نوح الهرموزي*
من أكثر المظاهر التي أثارت انتباهي عند زيارتي الأخيرة إلى الجمهورية التونسية (مهد الحراك العربي و بعد سقوط نظام بن على) ليس فقط الارتفاع الرهيب لكلفة العيش وتضخم الأسعار التي تقدرها السلطات الرسمية ب6 في المائة في السنوات الأخيرة، ولكن التونسي المواطن البسيط يقدرها بخمسة أضعاف ذلك الرقم على الأقل. ليس تدهور الحالة العامة للدولة التونسية رغم الارتفاع المطرد لنفقات الحكومة التي بلغت في الموازنة الأخيرة ما يناهز 11,5 مليار دينار تونسي. ليس التزايد المستمر في نسب البطالة التي بلغت حسب الرسميين 10.8 في المائة التي تمس الشباب أساسا…و عددا من المؤشرات الاقتصادية و الاجتماعية التي لا يمكن إلا أن تلتقطها عين الملاحض والتي تؤشر على فشل الحكومة الحالية التونسية في تنزيل شعارات الثورة على أرض الواقع، مما ألقى بعدد من الشباب التونسيين في براثن اليأس و من ثم فخ الراديكالية والتطرف.
لكن منظرا آخر لا يقل دلالة و رمزية استوقفني أثناء زيارتي لشارع بورقيبة، شارع مليء بذكريات وقصص الثورة، يمتد وسط العاصمة التونسية حيث عدد من الإدارات و المراكز والمنشآت الإدرارية والأمنية، إنه منظر تمثال المؤرخ وعالم الاجتماع العربي ابن خلدون…محاطا بالأسياج و الأسلاك الجديدية الحادة ومراقبا من طرف كتيبة من الجيش التونسي الذي يمنعك من التصوير و من الاقتراب. عجبت لهذا الأمر و كيف أن السلطات التونسية (ومعها عدد من السلطات العربية) تمنع الأشخاص من الاقتراب من تمثال، بعدما جندت قواها و كتابها لشيطنة ولأبلسة و للتعتيم على أعمال أحد أبرز معالم الثقافة العربية العلامة ابن خلدون.
كان ابن خلدون من أكثر الملاحظين و المتتبعين دقة لصعود و أفول شمس الحضارات. راقب صيرورتها و درس و فكك بدقة استثنائية في كتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» فكك الآليات المسؤولة عن تَيَبُسِ جهاز الدول و تَصَلٌبِ الحضارات من خلال دراسة ومعاينة ومعايشة الممارسات السياسة والحكم وملاحظة طبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني خاصة في الأندلس و في شمال أفريقية ومنطقة الهلال الخصيب. و قد خَلُص مما خلص إليه بعد سنوات من مجاورة كبار مسؤولي الدول كمستشار وقاض و سفير دبلوماسي منغمس حتى النخاع في المكائد والدسائس اللصيقة بممارسة السلطة، فخلص إلى أن” اتساع الدولة (يفضي ) أولا إلى نهايته ثم تضايقه (أي الاتساع) طورا بعد طور إلى فناء الدولة و اضمحلالها”.
تذكرت حينها أن لهذا الرجل باع طويل في فض النزاعات التي كانت تنشب بصفة دورية بين الدول من أجل الاستحواذ على السلطة وتوسيع نفودها في القرن 14 الميلادي. أُرسل أكثر من مرة لحل نزاعات مستعصية من أهمها عندما استعان به أهل دمشق لطلب الأمان من الحاكم المغولي القاسي تيمور الملقب بتيمور الأعرج أو تيمورلنك. تمنيت صادقا عودة هذا العالم المتخصص في صعود و فساد الدول و اضمحلالها لدق نواقيس الخطر ببلوغ موازنات عدد من الدول في عصرنا الحالي الخطوط الحمراء و بتراكم مديونياتها في مستويات جنونية، الشيء الذي يُندر بأزمة اقتصادية شاملة Systemic crisis و مساهمته في فض النزاعات الخلافات الانتخابوية الشعبوية الطاحنة القائمة و المتكررة بين الديمقراطيين والجهوريين حول الميزانية الأمريكية الني تهدد إذا لم تُحل بانهيار المنظومة المالية العالمية وإفلاسات بالجملة على شاكلة الكساد العظيم في عام 1929.
إن أزمات الموازنات المتعاقبة في أمريكا مند بداية القرن الماضي وما نتج عنه من تراكم المديونية و ارتفاع الضعط الجبائي لتغطية العجز و سداد الديون أدى إلى تنامي سخط بالغ لدى شرائح متعددة من المجتمع الأمريكي و ظهور حركات مناوءة للسياسات الاقتصادية الكينزية للإدارات الأمريكية ألقت السياسات الضريبية و انفجار النفقات الحكومية و المديونية التي بلغت 17 ترليون دولار أي 73 في مائة من الناتج الإجمالي و لتغطية هذا الدين يتوجب على كل المواطنين الأمريكيين حتى الرضع منهم تأدية 54 ألف دولار أمريكي لتغطية ديون الدولة، مما جعل الولايات المتحدة البلاد الأكثر مديونية في العالم. فقد دفعت هذه الأزمة بعدد من المواطنين في ربيع عام 2009 لمولاة “حزب الشاي” وتنظيم عدد من المظاهرات للاحتجاج على الحكومة الفدرالية التي تمادت في رفع سقف الإنفاق من أجل تمويل عدد من البرامج الاجتماعية كبرنامج التأمين الصحي الجديد التي تروج له إدارة باراك أوباما Obama Care. كل ذلك علما أن البلد غير قادر بل يلجأ إلى إعادة الاقتراض لسداد فوائد ديونه وفوائد سندات الخزينة الأمريكية المملوكة من طرف المستثمرين الأجانب و خصوصا الصين التي اشترت قرابة ترليون دولار من سندات الخزينة.
يجدر بالذكر أن تسمية “حزب الشاي” تجد جذورها في تمرد المستوطنين الأميركيين سنة 1773 على زيادة الضريبة المفروضة على الشاي الذي فرضتها بريطانيا. و هي أيضا اختصار ل “Taxed Enough Already” مفروض علينا ضرائب بما فيه الكفاية”. وتتركز مطالب حزب الشاي في عدة مجالات أهمها إصلاح النظام الصحي أو “أوباما كير” مع العمل على خفض عجز الميزانية الفدرالية ومحاربة فساد النخب السياسية والاقتصادية التي تهيمن على العاصمة واشنطن مدركين أن الولايات المتحدة استدانت مبالغ لن تستطيع يوماً تسديدها، ويرون أن خفض التصنيف الائتماني للبلاد من قِبَل وكالة « ستاندرد أند بورز» للمرة الأولى من المرتبة AAA إلى AA+ التالية هي بمثابة عن تحذير من أن الآتي أعظم . كما و يعملون على الضغط من أجل خفض الضرائب ودعوة الإدارة الأمريكية إلى المزيد من الاستقلالية وعدم التدخل الخارجي في شؤون بقية الدول لما من ذلك من آثار اجتماعية و سياسية كارثية وكلفة اقتصادية مرهقة.
المأزق الذي وضع باراك أوباما نفسه فيه بعد رفع النفقات الحكومية وتوسيع الدعم و الإعانات لكبريات الشركات و الأبناك المفلسة رغم مسؤوليتها الواضحة عن أزمة 2007 المالية، مأزق جعل إدارته غير قادرة على تدبير ميزانية الدولة بشكل ناجع مما حدا به لطلب اعتمادات إضافية وقروض إضافية، جاءت لتفاقم العجز الكارثي لمديونية هائلة… لكن الإشكال الذي صادفه هو اعتراض الكونغرس الأمريكي الذي رفض التمادي في اللجوء للإنفاق، فرفض التصويت بالموافقة على سياسة أوباما.
وضع الآباء المؤسسون للدولة الأمريكية ضوابط و صمامات أمان صارمة للحفاظ على توازن السلط و الحد من شطط سلطة الرئاسة والبيت الأبيض حيث شرعوا سنة 1789 قانونا يُخضع موازنة الدولة لسلطة ممثلي الأمة المنتخبين، و لا يُنفق الرئيس الحكومة من المال إلا ما يصادق عليه الكونغرس من اعتمادات. وقد سجل التاريخ الأمريكي 17 أزمة إفلاس من هذا النوع أي ما يطلق عليه ب Shut Down أي “فجوات الإنفاق” ابتداء من الرئيس جيرالد فورد مرورا بتجيمي كارتر و رونالد ريغن ثم بوش الأب و بيل كلينتون وصولا إلى الرئيس باراك اوباما.
المتأمل لتطور موازنات الدول وانفجار مديونية دول كأمريكا و إسبانيا و إيطاليا واليونان وقبرص و ايرلندا ولجوئها لاستجداء البنك الدولي و صندوق النقد بعدما كانت حكرا على الدول النامية لا يملك إلا أن يستحضر روح بن خلدون ووصاياه بضرورة الحد من نفوذ الساسة والحد من لجوء جلهم عند ممارسة السياسة للتلاعب الشعبوي الانتهازي بأموال الدول و بمصائر العباد سواء في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
*باحث ومدير المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية
منبر الحرية، 18 نونبر/تشرين الثاني 2013
One comment
سلام الربضي
18 نوفمبر، 2013 at 4:19 ص
نشكر الدكتور نوح على كتابته لهذا المقال وأقل ما يمكن قوله عن هذا المقال: أنه يستحق القراءة