من خلال جولات كوفي أنان (الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة والمبعوث الأممي والعربي) إلى سوريا وعدد من البلدان العربيّة والإقليميّة، ولقائه بالمعارضة السورية ( في الداخل والخارج ) ، وكلمته أمام المجتمع الدولي يظهر أنّ ثمّة تسويّة سياسيّة تتحضر لسوريّة من قبل المنظمة الدوليّة والجامعة العربيّة، وبغطاء روسي أمريكيّ وذلك تبعاً لضرورة مصلحية، روسيا لها مصلحة قويّة في إجراء التسويّة التي ستحافظ على نفوذها في سوريّا. أما الأمريكان فهم الآن منشغلون بوضعهم الداخلي ولا سيما الانتخابات الرئاسيّة، ما يتعذّر عليهم القبول بالتدخل العسكري ضد سوريا. لذلك نراهم يميلون أكثر إلى الحلول السياسيّة، ولا سيما التسويّة.
في الحقيقة أنّ فكرة التسويّة ليست جديدة على السوريين، عمرها من عمر الثورة السوريّة، لكن طرفان السلطة والمعارضة تجنبتا طرح ذلك، ولعل لكل طرف أسبابه:
المعارضة تجنبّت طرح التسويّة بسبب:
1- غياب الثقة بالنظام، كما أنّها مقتنعة تماماً بأنّ النظام لن يقبل بأية تسويّة، لأن النظام لم يتجاوب مع الشروط التي وضعتها المعارضة في بدايّة الانتفاضة للبدء في الحوار معه، ولعل الشروط تلخصت بإعادة الجيش إلى مواقعه الأساسيّة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ووقف القمع، وكف التدخل الأمني في شؤون الناس وأحوالهم، وذلك لبناء بيئة لنجاح الحوار الوطني.
2- ثمّة مناخ سائد ( نجاح بعض الثورات العربيّة ) دفع بالمعارضة إلى الاقتناع بإمكانية نجاح الثورة السوريّة مادامت نجحت في عدد من البلدان العربيّة الشبيهة بالنظام السوري سلوكياً ونمطياً، وبالتالي ما الذي يمنع نجاحها في سوريا.
3- وجود رغبة جديّة من قبل الشارع السوريّ في الخلاص من النظام المتهتك بالفساد عمودياً وشاقولياً وإنهاء حالة الاستبداد.
أما النظام فرفض القبول بالتسويّة لأنه يعتقد بأنّه قادر على القضاء على الثوار والمنتفضين بجرعات أمنيّة وعسكريّة وعبر وعود السوريين ببعض الإصلاحات.
مع أنّ ثمّة حقائق، وهي بمثابة تحدًّ لكلٍّ من النظام والمعارضة، والوسطاء، ما يجعل الأمر مستحيلاً لدفع المسار نحو الحلّ السياسيّ: الحقيقة الأولى هي أنّه من المفترض أن يعرف النظام أنّ عددا من الأنظمة تباهت بالعظمة، وبمشروعيّة البقاء لكن سرعان ما سقطت. الحقيقة الثانيّة: أنّ المعارضة ومنذ ربيع دمشق تؤمن بالانتقال التدرجي نحو التغيير، وكان بالإمكان التأسيس على هذه القناعة…! والحقيقة الثالثة أن الوسطاء السياسيين لم يلعبوا دوراً إيجابيا كما يجب، ولعلّ السبب معروف وهو من كان يطرح التسويّة كان يريد من ورائها التوظيف السياسيّ لأكثر من جهة، وغياب آليات عمليّة في تنفيذ ورقة الوسطاء من جهة أخرى.
هذه التصورات من قبل ساهمت في استبعاد نجاح أية تسويّة في سوريا. هذا في الوقت الذي تمنى فيه البعض طرح رؤيّة سياسيّة من قبل طرف آخر دولي أو إقليمي أو عربي، وذلك لتفعيل العمليّة السياسيّة والديمقراطيّة على حساب العمليّة الأمنيّة. ولا نستغرب أنّ الكثيرين راهنوا على نجاح أيّة تسويّة ما لأنّه من الغرابة بمكان ألّا يقبل النظام التسويّة التي ستحفظ له ماء الوجه لدى مناصريه، كما أنّه لن يخسر كل شيء مثلما حدث مع بعض الدول العربيّة التي تغير فيها النظام والمجتمع.
في الحقيقة إنّ الشعب السوريّ دفع فواتير كثيرة في حياته، ولا يستحق إجباره على دفع المزيد، فكلما قلَت الخسائر كلما كانت لصالح الشعب السوري، حتى وإن كان النظام سيبقى رابحاً في أية تسويّة.
ولا نستغرب أنّ أيّة تسويّة تخدم النظام قبل المعارضة حتى وإن كان يتظاهر بأنّه الطرف الذي يملك الأحقيّة، وهو يتنازل عن شيء للآخر لأن المصلحة السوريّة تقتضي ذلك، فالنظام يحقق هدفين من وراء التسويّة السياسيّة، الأول: أنه ينقذ نفسه. والثاني: لكي يقول لناسه ها قد تنازلت لأجل المصلحة الوطنيّة.
وهذا ما يتعارض مع هدف المعارضة والتي تبدو غير مشجعة على قبول التسويّة لأنها تعرف مدى جدية النظام، بل ولأنها تعرف أنّ النظام وبقبوله لهذه التسويّة السياسيّة يعزز مكانة النظام لدى الشارع. وعلى ضوء ذلك فالمعارضة غير مكترثة كثيراً بالتسويّة وهي ليست مجبرة أن تعطي النظام صك البقاء لفترة أخرى. ملحوظة: هناك من يخدع النظام بأنّ الحصار الدولي ليس دائماً يساهم في إسقاط الأنظمة، فقد تجاوز الحصار على صدام حسين أكثر من عشرة سنوات ولم يسقطه. و لكن ما لا يدركه هؤلاء أنّ الحصار المفروض على النظام السوري يختلف عن الحصار الذي كان مفروضاً على صدام، إذ أن هذا الحصار يحمل أكثر من وجه ويمتد لأخذ جوانب متعددة من ضغوطات، فهو لم يقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب إنما الجانب الدبلوماسي و اللوجستي، فضلا عن اختلاف وضعيّة الجامعة العربيّة في زمن صدام حسين مع النظام السوريّ.
والحال أن هناك تصور لدى السوريين بأنّ التسويّة لن تحدث أي تغيير في النظام الحالي إنّما سيقتصر الأمر على توزيع الأدوار ومشاركة بعض الأطراف في الحكم، على أن تبقى ثقافة النظام قائمة، وهذا لن يخدم كثيراً الشعب السوري ومكوناته الإثنية والمجتمعية. فالتسويّة المطروحة من قبل الجامعة العربيّة وروسيا وورقة تركيا في التفاهم مع إيران (على أن يشارك الإخوان المسلمين في السلطة، ووقف الانتفاضة… ) لا تتضمن تغيير النظام وبنيته الدستوريّة. ما يتراءى لنا أنّ التسوية الحالية لن تحقق هدف الثورة إنّما قد تساهم في تغيير سلوكيّة النظام الحالي. وإذا كان قبول التسويّة يشرّع الحوار السياسي فهذا يعني أن ورقة الحوار ستقتصر على مسألة الحريات، وربما يطال إلى إجراء بعض التغييرات في بعض المؤسسات، الأمر الذي يثير المخاوف لدى بعض المكونات المجتمعيّة والسياسيّة ولاسيّما المكون الكردي، لأنّ التسوية لا تتضمن فكرة بناء عقد اجتماعي وسياسي جديد بين مكونات التي ما انفكت وتتمسك بالحوار الوطني الذي تفرزه الوقائع التي فرضتها الثورة، على أن يكون هذا الحوار من صنع داخلي وطني، ويعبّر عن إرادة الجميع ويهدف إلى بناء عقد اجتماعي وسياسي جديد والذي يمكن الرّهان عليه كونه فقط يفتح الآفاق نحو بناء دولة ديمقراطيّة وتعددية. والسؤال الذي يطرح هو: إلى أي مدى ستحقق التسويّة الحاليّة بين المصالح والمكونات السياسيّة في سوريا، هل هي ( أي التسويّة ) كفيلة لحلّ أزمتنا الوطنيّة، وتوقيف نزيف الدم ؟!!
*كاتب سوري
منبر الحرية،28 مارس/اذار2012