آدم سميث
في خضم سعي كل فرد بأقصى ما يمكنه لتوظيف رأسماله في دعم المجهود المحلي وتوجيهه نحو الإنتاجية الأعلى، لا بد أن يكدح كل فرد لجعل المردود السنوي للمجتمع بأعلى قيمة ممكنة. وفي الواقع، لا يبتغي هذا الفرد عموما في سعيه هذا أن يعزز المصلحة العامة، ولا يعلم كم يساهم في هذا التعزيز؛ فحينما يفضل دعم المجهود المحلي على الأجنبي فإنه لا يبتغي من وراء ذلك إلا حماية نفسه، وعندما يوجه المجهود وفق منهج معين للحصول على الإنتاج بأعلى قيمة فإنه لا يبتغي إلا ربحه الشخصي، وهو في سعيه هذا، كما في العديد من الحالات، يتحرك بفعل يد خفية لتعزيز غاية لم تكن جزءا من مبتغاه، وليس من السيئ دائما بحق المجتمع أن لا تكون تلك الغاية جزءا من مبتغاه؛ فمن خلال السعي إلى مصلحته الشخصية يقوم بتعزيز مصلحة المجتمع على نحو أكثر تأثيرا مما لو كان يبتغي ذلك حقا، وأنا شخصيا لم أجد أي خير نتج عن هؤلاء الذين سعوا إلى التجارة بهدف المصلحة العامة.
وإذا ما نظرنا بهذا المنظور المعقد إلى ما بالثروة والعظمة من مباهج، فستبدو في مخيلتنا كشيء جليل وجميل ونبيل يستحق كل ما نستعد لمعاناته من تعب وقلق في سبيل تحقيقه.
ومن الجيد أن الطبيعة وضعت فينا هذا الطبع، فهذا الإيهام هو الذي ينهض بالمجهود البشري ويبقيه مستمرا؛ وهو الذي يحث البشر على حراثة الأرض، وبناء المنازل، وإنشاء المدن والدول، واختراع وتطوير كافة العلوم والفنون التي ترفد حياتهم بالنبل والجمال؛ وهو الذي أدى إلى تغيير وجه الكرة الأرضية بشكل كامل، فحوّل الغابات البدائية في الطبيعة إلى حقول خصبة تسر الناظرين، وحوّل المحيط المبهم الأجرد إلى سلة جديدة لمقومات العيش، وحوّل درب التواصل الطويل إلى أمم الأرض المختلفة. لقد أصبحت الأرض بفضل هذه الأعمال التي قامت بها البشرية ملزمة بأن تضاعف خصوبتها الطبيعية والحفاظ على عدد أكبر من السكان. ولا فائدة في استعراض مالك الأرض المختال الفخور لأراضيه الشاسعة من دون أن يفكر باحتياجات إخوته، ففي مخيلته فحسب يمكنه أن يستهلك كل المحصول الذي تنتجه هذه الأراضي، وينطبق عليه تماما المثل العامي البسيط (العين أكبر من البطن)، فما تسعه بطنه لا يصل بأي حال من الأحوال إلى الحجم الهائل لرغباته، ولن تحتمل ملئها بأكثر مما تمتلئ به بطن فلاح عادي جدا.
أما ما يزيد عن حاجته فهو ملزم بتوزيعه على من يهيئ له، بأبهى صورة، ذلك القليل الذي استفاد منه، ويدخل في إطار ذلك من يعمل على أن يتلاءم القصر مع استهلاك هذا القليل، ومن يوفر الأدوات التي تستخدم في تدابير العظمة ويعمل على تنظيمها، وكل الذين يحصلون من ترفه ونزواته على حصصهم من ضروريات الحياة والتي ما كان لهم أبدا أن يحصلوا عليها بدافع الإنسانية أو العدل. إن ما تنتجه التربة يبقى في كل الأحوال متناسبا مع عدد السكان الذين تستطيع توفير مستلزماتهم؛ فالغني لا يختار من هذه الكومة إلا أثمن ما فيها وأكثره إرضاء له، وهو لا يستهلك أكثر من الفقير إلا قليلا؛ وعلى الرغم مما في طبعه من أنانية وجشع، وانحصار سعيه بتحقيق ما يريحه، وأن غايته الأولى التي يفترضها في أعمال الآلاف التي تعمل لديه هي إشباع رغباته التافهة التي لا تنقطع، فإنه يتقاسم مع الفقير كل ما تتمخض عنه التحسينات من إنتاج.
إن هؤلاء يقادون بيد خفية لتحقيق التوزيع نفسه تقريبا لضروريات الحياة الذي كان ليحصل لو كانت الأرض مقسمة إلى حصص متساوية بين كل سكانها، وبهذا فإنهم يعززون مصلحة المجتمع دون أن ينووا ذلك، ويوفرون الوسائل اللازمة لتكاثر بني البشر. وعندما قسمت العناية الإلهية الأرض بين ثلة من ملاك الأراضي فإنها لم تنس أو تترك هؤلاء الذين بدوا وكأنهم لم يحصلوا على حصة من هذا التقسيم؛ فهؤلاء أيضا يتمتعون بحصة من كل ما تنتجه هذه الأرض، وإذا أخذنا مكونات السعادة الحقيقية في الحياة البشرية بعين الاعتبار، فإن هؤلاء لا يختلفون بتاتا عمن يبدو مرتفعا عنهم كثيرا، وكل الطبقات المختلفة في الحياة تبدو على المستوى نفسه في سلامة الجسد وراحة البال، فمن يعيش على جانب إحدى الطرق دون سقف يؤويه إنما يمتلك الضمانة المعيشية نفسها التي يتقاتل عليها الملوك.
ولكن على الرغم من أن المرء يكون بذلك موظفا لتغيير توزيع الأمور التي تنتج عن الأحداث الطبيعية، وذلك إن ترك وشأنه؛ وعلى الرغم من أنه، كما هو حال آلهة الشعر الذين يستشهد بهم دائما، يستخدم وسائل غير معتادة للوقوف بجانب الفضيلة وضد الرذيلة، ويسعى، كما هؤلاء، إلى عكس اتجاه السهم الذي يتجه إلى قلب الصالح من الناس، وتسريع حركة سيف الدمار الذي يتجه إلى رقبة الفاسد؛ فإنه ليس بقادر أبدا على أن يدير عجلة حظ أي من هاذين بما يحقق التلاؤم التام مع نزعاته ورغباته الشخصية. إن المسار الطبيعي للأمور لا يمكن التحكم به بشكل تام عبر المساعي العاجزة للإنسان: فالتيار سريع وقوي إلى حد يستعصي على الإيقاف، وعلى الرغم من أن القواعد التي توجهه تبدو وكأنها أنشئت لأفضل الغايات وأكثرها حكمة فإنها تؤدي أحيانا إلى تأثيرات تهز كل نزعاته الطبيعية. إن قاعدة انتصار الكثرة على القلة، وفوز أصحاب المشاريع المستندة إلى التخطيط المسبق وما يلزم من التحضيرات على أصحاب المشاريع التي تفتقد هذه التدابير، واقتران كل غاية بالوسائل التي تفرض الطبيعة اقترانها بها حصرا، إنما هي قاعدة لا تبدو ضرورية في ذاتها فحسب، ولا نعجز عن الاستغناء عنها فحسب، وإنما هي قاعدة مفيدة ومناسبة لنهوض مجهود البشر وجاهزيته لتلبية حاجاتهم أيضا.