تحليل مفصل للمشورة الاقتصادية: الجزء الأول

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

كما هو الحال، وبشكل افتراضي لدى جميع فروع المعرفة الإنسانية، يتم تقييم المعرفة والفهم الاقتصادي ليس فقط بشكل عرضي (أو حتى وإن كان ذلك بشكل مبدأي)، بل من حيث منفعتهما وفائدتهما من ناحية الشروط العملية والتطبيقية. والمبالغ الضخمة التي يتم إنفاقها كل سنة على البحث والتعليم الاقتصاديين سوف لن يكتب لها أن تشاهد النور، بكل تأكيد، لو لم يكن من المتوقع للبحث والتعليم الاقتصاديين أن يساعدا على ترويج ونشر السياسات الحكيمة التي تؤدي إلى الازدهار والرفاه الاقتصادي.
وبالفعل، ليس من الممكن أن يكون هناك أي شك حول قيام أولئك الذين يناصرون ويدافعون عن سياسات السوق الحر (في كتابات يتم نشرها في مطبوعات فريمان أو في أي مكان آخر) حيث يقومون هم بذلك الدفاع وهم على قناعة ثابتة بان مثل تلك المناصرة سوف تنبت وتنمو بشكل طبيعي من الفهم والإدراك الاقتصاديين. إنني، بكل تأكيد، أشاطرهم هذه القناعة، ومع ذلك فان الطريق الذي يتجه من فهم اقتصادي فعال وصحيح إلى مشورة سياسة اقتصادية معقولة سوف لن يكون طريقا صريحا واضح المعالم. وللمباشرة من العرض باستخدام التعبير بـ”يكون” إلى العرض باستخدام التعبير “يجب أن” سوف يكون، وفق جميع سياقات الكلام، محفوفا بالمخاطر الفلسفية التشهيرية. مثل هذه الأخطار سوف تتضاعف، ضمن سياق علم الاقتصاد، بشكل تصاعدي وذلك بفعل تلك الأذهان الماكرة التي تعمل على تعقيد مصادر الفهم الاقتصادي نفسه.
إن محاولتنا الخاصة بتوضيح الأساس الكامن في مجال العلوم الاقتصادية، بالنسبة لمشورة اقتصادية مشروعة ونافعة، سوف تتواصل وفق النحو التالي. في هذه المقالة الحالية سنقوم بتطوير وتوسيع التناقض الظاهري الذي يدخل في عرض أية مشورة “علمية” (أي المشورة المدعومة من قبل العلم أو حتى تلك المشورة التي قد تكون مستتبعة بالعلم) في المجال الاقتصادي. وفي المقالة الثانية سنقوم بفحص واختبار القواعد الفلسفية للعلوم الاقتصادية نفسها (مع بذل اهتمام خاص نحو إمكانياتها بالنسبة لصناعة السياسات الاقتصادية). وفي المقالة الختامية سنحاول أن نصيغ معا بصائرنا النافذة العديدة وأن نشكل استنتاجاتنا فيما يخص المشروعية العلمية لأية مشورة اقتصادية.
الاقتصاد السياسي هل هو “علـوم” أو “آداب”: تلك هي معضلة القرن التاسع عشر
ينظر الآباء المؤسسون لعلم الاقتصاد، بما فيهم العالم الأكثر شهرة آدم سميث، بشكل عام، إلى حقلهم هذا في مجال المعرفة وكأنه يشكل ما يطلق عليه اسم “آداب”، أي انه تعزيز “للثروة” الوطنية، لكونه مجموعة من النصوص المطبوعة لمشورة تدور حول كيفية إنجاز غرض محدد جيدا. وبالرغم من أن العنوان الكلاسيكي القديم الذي حمله آدم سميث هو التحقيق في طبيعة وأسباب ثروة الأمم (موحيا بذلك إلى أنه عبارة عن تحقيق علمي نزيه ليس له شأن في ترويج الثروة الوطنية المتزايدة ولا بمنعها)، فانه عادة ما كان يتم النظر إلى سميث نفسه على كونه معبرا عن موضوعه وكأنه أدب (مبينا ومعلنا عن طرق خاصة بزيادة الثروة الوطنية). لكن علماء الاقتصاد من ذوي التفكير العميق في تلك الفترة كانت لديهم هواجس وشكوك جدية حول مثل هذا النهج.
وبعض علماء الاقتصاد الكلاسيكيين الذي اتبعوا منحى سميث قاموا، بالفعل، بالتصارع مع العلاقة التي تربط بين علم الاقتصاد السياسي وأدب الاقتصاد السياسي. ومن بين مثل هؤلاء العلماء الاقتصاديين هناك ريتشارد واتلي الذي لم يكن فقط عالم اقتصاد ذائع الصيت بل أيضا رئيس أساقفة انجليكاني. وقد شعر واتلي بأنه بحاجة إلى الدفاع عن نفسه فيما يتعلق باهتمامه بعلم الثروة (وهو اهتمام تبين بان نقاده قد اعتبروه غير لائق برجل دين). وأشار واتلي (في محاضرة تمت في العام 1831 في أكسفورد) إلى أن من الممكن نشر وإدخال استنتاجات الاقتصاد السياسي في سياسات يتم تصميمها بغرض خفض الثروة (إذا تم النظر إلى الثروة وكأنها مشتبه بها أخلاقيا)، تماما كما يكون بالمستطاع أن يتم استخدامها في صياغة سياسات خاصة تهدف إلى زيــادة الثروة!
وفي أوائل القرن التاسع عشر، قام ناساو سينيور، أحد علماء الاقتصاد السياسي البارزين في تلك الفترة، وفي إحدى مراحل مسار حياته المهنية الأكاديمية، بالإنكار الصريح لوجود نفس الإمكانية في علم الاقتصاد والتي يمكن أن تكون متاحة لمثل ذلك الفن. ومع أن سينيور قام، في وقت لاحق، بالتراجع عن هذا الموقف الصريح إلا انه لم يتوافق ولم يتراض أبدا وبشكل تام مع فكرة أن يكون الاقتصاد السياسي أدبا. وفي خطابه الرئاسي في العام 1860 الذي وجهه إلى قسم العلوم الاقتصادية والإحصائيات (التابع للجمعية البريطانية)، بعد ربع قرن تقريبا من إنكاره لتوفر إمكانية أن يكون الاقتصاد السياسي أدبا، أصر سينيور على انه يتوجب على عالم الاقتصاد السياسي أن يركز اهتمامه فقط على إنتاج أو توزيع الثروة، بغض النظر عما إذا كانت “الثروة خيرا أم شرا”. كما انه كان يعتقد، بشكل واضح، بأنه ليس لعالم الاقتصاد، بصفته عالم اقتصاد، أي شأن في تقديم أية مشورة. “…عندما يقدم مبدأ وعندما ينصح قارئه بان يقوم بعمل ما أو ليمتنع عن القيام بعمل ما، فانه بذلك يحيد عن العلم إلى الأدب…”
ولما كان القرن التاسع عشر في سبيل الانقضاء، تم إبداء التجاهل نحو مخاوف سينيور، وقام علماء الاقتصاد، وخصوصا على مستوى القارة الأوروبية، ببذل قليل من الانتباه نحو التحذيرات والنصائح التي أبداها سينيور. فالمدرسة التاريخية الألمانية (التي هيمنت على علوم اقتصاد القارة الأوربية طيلة العقود الأخيرة من ذلك القرن) لم تقم بأية محاولة من أي نوع تستهدف فصل علومها الاقتصادية الأساسية عن المناصرة لمصلحة برامج اجتماعية معينة. وبالنسبة لها، فقد كان من الالتزام أن تتم هذه المناصرة التي تمنح علم الاقتصاد أهميته بصفته فرع من فروع المعرفة. ويروي جوزيف شومبيتر شهادة قدمها أحد طلبة صف دراسي كان يتم تدريسه من قبل قطب بارز من أقطاب المدرسة لدرجة أن حالة المزاج التي كانت تسود غرفة الصف كانت شبيهة بوضعية سباق انتخابي.
ولقد كان عالم الاجتماع الكبير ماكس ويبر هو الذي اعترف بالخطر الذي يحدق بسمعة علم الاقتصاد على أساس كونه علما موضوعيا متجردا جرى إرباكه بفعل مثل هذا الموقف المنغمس في السياسة. وأكد بالدليل بان الصفة العلمية لأي علم اجتماعي تشترط أن يكون محايدا بمنتهى الدقة وكأنه حيادٌ يتم بين أحكام وآراء يتم بها تحديد قيم (أو تحديد أسعار) متباينة، وهو الأمر الذي جعله يسير بشكل معاكس لوجهة النظر المهيمنة على العلوم الاقتصادية الألمانية. وفي حلقة نقاش بين علماء اجتماع باللغة الألمانية تم عقده في العام 1907، كان الموقف الذي اتخذه ويبر هو الموضوع الذي دار حول الاختلاف وعدم الاتفاق المريرين. ويصر ويبر على أن العلماء الذين لا يتفقون بشكل واضح تماما على أولويات أخلاقية، يجب عليهم، بالرغم من ذلك، أن يكونوا قادرين، على اقل تقدير من ناحية المبدأ، على أن يتفقوا حول الافتراضات والفرضيات الإيجابية المتواجدة في تخصصاتهم في حقل المعرفة. وفي وقت قريب جدا، سوف نعود إلى مزيد من التعليق على مبدأ ويبر، فيرتفرايهايت (أي حرية القيمة أو التحرر من وضع أحكام للقيمة).
القرن العشرون: علم اقتصاد الرفاه
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، لم يعد واضعو النظريات الاقتصادية من ذوي الاتجاه السائد حينئذ ينظرون إلى حقلهم هذا في المعرفة على انه متعلق بالثروة المادية. فهم، بدلا من ذلك، قاموا بتركيز اهتمامهم على الحس الذاتي وغير الموضوعي بالرفاه حيث تأمل المخلوقات البشرية أن تستخرجه وتتوصل إليه من ثرواتها وأنشطتها الاقتصادية، وهو الأمر الذي أدى بهم (وخصوصا في إنجلترا) إلى النظر إلى علم الاقتصاد وكأنه يتعلق بشكل أساسي بـ”الرفاه”. ثم قاموا، في وقت قريب جدا، بالحديث عن “علم اقتصاد الرفاه” (وهو العنوان الجديد لكتاب إيه. سي. بيجو الصادر في العام 1902، والذي كان هو نفس كتاب الطبعة الثانية الصادر في العام 1912 المعنون بـ الثروة والرفاه). وللنظر إلى علم الاقتصاد باعتباره علم قادر على ترويج الرخاء الاقتصادي قد بدا وكأنه مجرد خطوة صغيرة غير ضارة. وهكذا، فقد تم في الغالب، بالنسبة لكثير من سنوات النصف الأول من القرن العشرين، التسليم بصحة القول جدلا على أن عالم الاقتصاد هو ذلك العالم الخبير الذي يقوم بصياغة سياسات يتم تنفيذها بغرض ترويج رفاه اقتصادي كلي غير فردي. وقد بدا بكل وضوح على أن لدى علماء الاقتصاد واجب مهني ألا وهو الدفاع عن السياسات التي تعمل حسب اعتقادهم على تعزيز الرفاهية من الناحية العلمية. وحتى علماء الاقتصاد الذين كانوا شديدي الحساسية تجاه التماسك الفلسفي لأية فكرة تدور حول الرفاهية الكلية الشاملة كانوا قادرين على استنباط إصدارات تمت صياغتها بشكل اكثر حرصا وعناية عن علم اقتصاد الرفاه من خلال رجوعهم إلى “أمثلية باريتو” أو إلى تركيبات معقدة مماثلة.
وتعتبر هذه الفترة هي الفترة التي شرع بها علماء الاقتصاد بالبدء في إيجاد فرص وفيرة للتوظيف في الحكومة. وبما أن المد الذي أصاب الرأي العام قد تحول بشكل حاسم (خلال الربع الثاني من القرن) إلى جانب التدخل الحكومي الشامل في اقتصاد السوق، نظر علماء الاقتصاد بشكل متزايد إلى حقلهم هذا في المعرفة وكأنه قادر على استحداث وخلق سياسات محددة جدا خاصة بحكومات يتم تنويرها بحيث تقوم باتباع هذه السياسات. وقام علماء الاقتصاد بوضع علمهم (وعلى وجه الخصوص ذلك الفرع الذي عمل على صياغة “علم اقتصاد الرفاه”) في خدمة الأحزاب السياسية، وهو الأمر الذي عمل، بشكل حتمي، على النزوع إلى إثارة نفس تلك الأسئلة المزعجة المتعلقة بالموضوعية المتجردة والحيادية لذلك العلم التي أزعجت ماكس ويبر وفق هذه الشاكلة. وقد تبين، بنحو مطرد، بان أي برنامج سياسي وأية فرضية خاصة بتشريع اقتصادي بإمكانهما أن يجدا علماء اقتصاد لديهم الاستعداد بأن يعطوا حجة “علمية” تعمل على دعمهما.
ميزس وفيرتفرايهايت
كان لودفيغ فون ميزس، عالم الاقتصاد التابع للمدرسة النمساوية المتفوقة، نصيرا مدافعا ومتحمسا جدا لمبدأ ويبر، فيرتفرايهايت، بخصوص كافة العلوم الاجتماعية وبشكل خاص علم الاقتصاد. وكان لودفيغ يعتقد بان الموضوعية المتجردة لأي علم تشترط لا شيء أقل من أن يتم فصل الافضليات الشخصية وأحكام القيمة الخاصة تماما عن الممارسين لها. والشيء الضمني في مبدأ ويبر، فيرتفرايهايت، هو اقتناع عالم الاقتصاد بان من الممكن، على الأقل من ناحية المبدأ، أن يمارس ويواصل علومه بمعزل عن أحكامه وآرائه الشخصية الذاتية حول القيمة. ومع ذلك، هناك فعلا بعض فلاسفة القرن العشرين قد تحدوا (وما زالوا يتحدون بالفعل) هذا الأمر، مؤكدين بالدليل على أن من الوهم أن يتم الاعتقاد بان بإمكان المرء أن يطمس الأحكام التي تحدد القيمة التي يضعها بينما يكون هو منشغل في علمه. وهم يجادلون بطريقة لا يمكن تجنبها على أن علم المرء يعكس الافتراضات الأخلاقية له. وقد يكون ميزس قد وافق على أن الإبقاء والمحافظة على مثل ذلك العزل سيكون أمرا صعبا، لكنه قد يكون قد رفض بشكل مشدد تلك الادعاءات التي تقول بأنه مستحيل. ويصر ميزس على أن من واجب العالِم تجاه سمعة علمه وتكامله أن يقوم بعزل البحث العلمي الذي يقوم بتأليفه عن أية مسحة “تلوث” ولو ضئيلة ناجمة عن ميول شخصية. فالباحث الطبي الذي يكشف عن الحلقات التي تربط بين تدخين السجائر ومرض السرطان يجب عليه أن يواصل اختباراته في المختبر وتحليلاته الإحصائية دون أن يكون ذلك البحث قد تأثر، بأي شكل من الأشكال، بأفضلياته الشخصية الذاتية المتعلقة بالتدخين أو بمخاوفه الخاصة به المتعلقة بالمرض. وهكذا أيضا، يجب أن يكون تحليل عالم الاقتصاد للأسواق والتنظيم وتداعياتهما مستقلا تماما عن آرائه الأخلاقية الخاصة به المتعلقة بالحرية وبالتفاوت في الدخل أو نحو ذلك.
ويقدم موقف ميزس إيضاحا رائعا عن الأشياء المبهمة والتعقيدات التي دخلت وتدخلت في مبدأ فيرتفرايهايت. فهناك غونار ميردال وهو أحد علماء الاجتماع السويديين البارزين في القرن العشرين (والذي كانت مواقفه حول السياسة الاقتصادية في خصام تام مع تلك المواقف التي تبناها ميزس بحيث انه عندما فاز كل من ميردال وإف. إيه. هايك مناصفةً بلقب جائزة نوبل في علم الاقتصاد، كان من المفهوم على نطاق واسع على أن القيام بهذه الاختيارات قد مثل نوعا من أعمال التوازن الفكري الآيديولوجي لآراء هايك المعتمدة حول السوق الحر لكونها قد واجهت توازنا مضادا من قبل دفاع ميردال عن سيطرة الحكومة الشاملة على الاقتصاد). وفي العام 1930 قام ميردال بنشر كتاب باللغة الألمانية عمل على فحص تاريخ علم الاقتصاد وتوصل إلى نتيجة مفادها بان معظم علماء الاقتصاد الرواد خلال ذلك التاريخ قد قاموا بحقن فرضيات وأفكار سياسية داخل ما كانوا قد قدموه على أنها بحوث علمية. وقد تمت ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية في العام 1955. وكان فريتز ماكلوب (وهو نفسه عالم اقتصاد مرموق في القرن العشرين المتدرب في النمسا والذي كان أحد تلامذة لودفيغ فون ميزس حيث قام بالتعامل مع ميزس على المستوى الشخصي بولاء وانتماء نموذجيين) قد كتب مراجعة لهذه الترجمة التي تم نشرها. وقام ماكلوب بجلب الانتباه نحو إقرار ميردال على أن مدرسة الاقتصاد النمساوية (على نحو مغاير لمذاهب الفكر الاقتصادي الأخرى) لم تكن قد ارتكبت ذنب قيامها بحقن مثاليات سياسية في البحث العلمي التي قامت بتأليفها. وقد وجد ماكلوب بان هذا الحكم الاطرائي يعتبر أمرا مفاجئا. وقام بطرح السؤال التالي: “كيف تمكنت أبحاث ومؤلفات النمساوي فون ميزس المضادة للمتدخلين من النجاة هربا من اهتمام وعناية ميردال؟” ومن الواضح بان ماكلوب لم يكن ليقدر على التوافق والتراضي مع إصرار ميزس الذي ذكره عن فيرتفرايهايت وعن الانفصال عن الالتزامات الآيديولوجية المسبقة بوجود مؤلفات ميزس التي تنطق بشكل فصيح والتي تصب لصالح سياسة عدم التدخل (الحكومي) في الشؤون الاقتصادية ولصالح اقتصاد السوق الحر.
وفي الحقيقة، فان أي قارئ للأثر العلمي الذي ألفه ميزس ليس باستطاعته أن يخفق في الإحساس بالتناقض الظاهري الذي يحيط بالعاطفة والهيام اللتان كتب بهما ميزس علومه الاقتصادية. وبحلول الوقت الذي نصل به إلى الجزء الثالث من هذه السلسلة، فأننا سنكون، بشكل مشجع، قد توصلنا إلى حل هذا التناقض. وهنا، سنقوم فقط بتحديده وبربطه مع التحدي الأكبر المتمثل باستخراج واستنباط مشورة نافعة من علم اقتصاد حرية تحديد القيمة.
لودفيغ فون ميزس وأهمية علم الاقتصاد
كما كنا قد لاحظنا، كان ميزس مقتنعا بان علم الاقتصاد يجب أن تتم مواصلته بشكل نزيه بعيدا عن العاطفة والانفعال، بصفته حقل معرفة في بيئة سوق حر، إلا أنه (أي ميزس) كان قد كتب بعاطفة متحمسة شديدة النقد عن الأخطار التي تواجه بني البشر في حال قيامهم بتجاهل الحقائق التي تكشف عنها العلوم الأكاديمية. وقد اختتم تحفته الرائعة الفعل البشري بالجمل القاسية التالية: “تعتبر مجموعة المعرفة الاقتصادية عنصرا رئيسيا في تركيبة الحضارة الإنسانية، فهي الأساس الذي تم فوقه بناء الصناعات الحديثة وكافة الإنجازات الأخلاقية والفكرية والعلاجية التي تحققت في القرون الأخيرة. وهي أيضا التي تبقت لدى الأفراد سواء عملوا على الاستفادة المناسبة من هذا الكنز الثري الذي وفرته لهم هذه المعرفة أم انهم تركوه بدون أن يستفيدوا منه. لكنهم، في حال إخفاقهم في الحصول على أقصى منفعة منه وقاموا بإهمال تعاليمه وتحذيراته، فسوف لن يكونوا قد عملوا على إلغاء علم الاقتصاد، بل إخماد المجتمع وسلالة بني البشر.”
لقد كان هذا هو الاقتناع العاطفي بالأهمية القصوى لتعاليم علم الاقتصاد الذي أسهم بالعناية والحرص اللذان قام ميزس ببذلهما تجاه الحالة الفلسفية لتلك التعاليم. فقد كان ميزس يعتقد بان أعداء المجتمع الحر بإمكانهم إن يديموا ويبقوا على دفاعهم عن التخطيط المركزي وعن التدخل الحكومي الشامل في اقتصاد السوق (أو استبداله) فقط بمجرد تجاهلهم لعلم الاقتصاد أو تشويه سمعة علم الاقتصاد. وقد نظر ميزس إلى كافة المحاولات التي بذلت للتشكيك في مشروعية الفرضيات التأسيسية لعلم الاقتصاد وكأنها مدفوعة من قبل دافع خفي لسياسة عدم تدخل اقتصادية مشوهة للسمعة.
ونظرا لاعتقاد ميزس بان سياسات عدم التدخل هي التي فقط يمكنها أن تديم وتحفظ الحضارة الحديثة، فقد شعر بأنه قد انساق إلى التوضيح وإلى الدفاع عن تلك القواعد الفلسفية التي قام هو بتسميتها بـ”علم الاقتصاد الحديث”. (بالنسبة لميزس، فان علم الاقتصاد الحديث هو مجموعة تعاليم اقتصادية متجذرة في علم الاقتصاد الكلاسيكي القديم لآدم سميث وتابعيه، بما انه قد تمت إعادة تصنيفه وصياغته من قبل ما سمي بعلماء الاقتصاد الكلاسيكيين الجدد، بما فيهم بشكل خاص، مؤسس المدرسة النمساوية كارل مينجر وتابعيه والذين كان من بينهم معلم ميزس الخاص صاحب المقام الرفيع يوجين فون بوم-بافيرك).
وقد اشتملت إيضاحات ميزس الخاصة بقواعد النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، بشكل خاص، على دفاعه عن علم الاقتصاد من التهمة الماركسية وهي أن علماء الاقتصاد التقليديين هم مجرد تابعين خانعين لـ”الوول ستريت” الذين يناصرون السوق الحر لمجرد أن يقوموا بخدمة أسيادهم صرافي الرواتب الرأسماليين. وقد رأى ميزس بشكل واضح على أنه ما لم يقم علماء الاقتصاد بتطهير علومهم من أية وصمة من وصمات الانحياز الشخصي الملوثة (كالتعبير الصريح عن أحكام وآراء شخصية بتحديد القيمة)، فان تعاليمهم سوف تكون عرضة لمثل ذلك النبذ وصرف النظر. وبشكل دقيق، نظرا لأنه رأى في السوق الحر وكأنه مطلب مسبق رئيسي بالنسبة لأي مجتمع متحضر ومزدهر ونظرا لأنه كان يعتقد بان التحليل الاقتصادي غير المنحاز سيعمل حتما على دعم وجهة النظر هذه، فقد أصيب ميزس بالرعب من جراء إمكانية أن يتم نبذ علم الاقتصاد وكأنه لا شيء سوى كونه دعاية سياسية رأسمالية. وقد نظر فريتز ماكلوب إلى مناصرة ميزس لسياسة عدم التدخل (في كتاباته “ضد التدخلية”) باعتبارها مثال يحتذى على دقة التفاصيل للانطلاق من النزاهة والتجرد إلى مواصلة علوم الاقتصاد والتي قام ميردال باتهام الكثيرين جدا من علماء الاقتصاد بهما (إلا أنها كانت هي السياسة التي أقرت المدرسة النمساوية، بشكل عام، بأنها لم تكن قد ارتكبت أي ذنب). وسوف نعود في المقالة الثالثة من هذه السلسلة الصغيرة إلى فحص واختبار مشروعية تهمة ماكلوب.
وفي الفترة التي أعقبت الحرب، لم يقم معظم علماء الاقتصاد ببذل الكثير من الاهتمام إلى تلك الأمور المقلقة. والصحيح في هذا الجانب هو أن ميلتون فريدمان، وهو أحد العلماء الرواد في مدرسة شيكاغو المرموقة، قام (في مقالة مؤثرة في العام 1953) بمناصرة ما سماه بـ”علم الاقتصاد الإيجابي” (والذي يتم بموجبه تأسيس فرضيات اقتصادية قد تتحكم في الحصول على تصديق العلماء بغض النظر عن ميولهم الشخصية). ولكن ذلك الأمر تم النظر إليه باعتباره، من الناحية الأساسية، ممارسة منهجية متبعة تقوم بعرض حالة خاصة بمعالجة علم الاقتصاد على أساس كونه حقل معرفة تجريبي بشكل تام (كونه نقيضا للمعرفة المنطقية) (وليس كحالة خاصة بمبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت).
ولقد جرى، من وقت لآخر، تكريس المزيد من العناية الجدية نحو مسألة حرية القيمة، فيرتفرايهايت. وهكذا، قام تيرينس دبليو. هاتشيسون وهو أحد مؤرخي الفكر الرواد (والذي كان، بمحض الصدفة، عالما في منهجية علم الاقتصاد الذي انتقد، بمرارة، مؤلفات ميزس المنهجية الخاصة)، بتأليف كتاب حول الموضوع. لكن هناك عدد قليل من علماء الاقتصاد الآخرين الذين قدموا الكثير من التفكير نحو المخاطر التي تحدق بنزاهتهم وتجردهم (أو إلى نزاهتهم التي يتم فهمها بالوعي) التي قد تكمن في الإفادات المعلنة عن سياستهم. وهناك بعض علماء الاقتصاد الذين كانوا، بطريقة أخرى، قد تأثروا بشكل عميق بالمدرسة النمساوية وبشكل خاص بميزس، قد عبروا بصراحة عن تحفظات قوية ضد مبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت. وهكذا، قام موري روذبارد، وهو تلميذ رائد من تلاميذ ميزس، بالجدال وبالمناقشة بالنسبة لنطق المبادئ الأخلاقية المهنية بشكل صريح من جانب عالم الاقتصاد الذي يقدم مشورة حول سياسة ما.
ومنذ عهد قريب، قام دانييل بي. كلاين، والذي هو مدافع ونصير مشهور داعم لصناعة سياسة السوق الحر الاقتصادية بدعوة علماء الاقتصاد لنشر علومهم بهدف تعديل الخيارات السياسية-الاقتصادية المتاحة لجمهور عامة الناس. وجادل كلاين مؤكدا على أن علماء الاقتصاد الذين قاموا هم أنفسهم بتقييم المجتمع الحر كان لديهم التزام أخلاقي للمساعدة على قولبة الرأي العام ليتجه نحو إظهار الإدراك الكامل للحرية. وكان موقف علماء الاقتصاد موقفا فريدا من نوعه لقيامهم بإنجاز ذلك نظرا لأنهم كانوا يتمتعون بسمعة مهنية محترمة. وبدلا من أن يبذلوا وقتهم في التحدث إلى بعضهم البعض بلغة نماذج رياضيات مجردة، كان من الواجب على علماء الاقتصاد أن ينشغلوا في “خطاب عام” يتحدثون به إلى الرجل العادي حول مسائل سياسية عمومية تطبيقية. وقام كلاين بعمل استطلاع لعينة نموذجية من المؤلفات المنشورة التي أبدى تجاهها علماء الاقتصاد، كل من العلماء المتطورين والطلبة الخريجين المحبطين، تحسرا وتأسفا على عدم صلة المؤلفات الأكاديمية بالموضوع لكونها قد أنجزت بفعل مهنة خاصة بعلم اقتصاد. وقد وجد كلاين بأن تلك المهنة قد تم حبسها داخل توجه عقلي وفكري لتكمن ضمن اهتمامات عالم الاقتصاد المهنية العقلانية كي يتجنب مخاطبة الرجل العادي حول مسائل واقعية، مركزا بدلا من ذلك على النماذج التجريدية المثالية التي تعتمد عليها (بشكل عكسي) أية سمعة حسنة مهنية ومكافآت مهنية. وفي قيامه بدفع وحث عالم الاقتصاد على أن يقوم بإطلاع الرجل العادي على ما هو صالح وخير له، قام كلاين بشكل واضح بحض عالم الاقتصاد على أن ينظر إلى مسؤوليته المهنية وكأنها امتداد إلى ما أبعد من الإيجابية واليقينية الصارمة. ويجب على عالم الاقتصاد ليس فقط أن يقلق نفسه، أو حتى بشكل مبدأي، لينشغل في فهم وتوقع سلسلات السبب والمسبب الاقتصادية (أي وجود سبب لكل ما يتم تسببه في الحقل الاقتصادي)، بل عليه أيضا أن يروج وينشر ذلك الفهم الخاص بتقديم المشورة إلى أي فرد في الشارع (وحتى بتحذيره) بالنسبة لما هو الأفضل (ولما هو الأسوأ!) في مجالات عمل ذلك الفرد.
علماء الاقتصاد الذين تم انتقادهم بقسوة
وفي سبيل حث عالم الاقتصاد على إبلاغ جمهور العامة عما يكون في نظر علم الاقتصاد خيرا لهم، قام كلاين بالتمرد بشكل علني على الموقف الذي اتخذه جورج جيه. ستيجلر، وهو عالم اقتصاد من مدرسة شيكاغو الحائز على جائزة نوبل. وفي العام 1982، قام ستيجلر بنشر كتاب وجه به انتقادا شديدا لعلماء الاقتصاد (بدءا من آدم سميث ولغاية الزمن الذي عاش به ستيجلر) بشأن قيامهم بعمل ما كان يرغب منهم كلاين أن يقوموا بعمله بكل دقة (بمعنى أن يتم إبلاغ جمهور العامة عما هو خير لهم). وقام ستيجلر بالاحتجاج بشدة ضد علماء الاقتصاد لكونهم “وعاظا مبشرين” (يعاملون جمهور العامة على أساس انهم مخطئون، كالأطفال الذين قد يتم تحسين سلوكهم إذا ما تم تعليمهم بالشكل المناسب من خلال إقناع أخلاقي مناسب).
بالنسبة لستيجلر، يجب على عالم الاقتصاد أن يمتنع عن “التبشير والوعظ” ليس بسبب وجود أية أمور مقلقة فيما إذا كان مثل ذلك التبشير ينتهك موضوعيتهم العلمية وحياديتهم الأخلاقية، والأصح أن ستيجلر قام بشجب مثل ذلك الوعظ لان التبشير بسياسة اقتصادية هو بمثابة اعتقاد، وهو حسب رأي ستيجلر عمل خاطئ تماما: بان عالم الاقتصاد يعرف ما هو خير وصالح من الناحية الاقتصادية لجمهور العامة على نحو افضل مما يعرفه ذلك الجمهور أنفسهم. وقام ستيجلر بدعم فرضية المعرفة الكاملة (التي ميزت بشكل تشهيري الكثير من النماذج التي تم بناؤها من قبل واضعي نظريات اقتصادية لتعلل وتسهم في حقائق عالم حقيقي غير زائف) إلى درجة التناغم لكنها كانت متطرفة. وفي الواقع، قام ستيجلر بافتراض أن كل ما يقدر علماء الاقتصاد على تعليمه والتبشير به سوف يكون معروفا بشكل مسبق لدى جمهور الناس ولممثليهم السياسيين. وقد يعتقد عالم الاقتصاد بان النتيجة المتوقعة من سياسة معينة سوف تكون غير مرغوبة، لكنها في حال قيام جمهور العامة بتبني مثل تلك السياسة فان ذلك يثبت بان هؤلاء الجمهور هم في الواقع راغبون بتلك النتيجة ذاتها. وعالم الاقتصاد الذي يقوم بشجب مثل تلك السياسة على أساس أنها خطأ سوف يعمل ببساطة على الكشف عن أن لديه مجموعة من الأهداف التي تختلف عن تلك الأهداف التي يسعى نحوها جمهور الناس فعلا.
ومما لا شك فيه أن تاريخ الاقتصاد قد عمل على الكشف عن وجود إجماع ضئيل بين علماء الاقتصاد يتعلق بالإمكانية المتاحة وبالاستفادة من مبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت، فالمهابة والاعتبار اللذان لازما تعاليم علم الاقتصاد والأهمية التي ألصقها الرأي العام المثقف بهذه التعاليم قد تراوحت بين القوة والوهن على مدى التاريخ، كما أن وجهات نظر علماء الاقتصاد أنفسهم فيما يخص وجود أو عدم وجود التزام لديهم لتنوير جمهور العامة حول السياسة الاقتصادية قد تغيرت وتعددت إلى درجة كبيرة. وسوف نحاول أن نوضح مشروعية المشورة (“العلمية”) التي يقدمها علماء الاقتصاد إلى جمهور الناس ونحن نقابل هذه الخلفية المربكة إلى حد ما.
من التعبير بـ”يكون” إلى التعبير بـ”يجب أن”
في الجزء الثاني من هذه السلسلة سنقوم بمراجعة قواعد الدروس الإيجابية واليقينية جدا التي يتم تدريسها من قبل علم الاقتصاد، أي أننا سوف نقدم، بشكل موجز، طبيعة التفكير الاقتصادي الذي يعمل على تأسيس وجود سلسلات السبب والمسبب في المجال الاقتصادي. وفي هذا الصدد، سنقوم باتباع التقليد النمساوي في مجال التفكير الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص ما تم تطويره من المؤلفات ذات الصلة التي قام بها قطبا ذلك التقليد في القرن العشرين وهما ميزس وإف. أيه. هايك. والشيء الذي سوف ينبثق من هذا الإجراء والاختبار سوف يكون بمثابة تبصر ينفذ إلى نزعة السوق القوية لتقوم بترجمة تصنيفات احتياجات المستهلكين بطريقة منتظمة وكذلك التقييدات المفروضة على المصادر الطبيعية إلى أنماط من التخصيص والتوزيع للمصادر التي تتوافق معهما. وسوف نرى بان هذه الترجمة التصنيفية ستعمل على المتابعة بحيث تبدأ من غاية العمل الإنساني والنزوع المهني للكائنات البشرية بغرض اكتشاف ما هو في مصلحتهم ومن إمكانيات توصيل المعلومات عن نظام سعر السوق، وهو الأمر الذي سيقودنا مباشرة إلى الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة.
وفي تلك المقالة الثالثة، سنقوم بفحص واختبار المضامين التي تحملها وجهة النظر النمساوية هذه بالنسبة لإمكانية تقديم مشورة نزيهة حول مسائل سياسات عامة كتلك المشورة التي لا تعكس أية أفضليات شخصية أو آيديولوجيات فكرية لعالِم الاقتصاد الذي يقوم بعرضها. وبالإمكان أن يتم التمسك بمبدأ حرية القيمة من قبل مقدِّم السياسة العامة؛ وبالإمكان أن يتم المحافظة على موضوعية ونزاهة علماء الاقتصاد الذين يقدمون المشورة؛ وكذلك بالإمكان لنا أن نأمل في التمسك بالسمعة العلمية الحسنة لعلماء الاقتصاد، فقط إذا كانت تلك الإمكانية موجودة. إن استنتاجاتنا التي سنتوصل إليها فيما يتعلق بهذه الأسئلة سوف تمكّننا من توضيح بعض التناقضات الظاهرية التي واجهناها في المقالة الحالية، فهي التي ستزودنا، على وجه الخصوص، بفهم كيفية عدم حاجة تعاليم علماء اقتصاد السوق الحر إلى التساهل مع أغراضها وأهدافها ونزاهتها، والتي قد يتم، بالرغم من ذلك، عرضها مع وجود قناعة عاطفية ومناصرة دعم مكرسة لها.
مجلة فريمان، تموز-آب 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 16 كانون الثاني 2007.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018