أصبح الفكر المتطرف في السياق الحضاري الإسلامي “لاهوت تحرير” في نسخته الإسلامية بعد النسخة المسيحية، وإرهاصات هذا المشروع كانت بداياتها منذ حرب أفغانستان، رغم أنه كان موجها ضد التوسع السوفياتي إلا أنه كان يحمل بين طياته بذور الاستقلال بالقرار وفاعلية ذاتية تخرجه من دائرة التحكم إلى دائرة المبادرة والارتداد ليكون منزعه داخليا بعدما كان خارجيا/ هجوميا بعدما كان دفاعيا. وقد وقع الأمر فيما بعد في جمهوريات أسيا السوفياتية ثم بعدها بالصومال والبلقان فالعراق ثم سوريا..، وبقية الدول “الشرق-أوسطية” منتظرة على اللائحة.
إن استضافة المعسكرات والقواعد الأجنبية في مناطق جغرافية دينيا يمثل سببا تحفيزيا لنمو التطرف، وإذكاء الشعور بعودة الاستعمار للمنطقة خصوصا أنه لم يمر على استقلال أغلب دولها أقل من نصف قرن، والذاكرة لا تزال تنبض بمرارة الأحداث الماضية، مسترجعة صور الاستغلال والتدخل في مختلف شؤون المنطقة الداخلية، وما كرسته ثقافة المستعمر في المجتمع الذي كان مؤسسا على ثقافة القبيلة المتماسكة والممتدة في جغرافية غير محدودة، ليجد هذا المجتمع نفسه منكمشا، قد فتته المستعمر ليسهل فيما بعد هضمه أو توزيعه في دويلات متصارعة ليتم ابتزازها.
إن إشكالية العدل وكيفية تصريفه يمثل جزءا مهما في فلسفة الفكر السلفي الجهادي، لأن مقابله الظلم والمظلومية في بعض الأحيان، يدفع للعمل في الظلام وفي الدهاليز، ورفض كل أساليب تدبير قيمة العدالة، حتى لو كان المجتمع في قمة تمثله لقيمة العدل وتُصَرَّف فيه العدالة بمثالية، وكذا غيرها من القيم. فالوسيلة مهما ارتقت في نظرهم سواء كانت شورية أو ديمقراطية لا تحقق المقصود الذاتي للقيم المنشودة، لأنها منشودة لذاتها وفق تصور مثالي كامل، وأي وسيلة لتصريف هذه القيم إنما هي وسيلة تشويه وتحريف، فكأنهم يودون أن لا تكون هنالك وساطة بينهم وبين السماء، بل تتجلى قدرة ومشيئة السماء بذاتها وبإرادة مطلقة فلا تترك للناس خيارا للتفكير أو التدبير أو الخطأ. فهم يودون أن يروا تدخل “الله” مباشرة في الحياة الدنوية، كما تدخل في حياة أقوام لينزل عقابه أو ليوجههم بشكل مباشر[إنقاذ الأقوام السابقة وبعض معجزات الرسل أو إهلاك البعض الآخر..]، فلا وساطة بل هي حاكمية إلهية مطلقة لا حاكمية بشرية. أما القانون البشري النسبي فلا معنى له كما لا معنى للتنظيمات والتوصيفات التي يتوسلها المجتمع الإنساني للتنظيم وتحقيق القيم المتعاقد عليها فيما بينهم، فكل هذه المفاهيم ومعها المؤسسات هي طارئة تبعد المؤمن الحقيقي عن الفهم الصائب، بحسب تصورهم لمشيئة السماء التي يجب أن تتحقق. وحادثة ذو الخويصرة وقصته مع النبي الأكرم في التاريخ الإسلامي خير شاهد على أن هذه الفئة تبحث عن أفق يتجاوز التفسير الواقعي للنصوص والمفاهيم، كأنهم يقولون للنبي المرسل والمسدد بالوحي بأنهم أكثر تفسيرية للدين ومقاصده منه، متجاوزين تجربته ووساطته لينفتحوا مباشرة على مراد السماء والمعاني الذاتية للوحي. وما حدث فيما بعد من غيره من الخوارج من مناظرات وحروب ضد الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب يفسر بوضوح تلك العلاقة المستشكلة بين من يستوعب الدين في جزئياته ويعقل مقاصده الكبرى وبين من يتدين بعاطفته ويرتبط بظاهرية النصوص وأحكامها فهما وتنزيلا، ويرفض التأويل وبحث مناطاتها. وهذه العلاقة المعقدة بين المفاهيم وتمثلاتها الواقعية شائكة، ولاتزال في حاجة إلى تحقيق لأنها تضع المعرفة الفقهية وأحكامها في مأزق ومساءلة دائمة.
إن تفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية الحديثة المتعلقة بالعنف الديني لا يتوقف على جمع ملخصات النشرات الإخبارية ولا تتبع ما تقدمه البرامج الحوارية من معلومات، بل الظاهرة أعقد من ذلك كله وتحتاج لمراكز بحثية تتصف بالدقة المنهجية والعلمية، لأن موضوع البحث يعد إشكالية بنيوية مركبة، يختلط فيها ما هو روحي/اجتماعي بما هو نفسي/تاريخي واقتصادي بما هو سياسي، والنفوس البشرية ليست في الأخير على طبيعة واحدة ولا على نمط معرفي مضبوط، لتتمكن المناهج والبحوث المخبرية من استيعابه، بل لابد أن تستحضر كافة المناهج وتتكامل الرؤى لتكون النتائج قريبة من رصد حقيقة هذه الظاهرة، وهذا الأمر يصعب عمل الباحثين ويجعلهم كل مرة يستأنفون عملهم لدراسة –ربما- نفس الحالة مرارا وتكرارا. وتبقى “الظاهرة الداعشية” ومثيلاتها، رغم ما سبق الإشارة إليه من صعوبات حول آلية دراستها، ظاهرة غير عصية على الفهم، فإمكانية استيعابها وفهم آلية عملها وتفكيك مرجعيتها الفكرية والعقدية ممكنة، لأنها في النهاية تبقى حركة تاريخية وتنظيما بشريا، يتقفى أثر السابقين وتبني طموحاتها وانجازاتها على سلسلة من الإخفاقات والمشاريع المعطلة تاريخيا. ويبدو أن هذه الحركات “امبريا-دينية” تبحث لها عن لحظة تغفل فيها الحداثة لتستعيد نهضتها وتقوم بإتمام مشروعها التاريخي. ليبقى إيمان الناس وسلامتهم الروحية عرضة للقرصنة كل مرة من طرفهم، فهم يجعلون شعاراتهم البراقة حول العدل والرخاء والسعادة الأبدية تعلو أعلامهم، ويعاد مصادرة الإيمان وتقديمه بصور “بئيسة” للعموم وفق رؤيتهم للوجود، وكيف لا تكون لمفهوم الإيمان كل هذه القيمة والبريق وهو يعتبر قنطرة الخلاص الأبدي ! من يستحوذ عليه يقطع الطريق على البقية الأخرى، ليقع بعض السذج ضحية إيمانهم وتتيه البقية في بحور القلق والريبة وغياب المعنى.
* كاتب وباحث مغربي
منبر الحرية، 4 أكتوبر/تشرين الأول 2016
أصبح الفكر المتطرف في السياق الحضاري الإسلامي "لاهوت تحرير"
في نسخته الإسلامية بعد النسخة المسيحية، وإرهاصات هذا المشروع كانت بداياتها منذ حرب أفغانستان، رغم أنه كان موجها ضد التوسع السوفياتي إلا أنه كان يحمل بين طياته بذور الاستقلال بالقرار ...