أدى تدهور الفلسفة في القرن التاسع عشر، ثم انهيارها في القرن العشرين، إلى مصير مماثل للعلوم الحديثة وإن كان بشكل أبطأ وأقل وضوحا. وما نراه اليوم من تقدم جنوني في ميدان التكنولوجيا يذكرنا كثيرا بالأيام التي سبقت الانهيار الاقتصادي عام 1929: حيث يتحرك بالسرعة نفسها، ويعتمد بشكل غير معلن على بقايا النظرية المعرفية الأرسطية، ويتوسع على نحو صاخب محموم مستهتر بحقيقة أن أساسه النظري تم استهلاكه، وأنه في المجال العلمي يعتبر عجز العلماء عن دمج معطياتهم وتفسيرها نوعا من التواطؤ لإحياء طريقة صوفية بدائية. أما في مجال العلوم الإنسانية فقد تحقق الانهيار فعلا في الماضي، أما الحاضر فيسوده الركود، وترى صور الدمار في كل جوانبها.
وأوضح شاهد على كلامنا قد يكون في الحال التي وصلت إليها العلوم الحديثة نسبيا، كعلمي النفس والاقتصاد السياسي؛ حيث نلاحظ في علم النفس محاولة لدراسة السلوك البشري دون الانتباه إلى حقيقة مفادها أن الإنسان كائن واعٍ؛ أما في الاقتصاد السياسي فنلاحظ محاولة دراسة الأنظمة الاجتماعية وتقديم النصائح بشأنها دون الاهتمام بالإنسان كفرد.
إن الفلسفة هي التي تعرّف وتؤسس المعايير الابستيمولوجية التي توجه المعرفة البشرية بشكل عام، وبعض العلوم المحددة بشكل خاص. لقد دخل علم الاقتصاد السياسي إلى دائرة الاهتمام في القرن التاسع عشر، في عصر تدهور الفلسفة ما بعد الكانتية، فلم يظهر أحد ليفضح طروحاته أو يتحدى أسسه؛ وهكذا تم القبول بعلم الاقتصاد السياسي بشكل ضمني ودون انتقاد بسبب غياب المنافسين، وأصبحت مقولاته معتقدات أساسية للجماعية.
لقد عرّف مختصو الاقتصاد السياسي، بمن فيهم مناصرو الرأسمالية، هذا الاختصاص بأنه: دراسة عمليات إدارة أو توجيه أو تنظيم أو التحكم «بالمجتمع» أو «بموارد» الأمة. ولكنهم لم يعرّفوا طبيعة هذه «الموارد»، حيث اعتبروا ملكيتها العامة أمرا محسوما، وكان الهدف المفترض من هذا الاختصاص هو دراسة كيفية استغلال هذه «الموارد» من أجل «الصالح العام». أما الحقيقة التي تقول بأن «المورد» الرئيسي هو الإنسان نفسه، وأنه كيان ذو طبيعة محددة وإمكانيات ومتطلبات خاصة، فلم يولوها إلا اهتماما سطحيا، هذا إن اهتموا بها أصلا؛ حيث اعتبروا الإنسان كعامل واحد من عوامل الإنتاج بكل بساطة، جنبا إلى جنب مع الأرض أو الغابات أو المناجم، أي: العوامل الأقل أهمية؛ وذلك لأن تركيز دراستهم كان مخصصا لتأثير وقيمة العوامل الأخرى دون النظر إلى دور الإنسان وقيمته. فالاقتصاد السياسي كان في حقيقته علما يمشي خطواته الأولى؛ ولاحظ أن الناس ينتجون ويتاجرون فأصبح لديه من المسلمات أن الناس دأبوا على هذه الحال دائما، وأنهم سيستمرون في ذلك، وتقبّل هذه الحقيقة كمقدمة منطقية دون النظر إلى أية اعتبارات أخرى، وأخذ على عاتقه حل مشكلة كيفية الوصول إلى الطريقة الأمثل لجعل «المجتمع» يتصرف بجهد الإنسان.
هنالك أسباب عديدة لنشوء هذه النظرة القبَلية عن الإنسان؛ ومنها الأخلاقيات الإيثارية، وازدياد هيمنة الدولانية السياسية على مثقفي القرن التاسع عشر. ومن الناحية النفسية تمثّل السبب الرئيسي لذلك في الفجوة ما بين الروح والجسد التي اخترقت الثقافة الأوروبية، فكان الإنتاج المادي يعتبر مهمة مهينة ذات منزلة متدنية لا ترقى إلى هموم الفكر البشري، وأنيطت بالعبيد والأقنان منذ بداية التاريخ الذي نعرفه؛ وهكذا استمرت مؤسسة العبودية بشكل أو بآخر حتى وقت متأخر في القرن التاسع عشر، حيث تم إبطالها سياسيا بسبب ظهور الرأسمالية؛ سياسيا لا فكريا.
إن مفهوم (الإنسان) كفرد حر مستقل كان غريبا تماما عن الثقافة الأوروبية التي تفشت فيها القبَلية حتى النخاع في ذلك الوقت؛ فقد كانت القبيلة في التفكير الأوروبي هي الكيان، والوحدة التي لا تتجزأ، ولم يكن الإنسان سوى خلية يمكن التصرف بها في هذه البنية، وتوافقت هذه الرؤية مع وضع الحكام والعبيد على نحو مماثل: فالحكام كان يعتقد بأنهم يمتلكون امتيازاتهم لا لشيء سوى فضيلة الخدمات التي يقدمونها للقبيلة، وهي خدمات ذات طبيعة نبيلة كالقوات المسلحة أو الدفاع العسكري بالأخص، ولكن النبيل لم يكن سوى بيدق تحركه القبيلة كما تحرك العبد: فحياته وممتلكاته تعود للملك. وهنا ينبغي التذكير بأن مؤسسة الملكية الخاصة، بالمعنى القانوني الكامل للمصطلح، ظهرت إلى الوجود بفضل الرأسمالية وحدها؛ ففي العصور التي سبقت ظهور الرأسمالية كانت الملكية الخاصة موجودة باعتبارها أمرا يفرضه (الواقع) لا (القانون)، أي بفعل العرف والفرض، وليس الحق أو التشريعات. أما في القبيلة فكان كل ما يوجد من ملكية يعود إلى رأس القبيلة (الملك) بحسب القوانين والمبادئ الناظمة، وأي حيازة للملكية كانت تتم بعد أخذ الإذن (منه)، وكان هذا الإذن عرضة للإبطال متى ما شاء الملك وكيفما أراد، ونجد على امتداد التاريخ الأوروبي حالات قام فيها الملك بمصادرة عقارات من يعصي أمره من النبلاء.
لم يتمكن المثقفون الأوروبيون أبدا من استيعاب الفلسفة الأمريكية في حقوق الإنسان استيعابا كاملا؛ حيث تكونت الفكرة المهيمنة عليهم في مجال (العتق) من تحويل مفهوم (الإنسان كعبد للدولة المطلقة التي يجسدها الملك) إلى مفهوم (الإنسان كعبد للدولة المطلقة التي يجسدها «الشعب»)، أي: التحول من (العبودية لزعيم القبيلة) إلى (العبودية للقبيلة). وهكذا لم تتمكن رؤية غير قبَلية لمفهوم الوجود أن تنفذ إلى أذهان اعتبرت ميزة التسلط على المنتجين بالقوة المادية أمرا يدل على النبل، وبالتالي لم يلاحظ المفكرون الأوروبيون حقيقة مفادها أن القرن التاسع عشر شهد تحول عبيد المطابخ إلى مخترعين للسفن البخارية، وحدّاد القرية إلى مالك مصنع لأفران الصهر، ومضوا يفكرون بمصطلحات متناقضة الكلمات من أمثال «عبودية الأجر» أو «الأثرة غير الاجتماعية عند الصناعيين الذين يأخذون الكثير من المجتمع دون أن يقدموا له شيئا في المقابل»، وذلك بناء على اعتقاد لم يتعرض للنقاش يفترض بأن الثروة منتَج يتيم الأب وتعود ملكيته للمجتمع والقبيلة.
ظل هذا الاعتقاد سليما من الانتقاد حتى يومنا هذا، حيث يمثل الافتراض الضمني الجوهري في أساس الاقتصاد السياسي المعاصر. وكمثال على هذا الاعتقاد وعواقبه، سأعرض ما جاء تحت عنوان (الرأسمالية) في الموسوعة البريطانية؛ حيث لا تعطي المقالة تعريفا للعنوان، وإنما تبدأ كما يلي:
«الرأسمالية: مصطلح يستخدم للإشارة إلى نظام اقتصادي استمر في هيمنته على العالم الغربي منذ انهيار النظام الإقطاعي. وكل نظام يدعى رأسماليا يضع منزلة أساسية للعلاقات ما بين المالك الخاص لوسائل الإنتاج غير البشرية (كالأرض والمناجم [والمصانع] وغيرها مما يطلق عليه بشكل شائع: رأس المال)، وما بين العامل الحر ولكنه ذو حصة أقل في رأس المال، حيث يبيع خدماته الوظيفية لرب العمل… وما ينتج عن المساومة من أجر هو الذي يحدد النسبة التي يتم على أساسها تقاسم الناتج الإجمالي للمجتمع بين طبقة العمال وطبقة المستثمرين الرياديين الرأسماليين».
وهنا تحضرني فقرة من خطاب شخصية (غالت) في رواية (أطلس يستريح) حيث يقول واصفا معتقدات الجماعية: «الصناعي، دعك من هذا، إذ لا يوجد شخص بهذا الاسم. فالمصنع (مورد طبيعي) حاله في ذلك حال أي شجرة أو صخرة أو بركة من الطين».
ثم تمضي الموسوعة البريطانية لتشرح أسباب نجاح الرأسمالية كما يلي:
«إن الاستخدام المثمر «للفائض الاجتماعي» كان الميزة الخاصة التي مكّنت الرأسمالية من التفوق على كل الأنظمة الاقتصادية التي سبقتها. فعوضا عن بناء الأهرام والكاتدرائيات، قرر القائمون على الفائض الاجتماعي أن يستثمروا ما لديهم في السفن والمستودعات والمواد الخام والبضائع النهائية وغيرها من الأشكال المادية للثروة، وبذلك تم تحويل الفائض الاجتماعي إلى إمكانية إنتاجية موسعة».
لقد قيل هذا عن عصر كان الأوروبيون يرزحون خلاله تحت فقر اقترب فيه معدل وفيات الأطفال من (50%)، وأدت فيه المجاعات المتكررة إلى القضاء على «فائض» (سكاني) عجزت الأنظمة الاقتصادية السابقة للرأسمالية عن إطعامه. ولكن الموسوعة البريطانية تقوم بالرغم من ذلك بالخلط بين الأنظمة الاقتصادية الممولة بمصادرة الأموال عبر الضرائب وبين الثروة المنتَجة صناعيا، فتشدد على أن (الفائض الاجتماعي) في ذلك الوقت هو الذي «قاده» أوائل الرأسماليين و»قرروا استثماره»، وأن هذا الاستثمار هو السبب في ظهور الثروة الهائلة للعصر الذي جاء بعد ذلك.
(ما) هو «الفائض الاجتماعي»؟ لا تعطي المقالة تعريفا أو شرحا لذلك، ولكن كلمة «فائض» تستلزم معيارا ما، فإذا كان الرزوح في مستوى المجاعة المزمنة فوق المعيار المعني، فماذا سيكون هذا المعيار؟ لا تقدم المقالة أية إجابة عن هذا السؤال.
ليس هنالك طبعا أي شيء يدعى «الفائض الاجتماعي»، فالثروة جميعها ينتجها شخص ما وتعود ملكيتها لشخص ما، أما «الميزة الخاصة التي مكّنت الرأسمالية من التفوق على كل الأنظمة الاقتصادية التي سبقتها» فهي (الحرية)، الكلمة التي غابت عن بلاغة نصوص الموسوعة البريطانية، والتي لم تؤدّ إلى مصادرة الثروة، وإنما إلى (خلقها).
وسيكون لي في مكان آخر تعليق إضافي حول ما جاء في تلك المقالة المشينة (وهي مشينة على مستويات عدة لا تقف عند المستوى الأكاديمي فحسب). أما في هذه النقطة، فقد أوردت ما اقتبسته منها لا لشيء إلا لإعطاء مثال واضح عن النظرة القبَلية التي تبطّن علم الاقتصاد السياسي في يومنا هذا، وهي مكون يتشاطره أعداء الرأسمالية وأبطالها على حد سواء: إذ يزود أعداءها بانسجام داخلي أكيد لطروحاتهم، وينزع أسلحة أبطالها بإعطائهم هالة رقيقة، ولكنها مدمرة، من النفاق الأخلاقي، كما يحدث في محاولتهم الدفاع عن الرأسمالية من منطلق «الصالح العام» أو «خدمة المستهلك» أو «التوزيع الأمثل للموارد»، وهنا نسأل: (لمن) تتبع هذه الموارد؟
إذا أردنا التوصل إلى فهم الرأسمالية، فيجب علينا أن ندقق في هذه (النظرة القبَلية) ونتناولها بالنقاش. فالبشرية ليست كيانا، أو كائنا حيا، أو شجيرة مرجانية؛ أما الكيان الذي تتضمنه عملية الإنتاج والتجارة فهو (الإنسان)، ومن خلال دراسة الإنسان، وليس ذلك التراكم الهش المعروف باسم «المجتمع»، ينبغي أن ينطلق أي علم يندرج تحت قائمة العلوم الإنسانية. وهذه النقطة تشكل واحدا من أوجه الاختلاف الابستيمولوجية ما بين العلوم الإنسانية والعلوم المادية، وواحدا من أسباب إصابة العلوم الإنسانية بعقدة نقص شديدة تجاه العلوم المادية؛ فالعلوم المادية لن تسمح لنفسها (حتى الآن على الأقل) بتجاهل مادة بحثها أو الالتفاف عليها، وارتكاب ذلك يشبه ما سيحدث لعلم الفلك إذا ركز جهوده على التحديق في السماء ورفض دراسة كل نجم أو كوكب أو قمر لوحده، أو ما سيحدث لعلم الطب إذا درس الأمراض دون أية معرفة أو معيار للصحة وجعل المستشفى ككل مادة أساسية للدراسة دون التركيز على كل مريض لوحده.
إن هنالك الكثير مما يمكن أن نتعلمه حول المجتمع من خلال دراسة الإنسان، ولكنها عملية لا يمكن أن تتم بالمقلوب؛ إذ لا يمكن تعلم أي شيء حول الإنسان من خلال دراسة المجتمع، أو دراسة العلاقات الداخلية ما بين الكيانات التي لا يوجد لها تحديد أو تعريف، ولكن ذلك يبقى منهجا يتبناه معظم مختصي الاقتصاد السياسي. حتى أن موقفهم هذا يصل في الواقع إلى مرحلة يطرح فيها اقتراحا ضمنيا غير مكتوب ينص على أن «الإنسان هو ما يلائم المعادلات الاقتصادية». وبما أن من الواضح عدم تلاؤم الإنسان مع هذه المعادلات، فإن هذا يقودنا إلى حقيقة مثيرة للفضول مفادها أنه على الرغم من الطبيعة العملية لعلم الاقتصاد السياسي، فإن المختصين به عاجزون بشكل غريب عن ترجمة عباراتهم المجردة إلى واقع ملموس، وهذا يقودنا إلى نوع محير من ازدواج المعايير أو تعدد المنطلقات في طريقتهم لعرض طبيعة الإنسان والأحداث: فعندما يدرسون (الإسكافي) لا يصعب عليهم الاستنتاج بأنه يعمل ليكسب لقمته، ولكن مكانتهم كمختصين في علم الاقتصاد السياسي وبتأثير من النظرة القبَلية يعلنون بأن هدفه (وواجبه) من عمله هو تزويد المجتمع بالأحذية؛ وإذا رأوا متسولا في زاوية أحد الشوارع فسيعرفون بأنه يتسول، ولكن علم الاقتصاد السياسي يجعله «مستهلكا سياديا»؛ وإذا استمعوا إلى البيان الشيوعي وهو يعلن بأن كل أشكال الملكية ينبغي أن تكون عائدة للدولة فسيرفضونه بكل تأكيد ويحسون (بصدق) أنهم سيحاربون الشيوعية حتى الموت، ولكن علم الاقتصاد السياسي يجعلهم يتحدثون عن واجب الحكومة في تحقيق «إعادة توزيع الثروة بشكل عادل»، ويتحدثون عن رجال الأعمال باعتبارهم أفضل وأكفأ جهة توضع في عهدتها «الموارد الطبيعية» للأمة.
هذه الصورة ترينا ما يمكن أن تتسبب به نظرة أساسية بالإضافة إلى الإهمال الفلسفي، فهذا هو ما تسببت به النظرة القبَلية التي تحدثنا عنها في ما سبق. وللتخلص من هذه النظرة والبدء من جديد في مقاربة الاقتصاد السياسي وتقييم الأنظمة الاجتماعية المختلفة، ينبغي البدء بتعريف طبيعة الإنسان، أي: الخصائص الأساسية التي تميزه عن كافة الكائنات الحية الأخرى. وتتمثل أهم خصائص الإنسان الأساسية في قدراته العقلية، حيث يشكل عقل الإنسان وسيلته الرئيسية للبقاء، ووسيلته الوحيدة لاكتساب المعرفة…
«فالإنسان لا يمكنه تحقيق البقاء كما تفعل الحيوانات من خلال توجيهات إحساسه فحسب… ولا يستطيع تأمين أبسط احتياجاته المادية دون عملية فكرية، وهو يحتاج إلى هذه العملية ليكتشف كيف يزرع غذاءه أو يصنع سلاحه للصيد. وقد يقوده إحساسه إلى كهف إذا توفر، ولكنه يحتاج إلى عملية فكرية لبناء أبسط مأوى له. ولا يمكن لأي إحساس أو «غريزة» أن ترشده إلى كيفية إيقاد النار، أو حياكة القماش، أو تشكيل الأدوات، أو صناعة عجلة أو طائرة، أو إجراء عملية استئصال للزائدة الدودية، أو إنتاج مصباح ضوئي أو صمام الكتروني أو مسرع ذرات أو صندوق من أعواد الثقاب. إن حياة الإنسان تعتمد على هذه المعرفة التي لا يمكن توفيرها إلا من خلال فعل واعٍ مقصود وعملية فكرية.» (آين راند: أخلاقيات الموضوعاني، فضيلة الأثرة)
إن العملية الفكرية هي عملية شديدة التعقيد تؤدي إلى تحديد الأشياء وتكامل معلوماتنا عنها، ولا يمكن لغير عقل الفرد أن يقوم بها؛ إذ ليس هنالك شيء اسمه الدماغ الجماعي، والإنسان يمكنه أن يتعلم من إنسان آخر، ولكن هذا التعلم يتطلب عملية فكرية من جانب كل متعلم كفرد لوحده؛ كما يمكن للناس أن يتعاونوا لاكتشاف معرفة جديدة، ولكن هذا التعاون يتطلب الممارسة المستقلة للقدرات العقلية التي يمتلكها كل عالم كفرد لوحده. إن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يمكنه بث وتوسعة مخزونه المعرفي من جيل لآخر، ولكن هذا البث يتطلب عملية فكرية من جانب كل مستقبِل كفرد لوحده، ونجد أمثلة لهذا في انهيار الحضارات، والحقب المظلمة في تاريخ التقدم البشري، وذلك عندما تلاشت التراكمات المعرفية من حياة الناس الذين كانوا عاجزين عن التفكير، أو غير راغبين به، أو ممنوعين منه.
من أجل الاستمرار بالحياة يسعى كل كائن حي إلى اتباع مجموعة معينة من التصرفات التي تقتضيها طبيعته؛ أما التصرف المطلوب لاستمرار حياة الإنسان فهو ذو طبيعة فكرية في الأساس؛ وكل ما يحتاجه الإنسان ينبغي عليه أن يكتشفه عن طريق العقل وينتجه عن طريق الجهد، فالإنتاج هو استخدام العقل لحل مشكلة البقاء.
وإذا لم يقرر البعض أن يفكروا، فعندها لا يمكنهم البقاء إلا عبر تقليد وتكرار عمل روتيني اكتشفه الآخرون، ولكن هؤلاء الآخرون كان عليهم أن يكتشفوا هذا العمل أولا، وإلا هلك الجميع. وإذا لم يقرر البعض أن يفكروا أو يعملوا، فعندها لا يمكنهم البقاء إلا عبر نهب البضائع التي أنتجها الآخرون، ولكن هؤلاء الآخرون كان عليهم أن ينتجوا هذه البضائع أولا، وإلا هلك الجميع. وبغض النظر عن القرار الذي يتخذه أي إنسان أو مجموعة في هذه القضية، وبغض النظر عن المنهج الأعمى أو غير العقلاني أو الشرير الذي سيتبعونه، فلن تتغير الحقيقة القائلة بأن العقل هو وسيلة الإنسان للبقاء، وأن نجاح الإنسان أو فشله، وبقاءه أو فناءه، يتحدد بالتناسب مع عقلانيته.
وبما أن المعرفة والتفكير والتصرف العقلاني من خصائص الفرد، وبما أن قرار ممارسة قدراته العقلية يعتمد على الفرد، فإن بقاء الإنسان يتطلب أن يتحرر من يفكر مِن تدخُّل مَن لا يفكر. وبما أن الناس غير منزهين عن الجهل أو الخطأ فيجب أن يكونوا أحرارا في التأييد أو المعارضة، والتعاون أو السعي نحو عمل مستقل خاص بهم، وهذا طبقا لتقييماتهم العقلية الخاصة بهم؛ فالحرية هي المتطلب الأساسي لعقل الإنسان.
إن العقل الحصيف لا يعمل تحت الإجبار؛ فهو لا يُخضع فهمه للواقع إلى أوامر الآخرين أو توجيهاتهم أو تحكمهم؛ وهو لا يضحي بما لديه من معرفة ورؤية عن الحقيقة أمام آراء الآخرين أو تهديداتهم أو أمانيهم أو خططهم أو «وضعهم المعيشي». إن هذا العقل قد يعرضه الآخرون إلى المعوقات أو الإسكات أو الحظر أو السجن أو التدمير، ولكنه لن ينصاع للإجبار، فالمسدس ليس حجة مقنعة (ولنا في غاليليو مثال ورمز عن هذا الموقف).
إن عمل أمثال هذا العقل وكرامته غير المدنسة لدى المبدعين الصامدين هو الذي أنتج كل ما لدى البشرية من معارف ومنجزات (راجع روايتنا: المنبع)، وتدين البشرية لها بالفضل في بقائها (راجع روايتنا: أطلس يستريح). وهذا المبدأ نفسه يسري على جميع البشر مهما اختلفت مستويات قدراتهم وطموحاتهم، فبقدر ما يكون المرء موجها وفق تقييمه العقلاني تجده يتصرف وفقا لمتطلباته طبيعته، كما ينجح بالقدر نفسه أيضا في إنجاز شكل إنساني من البقاء والرفاهية؛ وكذلك فبقدر ما يتصرف دون عقلانية يأتي إنجازه في عملية التدمير الذاتي.
إن الاعتراف الاجتماعي بالطبيعة العقلانية للإنسان، أي: الصلة ما بين بقائه واستخدامه لعقله، هو جوهر مفهوم (الحقوق الفردية). وهنا ينبغي التذكير أولا بأن «الحقوق» مبدأ أخلاقي يعرّف ويقر حرية الإنسان بالتصرف في سياق اجتماعي، وأنها مشتقة من طبيعة الإنسان ككائن عاقل وتمثل شرطا ضروريا لإنجاز نمطه الخاص من البقاء. كذلك ينبغي التذكير بأن حق الحياة هو منبع الحقوق جميعها بما فيها حق الملكية. ولمناقشة أكثر استفاضة في موضوع الحريات، أحيل القارئ إلى مقالة (حقوق الإنسان) في ملحق هذا الكتاب، وإلى مقالة («الحقوق» في ظل الجماعة) في كتاب (فضيلة الأثرة).
أما في ما يتصل بموضوع علم الاقتصاد السياسي، فإن هذا العلم يتطلب تأكيدا خاصا: أن الإنسان عليه أن يعمل وينتج من أجل تدبر معيشته. إن على الإنسان أن يتدبر معيشته بواسطة جهده الخاص وعلى ضوء توجيهات عقله، ومن لم يكن بإمكانه أن يتصرف بثمرة جهده، فليس بإمكانه أن يتصرف بهذا الجهد؛ ومن لم يكن بإمكانه أن يتصرف بجهده، فليس بإمكانه أن يتصرف بحياته؛ فمن دون حقوق الملكية لا يمكن ممارسة الحقوق الأخرى. وإذا أخذنا هذه الحقائق بعين الاعتبار فسيبرز أمامنا السؤال الآتي: ما هو النظام الاجتماعي الملائم للإنسان؟
إن النظام الاجتماعي هو مجموعة من المبادئ الأخلاقية السياسية الاقتصادية التي تتمثل في قوانين النظام ومؤسساته وحكومته، وتحدد العلاقات وشروط التعاون بين مجموعة من الناس تعيش في نطاق جغرافي معين. ومن الواضح أن هذه الشروط والعلاقات تعتمد على تعريف معين لطبيعة الإنسان، وأنها ستكون مختلفة إذا كانت تتعلق بمجتمع من الكائنات العاقلة أو مستعمرة من النمل. ومن الواضح أيضا أن الأمر سيكون مختلفا بصورة جذرية لو تعامل الناس مع بعضهم البعض كأفراد أحرار مستقلين على أساس أن كل إنسان هو غاية بحد ذاته، أو كان هذا التعامل على أساس أنهم أعضاء من رزمة يعتبر فيها كل منهم الآخر كوسيلة لتحقيق غاياته (هو) وغايات «الرزمة ككل».
هنالك سؤالان أساسيان فقط (أو جانبان للسؤال السابق نفسه) يحددان طبيعة أي نظام اجتماعي، وهما:
1.هل يعترف هذا النظام الاجتماعي بالحقوق الفردية؟
2.هل يحظر هذا النظام الاجتماعي تدخُّل القوة المادية في العلاقات البشرية؟
والجواب عن السؤال الثاني هو التطبيق العملي للجواب عن السؤال الأول.
يمكننا أن نصوغ السؤال الأول كما يلي: هل الإنسان فرد ذو سيادة يمتلك شخصه وعقله وحياته وعمله وإنتاجه، أم أنه ملك للقبيلة (الدولة، المجتمع، الجماعة) التي قد تتصرف به كما تشاء وتملي عليه معتقداته وترسم له مسار حياته وتتحكم بعمله وتصادر إنتاجه؟ هل للإنسان (الحق) بالوجود لصالحه الخاص، أم أنه يولد عبدا يفترض به العمل كخادم يستمر في شراء حياته من خلال خدمة القبيلة لكن دون أن يتمكن أبدا من امتلاك حياته على نحو حر وكامل؟
هذا هو السؤال الأول الذي ينبغي أن نوفر له الإجابة، أما ما بقي فليس إلا نتائج وتطبيقات عملية؛ فالقضية الأساسية هي: هل الإنسان حر؟ ولم يمر على تاريخ الإنسان نظام اجتماعي أجاب عن هذا السؤال بـ(نعم) غير الرأسمالية.
إن الرأسمالية نظام اجتماعي يقوم على الاعتراف بالحقوق الفردية، بما فيها حقوق الملكية، حيث تكون فيه كافة أنواع الملكية مملوكة للجهات الخاصة. والاعتراف بالحقوق الفردية يستدعي إبعاد القوة المادية عن التدخل بالعلاقات البشرية؛ ففي الأساس لا يمكن للحقوق أن تنتهك بغير القوة. وفي المجتمع الرأسمالي لا يمكن لأي إنسان أو مجموعة أن (تبادر) باستخدام القوة المادية ضد الآخرين. والوظيفة الوحيدة للحكومة في هذا المجتمع هي مهمة حماية حقوق الإنسان، أي: مهمة حمايته من القوة المادية؛ حيث تتصرف الحكومة باعتبارها وكيلا عن الفرد في عملية الدفاع عن النفس، وليس لها أن تستخدم القوة إلا كفعل انتقامي يوجه حصرا ضد من بادر إلى استخدامها أولا؛ وبهذا تكون الحكومة هي وسيلة وضع الاستخدام الانتقامي للقوة تحت سيطرة (موضوعية). ومن أراد الاستفاضة حول هذا الموضوع فليراجع مقالتنا (طبيعة الحكومة) في ملحق الكتاب.
إن الرأسمالية تعترف بالحقيقة الأساسية المجردة لطبيعة الإنسان وتعمل على حمايتها، وهي حقيقة تمثل الصلة ما بين بقائه واستخدامه لعقله.
كل العلاقات البشرية في المجتمع الرأسمالي طوعية؛ فالناس أحرار في أن يتعاونوا مع بعضهم أو أن لا يتعاونوا، وأن يتعاملوا مع بعضهم أو أن لا يتعاملوا، وذلك بحسب ما تمليه عليهم تقييماتهم ومعتقداتهم ومصالحهم الفردية الخاصة. إنهم لا يتعاملون مع بعضهم إلا وفق شروط العقل وبواسطته، أي: بواسطة النقاش، والإقناع، والاتفاق (العَقْدي)، وبقرار طوعي تنتج عنه فائدة مشتركة. إن حق الاتفاق مع الآخرين ليس مشكلة في أي مجتمع، ولكن (حق الخلاف) هو الذي يلعب الدور الحاسم؛ ومؤسسة الملكية الخاصة هي التي تحمي وتطبق حق الخلاف، وبذلك تحافظ على فتح المجال أمام أثمن خصائص الإنسان (أثمنها شخصيا واجتماعيا و»موضوعيا»)، وهو: العقل المبدع. وهذا هو الفارق الجذري ما بين الرأسمالية والجماعية.
إن القوة التي تقرر تأسيس الأنظمة الاجتماعية وتغييرها وتطورها وانهيارها هي الفلسفة. وفي هذا السياق يكون دور الفرصة والصدفة والعرف مماثلا لدورها في حياة الفرد: حيث تقف قواها في تناسب عكسي مع قوة الجهاز الفلسفي للثقافة أو (الفرد)، وتنمو مع انهيار الفلسفة. ولهذا ينبغي الاستعانة بالفلسفة لتعريف وتقييم طبيعة أي نظام اجتماعي. وإذا استعنّا بفروع الفلسفة الأربعة لتحديد الأسس الأربعة للرأسمالية، فستكون كما يلي:
1.ميتافيزيقيا: متطلبات طبيعة الإنسان وبقائه.
2.معرفيا: العقل.
3.أخلاقيا: الحقوق الفردية.
4.سياسيا: الحرية.
وهذا الطرح يشكل في الحقيقة أساسا لمقاربة ملائمة لعلم الاقتصاد السياسي وفهم الرأسمالية، دون الاعتماد على النظرة القبَلية الموروثة من عصور ما قبل التاريخ.
ولا يمكن إيجاد تبرير «عملي» للرأسمالية في ادعاء أنصار الجماعية بأنها تحقق «التوزيع الأمثل للموارد الوطنية»، فالإنسان ليس من «الموارد الوطنية» وكذلك عقله، ومن دون القوة المبدعة للذكاء البشري تبقى المواد الخام دون فائدة. كما لا يمكن العثور على تبرير أخلاقي للرأسمالية في ادعاء أنصار الإيثارية بأنها تمثل السبيل الأمثل لتحقيق «الصالح العام»؛ صحيح أن الرأسمالية تحقق ذلك، إن كان لهذه العبارة الشهيرة من معنى أساسا، ولكن ذلك ليس إلا نتيجة ثانوية لعملها؛ فالتبرير الأخلاقي للرأسمالية يتمثل في أنها النظام الوحيد الذي ينسجم مع الطبيعة العقلانية للإنسان، وأنها تحمي بقاء الإنسان بوصفه إنسانا، وأن مبدأها الأساسي هو (العدالة).
يقوم كل نظام اجتماعي، بشكل صريح أو خفي، على أساس نظرية أخلاقية معينة؛ وقد جاءت فكرة «الصالح العام» القبَلية كتبرير أخلاقي لمعظم الأنظمة الاجتماعية وكافة الأنظمة الاستبدادية في التاريخ، وتتحدد درجة عبودية أو حرية المجتمع من خلال مقدار استخدام أو تجاهل هذا الشعار القبَلي. وهذا المصطلح («الصالح العام» أو «المصلحة العمومية») هو مفهوم غير معرّف ولا يمكن تعريفه، إذ ليس هنالك كيان يمكن أن ندعوه «القبيلة» أو «المصلحة العمومية»، فالقبيلة (أو العموم أو المجتمع) ليست إلا عددا من الأفراد، وبهذا الاعتبار لا يمكن أن يكون أي شيء من «صالح» القبيلة؛ فما هو «صالح» أو «قيمة» يتعلق بالكائن الحي كفرد فقط، وليس بكتلة من العلاقات لا روح لها.
إن مفهوم «الصالح العام» لا يحتوي على أي معنى إلا إذا ناقشناه بشكل حرفي، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون له معنى (حصيلة الصالح التي يساهم فيها جميع الأفراد)، ولكن هذا المفهوم يفقد معناه أيضا باعتبارات المعايير الأخلاقية، حيث لا يوفر إجابة عن السؤال الآتي: ما هو صالح الفرد وكيف يمكن تحديده؟
على الرغم مما سبق فإن المعنى الحرفي ليس أساسا لاستخدام هذا المفهوم عموما؛ وإنما يستمد قبوله بشكل خاص من طبيعته المطاطة الخيالية العصية على التعريف، وهذا لا يوفر له دليلا أخلاقيا، وإنما ينجيه من مقاييس الأخلاقيات. وبما أن هذا (الصالح) لا يمكن نفخ الروح فيه، فإنه يتحول إلى غنيمة أخلاقية سهلة لمن يحاولون نفخ الروح فيه. وعندما يوهب «الصالح العام» في المجتمع منزلة تختلف عن منزلة «الصالح الفردي» وتتفوق عليها، فهذا يعني أن ما هو في صالح (البعض) له الأولوية على صالح الآخرين الذين يوضعون في منزلة الأضاحي. كما إن هذا المصطلح يحمل افتراضا خفيا مفاده أن «الصالح العام» يعني «صالح الأغلبية» في مواجهة الأقلية أو الفرد. ولاحظ معي هنا أهمية حقيقة (خفاء) هذا الافتراض، فحتى أشد الآراء المناصرة للجماعية يبدو عليها الإحساس باستحالة تبرير هذا المفهوم أخلاقيا، ولكن «صالح الأغلبية» أيضا ليس إلا ذريعة ووهما، وذلك لأن انتهاك حقوق الفرد يعني نقض كل الحقوق، وهذا المفهوم يوفر للأغلبية العاجزة قوة أية عصابة تدعي لنفسها منزلة «صوت المجتمع» وتنتقل إلى الحكم بالقوة المادية إلى أن تخلعها عن السلطة عصابة أخرى تستخدم الوسائل نفسها.
إذا بدأنا بتعريف صالح الفرد، فلن يكون أي مجتمع مقبولا إلا الذي يكون فيه هذا الصالح متحققا و(قابلا للتحقيق)، لكن إذا بدأنا بقبول «الصالح العام» كأمر بديهي واعتبرنا صالح الفرد كنتيجة محتملة غير ضرورية، فعندها سينتهي بنا الحال إلى حالة عبثية مرعبة كما في الاتحاد السوفييتي الذي يتظاهر بأنه يكرس جهوده «للصالح العام» بينما يعيش الشعب بأكمله، باستثناء زمرة حاكمة ضئيلة، حالة لاإنسانية من البؤس طوال أكثر من جيلين من الناس.
ما الذي يدفع الضحية، والأسوأ: المراقب، إلى الإقرار بهذه الفاجعة ومثيلاتها في التاريخ دون أن يتخلى عن خرافة «الصالح العام»؟ إن الجواب يكمن لدى الفلسفة، وبالأخص: النظريات الفلسفية حول طبيعة القيم الأخلاقية.
يوجد بشكل أساسي ثلاث مدارس فكرية تناقش طبيعة (الصالح): الجوهرية، والذاتية، والموضوعية. حيث ترى النظرية الجوهرية أن الصالح ليس من طبيعة الأشياء أو الأفعال بغض النظر عن السياق أو النتيجة، والمنفعة أو المضرة التي يمكن أن تتسبب بها للأطراف المشاركة. فهذه النظرية تفصل ما بين مفهوم «الصالح» ومن ينتفع منه، وما بين مفهوم «القيمة» ومن يقوم بشؤون التقييم وغايتها، من خلال الزعم بأن الصالح صالح بذاته ولذاته.
أما (النظرية الذاتية) فترى أن (الصالح) ليست له علاقة بحقائق الواقع، وأنه نتاج وعي الإنسان، وأنه ينشأ عن أحاسيسه أو رغباته أو «حدسه» أو نزواته، وأنه ليس إلا «شرطا اعتباطيا» أو «التزاما عاطفيا». وبينما ترى النظرية الجوهرية أن «الصالح» يتواجد في شيء من الواقع مستقلا عن وعي الإنسان؛ ترى النظرية الذاتية أن الصالح يتواجد في وعي الإنسان مستقلا عن الواقع.
و(النظرية الموضوعية) ترى أن الصالح ليس من صفات «الأشياء بذاتها»، ولا من صفات الحالات العاطفية للإنسان، وإنما هو تقييم لحقائق الواقع من خلال وعي الإنسان وفقا لمعيار عقلاني للقيمة، ونعني بالعقلانية في هذا السياق: الاستقاء من حقائق الواقع والمصادقة على النتائج عبر عملية عقلية. كما ترى هذه النظرية أن الصالح جانب من جوانب الواقع في ما يتعلق منه بالإنسان، وأنه ينبغي أن يكتشفه الإنسان لا أن يخترعه. وهنا يبرز سؤال أساسي حول علاقة هذه النظرية بمفهوم القيم: لمن تكون قيمة الصالح؟ ومن أجل ماذا؟
إن النظرية الموضوعية لا تسمح بإسقاط السياق من النقاش («سرقة السياق»)، فلا تسمح بالفصل ما بين «القيمة» و»الغاية»، أو بين الصالح والجهات المنتفعة منه، أو بين أفعال الإنسان وعقله.
ومن بين كافة الأنظمة الاجتماعية التي ظهرت خلال تاريخ البشرية نجد أن الرأسمالية هي النظام الوحيد من بينها الذي تأسس على نظرية موضوعية للقيم. أما النظريتين الجوهرية والذاتية (أو مزيجهما) فيشكلان أساسا ضروريا لكل نظام ديكتاتوري أو استبدادي أو أي نوع من أنواع الدولة المطلقة. وسواء أكانت هاتان النظريتان تحتلان موقعهما في الوعي (بشكل صريح كمعتقد فلسفي لدى الفيلسوف) أو في اللاوعي (بشكل فوضوي خفي نجد صداه في أحاسيس الإنسان العادي)، فإن هذه النظريات تمكّن المرء من أن يعتقد بأن الصالح منفصل عن عقل الإنسان ومن الممكن تحقيقه بالقوة المادية.
إذا اعتقد المرء بأن الصالح جوهري في تصرفات بعينها، فإنه لن يتردد في إجبار الآخرين على القيام بها. وإذا اعتقد بأن ما يصدر عن هذه التصرفات من منفعة أو مضرة ليست له أهمية، فإن بحرا من الدماء سيكون دون أهمية في نظره أيضا. وإذا اعتقد بأن المنتفعين من هذه التصرفات ليست لهم مكانة صميمية (أو يمكن استبدالهم بغيرهم)، فسيعتقد بأن ارتكاب مجزرة دموية واجب أخلاقي يخدم صالحا «أعلى». إن النظرية الجوهرية هي التي أنجبت روبسبير ولينين وستالين وهتلر، وليس من الصدفة إذا علمنا أن ايكمان من معتنقي الفلسفة الكانتية.
إذا اعتقد الإنسان بأن (الصالح) قضية اعتباطية وخيار ذاتي فإن مسألة الصالح والطالح (الخير والشر) تصبح بالنسبة له قضية: أحاسيسي أم أحاسيسهم؟ إذ ليس هنالك إمكانية لديه لإقامة الجسور أو التفاهم أو التواصل. إن العقل هو الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الناس، والواقع المُدرَك بموضوعية هو الإطار المشترك الوحيد الذي يمكن أن يرجع الناس إليه، وعندما يفقد هذان العنصران فعاليتهما في ميدان الأخلاق (من خلال الاعتقاد بعدم صميميتهما)، عندها تصبح القوة هي الطريقة الوحيدة للإنسان في التعامل مع الآخرين. وإذا أراد المؤمن بالنظرية الذاتية أن يسعى لتحقيق بعض المثل الاجتماعية العليا الخاصة به فسيشعر حينها باستحقاق أخلاقي لإجبار الناس «لصالحهم هم» انطلاقا من إحساسه بأنه على حق وأنه لا يقف في طريقه غير أحاسيسهم الضالة. وهكذا يلتقي أتباع المدرستين (الجوهرية والذاتية) ويمتزجون على مستوى الممارسة (يمتزجون على أساس نفسيتهم المعرفية أيضا: وإلا، فبأي وسيلة يكتشف أخلاقيو المدرسة الجوهرية «صالحهم» الغامض إلا بالحدس الخاص غير العقلاني والرؤى الروحية، أي: أحاسيسهم؟). ولا يمكن البت في ما إذا كان أي أحد قادرا على الاعتقاد بأي من هاتين النظريتين كمعتقدات حقيقية إن وصل إليها بطريق الخطأ؛ ولكن كليهما يقومان بتوفير مبرر لشهوة السلطة والحكم بالنار والحديد، مما ينتج عنه إطلاق الديكتاتور التالي ونزع السلاح من أيدي ضحاياه.
إن النظرية الموضوعية للقيم هي النظرية الأخلاقية الوحيدة التي لا تتوافق مع الحكم بالقوة. والرأسمالية هي النظام الوحيد المؤسس ضمنا على نظرية موضوعية للقيم، والمأساة التاريخية تتمثل في أن هذا الأمر لم يوضّح أبدا؛ فلو علم المرء أن الصالح موضوعي (أي أنه يتحدد وفق طبيعة الواقع ولكنه يُكتشف بعقل الإنسان) فسيعلم حينها أن أية محاولة لتحقيق الصالح باستخدام القوة المادية تعد تناقضا هائلا يتنافى مع مبادئ الأخلاق قاطبة لأنه يدمر قدرة الإنسان على تمييز الصالح، أي: قدرته على معرفة القيم. إن القوة تحبط التقييم العقلاني وتشله، لأنها تطلب من المرء أن يتصرف بخلاف ما يمليه هذا التقييم، فينتهي إلى حال من العقم الأخلاقي. إن القيمة التي يفرض على المرء اتباعها على حساب استسلام عقله، ليست قيمة لأي كان؛ فمن أُجبر على إطفاء جذوة عقله لا يمكنه تقييم القيمة أو اختيارها. وإن محاولة تحقيق الصالح بالقوة تشبه محاولة إعطاء معرض من اللوحات لإنسان مقابل إزالة عينيه. إن القيم لا توجد (ولا يمكن أن تُقيّم) خارج السياق الكامل لحياة الإنسان واحتياجاته وأهدافه ومعرفته.
يمكنك أن تجد الرؤية الموضوعية للقيم في كافة أنحاء المجتمع الرأسمالي؛ فالإقرار بالحقوق الفردية يعني الإقرار بحقيقة مفادها أن الصالح ليس مفهوما مجردا يسمو على الوصف ضمن نطاق روحي ما، وإنما هو قيمة تتعلق بالواقع، والأرض التي نعيش عليها، وحياة كل كائن بشري كفرد (لاحظ حق السعي إلى السعادة). إنه يتضمن أن الصالح لا يمكن فصله عن المنتفعين منه، وان الإنسان يجب أن لا يعتبر قابلا للاستبدال، وأن لا يحاول أي إنسان أو قبيلة أن يحقق صالح البعض على حساب إفناء الآخرين.
والسوق الحرة تمثل التطبيق الاجتماعي لنظرية موضوعية للقيم، وبما أن القيم ينبغي أن تكتشف بعقل الإنسان، فيجب أن يكون الناس أحرارا في اكتشافها: بأن يفكروا ويدرسوا ويترجموا معرفتهم إلى شكل مادي، ويقدموا منتجاتهم للتجارة، وأن يقيّموا هذه المنتجات ويختاروا منها سواء أكانت على هيئة سلع مادية أم أفكار، رغيفا من الخبز أم معتقدا فلسفيا. وبما أن القيم تتأسس ضمن سياق معين، فإن كل شخص ينبغي عليه أن يقيّم لنفسه في سياق معرفته وأهدافه ومصالحه الخاصة. وبما أن القيم تتحدد من خلال طبيعة الواقع، فإن الواقع هو الذي يلعب دور الحكَم المطلق: فإذا كان تقييم المرء مصيبا حصل على جائزته، وإذا كان مخطئا فسيكون الضحية الوحيدة لخطئه.
إن التمييز بين منظار كل من النظريات الجوهرية والذاتية والموضوعية للقيم يحتل أهمية خاصة عندما يتعلق الأمر بالسوق الحرة؛ فالقيمة السوقية لمنتَج ما (ليست) قيمة جوهرية، فهي ليست «قيمة بذاتها» موجودة لوحدها في الفراغ. والسوق الحرة لا ترفع عينيها عن السؤال التالي: ذات قيمة (بالنسبة لمن)؟ وفي الإطار الواسع للموضوعية لا تعكس القيمة السوقية للمنتج قيمته (الموضوعية فلسفيا)، وإنما قيمته (الموضوعية اجتماعيا) فحسب. وبعبارة «الموضوعية فلسفيا» أعني قيمة مقدرة على أساس أفضل ما يتمكن منه الإنسان، أي: وفق معيار الذهن الأكثر عقلانية والذي يمتلك أعظم المعارف في ميدان ما وزمان ما وسياق محدد (إذ لا يمكن تقدير قيمة أي شيء في سياق غير محدد). وعلى سبيل المثال: يمكن تقديم برهان عقلاني على أن الطائرة (موضوعيا) ذات قيمة أكبر للإنسان (الإنسان في أفضل حالاته) بما لا يقارن مع قيمة الدراجة، وأن كتابات فيكتور هوغو ذات قيمة أكبر لا تقارن مع قيمة مجلات الإشاعات، ولكن إذا كان الإنسان المقصود ذو قدرة فكرية لا تكاد تستمتع إلا بهذه المجلات، فليس هنالك من سبب يدعو لإنفاق ممتلكاته الضئيلة، وحصيلة جهده (هو)، على كتب لا يستطيع قراءتها، أو على تمويل صناعة الطائرات عندما لا تحتاج تنقلاته إلى أكثر مما توصله الدراجة إليه. كذلك، فليس هنالك من سبب يوجب على بقية البشرية أن تتوقف عند مستوى ذوقه الأدبي، أو قدراته الهندسية، أو دخله؛ فالقيم لا يمكن تتحدد بناء على صدور مرسوم أو تصويت أغلبية.
وكما أن عدد المناصرين لا يقدم دليلا على صحة الفكرة أو بطلانها، أو على جدارة عمل فني أو تدني شأنه، أو على كفاءة منتَج أو رداءته؛ فإن القيمة التي تعطيها السوق الحرة للبضائع أو الخدمات لا تمثل بالضرورة قيمتها الموضوعية فلسفيا، وإنما قيمتها (الموضوعية اجتماعيا) فحسب، أي: محصلة التقييمات الفردية لكل الأشخاص المتضمنين في التجارة في زمان معين، ومحصلة ما قاموا بتقييمه (هم)، كل منهم في سياق حياته الخاصة به. وهكذا فإن من ينتج أحمر الشفاه سيجني ثروة أكبر ممن ينتج المجهر، حتى وإن كان من الظاهر عقليا أن المجهر ذو قيمة علمية أكبر من قيمة أحمر الشفاه، ولكن بالنسبة (لمن)؟ فالمجهر ليست له قيمة بالنسبة لسكرتيرة تخطو أولى خطواتها المهنية، أما أحمر الشفاه فقد يعني بالنسبة لها الفرق ما بين الثقة بالنفس والتردد، وما بين الجاذبية والقبح.
لكن هذا لا يعني أن القيم التي تحكم السوق الحرة ذات طبيعة (ذاتية)، فإذا أنفقت تلك السكرتيرة كل ما تجنيه على مواد التجميل دون أن يبقى ما يكفي لاستخدام المجهر لدى زيارة الطبيب (عند الحاجة)، عندها ستتعلم طريقة أفضل لتنظيم دخلها؛ وهنا تلعب السوق الحرة دور المعلم: إذ لا يمكن لهذه السكرتيرة أن تعاقب الآخرين على أخطائها، وإذا نظمت ميزانيتها بعقلانية فسيكون المجهر حاضرا دائما لخدمة احتياجاتها الخاصة (ولا شيء آخر). وبقدر ما يكون الأمر متعلقا بها، فإنها غير مضطرة إلى دفع الضرائب لبناء مستشفى كامل، أو مختبر أبحاث، أو سفينة فضاء لاستكشاف القمر. ففي نطاق قدرتها الإنتاجية الخاصة تقوم فعلا بدفع جزء من تكلفة الإنجازات العلمية (عندما) تحتاج إليها (وبالقدر الذي يلبي حاجتها). إنها غير ملزمة «بواجب اجتماعي» ، وحياتها الخاصة بها هي مسؤوليتها الوحيدة، والشيء الوحيد الذي يطلبه النظام الرأسمالي منها هو ما تطلبه (الطبيعة) منها، وهو: العقلانية، أي: أن تعيش وتتصرف بما يحقق الأفضل وفق تقييمها الخاص.
ضمن كل صنف من السلع والخدمات التي توفرها السوق الحرة، يحصل المزوّد الذي يؤمِّن المنتَج الأفضل بالسعر الأقل على العائد المالي الأكبر في (هذا) المجال، أي: لا بشكل آلي ولا فوري، ولا بسبب صدور مرسوم بذلك، وإنما بفضل السوق الحرة التي تعلّم كل مشترك فيها أن يبحث عن (الأفضل موضوعيا) ضمن مجال تنافسه، وهكذا تعاقِب من يعمل وفق اعتبارات غير عقلانية.
لاحظ معي الآن كيف أن السوق الحرة لا تنزل بالناس إلى مستوى مشترك، وذلك لأن معيار (الأغلبية) الفكري لا يحكم السوق الحرة أو المجتمع الحر، وانتبه إلى أن الأشخاص الاستثنائيين كالمبدعين وعمالقة الفكر لا يمكن أن تنخفض منزلتهم، في السوق الحرة، بفعل الأغلبية. وفي الحقيقة، إن أعضاء هذه الأقلية الاستثنائية هم الذين يرفعون كامل المجتمع الحر إلى مستوى إنجازاتهم الخاصة، بينما يرتفعون هم أعلى وأعلى.
إن السوق الحرة عبارة عن عملية مستمرة لا يمكن إيقافها، وعملية تصاعدية تطلب الأفضل (والأكثر عقلانية) من كل شخص وتكافئه بحسب ذلك. وبينما تتمكن الأغلبية بالكاد من تسوية أثمان السيارات قامت الأقلية المبدعة بتقديم الطائرات. كما إن الأغلبية تتعلم بالمشاهدة بينما تتمتع الأقلية بحرية عرض ما يشاهده هؤلاء. إن القيمة «الموضوعية فلسفيا» لأي منتَج جديد بمثابة معلم لهؤلاء الذين يمتلكون عزيمة ممارسة قدراتهم العقلية، كل منهم بحسب قابليته؛ أما من لا يمتلكون مثل هذه العزيمة فسيبقون دون ربح، ويماثلهم في الحال أولئك الذين كانت طموحاتهم تتعدى قابلياتهم الإنتاجية.
ليس للخامل أو غير العقلاني أو الذاتي سلطة تخوله إيقاف المتفوقين عليه. أما الأقلية الصغيرة (العاجزة) عن العمل من البالغين، وليست غير الراغبة فيه، فعليها أن تعتمد على المساعدات الخيرية الطوعية؛ فسوء الحظ لا يعني إجبار الآخرين على العمل الإجباري، كما ليس هنالك شيء اسمه (حق) استهلاك أو تسيير أو تدمير هؤلاء الذين لا يمكن تحقيق البقاء من دونهم. أما الركود الاقتصادي والبطالة الواسعة فلا تلام السوق الحرة عليها، لأن الذي يتسبب بها هو تدخل الحكومة في الشؤون الاقتصادية.
إن المتطفلين على العقول، أي: المقلدين الذين يحاولون خدمة ما يعتقدون بأنه الذوق المعلوم لعموم الناس، يتعرضون للهزيمة باستمرار من قبل المبدعين الذين تقوم منتجاتهم برفع سوية معارف العموم وذوقهم إلى مستويات أعلى. وبهذا الاعتبار لا تكون عملية قيادة السوق الحرة بيد المستهلكين، وإنما بيد المنتجين، وأكثر هؤلاء المنتجين نجاحا هم من يكتشفون مجالات جديدة للإنتاج، مجالات لم يكن أحد يعلم بوجودها في السابق.
عندما يظهر منتَج جديد لأول مرة ربما لا يلاقي التقدير فورا، وبالأخص إن كان مفرطا في الاختلاف، ولكنه يربح ذلك التقدير على المدى البعيد بغض النظر عن أية حوادث ثانوية. وبهذا الاعتبار لا يتحكم المعيار الفكري للأغلبية بالسوق الحرة، لأن هذا المعيار يفعل فعله في اللحظة الراهنة من أجلها، أما السوق الحرة فيحكمها أولئك القادرون على الرؤية والتخطيط على المدى البعيد، وكلما كمل العقل طال أمد أهداف التخطيط.
تتحدد القيمة الاقتصادية لعمل الإنسان في السوق الحرة بناء على مبدأ وحيد: الموافقة الطوعية لمن يرغب بالاتجار معه بعائد من عمله أو منتجاته. وهذا هو المعنى الأخلاقي لقانون (العرض والطلب)؛ حيث يمثل الرفض القاطع لمبدأين شرسين: (النظرة القبَلية) و(الإيثار). إنه يمثل الاعتراف بحقيقة مفادها أن الإنسان ليس ملكية أو عبدا للقبيلة، وأن (الإنسان يعمل من أجل إعالة حياته الخاصة به) بحسب ما تمليه طبيعته البشرية، وأنه يجب أن يهتدي بمصلحته الشخصية العقلانية، وإذا ما أراد أن يتاجر بشيء مع الآخرين فعليه أن لا يتوقع منهم أن يكونوا قرابين يضحى بها من أجله، أي: أنه ليس بمقدوره أن يتوقع استلام قيم مادية دون أن يعطي في مقابلها قيما مادية مكافئة لها؛ وهذا التكافؤ له معيار جوهري في هذا السياق وهو تقييم المتاجرين على نحو حر وطوعي ودون إجبار.
إن العقليات القبَلية تهاجم هذا المبدأ من جانبين متضادين كما يبدو: إذ تدعي هذه العقليات أن السوق الحرة «غير عادلة» تجاه كل من المبدع والإنسان العادي، ويُعبَّر عن الاعتراض الأول في العادة بأسئلة من قبيل: «لماذا يجني المطرب الفيس بريسلي أموالا أكثر مما يجني آينشتاين؟»، والجواب عن هذا السؤال: لأن الناس يعملون من أجل إعالة حياتهم والتمتع بها، وعندما يجد كثير من الناس قيمة في ما يفعله بريسلي فهذا يستدعي إنفاق أموالهم على متعتهم، ومن يدقق في ثروة بريسلي يجد أنها غير مستمدة ممن لا يعبؤون بعمله (وأنا من هؤلاء)، كما إنها ليست مستمدة من آينشتاين. إن بريسلي لا يقف في طريق آينشتاين، كما لا يفتقر آينشتاين إلى ما يكفي من التقدير والدعم في المجتمع الحر ضمن المستوى الفكري الذي يلائمه.
أما الاعتراض الثاني، وهو الادعاء بأن الإنسان العادي يتعرض للمعاناة في ظل المضار غير العادلة التي تتسبب بها السوق الحرة، فنقول لمن ينادي به:
«انظر إلى ما وراء اللحظة العابرة، أنت يا من تصيح معلنا خوفك من المنافسة مع من يفوقونك في الذكاء، مدعيا بأن عقولهم تهدد معيشتك، وأن القوي لا يترك فرصة للضعيف في التجارة الطوعية… عندما تعيش في مجتمع عقلاني، حيث يتمتع الناس بحرية التجارة، سوف تكسب أرباحا لا تحصى: فالقيمة المادية لعملك لا تتحدد بحسب جهدك فحسب، وإنما بجهد العقول الأفضل إنتاجية (والتي) تتواجد في العالم المحيط بك… إن الآلة، وهي الشكل الجامد لذكاء حي، هي القوة التي تفتح آفاقا أبعد لحياتك من خلال رفع إنتاجية وقتك…»
«إن كل إنسان حر في السمو إلى أبعد ما يستطيع أو يرغب، ولكن درجة تفكيره فحسب هي التي تحدد درجة سموه. وبهذا لا يمكن للعمل البدني أن يتجاوز مدى اللحظة الراهنة، والإنسان الذي لا يؤدي غير العمل البدني يستهلك القيمة المادية المساوية لقيمة مساهمته في عملية الإنتاج، ولا يترك منها شيئا لا لنفسه ولا للآخرين. أما الإنسان الذي ينتج فكرة في أي مجال من مجالات التقدم العقلي (من يكتشف معارف جديدة) فهو المستفيد أبدا من البشرية… فقيمة الفكرة هي وحدها التي يمكن تشاركها مع عدد غير محدود من الناس، مما يجعل حصص الجميع أكبر دون الحاجة إلى تضحية أو خسارة من أحد، وهذا يؤدي إلى ارتفاع الطاقة الإنتاجية لعملهم مهما كان نوعه…»
«وبالتناسب مع الطاقة العقلية التي يصرفها، فإن الإنسان الذي يقدم اختراعا جديدا لا يستلم إلا نسبة صغيرة من قيمة اختراعه في حسابات القيمة المادية، وذلك مهما كان مقدار الثروة التي يجنيها، ومهما كان عدد الملايين التي يمتلكها. ولكن الإنسان الذي يعمل حارسا للمصنع الذي ينتج هذا الاختراع يستلم مبلغا هائلا بالمقارنة مع الجهد العقلي الذي يتطلبه عمله منه. وهذا يصح على جميع الناس الذين يتوزعون بين هذين الشخصين، وبتعدد مستويات طموحهم وإمكانياتهم. إن الإنسان الذي يتبوأ أعلى الهرم الفكري يقدم المساهمة الأكبر لجميع من يتبوءون المنازل التالية، ولكنه لا يحصل على غير العائد المادي، إذ لا يحصل على نصيب فكري من الآخرين كي يرفع من قيمة وقته. والإنسان الذي يتبوأ المنزلة السفلى، والذي سيجوع إن ترك لوحده مع ما يعاني من انعدام في الكفاءة بشكل ميؤوس منه، فإنه لا يقدم شيئا لمن هم فوقه، ولكنه يستلم نصيبا من نتاج عمل أدمغتهم. إن هذه هي طبيعة «المنافسة» ما بين القوي والضعيف عند أرباب الفكر. وهذه هي طبيعة «الاستغلال» التي تعرَّض القوي جراءها للعنة اللاعنين». (أطلس يستريح)
وكذلك هي علاقة الرأسمالية بعقل الإنسان وبقائه.
إن التاريخ يشهد بعظمة العملية التي أنجزتها الرأسمالية في وقت قصير، وحققت من خلالها تقدما رائعا في ظروف حياة الإنسان على هذه الأرض، وهذا مما لا يمكن إخفاؤه أو تجنبه أو دحضه من قبل أبواق الدعاية المعادية للرأسمالية، ولكننا نحتاج إلى تشديد خاص على حقيقة مفادها أن هذا التقدم تم إنجازه بواسطة وسائل (غير تضحوية). فالتقدم لا يمكن إنجازه بفرض الحرمان، واعتصار الضحايا الجوعى للحصول على «الفائض» الاجتماعي؛ وإنما يأتي عبر (الفائض الفردي) فحسب، أي: من عمل وطاقة وفائض الناس الذين تقوم إمكانياتهم بإنتاج أكثر من متطلبات استهلاكهم الشخصي، والذين تؤهلهم قدراتهم الفكرية والمالية للسعي إلى الجديد، وتطوير ما هو موجود، والمضي قدما. وفي المجتمع الرأسمالي، حيث يكون أولئك الناس أحرارا في التصرف وتحمل المخاطرة، لا يعتبر التقدم مسألة تتطلب التضحية من أجل مستقبل بعيد، وإنما هو جزء من الحاضر المعاش، وأمر عادي وطبيعي يمكن إنجازه بينما يعيش الإنسان حياته ويتمتع بها.
لننتقل الآن لمناقشة البديل، وهو المجتمع القبَلي، حيث يقوم الجميع بإلقاء جهودهم وأموالهم وطموحاتهم وأهدافهم في حوض القبيلة أو في وعاء مشترك، ثم ينتظرون ببطون خاوية على حافته بينما يقوم كبير زمرة الطباخين بتحريك المزيج حاملا العصا بيد وصكا مفتوحا بأرواحهم جميعا في اليد الأخرى. وأوضح مثال على هذا الأمر هو الاتحاد السوفييتي. فقبل نصف قرن من الزمان أصدر حكام الاتحاد السوفييتي أوامرهم لرعاياهم بأن يصبروا ويتحملوا الحرمان ويقدموا التضحيات في سبيل «التحول الصناعي» للبلاد، ووعدوهم بأن هذا الأمر مؤقت، وأن هذا التحول سوف يجلب لهم الرخاء، وأن التقدم السوفييتي سيتخطى مثيله لدى الغرب الرأسمالي. ولكننا نرى اليوم أن الاتحاد السوفييتي لا يزال عاجزا عن إطعام شعبه بينما يكافح حكامه لنسخ أو استعارة أو سرقة الإنجازات التكنولوجية الغربية. إن التحول الصناعي ليس هدفا ثابتا؛ وإنما هو عملية ديناميكية ذات معدل سريع من التلاشي، ولهذا تجد العبيد التعساء في الاقتصاد القبلي التخطيطي، والذين جاعوا انتظارا منهم لمولدات الكهرباء والجرارات الزراعية، يجوعون الآن انتظارا للطاقة الذرية والسفر ما بين الكواكب، وهكذا يتحول تقدم العلم في «دولة الشعب» إلى عدو لهذا الشعب، وكل فتح علمي جديد يستنزف مقدراته المتناقصة.
لكن هذا لم يحصل في تاريخ الرأسمالية؛ حيث لم ينتج رخاء أمريكا عن تضحيات الناس من أجل «الصالح المشترك»، وإنما عن ذكاء المنتجين الذين سعوا لتحقيق مصالحهم الشخصية وبناء ثرواتهم الخاصة، وهؤلاء لم يجيعوا الشعب الأمريكي كي يحققوا التحول الصناعي، وإنما أعطوا الناس وظائف أفضل، وأجورا أعلى، وبضائع أرخص مع كل آلة جديدة اخترعوها، ومع كل اكتشاف علمي أو تقدم تكنولوجي حققوه، وبهذا أصبحت أمريكا بقضها وقضيضها تتقدم إلى الأمام وتستفيد (ولا تعاني) من كل خطوة على هذا الطريق.
يجب أن نتجنب هاهنا ارتكاب خطأ التبديل ما بين السبب والنتيجة: فصالح البلاد أصبح ممكنا بفضل حقيقة بعينها مفادها أن هذا الصالح لم يُفرض على أي شخص كهدف أو واجب أخلاقي، وإنما كان مجرد نتيجة، أما السبب فكان حق الإنسان في السعي لتحقيقه صالحه هو، وهذا الحق، وليست نتيجته، هو الذي يمثل التبرير الأخلاقي للرأسمالية. ولكن هذا الحق لا يتوافق مع نظرية القيم الجوهرية أو الذاتية، أو مع الأخلاقيات الإيثارية أو النظرة القبَلية. وواضحة هي الصفة البشرية التي يرفضها المرء برفضه للموضوعية، كما إن سجل الرأسمالية يرينا بوضوح الصفة البشرية التي يتحد في مواجهتها كل من الأخلاقيات الإيثارية والنظرة القبَلية: إنها عقل الإنسان وذكاؤه، وبالأخص: الذكاء الذي يطبق لحل مشاكل بقاء الإنسان، أي: القدرة الإنتاجية.
وبينما تسعى الإيثارية إلى تجريد الذكاء من مكافأته من خلال التشديد على الواجب الأخلاقي للكفوء في خدمة غير الكفوء وتضحيته بنفسه لتلبية احتياجات الآخرين، فإن النظرة القبَلية تذهب إلى أبعد من ذلك، فتنكر وجود الذكاء ودوره في عملية إنتاج الثروة. إن من المشين أخلاقيا اعتبار الثروة دون هوية، وأنها منتَج قبَلي، والحديث عن «إعادة توزيعها». إن الرأي الذي يعتبر الثروة نتيجة لعملية جماعية غير تخصصية، وأن الجميع يشاركون في العمل مع استحالة تمييز عمل كل منهم، وأن ذلك يستدعي ضرورة وجود نوع من أنواع «التوزيع» المتساوي، إنما هو رأي يليق بغابة بدائية يعيش فيها حشود متوحشة تنقل الصخور بالقوة البدنية المجردة (وحتى في هذه الحال ينبغي وجود شخص ما يباشر عملية النقل وينظمها). إن اعتناق هذا الرأي في مجتمع صناعي، حيث تكون الإنجازات الفردية أمرا يعرفه الجميع، إنما هو اعتداء على درجة من الفحش بحيث أن حتى التذرع بدواعي الشك لفعل ذلك يعد بذاءة غير مقبولة. وكل من عمل كموظف، أو وظّف أحدا عنده، أو لاحظ كيف يعمل الناس، أو مارس عملا شريفا ولو ليوم واحد، يعلم الدور الحاسم للإمكانيات والذكاء لدى العقل التنافسي المهتم، وذلك في كافة مستويات العمل من أعلاها إلى أدناها؛ وهو يعلم أن وجود الإمكانية أو انعدامها (سواء أكان الانعدام حقيقيا أو مقصودا) يلعب دورا مصيريا في أية عملية إنتاجية. والدليل على هذا موجود على نحو لا يقبل الرد (نظريا وعمليا، منطقيا و»تجريبيا»، في أحداث التاريخ والكدح اليومي للإنسان) إلى درجة أن لا أحد يمكنه ادعاء الجهل به، ولا بد من التشكيك في نية من يزعمون الجهل به من باب الخطأ.
عندما بنى الصناعيون العظام ثرواتهم على أساس السوق الحرة (أي: دون استخدام القوة، ودون مساعدة الحكومة أو تدخلها)، فقد صنعوا ثروة من نوع جديد: فلم يأخذوها ممن (لم) يصنعوها، ومن يشك في هذا فلينظر إلى «الناتج الإجمالي الاجتماعي» ومستوى المعيشة في الدول التي سمحت لهؤلاء الصناعيين بأن يتواجدوا.
لاحظ معي ندرة وعدم كفاءة مناقشة قضية الذكاء البشري في كتابات المنظّرين القبَليين الدولانيين الإيثاريين، كما لاحظ الحذر الشديد الذي يبديه مناصرو النظام الاقتصادي المختلط في تجنب وتحاشي أية إشارة للذكاء والإمكانيات في مقاربتهم للقضايا الاقتصادية السياسية، وفي مزاعمهم ومطالبهم ومعاركهم الضاغطة في سبيل نهب «الناتج الإجمالي الاجتماعي». وكثيرا ما يطرح السؤال: لماذا تعرضت الرأسمالية للتدمير على الرغم من سجلها الذي لا يقارن في مجال المنافع التي تحققها؟ ويكمن الجواب في حقيقة مفادها أن كل نظام اجتماعي يستمد دماءه من الفلسفة المهيمنة على ثقافته، والرأسمالية لم تمتلك أبدا أي أساس فلسفي، حيث كانت آخر نتاج غير مكتمل (نظريا) للتأثير الأرسطي، وبينما انغمرت فلسفة القرن التاسع عشر بحركة إحيائية للروحانيات، تركت الرأسمالية في منطقة خالية فكريا، فانقطعت تلك الدماء عنها. ولم يتقدم أحد بدراسة كاملة أو تعريف وافٍ للطبيعة الأخلاقية للرأسمالية، ولا حتى مبادئها السياسية، واعتبرها محاموها المزعومون متوافقة مع ضوابط الحكومة (تدخل الحكومة في الاقتصاد)، متجاهلين معنى ودلائل مفهوم (عدم تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية)؛ ولهذا فإن ما وجد بالممارسة في القرن التاسع عشر لم يكن رأسمالية صافية، وإنما مزيجا من الأنماط الاقتصادية المتنوعة، وبما أن الضوابط تستدعي وتنتج المزيد من الضوابط، فإن العنصر الدولاني في هذا المزيج هو الذي أدى إلى انهياره، ولكن أصابع الاتهام توجهت إلى العنصر الحر الرأسمالي.
لم تكن الرأسمالية لتنجو بنفسها من ثقافة تهيمن عليها الروحانيات والإيثار والفجوة ما بين الروح والجسد والنظرة القبَلية؛ فليس هنالك نظام اجتماعي (ولا أي مؤسسة أو نشاط بشري من أي نوع) بقادر على النجاة من هذا الوضع دون استناده إلى أساس أخلاقي، وإذا ما نظرنا للقضية من منظار الأخلاقيات الإيثارية نجد أن الرأسمالية توجّب عليها أن تكون ملعونة منذ البداية، وهذا ما حصل فعلا، وللاطلاع على مناقشة الفراغ الفلسفي في ما يخص الرأسمالية، يمكن مراجعة مقالتنا (إلى المثقف الجديد) في كتاب يحمل الاسم ذاته.
ولمن لا يمتلك فهما كاملا للدور الذي تلعبه الفلسفة في القضايا الاقتصادية السياسية، سأقدم أوضح مثال قد يورده المثقف المعاصر، وذلك بالاقتباس مما أوردته الموسوعة البريطانية في مقالة (الرأسمالية):
«لا يميل إلا القليل من المراقبين لتحري أخطاء الرأسمالية باعتبارها محركا للإنتاج. فالنقد يصدر عادة إما من الرفض «الأخلاقي» أو «الثقافي» لجوانب معينة في النظام الرأسمالي، أو من التعثرات التي تحدث على المدى القريب (الأزمات وحالات الركود) التي تتخلل التطوير على المدى البعيد. (إشارات التنصيص من عندي)
هذه «الأزمات وحالات الركود» نتيجة لتدخل الحكومة، لا النظام الرأسمالي. ولكن ماذا عن طبيعة الرفض «الأخلاقي أو الثقافي»؟ لا توضح المقالة ذلك بصراحة، وإنما تورد إشارة فصيحة حول ذلك بالقول:
«لكن، وبهذا الحال الذي هما عليه، فإن كلا من الميول وحالات التحقق [للرأسمالية] تحمل سمة لا تخطئها العين من مصالح رجال الأعمال، بل أكثر من ذلك: نمط عقلية رجال الأعمال. وفضلا عن هذا، فإنها لم تكن سياسة فحسب، وإنما فلسفة لحياة الأمة والفرد، ومخطط لقيم ثقافية، هي التي حملت تلك السمة. وإذا ما تفحصنا منفعيتها المادية، وثقتها الساذجة بنوع محدد من التقدم، وإنجازاتها الحقيقية في مجال العلوم النظرية والتطبيقية، ومزاج إبداعاتها الفنية، فيمكن أن تقودنا إلى مصدر واحد هو «روح العقلانية» التي تنبع من مكتب رجل الأعمال. (إشارات التنصيص من عندي)
إن كاتب المقالة، والذي ليس «ساذجا» بما يكفي للاعتقاد بنمط رأسمالي (أو عقلاني) للتقدم، من الواضح أنه يحمل اعتقادا مختلفا؛ إذ يقول:
«في نهاية العصور الوسطى بقيت أوروبا الغربية تراوح مكانها في المكان نفسه الذي تشغله الكثير من الدول المتخلفة في القرن العشرين. [هذا يعني أن ثقافة عصر النهضة تكاد تقارب ثقافة الكونغو الحالية، أو أن التقدم الفكري للشعب ليس له علاقة بالاقتصاد] ففي البنى الاقتصادية المتخلفة تتمثل مهمة قيادة الدولة في المباشرة بعملية تراكمية من التقدم الاقتصادي، فما أن يتحقق تفعيل القوة الدافعة حتى تبدأ مراحل التقدم الإضافية بالظهور تباعا على نحو آلي تقريبا».
إن أمثال هذا الطرح تتضمنها كافة نظريات الاقتصاد التخطيطي، وقد أدى ما يشبه هذا الاعتقاد «المحنك» إلى انقضاء جيلين من الشعب الروسي وهم ينتظرون التقدم «الآلي».
لقد حاول الاقتصاديون التقليديون أن يقدموا تبريرا قبَليا للرأسمالية بالافتراض بأنها تقدم «التقسيم» الأفضل لما في المجتمع من «موارد». وإليك شيئا من الماضي الذي يتلبد الحاضر بغيومه:
«إن نظرية السوق حول تقسيم الموارد ضمن القطاع الخاص هي الفكرة الرئيسية في البنى الاقتصادية التقليدية. ومعيار التقسيم بين القطاعين العام والخاص يشبه في الشكل المعايير الأخرى لتقسيم الموارد، وبالأخص منها: أن من الواجب إعطاء المجتمع مقدارا مرضيا متساويا من الحد الأدنى للأرباح المتولدة عن الموارد المستخدمة في القطاعين العام والخاص… وقد شدد العديد من الاقتصاديين على أن هنالك دليلا واقعيا، وربما يكون حاسما، على أن الرفاهية الإجمالية في رأسمالية الولايات المتحدة، مثلا، من الممكن زيادتها في حال إعادة تقسيم الموارد لصالح القطاع العام، وذلك من خلال زيادة الصفوف المدرسية وتقليل مراكز التسوق، وزيادة المكاتب العامة وتقليل السيارات، وزيادة المستشفيات وتقليل نوادي البولينغ».
هذا يعني أن بعض الناس ينبغي أن يكدحوا طيلة حياتهم دون أن يحصلوا على مواصلات ملائمة (السيارات)، ودون عدد مناسب من الأماكن التي يشترون منها ما يحتاجونه من السلع (مراكز التسوق)، ودون الحصول على متعة الاسترخاء (نوادي البولينغ)، وذلك كي تتوفر للآخرين المدارس والمكتبات والمستشفيات.
وإذا أردت أن ترى النتيجة النهائية للمعنى الكامل للنظرة القبَلية عن الثروة، أي: الإلغاء الكامل للتمييز ما بين التصرفات الخاصة والإجراءات الحكومية، وما بين الإنتاج والقوة، والإلغاء الكامل لمبدأ «الحقوق»، والقضاء على الكينونة الواقعية للفرد، والاستعاضة عنها برؤية تعتبر الناس وحوشا قابلة للتبادل تستخدم لحمل الأثقال أو «كعوامل إنتاج»؛ فيمكنك أن تدرس ما يأتي:
«تتحيز الرأسمالية ضد القطاع العام لسببين اثنين: أولهما أن كل الإنتاج والحصيلة يتزايد في البدء لدى القطاع الخاص بينما تصل الموارد إلى القطاع العام عبر العملية المضنية المسماة بالضرائب. ولا يمكن تلبية الاحتياجات العامة دون رضى المستهلكين من خلال دورهم كدافعي ضرائب [ماذا عن المنتجين؟]، والذين يكون ممثلوهم السياسيون على وعي كبير بأحاسيس ناخبيهم المتألمة [!] حيال أخذ الضرائب منهم. والفكرة القائلة بأن (الناس يعلمون ما يفعلون بدخلهم على نحو أفضل من الحكومة) هي فكرة أكثر جاذبية من نقيضتها التي تقول بأن (الناس يستحصلون من أموال الضرائب المفروضة عليهم عوائد أفضل مما ينتج عن أنواع الإنفاق الأخرى). [أية نظرية طرحت هذه الفكرة؟ ومن استنتج ذلك؟] أما السبب الثاني فهو أن ضغط الأعمال الخاصة باتجاه البيع يقود إلى سلسلة هائلة من أدوات الترويج التجاري الحديثة التي تؤثر على قرار المستهلك وتنحاز بقيم المستهلك تجاه الاستهلاك الخاص. [وهذا يعني أن رغبتك بإنفاق المال الذي تمتلكه عوضا عن أن تأخذه الضرائب منك ليس إلا (تحيزا)] وهذا يؤدي إلى ذهاب معظم الإنفاق الخاص لاحتياجات غير ملحة جدا بحسب أي اعتبار أساسي. [ملحة لمن؟ وما هي الاحتياجات الأساسية؟ هل تتعدى توفير كهف وجلد دب وقطعة من اللحم النيء؟] وهكذا نصل إلى نتيجة تتمثل في إهمال العديد من الاحتياجات العامة وذلك لأن تلك الاحتياجات السطحية المصطنعة تنجح في التنافس على الموارد ذاتها… [لمن تعود هذه الموارد؟]».
«يمكن الاستفادة من مقارنة تقسيم الموارد بين القطاعين العام والخاص في ظل الرأسمالية والجماعية الاشتراكية [طبعا]. ففي الاقتصاد الجماعي تعمل كافة الموارد ضمن نطاق القطاع العام وتكون متاحة لأغراض التعليم والدفاع والصحة والحماية الاجتماعية وغيرها من الاحتياجات العامة دون الحاجة إلى تحويلها من خلال الضرائب. كما يتم تقليص الاستهلاك الخاص إلى حدود المطالب المسموح بها [من يسمح بها؟] مقابل الناتج الاجتماعي، وذلك بشكل شديد الشبه بتقليص الخدمات العامة في الاقتصاد الرأسمالي إلى حدود المطالب المسموح بها مقابل القطاع الخاص. وفي الاقتصاد الجماعي تتمتع الاحتياجات العامة بالنوع نفسه من الأولوية الجوهرية التي يتمتع بها الاستهلاك الخاص في الاقتصاد الرأسمالي. ففي الاتحاد السوفييتي يتمتع المعلمون بالثراء لكن السيارات نادرة، أما في الولايات المتحدة فيسود نقيض هذه الحال.»
ثم تخلص بنا المقالة إلى ما يأتي:
«يلعب تعريف الرأسمالية دورا في صياغة التنبؤات المتعلقة بمصيرها؛ ومن الملاحظ في كل مكان أن الدول الرأسمالية تنقل نشاطها الاقتصادي من الحقل الخاص إلى العام؛ وفي الوقت نفسه نجد [بعد الحرب العالمية الثانية] أن الاستهلاك الخاص بدا محكوما بالارتفاع في الدول الشيوعية [هل يعني هذا زيادة استهلاك الطحين؟] وبدا على هذين النظامين الاقتصاديين الاقتراب من بعضهما البعض بعد التغييرات التي انبثقت من كلا الاتجاهين؛ ولكن ذلك لا يعني عدم وجود اختلافات مهمة بينهما، ولكن يبدو من المعقول القول بأن المجتمع الذي يستثمر أكثر في الناس من شأنه إحراز تقدم أسرع والفوز بالمستقبل، وبهذا الاعتبار الهام تعاني الرأسمالية، بنظر بعض الاقتصاديين، تحت وطأة سيئات أساسية، ولكنها ليست عصية على الحل، تجعل الجماعية تتقدم عليها في المنافسة.»
لقد أُنجِزت الجماعية في زراعة الاتحاد السوفييتي من خلال المجاعة التي تم التخطيط لها وتنفيذها من قبل الحكومة بشكل متعمد لإجبار الفلاحين على الانضمام إلى نظام المزارع الجماعية، ويزعم أعداء الاتحاد السوفييتي أن (15 مليون فلاح) قضوا نحبهم في تلك المجاعة، أما الحكومة السوفييتية فتعترف بوفاة (7 ملايين). كما يزعم أعداء الاتحاد السوفييتي أن عدد العاملين في معسكرات العمل الإجباري السوفييتية بلغ في نهاية الحرب (30 مليون شخص)، وكانوا يموتون جراء سوء التغذية بتخطيط مسبق لأن حياة المرء كانت أرخص من الغذاء الذي يحتاجه، ويعترف مصطنعو الأعذار للاتحاد السوفييتي بوصول عدد الوفيات في هذه المعسكرات إلى (12 مليون). هذا هو ما تدعوه (الموسوعة البريطانية) بمصطلح «استثمار الناس».
إن الثقافة التي تصدر منها مثل هذه العبارة وهي محاطة بمناعة فكرية وبهالة من الصواب الأخلاقي، لا يكون المذنب الأكبر فيها هو المؤيد للجماعية، وإنما من يعجز عن امتلاك الشجاعة اللازمة لتحدي الروحانيات والإيثارية، فيحاول تجاوز قضايا العقل والأخلاق، ويقرر الاستناد إلى أسس بعيدة عن العقل أو الأخلاق في الدفاع عن النظام العقلاني والأخلاقي الوحيد في تاريخ البشرية؛ ألا وهو: الرأسمالية.
آين راند
من كتاب (الرأسمالية.. المثل الأعلى المجهول)، الفصل الأول. (نيويورك 1966)