“صدى المجتمع المدني السوري أكثر من فعله”، هذا ملخّص ما وصلتُ إليه في نقاشي الطويل مع أحد الشخصيّات المحسوبة على المجتمع المدني السوريّ الذي ما أنفك يعيش أزمة عميقة كما الثورة السورية، ولعل السبب في ذلك لا يعود إلى انزلاق الثورة من مسارها فحسب، إنّما بسبب عجز الفاعلين في حقل المجتمع المدني عن القيام بدورهم على الشكل المطلوب والمراد أيضاً.
بعيداً عن اللَبس الذي رافق نشأة المجتمع المدني، في العالم العربي عموماً، وسوريا بشكل خاص،على المستويين الاصطلاحي و الإجرائي؛ في ما يتعلق بنشأة المؤسسات والنقابات التي كان من المفترض أن تأخذ حيّزاً وسطاً، وعدم بلورة مفهوم واضح للمجتمع المدني، حيث رآه البعض كمتمم لتمكين قبضة السلطة، وهناك من جزم بأنّ المؤسسات الرادفة أو الملحقة بالسلطة لا تُعبر عن المجتمع المدني بأي حال من الأحوال، وبالرغم من اشتغال قلّة قليلة عليه–كما الراحل أنطون المقدسي واعتباره المجتمع المدني عقداً اجتماعياً- إلا أنه –مفهوم المجتمع المدني- لم يأخذ حقه من النقاش والتداول سواء وسط مؤسسات الدولة والمجتمع أو على المستوى الثقافي قياساً بالمصطلحات الأخرى كالعولمة والرأسماليّة والامبرياليّة وغيرها.
يمكن حصر سبب عجز المجتمع المدني السوري عن القيام بدوره في ظل الثورة إلى عاملين اثنين،أولهما: شموليّة النظام وتحكّمه بكل مفاصل الدولة والمجتمع، واحتكاره لكل شيء بتنصيب نفسه حزباً قائداً على الدولة والمجتمع ، نظامٌ وضع يده على كل مصادر المجتمع المدني من نقابات وتنظيمات كان يفترض بها أن تقوم بمهام المجتمع المدني واعتبرها منظمات”رديفة” لحزب”البعث ” الحاكم في سوريا، وفي ذلك يرى الدكتور رضوان زيادة في كتابه (المثقف ضد السلطة ) أنه “ربما تأسس في وعي المثقفين السياسيين السوريين تشخيص لحالة الإحباط السياسي والاجتماعي التي يعيــشها المجتمع السوري، يتلخص في أن الســياسة السورية كانت متركزة في أيدي متنفــذين يقودون حزب البعث الحاكم، وكــان هــناك غياب شعبي ومجتمعي عن المشــاركة في الشؤون السياسية، تجلّى ذلــك في انطفاء الفاعــلية الاجتماعية على مدى عقود، لذلك رأوا أن تفضيل قيام المجتمع بدوره عن طريق فسح المجال الضروري له كي يمارس ويؤدي دوره ووظائفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية سيكون بديلاً عما وصل إليه المجتمع السوري من عزلة عن التاريخ والعالم وحتى عن نفسه”.
ويرى زيادة في المجتمع المدني”البديل الوحيد الذي يخرج البلاد من المأزق السياسي والتخلف الاجتماعي الذي يعيشه الشعب السوري،وأنّ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان لن يتحققا إلا في دولة المؤسسات والقانون التي يضمنها المجتمع المدني القائم على فتح المجال أمام الحراك السياسي والاجتماعي لمختلف الشرائح الشعبية”.
يعود العامل الثاني إلى عدم إعارة الأكاديميين والباحثين والمهتمين بالشأن العام السوري الاهتمامَ بالمفهوم نفسه، على النقيض من مفكّري أوروبا – توماس هوبز(1588-1679) والعقد الاجتماعي نموذجاً- راعى غالبيّة المثقفين السوريين مزاج النظام واستهلكوا جُلّ وقتهم في البحث في “العولمة” وكيف أنها جزء من المؤامرة العالميّة وأُنشئت “فقط لضرب الأمة الخالدة” واعتبارها هجمة عدوانيّة من قبل”الدول الرأسماليّة الغربيّة ” ستعصف بكل ما له صلة بالهويّة المجتمعيّة والسياسيّة لصالح” الامبرياليّة” متناسين دور هذا المصطلح الذي يملك حلول سحريّة لكثير من مشاكل الأنظمة والمجتمع معاً.
والحق لم يخرج النقاش حول المجتمع المدني من دائرة ضيّقة، لا تتجاوز أصابع اليدين، من الفاعلين في المجتمع المدني السوريّ خرجت ببيانات و”ورشات” ومنتديات للمثقفين، ليصل هذا النقاش ذروته إبان فترة “ربيع دمشق” من تاريخ سوريا السياسي، حيث تبنى مثقفوها – ربيع دمشق- في خطابهم مفهوم المجتمع المدني باعتباره يهتم بالشعب ويؤهله للدفاع عن حقوقه ويصون السلطة كي لا تنزلق نحو الديكتاتورية والشمولية، وبادروا بعد استلام بشار الأسد الحكم، بالتعامل السلس مع المجريّات ونبّهوا السلطة بضرورة التغيّير، وما الرسالة الموجهة من معلم المثقفين المرحوم انطون مقدسي لرئيس النظام السوري بشـار الأســد بضرورة التغيير إلا دليل على ذلك، فضلاً عن نداءات الإصلاح من خلال بيانات المثقفــين – بيان 99 وبيان الألف-، كما لم يكن تحذير عبد الحليم خدام – نائب رئيس الجمهورية آنذاك- في لقائه مع رياض سيف بتجاوز الخطوط الحمراء إلاّ دلالة على بداية تصاعد الخط البياني لخطاب المجتمع المدني في سوريا.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى دور المنتديات إبان “ربيع دمشق” في كل مدن سوريا بدءاً من منتدى “القامشلي”(شرق البلاد، وحاضنة الكُرد السياسيّة) مرورا بمنتدى الكواكبي في حلب وعــدد من المنتــديات في دمشق(غرب البلاد) مثل منتدى الأتاسي واللقاء الديمقراطي في منزل رياض سيف التي تبنّت فكرة التغيير التدريجي، لأنّ وضع البلد الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي لا يتحمل غير هذا الخيار، في وقتٍ كان فيه مثقف السلطة قد دخل سبات الخمول والحيرة.
يرى زيادة ” أن كل المثقفين وعلى مختلف مشاربهم قد تخطوا تاريخهم العقائدي اليساري والقومي والإسلامي وبدأوا يتوجهون لعقد اجتماعي جديد قائم على الشرعية الدستورية – بعد أن كان قائما على الشرعية الثورية-من خلال بناء المنتديات، والأطر الحقوقية، وتفاهمات إعلان دمشق”.
متى يكون المجتمع المدني تابعاً لتيارات سياسيّة؟
انزلق فاعلو المجتمع المدني في زمن الثورة إلى متاهة المعارضة السياسية، كما لو أنهم لا يملكون تجربة “ربيع دمشق”، ولم يختلف وضع المجتمع المدني عند المعارضة عن وضعه عند النظام، فإذا كان النظام قد صادر المشهد وأسس لنفسه حرّاسه من المثقفيين ومن المنظمات الخاصة به، فإن المعارضة سارت على نفس الشاكلة أيضاً، حيث لديها مثقّفيها ومنظمات تدّعي بأنها تعود للمجتمع المدني لمجرد أنها تقوم بوظيفته، وليس من المستغرب القول أنّ الوضع بات أكثر تعقيداً في زمن المعارضة، حيث لكل لون أو مشرب من المعارضة منظماته الخاصة به، فالمعارضة الداخلية لها منظماتها وصحفها ومؤسساتها ومراكز دراساتها وتمويلها، وكذلك الأمر لدى المعارضة الخارجيّة – وإن كانت دائرتها أوسع من حيث التمويل ومجال العمل والترويج وتسويق الفكرة- ، بيد أن ما يخيف هنا أكثر أنّ لمنظمات ومؤسسات كلتا المعارضتين خطابٌ مختلف مع أنّ خطاب “المجتمع المدني” لا يتجزأ ويتمحور حول الصالح العام.
ضياع البوصلة؟
ما أن انتشرت الثورة في كل المناطق السورية،حتى اتجهت شخصيات كثيرة إلى تقديم مشاريعها للجهات والمنظمات الدوليّة يغلب عليها في أحيانٍ كثيرة الطابع السياسي، واستهلكت الكثير من الوقت لإعلان مؤسسات تحمل طابع المجتمع المدني في سبيل الحصول على تمويل مالي، ونست دورها الحقيقي في العمل لأجل الصالح العام، وسرعان ما انتشرت الأموال على طول المعارضة وعرضها- وإذا كان هناك من يتهم المجتمع السوري بأن سلاح الثوار راح لحضن داعش، فإن ثمّة من يقول أنّ مال منظمات وفعاليّات المجتمع المدني قد ذهب ويذهب إلى التيّارات السياسيّة- وكانت النتيجة أعداد ليست بقليلة من إطارات – تُدرِج نفسها في خانة منظمات المجتمع المدني- يسيّرها أشخاص يعيشون في غالبيتهم العظمى بعيداً عن الأرض السورية، ذوي شغف عال بتفريخ بيروقراطيين لا يجيدون إلا الهروب للأمام و الالتفاف على الفشل في نقاش وكيفيّة تنفيذ خطط مشاريعهم بمشاريع جديدة تشبه سابقاتها في ابتعادها كل البعد عن ملامسة الواقع السوري و المضي بقيّم المجتمع المدني نحو التطبيق العملي، ناهيك عن وقوفها عائقاً أمام تحرك قوى ناشطة على الأرض تستطيع الخروج من عنق الزجاجة التي وضع أصحاب هذه الإطارات أنفسهم فيها و ذلك بسبب تحكم الأخيرة بأغلب الطرق التي تؤدي إلى المنظمات الدولية ومصادر تمويل هكذا مشاريع.بمعنى آخر أن من يدعي المجتمع المدني ويحكي باسمه وهو جالس في أوربا كان على المنظمات الدولية إداراك أن فعل المجتمع المدني لا يتم عبر المراسلات إنما مطلوب هو من يعيش الواقع ويتواصل مع الناس والجهات لتحقيق الصالح العام.
خلاصة القول، تكمن في توالد المنظمات والهيئات في الفضاء المدني بالانشطار- كالفطر-دون جدوى و نتاج حقيقي، حتى اجتماعاتها تكاد تخلو في أحيان كثيرة من قيم المجتمع المدني وروحه، لتقتصر على سجالات ذات انحياز سياسيّ واضح، يبقى أن لا نبخل المنظمات الإغاثية حقّها، فهي تقوم نوعاً ما بوظيفتها رغم عدم خلوّ تجربتها من شوائب، والتقارير اليومية لصحف المعارضة– تتهم الكثير منها بالفساد وتوظيف المال في غير محلّه- شاهدة على ذلك.
* كاتب من سوريا.
منبر الحرية، 24 مارس/آذار 2015