لا يوجد خلاف على أنه –رغم وجود قائمة كبيرة من التحديات التي تواجهها المنطقة- فإن انتشار الإرهاب بهذه الدرجة غير المسبوقة يشكل التحدي الأخطر، فمستقبل- ولا نبالغ أن قلنا بقاء- بعض دول المنطقة دون تفكك أصبح مرهونا إلى حد كبير بنجاحها في حربها الراهنة ضد الإرهاب، والتي تحولت لتصبح حرب بقاء لا يمكن التراجع عنها. فإما أن تبقى الدولة دون تفكك أو تتراجع في مواجهة التنظيمات المسلحة التي ستحل محلها وفي هذه الحالة ستعم الفوضى ليس فقط في تلك الدول ولكن في المنطقة بأسرها.
ورغم أن الإرهاب كتحدي ليس بجديد على المنطقة، إلا أنه في الآونة الأخيرة اكتسب أبعادا مختلفة، فمن حيث دائرة الانتشار اتسع نطاق العمليات الإرهابية بشكل غير مسبوق ليشمل أغلب دول الإقليم من العراق إلى سوريا فاليمن ثم ليبيا والصومال وغيرهم. كما أن أهدافه لم تعد محدودة كما كانت في بعض الفترات السابقة وإنما أصبح النيل من الدولة وتدميرها بالكامل لتتراجع الدولة في مواجهة التنظيمات المسلحة وتترك لها الساحة كما لم يصبح الغرب الهدف الأوحد على غرار تنظيم القاعدة. إضافة إلى شكله التنظيمي المغاير للأنماط التقليدية.
حتى على المستوى الاقتصادي تطورت التنظيمات الإرهابية بشكل كبير حيث أصبحت دولة داخل الدولة لها مواردها الاقتصادية، فدول المنطقة أصبحت تحارب كيانات قوية وليس مجرد مجموعة من الخلايا المرتبطة عنقوديا لديها قضية فكرية تحارب من أجلها دون أهداف أخرى. فوفقا لتقارير استخباراتية أمريكية تتخطي ثروة تنظيم داعش الملياري دولار ليصنف بذلك على رأس قائمة التنظيمات الإرهابية الأكثر ثراءً في العالم. فميزانية التنظيم بذلك أصبحت توازي ميزانيات بعض الدول الصغيرة أو ما يوازي نحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي لدولة مثل الصومال ويوازي أيضا ثلثي الناتج المحلى الإجمالي لدول أفريقية أخرى مثل ليبيريا وجمهورية أفريقيا الوسطي حيث يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للدولتين تباعا 2,9 بليون دولار و 3,3 بليون دولار. كما توازي ثروة داعش نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي لدولة إريتريا وتوازي أيضا نحو 35% من الناتج المحلي الإجمالي لدولة أفريقيا أخري وهي بوروندى. ثراء هذا التنظيم الإرهابي له مصادر متعددة أخطرها الاتجار في البشر والأعضاء البشرية.
ومن الناحية التعبوية نسمع عن المقاتلين والمقاتلات الأجانب في صفوف داعش ليس هذا فحسب بل استخدام الأطفال والتباهي بذلك والإعلان عن تخرج كتائب مقاتلة من الأطفال تترواح أعمارهم بين 12-13 سنة.
والأرقام الخاصة بمدى انتشار الإرهاب في دول المنطقة وأعداد ضحاياه أكثر من مفزعة وتوضح مدى تمركز الإرهاب في منطقة يشكل سكانها أقل من 5% من سكان العالم، فوفقا لمؤشر الإرهاب العالمي 2014 Global Terrorism Index والذي صدر في نوفمبر الماضي، فخلال عام 2013 شهدت الدول العربية 3837 حادثة إرهابية (39,1% من إجمالي عدد الحوادث الإرهابية التي شهدها العالم)، أزهقت تلك الحوادث 8728 روح (48,6% من إجمالي عدد ضحايا العمليات الإرهابية في العالم) كما ترتب على تلك الحوادث الإرهابية 19,525 مصاب. حيث تصدرت العراق المشهد بواقع 2492 حادثة بنسبة 65% من عدد الحوادث التي شهدتها مجمل الدول العربية. تلتها من حيث عدد الحوادث اليمن بواقع 295 حادثة (7,7% من إجمالي الحوادث في العالم العربي)، ثم ليبيا بواقع (226 حادثة) ثم سوريا بواقع 217 حادثة. كما كانت هناك ست دول عربية لم تشهد حوادث إرهابية خلال العام هي: المغرب، وموريتانيا، والكويت وجيبوتى، وعمان، وقطر. وفيما يخص عدد ضحايا تلك الحوادث فقد جاءت أيضا العراق في الترتيب الأول بعدد ضحايا بلغ 6362 أو 72,9% من إجمالي عدد الضحايا في كافة الدول العربية خلال العام وما نسبته 35,4% من إجمالي عدد الضحايا على مستوى العالم أي أن ثلث ضحايا الإرهاب في العالم في العام الأخير جاءوا من العراق وحده. تلاها في الترتيب سوريا والتي قتل فيها خلال العام 1078 نتيجة للحوادث الإرهابية أو 12,4% من إجمالي ضحايا الحوادث الإرهابية التي شهدتها الدول العربية، ثم الصومال بواقع 405 ضحية (4,6% من إجمالي الدول العربية)، ثم اليمن بواقع 291قتيل نتيجة للإرهاب في البلاد.
والأمر المؤكد أن الأرقام آخذة في التزايد، فالمنطقة تحولت لتصبح مركزا للإرهاب العالمي الذي أصبح بديلا للحروب التقليدية. ليس هذا فحسب بل أن التنظيمات المسلحة –دينية كانت أو قبلية – أصبحت فاعلا رئيسيا في المنطقة في الوقت الراهن. حيث حاولت تلك الجماعات استغلال حالة الفراغ الأمني والسياسي والناتج عن التحولات العميقة التي مرت بها بعض دول المنطقة كوسيلة لتحقيق أهدافها في السيطرة في مواجهة الدولة. ورغم أن هذه الحركات زاد دورها كنتيجة لتراجع دور الدولة في إطار التحولات التي مرت بها المنطقة حتى السنوات الماضية إلا أن وجودها وسيطرتها على هذا النحو يُشكل تصدع كامل للدولة بمؤسساتها وكذلك تدمير البنيان المجتمعي.
هذا الأمر أدخل المنطقة في حالة من الفوضى غير المسبوقة، فمصطلح الفوضى الخلاقة/ البناءة الذي استخدمته الولايات المتحدة الأمريكية للتعبير عن وضع المنطقة بعد ثورات الربيع العربي كان خلاقا بالفعل لكن في خلق أوضاع جديدة على المنطقة، وهي تحديات متوازية ففي الوقت الذي يتشكل تحالف دولي لمحاربة داعش كتنظيم وحشي في كل من العراق وسوريا جاءت سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية ليضفى بعدا جديدا للصراع بين الدولة والتنظيمات المسلحة في المنطقة.
ويُشكل التحدي الأخطر الزى يواجه دول المنطقة هو كيفية “إدارة هذه الفوضى” وتمكين دول المنطقة من استعادة السيطرة بشكل يحول دون تفتيت المنطقة وتغيير خريطتها.
إدارة هذه الفوضى والخروج من حالة الدولة الهشة التي تعانيها المنطقة يتطلب إعادة بناء الدولة بشكل يمكنها من استعادة السيطرة وإدارة شئونها الداخلية والخارجية. فالدولة الوطنية ما زالت هي الفاعل الرئيسي في العلاقات الدولية، والواقع الذي نعيشه يؤكد أنه دون عودة الدولة للقيام بأدوارها الأساسية في المجتمع لن تكون هناك قدرة على الخروج من حالة الفوضى. كما أنه لا يمكن لدولة بمفردها في المنطقة تبنى إستراتيجية لمواجهة الإرهاب بمعزل عن دول الإقليم الأخرى فهناك دول عدة في المنطقة أصبحت مصدرة للإرهاب وما لم يتم التعامل بصورة سريعة مع الأمر ستكون العواقب وخيمة. كما أن المجتمع الدولي عليه أن يتأكد أن الإرهاب ليس بعيدا عنه بأي حال من الأحوال وإعدام داعش للرهينتين اليابانيين وأحداث فرنسا وما حدث قبل ذلك بقليل في مدينة سيدني الاسترالية مثال على ذلك، وما لم تتكاتف مع دول المنطقة في هذه اللحظة الفارقة –بدلا من اتخاذ موقف المتفرج- لن يكون هناك مكان في العالم بمنأى عن خطر الإرهاب. فالتركيز على الآليات والسياسات التقليدية في محاربة الإرهاب عبر إعلان حروب عسكرية ضد الإرهاب الدولي لم يسهم في تجفيف منابع الإرهاب وإنما أسهم في تزايد وحشية وشراسة الإرهاب والأكثر من ذلك خلق حالة من الكراهية تجاه الغرب وهو أمر سيكون له تداعياته الخطيرة. فالمؤكد بعد عقد ونصف وجود إخفاق واضح في محاربة الإرهاب. كما أن الدول الداعمة بشكل مباشر للإرهاب في المنطقة عليها أن تقرأ التاريخ قراءة واعية ففي يوم ما سينقلب السحر على الساحر.
* باحثة في العلاقات الدولية من مصر.
منبر الحرية، 17 مارس/آذار 2015