peshwazarabic

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

من  الواضح  أن  بوسع  الدولة  أن  تكون  دولة  سلطة  سياسية  حاكمة،  دون  أن  تكون  دولة  مواطنين  إذا  لم تعترف  بأن  مهمة  النظام  السياسي،  هي  الاهتمام  بمصالح  المحكومين  ورعايتها  وبتنمية  الدور  السياسي للمواطن،  وضمان  مساهمته  الحرة  بوصفه  فاعلا  سياسياً . إذ  ينبغي  أن  يشعر  المواطنين  أنهم  يساهمون في  بناء  الحياة  والمجتمع  السياسيين،  فإذا  لم  يتعمق  لديهم  هذا  الشعور  بالانتماء  إلى  المجتمع السياسي  والدولة،  وإنما  إلى  أسرة  فقط،  أو  قرية،  أو  طائفة،  أو  عرق،  أودين،  فإن  هذا  الوعي  بالانتماء  الأخير يترسخ  على  حساب  شعورهم  بالمواطنة  العمومية  والمشتركة
.
تقاس المساهمة السياسية للمواطن بمعايير واضحة تتعلق بقدرته السياسية على التعبير عن آرائه بحرية وبترجمة قناعاته السياسية وتجسيدها خلال العمل الفردي أو الجماعي المنظم، وبدرجة تأثيره على آليات عمل النظام السياسي وقراراته، و تحكمه بسلوك ممثليه. فبمقدار ما يمتلك المواطن الوعي السياسي والأدوات والوسائل التي تتيح له ترجمة هذا الوعي في سلوك حرّ بعيد عن الإكراه، تكون البيئة السياسية هي الأمثل. وقد وجد الفلاسفة السياسيون أمثال لوك Locke ومل Mill وتوكفيلTocqueville  وغيرهم أن هذه المعايير هي أساسية لنظام ديمقراطي ناجح قائم على التعددية وحرية التعبير وحقوق الأقليات.
المشاركة السياسية الحرة والطوعية للمواطنين، هي شرط أساس لأي نظام سياسي حديث كفَ عن أن يكون مستبداً وبالياً. وقد أظهرت التجربة التاريخية للعديد من المجتمعات أن حيوية الأخيرة، وتماسكها واستقرارها، رهين بدرجة الإسهام السياسي والمبادرة لدى المواطنين. بينما يفسّر هشاشة النظام السياسي وعدم استقراره وضعف المجتمع المدني بعزوف الأفراد أو منعهم عن المشاركة السياسية، وتحاشيهم المساهمة وليس العكس. لقد مثل النظام العراقي البائد نموذجاً حيّاً لهذا الموقف. إذ اعتقد أن من شأن القمع وسلطة الخوف وحدهما أن توحدا المجتمع، فحوله إلى عبد لقوته المتعسفة. وقد  أفضى ذلك إلى تدمير روح الاجتماع الإنساني بالذات، فتحول المجتمع في أحسن أحواله إلى جمهرة قلقة وعدمية، محتقنة ومفككة، تسودها الكراهية وعدم الثقة.
يتعلم المواطن في زمن الاستبداد والقهر أن يكون سلبياً إلى أقصى درجة، وخلق الرعب لديه نوعاً من العدمية السياسية واللامبالاة، التي كرست الاغتراب الداخلي وعمقت من تصدع الوحدة السياسية والاجتماعية المطلوبتان إزاء أيّ تحدّ خارجي. ومن هنا أخفقت جيوش صدام الجرارة في الإنابة عن المجتمع دفاعاً عن نظامه وعن سيادة البلاد. إن الدرس الرئيس، الذي يمكن استخلاصه من التجربة العراقية هو، أن أقدام الطغاة والمستبدين هي التي تمهد الطريق أمام الغزاة حينما تجعل من أعناق مواطنيهم موطأ لها وتروضهم على الخنوع والذل.
لا يستطيع النظام السياسي الدفاع عن المجتمع وحمايته من دون مواطنين أحرار يستشعرون حريتهم، مهما ادعى ذلك. فالنظام الذي يؤثر القمع يولّد الخوف في  الأذهان ويخلق مقداراً كبيراً من عدم الثقة، ويؤدي كل ذلك، في نهاية المطاف، إلى القطيعة بينه وبين الأساس الاجتماعي لشرعيته وبقائه.
إن النظام السياسي الذي لا يثق بالوعي السياسي الوطني لمواطنيه، ليس له أن يفرض وعياً وطنياً مشتركاً بالقوة من دون أن يغامر بإثارة العداء والكراهية نحوه. إن عملية التعبئة الأيديولوجية التي تبدو مفروضة هنا، لا تخلق شعوراً وطنياً مشتركاً وفاعلاً، ومن  ثم عوضاً من أن تحقق تواصلاً سياسياً محتملاً بين النظام السياسي والمجتمع المدني، فإنها تحدث صدعاً بين الطرفين. إنها في أحسن الأحوال تجعل المجتمع يتحرك ويتكلم بشعارات لا تتفاعل ووعي أفراده وضمائرهم.
إن من شأن الكوابيس الأيديولوجية، التي تنجم عن تماهي المجتمع والدولة مع أيديولوجية حزب حاكم، أن تضعف الشعور بالمواطنة لدى الأفراد وتخنق لديهم كل ابتكار أو تنوع خصب في الرؤى، وتقيّد روح المبادرة. فالمجتمع الديمقراطي الحديث في أبرز تعريف له، هو المجتمع الذي يشرك أكبر تنوع ثقافي ممكن وتنوع في الآراء مع أوسع استخدام ممكن للعقل، مع ضمان أكبر قدر ممكن من الاحترام للتطلعات الفردية والجماعية، ودون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف أو القهر أو الإقصاء..
من جانب آخر، فإن الاعتقاد بأن المصلحة الوطنية تقتضي هذا التماهي بين المصادر الثلاث، إنما يقوض كل أساس سياسي أو قانوني لمعارضة تعسف السلطة، ويطيح بكل إمكانية لتصحيح مثالبها وتعويضها، وبالتالي يعدّ العدة لشرْعنة أخطائها، بجعلها القاعدة الناظمة للحياة السياسية. فيصير لزاماً على الدولة إذا شاءت أن تكون وطنية وديمقراطية حقاً، أن تعترف لمواطنيها بحقهم في   المعارضة ضمن إطار القانون، بالأسلوب الفردي أو الجماعي. فلا تقوم الدولة فقط بتحديد سلطتها على هذا النحو، وإنما تفعل ذلك من موقع وعيها بأن شرعية نظامها السياسي واستمراريته مرهونتان بدرجة تفاعلها وتواصلها مع المجتمع المدني، وبقوة الأخير ومقدار تأثيره.  فإذا لم تفعل ذلك، فإن ادعائها بأن شرعيتها مستمدة من تمثيل مواطنيها يعد نفاقاً بلا طائل..
إن اجتماع المساهمة السياسة للمواطنين مع تحديد السلطة وتقييدها  بوساطة الحقوق الأساسية، يعدّ الأساس الراسخ لأي نظام سياسي حديث، الذي بدونه لا تكون الدولة دولة مواطنين أحرار. لكن يتعين أن يتوج كل ذلك غياب مبدأ مركزة السلطة ونفي كل صفة جوهرية عنها، بوصفها حزب واحد، تنطق باسم الشرعية الأخلاقية والسياسية للمجتمع. الأمر الذي يمكن ترجمته بشكل ملموس في التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرّة ونزيهة تعتمد رغبة الأغلبية قانوناً لها.
© منبر الحرية، 28 يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

وفق ماكس فيبر  يكون النظام الحاكم شرعيا عند الحد الذي يشعر مواطنوه أن ذلك النظام صالح ويستحق التأييد والطاعة[1]، وأحد مصادر الشرعية السياسية لنظم الحكم  ما يسميها فيبر العقلانية القانونية الداعية إلى اعتماد قواعد مقننة لتحديد واجبات وحقوق منصب الحاكم، ومساعديه وطريقة ملء المناصب وإخلائها وانتقال السلطة وتداولها وممارستها وهو تحديد واضح ومفصل للحقوق والواجبات، يجعل مبادرات الحكم قابلة للتوقع لأنها مشروطة في أصولها وفي نتائجها بشبكة من القوانين المعروفة والمتفق عليها. أما ايستون فقد أطلق صفة ” البنيوية” في محاولة لتأكيد دور المؤسسات وأهمية عملية المؤسسات. ووصف صموئيل هانتيجتون هذه العملية بأنها مسار تكتسب فيه المؤسسات والمعاملات القانونية استقراراً وقيمة لذاتها (3)
مأسسة العملية السياسية تعنى احتواء عملية صنع واتخاذ القرارات السياسية ضمن إطار المؤسسات السياسية، مما يسهل على النظام السياسي اكتساب قدر يعتد به من الشرعية السياسية . ذلك أن التنظيم المؤسس للعملية السياسية بقدر ما يمكن المبادئ  والقيم الديمقراطية للممارسة السياسية فإنه يفيد في تحقيقه خصائص عديدة منها : قانونية العملية السياسية  إذا تمكنت المؤسسات من أن تنظم عملها شبكة معقدة ومحكمة من الضوابط والتوازنات، وتعمل وفقا لأحكام محددة وأسس للتوظيف والتمويل وتقويم الأداء، وتخضع لمقاييس معروفة وعلنية للنجاح والفشل وضوابط للمراقبة والمحاسبة وقواعد للتنسيق بينها. وعقلانية العملية السياسية، ذلك أن المؤسسات والمناصب تسمح في إطارها بالعمل على أساس الكفاءة المهنية، مما ينعكس مباشرة على واجباتها تجاه المواطنين.علاوة علىعمومية العملية السياسية حيث يلغى العمل المؤسسي بالاعتبارات الشخصية واعتماد اعتبارات المواطنة ويركز عليها .وأخيرا استقرار العملية السياسية لأن العمل في المؤسسات لا يتأثر بتغير الأفراد . ويمكن إنتاج القرارات الحكومية والعمل على تنفيذها إذا ما تمتعت بالدعم الذي تقدمه المؤسسات المركبة والقوية. ويربط بين وجود المؤسسات والعمل على تقوية الدولة من خلال علاقة تبادلية لفاعليته ، فالدول عديمة المؤسسات تكون على العكس دولاً ضعيفة وسيئة، لأنها عاجزة ولا تستطيع السيطرة لضمان المصالح الخاصة والعامة . وبناء المؤسسات السياسية لا يمثل استجابة لمطالب المشاركة السياسية وحدها، بل هي أداة للحفاظ على الاستقرار السياسي من جراء التهديد الذي يتعرض له بفعل اتساع حجم الضغط الموجه نحو النخب الحاكمة من جانب القوى الاجتماعية الساعية للمشاركة السياسية .
ولا تكاد تخلو دولة عربية من وجود مؤسسات حيث تتعدد الأحزاب السياسية في بعض الدول العربية وتنتخب فيها مجالس نيابية، ولكن يشوب البيئة التي تقوم فيها هذه الأحزاب وعملية انتخاب هيئة المجالس وأدائها وبخاصة دورها الرقابي نقائص تقلل من قيمتها كمكون عضوي في نسق النظام السياسي . والمعروف أن الانتخابات تدار إلى حد كبير من قبل السلطة المهيمنة في المجتمعات النامية، ومنها الدول العربية فتمارس السلطة التنفيذية التدخل في عملية الترشيح بداية وتؤثر جوهريا في مجريات عملية الانتخابات بكاملها، وتتعرض الانتخابات لأنواع متباينة من الإفساد، ومن بينها توظيف الحظوة من السلطة والمال وانتهاك الحقوق بل تقوم مؤشرات على معالجة النتائج محلياً ومركزياً . وفي أحيان أخرى يصدر القضاء أحكاماً ببطلان الانتخابات في بعض الــدوائر، ولكنها لا تنفذ وتتحول المجالس النيابية إلى ما يشبه إدارات متدنية الكفاءة للسلطة التنفيذية تتوسل لرضاها بأن تأتمر بأمرها، ولا ينتظر من مثل هذا المجالس أن تمارس جدياً دورها الأصيل في الرقابة على للسلطة التنفيذية . وبالنسبة لمؤسسة القضاء ، فيلاحظ أن الدساتير غالباً ما تضم نصوصا نبيلة مستمدة في الغالب من مصادر أجنبية ولكن كثيراً من نصوصها يبقى حبراً على ورق وكثيراً ما يعطل العمل بالقوانين العادية، وتفرض حالة الطوارئ لسنين طوال وتسن القوانين لصالح الاستبداد، وقد لا تنفذ القوانين الحامية للحريات حتى وإن حكم بها القضاء، ويعانى سلك القضاء في بلدان المنطقة من مشكلات عديدة تقلل من هيبته، وفي النهاية من استقلاله وفي مقدمة ذلك تعمد الحكومة عمداً الإحجام من تنفيذ أحكام الجهات القضائية والتحايل على استقلال القضاء  .
إن الدرس الذي تستخلصه من واقع تتبع خبرات مسالك النظم العربية ، أن هناك علاقة جد وثيقة بين درجة مؤسسات المنظمات والإجراءات السياسية والقدرة على التكيف مع المتغيرات الخارجية والتحديات الداخلية بنجاح  والتعامل مع قوى التغيير بفاعلية والاحتفاظ في ذات الوقت بتوازن النظام السياسي
© منبر الحرية ،24 يونيو / حزيران 2010


[1] Max Weber The Theory of Social and Economic Organization translated by AM. Henderson      and Talcott parson Edited with an introduction by Talcott parcons(New York Oxford Univ Press 1947 pp 120-126).
(3) Samuel p .Huntington , political order in changing societies (New Havern ct: Yale unin press,1968)p.24

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

مازال فهمنا قاصرا حول مسألة الديمقراطية، فلا توجد مؤشرات توحي للنظم الديمقراطية بأنها دخلت في صلب حياتنا اليومية، رغم أن معظم مؤسستنا وأحزابنا الايدولوجية تنتهي أسمائها  ( بالديمقراطية ) إلا أنها تبقى حبراً على ورق، طالما لم نستطع أن نقوم بعملية التحول إلى الديمقراطية( قولاً وممارسةٍ)، وأن نشعر بانتمائنا إلى الوطن، وأن نمارس وطنيتنا  بموجب أخلاقيات الهوية والانتماء
.
الانتخابات احتلت الجانب الهام ببعده السياسي للديمقراطية. فممارسة الانتخابات بشكل ديمقراطي كما يقال تركت للمواطن الإحساس أنه مواطن وهو مصدر السلطات، ولو أنه يعي جيدا أنها فترة وجيزة تنتهي كقيمة  سياسية، وينتهي حلمه معها .
الديمقراطية وبموجبها تتحقق المساواة والعدالة الاجتماعية والتي بدورها تحقق للمواطن الاستقرار والأمن، كل هذه الأحلام الجملية تنتهي بمجرد انتهاء العملية الانتخابية، ولمسنا ذلك من خلال التجارب الانتخابية في أكثر من مكان. مع أن الانتخابات كانت تبدو ديمقراطية حسب آراء وتقارير المراقبين الدوليون لعمليات انتخابية مثلما  حصل في( فلسطين، مصر، العراق….الخ)
أسئلة مشروعة
ويبقى التساؤل القائم وهو مشروع إلى متى نتكلم ولا نفعل إلا القليل؟، إلى متى نبقي عملية استيراد المفاهيم مثلها مثل بضاعة ستوك؟ لعدم قدرتنا على تسويقها في سوقنا الاجتماعية، ورغبتنا الفطرية بالهوية والانتماء لمجتمعاتنا؟، هذه الأسئلة تبقى في نسق التساؤل، ونبقى نستورد المفاهيم  من دون أن نستطيع أن نطبعها ونجعلها في صلب حياتنا اليومية
.
وصحيح أن الانتخابات تلبي الجانب المرتبط بعلاقة الفرد بالدولة والعكس أيضاً، خالقة بذلك الجانب السياسي للديمقراطية، حيث يعطى الفرد المنتمي إلى الدولة صفة المواطنة، والتي بموجبه يستطيع المواطن إفراغ كمونه السياسي بممارسة الانتخابات، متطلعاً لعلاقة بين الأفراد عن طريق المواطنة( الوطن للجميع)، ويكون طريقة لاتخاذ القرارات بمشاركة جماعية، فلا مواطنة دون الديمقراطية، ولا ديمقراطية دون المواطنة.
الديمقراطية تتعلق بكيفية اتخاذ القرارات، فاتخاذ القرارات بشكل ديمقراطي، أي وفقاً لرغبة الأغلبية، يعني بالضرورة أن تكون المجموعة التي يتخذ فيها القرار محدودة ومعروفة، أما الانتخابات السياسية فهي تتعلق بالدولة، أي أنها تهم مجموع المواطنين.
الديمقراطية لا تختزل بالانتخابات
إذا لم تحقق الديمقراطية سيادة القانون أي سيادة الشعب (القانون الذي يحوي الجميع تحت مضلته)، والانتماء للوطن، وإذا لم يكن القانون فوق الجميع على الحاكم والمحكوم، والكل متساوون ومتحابون في المجتمع، وإذا لم تحقق المساواة والعدالة بين الجميع، فكيف يتم الاستقرار والأمن؟ معادلة الديمقراطية لا تتحقق إلا  بثالوث (الحرية والمساواة والعدالة)، فلن يكون هناك شيء نستطيع أن نقول عنه بأنه نظام ديمقراطي وبامتياز.
فكيف لنا أن نقول عن نظام أو دولة تقوم بعملية الانتخابات ولو بشكل شبه ديمقراطي بأنه ديمقراطي؟، ومن خلال هذا التساؤل نستطيع الاشارة إلى أن الديمقراطية لا تختزل فقط بالعملية الانتخابية  كما هو دارج لدينا، فشعوبنا لم تتشرب بعد النفس الديمقراطي، فكيف أكون مواطناً ديمقراطيا مع أنني محروم من أبسط  حقوقي العامة وحرياتي، سواء كانت الحقوق سياسية أو مدنية أو ثقافية أو اجتماعية، وطالما مازلنا في عصر يردد الشعارات التي يخدم بها جهة صناع القرار في الدول ذات النظم الاستبدادية الذي بدوره يختزل الديمقراطية والانتخابات في شخصه، فهو الديمقراطي وهو الذي يعرف مصلحة المجتمع كله.
متطلبات الانتخابات الديمقراطية
من متطلبات العملية الانتخابية أن تكون حرة ونزيهة، وأن لا تكون هناك تجاوزات من قبل القائمين على العمليات الانتخابية في فرض سلطاتهم على الانتخابات، وأن تقوم بدورها المنوط إليها حسب المعايير والمواثيق الدولية، وأن تتمثل في الإطار الدستوري للنظام الديمقراطي. فمعيار قوة الانتخابات الديمقراطية، هو أن يكون للانتخابات مقاصد ووظائف ويترتب عليها مجموعة من النتائج الفعلية في نظام الحكم، وليست أن تكون هدفاً في حد ذاتها
.
معيار حرية الانتخابات الديمقراطية يتمثل في كون الانتخابات تُجرى في ظل قاعدة حكم القانون، وتتسم بالتنافسية، وتحترم الحقوق والحريات الرئيسية للمواطنين.
معيار نزاهة الانتخابات الديمقراطية، يعني أن الانتخابات تتم بشكل دوري ومنتظم، وتتسم عملية إدارتها والإشراف عليها وإعلان نتائجها بالحياد السياسي والعدالة والشفافية.
وعندما يكون القانون فوق الحاكم والمحكوم ، أي سيادة القانون ودولة القانون تتحقق المواطنة على أساس المساواة والكرامة والعدالة.
© منبر الحرية ،يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

منذ سقوط الدكتاتورية وصفاء سماء البلاد من غيوم عبوديتها ووسائل استلاباتها النفسية والفكرية، لم تتحرك سائر القوى السياسية نحو ترصين المواقع المنتهكة بفعل تلك السياسات المبتذلة، وعلى عقود متعاقبة نخرت في العقول الذبيحة وشلت  الطاقات المتعددة قرباناً لوتد السلطة التي من اجلها سملت العيون، وتقطعت الأبدان وخلفت آثار ومخلفات بحاجة إلى جهود وطنية مخلصة وخالصة، لأن غسل أدران الماضي لهو من أولى الموجبات الوطنية.
وبرغم الماضي الثقيل الزاخر بألوان المعاناة، وشتى صنوف الآلام والتي تشكل منعطفاً حيوياً من أجل قراءته بوعي لفك التلازم القسري بين سياسة الجبر والإكراه، والتطلعات المشتركة للمكونات العراقية التي تعد إحدى ميزات تلك المراحل الغابرة، ففطنة النخب تغيب وتتغيب عن دروس كثيرة قريبة وبعيدة، وتلك مواصلة شاذة لواحدة من أسوء ممارسات الماضي المفضية إلى ضياع المشتركات المؤدية إلى التلاحم والحوار والمنطق العقلاني الذي يذلل الصعاب ويفك العقد المزمنة ومواريثها الكريهة.
افتقاد الأرضية المشتركة بين المكونات الاجتماعية العراقية مثلت حجارة سنمار في بناء الدولة العراقية في آب عام 1921، وحيث الحاضر الجديد حينها مثل امتدادا لماضي تعسفي بغيض، فعاشت دولة مهزوزة تمزقها الصراعات، وحبلى بأشكال المؤامرات التي استنزفت الموارد البشرية والاقتصادية وما تزال تداعياتها حتى اللحظة تساهم في تحطيم مجتمعي منظم، إلى جانب خسارة الطاقات الطبيعية والبشرية والتي شخصت العيون إلى الخارج في كل الاحتياجات والموارد، وتلك تبعية ذاتية بامتياز لم يفرضها محتل أو غاز، وساهمت في ضياع شيء من الاستقلال بالضرورة، وقيدت الإرادة بالحاجة. تلك إحدى محن الأمس أترى تنفع الذكرى ؟!. بناء هيكل أرتكازي لأصول المفاهمات ، والحوار، والتواصل أمر ضروري من أجل التطلع إلى المشاورة الخارجية البعيدة عن الواقع وحركته، والحاملة لمنظار يفتقر إلى جوانب القراءة المتعددة، كونها منطلقة من بعد أحادي بلغة المصالح والتي ما أكثرها في ظل سباق النفوذ المحموم، وحسابات مجريات الصراع،  بعد أن أصبحت البلاد ساحة مكشوفة لشتى أشكال المطارحة.
عقدة التشاور على طريقة استقدام آراء الآخرين لشجون داخلية تضيف منقصة جديدة لاستقلالية الرأي الحصيف، وغياب النظرة الموضوعية، ومراهقة سياسية تفتقر إلى النضوج والتحسب، فجوهر التشاور الخارجي في كل مكان أبدى وجهة النظر الوطنية إزاء قضايا إقليمية ودولية مشتركة، ورحلة بحث عن رؤية مشتركة، لكن تبني رأي الآخرين من خارج السور العراقي في قضية وطنية هي لعبة خطرة، وفي نفس الوقت مضحكة، وهي إحدى العقد التي عاني منها العراق كثيراً، وحيث عدد من ساساته في عهديه الملكي والجمهوري صرحوا بأنهم أقدموا على اتخاذ قرارات ظالمة لمكونات عراقية بناء على متطلبات سياسية تم إملائها من الخارج وآخرهم  رأس النظام المخلوع.
في تاريخ العراق السياسي ثمة أسلوب للتعبئة لأهداف تتنافى مع أهداف ومصالح المجتمع، لكنها ظفرت بشيء من المقبولية والتدافع، لاعتمادها  العزف على أوتار العاطفة وشبوبها على أنغام أيديولوجية، وطروحات فكرية، ومواقف متصيدة في المياه العكرة، فهل من مصلحة لتوظيفها مجدداً ونحن نتحدث عن عراق جديد ؟!. وما الجديد إذ يتم بعث القديم بثوب مهلهل جديد لا تغيير فيه سوى شخص الفاعل وهويته، والتي  ما عادت تتماشى مع الإيقاع السياسي المتغير دورانه في أرجاء المعمورة، ألا يكفي أنها تذكر البلاد والعباد بماضي بغيض وفصل مسرحي مخادع.
في مجرى المشهد السياسي وتداعياتة المتدحرجة لا تلوح في الأفق أية شاردة أو واردة على جهود متجهة نحو صياغة أرضية جامعة بمفردات وطنية تنأى بأوضاع البلاد  المزرية، وتتجه نحو درء مخاطر المهاترات الفوضوية، والعنتريات البائسة، والانتباه إلى أوضاع البلاد التي مازالت ترزح تحت ثقل مواريث السياسات السابقة، وآثار الحروب الكارثية، والتدمير والتي لم تمتد إليها يد الإعمار والبناء، بل أضافت الأوضاع الجديدة بأخطائها وحداثتها، ولغة السلطة ومكاسبها هماً جديداً لم تألفه من قبل، ولا ندري لم التهديد والوعيد في بيوت الزجاج ؟!.
غياب وحدة المواقف والاتفاق عامل في تعليق العديد القضايا الوطنية وملفاتها وتعريضها للتدويل والمحاكاة الخارجية التي لا تنظر بعين الوطن، فضلا عن إساءتها إلى تاريخ  البلاد الحافلة أرضها بإرث حضارات مشهودة، ومن هنا أهمية إدراك القوى السياسية لتولي معاولها شطر الحفريات السوسيولوجية والسياسية من اجل انتزاع المشتركات من بطون التاريخ بدلا من صراع الديكة، فهذا أجدى وأنفع. ارتهان الحاضر بإرادة محاصرة من شأنها جر البلاد إلى أتون دوامات موجعة، لا تستطيع منه فكاكا في المنظور القريب، وآية ذلك لغة التهديد والخطابات النارية برهن المكاسب السلطوية، والتي تتحدث عن الرجراج الذي سيطال الاستقرار السياسي، وكأن الاستقرار المهزوز المتحقق قد امتلك زمام المبادرة نحو بلاد أكثر أمناً ورخاءا.  لكن في لغة السياسة الدارجة لم يسمع أحد بارتهان أمن المجتمع لغايات سياسية من قبل قواه السياسية وهي سابقة تسوقها الفصول المرة من التجربة العراقية الجديدة التي تفتقر في بعض مفرداتها من قبل البعض إلى الحياء المجتمعي والخجل الأخلاقي.
تتوالى الأشهر فيما الفرقاء السياسيون بانتظار نتائج القرعة عسى أن تميل الكفة لأحدهم وسط تناسي ساذج للمتطلبات الدستورية ومحدداتها العددية بشأن تشكيل الحكومة وما يتطلبه ذلك من تحالفات. لاشك بأن هنالك مساجلات منتظرة، ومناظرات عقيمة حال ظهور النتائج، بدلا من التفكير الجدي لإيجاد مخارج للحالة الراكدة التي تشير إلى توقف استثنائي غير مقبول على طريق مواصلة المشوار الديمقراطي، والسير الحثيث نحو إيجاد المزيد من فرص الحلول المتاحة والبدائل المقبولة، كي تستقيم حالة البلاد والعباد.
أن يتم تبني المواقف التصعيدية الصلبة ، والدخول في معمعات متواصلة، وتأجيج نيران التراشق السياسي ستولد أزمة سياسية تقود دوامة الدوران في الحلقات المفرغة، والتي لا تعكس سوى اللامبالاة اتجاه ما يجري على أرض الواقع من كوارث مزرية، تتعلق بأبعاد سياسية ، واجتماعية ، واقتصادية حافزة لخلق إشكاليات معيقة لبناء الشراكة المفترضة بين المجتمع والنخب السياسية من أجل مصداقية المشروع السياسي، ونيله الثقة المطلوبة والتي تفصح عن نفسها من خلال العزوف عن المشاركة في الانتخابات وبنسبة وصلت إلى 40%  بشكل تدريجي ومتصاعد. فقدان الثقة  وضياع المعايير مؤشر يستهدف ركن البناء الأساسي في العملية السياسية الديمقراطية وهو المجتمع، وما يدفع ذلك إلى تكسرات ومشكلات بعضها خارج عن السيطرة. إن البلاد بحاجة حقيقية إلى تفهم وإدراك النخب السياسية إلى متطلبات المرحلة وضروراتها وحساسيتها ومقابلة ذلك بما تقتضيه من تضحية، ففي خميرة الفوضى وأطنابها يخسر الجميع المباراة  بحسرة وندم، ولينظروا في تواريخ الأيام السالفة، ولغة البارحة، وحجم الوعود، وعسى أن يستقيم الجدل وتصحو  الحالة.
© منبر الحرية ، 31 ماي /أيار2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

في دولنا العربية نحظر تولى المناصب القيادية بالمؤسسات القومية بعد سن الستين، و تخرج كثير من توصيات المؤتمرات على التأكيد على هذه النقطة لإعطاء فرصة للكوادر الشابة لتولي هذه  المناصب، و ضخ دماء جديدة في شرايين مؤسساتنا المتصلبة فيما يعرف اصطلاحياً ب ( تداول السلطة ) ،  لكن هل منا من توقف عند عبارة  ستون عاماً قليلاً ليسأل ماذا تعني تحديداً لمسئول في منصب قيادي؟!
رجل زادت خبرته التراكمية بصورة طردية مع زيادة أعباءه الصحية التي ستؤدي بدورها إلى خلل غير مقصود في إدارته لمنصبه، و خاصة إذا كان يعاني من أمراض الشيخوخة و هذا من بديهيات الطبيعة.
و طبقاً لعلم الفسيولوجيا فالشيخوخة هي عملية بيولوجية حتمية تمثل ظاهرة من ظواهر التطور أو النمو التي يمر بها الإنسان، إذ أنها تعني مجموعة من التغيرات المعقدة في النمو والتي تؤدي مع مرور الزمن إلى تلف التركيب العضوي في الكائن الحي وبالنهاية إلى موته.
ولقد اختلفت الآراء كذلك في الوقت الذي تبدأ فيه الشيخوخة.
وتتخذ الإحصائيات سن الخامسة والستين قاعدة الشيخوخة، حيث تفترض أن معظم جماعة المسنين توجد فوق هذه السن ولا توجد تحتها.
وكلمة المسن في اللغة تعني:  الرجل الكبير ، ولذلك يقال أسنّ الرجل إذا كبر.
وفي الاصطلاح :  هو كل فرد أصبح عاجزاً عن رعاية وخدمة نفسه إثر تقدمه في العمر وليس بسبب إعاقة أو شبهها، وإن كانت بعض المنظمات الدولية تعرفه تعريفا إجرائيا تسهيلا للتعامل فتقول المسن هو (من تجاوز عمره الستين عاما).
و يوجد عدة تصنيفات للمسن ومنها:
المسن الشاب والذي يبلغ من العمر 60-74 سنة.
المسن الكهل والذي يبلغ من العمر 75-84 سنة .
من العمر 84 سنة  فأكثر . المسن الهرم والذي يبلغ
وتختلف المصطلحات المستخدمة لوصف كبار السن اختلافا كبيرا، حتى في الوثائق الدولية. فهي تشمل : (كبار السن) و (المسنين)، و(الأكبر سنا). و(فئة العمر الثالثة) و (الشيخوخة)، كما أطلق مصطلح (فئة العمر الرابعة) للدلالة على الأشخاص الذين يزيد عمرهم على 80 عاما.
وتستخدم الأمم المتحدة مصطلح (كبار السن) وهو التعبير الذي استخدم في قراري الجمعية العامة 47/5 و 48/98. ووفقا للممارسة المتبعة في الإدارات الإحصائية للأمم المتحدة، تشمل هذه المصطلحات الأشخاص البالغين من العمر 60 سنة فأكثر، (تعتبر إدارة الإحصاءات التابعة للاتحاد الأوروبي أن (كبار السن) هم الذين بلغوا من العمر 65 سنة أو أكثر، حيث أن سن الـ 65 هي السن الأكثر شيوعا للتقاعد).
وأشار تقرير السكرتير العام للأمم المتحدة عن المسنين 1973م، والذي وضع بناءا على قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 2842 إلى وجود اختلاف في الأفراد بالنسبة لشيخوختهم، فالبعض تبدأ عليه مظاهر الشيخوخة في سن 45 سنة بينما تبدو لدى البعض في سن 75 ويبقى أغلب الناس فوق سن 65 سنة في بيوتهم ويعتبرون قادرين نسبيا على رعاية أنفسهم بالرغم من تناقص قدراتهم،
ومن الآثار المصاحبة للتقدم في العمر قلة حركة المسن مما يزيد من نقص المرونة. كل هذه العوامل تؤثر على حركة المريض، وتعوقها خاصة في منطقة الرقبة والجذع والحوض ويؤدي أيضا إلى تهديد توازنه، ومع تقدم السن يقل سمك غضاريف المفاصل وتتآكل وتصبح حركتها مؤلمة.
أما التغيرات الجسمية غير المرئية فمنها ارتفاع ضغط الدم والإصابة بمرض السكر وغير ذلك من الأمراض غير المرئية:
عدم سهولة الانتقال من مكان لآخر
الشعور بالإرهاق والتعب الدائم
الإحساس  المتزايد بالألم
فقد القوة والاحتمال
عدم القدرة على التركيز
وأما التغيرات النفسية أهمها القلق والخوف.
ومن أبرز مظاهر التغيرات العقلية نجد النسيان وضعف الذاكرة .
فيما يؤدي المسنون وظيفة اجتماعية حيوية، تتمثل في أبسط صورها في تقديم خبراتهم وإرشادهم لمن حولهم في كافة جوانب الحياة.
و في الوقت ذاته لا يعني ما قيل سابقاً عن الأمراض التي تصيب المسنين أن عليهم قصراً التقاعد في منازلهم، و لكن و بكل تأكيد هناك دور كبير عليهم أن يؤدونه بما يتناسب و المرحلة العمرية التي يمرون بها وهو التوجيه و الإرشاد للقيادات الشابة ممن تتوفر فيهم مقومات القيادة الرشيدة، وهذه الفلسفة التي نراها للأسف غائبة عن كثير من مؤسساتنا العربية فالخوف يتصدر الموقف من نقل خبرة الكبار للصغار و هذا خوف فسيولوجي طبيعي يجب قهره بقوانين صارمة تنظم هذه العلاقة في إدارة الهيئات و المؤسسات المختلفة في مجتمعاتنا العربية .
من خلال ما سبق كيف نتصور حال  أمم و شعوب يقودها حكام في سن قد تخطوا هذا السن الموضوع لإدارة شركات و مؤسسات كبرى بهذا الرصيد من التأثرات النفسية و العقلية البيولوجية السابق ذكرها، و التي من شأنها أن تؤثر على قدرة الحاكم على الإلمام الكامل بمشاكل شعبه، و تؤثر على اتخاذه قرارات تحافظ على كرامة محكوميه نظراُ لطبيعة هذه المرحلة التي يسيطر عليها الاستكانة و الخوف من الدخول في مخاطر أنفاق استرداد الكرامة الوعرة و الميل للسير في أمان خلف أذناب بائعي رايات السلام المزعوم .
فيما نرى أن كراسي السلطة في أوطاننا إرث مستحق  غير قابل للاسترداد،  و لا نعلم لماذا لم تأخذ الدساتير في دولنا العربية بعين الاعتبار تقدم العمر و ارتباطه بالقدرة والكفاءة على تسيير أمور البلاد وشئون العباد و اقتصرت في سن القوانين المرتبطة بسن التقاعد لعامة الشعب أليس أولى بالحاكم أن يتبع ؟!.
© منبر الحرية ، 22 ماي /أيار2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

بعد الرعيل الأول وقناعتهم الكاملة بالحرية كسبيل للتقدم، جاء رائدان للفكر العربي هما: السيد جمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده .
وبالنسبة للأفغاني فعند بحث المناظرات الجدلية التي أسهم فيها بنصيب وافر ضد العالم الفرنسي ارنست رينان، والمفكر الهندي سيد احمد خان صاحب نظرية “النيتشارية “المتفرعة عن “البابية”، والمتصوف السوري الشيخ أبو الهدى الصيادي. هذه المناظرات تبين فهم السيد جمال الدين للإسلام، ويمكن حصر هذا الفهم في ثلاثة معان :
أولا- فكرة الوحدانية المطلقة التي تؤدى إلى فكرة المساواة بين البشر عند الله .
ثانيا – الإيمان بعقل الإنسان الذي يستطيع أن يدرك حقائق الكون، وذلك خلافا للهندوسية واليهودية اللتين لا تعترفان بهذه المساواة، كذلك المسيحية تنكر على البشر – ماعدا رجال الكنيسة – الفهم المباشر للحقيقة الإلهية. والإسلام وحده هو الذي يسوي بين الناس في القدرة على فهم أسرار الدين وحقائقه، لأن  الشريعة المنزلة على النبي العربي هي نفس قانون الطبيعة الذي يفهمه الإنسان من دراسته للكون .
أما ظهور الأنبياء بين الناس، فسببه أن الناس مع قدرة عقولهم على الوصول إلى حقائق الكون، فإن طبيعتهم البشرية لا تستطيع أن تطبق القرآن على جميع النظم في الحياة الحديثة، وإلا الحال هي الإشراف على التنفيذ وجبر الناس على مراعاة القواعد التي قضى بها العقل البشرى.
وينتج عن هذا أن باب الاجتهاد ينبغي أن يظل مفتوحا، وأن القرآن يجب أن يفسر تفسيرا عقليا منطقيا، وبهذا نستطيع أن ننفذ فهم العقل لهذه الحقائق. ويعتقد السيد  جمال الدين أن السر في قوة الأوروبيين لا يكمن في مسيحيتهم وإنما مرجعه أنهم نشأوا في إطار دولة قوية هي الدولة الرومانية، و أن ضعف المسلمين ليس سببه تدينهم بالإسلام، بل سببه أنهم لم يتبعوا تعاليمه إتباعا كافيا، وأن سر القوة كامن في الديانة الإسلامية التي تحث على الوحدة والتضامن .
ثالثا- هو أن الإسلام دين العمل والنشاط ، وبالتالي فإن المجتمعات لا تستقيم أمورها إلا بتنفيذ إرادة الله، وإرادة الله ماثلة في القرآن، فلو اتبع المسلمون ما في القرآن من تعاليم نفذوا إرادة الله، بشرط أن يكون تنفيذهم لها بمحض إرادتهم، وهذا هو معنى العمل والنشاط، أي العمل على تنفيذ إرادة الله تنفيذا اختياريا. والنتيجة التي يصل إليها السيد من هذا هي أن قوة المسلمين في اجتهادهم وسعيهم لا في تقليدهم .
وهذه المعاني الثلاثة هي نقطة البداية في تفكير ألمع تلاميذ السيد جمال الدين : الشيخ محمد عبده. فقد لاحظ – كما لاحظ أستاذه – تدهورا داخليا في المجتمعات الإسلامية لم يلحظ مثله في المجتمعات الأخرى. ولم يكن الشيخ معارضا للتقدم الذي منبعه الحضارة الأوروبية، إنما كان الخطر في نظره ناشئا عن نمو حركة مدنية في مجتمع جوهره غير مدني. وكان شغله الشاغل هو التوفيق بين قواعد الإسلام والحضارة الحديثة .
وتبدأ نظريته بالدفاع عن الإسلام الصحيح ، ومعنى الإسلام الصحيح في نظره ديانة تنظم سلوك البشر وتنير طريقهم في المشاكل الكبرى بالحياة ، ولا يتأتى هذا إلا بالكتاب المنزل والعقل . فالعقل هو الذي يدرك الرسالة الإلهية ، وما لا يستطيع أن يدركه فعلى النبي أن يعينه على فهمه ، وإذن فالاجتهاد أمر لابد منه . والمجتمع الإسلامي المثالي هو الذي يستند إلى الشرع والعقل في آن واحد ، فعلى المسلم الحق أن يستعمل عقله في العبادات والمعاملات حتى يدرك كلام الله إدراكا مستنيرا.
وحينما تفهم قوانين الشريعة الإسلامية فهما صحيحا وتنفذ تنفيذا بصيرا يزدهر المجتمع ويقوى. ويدلل الشيخ عبده على ذلك بأن العصور الإسلامية الأولى كانت قمة مجد الإسلام، ثم تدهور المجتمع الإسلامي بسبب البدع والمغالاة في التصوف. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى بسبب المبالغة في التمسك بشكليات الشرع لا بروحه وجوهره، كما حدث على أيدي الأتراك. وإذا أراد المسلمون أن يعيدوا مجد أسلافهم، فعليهم أن يعيدوا تأويل شريعتهم ويطبقوها على مشاكلهم الحديثة، مستنيرين في ذلك بمبدأين، مبدأ المصلحة، ومبدأ التلفيق –أي ذلك المبدأ الشرعي الذي يسمح للقاضي بأن يختار التأويل الشرعي الأنسب للظروف والحالات المعروضة أمامه،- ولو كان هذا التأويل لمذهب يخالف مذهبه – وعلى هذا فلابد من وضع قوانين إسلامية موحدة ذات نظام حديث، تستند إلى المذاهب الأربعة جميعها، مع الرجوع للقرآن والسنة وتقاليد السلف، ولا يقتصر الأمر هنا على مجرد الصحابة والتابعين، بل يشمل كذلك كبار الأئمة من علماء الكلام.
وعندما اتجه الشيخ محمد عبده إلى ميدان السياسة، شعر بأن الإصلاح المنشود يجب أن يبدأ في البيئة التي يعيش فيها وهي مصر، لذلك كان أغلب ما كتب في السياسة ينطبق على مصر، وقد كانت مصر في أمس الحاجة إلى تربية قومية صميمة، لذلك اتجه إلى إنشاء المدارس ، وكان على استعداد لأن يتعاون مع أية سلطة تساعده في تحقيق هذا الغرض، ومن هنا نشأ خلافه مع السيد جمال الدين، وعدم تحمسه للإسهام في الثورة العرابية .
© منبر الحرية ، 1 ماي /أيار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لازالت السياسة في البلاد العربية، رغم انتخابات العراق وعودة البرادعي في مصر وبعض الأجواء الديمقراطية الايجابية في بعض المواقع العربية مثل الكويت ولبنان،  حكرا على فئة مسيطرة أو فرد قائد أو جناح من عائلة أو فئة من طائفة.  بمعنى آخر لازلنا في البلاد العربية في مرحلة ما قبل الثورة الديمقراطية وأفاق اجتياحها لعالمنا في السنوات العشر القادمة. السياسة حتى الآن عند العرب هي سياسة سيطرة من الأعلى. وفي هذا النمط من السيطرة أوهام حول القوة والثبات، لكنها في الجوهر مليئة بالتناقضات والهشاشة.  لقد سيطر في البلاد العربية حكم الاستخبارات قبل حكم المعلومات والعلم، وحكم القوة قبل حكم الحكمة، وحكم العائلات وفروعها والقبائل قبل حكم المؤسسة والدولة بصفتها مساحة الجميع، وسيطر أيضا حكم التفسير الأصولي قبل التفسير المجدد والمتنور. حتى اللحظة العالم العربي يعيش مأزق السياسة وكيفية التعامل مع الدولة.
لكن مشكلة التحول إلى الديمقراطية مرتبطة حتى الآن بضعف الطبقة الوسطى العربية. فغياب هذه الفئة الأساسية  للتقدم هو احد أهم  مسببات تراجع العالم العربي عن مشروع التحديث والتنمية الذي بدأ في النصف الأول من القرن العشرين.  بلا طبقة وسطى مستقلة فاعلة اقتصاديا وغير معتمدة على الدولة لن يكون هناك نجاح في التقدم والحريات والتنمية في البلاد العربية، بل ستسير الدول العربية حتما نحو حالة من الفشل والفوضى.
وتؤكد لنا تجربة الغرب وتجارب مجتمعات أخرى غير غربية بأن الحقوق والحريات والديمقراطية تتطلب طبقة وسطى مستقلة. فمن خلال نمو الطبقة الوسطى نجحت التجارب العالمية في تحديد الفساد وفصله عن احتكار السلطة ونجحت بنفس الوقت في عملية التوسع في الحريات والحقوق وتحديد صلاحيات الطبقة الحاكمة من الملوك والرؤساء وتحديد مدد بقائهم في السلطة انطلاقا من مدنية الحكم.   إن سعي الطبقة الوسطى في التجارب العالمية لحماية استثماراتها ومستقبل انتماءها للأوطان التي نشأت فيها جعلها تسعى إلى ضمانات لحرية الرأي والمعرفة والانتقال والتجارة ووضوح الإدارة والشفافية وتداول السلطة.  هذه التطورات هي المسؤولة في المجتمعات العالمية عن التجديد والنمو والتنمية والإدارة الحديثة والمستقبل الواعد والجامعات المتقدمة والمرافق العلمية والطبية والبحثية.
في الحالة العربية التنمية ترتبط حتى الآن بوجود الكثير من التلاصق بين الذين يقودون الدولة وبين الذين يسيطرون على الاقتصاد، وفي هذا إفساد للتنمية وإدخال لها في طريق مسدود لا يختلف عن ذلك الذي دخل فيه الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه المفاجئ. إن أصحاب السلطة في الدول العربية هم شركاء في الاقتصاد، بل يصعب على الكثير من الشركات والاستثمارات العمل في الكثير من الدول العربية بلا شريك ”متنفذ“ يكون احد أركان السلطة والحكم.  إن القول السياسي الشهير ”إن السلطة المطلقة تتحول إلى مفسدة مطلقة“ فيه الكثير من الصحة.  فكلما ازدادت الصلاحيات لدى الفئات الحاكمة كلما ازدادت نسب الفساد وانتشرت، وهذا بدوره يحد من نمو طبقة وسطى مؤثرة  مستقلة وافرة العدد قوية البنية تحترم ذاتها قادرة على القيام بأعباء التنمية وحماية الاستقرار البعيد الأمد.
كانت أول الضربات الموجهة للطبقة العربية الوسطى الصاعدة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين عندما انتشرت سياسة التأميم في معظم الدول العربية. كما ووجهت لهذه الطبقة الوسطى ضربة قاسية عندما حولتها الدولة إلى طبقة تعتمد على الدولة وعقودها مما حد من نموها المستقل. بل يمكن القول إن النفط تحول في الدول النفطية لأحد اكبر العوامل التي تحد من نمو هذه الطبقة، وذلك من خلال سيطرة الدول على الإنتاج والثروات مما حول المجتمع إلى موقع استهلاك لا إنتاج وموقع اعتماد لا استقلالية. وقد أنتجت هذه السيطرة الحكومية ضعفا عربيا واضحا في كافة مجالات العلم والإنتاج والمؤسسات.  ولم تكن عملية بروز مفكرين كبار مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد، ونجيب محفوظ ومغنين ومغنيات مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وملحنين مثل   وعشرات غيرهم في ذلك الزمن السابق سوى تعبير عن نمو الطبقات الوسطى المستقلة ومطالبها. لكن تلك التجارب لم تصمد أمام سطوة الدولة.
وقد صعب مهمة نمو طبقات وسطى عربية أن الدولة  في البلاد العربية بقيت أسيرة العلاقة المبهمة والصعبة بين الدولة والأسرة المسيطرة. لا يوجد دولة عربية واحدة بما فيها الدول الجمهورية إلا والعلاقة بين الأسرة والدولة في التصاق كما يلتصق طفل بأمه.  وبينما يمكن القول بأن هذا الالتصاق كان في السابق اصل نشوء جميع الدول وانه لا ضرر من وجوده في مرحلة، لكن الدول العربية تأخرت في عملية الفصل وذلك بسبب غياب التنمية السياسية و حالة إضعاف الطبقة الوسطى. لقد فصلت الدول الغربية ومعظم لدول العالم بين الأسرة والدولة ( لا يشترط أن يكون فصلا تعسفيا كما يؤكد النموذج البريطاني) وهذا سمح لتطور الدولة في العالم بصفتها حامية البلاد والوعاء الأساسي للتنمية والمستقبل. لكن في البلاد العربية أدى غياب هذا الفصل إلى ضعف كبير في الحالة الوطنية وتفتت المجتمعات إلى فئات وقبائل وطوائف. فإن كان الحكم اسري يحول كل المجتمع لقبائل واسر، وان كان الحكم طائفي يحول كل المجتمع إلى طوائف، وان كان الحكم خليط من الاثنين تحول كل المجتمع إلى خليط من القبلية والأسرية  والطائفية. هذا بحد ذاته يساعد على استقرار السلطة في المدى القريب لكنه يفجر الوطن في المدى المتوسط والبعيد.
ويترتب على ضعف الفصل بين القبيلة أو العائلة والدولة ضعف التزام النخب الحاكمة بحكم القانون والمساواة أمامه لجميع المواطنين. وبينما يطبق القانون على معظم المواطنين إلا أن المقربين  وبعض أهم الشخصيات المسؤولة يستثنون من الكثير من القوانين وصولا إلى الجريمة.  أما في الغرب فهناك قناعة واسعة النطاق بأن القانون ينطبق على كل الأفراد من رئيس الدولة إلى أعضاء الحكومة وبقية أفراد الشعب. وقد شاهدنا ما حل بكل من الرئيس نيكسون ثم كلينتون من خلال تجاوز القانون. فهل يقع شيء مثل هذا في دولة عربية؟
وأمام ضعف دولة القانون يتبلور ضعف آخر: عدم المقدرة على مساءلة الدولة عن أعمالها. الحكومات في الدول العربية ليست مساءلة، وهي لا تحاسب على الكوارث التي تصنعها بحق شعوبها، فواجب المجتمع مدح الدولة في السراء والضراء.  عدم المساءلة أدى إلى دولة لا تعتمد على رأي الشعب فيها.
ونظرا لضعف الدولة في المجتمعات العربية وعدم انطلاقها من شرعية انتخابية تقررها صناديق الاقتراع أولا، فقد وجدت في الدين وأسلمة بعض أو الكثير من القوانين وسيلة لتقوية شرعيتها وإعطاءها عمرا جديدا. لكن الكثير من هذه التوجهات في العديد من الدول العربية تحول لعبث سياسي واجتماعي يحولها رويدا رويدا لدول دينية تقتلع التنوع وتقمع الرأي الآخر وتحد من حقوق المرأة والطوائف الأخرى والديانات الأخرى في المجتمع بينما تضرب الطبقات الوسطى صانعة التقدم. وهذا يصب بصورة مباشرة في إضعاف الدول العربية وتفجرها القبلي والطائفي والديني في المدى المتوسط.
عصر الإصلاح سوف يبرز من هذه الظروف الصعبة. لكن مراحل التحول الإصلاحي والديمقراطي لن تكون ممكنة بلا مجتمعات عربية تحمل رؤى متنوعة وطبقات وسطى وقطاعات مثقفة صاعدة وفاعلة مؤمنة بمستقبل أوطانها. الأساس الذي نحتاجه في هذه المرحلة هو فتح المساحة للجميع:  للإسلاميين ولغير الإسلاميين للمتدينين ولغير المتدينين، وفتح المجال للكلمة المضادة ولآراء المعارضة، وفتح الباب لعودة المعارضين من الخارج بعد أن أغلقت الأبواب عليهم في الداخل. يجب أن يتم هذا فلي ظل إقرار قوانين متقدمة وحريات مكفولة وحيادية واضحة من قبل الدولة تشجع أساسا على نمو الطبقات الوسطى. هذا هو الطريق الوحيد لبناء أوطان مستقرة ولمنع سقوط الدول العربية في دوامة التفكك.
وقد يسيء البعض الحرية واستخداماتها، وهذه حجة تستخدمها السلطات في البلاد العربية لمصادرة الحرية.  لكن توفر الحرية يطور المجتمع برمته. فهل نمنع الهواء لان أحدا أساء استخدامه؟ إن منع شيء لأنه يستخدم بصورة سلبية من قبل أقلية صغيرة يساوي منع السيارات لان البعض يسبب الحوادث لألوف الناس.
إن الإصلاح القادم يجب أن يأتي بصورة مبادرات من قادة الدول العربية. فهذا أفضل أنواع الإصلاح لأنه يأتي من القمة ويساهم في تغير هادئ وسلمي.  وقد حصل هذا النوع من الإصلاح في كل من اسبانيا والبرازيل في السابق. لكن في ظل غياب هذا النوع من الإصلاح أو عدم المقدرة على تحقيقه سوف يكون هناك مرحلة من التذمر والعنف في الشارع قد تؤدي لتحديات تأتي من المعارضة. وهذا يفتح المجال لأكثر من احتمال. قد يقود هذا إلى الاتفاق مع المعارضة على تداول السلطة كما حصل في جنوب إفريقيا وبولندا.  وان لم يقع هذا سيكون هناك عنف واضطرابات كما حصل في كوريا. وربما تقع ثورات شاملة كما حصل في تشيكوسلوفاكيا والبرتغال.  ولو لم يقع أي من هذا ستنهار الدول وينفرط عقدها كما رأينا في يوغوسلافيا وفي الصومال حيث سيطرت الحرب الأهلية لسنوات. هذه أحداث ليست بعيدة عن العالم العربي في العقد القادم والذي يليه. أمامنا سنوات قاسية يجب التعامل معها بروح قيادية لتخفيف حدتها وأثارها على بلادنا.
إن طرق الإصلاح متشعبة كما أوضحنا ووسائله مختلفة منها السلمي ومنها العنيف. لكن يجب أن نحاول تفادي العنف والثورات لأنها مؤلمة ونتائجها سلبية على المجتمع كما حصل في جميع الثورات التي عرفها التاريخ بما فيها الثورة الإيرانية والفرنسية والصينية. لكن بنفس الوقت يجب علينا تفادي الجمود لأنه يوصلنا إلى الدول الساقطة والفوضى والعنف الأعمى. من هنا تنبع أهمية الإصلاح السياسي الذي يتطلب قادة لديهم شجاعة و يحملون رؤية لمجتمعاتهم و بلادهم.
ولنتذكر هناك جيل عربي يتشكل في ظل التكنولوجيا الجديدة وفي ظل الانترنيت واليوتيوب والفيس بوك والتويتير والإعلام الجديد، وهو نفس الجيل الذي يكتشف أن وطنه قد صودر منه لصالح فئات صغيرة تحتكره، بل يكتشف الجيل الجديد انه يفتقد للمكان ويفتقد للمستقبل والعمل بسبب هذا الاحتكار. الجيل الصاعد متفاعل ولا يمكن صعقه بأنظمة مركزية وطرق قيادة تقليدية وأساليب عمل تحتكر السياسة والسلطة. هذا الجيل هو الأغلبية السكانية و هو جيل التغير ووسيلته الإصلاح لكنه قابل للاشتعال والعنف كما نلاحظ من إرهاصات الإرهاب المنتشرة في بعض الدول العربية.
إن ضبط وقيعة التغير وإيصاله إلى بر الأمان يتطلب مبادرات جادة من القادة العرب، وتنشيط للطبقة الوسطى العربية  وفتح لمساحة الحرية وتنمية جادة للمشاريع الصغيرة المعتمدة على الشباب، وقوانين إصلاحية وفصل للأسرة والقبيلة عن الدول، وتأكيد على مدنية الدولة وعدم استخدامها للدين في الشأن السياسي، وإحقاق لدولة القانون والدولة التي تساءل من قبل شعبها وصولا إلى ديمقراطية فيها تداول على السلطة . إن فشل مشروع الإصلاح بإمكانه أن يحول الجيل الصاعد نحو التطرف المطلق بل وإلأفغنة بكل معانيها.
© منبر الحرية، 17أبريل /نيسان2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

إن ضعف وغياب الطبقة الوسطى هي احد أهم المسائل التي تعلب دورا كبيرا في تراجع العالم العربي.  فبلا طبقة وسطى مستقلة فاعلة اقتصاديا وغير معتمدة على الدولة، لن يكون هناك نجاح في التقدم والتنمية وضمان الحريات  في البلاد العربية. في الحالة العربية لازالت الدول هي التي تقوم بالتنمية، ولازالت الطبقة الوسطى ضعيفة محدودة بحكم كبت الدول لها عبر القوانين التي تحد من نموها أو من خلال ملكية الدول لوسائل الإنتاج والأرض والثروات. فالتنمية وفق الشروط العربية ترتبط حتى الآن بوجود الكثير من التلاصق بين الذين يقودون الدولة وبين الذين يسيطرون على الاقتصاد، وفي هذا إفساد للتنمية وإدخال لها في طريق مسدود لا يختلف عن ذلك الذي دخل فيه الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه المفاجئ. إن القول السياسي الشهير ”أن السلطة المطلقة تتحول إلى مفسدة مطلقة“ فيه الكثير من الصحة.  فكلما ازدادت الصلاحيات لدى الفئات الحاكمة كلما ازدادت نسب الفساد وانتشرت، وهذا بدوره ينعكس على الاستقرار لأنه يحد من نمو طبقة وسطى مؤثرة  مستقلة وافرة العدد وقوية البنية قادرة على القيام بأعباء التنمية وحماية الاستقرار البعيد الأمد.
إن آلية التغير والتنمية في العالم الواسع وفي الغرب بما فيها الحقوق والحريات والانتقال إلى الديمقراطية، لم تأتي إلا من خلال الطبقات الوسطى الناشئة. هذا ما حصل في أوروبا في القرن الثامن والتاسع عشر. فمن خلال نمو الطبقة الوسطى تم تحديد الفساد وفصله عن احتكار السلطة وتمت بنفس الوقت عملية التوسع في الحريات وتحديد صلاحيات الطبقة الحاكمة من الملوك والرؤساء وتحديد مدد بقائهم في السلطة.   فالطبقة الوسطى لتحد من الفساد في الدولة ولكي تحمي استثماراتها ولتضع قوتها في خدمة مشروع التنمية احتاجت في التاريخ الإنساني إلى ضمانات لحرية الرأي والمعرفة والانتقال والتجارة ووضوح الإدارة والشفافية.  إن تحديد صلاحيات الملوك والرؤساء والأمراء في ظل قوانين واضحة ودساتير وحقوق وواجبات في ظل حماية مشروع الطبقات الوسطى الصاعدة هو الذي أتى بالتجديد والنمو والتنمية والإدارة الحديثة والمستقبل الواعد والجامعات المتقدمة والمرافق العلمية والطبية والبحثية الواعدة في الغرب.  هذه كانت احد أهم أسس نمو الرأسمالية والديمقراطية.
ويختلف الأمر في العالم العربي، فأصحاب السلطة في الدول العربية هم شركاء الشركات، بل يصعب على الكثير من الشركات والاستثمارات العمل في الكثير من الدول العربية بلا شريك قوي يكون احد أركان السلطة والحكم. كانت أول الضربات الموجهة للطبقة العربية الوسطى الصاعدة في زمن القومية العربية والناصرية عندما انتشرت سياسة التأميم في معظم الدول العربية. كما وجهت لهذه الطبقة الوسطى ضربة قاسية عندما حولتها الدولة إلى طبقة تعتمد على الدولة وعقودها مما حد من نموها المستقل. بل يمكن القول أن النفط تحول لأحد اكبر العوامل التي تحد من نمو هذه الطبقة، وذلك من خلال سيطرة الدول على الإنتاج والثروات مما أحبط المجتمع وحوله إلى موقع استهلاك لا إنتاج وموقع اعتماد لا استقلالية. من هنا ضعف العرب في كافة مجالات العلم والإنتاج والمؤسسات.  ولم تكن عملية بروز مفكرين كبار مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد، ومغنين ومغنيات مثل عبد الحليم حافظ و أم كلثوم وعشرات غيرهم في ذلك الزمن السابق سوى تعبير عن نمو الطبقات الوسطى المستقلة ومطالبها. لكن تلك التجارب لم تصمد أمام سطوة الدولة.
وقد أضاف إلى صعوبة نمو طبقات وسطى عربية. إن الدولة  في البلاد العربية ظلت أسيرة العلاقة المبهمة والصعبة بين الدولة والأسرة المسيطرة. لا يوجد دولة عربية واحدة بما فيها الدول الجمهورية إلا والعلاقة بين الأسرة والدولة في التصاق كما يلتصق طفل بأمه. فالعرب لازالوا في مرحلة الطفولة السياسية بسبب هذا الالتصاق، وهذا يحد من نموهم.  وبينما يمكن القول بأن هذا الالتصاق كان في السابق أصل نشوء جميع الدول وانه لا ضرر من وجوده في مرحلة، لكن الدول العربية تأخرت في عملية الفصل. لقد فصلت الدول الغربية ومعظم دول العالم بين الأسرة والدولة كما فصلت بين الطائفة والدولة، وهذا سمح لتطور الدول ونموها وتنميتها بصفتها حامية البلاد والوعاء الأساسي للتنمية والمستقبل.
في الصين علي سبيل المثال الدولة هي الدولة وهي فوق الجميع، وهي ليست ملك لأسرة أو فئة، وان كانت تحت سيطرة الحزب الشيوعي. لكن في الصين الدولة تزداد انفتاحا نسبة للحزبية الضيقة التي سيطرت على الصين في السابق، مع الوقت تنمو طبقة صينية وسطى تأتي من أصول شعبية تحترم ذاتها ولديها رؤية ومطالب سياسية وتريد حريات اكبر وحقوق وشفافية ومحاسبة تسمح بإدامة التنمية. سيكون هذا احد أهم عناصر تحول الصين إلى الديمقراطية في المستقبل.  أما في الغرب كما في سنغافورة واليابان واسيا بل وفي أمريكا اللاتينية فالدولة أعلى من الجميع وأعلى من الملوك والأمراء والرؤساء ولديها طبقة حرة وسطى قادرة على المشاركة والشراكة وبناء المستقبل. .
إن دعوات الإصلاح في أكثر من دولة عربية قد تنجح في اخذ العالم العربي نحو أفق جديد في مجال نمو الدولة كقوة فوق كل القوى والعائلات والطوائف والقبائل والأعراق.  في ظل غياب الطبقة الوسطى تتلاعب السلطات بالمستقبل، فتارة يصبح الدين والدولة شيء واحد، وتارة تتحول الدولة إلي أسرة من خمسة أفراد، وتارة تتفكك، وتارة يصعد الإرهاب بين الفئات المستثناة وتارة يعم العنف والحروب الأهلية والغضب الأصولي وتارة ترتفع نسب الهجرة إلى بلاد أخرى.   إن المفتاح في المستقبل كان وسيبقى في مدى المقدرة على نمو قوى الطبقة الوسطى المستقلة ذات الحس المستقبلي. هذا مفتاح إصلاح المرحلة القادمة.
المصدر: الاوان
© منبر الحرية،31 مارس/آذار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

بعد المقالات الأربع السابقة حول التنمية الضائعة في مجالات الفكر، السياسة والمجتمع ثم أخيرا الاقتصاد، نخصص المقالة الخامسة والأخيرة للدين.
لقد بدأت أوربا في تحقيق حداثتها الدينية منذ عصر النهضة الذي شكل فيه الإصلاح الديني أحد أهم مظاهره إلى  جانب الحركة الإنسية والتطور الفني، وبالتالي فتح المجال أمام العقل دون قيود وذلك بوضع حد لسيطرة الكنيسة، بينما ظل الدين أداة استخدمته القوى الحاكمة في العام الإسلامي للحفاظ على الوضع السائد وتبريره (خاصة بعد عهد الخلفاء الراشدين ) ومحاربة أي تحديث في البنيات التقليدية للمجتمع العربي بدعوى الخصوصية الدينية والهوية الإسلامية .
لقد كان تسلط الكنيسة كبيرا واتخذ أشكالا ومستويات متعددة، فقد كان تسلطا دينيا (فرض عقيدة الثأليت، ترويج صكوك الغفران، الرهبانية …)، وكان تسلطا سياسيا (فرض الوصاية على الملوك والأمراء ) وكان كذلك تسلطا ماديا ( فرض ضرائب، أعمال السخرة، امتلاك عقارات …). إلا أن التحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها أوربا مع بداية عصر النهضة كان لابد أن تؤدي إلى تحول في المجال الديني.
فقد بدأت معالم الرغبة في الثورة على الكنيسة ووصايتها تنمو تدريجيا، وتغذيها مظاهر الفساد الأخلاقي والمادي لعدد كبير من رجال الدين، وحاولت الكنيسة بكل أساليبها وأدواتها قمع وإقبار هذه الرغبة في مهدها، واتهام دعاتها بالهرطقة ومحاكمتهم وإعدامهم لإثارتهم الفتنة. يقول مارتن لوثر:( كيف تحملنا نحن الألمان هذه السرقة والنهب لأموالنا..وما هذا النظام البابوي ؟ إنه نظام شيطاني .. إنه يقود المسيحيين نحو الخراب الجسدي والنفسي ..فمن واجبنا مواجهته….).
إن التحولات الفكرية التي شهدتها أوربا في إطار الحركة الإنسية، والتي أفرزت عدة نظريات، خاصة في مجال علم الفلك أدت إلى اقتناع العقل الأوربي بعدم امتلاك الكنيسة للحقيقة، وبالتالي ليس لها الحق في احتكار تفسير الكتاب المقدس والوصاية على الجانب الديني للإنسان. لقد أدى هذا التطور إلى بروز عدة مصلحين نددوا بابتعاد الكنيسة عن دورها الروحي الحقيقي والاهتمام بالمسائل الدنيوية، وأيد هذا الموقف عدد كبير من المفكرين الأنسيين، وكذلك الأمراء الذين كانوا يرغبون في الحصول على ممتلكاتها (الكنيسة )، فالدولة القومية الناشئة تتعارض ومفهوم الكنيسة العامة التي تدعي الوصاية على السلطة السياسية، وتصطدم كذلك مع الشعور القومي المتنامي خاصة لدى الطبقة الوسطى. وفي هذا الإطار جاء المذهب البروتستانتي ( لوثر، كالفان …) لينتشر في  نصف أوربا تقريبا خلال أربعين سنة، ويؤيد الشعب الإنجليزي الملك هنري الثامن في انفصاله عن الكنيسة الكاثوليكية، هذه الكنيسة التي أعطت لنفسها طابعا تنظيميا أكثر مما هو ديني. ورغم الحروب الدينية الطويلة وبشاعتها إلا أنها كانت ثمنا لفرض التحديث الديني الذي واكب التجديد الحاصل في مختلف المجالات. لقد شكلت حركت الإصلاح الديني ثورة ضد الاستبداد الكنيسي كما شكل الفكر الإنسي ثورة ضد القيود المفروضة على العقل، وهذه الثورات كانت تستند إلى طبقة اجتماعية ناشئة تملك مشروعا حداثيا  متكاملا.
إذا كانت الكنيسة قد فرضت سلطة مطلقة على كل جوانب الحياة وتحكمت في قوانينها باعتبارها مالكة للحقيقة المطلقة ( والاعتقاد بامتلاك الحقيقة يولد الاستبداد )، وبالتالي كان من الواجب الثورة عليها والتخلص من سيطرتها، فإن العالم العربي لم يعرف جهازا دينيا متحكما ويعتبر نفسه واسطة بين العبد والرب. كما أن الدين في عالمنا العربي لم  يعارض  أبدا سعادة الإنسان وبحثه عن الحقيقة واستعمال العقل  ( كما كانت الكنيسة  تروج لفكرة الشقاء والخطيئة ومحدودية العقل البشري )، ورغم ذلك ظلت التنمية غائبة وعوض أن يشكل الدين باعثا على النهضة وتحقيق الحداثة العربية ثم استغلاله لتبرير واقع متخلف والحفاظ عليه .
ونعود كما فعلنا في المقالات السابقة لنطرح السؤال، لكن بشكل مختلف قليلا : هل نحتاج في عالمنا العربي لإصلاح ديني ؟
لقد ظلت أي دعوة إلى التحديث أو الإصلاح الديني تقابل بالتشكيك أحيانا وبالرفض أحيانا أخرى، وظل دعاة الإصلاح يتهمون خصومهم بالتزمت وقمع الأفكار والإبداع ومحاربة التحديث …، وهؤلاء يتهمون الفريق الأول بمحاربة الدين وجر المجتمع إلى الهاوية وهدم قيمه الموروثة، بينما ابتعد الفريقان عن جوهر المشكل : كيف نجعل الدين عاملا من عوامل تحقيق الحداثة، واعتباره مكونا من مكوناتها كالفكر والاقتصاد والمجتمع ….؟
خلال القرن 19 طرح رواد الحركة السلفية إشكالية تخلف المجتمع العربي بعد الاصطدام بالحداثة الأوربية ( مع الحملة الفرنسية على مصر )، ورغم اتفاق هؤلاء الرواد على ضرورة فهم الدين فهما صحيحا والعودة به إلى ينابيعه الأولى، إلا أن الهاجس لديهم ظل هو التوفيق بين الدين والعلم ( الحداثة باعتبارها عملية تعتمد على العقل )عوض الفصل بينهما دون المساس بالثوابت الدينية الكبرى. (فإذا كانت أحكام الشريعة تقوم على مستويين : مستوى الأحكام الثابتة وهي قليلة ومحدودة ومستوى الأحكام القابلة للتغيير والاجتهاد  بتغير الزمان والمكان والإنسان، فذلك يساعد على جعل الدين دافعا للتحديث وليس عائقا أمامه) وقد حاول هؤلاء السلفيون توظيف الدين في خدمة العلم (محمد عبده، الأفغاني، الكواكبي ..) وحاول آخرون توظيف العلم لإقصاء الدين (شبلي شميل، فرح أنطوان …) وهكذا لم ينجح أي فريق في تحقيق حداثتنا الدينية.
إن عدم تحقيق هذه الحداثة الدينية جعل التحديث الاقتصادي والاجتماعي والفكري يصطدم دائما بمعارضة رجال الدين المحافظين، وظلت الطبقة السياسية رهينة هذه الفئة مادامت تستمد مشروعيتها منها، لذلك ليس غريبا أن يكون العالم العربي أكثر المناطق أمية (رغم دعوة الدين للتعلم ) وأشدها ركودا ( رغم أن الإسلام دعا إلى السعي والاجتهاد ).
ونتساءل أين الخلل؟ كيف نحقق ثورتنا وحداثتنا الدينية؟ هي أسئلة يجب أن نطرحها، وعلينا أن نتحلى بكثير من الصبر والشجاعة والتخلص من الأحكام والاتهامات المسبقة، وعدم استغلال الدين لفرض الوصاية، وعدم اعتباره جامدا بل عنصرا متطورا لا ينفصل عن التطورات التي تحصل في باقي المجالات. نحن في عالمنا العربي لا نحتاج إلى ثورة على الدين كما وقع في أوربا، لأن ديننا لم يكن يوما كابحا للتجديد، لكن استغلاله السياسي والاجتماعي هو العائق. ثورتنا الدينية تحتاج إلى فهم جديد يساير الزمان والمكان، يساير التطورات الحاصلة حولنا. الدين ليس ملكا لأحد ( ليس فيه وصاية كما كانت تفعل الكنيسة)، وليس لأحد الحق في احتكار تفسيره ( كما فعلت الكنيسة ). بل عنصر اندماج وتكامل وتضامن لتسهيل تنظيم المجتمع وتجديد بنياته.
© منبر الحرية، 24 مارس/آذار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

خصصنا المقالات الثلاث السابقة لترسيخ الحداثة الفكرية والسياسية والاجتماعية في أوربا، وكيف عجزنا نحن في عالمنا العربي عن تحقيق ذلك. وبالتالي استمرت البنية الفكرية تقليدية ( عدم القدرة على تحرير العقل العربي من جموده المركب ) و البنية السياسية ( استمرار الدولة القبلية عوض الدولة الأمة الحديثة ) وظلت البنية الاجتماعية جامدة (غياب أي صراع طبقي قادر على إفراز التغيير).
وفي هذه المقالة الرابعة سنواصل الحديث عن نجاح أوربا في تحقيق وترسيخ حداثتها الاقتصادية، هذه الحداثة التي انطلقت منذ  أواخر القرن 13 م من المدن الإيطالية، وأصبحت واقعا مع الاكتشافات الجغرافية وبداية عصر الرأسمالية التجارية، ثم ترسخت مع الثورة التقنية وولوج أوربا عصر الرأسمالية الصناعية في النصف الثاني من القرن 18 م، وأخيرا انطلاق أوربا نحو الهيمنة على العالم في إطار الحركة الإمبريالية في العقود الأخيرة من القرن 19 م، وبداية مرحلة الرأسمالية المالية، في حين استمرت البنيات الإنتاجية في عالمنا العربي تقليدية، ولم تشهد ثورة جذرية في تقنياتها وأساليب عملها.
لم يمنع سيادة النظام الفيودالي ذو الاقتصاد الإنتاجي  المغلق والمتمحور حول الأرض كوسيلة لإنتاج الثروة ( الريع ) من بروز تحولات عميقة في آليات وأنماط الإنتاج. هذه التحولات كان لها دور كبير في تفكك وتصدع أسس النظام الفيودالي ووضع اللبنات الأولى لنظام جديد بدأ يتبلور تدريجيا، ونعني بذلك النظام الرأسمالي الذي ارتبط به تطور أوربا في مختلف المجالات، وشكل بداية انطلاق الحداثة الاقتصادية الأوربية.
بدأت هذه التحولات في عدة مدن إيطالية ( فلورنسا، جنوة، البندقية…) حيث لم يعد اقتصادها يعتمد على الأرض كمصدر للثروة والسلطة، بل ظهرت أنشطة أخرى أصبحت تنمو وتستقطب عدد كبير من المغامرين الباحثين عن الربح بعيدا عن الأرض. أهم هذه الأنشطة التجارة، فقد شكل البحر الأبيض المتوسط مركز العالم القديم قبل الاكتشافات الجغرافية، واكتشاف العالم الجديد والطريق البحري نحو الهند، لذلك استغل الإيطاليون موقع مدنهم وانفتاحها على شرق وغرب المتوسط فاحتكروا النشاط التجاري مع المسلمين، وقد أدى ذلك إلى تحقيق هؤلاء التجار أرباحا كثيرة وراكموا الثروات من خلال توزيع بضائعهم في إيطاليا وباقي أوربا. ولم يكتف الإيطاليون بالنشاط التجاري بل استغلوا تراكم المواد النفيسة لتطوير النشاط المالي ( الصيرفة )، وهكذا برز إلى جانب التجار الصيارفة الذين بدأوا في وضع أساليب و تقنيات المعاملات المالية وتطويرها، وشكل ذلك بداية ظهور النماذج الأولى للأبناك ومؤسسات القرض. وإلى جانب التجارة والصيرفة بدأ النشاط الصناعي يتبلور من خلال تطوير تقنيات الإنتاج وأساليبه.
أفرزت هذه التحولات نخبة حضرية غنية تمكنت من الوصول إلى الحكم في بعض المدن الإيطالية كأسرة( آل ميديتشي )هذا الازدهار والرفاه الذي أصبحت تعيشه إيطاليا، دفع دول أوربية أخرى إلى محاولة التخلص من وساطة التجار الإيطاليين خاصة البرتغال وإسبانيا، وكان ذلك أحد أهم العوامل التي ساهمت في انطلاق الاكتشافات الجغرافية. وقد شكلت هذه الاكتشافات مرحلة جديدة في ترسيخ الحداثة الاقتصادية الأوربية، فقد أدى تراكم المواد النفيسة والمواد الأولية إلى دخول أوربا عصر المركانتيلية الذي شكلت البداية الفعلية للنظام الرأسمالي في مرحلته التجارية.
خلال القرن  16 و17م دخلت دول جديدة حلبة التوسع، ونتج عن ذلك توفر كل مقومات الثورة الصناعية : المواد النفيسة ( رؤوس الأموال) والمواد الأولية والنمو السكاني، وأصبح المشكل المطروح هو ضعف التقنيات المستعملة في عملية الإنتاج الصناعي. وهكذا وجهت البورجوازية كل اهتماماتها لتشجيع الابتكارات والاختراعات والبحث عن طاقة جديدة بديلة، وفي هذا الإطار ظهرت عدة اختراعات تقنية ( خاصة في مجال النسيج والتعدين ) كما ظهرت طاقة جديدة ( الطاقة البخارية ) وأدى تطبيق هذه الابتكارات في مجال الإنتاج إلى انطلاق الثورة الصناعية الأولى في النصف الثاني من القرن 18 م، وشكل ذلك مرحلة أخرى من مراحل تطور النظام الرأسمالي تجلت في التحول من الطابع التجاري إلى الطابع الصناعي. وبدأ القطاع الصناعي ينتقل تدريجيا من نظام الورشة إلى نظام المعمل حيث التنظيم المحكم للعمل وتوزيعه والبحث عن أساليب جديدة لرفع الإنتاجية وتخفيض التكلفة. ولم تكتف البورجوازية بذلك بل استمرت طيلة القرن 19م في تحديث الأساليب مما أدى إلى انطلاق ثورة صناعية ثانية، استفاد منها القطاع الفلاحي والصناعي والمواصلات، وواكب ذلك سيطرة القطاع المالي (الأبناك )على معظم الأنشطة الاقتصادية وبالتالي انتقلت الرأسمالية إلى مرحلتها المالية، هذه المرحلة التي تمظهرت في حركة استعمارية واسعة ذات طبيعة اقتصادية ومالية( الإمبريالية ). لقد كان التحديث الاقتصادي الأوربي متواصلا ومسترسلا وموازيا لكافة التحولات الأخرى في مختلف الميادين، وشكل البحث العلمي المحرك الأساسي لعمليات التحديث وتعددت الاختراعات وتنوعت، ولم يكن القرن 20م سوى امتدادا لهذه التطورات مادامت الحداثة الاقتصادية أصبحت واقعا ومنهجا في تنظيم كل عمليات الإنتاج.
ونعود لنطرح السؤال نفسه كما طرحناه في المقالات السابقة : هل عرف عالمنا العربي حداثة اقتصادية وسعى إلى وضع أسسها وترسيخها كما فعلت أوربا ؟
الواضح أن المجتمع العربي لم يعرف ثورة صناعية وتقنية، واستمرت آليات الإنتاج تقليدية وأساليب تنظيم العمل قديمة، ورغم أن الإنتاج الفلاحي والحرفي وفر الحاجيات الضرورية للاستهلاك إلا أن النمو السكاني أدى إلى اتساع الفجوة بين الإنتاج والطلب. وقد استغلت أوربا هذا الخصاص في القرن 19م لإغراق الأسواق العربية بالبضائع المصنعة ذات الجودة العالية والتكلفة المنخفضة، وكانت النتيجة انهيار حتى الحرف التقليدية التي لم تعد قادرة على المنافسة. وحاربت أوربا أي تطور تقني وكل محاولات الإصلاح والتحديث ( كما وقع في مصر مع محاولة محمد علي ). لقد ظلت المجتمعات العربية أسواقا للبضائع ومصدرا للمواد الأولية الرخيصة، ولغياب طبقة بورجوازية تحمل مشروعا تحديثيا وفكرا عصريا استمرت البنيات الإنتاجية تقليدية، واكتفت بورجوازيتنا المحلية بدور الوسيط ودعم التغلغل الاقتصادي الأوربي. واستمرت البنيات كما كانت عليه، و بعد استقلال المجتمعات العربية   انصب الاهتمام على الصناعات الخفيفة أو الإستخراجية والتي احتكرتها الشركات الأجنبية. لقد دخلت عدة دول أوربية حاليا عصر ما بعد المجتمع الصناعي، ولم تعد الصناعة المقياس الأساسي للتطور وأصبحت صناعتنا أشبه بالحرف بالمقارنة مع  الصناعات العالية التكنولوجية.
لازالت طبقتنا الصناعية تخضع في تنظيم عمليات الإنتاج لمنطق الربح السريع وفي توظيف العنصر البشري للقرابة والقبلية عوض الكفاءة والاستحقاق، وتلجأ إلى المصاهرة للحفاظ على قوتها المادية في نطاق ضيق، إنها بورجوازية في معظمها جشعة ومغرورة تعتقد أن الكل يستهدفها. وعوض أن تحترم القوانين وتفي بالتزاماتها المالية وتساهم في تمويل مشاريع تنموية لا تستهدف الربح، نجدها أكثر خرقا للقانون معتمدة على قوتها المالية، ومستظلة بحماية سلطة حاكمة لا تقل عنها خرقا للقوانين وتكرس الوضع السائد.
إن الحداثة الاقتصادية لن تتحقق إلا بوجود إرادة حقيقية في إعادة تفكيك البنيات السائدة، وذلك من خلال إقرار أنظمة ديمقراطية ذات مؤسسات قوية، وتشجيع الطبقة الوسطى ودعم البحث العلمي والانتقال من اقتصاد الريع والامتيازات إلى اقتصاد ليبرالي اجتماعي منتج.
© منبر الحرية،  23 مارس/آذار 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018