية قطيعا من المتسولين البائسين الذين يصرخون طلبا لعون الآخرين.

3. نظرة كابوسية إلى الوجود: وذلك لأنه يعتقد بأن الناس محجوزون في «كون شرير» لا تنقطع فيه الكوارث وتشكل الهم الأساسي للجميع.

4. لامبالاة مَرَضية تجاه الأخلاق، وحس لاأخلاقي تشاؤمي ميؤوس منه: وذلك لأن أسئلته تدور حول مواقف يستبعد أن يواجهها، ولا علاقة لها بالمشكلات الحقيقية لحياته الشخصية، مما يجعله يعيش دون أية مبادئ أخلاقية مهما كان نوعها.

إن رفع شأن قضية مساعدة الآخرين إلى منزلة القضية المركزية والأساسية في الأخلاق أدى إلى تدمير (الإيثار) لمفهوم كل ما يندرج ضمن إطار (عمل الخير) الحقيقي أو (النية الحسنة) الصادقة عند البشر. لقد قضى ذلك على الناس بأن يسلموا بفكرة مفادها أن تقييم الآخرين ينبغي أن يكون وفق منظور إيثاري، وهذا يقتضي ضمنا أن الإنسان لا يمكن أن يكون له مصلحة شخصية في الآخرين، وأن (قيمة) الآخر تعني (التضحية) بالذات، وأن أية محبة أو احترام إعجاب يشعر به الإنسان تجاه الآخرين ليس، ولا يمكن أن يكون، مصدرا لمتعته الشخصية، وإنما يشكل تهديدا لوجوده، و(وكالة قانونية مطلقة) يفعل بها المحبوب ما يشاء.

هنالك من يختار الوجه الآخر لهذه القضية المزدوجة، فيسقط في فخ الآثار النهائية للتأثير المجرد من الإنسانية للإيثار، وهم أولئك المختلون عقليا الذين لا يناقشون الأرضية المنطقية الأساسية للإيثار، وإنما يدّعون ثورتهم على التضحية بالنفس عبر الإعلان بأنهم لا يبالون أبدا بأي كائن حي، وأنهم لن يحركوا إصبعا لمساعدة أي شخص أو كلب صدمه سائق متهور وتركه على قارعة الطريق (هذا السائق يندرج معهم في النوع ذاته).

معظم البشر لا يتقبلون أو يمارسون أيا من وجهي قضية (الإيثار) المزدوجة المزيفة تماما، ولكن نتائجها تشكل فوضى فكرية هائلة في مسألة (العلاقات البشرية المناسبة) وما يماثلها من المسائل: كطبيعة أو غاية أو مدى مساعدة الآخرين. واليوم نجد الكثير الكثير من الأشخاص العقلانيين ذوي النية الحسنة يعانون من الجهل بكيفية صياغة تعريف أو مفهوم للمبادئ الأخلاقية التي تحرك ما يشعرون به من حب أو إعجاب أو نية حسنة، ولا يجدون مرشدا يدلهم في ميدان الأخلاق الذي تسيطر عليه تفاهات (الإيثار) المملة.

في ما يخص السؤال (لماذا ليس الإنسان كائنا تضحويا؟ ولماذا ليس من واجبه الأخلاقي أن يساعد الآخرين؟) أنصح بالرجوع إلى رواية (أطلس يستريح)؛ ففيها تجد مناقشة حول المبادئ التي يمكن للمرء استخدامها في تحديد وتقييم الحالات المتعلقة بالمساعدة (اللاتضحوية) التي يقدمها المرء للآخرين.

إن (التضحية) هي التخلي عن أمر ذي قيمة أكبر لأجل أمر ذي قيمة أصغر أو دون أي قيمة على الإطلاق؛ وعلى هذا الأساس، فإن الإيثار يقيس فضيلة الإنسان بحسب الدرجة التي يصل إليها في التخلي أو الرفض أو الخيانة تجاه قيمه (وذلك لأن مساعدة الغريب أو العدو تعتبر أكثر فضيلة وأقل «أنانية» من مساعدة الأحباء). أما المبدأ العقلاني للأفعال فهو على العكس تماما: الالتزام الدائم بالتصرف بحسب الهرمية التي تفرضها القيم، وعدم التضحية بقيمة أكبر من أجل قيمة أصغر.

وهذا ينطبق على جميع الخيارات، بما في ذلك تصرفات المرء إزاء الآخرين، وهي تتطلب من المرء أن يمتلك هرمية محددة من القيم العقلانية (القيم المختارة والمشروعة وفق معايير عقلانية)؛ ومن دون هذه الهرمية لن يكون هنالك أداء عقلاني، ولا تقييمات محترمة للقيم، ولا خيارات أخلاقية.

إن الحب والصداقة هما قيمتان شخصيتان وأنانيتان في الجوهر؛ فالحب تعبير وتأكيد على عزة النفس، واستجابة لقيم المرء الشخصية التي يجدها في شخصية الآخر، حيث يجد في مجرد وجود شخص المحبوب متعة شديدة في شخصانيتها وأنانيتها، وسعادته الشخصية الأنانية هي التي يسعى إليها ويمتلكها ويستمدها من الحب.

أما الحب «المجرد من الذات» و«الحيادي» فهو عبارة متضادة الكلمات، حيث يعني أن المرء لا يبالي بما يعتبر وجوده ذا قيمة لديه.

إن الحرص على رعاية الأحباء يعتبر جزءا عقلانيا من المصالح الأنانية للمرء؛ فمن يحب زوجته بعاطفة شديدة ينفق أموالا كثيرة لشفائها من مرض خطير، وسيكون من العبث الادعاء بأنه يفعل ذلك «تضحية» (لأجلها)، لا لأجله، وأنه يستوي (عنده)، على المستوى الشخصي الأناني: حياتها وموتها.

إن أي تصرف يقوم به المرء لمنفعة الأحباء (ليس تضحية) إذا حقق (له) الأهمية الأكثر (شخصانية)، والأكثر عقلانية بحسب هرمية قيمه وفي السياق الكامل للخيارات المتاحة له. وفي المثال السابق، فإن نجاة زوجته من المرض ذات قيمة للزوج تعلو على قيمة أي شيء آخر قد يشتريه المال، وذات أهمية عظمى في سعادته الشخصية، وبالتالي فإن تصرفه هذا (ليس) تضحية.

ولكن دعونا هنا نفترض أنه تركها لتموت كي ينفق ماله على إنقاذ أرواح عشر نساء أخريات، دون أن يكون لأي منهن أهمية بالنسبة له، وذلك بحسب متطلبات أخلاقيات الإيثار، فهذا التصرف يعد تضحية. هنا نجد الفرق ما بين الموضوعانية والإيثار بأشد ما يمكن من الوضوح: فإذا كانت التضحية هي المبدأ الأخلاقي للفعل، فهذا يعني أن الزوج (ينبغي) عليه أن يضحي بزوجته من أجل عشر نساء أخريات. ويكون السؤال: ما الذي يميز زوجته عن النساء الأخريات؟ لا شيء سوى قيمتها للزوج الذي توجب عليه أن يتخذ القرار، أي: لا شيء سوى حقيقة مفادها أن سعادته (هو) تتطلب نجاتها من المرض. فالأخلاق الموضوعانية تهمس في أذنه: غايتك الأخلاقية الأسمى تتمثل في تحقيق سعادتك الشخصية، وأموالك هي ملك لك، فاستخدمها لإنقاذ زوجتك، و(ذلك) هو حقك الأخلاقي، وهو خيارك العقلاني الأخلاقي أيضا.

لنتخيل هنا روحية المنادين بالأخلاقيات التضحوية والذين يتمتعون بالاستعداد لإخبار ذلك الزوج بالعكس مما تصرف به، ثم لنسأل أنفسنا: هل تتحفز التضحية بدافع (عمل الخير)؟

إن الطريقة الأنسب لاتخاذ قرار مساعدة الآخرين وتحديد الزمان المناسب تقوم على الرجوع إلى المصلحة الذاتية العقلانية للمرء وهرميته القيمية: فما يبذله من وقت أو جهد أو مخاطرة يجب أن يتناسب مع منزلة الشخص في تحقيق سعادة المرء. ويمكن توضيح ذلك باستخدام المثال المفضل لأنصار الإيثار: إنقاذ الغريق؛ فعندما يكون هذا الشخص غريبا، فإن من المناسب أخلاقيا إنقاذه فقط عندما يكون خطر ذلك على المرء أقل ما يمكن، أما إذا كان الخطر كبيرا فعندها ستكون محاولة الإنقاذ أمرا لاأخلاقيا: فعندما تغيب عزة النفس وحسب يمكن السماح للمرء بأن يقيّم حياته بقيمة تقل عن قيمة أي غريب من هنا أو هناك. وبالمقابل، إذا كان المرء يغرق، فلن يتوقع من غريب أن يخاطر بحياته لأجله، وذلك لأن حياة المرء لا يمكن أن تكون أكثر قيمة لدى شخص آخر.

أما إذا كان الغريق ليس من الغرباء، فعندها تكون المخاطرة أعظم بحسب ارتفاع قيمة هذا الشخص لدى المرء، فإذا كان من الأحباء، فربما يقوم المرء حينها بتقديم حياته لإنقاذ هذا الشخص، وذلك لسبب أناني مفاده أن الحياة لا تحتمل من دون الحبيب.

وفي المقابل، إذا كان المرء قادرا على السباحة وإنقاذ زوجته الغريقة، ولكنه أصيب بالخوف وتراجع وتركها تغرق بسبب خوفه غير المبرر واللاعقلاني، ثم أمضى حياته في وحدة وبؤس، فعندها لا يمكن وصفه «بالأناني»؛ وإنما يمكن إدانته أخلاقيا بسبب خيانته لنفسه ولقيمه، أي: فشله في القتال للحفاظ على قيمة ذات أهمية حاسمة في قيمه الشخصية. ولا ننسى هنا بأن القيم هي ما تتمحور أفعال المرء حول اكتسابها و/أو الحفاظ عليها، وأن سعادة المرء الشخصية ينبغي أن تتحقق بجهده الشخصي. وبما أن سعادة المرء الشخصية هي الغاية الأخلاقية لحياته، فإن من يفشل في تحقيقها بسبب انسحابه، وبسبب فشله في القتال من أجلها، يعد مذنبا من الناحية الأخلاقية.

إن الفضيلة التي تتضمنها مساعدة الأحباء ليست «إنكارا للذات» أو «تضحية»، ولكنها (استقامة). فالاستقامة هي ولاء المرء لمعتقداته وقيمه، وهي سياسة التصرف وفق قيم المرء والتعبير عنها والالتزام بها وترجمتها إلى واقع معاش. وإذا قال رجل بأنه يحب امرأة، ولكن تصرفاته تجاهها كانت مطبوعة باللامبالاة والعدوانية والضرر، فعندها يكون لاأخلاقيا بسبب غياب الاستقامة لديه.

والمبدأ نفسه ينطبق على العلاقات بين الأصدقاء، فعندما يقع الصديق في حالة من الضيق، ينبغي على المرء أن يتصرف لمساعدته بكافة الوسائل اللاتضحوية المناسبة. وعلى سبيل المثال: إذا كان الصديق لا يجد ما يسد به جوعه، فليس من التضحية، وإنما من الاستقامة، أن يعطيه المرء مالا لشراء الطعام بدلا من استخدام ذلك المال لشراء سلعة غير مهمة، وذلك لأن معيشة الصديق مهمة في سلم القيم الشخصية للمرء. أما إذا كانت تلك السلعة تهم المرء أكثر من معاناة ذلك الصديق، فعندها لن يكون من المجدي الادعاء بوجود هذه الصداقة أساسا.

إن التطبيق العملي للصداقة والإعجاب والمحبة يتكون من ضم العيش الكريم (العقلاني) للشخص المقصود إلى الهرمية القيمية للمرء، ثم التصرف بحسب ذلك؛ ولكن هذه من المكاسب التي يجب على الشخص أن يربحها بواسطة فضائله ولا يمكن أن تمنح لأي كان لمجرد أنه من المعارف أو للغرباء. وبهذا يكون السؤال: ماذا نمنح للغرباء؟ إنه الاحترام العام والنية الحسنة اللتان ينبغي أن تمنحا لأي كائن بشري على أساس ما يمكن أن يمثله من قيم، إلى أن، وما لم، ينتهكها.

إن الإنسان العقلاني لا ينسى أن (الحياة) هي مصدر كل القيم، وبذلك فهي رابطة مشتركة بين الأحياء (بالمقارنة مع المادة الجامدة) تقضي بأن الآخرين متمكنون طبيعيا من إنجاز الفضائل نفسها بقدر ما هو متمكن منها، مما يجعلها ذات قيمة هائلة بالنسبة له. وهذا لا يعني أنه يعتبر حيوات الآخرين قابلة للتبادل مع حياته، وإنما يعترف بحقيقة مفادها أن حياته هي (المصدر) لا لقيمه فحسب، وإنما (لقدرته على التقييم) أيضا، وبالتالي فإن ما يمنحه من قيمة للآخرين ليس إلا نتيجة وامتدادا ومحصلة للقيمة الأولية التي هي نفسه ذاتها.

«إن الاحترام والنية الحسنة التي يحس بها عزيز النفس تجاه الآخرين تتسمان جوهريا بالارتباط بـ(الأنا)، ففي الواقع، يحس هذا الشخص بأن الآخرين ذوي قيمة لأنهم من (الفصيلة ذاتها التي ينتمي إليها). فمن يبجل الأحياء، إنما يبجل حياته (الشخصية)، وهذا هو الأساس النفساني لأية عاطفة شفقة وأي إحساس بالتضامن ضمن الفصيلة».

ناثانيل براندين: بين عمل الخير والإيثار؛ (الرسالة الموضوعانية)، يوليو 1962.

وبما أن البشر يولدون (صفحات بيضاء) إدراكيا وأخلاقيا، فإن الإنسان العقلاني يعتبر الغرباء أبرياء ما لم تثبت إدانتهم، ويمنحهم النية الحسنة الأولية على أساس ما يكمن فيهم كبشر؛ ثم يقوم بتقييمهم وفق الشخصية الأخلاقية التي يبدونها في مستوى الواقع، فإذا ما وجدهم مذنبين بشرور كبرى تتبدل نيته الحسنة إلى احتقار واستنكار أخلاقي. (من يعتز بالحياة البشرية، لا يمكنه أن يعتز بمن يدمرها). أما إذا وجد بأن هؤلاء الغرباء من أولي الفضائل فسيمنحهم حينها الاعتزاز والتقدير الشخصي الفردي بما يتناسب مع فضائلهم.

إن مساعدة المرء للغرباء في الحالات الطارئة تقوم على هذا الأساس من المفهوم المعمم للنية الحسنة والاحترام لقيمة الحياة البشرية، (وذلك في الحالات الطارئة حصرا).

ومن المهم التفريق ما بين قواعد التصرف في الحالات الطارئة وما بين قواعد التصرف في الظروف العادية للوجود البشري، وهذا لا يعني التعامل مع الأخلاق بازدواجية في المعايير: فالمبادئ الأساسية والقياسية تبقى هي ذاتها، ولكن تطبيقها في كل من الحالتين يتطلب تعريفات دقيقة.

الحالة الطارئة حدث لا إرادي، غير متوقع، محدود الوقت، يخلق ظروفا يستحيل معها نجاة الإنسان، كالفيضانات والزلازل والحرائق وغرق السفن. وفي الحالة الطارئة يكون الهدف الأساسي للإنسان متمثلا في الصراع مع الكارثة، والنجاة من الخطر، والعودة إلى الظروف الطبيعية (الوصول إلى اليابسة، أو إطفاء الحريق، إلخ).

أما الظروف «الطبيعية» فأعني بها: الطبيعية من الناحية (الميتافيزيقية)، والطبيعية من ناحية طبيعة الأشياء، والمناسبة للوجود البشري؛ فالإنسان يمكنه العيش على اليابسة، لكنه يعجز عن العيش في الماء أو النار. وبما أن الإنسان ليس قادرا على كل شيء، فمن الممكن ميتافيزيقيا لأي كارثة غير متوقعة أن تلحق به، وحينها تكون مهمته الوحيدة هي العودة إلى الظروف التي يمكن لحياته أن تستمر فيها. ومن طبيعة الحالة الطارئة أنها مؤقتة؛ ولو دامت لانقرض الإنسان.

وفي الحالات الطارئة وحدها ينبغي على المرء أن يتطوع لمساعدة الغرباء، وذلك عند الإمكان. وعلى سبيل المثال: إذا كان هنالك شخص يعتز بالحياة البشرية ووجد نفسه في وسط سفينة غارقة، فمن واجبه حينها أن ينقذ زملاءه المسافرين على متنها (على أن لا يكون ذلك على حساب حياته هو). ولكن هذا لا يعني أن من واجبه، بعد أن يصلوا جميعا إلى بر الأمان، أن يكرس جهوده لإنقاذ هؤلاء المسافرين من الفقر والجهل والاضطرابات العصبية أو أية مشكلة من المشكلات التي قد تمر بهم، كما لا يعني ذلك أن يقضي حياته مبحرا في البحور السبعة لإنقاذ ضحايا السفن الغارقة.

وإليك مثالا آخر قد يحدث في الحياة اليومية: لنفترض أنه تناهى إلى سمع أحدهم أن جاره مريض ومفلس، والمرض والفقر ليسا من الحالات الطارئة ميتافيزيقيا، وإنما هي جزء من المخاطر الطبيعية للوجود البشري؛ ولكن بما أن هذا الشخص عاجز عن تدبر أموره مؤقتا، يمكن للمرء أن يحضر إليه الطعام والدواء (إذا) كان قادرا على تأمين المال اللازم لتوفيرهما (كتصرف ينشأ عن حسن النية، لا الواجب)، أو ربما يجمع له التبرعات من الجيران لمساعدته. ولكن هذا لا يعني أن من الواجب الاستمرار في مساعدته بعد ذلك، ولا أن يمضي حياته بحثا عن الجوعى لإطعامهم.

في الظروف الطبيعية للوجود ينبغي على المرء أن يختار أهدافه، ويخطط لها زمنيا، ويسعى إلى تحقيقها بجهده الشخصي. ولا يمكنه أن يفعل ذلك إذا كانت أهدافه تحت رحمة نكبات الآخرين أو عرضة للتضحية بها من أجلهم. ولا يمكنه أن يعيش حياته تحت توجيه قواعد لا تطبق إلا في الظروف التي يستحيل فيها نجاة الإنسان.

إن مبدأ (وجوب مساعدة الآخرين في الحالات الطارئة) لا يمكن توسيعه ليعتبر كافة حالات المعاناة البشرية من الحالات الطارئة، ويحول نكبات البعض إلى دفعة أولى في حساب حيوات باقي البشر. إن الفقر والجهل والمرض وغيرها من المشكلات المشابهة ليست من الحالات الطارئة ميتافيزيقيا؛ فالمرء يتوجب عليه أن يحافظ على حياته بجهده الشخصي؛ وما يحتاجه من قيم (كالثروة أو المعرفة) لا يحصل عليها على نحو آلي كهبة من الطبيعة، وإنما ينبغي اكتشافها وتحقيقها عبر تفكيره وعمله الشخصي. ومن هنا، فإن الواجب الأساسي تجاه الآخرين يتمثل في الحفاظ على منظومة اجتماعية تترك الآخرين أحرارا في إنجاز قيمهم وكسبها والاحتفاظ بها.

كل العقائد الأخلاقية تقوم على الميتافيزيقيا وتشتق منها، أي: من نظرية حول الطبيعة الأساسية للكون حيث يعيش المرء ويتصرف. والأخلاقيات الإيثارية قائمة على ميتافيزيقيا «كون شرير»، وفق نظرية ترى بأن الإنسان، وبطبيعته ذاتها، محكوم بالعجز واللعنة، وأن النجاح والسعادة والإنجاز أمور مستحيلة التحقيق، وأن الطوارئ والكوارث والنكبات أمور طبيعية في حياة الإنسان، وأن هدفه الأساسي يتمثل في مكافحتها. ومن ينظر إلى الثروات التي تحققها شركات التأمين يضع يده على أبسط دليل عملي لنقض هذا الطرح الميتافيزيقي، وهو دليل على حقيقة مفادها أن الكون المادي ليس معاديا للإنسان، وأن الكوارث هي الاستثناء وليست القاعدة في الوجود البشري. كما ينبغي الانتباه أيضا إلى أن أنصار الإيثار يعجزون عن تأسيس أخلاقياتهم على أي من حقائق الوجود الطبيعي للإنسان، وأنهم يقدمون دائما حالات «قارب النجاة» كأمثلة تشتق منها قواعد السلوك الأخلاقي، حيث يسألون مثلا: «ماذا يتوجب عليك أن تفعل إذا وجدت نفسك مع شخص آخر في قارب نجاة لا يتسع إلا لشخص واحد؟»، وغيره من الأسئلة.

الحقيقة تقول أن الإنسان لا يمضي حياته في العيش على قوارب النجاة، وأن قارب النجاة ليس الأساس المناسب لإقامة طرح ميتافيزيقي.

إن الغاية الأخلاقية لحياة الإنسان تتمثل في تحقيق سعادته الشخصية، وهذا لا يعني لامبالاته بالبشر جميعهم، وأن الحياة البشرية لا قيمة لها عنده، وأن لا سبب يدفعه إلى مساعدة الآخرين في الحالات الطارئة؛ وإنما يعني (بالتأكيد) أنه لا يتوجب عليه إخضاع حياته في سبيل تحسين معيشة الآخرين، وأنه لا يتوجب عليه التضحية بنفسه في سبيل حاجاتهم، وأن تخفيف معاناتهم ليس همه الأول، وأن أية مساعدة يقدمها هي (استثناء) لا قاعدة، وأنها تصرفٌ دافعه الكرم لا الواجب الأخلاقي، وأنها تصرفٌ (هامشي) و(عرَضي) كما أن الكوارث هامشية وعرَضية في مسار الوجود البشري، وأن القيم، لا الكوارث، هي الهدف والهم الأول والقوة المحفزة في حياة الإنسان.

فبراير 1963

من كتاب (فضيلة الأثرة) للكاتبة الأمريكية آين راند

temp21 مارس، 20121

لو كان البشر جميعهم، إلا شخصا واحدا منهم، متفقين على رأي واحد، وكان هذا الشخص الوحيد مخالفا لرأيهم هذا، فإن البشرية لا تملك ما يبرر لها إسكات هذا الشخص، تماما كما إن هذا الشخص لا يملك ما يبرر له إسكات البشرية لو كان يقدر على ذلك. وسواء أكان هذا الرأي ملكية شخصية لا قيمة لها إلا في نظر مالكها، وكان منع التمتع بها لا يتسبب إلا بضرر شخصي، فلن يكون هنالك إلا القليل من الفرق بين ما إذا كان الضرر واقعا على ثلة من الناس أو على كثير منهم. لكن الشر الخاص في إسكات التعبير عن الرأي، وهو سرقة من البشرية، من الجيل القادم والحالي، يتمثل في أن من يعارضون الرأي هم أكثر عددا ممن يؤيدونه. فلو كان الرأي مصيبا، فهذا يعني تجريدهم من فرصة استبدال الخطأ بالصواب؛ وإذا كان الرأي مخطئا، فسيخسرون فائدة من أعظم الفوائد، وهي الإدراك الأوضح والانطباع الأكثر حيوية الذي ينتج عن اصطدام الصواب بالخطأ.

وباختصار: من المستحسن أن تفرض الفردية نفسها في الأمور التي لا تهم الآخرين بشكل أساسي. وحينما لا تكون شخصية المرء قاعدة للسلوك، وإنما أعراف الآخرين وتقاليدهم، تبرز الحاجة إلى أهم المكونات الرئيسية للسعادة البشرية، والعنصر الأساسي في تحقيق التقدم الفردي والاجتماعي.

إذا أردنا الالتزام بهذا المبدأ، فإن الصعوبة الكبرى التي نواجهها لا تكمن في تقييم الوسيلة مقابل الغاية المبتغاة، وإنما في حيادية الناس بشكل عام تجاه الغاية ذاتها. وإذا كان هنالك توجه لاعتبار التطور الحر للفردية واحدا من ضرورات الرخاء، وأنها ليست مجرد عنصر مساعد يندرج ضمن العنوان العام للحضارة والإرشاد والتعليم والثقافة، وإنما هي بذاتها جزء لا غنى عنه وشرط فيها جميعا، فعندها لن يتهدد الحرية خطر الاستخفاف، ولن يكون من الصعب جدا أن نرسم الحدود ما بينها وبين سلطة المجتمع. لكن الخطر يتمثل في أن التلقائية الفردية تكاد لا تلقى الاعتراف بها ضمن أنماط التفكير الشائعة باعتبارها تملك أية قيمة جوهرية، أو تستحق أي احترام لمكانتها فحسب. إن رضى الأغلبية عن سلوكيات الناس كما هي حاليا (لأنها هي التي جعلتهم على هذه الحال) يجعلها عاجزة عن استيعاب السبب في عدم ملاءمة هذه السلوكيات للجميع؛ والأهم من ذلك أن التلقائية لا تشكل أي جزء من الفكرة المثالية التي تعتقدها الأغلبية حول المصلح الأخلاقي أو الاجتماعي، بل إن الأغلبية تنظر إليها بعين العداء باعتبارها مثيرة للمشكلات وعائقا متمردا أمام القبول العام لما يعتقده المصلح الأفضل للناس بحسب تقييمه الشخصي. وليس هنالك غير قلة قليلة خارج ألمانيا ممن يستوعبون المبدأ الذي استندت إليه كتابات العالم والسياسي الألماني الشهير فيلهيلم فون همبولت في إحدى طروحاته، حيث ورد فيها: “غاية الإنسان، أو ما تنص عليه التعليمات الأبدية الثابتة للعقل، والتي لا تستند إلى الرغبات المبهمة العابرة، تتمثل في التطوير الأعلى والأكثر تناغما لقواه نحو كيان واحد كامل ومنسجم”، ولهذا فإن الهدف الذي “يجب على كل إنسان أن يوجه جهوده نحوه بلا كلل، وعلى كل من يرغب بالتأثير في الآخرين أن ينتبه إليه، هو الفردية القوية المتطورة”، وينبغي توفير مطلبين لتحقيق ذلك، وهما: “الحرية، ومجموعة من متنوعة من الظروف”، ومن اتحاد هذين المطلبين ينشأ “الحماس الفردي والتنوع المتعدد”، واللذان يتوحدان في “الأصالة”.

لكن القليل منا من اعتاد على تعاليم مماثلة لما جاء به فون همبولت، وقد يتفاجأ البعض بوجود هذه القيمة العالية للفردية، ولكن على المرء أن يتفكر في ذلك، فهذه المسألة على قدر كبير من الأهمية. يجب على كل واحد منا أن لا يفكر بأن الأداء الممتاز يأتي عن طريق اقتصار الناس على تقليد بعضهم بعضا، وأن لا يُعتقد بأن الناس ينبغي عليهم أن يطبقوا في نمط حياتهم وفي أداء مهامهم أي انطباع ناتج عن تقييمهم الخاص أو شخصيتهم الفردية. من الجهة الأخرى، سيكون من العبث الادعاء بأن الناس ينبغي عليهم العيش وكأن العالم لم يكن يفقه قبلهم شيئا، وأن التجارب لم يكن لها من أثر في تفضيل نمط للمعيشة أو السلوك على نمط آخر. وما من أحد ينكر أن الناس ينبغي أن يتلقوا في صغرهم من التعليم والتدريب ما يكفي للانتفاع من النتائج الأكيدة للتجربة البشرية، ولكن امتيازات المرء وظروفه المناسبة التي تتأتى من نضوج قدراته هي التي تمكنه من تفسير هذه التجارب بطريقته الخاصة، ويبقى له أن يكتشف ذلك الجزء من التجارب المسجلة الذي يمكن تطبيقه بشكل مناسب ضمن ظروفه وشخصيته الخاصة به. إن تقاليد الآخرين وأعرافهم تشكل، إلى مدى معين، إشارة على ما تعلموه من تجاربهم، وهي إشارة افتراضية أيضا إلى المطالبة بخضوع المرء؛ ففي المقام الأول: ربما تكون تجارب الآخرين محدودة جدا، وربما لا يتمكنون من تفسيرها على الوجه الصحيح. وثانيا: ربما يكون تفسيرهم للتجارب صحيحا ولكنه لا يناسبه، فالتقاليد نشأت لظروف وشخصيات تقليدية، وربما لا تكون ظروف المرء أو شخصيته من النوع التقليدي. وثالثا: إذا كانت التقاليد جيدة وملائمة للمرء، فإن التلاؤم مع التقاليد لمجرد أنها تقاليد لا يعلّم المرء ولا ينمي فيه أيا من الخصال التي يتميز بها الكائن البشري. إن القدرات البشرية كالإدراك والمحاكمة العقلية والشعور التفضيلي والنشاط الذهني، وحتى التفضيل الأخلاقي، لا يمكن ممارستها إلا عبر (الانتقاء)؛ ومن يفعل أي شيء باعتباره من التقاليد، فهو لا يقوم بالانتقاء، ولا يكتسب من ذلك خبرة في معرفة الأصلح أو الرغبة فيه، فالقدرات العقلية والمعنوية تماثل القدرات العضلية في أنها لا تتحسن إلا بالتمرين، وتفتقر هذه القدرات إلى التمرين عند الاقتصار على فعل ما يفعله الآخرون، ناهيك عن الاعتقاد بأمر لا لشيء إلا اعتقاد الآخرين به. وإذا كان هنالك رأي لا يملك أساسا منطقيا قاطعا في عقلية المرء، فإن تبني هذا الرأي لا يقوي هذه العقلية، بل إن من المرجح أنه سيضعفها؛ وإذا كانت دوافع أمر ما تفتقر إلى الانسجام المطلوب مع مشاعر المرء وشخصيته (عند إغفال ميول أو حقوق الآخرين)، فإن قيامه به يؤدي إلى أثر كبير جدا على اتصاف مشاعره وشخصيته بالجمود واللامبالاة، عوضا عن النشاط والحيوية.

إن من يدع بيئته، أو حصته منها، تنتقي له خطة حياته فلا حاجة له بأي قدرة أخرى سوى قدرة القرود على التقليد؛ أما من يختار خطته بنفسه فهو يوظف كل قدراته: فيستخدم قدرته على الملاحظة للمشاهدة والتدبر، والمحاكمة العقلية للتوقع، والنشاط لجمع المواد التي يتطلبها القرار، والتمييز لاتخاذ قرار، وعندما يتخذ القرار يستخدم الإصرار وضبط النفس للالتزام بقراره المدروس. وهذه القدرات يحتاجها المرء ويمارسها بما يتناسب تماما مع ذلك الجزء من سلوكه الذي يقرره بناء على تقييمه ومشاعره الخاصة. من الممكن أن يتوجه المرء إلى طريق السلامة ويبتعد عن الأذى دون الاستعانة بذلك، ولكن ماذا ستكون في هذه الحالة قيمته بالمقارنة مع غيره من البشر؟ فمن شديد الأهمية أن نعرف: لا ما يفعله الإنسان، وإنما ما نوع الإنسان الذي يقوم بهذا الفعل؛ فمن بين إنجازات الإنسان، حيث يوظف الإنسان حياته على نحو ملائم لتحقيق كمالها وجمالها، لا ريب في أن أكثرها أهمية هو الإنسان ذاته. لنفرض أن من الممكن استخدام الآلة (الروبوت) في بناء المنازل وزراعة المحاصيل وخوض المعارك وحل القضايا وحتى تشييد الكنائس وترديد الصلوات فيها، فسيكون من الخسارة الكبرى أن نستعيض بهذه الروبوتات عن الرجال والنساء حتى في أكثر بقاع الأرض تحضرا، والذين يتوقون إلى ما تقدمه الطبيعة حاليا وفي المستقبل. إن الطبيعة البشرية ليست آلة يمكن بناؤها وفقا لنموذج مسبق، وجهازا يؤدي ما صمم لأجله، ولكنها أشبه بالشجرة التي تحتاج إلى العناية والتطوير من كافة النواحي طبقا لميول القوى الداخلية التي تجعلها كائنا حيا.

إن المرء الذي تكون رغباته ودوافعه خاصة به، وتعبر عن طبيعته الخاصة التي تطورت وتبدلت بتأثير ثقافته الخاصة، يقال بأن لديه شخصية. أما من كانت رغباته ودوافعه غير خاصة به، فليس لديه شخصية، كما أن المحرك البخاري ليست لديه شخصية. وعندما تكون دوافع المرء خاصة به، ويضاف إلى ذلك تمتعها بالقوة، ووقوعها تحت سلطة الإرادة القوية، فإن هذا يعني بأن شخصيته حيوية. ومن يظن بأن فردية الرغبات والدوافع ينبغي عدم التشجيع على كشفها للعيان، فعليه أن يعتقد بأن المجتمع لا يحتاج إلى الطبائع القوية (أي أنه من الأفضل أن لا يحتوي المجتمع على الكثير من ذوي الشخصية القوية)، وأن الطاقة الزائدة عن المعتاد ليست من الأمور غير المرغوبة.

إن الفرد لا يحقق ذاته بالانحطاط إلى التشاكل، ولكنه يصبح كائنا نبيلا وجميلا وجديرا بالتأمل عندما يصقل ذاته ويتقدم بها إلى الأمام ضمن الحدود التي تسمح بها حقوق الآخرين ومصالحهم. وبما أن الفعل يترك أثرا على شخصية من يقوم به، فإن هذه الآلية نفسها تجعل حياة الإنسان غنية ومتنوعة وحيوية وتقدم وفرة من مقومات الأفكار السامية والمشاعر البهيجة، وتقوي الأواصر التي تربط الفرد بالجماعة، وذلك عبر جعل هذه الجماعة تستحق الانتماء إليها تماما. وبقدر ما تنمو فردية المرء يصبح أكثر قيمة في نظره هو، وهذا يجعله جديرا بأن يكون أكثر قيمة في نظر الآخرين. إن وجود المرء يمنحه إحساسا عظيما بالحياة، وعندما يحس الأفراد بالحياة أكثر، فإن هذا يبعث حياة أكبر في المجموعة التي تتكون منهم. ولا شك في ضرورة بذل جهد هائل في الضغط على القوي كي لا يتعدى على حقوق الضعيف، ولكن ذلك يؤدي إلى تعويض كبير حتى من وجهة نظر التنمية البشرية. إن وسائل التنمية التي يخسرها الفرد عبر منعه من تلبية ميوله التي تؤدي إلى خسارة الآخرين، إنما يمكن الحصول عليها ولكن على حساب تنمية الآخرين؛ وحتى أنه يستفيد هو نفسه عبر مردود كامل يحصل عليه من تنمية أفضل للجانب الاجتماعي من طبيعته، وذلك ينتج عن تقييد الجانب الأناني. وإذا ما تم إلزام المرء بقواعد العدالة الصارمة من أجل الآخرين، فإن ذلك يؤدي إلى تنمية مشاعر وقدرات تهدف إلى صالح الآخرين؛ ولكن إذا تم تقييده بأمور لا تؤثر على صالحهم، وإنما تؤدي إلى استيائهم، فلن ينتج عن ذلك أي قيمة ما عدا قوة الشخصية التي قد تكشف عن نفسها في مقاومة القيود؛ أما إذا قبل بذلك دون معارضة فسيؤدي ذلك إلى إطفاء طبيعته وتبلدها تماما. وإذا أردنا أن نحكم بالعدل لكل من هذه الطبائع، فمن الضروري أن يسمح لكل من هؤلاء الأشخاص المختلفين أن يعيش حياته بشكل نختلف، وبقدر تطبيق هذا الموقف في كل جيل يكون الجيل التالي مقدرا للجيل السابق. حتى الاستبداد لا يفرز تأثيراته السيئة ما دامت الفردية موجودة، وكل ما يدمرها يمكن لنا أن ندعوه (الاستبداد) مهما تعددت أسماؤه، ومهما كانت الدواعي المزعومة: تطبيق حكم الرب، أو حكم الناس.

لقد أسلفت بأن الفردية والتنمية صنوان، وأن حصاد الفردية وحده الذي ينتج، أو يستطيع أن ينتج، كائنات بشرية حسنة التنمية والتطور. وهنا أرغب بإكمال هذا الطرح، فأقول: هل هنالك أكثر أو أفضل من هذا الظرف من ظروف أداء الشؤون البشرية يمكنه أن يجعل الناس أقرب إلى الحالة المثلى للإنسان؟ أو: هل هنالك عائق يقف في طريق الخير أسوأ من العائق الذي يعيق ذلك؟ ولكن لا شك في أن هذه الأسئلة لا تكفي لإقناع هؤلاء الذين يحتاجون إلى الاقتناع أكثر من غيرهم، ومن الضروري أن نوضح أيضا بأن هذه الكائنات البشرية المطورة ذات منفعة للكائنات البشرية غير المطورة، وذلك كي يبين لهؤلاء الذين لا يرغبون بالحرية، ولا ينتهزون فرصة وجودها، بأنهم يستفيدون على نحو واضح من السماح للآخرين باستثمار الحرية دون عوائق.

إذن، وفي المقام الأول، سوف أفترض بأن من الممكن أن يتعلم أولئك من هؤلاء شيئا؛ فلا شك في أن الأصالة عنصر قيم في الشؤون البشرية، وأن هنالك حاجة دائمة إلى أشخاص لا يكتفون باكتشاف الحقائق الجديدة وتبيين الحقائق التي لم تعد حقائق وحسب، وإنما يبتدعون ممارسات جديدة، ويطرحون مثالا لأداء أكثر تنورا، ويقدمون مذاقا وإحساسا أفضل للحياة البشرية. وهذا الطرح لا يمكن معارضته بسهولة ممن لا يعتقدون بأن العالم قد وصل فعلا إلى حالة من الكمال في كافة المجالات والممارسات. ولا شك في أن هذه الفائدة لا يمكن للجميع أن يقدموها، فهنالك قلة قليلة، بالمقارنة مع البشرية جمعاء، يمكن لتجاربهم، في حال تبنيها من قبل الآخرين، أن تؤدي إلى تحسين الممارسات المعمول بها؛ ولكن هذه القلة القليلة هي (ملح الأرض)، ومن دونها تتحول حياة البشر إلى بركة راكدة، ولا يقتصر ذلك على من يقدم أشياء نافعة جديدة لم تكن موجودة من قبل، وإنما من يحافظ على استمرارية الأشياء الموجودة بالفعل في الوقت الحاضر. ولو لم يكن هنالك من جديد يمكن ابتكاره، ألم يكن حريا بالفكر البشري حينها أن ينزل عن مكانته الضرورية؟ أليس ذلك سببا يدعو من اعتادوا على النهج القديم أن يتخلوا عن قناعتهم وأدائهم للعمل كقطيع لا كبشر؟ إن هنالك ميلا عظيما لدى أفضل المعتقدات والممارسات نحو الانحطاط إلى الآلية، وما لم يكن هنالك خلافة للأشخاص الذين تحول أصالتهم المستمرة دائما دون تحول أسس هذه العقائد والممارسات إلى مجرد أسس تقليدية، أي إلى مادة لا حياة فيها لا تقاوم أقل صدمة تتعرض لها من أي شيء حي فعلا، فلن يكون حينها أي سبب يمنع الحضارة من النهاية، كما حدث مع الامبراطورية البيزنطية. لا ريب في أن أصحاب الذكاء هم أقلية صغيرة دائما وأبدا، ولكن لنحصل عليهم تجب المحافظة على التربة التي ينمون فيها، فالذكاء لا يتمكن من التنفس بحرية إلا في جو من الحرية، وأصحاب الذكاء، بحكم طبيعتهم، أكثر فردية من الآخرين، وبذلك فهم أقل قدرة على ملاءمة أنفسهم دون انضغاط مؤذ في أي من القوالب القليلة التي يوفرها المجتمع للتسهيل على أفراده في مشكلة تشكيل شخصياتهم الخاصة بهم. فإذا افتقر هؤلاء إلى الثقة بالنفس وقبلوا مكرهين بالدخول في إحدى هذه القوالب، وبقيت الأجزاء التي لا تتوسع تحت الضغط غير متوسعة فإن المجتمع سيستغني عنهم حينها. أما إذا كانوا ذوي شخصيات قوية، واستطاعوا تحطيم قيودهم، فسيشكلون علامة مميزة لمجتمع لم ينجح في تحجيمهم ضمن القالب العادي، وذلك إلى حد إطلاق بعض الصفات المهيبة عليهم كـ”الجموح” و”النزوية” وما أشبه، كما هو الحال في الشكوى من أن نهر نياغارا لا يجري بسلاسة بين ضفتيه كما تفعل القناة الهولندية.

ولهذا فإنني أؤكد وأشدد على أهمية الذكاء، وضرورة السماح له بحرية التفتح سواء على مستوى الفكر أم الممارسة، مع الانتباه إلى أنه ما من أحد سينكر موقعه على الصعيد النظري، ومع العلم بأن الجميع تقريبا لا يبالون به على صعيد الواقع. إن الناس يعتقدون بأن الذكاء أمر حسن إذا أدى إلى تمكين المرء من كتابة قصيدة ممتعة، أو رسم لوحة؛ ولكنه في جوهره الحقيقي (أصالة الفكر والفعل)، وعلى الرغم من أنه لا يوجد أحد يتلفظ بإنكار منزلته المثيرة للإعجاب، فإن الجميع تقريبا يعتقدون في قلوبهم بأنهم أفضل حالا من دونه. من المؤسف أن هذه الظاهرة طبيعية إلى حد ينفي الاستغراب منها؛ فالأصالة أمر لا يمكن للأذهان غير الأصيلة أن تفهم الفائدة منها، ولا يمكنها أن ترى ما الذي يمكن أن تفعله لها، وأنى لها ذلك؟ فإذا كانت قادرة على رؤية ما تفعله لها، فعندها تنتفي صفة الأصالة عنها. إن الخدمة الأولى التي يمكن للأصالة أن توفرها لهم تتمثل في فتح عيونهم، وإذا تحقق ذلك بشكل كامل فستتاح لهم فرصة أن يكونوا أصلاء هم أنفسهم. وفي غضون ذلك، فإن انتباههم إلى أنه ما من شيء سبق فعله إلا كان هنالك من فعله لأول مرة، وأن جميع الأشياء الجيدة في عالم الوجود إنما هي من ثمار الأصالة، سيجعلهم ذلك متواضعين بما فيه الكفاية للاعتقاد بأن هنالك أمور لا يزال عليها أن تنجزها، والتأكيد لأنفسهم بأنهم في حاجة إلى المزيد من الأصالة كلما كانوا أقل وعيا بوجود الحاجة.

بصريح العبارة، ومهما كان الاحترام الذي نتلفظ أو نعمل به إزاء تفوق ذهني حقيقي أو مفترض، فإن الميل العام للأمور وعلى امتداد العالم يتمثل في منح (المستوى المتواضع) سلطة الهيمنة على الجنس البشري. ففي التاريخ القديم، والعصور الوسطى، وبدرجة متناقصة خلال الانتقال الطويل من الإقطاعية إلى وقتنا الحالي، كان الفرد سلطة بذاته، وكانت هذه القوة تتعاظم إذا كان يتمتع بمهارات عالية أو موقع اجتماعي مرموق. أما في الوقت الحالي فقد ضاع الفرد بين الحشود؛ وفي السياسة يعتبر من التفاهة أن ندّعي بأن الرأي العام يحكم عالم اليوم، فالسلطة الوحيدة التي تستحق هذه النعوت هي سلطة الجماهير، وسلطة الحكومة إذا جعلت من نفسها جهازا لتلبية ميول وغرائز الجماهير، ويصح هذا في العلاقات الأخلاقية والاجتماعية في الحياة الشخصية كما هو الحال في التعاملات العامة. إن الآراء التي تدعي انسجامها مع (الرأي العام) لا تشترك في المعنى نفسه لهذا (العام)؛ ففي أمريكا يفهمون من هذه الكلمة جميع سكان انكلترا من العرق الأبيض، وبالأخص (الطبقة الوسطى)، ولكن هؤلاء لا ينفكون عن كونهم (جماهير)، أي: مستوى متواضع جماعي. لكن الشيء الذي لا يزال جديدا في هذا الأمر هو أن الجماهير لم تعد تستقي آراءها من أولي المنزلة المرموقة في الدولة أو الكنيسة، أو من قادة مزعومين، أو من بطون الكتب، وإنما تتم عملية التفكير لديها عبر أشخاص من الطينة نفسها، يخاطبونها أو يتحدثون باسمها عفو الخاطر عن طريق الصحف. إنني لا أشتكي هنا من ذلك، ولا أؤكد على أن الأحسن يعني التوافق، كقاعدة عامة، مع الحالة المتدنية الراهنة للذهن البشري، ولكن ذلك لا يعيق تحول (حكومة التواضع) إلى (حكومة متواضعة). وليس هنالك حكومة، سواء أكانت ديمقراطية أم شديدة الارستقراطية، تمكنت من الارتفاع عن المستوى المتواضع أبدا، سواء أكان ذلك على مستوى الأداء السياسي أم على صعيد ما ترعاه من آراء وميزات ونمط في التفكير، وذلك باستثناء الحال عندما تقوم الكثرة المهيمنة بالانصياع لمشورة وتأثير شخص أو ثلة أكثر موهبة أو تعليما. إن زمام المبادرة في جميع الأمور الحكيمة أو النبيلة يقع، ويجب أن يقع، بيد الأفراد، وفي البداية: بيد فرد واحد عموما؛ ويكمن شرف ومجد الإنسان العادي في قدرته على اللحاق بهذه المبادرة: فيستجيب من ذاته للأمور الحكيمة والنبيلة، وأن يقاد إليها بعينين مفتوحتين. وهذا لا يعني أنني أوافق على ذلك النوع من “عبادة البطل” الذي يرحب باستيلاء الإنسان الذكي بالقوة على حكومة العالم وجعلها تطيع أوامره لا أوامرها، فكل ما يمكن لهذا الفرد أن يدعيه هو حرية توضيح الطريق، أما سلطة إجبار الآخرين على سلوك هذه الطريق فهي ليست متناقضة مع حرية وتنمية الآخرين فحسب، وإنما تؤدي إلى إفساد هذا الفرد أيضا. ومع ذلك، يبدو أن آراء الجماهير (مجرد الناس العاديين) عندما تصبح لها سلطة مهيمنة، أو تبدأ بالحصول على هذه السلطة، فإن موازنة هذا التوجه وتصحيحه يكون بالمزيد والمزيد من إعلان فردية هؤلاء الذين يتمتعون بالمكانة الفكرية الرفيعة. وفي هذه الظروف بالذات، ينبغي تشجيع هؤلاء الأفراد الاستثنائيين، لا تخويفهم، على التصرف بشكل مختلف عن الجماهير، وفي بعض الأحيان لا تكون هنالك فائدة ترتجى من التصرف بشكل مختلف إذا لم يكن التصرف الجديد أفضل من سابقه. وفي عصرنا هذا، فإن أي تصرف يخالف التشاكل، ومجرد رفض الانسياق للتقاليد، يعد في ذاته خدمة جليلة، وذلك بالأخص لأن استبداد الرأي يشجب الخروج عن المألوف، ومن هنا تكون الدعوة للخروج عن المألوف محاولة لاختراق هذا الاستبداد. ويكثر الخروج عن المألوف دائما في حالة كثرة الشخصيات القوية، وعادة ما يتناسب حجم الخروج عن المألوف في المجتمع مع ما يحتويه من الذكاء والطاقة الذهنية والشجاعة المعنوية، ولهذا فإن قلة عدد من يجرؤ على الخروج عن المألوف حاليا تمثل دليلا على خطر كبير داهم.

لو كان الناس متنوعي الأذواق، فسيكون من المعقول حينها أن لا يحاول أحدهم أن يصبهم في قالب واحد، ولكن اختلاف الأشخاص يقتضي أيضا اختلاف ظروف تنميتهم الروحية، فلا يمكنهم العيش بعافية في المناخ المعنوي ذاته، كما أن النباتات بتنوعها تعجز عن العيش جميعا في المادة والبيئة والمناخ نفسها. والعناصر التي تساعد شخصا على تنمية طبيعة أسمى، هي نفسها التي تعيق شخصا آخر عن ذلك.

يشكل استبداد التقاليد عائقا مستمرا بوجه تقدم الإنسان في كل مكان، مما يجعله في حالة نزاع لا تتوقف بهدف تحقيق ما هو أفضل مما درجت عليه التقاليد، وهذا ما يدعى بحسب الظروف: روح الحرية، أو روح التقدم، أو روح التطوير. وروح التطوير ليست مماثلة لروح الحرية دائما، وذلك لأنها قد تطمح إلى إجبار الناس غير الراغبين بتقبل التطويرات، وبما أن روح الحرية تعارض أمثال هذه المحاولات، فإنها قد تتحالف بشكل محلي ومؤقت مع معارضي التطوير؛ ولكن الحرية هي منبع التطور الوحيد الذي لا يكل ولا يتوقف، وذلك لأنه يحوي الكثير من بؤر التطوير الممكنة بقدر ما هنالك من أفراد. أما المبدأ التقدمي بشكليه: محبة الحرية أو محبة التطوير، فهو في حالة نزاع مع هيمنة التقاليد، ويتمتع بالتحرر من قيودها على الأقل، وما بين هذين الاثنين من نزاع يشكل المصلحة الرئيسية في تاريخ البشرية. والجزء الأعظم من العالم لا يملك في الحقيقة أي تاريخ، وذلك لأن استبداد التقاليد قد اكتمل فيه، ويبدو أن الشعوب قد تكون تقدمية طوال حقبة معينة من الوقت، ثم تتوقف؛ وإذا ما سألنا: متى توقفت؟، فسيكون الجواب: عندما توقفت عن امتلاك الفردية.

ما الذي حمى أوروبا حتى الآن من هذا الحال؟ ما الذي جعل أسرة الأمم الأوروبية متطورة بدلا من أن تكون جزءا خاملا من البشرية؟ لم يكن لديهم أي امتياز خارق؛ وهو عندما حدث كان نتيجة لا سببا؛ أما سببه فهو ما يتمتعون به من تنوع متميز في الشخصية والثقافة. فالأفراد، والطبقات، والأمم تختلف عن بعضها البعض بشدة في أوروبا، ونشأ عن ذلك تنوع كبير في المسارات التي يؤدي كل منها إلى مقصد نفيس، وعلى الرغم من أن الذين ساروا إبان كل حقبة في مسارات مختلفة كانوا لا يتسامحون مع بعضهم بعضا، وأن كل واحد منهم كان يعتقد بأن من الممتاز أن يجبر الجميع على السير في مساره، فإن محاولاتهم لإعاقة تطور بعضهم البعض لم تكن تحرز النجاح الدائم إلا نادرا، وتحمّل كل منهم في وقتها أن يتقبّل ما قدمه إليه الآخرون من خير. وفي رأيي أن أوروبا مدينة بالكامل لتعددية المسارات هذه في ما حققته من تنمية تقدمية متعددة الجوانب.

إذن: ما هو الحد المشروع لسيادة الفرد على نفسه؟ ومن أين تبدأ سلطة المجتمع؟ وكم من الحياة البشرية ينبغي أن يخصص للفردية، وكم للمجتمع؟

إن كلا منهما سوف يتلقى حصته المناسبة إذا حصل على ما يهمه أكثر. فالفرد ينبغي أن يخصص له ذلك الجزء من الحياة الذي يهتم به الفرد بشكل أساسي، ويخصص للمجتمع ما يهم المجتمع بشكل أساسي.

وعلى الرغم من أن المجتمع لم يتأسس وفق (عقد) ما، وأنه ليس هنالك من غاية سامية تتحقق عبر ابتكار (عقد) تنبثق منه التزامات اجتماعية، فإن كل من يتلقى حماية المجتمع ينبغي عليه أن يدفع ثمن هذه الفائدة، وحقيقة العيش في مجتمع تجعل مما لا غنى عنه أن يلتزم كل فرد بتصرف معين تجاه الآخرين. وهذا التصرف يتكون أولا من عدم التسبب بالأذى لمصالح الآخرين أو أية مصالح معينة أخرى يمكن اعتبارها حقوقا بسبب حماية قانونية صريحة أو تفاهم ضمني؛ وثانيا من تحمل كل شخص لحصته (تحدد وفق مبدأ يراعي الإنصاف) من الأعمال والتضحيات اللازمة للدفاع عن المجتمع أو أعضائه ضد الأذى والتحرشات.

أما في مسألة تولي الدولة مسؤولية التعليم ككل أو لجزء كبير منه، فإنني أشجب ذلك بكل ما أوتيت من قوة؛ فكل ما ورد سابقا عن أهمية فردية الشخصية وتنوع الآراء وأنماط السلوك يتضمن تنوع التعليم بالدرجة ذاتها من الأهمية الفائقة. إن التعليم العام الذي تنوء به الدولة ليس إلا أداة لقولبة الناس بما يجعلهم متماثلين تماما، وبما أن القالب المستعمل مصنوع وفق ما يرضي القوة المهيمنة على الحكومة سواء أكانت ملكا أم رجال دين أم أرستقراطية أم أغلبية الجيل الحالي بما يتناسب مع كفاءته ونجاحه، فإن ذلك يؤدي إلى تأسيس سلطة تهيمن على العقل، وتؤدي عبر الميل الطبيعي إلى السيطرة على الجسد. وإذا ما كان للتعليم الذي تؤسسه الدولة وتتحكم به أن يوجد، فليس له ذلك إلا أن يتحقق، كما هو حال العديد من التجارب التنافسية، بهدف طرح الأمثلة والتحفيز، وذلك كي يتاح للآخرين التمتع بمعيار معين من الامتياز.

جون ستيوارت ميل (1806-1873)

فيلسوف بريطاني

temp20 مارس، 20120

ما هو نوع الاستبداد الذي يجب أن تخاف منه الأمم الديمقراطية؟

لقد لاحظت خلال إقامتي في الولايات المتحدة الأمريكية أن الحالة الديمقراطية للمجتمع، كما يعيشها الأمريكيون، قد توفر بنى استثنائية لتأسيس الاستبداد؛ ولقد أدركت، لدى عودتي إلى أوروبا، كم أن معظم من يحكمنا قد استفاد من الآراء والأفكار والاحتياجات الناشئة من هذا الظرف الاجتماعي نفسه لغرض توسيع دائرة سلطاتهم. وقد دفع هذا بي إلى التفكير بأن الأمم المسيحية ربما ينبغي عليها في النهاية أن تمر بحالة من الاضطهاد كالتي هيمنت على العديد من الأمم في العالم القديم.

وبعد تفحص أكثر دقة لهذا الموضوع، وخمسة أعوام من التأمل فيه، لم تتبدد مخاوفي، ولكنها غيرت هدفها. إن العصور الخالية لم تشهد ظهور حاكم يبلغ من القوة المطلقة حدا يمكنه من إدارة كافة أجزاء امبراطوريته الكبيرة بالاعتماد على نفسه وحسب، ودون الاستعانة بسلطات وسيطة، ولم يحدث أن حاول أحد الحاكمين أن يخضع رعاياه دون تمييز لمحددات أو ضوابط صارمة، وأن يقوم شخصيا بالوصاية على كل فرد من أفراد المجتمع وتوجيهه. إن مثل هذا النهج في التصدي لشؤون الحكم لم يخطر لأي ذهن بشري؛ ولو حدث ذلك فإن تنفيذ مثل هذا المخطط الضخم سيصطدم بالحاجة إلى المعلومات، وبعدم كفاية المنظومة الإدارية، وفوق ذلك كله: بالمعوقات الطبيعية التي يتسبب بها عدم تكافؤ الظروف.

وعندما كان الأباطرة الرومان في أوج قوتهم كانت الأمم المختلفة ضمن الامبراطورية لا تزال محتفظة بعادات وتقاليد متنوعة إلى حد بعيد، وكانت معظم المقاطعات تدار بشكل منفصل على الرغم من أنها كانت تخضع للتاج نفسه؛ وكانت البلديات الكثيرة تتمتع بالقوة والفعالية؛ وعلى الرغم من أن حكومة الامبراطورية بأجمعها كانت في قبضة الامبراطور لوحده، والذي كانت له الكلمة الفصل عندما تقضي الحاجة، فإن ذلك لم يمنع بقاء تفاصيل الحياة الاجتماعية ومشاغل الناس خارج إطار سيطرته. ولا شك في أن الامبراطور كان يمتلك سلطة هائلة لا يقف أمامها شيء سمحت له بتلبية كافة نزواته وتوظيف قوة الدولة لتحقيق ذلك، وكثيرا ما أساء استخدام السلطة بشكل اعتباطي ليحرم رعاياه من أملاكهم أو أنفسهم؛ وكان استبداده مرهقا جدا للبعض ولكنه لم يمتد إلى الكثير، وإنما انحصر ببعض الغايات الأساسية وأهمل ما تبقى. لقد كان حكم الامبراطور عنيفا، ولكن نطاق هذا العنف كان محدودا.

وقد يبدو أنه إذا كان للاستبداد أن ينهض في الأمم الديمقراطية الحالية فلا يمكن أن يكون له ذلك إلا إذا اتخذ هيئة مختلفة، وأصبح أكثر شمولا واعتدالا، وحينها يمكنه أن يهين الإنسان دون تعذيب. وليس لدي شك في ذلك، ففي عصر يسود فيه التعليم والمساواة كعصرنا يسهل على الحاكم أن ينجح في مسعاه لإحكام قبضته على السلطة السياسة بأجمعها، وربما يقوم بالتدخل بشكل أكثر طبيعية وحزما في نطاق المصالح الخاصة، وذلك بالمقارنة مع ما كان بمقدور أي حاكم في العصور القديمة. ولكن مبدأ المساواة هذا الذي يسهل الاستبداد يؤدي إلى تلطيف ما به من قسوة. ولقد رأينا كيف أن تقاليد المجتمع تصبح أكثر إنسانية ووداعة بالتناسب مع مقدار ما يتمتع به الإنسان من مساواة وما أشبه. وعندما لا يكون أي فرد من المجتمع متمتعا بالكثير من السلطة أو الثروة، فعندها لا يكون للاستبداد، وهذا ديدنه من قبل، أي فرصة أو مجال للتأثير. وكما أن الثروات قليلة، فإن من الطبيعي أن تكون رغبات الإنسان محدودة، ومخيلته مقيدة، وملذاته بسيطة؛ وهذا الاعتدال الشامل يفرض الاعتدال على الحاكم نفسه، ويلزمه بحدود معينة تحول دون التوسع الجامح لشهواته.

وبمعزل عن هذه الأسباب، يمكنني أن أضيف، وبالاعتماد على طبيعة الحالة الاجتماعية نفسها، الكثير من الأسباب الأخرى التي تخرج عن نطاق موضوعنا، ولكنني سأظل ضمن الحدود التي وضعتها.

إن الحكومات الديمقراطية قد تصبح عنيفة، وحتى قاسية، في مراحل معينة من الغليان الهائل أو الخطر الداهم، ولكن أمثال هذه الأزمات يتصف بالندرة وقصر المدة. وعندما أنظر بعين الاعتبار إلى الرغبات التافهة لمعاصرينا، واعتدال طباعهم، ومستواهم التعليمي، ونقاء تدينهم، ودماثة أخلاقهم، وعاداتهم في الدين والعمل، والمحرمات التي يراعونها في الرذائل والفضائل على حد سواء، فعندها لن يكون هنالك ما يدعو إلى الخوف من تحول الحاكم إلى طاغية، وذلك لأنه سيكون حارسا لهم.

لهذا فإنني أعتقد بأن أنواع الاضطهاد التي تخاف منها الأمم الديمقراطية لا تشبه أي شيء حدث في هذا العالم من قبل، ولن يكون بمقدور معاصرينا أن يجدوا نموذجا له في ذاكرتهم. وأنا أبحث دون جدوى عن تعبير ينقل بدقة الفكرة التي صغتها عن ذلك بأكملها؛ فالكلمات القديمة كالاستبداد والطغيان لا تناسب المراد، فهذا الشيء جديد كليا، وبما أنني عاجز عن تسميته، فسأحاول تعريفه. إنني أسعى إلى اقتفاء الملامح الجديدة التي يمكن للاستبداد أن يظهر بها في العالم، وأول ما يصدم المراقب هو العدد غير المحدود من الناس، المتساوين والمتشابهين، الذين لا يتوقفون عن السعي إلى تحقيق مباهجهم التافهة التي يملؤون بها حياتهم. إن أي فرد منهم يعيش بمفرده غريبا عن مصائر الآخرين، والبشرية تعني له أبناءه وأصدقاءه، أما الباقون فهو قريب منهم لكنه لا يراهم، وهو يلمسهم لكنه لا يشعر بهم؛ إنه يوجد في ذاته ومن أجل ذاته فحسب، وإذا كان لديه أقرباء فلا يعود لديه بلد ينتمي إليه.

تهيمن على هذا النوع من الناس سلطة هائلة تقوم بالوصاية عليهم، وتأخذ على عاتقها مهمة حماية مباهجهم ورعاية مصائرهم. هذه السلطة تتصف بأنها مطلقة وتفصيلية ومنتظمة ومدبرة ولطيفة، وهي تشبه سلطة الأب حينما يكون هدفه، كما هو هدف هذه السلطة، متمثلا في تهيئة الطفل لدخول عالم الرجال، ولكنها تسعى، على العكس من ذلك، إلى إبقائه في طفولة دائمة، وهي مقتنعة تماما بأن الناس ينبغي أن يفرحوا، وذلك لأنها تعتقد بأنهم لا يفكرون بأي شيء سوى الفرح. ولهذا فإن مثل هذه الحكومة تعمل على إسعاد الناس، ولكنها تقرر أن تكون الوكيل الأول والمسؤول الوحيد في هذه السعادة؛ فهي توفر لهم الأمن، وتشرف على تزويدهم بما يحتاجونه، وتسهل حصولهم على المباهج، وتدير شؤون همومهم الأساسية، وتوجه مجهوداتهم، وتنظم تداول الملكية، وتقسم المواريث؛ وبهذا لا يبقى للحكومة إلا أن تحمل عن الناس عبء التفكير والحياة؟

ولهذا فإن كل يوم يمضي على هذه السلطة يؤدي إلى إضعاف منفعة واستمرارية حرية المرء في القيام بشؤونه، وتقلص الإرادة ضمن مجال أضيق، وتسلب تدريجيا من الإنسان كل شيء ذي فائدة. ومبدأ المساواة هو الذي حضّر الإنسان للدخول في هذه الحال؛ حيث دفعه إلى تحملها والنظر إليها دائما باعتبارها من الحسنات.

وبعد أن تنجح هكذا في إحكام قبضتها القوية على كل فرد من المجتمع وصياغته كما تشاء، فإن هذه السلطة العليا تنشر هيمنتها على المجتمع بأكمله؛ فتغطي سطح المجتمع بشبكة من القواعد الصغيرة المعقدة الدقيقة المتشاكلة، وهذه الشبكة لا يمكن اختراقها من قبل أكثر العقول أصالة ونشاطا في مسعاها من أجل الترفع عن الحشود. وهكذا فإن إرادة الإنسان لا يتم تحطيمها، وإنما صقلها وثنيها وتوجيهها، وهي نادرا ما تجبره على أداء عمل ما، ولكنها تدأب على أن تحظر عليه أداء عمل ما. إن هذه السلطة لا تدمر وجود الإنسان، ولكنها تمنعه من الوجود؛ وهي لا تطغى، وإنما تمارس الضغوط على الناس وتضعفهم وتستنزفهم وتخدرهم حتى يتحولوا إلى مجرد قطيع من الحيوانات الأليفة العاملة، وتكون الحكومة راعي هذا القطيع.

لقد كنت دائما أرى بأن العبودية من النوع المنتظم الهادئ اللطيف الذي وصفته قبل قليل يمكن تقبلها على نحو أسهل بكثير من مما يشيع الاعتقاد به من تقبل الأشكال الخارجية للحرية، وربما يتم التأسيس لهذه العبودية تحت جناح سيادة الشعب. إن الناس في يومنا هذا منشغلون جدا بشعورين متضادين: الرغبة في الانقياد، والرغبة في الحفاظ على حريتهم، وبما أنهم عاجزون عن التخلص من أحد هذين الميلين، فإنهم يجهدون في تلبيتهما معا: حيث يدعون إلى حكومة حصرية وصائية كلية القدرة، ولكنها منتخبة من الشعب؛ وبهذا يمزجون مبدأ المركزية مع مبدأ السيادة الشعبية، وهذا يريح ضمائرهم عبر تبرير خضوعهم للوصاية بذريعة أنهم هم من اختار الأوصياء. وهكذا يسمح الإنسان لنفسه بأن توضع له خيوط تحريك كما الدمى المتحركة، وذلك لأنه يرى بأن هذه الخيوط لا يحركها شخص أو شريحة من الأشخاص، وإنما الشعب بأكمله. وبهذه المنظومة يحرر الشعب دولته من حالة التبعية بما يكفي لاختيار زعيم لهم والارتداد إليها مجددا، وهنالك الكثير في يومنا هذا ممن يرضون تماما بهذه التسوية ما بين الاستبداد الإداري والسيادة الشعبية، ويحسبون أنهم فعلوا ما يكفي لحماية الحرية الفردية، ولكنهم في الحقيقة سلموها لسلطة الأمة ككل. إن هذا لا يرضيني: فطبيعة الشخص الذي ينبغي أن أطيعه لا تهمني بقدر اهتمامي بحقيقة الطاعة الإجبارية. ولكنني لا أنكر بأن دستورا على هذه الشاكلة يبدو لي مفضلا بالمطلق على دستور يضع السلطات كلها، بعد تركيز كافة سلطات الحكومة، في يد شخص أو أشخاص لا يتصفون بالمسؤولية. وهذا هو الشكل الأسوأ من بين الأشكال كلها التي يمكن أن يتخذها الاستبداد الديمقراطي.

عندما يكون الحاكم منتخبا، أو عرضة للمراقبة القريبة من قبل سلطة تشريعية منتخبة ومستقلة بحق، فإن الاضطهاد الذي يمارسه ضد الأفراد يكون أعظم في بعض الأحيان، ولكنه دائما أقل إذلالا؛ وذلك لأن كل إنسان عندما يتعرض للاضطهاد والتجريد من وسائل القوة ربما يظل يتخيل بأنه حين يدين بالطاعة للسلطة فإنه يدين بالطاعة لنفسه، وأن ما يحدث لاحقا يتفق مع هذا الميل الشخصي. وعلى نحو مشابه، يمكنني أن أفهم بأنه حين يقوم الحاكم بتمثيل الأمة ويكون معتمدا على الشعب، فإن الحقوق والسلطة التي يحرم منها أي مواطن لا تخدم رأس الدولة فحسب، وإنما الدولة نفسها أيضا؛ وأن الأفراد بصفة شخصية يستمدون بعض المردود من التضحية باستقلالهم الذي قدموه في سبيل الشعب. وبهذا فإن إنشاء تمثيل للشعب في الدول المركزية يؤدي إلى تقليص الشرور الناجمة عن الإفراط في المركزية، ولكنه لا يقضي عليها.

ولا بد من الاعتراف هنا بأن ذلك يؤدي إلى فتح المجال أمام تدخل الأفراد في الشؤون الخطيرة، ولكنهم يتعرضون للاضطهاد في الشؤون الصغيرة والخاصة. وينبغي أن لا ننسى هنا بأن من الخطر على نحو خاص أن يتم استعباد الإنسان في التفاصيل الصغيرة للحياة. ومن جانبي، أشعر أنني أميل إلى الاعتقاد بأن الحرية تقل الحاجة إليها في الشؤون العظمى أمام الشؤون الصغرى، وذلك إذا كان من الممكن الفصل بينهما.

إن الاضطهاد في الشؤون الصغرى يحدث يوميا، ويحس به أفراد المجتمع دون استثناء؛ وهو لا يدفعهم نحو المقاومة، ولكنه يصادفهم في كل مكان إلى أن يصلوا إلى التخلي عن ممارسة إرادتهم الشخصية. وهكذا تتحطم أرواحهم تدريجيا وتضعف شخصياتهم؛ وذلك بينما لا يبدو من الطاعة المفروضة في بعض الأحوال القليلة النادرة أنها تؤدي إلى العبودية إلا خلال فترات معينة ويتحمل عبئها عدد قليل من الناس. ومن العبث أن يدعى الناس الذين تم تحويلهم إلى التبعية للسلطة المركزية بين الفينة والأخرى إلى اختيار ممثلي هذه السلطة؛ فهذه الممارسة النادرة المختصرة للخيار الحر، ومهما كانت أهمية هذا الخيار، لن تمنعهم من الخسارة التدريجية لمهارات التفكير والشعور والتصرف بأنفسهم، مما يؤدي إلى السقوط التدريجي تحت مستوى الإنسانية. ويضاف إلى ذلك أنهم سيصبحون سريعا عاجزين عن ممارسة الامتياز العظيم الوحيد المتبقي لهم. إن الأمم الديمقراطية التي قدمت الحرية في بنيتها السياسية في الوقت نفسه الذي كانت فيه تعزز الاستبداد في بنيتها الإدارية انتهت إلى حالة من التناقض الغريب. ولتدبير تلك الشؤون الصغرى التي لا تحتاج إلا إلى الفطرة السليمة، يتم اعتبار الناس غير لائقين بهذه المهمة؛ أما عندما تمر حكومة البلاد بأزمة فإن الشعب يعطى سلطات هائلة، ثم يصبح ألعوبة بيد الحاكم وسيدا عليه في الوقت نفسه، فأفراد الشعب أكثر من ملوك وأقل من بشر. وبعد أن يتم استنزاف كافة الأنماط المختلفة للانتخاب دون إيجاد نمط يناسب الغرض، لا ينقطع هؤلاء عن حالة الاندهاش ولا يكفون عن البحث عن أنماط أخرى، وكأن السوء الذي لاحظوه لم يتولد من بنية الكتلة الانتخابية نفسها.

ولا شك في أن من الصعب إدراك كيف يمكن لمن تخلوا كليا عن عادة الحكم الذاتي أن ينجحوا في الاختيار الملائم لمن سيحكمهم؛ ولا يمكن لأحد أن يعتقد أبدا بأن حكومة حرة حكيمة نشيطة يمكن أن تنبثق من آلام شعب خاضع.

إن البنية التي يتكون رأسها من مبادئ جمهورية بينما تتبع باقي أجزاؤها مبادئ المَلَكية المتطرفة تبدو لي أشبه بمسخ لا يعيش طويلا؛ فرذائل الحاكمين وحماقة الشعب تؤدي سريعا إلى الدمار. وإذا سئمت الأمة من ممثليها ومن نفسها فستنشئ مؤسسات أكثر حرية أو تعود سريعا إلى رمي نفسها تحت أقدام سيد واحد.

أليكسيس دو توكفيل (1805-1859)

فيلسوف فرنسي

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018