peshwazarabic

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

من كان يصدق أن النظام البولشفي الماركسي سوف يسقط ويتفكك الاتحاد السوفيتي بالشكل الذي رأيناه، ومن كان يصدق أننا سوف نعيش ونرى انهيار جدار برلين وهو الجدار الذي أحدث هذا الشرخ في ألمانيا عند نهاية الحرب العالمية الثانية،وعلى مدى أكثر من خمسة عقود. وأبعد من هذا وذاك كم كنا نستهجن عند قراءتنا للتاريخ الفرنسي، ولحقبة الثورة الفرنسية على وجه الخصوص، أن يتم قطع رأس أب الثورة الفرنسية ماكسيميليان روبسبيار على حبل المشنقة، وبموجب حكم صادر عن الثوريين بالذات، والذين رافقوا ودعموا القائد الثوري روبسبيار في بداية مسيرته ضد النظام الملكي القائم، وذلك بسبب تحوله إلى ديكتاتور سعى بعد وصوله إلى السلطة إلى الانحراف والانجرار وراء مغريات وغريزة الاستئثار بالصلاحيات التي منحته إياها الثورة.
ويمكننا أن نذهب بعيدا في سرد ما جاء في التاريخين القديم والحديث حول الثورات الشعبية، ولكن تبقى الثوابت واحدة وذاتها وهي أن الثورة أياً كان منشأها، عندما تفقد عناصر ومقومات تواصلها مع شعبها لابد لها وأن تنهار على رؤوس أبنائها أولاً، أي على رؤوس الطبقات والشرائح الشعبية التي أوصلتها، قبل أن تطال الفئات الأخرى من الشعب ولا سيما الطبقات المخملية منه. فالثورة التي تريد الاستئثار بالسلطة والتي تسعى للبقاء والاستمرار، لا بد لها من أن تعمل أولاً على مراعاة الطبقات الميسورة إذا النافذة من المجتمع، على حساب الفئات الأخرى الأقل يسرا وسلطة. فتبدأ سلطة الثورة بممارسة فالقمع والإرهاب على هذه الشرائح بالذات لإسكاتها، لأنها الأضعف والأسهل تدجيناً. تستهلك في بداية الأمر وسائل الكلام المنمق والشعارات العاطفية والغرائزية ومنها أيضاً القومية، وغالبا ما تنجح، ولكن يبقى نجاحها مرحلي حتى ولو امتد على فترة طويلة من الزمن. وفي فترات التأزم الأصعب تلجأ إلى التخويف من عواقب الانسياق والانجرار خلف التيارات الاحتجاجية أيا كان شكلها أو أهدافها. وأن تكون هذه الاحتجاجات مصدرها معاناة معيشية أم أزمات سياسية لا فرق، المطلوب من هذه الشرائح الشعبية والتي تسمى شرائح الثورة، السكوت والانكفاء وصولا إلى استعمال الأفيون مكان الخبز لا يهم، المهم التعتيم وكم الأفواه حفاظاً على سلامة الثورة ودرأً لها من الوقوع والانحلال.
وخلال فترات التأزم هذه تصبح كل الوعود بالإصلاح والتغيير واردة من قبل سلطة الثورة. ولكن أي تغيير وأي إصلاح هو ممكن في ظل الأنظمة الشمولية، خاصة إذا كانت أيضاً ثيوقراطية، وهي ميزة تعطيها الزائد من عناصر القوة، والمتأتية من التحليل الإلهي لكل تصرفاتها القمعية. فلا تغيير أو إصلاح هو ممكن على يد أي طبقة متواجدة في السلطة، وممسكة بمقاليد الحكم أو حتى على يد الفئات المعارضة لها، ولكن ضمن اللعبة القائمة، أي لعبة تقاسم الصلاحيات. وكل الإصلاحات البنيوية في المجتمع إنما تكون على يد المجتمع المدني، وغالبا ما تبدأ الإصلاحات من الدوائر الواسعة أو ألأوسع باتجاه الدوائر العليا أو الأضيق، ومن النادر حدوث العكس. وذلك بالرغم من مزاعم بعض الوصوليين الذين يدعون الإصلاح والتغيير الثوري، أو الانقلاب الجذري على المفاهيم والأعراف الذين يعتبرونها بالية وتخطاها الزمن، من الداخل أي من داخل السلطة. ولطالما رأيناهم يفضلون ويؤثرون الوصول أولا، ومن ثم يعلنون ويّدعون السعي نحو التغيير. فما من تغيير ممكن بالمهادنة والممالقة والمشاركة في اقتطاع الحصص. والتغيير الفعلي لا يحصل سوى بعد ونتيجة خضات وزعزات للهيكلية القائمة، وصولا إلى قلبها رأسا على عقب إذا لزم الأمر.
فالإصلاح ضمن السلطة وحتى ولو كانت سلطة القائمة تسمي نفسها ثورية هي مستحيلة، ولا يمكن إحداث ما يسمى بالثورة المضادة على يد المعارضة أياً كان شكلها، لأن المعارضة عادة ما تواكب تشكيل السلطة القائمة وغالباً ما تكون من العجينة والطينة ذاتها. ناهيك عن كون الشهوة في الحكم والرغبة في الاستمرار والاستئثار بالسلطة، تحتم استبعاد التغيير الفعلي والذي من المفترض أن يحصل بالوسائل الديمقراطية السليمة البعيدة عن الغش والتزوير. وهنا الشروط الديمقراطية في تداول السلطة تكون نابعة من ضرورة مواكبة العصر ومن ضرورات التكييف مع الأجيال الجديدة ومن ضرورة أيجاد على رأس السلطة أشخاصا يواكبون عصرهم، وبإمكانهم تفهم الأجيال الجديدة وتطلعاتها ومطالبها وميولها وأهدافها في الحياة. ولا يمكن لأي سلطة أن تستمر بعيدا عن التأقلم وعن التماشي مع المتغيرات الحاصلة حول العالم، كما أنه من المستحيل على أي ثورة أن تبقى على الأبد وتشيخ على رأس السلطة، دون أن تنتظر ثورة جديدة، مغايرة تماماً لشكل الثورة التي أوصلتها.
من هنا يمكن القول أنه بالنسبة لما هو حاصل في إيران كان من المتوقع أن يحدث الذي يحدث اليوم تماشيا مع سير التاريخ وسير تطور الحياة وبشكل عام. وقد تكون مجريات الأمور اليوم بوادر لثورة جديدة، ولا يمكن تسميتها بالثورة المضادة، كونها ليست حاصلة على أيدي الذين واكبوا التحركات الأولى بل على يد أبنائهم. وفي وقت شكل مير حسين موسوى أو سقوطه الظاهر في الانتخابات الصاعق الذي دفع بالاحتقان الموجود أصلاً إلى الانفجار، لا يمكن تصور المرحلة المقبلة والأمن مستتب فيها بمجرد عودة المرشد الأعلى عن مواقفه بالتمسك بالرئيس المنتخب، أو بقيام سلطة جديدة على شاكلة قيادة جماعية مشكلة من مرجعيات روحية “عتيقة” لا تمثل تطلعات الشباب الذين يشكلون الغالبية من الشعب الإيراني (70%). كما أنه من المتوقع أن تكون المعالجات مجرد مرحلية كونها لن تصل إلى لب المشكلة ولا تعالج أصل الداء والذي ليس طبعا وجود أو عدم وجود المرشد الأعلى خامنئي على رأس السلطة. وإن أخذت الحركات الاحتجاجية شعار “سقوط الدكتاتور” كما يرد ويسمع في الليالي ومن على سطوح الأبنية، تظل فكرة “الدكتاتور” مبهمة حتى الساعة وغير واضحة المعالم وغير معبر عنها بشكل صريح. وقد يظهر جليا ربما في الأيام أو الشهور المقبلة أو السنين المقبلة عن أي ديكتاتور يتكلم الشعب.وقد لا يكون رفض “الديكتاتور” بعيداً عن فكرة رفض نظام ولاية الفقيه برمته.
© منبر الحرية، 29 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لا يفلت الذين تابعوا الثقافة العربية عبر العقود الخمسة الأخيرة من القرن الزائل، إمتداداً إلى هذا اليوم، من الإنطباع القاضي بأنها ثقافة قد سقطت في فخ أو دوامة الإجترار والتكرار. وتتجلى هذه الظاهرة المؤسفة على نحو لا يقبل الشك عبر أية مراجعة، مهما كانت سريعة، لما يسمى بالدوريات الثقافية الرئيسة التي كانت تصدر في بيروت، ثم ما لبثت وأن راحت تنتشر كالفطر في مختلف العواصم العربية التي غالباً ما أرادت حكوماتها أن تبدو مواكبة لركب الثقافة العربية المعاصرة أو راعية لها عبر التودد إلى أبرز كتابها ودعاتها وممثليها عن طريق إنتاج وإعادة إنتاج ثم تسويق مجلات ثقافية من هذا النوع الذي وقع ضحية لتكرار الأفكار ولإجترار القضايا المثيرة للجدل اللانهائي الذي يملأ الرأس بالضجيج اللامجدي، ناهيك عن رعاية هذه العواصم لأنواع المؤتمرات والمهرجانات والمنتديات الثقافية والأدبية التي، هي الأخرى، تقدم البينة تلو البينة على عِنّة ثقافة وجدت نفسها حبيسة بين جدران زنزانة إختارها لها “أساطين النهضة العربية” منذ نهايات القرن الماضي لتبقى هناك تجتر ذات الأفكار وذات اللازمات عبر لغة غدت “محنطة” بسبب هذا النمط من التكرار ونظراً للعجز الذي أبداه هؤلاء “الرواد” عن إيجاد أو إبتكار مصطلح عربي موازي للتطورات المعاصرة مصطلح فكري، لا مترجم ولا معرب، بل من معطيات عقل ذكي قادر على إيجاد موطيء قدم لنفسه في عصر متغير مشحون بالجديد والمشرق.
ربما يستفز هذا المدخل هؤلاء الذين قدموا أنفسهم كفلاسفة للعالم العربي في عصره الراهن، وأغلبهم (للأسف) كانوا ناقلين أو معربين لما إكتسبوه عبر حضورهم في صفوف المدارس الأوربية، ثم الأميركية مؤخراً. لقد قدم هؤلاء أنفسهم وكأنهم “أبناء رشد” أو “ابناء خلدون” جدد، خاصة في المغرب العربي حيث كانت لعبة المصطلح المترجم أو المعرب من أكثر الألعاب إثارة وأغراء للقراء العرب من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي قاد إلى ظهور جيوش من الكتّاب أو “المحاكين” على سبيل إجترار ذات الأفكار، وذات المصطلح المرة تلو الأخرى حتى ضقنا ذرعاً بهذا التكرار الذي عبر عن نفسه في مختلف حقول وفضاءات الثقافة، إن فكراً وفلسفة، أو أدباً وشعراً: وهكذا بقينا نراوح في ذات البقعة عاجزين عن فك الإرتباط بقضايا أصبحت مدعاة للتندر والإستهزاء من قبل الغربيين المتابعين لثقافتنا الحائرة منذ يقظة النهضة حتى اليوم بين الحداثة والتراث، التراث والمعاصرة، بين الشعر الحر والشعر التقليدي، بين قصيدة النثر ونثر القصيدة، وكأن العالم ينتظر بياناً يقدمه أحد خريجي الجامعات الفرنسية لحل هذه الأزمات والأسئلة والإستفهامات الكبيرة التي أعيت جميع المثقفين العرب منذ بداياتهم عبر قراءات مجلات وصحف بيروت المختصة بهذا النوع من المجادلات اللامجدية في زمن يناقش العالم فيه قضايا ومسائل أكبر وأوسع، بينما نبقى نحن نئن ونشكي من ويلات الإستعمار والإمبريالية، ناكرين معنى لفظة “إستعمار” التي صارت بدرجة من العجمة والغموض أمام أعيننا، أنها غدت قادرة على حمل جميع أعبائنا المثقلة بالتراجع والنكوص، وجميع خطايانا دون أن تبقى قادرة على حفظ المعنى الجوهري كما إستقر في قعر العقل العربي، راسباً على نحو تصعب معه إزالته أو إقتلاع شأفته.
لقد إعتادت ثقافتنا وصفحاتنا الإعلامية والفكرية التكرار والإجترار حتى صار الأخير هو وسيلتنا الوحيدة لتغذية العقل العربي الذي إمتص كل ما يمكن أن يمتص من المكرور والمجتر درجة أنه راح يعاني من سوء تغذية وفقر دم بسبب إستحواذ عدد من الأقلام والأسماء على هذه الثقافة باعتبارها هي “أنوار اليقين” لثقافة قابعة في نهاية نفق لا ضوء فيه ولا فتحة ضوء يمكن أن تقود إلى أجواء الإنفتاح على العالم وعلى الثقافات الأخرى التي تحررت مما يشغلنا ويستحوذ على عقولنا من قضايا ومصائب جعلتنا ندور في فراغ وحلقات مفرغة منذ سقوط الدولة العثمانية حتى الآن، درجة ظهور من يدعو لعودتنا إلى العثمانية وإلى ذلك العصر الذي ثرنا عليه وإستبدلناه بالكولونياليات الأوربية ثم بالإستعمار الإستيطاني الذي قدم لنا “أم المشاكل”، ثم “أم المعارك” التي لم نزل في إنتظار انفضاضها حتى نباشر مرحلة تكرار وإجترار جديدة!
لقد دأبت الدوريات الثقافية الشهيرة التي غالباً ما تنتهي عناوينها بلفظة “العربي” أو “العربية”: الثقافة العربية، قضايا عربية، آفاق عربية، العالم العربي….إلخ، نقول بقيت هذه الدوريات والمجلات تحتكر الخطوط العامة لتوجيه التفكير الثقافي في العام على نحو يؤول إلى لجم التجديد والإبتكار وبترهما وإلى وضع العقل المبدع في صومعة مظلمة لا مخرج منها. وهكذا إحتكرت بعض الأقلام أهم التوجيهات بطريقة أنها تحولت إلى ديكتاتوريات ثقافية، أشبه ما تكون بالديكتاتوريات الحكومية، أو “الديناصورات” الثقافية التي توجب التمرد عليها وإزالتها كي تدفع الثقافة في عالمنا العربي بنفسها إلى عالم جديد، عالم شجاع لم يعد يقبل بالتكرار وبالعِنّة غير القادرة على التوليد والتجدد.
© منبر الحرية، 09 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

أجدادكم إن عظموا وأنتم لم تعظموا
فإن فخرَكم بهـم عارٌ عليكم مبرمُ.            “العقاد..”
من جهةٍ أولى، إننا من أكثر شعوبِ العالمِ “فخراً بماضيها”…
ومن جهةٍ ثانية، فإن ملايين المفتخرين بهذا الماضي يكادون أن يكونوا جميعاً من غير العالمين بألف باء هذا الماضي ناهيك عن العلم الواسع والعميق بسائر جوانبه…
ومن جهةٍ ثالثة، فإن هناك “خلطاً دائماً” بين هذا الماضي والحاضر…
أما كوننا من أكثرِ شعوبِ العالم فخراً بماضينا، فأمرٌ لا يحتاج للإثبات، إذ أن مطالعةَ جريدة ٍأو مجلةٍ أو مشاهدةِ أي برنامج تليفزيوني تنبئ بهذا القدر الهائل من الفخرِ بالماضي، فنحن في حالةِ تذكيرٍ مستمرةٍ للدنيا وللآخرين ولأنفسِنا بأن ماضينا أعظمُ وأمجدُ وأفخمُ من أي ماضٍ لأية أمةٍ أخرى.
ومن المؤكد، أن ماضينا “متميزٌ” و “خاصُ” ولكن من المؤكد، أن هذا الماضي يضم صفحات بيضاء كما أنه يضم أيضاً صفحاتٍ سوداء. والوقوف على الصفحاتِ البيضاءِ والسوداء في ماضينا من الأمور التي تستغرق أعماراً كاملة لأشخاص وقفوا أَنفسَهم على دراسةِ ذلك. وبالتالي، فإن حديثنا الذي لا يتوقف عن ماضينا يعيبه -من الناحية الموضوعية- أنه يفترض أن صفحاتِ هذا الماضي كانت كلها بيضاءً ناصعةً- وهذا غير صحيح. كذلك فإن ظاهرةَ التغني المستمر بالماضي تحتاجُ للتفكير والدراسة. فمن غير الطبيعي ألاَّ يكون هناك توازنٌ بين “الفخر بالماضي” و”الانشغال بصنع حاضر ومستقبل مجيدين”. ولاشك أن هناك خللا في تفكيرنا في هذه المسألة إذ أن الانشغال بصنع الحاضر والمستقبل يعتبر متواضعاً إلى جانب الإنشغال بالتفاخر بالماضي.
كذلك فإن افتراضَنا (الضمني) أننا الوحيدون الذين يملكون ماضياً مجيداً هو الآخر أمرٌ مخالفٌ للواقعِ والثابتِ. فكما أن من حقنا أن نفخر بتاريخنا المصري القديم فإن أبناء اليونان وإيطاليا (أحفاد الإغريق والرومان) هم أيضاً أصحاب حضارة وماضٍ مجيد لا يحق لمن يحترم الحقائق التاريخية أن يستهين بهما.
وفى اعتقادي أن “فقرَ مكوناتِ الواقع” هو ما يدفعنا باستمرار للتغني والتفاخر بالماضي، كأننا نشعر أنه بدون ذلك الماضي فإن المعادلةَ ستكون مختلةً وفى غير صالحنا. والمنطقي، أن نفتخر بجوانب عديدة من ماضينا افتخاراً متزناً غير مشوبٍ بالحماسةِ الزائدة والتعصب وعدم إعطاء الآخرين حقوقهم، على أن يكون هناك “فخر متوازن” بمعطياتِ الحاضرِ ومكونات المستقبل.
وإذا كان العربُ هم الذين نحتوا المقولة الشهيرة والصائبة والتي تقول: (ليس الفتى من يقول كان أبى، وإنما الفتى من يقول هأَنذا) فإن الأمرَ هنا يكون بغيرِ حاجةٍ منى لمزيد من الشرحِ والتبيانِ.
ومن جهةٍ ثانيةٍ، فإن افتخارَ معظمنا بماضينا يعطى الإحساس بأننا نعلم الكثير عن هذا الماضي. والحقيقة أن السوادَ الأعظم منا لا يعرف أي شيء (إلا الشعارات العامة) عن ماضينا وتاريخنا. بل أنني أزعم أن الأغلبية العظمى من المتعلمين تعليماً عالياً بمجتمعنا لا يعرفون -مثلاً- أعلام الأسرة الثامنة عشرة في تاريخنا الفرعوني القديم ولا يعرفون -مثلاً- الترتيب الزمن لفراعنة عظماء أمثال سنوسرت وأحمس وتحتمس الثالث وسيتي الأول ورمسيس الثاني، رغم أن معرفة ذلك لا تعنى أي تضلع في تاريخنا القديم. بل وأزعم أن معظم المتعلمين تعليماً عالياً في مصر لا يعرفون الترتيب الزمني للعهود التالية: العصر الإخشيدي والأيوبي والطولوني والمملوكي في تاريخنا الوسيط. وأكرر، أن معرفة ذلك لا تسمح في حد ذاتها بالاعتقاد بوجود أي تضلعٍ في معرفةِ الموضوعِ محل الحديث، ولكن عدم المعرفة بها يعني الجهل التام بأبسط المعارف التاريخية وهو ما يجعل الافتخار الحماسي بهذا الماضي (ممن لا يعرفون أي شيء عنه) ظاهرةً عقليةً ونفسيةً تحتاجُ للدراسةِ والتحليلِ.
وتنطبق هذه الحقيقة (حقيقة جهل السواد الأعظم منا بمفردات وعناصر ماضينا) على تياراتٍ فكريةٍ بأكملِها. فما أكثر الذين يسمّون أنفسَهم بأنصار مصر الفرعونية وهم لا يعرفون ألف باء تاريخ هذه الحقبة. وما أكثر الذين يسمون أنفسهم بالإسلاميين وهم على غير علمٍ بمعظم التاريخ والتراث الذي لا يكتفون بالفخر به، بل ويضفون على عناصره من القداسة ما لا ينبغي أن يقدس لأن معظمه “عمل وفكر بشرى”.
وأذكر هنا حواراً مع شابٍ متحمسٍ للتيارِ الذي يُسمي نفسه بالإسلامي وجدته يلحن (أي يخطي في تحريك الكلمات العربية) وهو يستشهد ببعض النصوص. أذكر أنني قلت له إن الفقهاء المسلمين الأوائل كانوا يعتبرون كل علم أصول الفقه عملاً بشرياً ولا أدل على ذلك من أمرين:
الأول، تعريف الفقهاء لعلم أصول الفقه بأنه “علم استنباط الأحكام العملية من أدلتها الشرعية” وهو تعريف عبقري ولكنه يثبت “بشرية” هذا العلم. والثاني، كلمة أول وأكبر الفقهاء أبى حنيفة النعمان الشائعة (علمُنا هذا رأي، فمن جاءنا بأفضلَ منه قبلنَاه). ثم ذكرت لذلك المتحمس لما يسمى بالتيار الإسلامي أن هؤلاء الفقهاء الأوائل قد وضعوا ستة شروط لأهلية الإفتاء، كان أولها العلم باللغة العربية علم العرب الأوائل. ثم قلت له، ونظراً لأنك (ومعظم زملائك في الحماس لما يُسمى بالتيار الإسلامي) تلحنون (أي تخطئون في اللغة العربية) فإنكم -وفق الشرط الأول من شروط الإفتاء- قد فقدتم أهلية إبداء الرأي في المسائل التي تتعرضون لها.
كل ذلك كان ضمن حديثي عن غرابةِ أن يفخر أناسٌ بماضٍ لا يعلمون عنه شيئاً يذكر. وهو ما يدل -مرة أخرى- على أننا أمام “ظاهرة عقلية ونفسية” لا علاقة لها -في الحقيقة- بالماضي الذي يتحمسون له.
وأخيراً، فإن الحياةَ المعاصرة في مجتمعنا تجعلنا نشاهد – يومياً – عروضاً متكررةً للخلطِ بين هذا الفخر المتحمس بالماضي وبين الفخر الآني أي الفخر بما نحن عليه الآن.
وهذه ظاهرة مفهومة، لأَننا نستشعر في أعماقنا تلك المفارقة المهولة بين “ماض مجيد” نفخر به وحاضر نبحث في جوانبه عن أسباب للفخر فلا نكاد نجد إلا أقل القليل؛ فمعظم إنجازات عصرنا المادية والفكرية من أعمالِ الآخرين.
© منبر الحرية، 25 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لاشك في أن أهمية العلوم والمعارف تكمن في خدمتها لأغراض إنسانية، خاصة عندما تتعلق خلاصاتها وتطبيقاتها بالكشف عن الحقائق والإفادة منها. ولكن حينما “توظف” هذه المعارف والعلوم لأهداف سياسية وحيدة الجانب، فإنها لابد وأن تنحرف عن طبيعتها وأهدافها الإنسانية السامية لتتحول إلى “خادمة” منصاعة للحاكم أو للطبقة الحاكمة أو للموقف السياسي المقصود. وللمرء أن يلاحظ هذه المسلمات قبل مناقشة شيوع ظاهرة إستخدام علم الإحصاء في العالم العربي لخدمة أهداف سياسية تحت عناوين مغرية من نوع “إستطلاع الرأي”، وهي عناوين يراد لها أن تخدم تمرير رأي معين، بإسم الجماهير، على أنه رأي غير قابل للنقاش لأنه رأي الغالبية. وهكذا إنتشرت في وسائل الإعلام العربي ظاهرة إستطلاعات الرأي على نحو ملفت للنظر في الفترة الأخيرة، ليس كمحاكاة للإستطلاعات التي تقدمها معاهد علمية متخصصة في الولايات المتحدة الأميركية (كمعهد غالوب)، ولكن كأداة لتمرير أفكار “مبيته” أو موصى بها، أو كعصا لضرب “الرأي العام” الحقيقي وتحجيمه.
الملاحظ في هذا السياق هو أن إستطلاعات الرأي العام هي ظاهرة أميركية لها تاريخ فلسفي طويل يتصل بطبيعة “العالم الجديد” وبميله القوي إلى التفرد وتكريس الإختلاف مع أوربا، خاصة مع بريطانيا. لذا ناقشت أذكى العقول البريطانية (خاصة في عصر الثورة الصناعية) هذه الظاهرة ولم تؤل جهداً في نقدها، إبتداءً من تشارلز ديكنز Dickens و جون ستيوارت مل Mill وإنتهاءً بعبقريات رفيعة من عيار ماثيو آرنولد Arnold وأوسكار وايلد Wilde. والحق، فإن مسألة الإستطلاعات لا يمكن أن تؤخذ عنواناً واحداً ووحيداً للديمقراطية، ذلك أن النقاد البريطانيون لظاهرة الأمركة Americanization الكاسحة، من أمثال الأسماء المذكورة أعلاه، عدّوا الموضوع نموذجاً للإنجراف وراء رأي “الأكثرية” بديلاً عن “الأقلية”، بإعتبار أن الحكمة وبًعد النظر هي من صفات الأقلية وليس من صفات الأكثرية التي كان ينظر اليها بإزدراء ودونية أحياناً!
بيد أن أميركا تبقى أميركا، “عالم جديد” متمسك بإتباع الأغلبية على حساب الأقلية درجة تطوير هذا الإتجاه بطرائق علمية رصينة تبلورت في إستطلاعات المراكز العلمية والصحافة الرصينة من عيار الـ(نيويورك تايمز) أو الـ(واشنطن بوست). هذه الصحف والمراكز التخصصية تقدم خلاصات إستطلاعات الرأي بطرق مسؤولة، لأنها تضطلع بها بأساليب إحصائية دقيقة، فتقدم هذه الخلاصات دون تحوير أو تغيير أو ليّ أو عمليات تجميل، درجة أنها تكون مستعدة للمساءلة القانونية وللتدقيق العلمي من قبل اية جهة أخرى، حكومية أو قضائية. لذا يُعتد بإحصائيات أو إستطلاعات معهد غالوب على نحو علمي من قبل أرفع مراكز صناعة القرار في واشنطن.
وإذا كانت المحاكاة من أفضل أساليب التعلم، فإننا في العالم العربي لا نتعلم كثيراً لأننا في أغلب الأحيان نعجز عن المحاكاة الدقيقة، الأمر الذي يفسر عدم دقة إحصائيات وإستطلاعات الراي والجداول الرقمية التي تقدمها الفضائيات والصحف والمجلات وحتى الكتب المختصة أحياناً، خاصة الآنية، الإعلامية والدعائية، التي راحت تعتمد إستطلاعات الرأي لموضوعات تافهة من نوع إستطلاع رأي الجمهور بأداء راقصة أو بمغنِ ! أما في الموضوعات السياسية المهمة والحساسة، فإن هذه الإستطلاعات غير قابلة للتحقيق أو للتدقيق، ولكنها تسرب عبر الشاشات وصفحات الحرف المطبوع بلا مسؤولية وبلا قانونية وبغض النظر عن الوسائل العلمية التي اعتمدت للخروج بخلاصاتها. هكذا يحاكي بعض العرب الأميركان في الشكل دون المضمون.
وحيث يمثل إستخدام علم الإحصاء لأغراض سياسية حرفاً خطيراً لمسار وأهداف هذا النظام العلمي من أجل التاثير، عن بعد، على الراي العام لتشكيله كما يريد “راعي” الإستطلاع، فإن علينا أن نعترف أن ماضينا كان سباقاً في توظيف التاريخ لأهداف سياسية. فمنذ نهاية عصر الخلفاء الراشدين (رض) برزت على سطح التاريخ العربي الإسلامي الأهمية القصوى لتوظيف التورخة والمؤرخين بالطرق السياسية من أجل أهداف من نوع تبرير إدعاء اسرة أو سلالة معينة بالخلافة على حساب اسرة أخرى، أو من أجل تتبع الأصول العائلية والقبلية عبر أنواع النسابين المرتزقين، خاصة مع تصاعد الصراع بين العرب والأعاجم في العصر “الذهبي” للحضارة العربية الإسلامية التي شهدت صعود نجم “الشعوبية” كإفراز سلبي من هذا النوع من الشوفينيات. لذا لم يكن من الغريب أن يجد الباحث، من بين رجالات “البلاط”، المؤرخين والنسّابين المعتمدين من قبل صانع القرار، إضافة إلى شعراء البلاط ومداحيه وجنرالاته ومهرجيه من بين سواهم من أفراد الحاشية المتخصصين. لقد كان مؤرخ البلاط عبر تواريخ الأمم من أهم “الموظفين” الذين يتم إستدعائهم لإستشارتهم عند الحاجة، خاصة عندما يظهر مطالبون جدد بالسلطة. إن أهم واجبات هذا النوع من المؤرخين هو الاحتفاظ بالوثائق وبشجرات العائلات وبكل مامن شأنه تمجيد الحاكم وإصطناع خلفيته التاريخية، بغض النظر عن علمية ما يقوم به.
بيد أن الطريف في هذا السياق هو أن ظاهرة توظيف العلوم بهذه الطريقة قد تواصلت حتى في العصر الحديث وبعد تحقيق العديد من الدول الإسلامية والعربية الإستقلال السياسي. وهذا ما تمت ملاحظته مع الحملة التي شهدتها العقود الأخيرة من القرن الماضي، تحت عنوان “إعادة كتابة التاريخ”، حيث تمت رعاية اللجان الكبيرة والمؤتمرات المتعددة المشحونة بالإيفادات وبالولائم وبالمكافآت النقدية من أجل تحقيق تسجيل إنتقائي أو إنتخابي لصفحات التاريخ، على النحو الذي يخدم أهداف هذا العلم “الوطنية” أو التعبوية. وهكذا عاش المؤرخون والنسابون عصراً ذهبياً في العديد من هذه الدول، خاصة عندما كانوا يتميزون عن سواهم في تتبع أنساب الرعاة إلى شخصيات أو أسر تاريخية لها وقعها الإعتباري والعاطفي في النفس الجماعية. وكانت أخطر الظواهر قد تمثلت في ركوب المؤسسات الأكاديمية لخدمة مثل هذه الأغراض، وهكذا أسست معاهد ومؤسسات بحث مختصة بـ”ضخ” أطروحات الماجستير والدكتوراه التي تمجد الحاكم وتطري أفكاره وتطلعاته أو تبرر ما أقدم عليه من أفعال.
وليس ببعيد عن هذا النوع من التوظيف السياسي، تبرز ظاهرة “الإستفتاءات” التي تشبه الإستطلاعات، حيث تأتي النتائج الباهرة، كما كان متوقع لها، بنسب لا علمية ولا واقعية من نوع 99.9% أو 100% على طريق خدمة الأهداف السياسية للمتنفذين، كما حدث في إستفتاءات “الترئيس” التي إعتمدت في عدد من الدول العربية في العقود الأخيرة.
لقد كانت ظاهرة تسخير العلوم والمعارف في تاريخنا القديم والحديث معروفة بوصفها حالة مؤسفة، ولكن أن يقوم البعض بوضع قناع العالِم على وجهه وعباءة الأكاديمي على كتفيه من أجل تمرير أرقام يراد لها تشكيل الراي العام بطرائق منحرفة، فإن هذا هو من أخطر ما يحيق بالجمهور العربي اليوم.
© منبر الحرية، 13 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

كما أن القيم الست السابقة هي من “قيم التقدم” بوجهٍ عامٍ ، أي من القيم التي ينبغي أن تغرس في المناخ الثقافي والتعليمي العام حتى تكون البيئة مهيأة لحركة المجتمع إلى التقدم المنشود ، فإن ذات القيم الست هي أيضاً من ركائز قيم العمل الحديث أو من قيم التقدم الإداري . وعليه ، فإن القيم الخمس التي أُسلط بعض الضوء عليها في هذه الجزئية تحت عنوان “قيم العمل الحديث” يجب أن تسبقها “القيم الست الأخرى” بحيث يكونون معاً “قيم العمل الحديث” الإحدى عشر .
عمل الفريق :
خلال سنوات عديدة من العمل في بيئة دولية بكل ما تعنيه الكلمة من معان حيث يعمل معاً آلاف الأشخاص الذين ينتمون لدول عديدة ولثقافات بالغة التباين تكشف أمام عيني بوضوح ضعفنا الشديد (كمصريين) فيما يتعلق بالعمل الجماعي أو عمل الفريق. فبينما تسهل هذه العملية بشكل هائل عند معظم الأفراد القادمين من آسيا (ولاسيما من خلفية يابانية أو صينية) وبينما يسهل ذلك أيضاً على شعوبٍ أخرى كالأوروبيين وغيرهم، فإن تجربة العمل اليومي لسنواتٍ عديدة في هذه البيئة متعددة الجنسيات كانت تجسد أمام ناظري الصعوبة البالغة لدى معظم المصريين للانخراط في عمل جماعي وكأعضاءٍ في فريق عمل. فمنذ اللحظات الأولى، تظهر على السطح “صدامات الأنا” بشكل بارز للغاية …كما تظهر على السطح رغبة كل فرد في أن يتأكد من أنه في حالات النجاح سيكون صاحب هذا النجاح أما في حالات الفشل فإن غيره سيتحمل التبعة!.. كذلك كانت الأمور تدل بوضوحٍ أن أحداً لا يقبل أن يكون عمله (أو تكون مساهمته) مجرد أمر مكمل لأداء الآخرين. وفي مئات الحالات، كانت الأمور تصل إلى حالة من التأزم يطلب فيها البعضُ إما خروجهم من الفريق أو خروج شخص أو أشخاص آخرين وإلاَّ !! فإن الفشل النهائي مؤكدٌ (!!). و كان عدم حدوث ذلك من أفراد ينتمون لخلفيات أخري مثل البريطانيين والآسيويين والألمان وغيرهم عاملاً يزيد من ظهور ملامح الصورة : وهي صعوبة انخراط معظم المصريين في عمل جماعي وصعوبة أن يقبل أحدُ أن “الشكر” على الإنجاز (في حالة النجاح) سيكون من نصيب (فريق عمل) وليس (شخصاً محدداً)! (هو المتحدث في كل حالة).
ولما كانت علومُ الإدارةِ الحديثةِ تقوم على مجموعةٍ أساسيةٍ من الركائز من أهمها (العمل الجماعي) أو (عمل الفريق) … فإن تطبيق تقنيات علوم الإدارة الحديثة على أعدادٍ كبيرةٍ من المصريين يبقى أمراً صعباً بإستثناءِ حالات وجودهم بالخارج إذ لا يكون أمامهم إلا (الاستسلام المطلق) لمفردات نظم العمل في تلك البيئات الخارجية وإلاَّ لفقدوا عملهم على الفور. وفي هذه الحالات، فإن بعضهم ينجح ويتألق وتعاوده “جرثومةُ الفردية” التي عرفها لمدد طويلة… فينسب نجاحه لنفسه فقط ، متناسياً أنه لم ينجح بتلك الكيفية إلا في تلك “البيئات الصحية” التي فرضت عليه قيم العمل الحديث وتمكنت من استخراج أفضل ما فيه من مكنٍ وقدرات. ولا تزال كلمة أستاذ يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ترن في أذني عندما قال لي (في أواخر 1999): (أن أحمد زويل بكل المعايير عقل علمي فذ ، ولكن على كل إنسان أن يتذكّر أن هناك 17 إنساناً في نفس المعهد الذي فيه أحمد زويل قد حصلوا على جائزة نوبل في مجالات علمية – وهو ما يعني أن “معجزة النظام” لا تماثل فقط بل وتتفوق على “معجزة الفرد” – وان كانتا مطلوبتين في نفس الوقت وإلاَّ ما تحققت النتيجة). كذلك فإن أحمد زويل نفسه لم يكف عن الحديث عن “فريق العمل” الذي بدونه ما كان له أن يبلغ ما بلغ، كما أنه كان يضيف دائماً (وهو رأي بالغ القيمة) أن “بيئة العمل والبحث العلمي في معهده” هي صاحبة فضل لا ينكر وراء حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1999. ولكننا أبناء (ثقافة الأشخاص) لذلك فإننا ننسى كل جوانب القصة ونركز على “الفرد” لإننا منذ أكثر من خمسين قرناً نفهم (ونقدس) الفراعين في كل مجال ولا نولي أي اهتمامٍ بالنظمِ التي هي المنتج الأول للنجاح والتقدم والإنجازات العظمى ولا توجد آليات لعلاج هذا العيب الكبير في مكوناتنا إلا ما ذكرته في أكثر من فصل من فصول كتبي: “القدوة” (كأداة تطوير على المدى القصير) و “التعليم العصري” (كأداة تطوير على المدى المتوسط والطويل).
أما “القدوة” فهي ليست مجرد كلمة عامة مُبهمة ومجردة وإنما هي ترجمة كلية لمديرٍ عصريٍّ تكّون وفق معطيات وثقافة علوم الإدارة الحديثة والتي تجعل كل رئيسِ عملٍ في موقعه مسئولاً عن إدارة العمل بشكلٍ “يجمّع” العاملين في مجموعات أو فرق عمل تربط بينها روابط التآلف والتكامل في مقابل رؤساء عملٍ آخرين يعملون على تعظيمِ الفردية والتشرذم وخلق ولاءات فردية مباشرة بين كل إنسان في التنظيم ورئيس العمل . إن المدير العصري الذي تكّون وتدّرب وفق روح وثقافة ومعطيات وتقنيات علوم الإدارة الحديثة تكون من أهم مهامه خلق هذه الروح أي روح الفريق بينما ينخرط معظم رؤساء العمل لدينا في خلق روحٍ مغايرة يكون العاملون فيها جزراً مستقلة ومنعزلة عن بعضهم ويكون إتصالهم الوحيد برئيس العمل فيما يمثل له بصفةٍ شخصيةٍ مصدرَ قوة وعزوة ويُعظم من مكانته الخاصة على حسابِ إهدارٍ كلي لروح العمل الجماعي وثقافة الفريق .
وتستمد هذه الثقافة السلبية منابعها من فقر وضعف التعليم الإداري الحديث لدينا وكون معظم القيادات (مجرد رؤساء في العمل) وليسوا (مديرين تنفيذيين عصريين) ، كما تستمد وقودها من ثقافةِ القريةِ المصرية حيث كان “العمدةُ” لعقودٍ طويلةٍ يعمل بنفس الطريقة وهي إيجاد قنوات إتصال بين الآخرين وبينه فقط مع إعتبار أي نمط آخر بمثابة مخالفة للولاء اللازم وإضعاف لهيمنته الوحيدة . إن علوم الإدارة الحديثة قد وصلت بنا إلى (مدير تنفيذي عصري) يصعب على كثير من الناس في واقعنا أن يتفهموا ما الذي يقومُ به إذ أنه في الحقيقة لا يبدو على السطح وكأنه يقوم بالكثير من الأعمال وإن كان بمثابة المايسترو لفريقٍ تتوافر فيه صفتان هامتان : الكفاءة العالية لكل فرد على حدة .. والعمل المشترك كفريقٍ واحد .
ومن خلال تجربتي الخاصة فقد كنت لقرابة عشر سنوات مسئولاً عن أعمال ومشروعات بمليارات الدولارات وكان وقتي أبعد ما يكون عن الإزدحام بالمواعيد والإجتماعات وكان مكتبي خالياً من الأوراق رغم مسئوليتي عن حجم أعمالٍ يومي بأكثر من مائة مليون دولار بينما كنت أرقبُ مسئولين في مواقعٍ أخرى يديرون أعمالاً ومشروعات بكم لا يبلغ واحد في المائة من هذا الحجم والقيمة وكنت أجدهم غارقين في الإجتماعات والأوراق والملفات وكنت ولا أزال أقول أنهم منشغلون بالقيام بأعمال غيرهم .. وأنهم مع نسفهم لثقافة العمل الجماعي والفريق من جهة وعدم إيمانهم بالتفويض من جهة ثانية فقد أصبح من المُحتم أن يجلسوا ثلاثة أرباع النهار كل يوم وسط جبالٍ من الملفات والأوراق .. ومع ذلك فإن نتائجهم النهائية هي في بعض الأحوال “متواضعة” وفي معظمها “مخجلة” .
إن زرعَ وبثَ ونشرَ روح وثقافة العمل الجماعي وأسلوب عمل الفريق يبدأ من تكوين كادرٍ بشريٍّ من المديرين التنفيذيين العصريين الذين يفهمون فكرةَ (الرئيس في العمل) حسب مفهومها العصري الحديث وليس حسب مفهومها الفرعوني أو القرون أوسطي حيث يكون الرئيس في العمل هو (كل شئ) ويكون مساعدوه ومساعدو مساعديه (محض لا شئ) . وبدون هذه الثورة الإدارية في هذا المجال فإن كل محاولات تطوير بيئة العمل لدينا في إتجاه العمل الجماعي وروح الفريق سوف تفشل لأن الذين على رؤوس التنظيمات الإدارية لا يريدون لها إلاِّ أن تفشل لتبقى الحبال (كل الحبال) في أيديهم ويكونوا هم فقط (آباء النجاح) أما الباقون فمجرد تروسٍ صغيرةٍ معاونةٍ . وكما أن القدوة عن طريق كادرٍ بشريٍّ متميّزٍ من المديرين التنفيذيين العصريين هو أمرٌ لازمٌ فإن ثورة تعليمية تبثُ في الأجيال الجديدة تقديس العمل الجماعي وتؤسس المسألة التعليمية برمتها على أسلوب فرق العمل هو الأمر اللازم الثاني لإنتقالنا من ثقافة العمل الفرعوني الفردي إلى دنيا العملِ الحديثةِ القائمةِ على عملِ الفريق وتعظيمِ الفوائدِ من تفاعلِ العقولِ والخبراتِ والقدراتِ .
منذ أكثر من عقدين من الزمان ذهبتُ لأولِ مرة لدراسة أحدث تقنيات علوم الإدارة الحديثة بأكبر معهد متخصص (The International Management Institute of Geneva University) في هذا المجال في أُوروبا ومن اليوم الأول أنتابتني فكرةُ أن هذا المكان لا يمكن أن يكون ممتازاً كما يُشاع عنه لأنه كان على نقيض طرق وأساليب التعليم التي عشت معها في مرحلتي الشهادة الجامعية الأولى والماجستير في واحدةٍ من الجامعاتِ المصرية : فقد كنتُ أنا الآتي من بيئة الدراسة الأكاديمية المصرية أتوقع أن يكون الأستاذ (جهة إرسال) .. وأن يكون الدارسون (جهة إستقبال) لاسيما وأن مصاريف هذا البرنامج الدراسي كانت بمئات الآلاف من الدولارات. إلاِّ أنني وجدت النقيض من اللحظة الأولى: فلم يكون الأساتذة (مرسلين) .. ولم يكون الدارسون (مستقبلين) .. وإنما كانت كل جلسات الدراسة تبدأ بتسليط الضوء على مجموعة من المفاهيم والمواضيع والإشكاليات ثم يتم تقسيم الدارسين إلى مجموعات عملٍ تذهب كل مجموعة منها إلى غرفة مستقلة ويكون أمامها قدر من الوقت لدراسة الإشكاليات المطروحة وإستعمال المكتبة وتكوين ورقة تمثل مجموعة الدارسين معاً يشتركون على قدم المساواة في إعدادها ثم يختارون أ حدهم لتقديمها وعرضها نيابةً عنهم.
وكان إنطباعي الأول مزيجاً من الدهشة : فكيف تُنفق مئات الألوف من الدولارات على تعليم بسيط وهزلي مثل هذا !! .. إلاِّ أن الأسابيع والشهور التالية جعلتني أرى أن هذا الأسلوب في التعليم هو الذي يُفرز النماذج البشرية التي تقود العالم في كل المجالات لأنه الأسلوب الذي يُفرز (المبدعين) و(المؤمنين) و(المتعاونين) على نقيض الأسلوب الذي يُفرز ا|لإنسان الذي يُجيد التلقي والتبعية ويكبت في نفسه قدرات الخلق والإبداع كما يحفز في شخصه عوامل الفردية الهدامة لكي يكون الفائز بتقديرات النجاح بينما يترك عار التأخر لزملائه . هذه البيئة العلمية هي التي تُفرز أفضل عناصر البيئة العملية .. فما العمل إلاِّ إستمرار لمراحل التعليم الأولى : إذ أن وحدات العمل هي الجهة التي تتلقى المنتج النهائي للمؤسسة التعليمية (الإنسان) بعد أن تمت صياغته وتشكيله إما بشكل إيجابي أو بشكل سلبي .
وهكذا يتضح أن العمل الجماعي أو عمل الفريق هو ظاهرةٌ ترتبط بنسيج ثقافةِ المجتمع من جهةٍ (فقد لاحظ علماءُ الإدارةِ الحديثة بوجهٍ عامٍ وعلماء إدارة الجودة بوجهٍ خاصٍ أن الشعوب الصينية واليابانية لديها إستعداد كبير جداً للعمل الجماعي – ولكنها صفة مُكتسبة (من تراكمات بناء الثقافة العامة لمجتمعاتهم) وليست صفة طبيعية . كذلك يمكن النظر للعمل الجماعي أو عمل الفريق من وجهة نظر أساليب الإدارة المُتبعة في المؤسسات الحكومية والمؤسسات الإقتصادية أيٍّ كانت طبيعتها . وثالثاً فإن هناك زاوية أخرى لتناول موضوع العمل الجماعي أو عمل الفريق وهو فلسفة التعليم وتقنياتها . ومن ناحية رابعة فإن “القدوة” التي تمثلها القيادات التنفيذية في المجتمع هي عامل حاسم من عوامل بقاء الأمور على ما هي عليه أو تطورها تجاه ثقافة العمل الجماعي .. وخامساً وأخيراً فإن هناك صلة بين موضوع العمل الجماعي ودرجة نمو الديمقراطية في المجتمع ، فكلما زاد الهامش الديمقراطي كان بوسع الذين يريدون تأصيل العمل الجماعي كمعّلم من معالم المجتمع أن يحققوا ذلك لأن المجتمعات غير الديمقراطية تكون مجالات العمل فيها مغلقة من أعلى بمعنى أن الحركة في كل التنظيمات من أسفل إلى أع لى إما أن تكون بطيئة أو شبه معدومة وهو ما يفرضُ مُناخاً معارضاً للمناخ الأمثل للعمل الجماعي – وهكذا نكون أمام حالة جديدة من المشكلات التي ليس لها سبب واحد وليس لها علاج واحد وكأننا بذلك نردد مع الفيلسوف الأمريكي/ الألماني هيربرت ماركوز ما كتبه وأعلنه مراراً منذ ثلاثين سنة عندما قال : أن نظرية السبب الواحد قد سقطت نهائياً في مجالات الفكر الإنساني برمتها .
الإهتمام الفائق بالموارد البشرية :
إذا كانت “الإدارة” هي عصب النجاح في كل مؤسسات المجتمعات المتقدمة، فإن “التوظيف الأمثل للبشر” هو الأَداة التي تكون وراء “نجاح” أو “فشل” الإدارة. وقد تشعبت “علوم الموارد البشرية” وصارت تغطي مواضيعاً عديدة مثل (إختيار العاملين) و(التدريب) و(تقييم الأداء) و(الموارد البشرية والتنظيم) و(إكتشاف القدرات القيادية) وعشرات المجالات الفرعية لواحدٍ من أهم مجالات الإدارة الحديثة وهو مجال الموارد البشرية.
وتقوم علوم الموارد البشرية الحديثة على ركائز أساسية مثل الإيمان بأن كل إنسان في العالم توجد مسافة واسعة بين “أدائه الآني” و”قدراته غير المكتشفة”، وأن من أهم مهام الإدارة إكتشاف تلك “المسافة” والعمل على تنميتها عن طريق الموائمة بين الإنسان وأنسب المجالات له من جهةٍ وعن طريق التدريب المستمر من جهةٍ أخرى.
كذلك تقوم علومُ الموارد البشرية الحديثة على الإعتقاد بأَن أي فردٍ من الناس هو في النهاية واحد من أفراد مجموعة من مجموعتين أساسيتين هما “مجموعة المتخصصين” (The Specialists) و”مجموعة العموميين” (The Generalists) – مع التسليم بأهمية كل منهما وضرورة تواجد أفراد ينتمون للمجموعتين لوجود تنظيماتٍ ناجحةٍ ومزدهرةٍ وفعّالةٍ ومتطورةٍ.
كذلك تقوم علوُم الموارد البشرية الحديثة على الإعتقاد بأن هناك تفرقة أساسية بين “القدرة” (Potential) و “الأداء” (Performance) – وبينما يمكن الرقي بمستويات ومعدلات “الأداء” ، فإن أقصى ما يمكن عمله مع “القدرة” هو إكتشاف وجودها أو عدم وجودها. ويكون من أهم مهام الإدارة العليا في المؤسسات العصرية إكتشاف أصحاب القدرات العالية في زمن مبكر لتوجيههم للمناصب القيادية وإعداد برامج التدريب المطلوبة لصقل امكاناتهم وإضفاء ثراء الحرفية (Professionalism) عليها .
ومن مجالات علوم الموارد البشرية المهمة موضوع التحفيز أو التحميس (Motivation) بجوانبه المادية والأدبية المختلفة.
ويختلف دور “الرئيس” أو “القائد في العمل” في المؤسسات الحديثة عن دوره في البيروقراطيات التقليدية – ففي هذه الأخيرة يقوم الرئيس في العمل بتركيز أكبر قدر من السلطة المركزية في يده ويقوم عبر السنين بتحويل العاملين معه إلى جيش من “الأتباع” (Followers) بينما يكون دوره في المؤسسات التي تعمل بتقنيات علوم الإدارة الحديثة قائماً على التفويض والقيام بأقل قدر من العمل المباشر والتركيز على التفكير الإستراتيجي وكذلك العمل بأسلوب “المايسترو” أكثر من أسلوب “القائد العسكري”.
وإذا كانت البيروقراطيات التقليدية تخلق أتباعاً ( Followers) فان الإدارة الحديثة تهدف لخلق كيان من الموارد البشرية ويكون أفراده بمثابة “مؤمنين حقيقيين” (Believers ) برسالة وأهداف مؤسستهم كما أن كل منهم يتولد لديه شعور بأن عمله ليس مجرد أداء واجب وإنما هو “أمر يملكه” ويملك آفاق نجاحه عندما ينجح، ويسمى هذا الشعور بملكية الإنسان للعائد الأدبي لنجاحه في العمل في مصطلحات علوم الإدارة الحديثة Ownership وغير خاف أنها “استعارة مكنية” ذات دلالة واضحة للغاية.
وبإختصار شديد، فان “الإدارة الحديثة” لا تنظر للموارد البشرية كآلات وإنما تنظر إليهم بصفتهم “العامل الأكبر” للنجاح أو الفشل وانهم كما يصنعون النجاح ( أو نقيضه) فإن من حقهم التمتع بمزايا وصيت هذا النجاح. وعن طريق هذه النظرة للبشر، لا يكون هناك إعتقاد أن للتقدم والنجاح والإزدهار سبل آخرى أهم من “البشر”. فالمجتمع الفقير المتخلف يكون كذلك لأنه لم يخلق مناخاً مثالياً لأبنائه – للعمل والعطاء ، والعكس صحيح تماماً. فليس ثراء الأمم منوط بثروات طبيعية وأموال مكدسة من الماضي – وإنما ثراء الأمم بثراء مواردها البشرية، وثراء الموارد البشرية “عملية” تتم بالتخطيط والتنفيذ الدقيق لنظم تكتشف أفضل ما في الناس من قدراتٍ وتطورهم وترتقي بمكنهم وتعمل على تحفيزهم.
التفويض :
تحاول كل قيم علوم الإدارة الحديثة أن توظف الإنسان (كل إنسان) بأفضل شكل متصور لذلك فإنها توجه إهتماماً كبيراً للتدريب ومحاولة إكتشاف القدرات الكامنة في كل إنسان والتحفيز Motivation وذلك إيماناً منها بأن الثراء الحقيقي هو في جعل كل إنسان قادراً على إخراج أفضل ما لديه من قدرات ومواهب وكذلك إيماناً بأن تلاقح الأفكار هو أمر بالغ الإثراء للعمل والحياة وكل ذلك يهدمه بالكلية النموذج المركزي في الإدارة والذي عاشت معه عقوداً طويلة مؤسسات العمل في كثير من المجتمعات ويميل البعض لأن تكون هذه المؤسسات قد أستوردته بشكل ما من المؤسسات العسكرية . لذلك أصبح التفويض Delegation هو عصب من أهم أعصاب الإدارة العصرية الناجحة، فالتفويض هو الذي يعكس كل القيم التي ذكرتها آنفاً والتي تؤدي إلى تحول مجموعات العمل من جيوش من الأتباع Followers إلى فرقٍ من المؤمنين Believers – والإبداع يكون مع الثقافةِ الثانية ويتعذر مع الأولى.
وفي النظمِ الإداريةِ الحديثةِ حيث يقوم رؤساءُ العمل بتفويض سلطاتهم للآخرين يختلف دور رئيس العمل كليةً إذ يصبح بمثابة”مايسترو” لا “عازف على كل الآلات” . ويصل التفويض في المؤسسات العصرية إلى درجةٍ يبدو معها رئيس العمل وكأن لا عمل له، وهو إستنتاج خاطئ لأن له عمل هام هو قيادة التفكير الإستراتيجي وليس القيام بأعمالٍ يستطيع الآخرون القيام بها وفي أغلبِ الأحوالِ بشكلٍ أفضل.
ولا أعتقد أنني أبالغ إذ أقول أننا إذا إفترضنا توفر كل قيم الإدارة الحديثة دون التفويض فإن المعبد سينهار لا محالة إذ أن التفويض هو الذي يترجم معظم قيم الإدارة الحديثة.
ولكن الواقع يؤكد أيضاً أن التفويض صنو التدريبِ : فتفويضٌ بدون تدريب لا مآل له إلاَّ الإخفاق.
جلوس علم التسويق على مقعد القيادة :
تختلف الدول التي أحرزت تقدماً هائلاً في المجال الإقتصادي (عن طريق إنتاج “مُنتجٍ” أو تقديم “خدمةٍ” .. ثم في مراحل تالية عن طريق “تكنولوجيا المعلومات”) عن الدول التي أنفقت المليارات على “ترسانات صناعية” لم يكن لها من مآل إلاِّ الفشل في أن الأولى كانت تمارس أنشطتها وعقلها مركز على نهاية العملية أي “التسويق” أَما الآخرون الذين أخفقوا فقد كانوا يمارسون أنشطتهم وهم مشغولون ومنشغلون ببداية العملية أي “الإنتاج” . ويمكن تلخيص الفارق بين إقتصاديات دول ما كان يعرف بأوروبا الشرقية (قبل سقوط الكتلة الشرقية في أواخر ثمانينات القرن الماضي) ودول أوروبا الغربية (وكذلك اليابان ودول جنوب شرق آسيا) في كون الأولى “مُسيّرة إنتاجياً” (Production Driven) بينما كانت الثانية “مُسيّرة تسويقياً” (Marketing Driven) ولا يشك أي عالم من علماءِ الإدارة الحديثة في أن مآل كل الذين يُسّيرون إنتاجياً (لا تسويقياً) هو الفشل والإفلاس وأن مآل الذين يسّيرون تسويقياً هو النجاح والنمو والتوسع .
وإذا كانت “الإدارةُ” هي سر نجاح (أو فشل) المجتمعات بوجهٍ عامٍ والإقتصاد بوجهٍ خاصٍ فإن “التسويق” هو “مخُ الإدارة” بمعنى أن الإدارة الناجحة هي التي تكون من الناحية الإستراتيجية ومن ناحيةِ القدراتِ والمُكنِ “مُسيّرة تسويقياً” .
وتستلزم هذه القيمة من قيم التقدم الإداري توفر زميلات لها من نفس مجموعة القيم فالتسويق الناجح مهمة مستحيلة لمن يكونون محليون وغير منفتحين على العالم ولا يحوّلون قيمة أُخرى من قيم التقدم هي الإيمان بعالمية المعرفةِ إلى واقعٍ يعيشونه ، فكيف ينجح في التسويق على نطاقٍ واسعٍ من لا يعرف الكثير عن الآخرين : عن منافسيه وعن أسواق الدنيا ومتطلبات تلك الأسواق وعلاقة ذلك بثقافات هؤلاء الآخرين الذين نذهب إليهم بمنتجاتنا أو خدماتنا ؟ .. وكيف يكون عندنا نموذج واحد لكل شئٍ من الأشياءِ (وهذا نقيض التعددية”) وننجح في التسويق الذي يقوم على الهدف الأسمى لعلم إدارة الجودة وهو (التلاقي مع توقعات ورغبات متلقي المنتج أو الخدمة) ؟
الإيمان المطلق بفاعلية الإدارة :
ما أكثر العبارات الصحيحة التي يكررها الناسُ دون أن يكونوا مدركين للمعنى والجوهر الحقيقيين لما يرددونه . ومن أشهر هذه العبارات في واقعنا أن مشكلةَ المشكلاتِ في حياتنا هي “الإدارة “. فرغم أن ذلك صحيحٌ بنسبةِ مائة في المائة إلا أن أبسطَ حوارٍ تفصيلي مع معظم مرددي هذه العبارة يوضح أن العبارة السليمة تعني في تفاصيلها أشياء أخرى عند مردديها .
والحقيقة أن العبارة كما أسلفت صائبةٌ تماماً : فمشكلةُ المشكلاتِ في حياتنا بوجهٍ عام وفي حياتنا الإقتصادية بوجه خاص أن أساليبَ وتقنياتِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ وعلومِ التسويقِ العصريةِ غائبةٌ بشكلٍ كبيرٍ: غائبة في الإدارات الحكومية … وغائبةٌ في القطاع العام … وغائبةٌ في القطاع الخاص … وغائبةٌ في كل المجالاتِ الخدمية .
ولا شك عندي أن دولَ الكتلة الشرقية بقيادةِ الإتحاد السوفييتي ومن وراءه فيلق أتباعه قد إنهار في أواخرِ ثمانينات القرن العشرين بسببٍ محددٍ هو غياب الإدارة الفعّالة في كلِ مرافقِ العالم الإشتراكي وبالتحديد في المؤسساتِ الإقتصاديةِ التي أدى غيابُ الإدارة الفعّالة فيها إلى حالةِ إفلاسٍ أخذت المعبد بكل أركانه وعواميده وسقطت سقوطاً مدوياً منذ قرابةِ عشرِ سنوات .
وفي المقابل فإن العالمَ الغربي المتقدم ومعه تجارب آسيا المتألقة قد بلغت ما بلغت من آفاقِ التقدم والإزدهار الإقتصادي وما نتج عن ذلك من وجودِ طبقةٍ وسطى قوية وراسخة – لا شك أن مرجع ذلك إنما هو في المقام الأول لتوفر نظم إدارة وتسويق عصرية فعالة قادرة على خلقِ النجاح والثروة . و من الجدير بالذكر هنا أن الإدارةَ العصرية الفعّالة ليست فقط قادرة على تحقيق التقدم والإزدهار الإقتصاديين وما ينتج عنهما من نتائج إجتماعية إيجابية وإنما هي أيضاً قادرة على التعامل مع الأزمات والكبوات ، فبالإدارة فقط تجاوزت دول جنوب شرق آسيا كبوتها الإقتصادية في فترةٍ زمنيةٍ قياسية ومن قبلها تجاوزت المكسيك أزمتها في وقتٍ كان البعضُ لدينا يردد آيات التفاخر بأننا نسير بخطواتٍ محسوبة على خلاف المكسيك ودول جنوب شرق آسيا – وقد أثبتت تجربة المكسيك ودول جنوب شرق آسيا أن الذي سار في طريقٍ معينةٍ بمنهج علمي واضح يستطيع إن تعرض للأزمات أن يعود ليسير في نفسِ الطريق لأنه وإن كان قد عاد للوراء بعضَ الشيء إلا أنه لم يفقد المنهج .
ولكن ما معنى النجاح ؟
لابد ابتداءً من لفت الانتباه إلى أن اللغة العربية تترجم مصطلحين إنجليزيين هما Management و Administration بكلمةٍ واحـدةٍ هـي (الإدارة). من هنا ينبع سـوءُ الفهم. فبينما تعني كلمـة Administration مجموعة القواعد التي تحكم سير العمل مثل لوائح ومواعيد العمل ودرجة الإنتظام وغيره من سيل الخدمات الإدارية التي تحيط بالعمل فإن كلمة Management تعني شيئاً مختلفاً كليةً إذ أن معناها الحقيقي هو تحقيق النتائج المرجوة والتي هي بالتحديد في شكل عائدٍ إقتصاديٍّ محددٍ مع عملية نمو موازية عن طريق أدوات علوم التسويق العصرية .
وبالتالي فإننا إذا نظرنا إلى كلِ المؤسساتِ الإقتصاديةِ التي أنشئت في دول التخطيط المركزي (الإقتصاد الموجه) وأثار إعجابنا حجم المنشآت والآلات والمعدات وعدد العاملين كنا كمن ينظر إلى المسألةِ في أفضلِ الأحوالِ من زاوية الـ Administration لأن كل ذلك لا معنى له من منظورِ علومِ الإدارةِ الحديثة Management ما لم نسمع معلومة محددة وهي أن تلك المنشآت والمعدات والآلات تحقق سنوياً عائداً لا يقل عن عوائدِ المصارف على الإيداعات .
ومن المهم للغاية أن نعرف أن أي مشروعٍ لا يحقق عائداً على الإستثمار يفوق عوائد إيداعات المصارف سوف يصل حتماً إلى مرحلة الإفلاس ويصبح عاجزاً عن أداء مهمته الإقتصادية ومهامه الأخرى وفي مقدمتها القدرة على التشغيل وخلق فرص عمل جديدة.
وإذا كان البعضُ يفتخر بحجم المنشآت الإقتصادية التي تمت في ظروفٍ معينةٍ ولم تتمكن (بسبب غياب الإدارة الفعّالة) من تحقيق عوائد إقتصادية تفوق عوائد إيداعات المصارف فإننا نقول له أن موقفك هذا غريبٌ وعجيبٌ لأنك تفتخر بالإنفاق وكان الأجدر بك ان تفتخر بالنتائج والعوائد والتي كانت في معظمِ الأحوالِ متواضعةً بشكلٍ كبيرٍ هو الذي أدى لفشل التجربة برمتها.
وبديهي أن المجتمعاتِ التي تخلط بين مفهوم الإدارة بمعناه هذا الذي وضحناه وبين الضبط والربط والإنتظام هي في حاجة لأن تعلم أن الضبط والربط والإنتظام رغم أهميتها لا تخلق ثروةً إقتصاديةً إذ أن السبيلَ الوحيد لخلقِ الثروةِ الإقتصادية هو العمل وفق أساليب وتقنيات علوم الإدارة والتسويق الحديثة.
إن المدير العصري مثله مثل الطبيب والمهندس والمعماري إنسانٌ يتكون وفق معطيات الإستعداد الشخصي مع زخم من التعلم والتدريب وبذلك فإن مجردَ الترقية لوظيفةٍ عليا لا يعني أننا بصدد مديرٍ تنفيذي عصريٍّ قادرٍ على قيادةِ العملِ والتخطيطِ لتحقيق الأهداف المنشودة على مستوى الربحيةِ والنمو مع ما يوازي ذلك من إهتمامٍ فائقٍ بتنميةِ أهم عناصر النجاح وأعني الموارد البشرية.
ومن الملاحظ أن غيابَ الإدارة العصرية الفعالة في واقعنا لا يقتصر على الإداراتِ الحكوميةِ التي تسوم المواطنين شتى صنوف العذاب عند تعاملهم معها وإنما تغيب الإدارةُ الفعّالة أيضاً عن الوحدات الإقتصادية المسماة بالقطاع العام والأفدح إنها تغيب بنفس القدر عن الدكاكين الإقتصادية التي يسميها البعض بالقطاع الخاص بينما هي أبعد ما تكون عن روح ونظم وآليات المؤسسات الإقتصادية الخاصة التي تعمل وفق آليات علوم الإدارة والموارد البشرية والتسويق الحديثة (فمعلومٌ لكلِ خبراءِ الإدارةِ العصريةِ والموارد البشرية وتقنيات التسويق الحديثة أن السواد الأعظم من المؤسساتِ الإقتصادية الخاصة في مصر اليوم تعتمد إعتماداً شبهَ كلي على العلاقات العامة وليس على الإدارة بمعناها العلمي الحديث – فهذه المؤسسات وجدت أن المناخ العام المحيط بها يعملُ بآليات العلاقات العامة فوفرت على نفسها مشقة الطريق الصعبة والمتمثلة في بناءِ تنظيمٍ مؤسسيٍ عصريٍ يضم عناصر بشرية قادرة وفعّالة – فهذه الطريق الصعبة هي من جهةٍ مكلفة ومن جهةٍ أخرى لا تستطيع العقول البسيطة إستيعاب جدواها لا سيما في ظل الأضواء الباهرة لثقافة العلاقات العامة في مجتمعٍ يقدسُ ما تعكسه تلك العل اقات العامة من معانِ القوةِ وأبهةِ السلطة وأبهةِ القرب من السلطة) .
وما لم نخلق المناخ العام الذي يسمح بنهضةٍ إداريةٍ عصريةٍ في الإداراتِ الحكوميةِ ووحداتِ القطاع العام والمؤسسات الإقتصادية الإنتاجية والخدمية الخاصة فسوف يبقى إنتظارُنا طويلاً لمجيء الإستثمارات العالمية المباشرة والتي يصعب تصور وجودها بدون مناخٍ عامٍ يسمح لها بالعمل وفق آليات وتقنيات علوم الإدارة والموارد البشرية والتسويق الحديثة وليس وفق معطيات كانت هي السبب الأول والأخير وراء الأوضاع الإقتصادية المتدهورة في واقعنا والتي لم نبدأ في التعامل الجاد معها إلا منذ عشر سنوات ولكنه تعامل لا يزال يحتاج لمزيدٍ من الجرأة في إستئصال جذور العديد من المشكلات والتي تجعل من توفر الإدارة العصرية في سائر جوانب حياتنا أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
وهكذا يتضح أن ترديد مقولة (أن المشكلة هي الإدارة) إنما هو مثال واضح لعبارة صحيحة لا تنطلق بالضرورة من فهم سليم لمعانيها ومراميها.
منبر الحرية،12 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

الشباب في كل المجتمعات هم أكثر الشرائح تأثراً بالمناخ السياسي والاقتصادي السائد، وبالتالي لابد أن تنعكس عليهم كل أثار التوتر والفشل أو النجاح؛ فالشباب عبارة عن طاقات كامنة عندما تُستغل وتُوجه بصورة صحيحة فأنها تدفع بالمجتمع إلى الأمام، والعكس في حال فشل المجتمع في التعاطي معها واحتواءها بشكل ايجابي قد تتحول إلى قنبلة موقوتة تنفجر في أي لحظة.
في مجتمعاتنا العربية هناك الكثير من الأزمات والمشكلات التي نعاني منها، وبما أن الشباب مكون أساسي في هذه المجتمعات فهم يعيشون كل تلك الأزمات والمشكلات ويتأثرون بها، بل إن واقعهم ما هو إلا انعكاس ونتاج لأزمة المجتمعات التي ينتمون إليها.
قبل عامين أشار تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) إلى أن الشباب في المنطقة العربية يقعون تحت ضغط الإحباط والتوقعات التي تحدثها بشكل جزئي مؤثرات الإعلام والتكنولوجيا والديناميكيات المتحولة في الأطر والبنى الأسرية، بالإضافة إلى الصراعات السياسية والأزمات المستمرة التي تعيشها معظم البلاد العربية.
والواقع أن معظم الحكومات العربية فشلت طوال العقود الماضية في إحداث تنمية حقيقية، وفي تكريس مفهوم المواطنة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وفي بناء دولة عصرية قوية سياسياً واقتصادياً قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية؛ وكل هذا خلق أزمة دائمة وحالة من عدم الثقة بين الحكومات العربية وبين الجماهير، ولما كان الشباب العربي يمثل قرابة الخمسين بالمائة من إجمالي عدد السكان في البلدان العربية، وما يعنيه ذلك من تحديات فعلية قد تواجه الحكومات العربية في حال فشلت في احتواء هذه الشريحة، ابتدعت الحكومات لعبة سياسية جديدة ظاهرها الاحتواء ومضمونها الإقصاء والإبعاد!
إن الحديث عن علاقة الشباب بالدولة هو في الأساس بحث في مسألة المشاركة السياسية بوصفها أحد صور العمل الاجتماعي الذي يتم من خلاله الإسهام في صنع ورسم السياسات والمشاريع الوطنية التي تعبّر هذه الفئة من خلالها عن رؤاها ومصالحها، وبالتالي إثبات وجودها وتأكيد هويتها. غير أن هذه العلاقة في مجتمعاتنا العربية تختلف تماماً؛ فالحكومات العربية ومعها القوى السياسية المعارضة ما زالت تتعامل مع هذه الشريحة من المجتمع بحذر شديد، فالشباب بنظرهم “شريحة متمردة”، مزاجها متقلب ويصعب التكهن بأفعالها أو قبول استحسانها. لذا تعمد هذه القوى إلى إنشاء قنوات تواصل سياسية وإعلامية تبث من خلالها رسائل مُعدة بعناية توجه إلى الشباب بهدف احتواءهم، ومن ثمّ توظيفهم في العملية الانتخابية والصراع السياسي الذي يتنافس أطرافه من أجل تحقيق مصالح فردية أو حزبية ضيقة تتمحور في السيطرة على الثروة والسلطة.
وغالباً ما تلجأ معظم الحكومات العربية عبر الحزب الذي يمثلها في السلطة إلى استنساخ تنظيمات شبابية تابعة لها، ليس بهدف إشراكها الفعلي في الشأن الحزبي والسياسي العام وإنما لتكون أداة تابعة تنفذ أجندة سياسية مرسومة ومعدة سلفاً دون تفكير، وعندها فقط يحدث الخلل في طبيعة العلاقة بين الشباب ومجتمعاتهم، وبموجب هذا الخلل يؤدي الشباب دوراً مغايراً يُلغي ويُصادر دورهم الطبيعي داخل المجتمع؛ فهذه العلاقة لا تعترف بقدرات الشباب وإمكانياتهم بل أنها تُقصيهم كذوات اجتماعية تستطيع التعبير عن قضاياها ومصالحها المنبثقة من مصلحة المجتمع ذاته.
إنها مفارقة الإقصاء عبر الاحتواء، ووحدها الحكومات والنظم العربية عبر مكوناتها السلطوية المختلفة من ينتجها، لكنها لم تنتج هذه المفارقة وحدها بل أنتجت معها جيلاً جديداً من الشباب فاقد للهوية؛ جيل يبحث عن تحقيق ذاته بصور مختلفة ومتمردة على كل القيم والعادات الموروثة. ولهذا لجأ قسم من الشباب إلى التقليد الأعمى لنمط وثقافة الحياة الغربية بكل ما تحمله من مضامين ودلالات، بينما لجأ القسم الآخر إلى التطرف والعنف كمحاولة لتغيير الواقع بالقوة.
ظاهرة “الأفغان العرب” مثال حي على فشل  الحكومات في استيعاب الشباب والتعاطي معهم، وعلى سوء استغلال الحكومات لطاقاتهم، فالمتطوعين للجهاد في أفغانستان وجلهم من الشباب العرب خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي حظوا بكل الدعم المادي والمعنوي من قبل حكوماتهم، وأطلق عليهم وقتها اسم “المجاهدين”، ولكن بعد انتهاء المهمة وتحرير أفغانستان من الغزو السوفيتي تبرّأت الحكومات العربية منهم وأسقطت المكانة والهالة التي تمتعوا بها طوال فترة الجهاد الأفغاني، وتحولوا بعدها إلى مطاردين في أصقاع الأرض، ومن هنا كان ارتدادهم لقتال الحكومات التي انقلبت عليهم وكان ذلك بداية لمسلسل طويل من العنف والتطرف والإرهاب ما زلنا نشهد فصوله حتى اليوم.
إذاً من الواضح أن أزمة الشباب في العالم العربي ما هي إلا انعكاس لأزمة المجتمعات العربية العاجزة عن بلورة رؤى إصلاحية حقيقية تلبي احتياجاتها ومصالحها، وفي نفس الوقت تتماشى مع المتغيرات الكبرى التي يشهدها عصرنا على مختلف الأصعدة. ونحن هنا إذ نحاول تسليط الضوء على بعض مكامن الخلل في بنية المجتمعات العربية وطبيعة العلاقة مع أهم شريحة داخل هذه المجتمعات، لا نبرر إطلاقاً السلوك المنحرف والنزوع نحو التطرف بكافة أشكاله وصوره بل ندين هذا النهج والممارسات المترتبة عليه، والتي ما فتئت تنتجها فئة من الشباب المُحبطين الذين عجزوا عن ابتكار آليات جديدة وحضارية للتغيير فلجئوا إلى العنف أو الانعزال للتعبير عن سخطهم من الوضع القائم.
وقصارى القول إن أزمة الشباب العربي تأخذ صوراً وأشكالاً متعددة، ولكن هناك مدخل واحد لحلها يتمثل في فهم طبيعة وواقع هذه الشريحة والانفتاح على رؤاها وأفكارها، ومن ثمّ إعطاءها فرصة حقيقية للتعبير عن ذاتها وتحمّل مسؤولياتها من خلال إشراكها كقوة فاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية، وفي بناء وتقدم المجتمعات التي تنتمي إليها.
© منبر الحرية، 10 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

منذ تجليات مرحلة محمد علي باشا في مصر، وعودة رفاعة رافع الطهطاوي من باريس في وقت لاحق، يحيا العالم العربي في ظل شعور قوي بأن هذا هو عصر النهضة العربية، أو مرحلة اليقظة العربية/الإسلامية. لقد بقي هذا الشعور مذاك سائداً لا يقبل النقاش لأسباب عدة، منها ما هو متصل بما سبق في الحياة السياسية والثقافية، ومنها ما هو متصل بما تمخض عنه التالي من الأعوام من نتاجات فكرية وتطورات سياسية قادت نحو تغيرات جذرية نحيا اليوم بعضاً من آثارها المتأخرة. ولكن، ألم يأتِ الوقت المناسب الذي يسمح لنا، ابناءً لما جاءت به النهضة العربية، أن نتساءل: هل نحيا عصراً حقيقياً للنهضة، أم إنه عصر لا يختلف عما سبقه من العصور المظلمة التي نقلل من شأنها متخذين من تغزل أحد شعرائها بـ”مخدة” أو بإبريق شاي دليلاً على التردي والنكوص الذي كان يحياه العقل العربي في ذلك العصر المظلم.
لقد قدم الطهطاوي، ومن ثم السيد جمال الدين الأفغاني ومريده محمد عبده، عدداً من الأسئلة، كان أهمها هو: لماذا نحن متأخرون أو متخلفون في العالم العربي الإسلامي، مقارنة بالأمم الغربية؟ وقد تمخضت محاولات الإجابة على هذا السؤال حصراً عن الكثير والمضني من الجدل والمناقشات التي ملأت الكتب والمجلات، كما هي الآن تملأ الدنيا ضجيجاً عبر الفضائيات وسواها من وسائل البث الأثيري. لقد كان المبدأ الأول الذي إعتمده “أساطين” النهضة المشار إليهم أعلاه هو إستمكانهم للتراجع والخنوع لهيمنة الإمبراطوريات الأجنبية، العثمانية خاصة، كواحد من أهم مسببات وتجليات العصر المظلم، كما نفضل أن نطلق عليه، ربما بتعسف. لذا دعا هؤلاء المفكرون إلى تحرير الأقطار العربية والإسلامية من الهيمنة العثمانية ومن سيطرة سواها من الإمبراطوريات الأجنبية، فعد الإستقلال السياسي شرطاً مسبقاً لأنطلاق نهضة عربية أو عربية إسلامية جديدة تتبلور، ليس فقط في التحرر من ربقة الإمبراطوريات، ولكن كذلك فيما سيقدمه العقل العربي الإسلامي من منجزات إبداعية ومبتكرة تذكرنا بالعصر الذهبي لحضارتنا على سنوات الدولة العباسية.
بيد أن الذي حدث مختلف تماماً عن هذه الرؤيا المثالية، فلم يكن بمقدور الشعوب العربية أن تتخلص من نير الإمبراطورية العثمانية لوحدها، الأمر الذي إضطرها أو إضطر نخبها السياسية لأن تستنجد بالإمبراطوريات أو الكولونياليات الأوربية الجديدة لمساعدتها على الثورة على العثمانيين. وهكذا إنزلقنا نحو عصر الهيمنات والوصايات الأوربية، البريطانية والفرنسية والإيطالية من بين سواها، فدخلت الشعوب العربية طوراً جديداً من “النضال” لتحقيق التحرر من “الإستعمار” الأوربي وبناء الدول العربية المستقلة الجديدة. وعبر هذه المرحلة المستطيلة بحسابات العصر الجاري لم يتوقف أصحاب الأقلام الوثابون إلى “المشروع النهضوي”، القومي أو الإسلامي، في نقد، وأحياناً، سباب “العصر المظلم” المسكين وأهله لأنهم لم يفكروا بشيء سوى التغزل بمخدة أو بإبريق الشاي. لقد شهدت هذه المرحلة بروز عدد من الأقلام العربية التي نحسد ذلك العصر عليها الآن، لأننا لم نتمكن من أن نأتي بمثلها اليوم !
لقد حققت أغلب الأقطار العربية إستقلالها السياسي عبر قصص طويلة من العمل والنضال والكفاح ضد “المستعمر الغاشم”. وكانت النتائج باهرة عبر القرن العشرين على نحو خاص، إذ تتابعت أخبار الثورات وإعلانات التحرر والإستقلال السياسي على نحو سريع، من المحيط إلى الخليج. بيد أننا إكتشفنا أن الإستقلال السياسي كان  مشوباً بالكثير، فبرز الحديث عن أن الإستعمار، إذا ما خرج من الباب، فإنه سيعود من الشباك بطرائق وأقنعة متنوعة، بينما ظهرت آفات الرجعية والدكتاتورية وتغييب الديمقراطية الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي، مقدماً لنا جروحاً لا تندمل. وهكذا بقيت الثقافة العربية، على تنوعات مشاربها، أسيرة بين مطرقة التأثيرات الغربية وسندان أعباء الماضي الذي فرض على العقل الحاكم رؤى “السلطنة” المطلقة المستوحاة من حكايات “الف ليلة وليلة”.
إن أية مراجعة لما قدمته ثقافتنا خلال القرن الماضي تعكس آثار هذين المولدين الأساسيين. حتى العقول العربية الأكثر ذكاءً وقدرة على التحليل والنطق، وهي تعد بالأصابع، لم تتمكن من أن تحرر نفسها من هذين المولدين. وبقيت تناقش قضايا لا تزيد عن التراث والمعاصرة أو التراث والحداثة، وهما تعبيران جديدان لتوصيف التأثير الغربي من ناحية، وعبء الماضي من الناحية الثانية. وكانت أبرز الكتابات العربية التي نفتخر بها اليوم تتمحور حول الماضي، ولكن بمنظورات وأدوات غربية، تم إكتسابها في الجامعات الأوربية أو الأميركية. لذا كانت محاور هذه “النهضة” لا تتعدى مناقشات حول الشعر الجاهلي وإعادة تقييم أو تقويم قصة الإسلام عبر منظورات ومحكات من نوع الصراع بين الإمام علي ومعاوية، بينما بقيت عقول عربية أخرى منكفئة على تعريب ما يقدمه الفكر الغربي من روايات وقصص ونظريات من النوع الذي لم نتمكن من أن نأتي بمثله في جدته وإبتكاره.
ولكن مع هذا كله، يتوجب علينا أن نحسد االعصر المتلاشي الذي شهد ظهور رجال من نمط طه حسين أو علي الوردي، من بين آخرين، ذلك أننا في العصر الجاري، لم نتمكن من إنتاج رجال من هذا العيار الذي لا نرى فيه ما يكفي من القدرة على الإبتكار والإبداع. لقد شيدنا مئات الجامعات وآلاف المدارس، كما طورنا أنواع المراكز العلمية ودور النشر الثقافية، لكننا لم نشهد ولادة كتاب من هذا النوع الذي يجهزنا بشيء من صدمة أو رجة الوعي عبر مراجعاته للتراث. أما إذا كنا نطالب بنظريات وأفكار مبتكرة من نوع جديد، لم تخطر على بال أحد في أوربا أو أميركا، فهذا نمط من أنماط أحلام اليقظة. لقد توفي أمثال هؤلاء الرواد الذين لم نزل نستذكرهم بشيء من الدفء وبقينا نكتب هوامشاً على آرائهم وأفكارهم لا أكثر. وحتى هذه الهوامش اللاإبداعية راحت تتلاشى مع ظهور بطش الدكتاتوريات والتحجر الآيديولوجي الذي يرفض أن يتلحلح في عصر العولمة والشبكات الرقمية والإنترنيت، إذ تحول الإنسان الشاب نفسه إلى هامش إستهلاكي للمعرفة، إن كان يبحث عنها. وإذا كان الشعر ديوان العرب، الحقل الذي تميز به العرب عن غيرهم، كما نعتقد، فإننا قد شهدنا ونشهد اليوم مجالس عزاء أواخر الشعراء الفحول الذين ظهروا في أواسط القرن الماضي، بينما لم نتمكن من تعويضهم. لقد غادر نزار قباني وغادر الجواهري وأخيراً غادرت نازك الملائكة، تاركين وراءهم إرثاً فنياً وثقافياً جيداً دون أن نجد بدائلاً عنهم، كما كان يحدث في العصر العباسي على سبيل المثال. وتنطبق ذات الحال على الكتّاب والناثرين من المفكرين الذين تمت الإشارة إليهم أعلاه: فقد غادروا دون بدائل بمستواهم أو على مستوى أفضل. وهكذا بقينا أسرى التعليقات التلفزيونية المملاة من قبل الحكام وضوضاء أدعياء الثقافة اللامسؤول: فهل نشهد اليوم عصراً مظلماً جديداً؟ أم أننا لم نفارق العصر المظلم منذ سنوات شعراء الجدية والتكسب إلاّ في الخيال؟ هذا سؤال يستحق الملاحظة وأنشطة تبادل الراي.
أما من الناحية السياسية، عندما كان العرب تحت نير الإمبراطوريات الأجنبية، فإنهم كانوا كذلك أكثر إتصالاً وتآصراً فيما بينهم، بينما كانت الثقافة العربية أو العربية الإسلامية تبدو أكثر إتساقاً وتمازجاً مما هي عليه اليوم، بالرغم من آلاف دور النشر ومئات المجلات الثقافية التي نشاهده اليوم. في ذلك العصر “المظلم”، كان السيد جمال الدين الأفغاني يتنقل بين النجف والقاهرة، بغداد وإسطنبول، بكل حرية دون أن تطلب منه اية سفارة أن “يبتاع” تأشيرة دخول وأن ينتظر أشهراً حتى تتم الموافقة على دخوله.
إن الحديث عن عصر النهضة أو عن المشروع النهضوي يمكن أن يكون مجرد خرافة. لذا على الأجيال الإنتظار: فقد يأتي اليوم الذي تدرس فيه أفكارنا وآدابنا بوصفها جزءاً من عصر مظلم زائل، بينما يتعامل باحثو المستقبل مع ما نقول بإعتباره حلماً قومياً لا مجدٍ.
© منبر الحرية، 07 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لم يصدق العرب للوهلة الأولى قرار أوباما بالانسحاب من العراق بحلول منتصف 2010.
أعاد بعضهم السؤال أكثر من مرة : هل فعلا سينسحب ؟
دارت التكهنات والتحليلات والقراءات وكلها تشكك بالقرار رغم صدوره عن أعلى مرجعية أمريكية.
قلة صدقت قرار الانسحاب، وأكثرية توقعت أنها لعبة أمريكية مكشوفة لكسب الوقت!
لكن رغم ذلك لا يخفى أن القرار أثار عند العرب مشاعر فرح واستغراب في آن !
وإذ كانت أسباب الفرح معروفة  ولا تحتاج لدليل أو برهان ولا تحليل، فإن الاستغراب ومحاولة تقصي أسبابه تزيدنا للوهلة الأولى استغرابا !
لأن الإجابة عن  أسئلة من نوع : لماذا يستغرب العربي قرار الانسحاب ؟
ولماذا لم يصدقه ومازال يشكك به حتى اللحظة ؟
ستعطينا وعيا أكثر عمقا بخواء عالمنا العربي ومدى جفاف ينابيعه الفكرية.
إن نظرة مدققة للبنى الفكرية التي تحكم تفكير الإنسان العربي عموما، والمثقف خصوصا ستجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة هذا الاستغراب.
إذن،يبدو قرار أوباما بالانسحاب من العراق لدى العربي مستغربا لأسباب كثيرة، ولكن هناك سببين رئيسيين:
–  أولهما :الوعي المتشكل عن أمريكا وسياساتها في الذهنية العربية فهي ” إمبراطورية الشر” و” رمز الرأسمالية والإمبريالية والعولمة ” و العدو الداعم لإسرائيل وما يتسم مع ذلك من صفات ترادفها الغدر والخيانة وسياسة كسب الوقت. هذه النظرة السلبية المتشكلة في الوعي العربي عن أمريكا بعضها ناتج عن سياسات أمريكية خاطئة خاصة فيما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني إضافة إلى  احتلالها العراق وتدمير شعبه وتمزيق وحدته الاجتماعية لتجعله يقف على شفير حرب أهلية دون أن نغفل دور النظام الصدامي في إيصال العراق إلى مرحلة الانسداد التاريخي ومرحلة الخيارات المغلقة. وبعضها الآخر ( وهو الأهم) ناتج عن الوعي الزائف بالغرب وقيمه الديمقراطية ( من حقوق إنسان ومجتمع مدني وحريات فردية..) الذي شكلته الثقافة السائدة في البلدان العربية منذ استقلالها حتى اللحظة الحالية، إذ أدى قيام الثورات الشعبوية والانقلابات “الثورية ” إلى بتر جنين الليبرالية العربية الناهضة آنذاك، بحجة أنها من مخلفات الاستعمار، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى السير في ركاب الإيديولوجية الشعبوية (يسارية وقومية وإسلامية ) التي أبلست الغرب ومنجزاته وحملته مسؤولية كل الهزائم التي تحصدها أنظمة مستبدة وما تزال. إذ ارتبط الغرب في وعي هذه النخب وأحزابها بكل ما هو سلبي وبرجوازي (بالمعني السلبي) وبراغماتي، وكلنا ندرك الشعارات التي ترفعها القوى الديماغوجية عند نزولها الشارع العربي، إضافة إلى الأغاني والأناشيد والثقافة التي طبعت تاريخ نصف قرن من العداء الإيديولوجي لأمريكا الذي لم يستطع أن يفرق بين النخب الأمريكية التي تتخذ سياسات خاطئة مثلها مثل أي نظم أخرى، وبين القيم الديمقراطية والتعليمية ومؤسسات المجتمع المدني وفي النهاية الشعب الأمريكي بما يختزنه من قوى حية قادرة على تجديد مجتمعها و تصحيح أخطاء سياسييه.
وثانيهما : يتعلق بعدم ثقة الشعوب العربية ونخبها المثقفة بحكامها وسلطاتها على اختلاف أنواعها، فقد تعلمت الشعوب أن لا تثق بأي سلطة أو حكومة أو زعيم عربي، لأن السياسة تعني الحكم المطلق وعدم الالتزام بأي وعد.
عدم الثقة هذا، يسقطه العربي على كل السلطات دون أن يستطيع وعيه التمييز، بين سلطة وصلت الحكم عن طريق صناديق الاقتراع وترحل عن طريق الصناديق التي أنجبتها، وسلطة وصلت عن طريق العنف ولا ترحل إلا بالعنف.
لهذا يبدو الاستغراب على العربي وهو يسمع رئيس أكبر دولة في العالم يفي بوعده الذي قطعه خلال الحملة الانتخابية، لأنه لا يستطيع تخيّل سلطة في أوج قوتها تتراجع عن أخطائها، و لا يدرك أن السلطات القادمة نتيجة نظام ديمقراطي ناتج عن تمخضات عميقة حصلت في رحم المجتمع، غير قادرة على تغيير القوانين الأساسية التي أنجبها مجتمع حر.
قد تتعرض الديمقراطية لخلل كبير – وهو ما حصل في عهد بوش- ولكن بالديمقراطية نفسها يتم تصحيح الخلل وليس بأي شيء آخر، الأمر الذي يعني أن (سيئات الديمقراطية أفضل من حسنات الاستبداد).
أثبتت أمريكا مرة أخرى، أن النظام الديمقراطي هو النظام الأمثل لتصحيح الاختلالات التي تحدث في أي نظام، من انتخاب الرئيس الأسود في بلد كان الأسود لا يستطيع أن يمشي آمنا في شوارعها قبل خمسين عاما، إلى إغلاق معتقل غوانتنامو إلى قرار الانسحاب من العراق.
كم رئيس عربي أغلق سجونه ؟ كم رئيس اتعظ مما حصل في العراق ؟  كم رئيس عربي على مدى تاريخنا كله اعتذر من ضحاياه ؟
الآن،قد ينجلي استغراب العربي من قرار أوباما الانسحاب من العراق،لأن المثل العربي يقول : إذا عرف السبب بطل العجب !
إنها الديمقراطية ياعزيزي!
© منبر الحرية، 05 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

بيقع إقليم دارفور في أقصي الغرب، والشمال الغربي للسودان بين خطي عرض 9- 20 شمالاً، وخطي طول 16-  27.7 شرقا.  وتصل مساحته إلي ما يقرب من 20% من مساحة السودان وهو أكبر من نصف مساحة جمهورية مصر العربية وأكبر من فرنسا حيث تصل هذه المساحة إلي 200 ألف ميل مربع ، وتشترك في حدودها مع ثلاث دول أفريقية هي ليبيا من الشمال الغربي، وتشاد من الغرب، وأفريقيا الوسطى من الجنوب الغربي. ويتكون إقليم دارفور من ثلاث ولايات هي: شمال دارفور، وجنوب دارفور، وغرب دارفور.
ساعدت الحدود المفتوحة والتداخل القبلي بين دارفور وتشاد (التي شهدت حرباً أهلية خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي) على انتشار السلاح في إقليم دارفور، كما ساهمت الحكومة السودانية في إذكاء الصراع في دارفور، حيث قامت (منذ عهد الصادق المهدى وحتى نظام الإنقاذ بقيادة عمر البشير)  بتزويد بعض القبائل العربية بالسلاح من أجل إحكام قبضتها على الإقليم ومنع الحركة الشعبية لتحرير السودان من مد نفوذها أو مسرح عملياتها إلي دارفور، وأدي ذلك إلي تفاقم الصراع وتدهور الأوضاع الأمنية في الإقليم، حيث استخدمت القبائل العربية الأسلحة التي حصلت عليها من الحكومة في صراعها مع القبائل الأفريقية الأخرى. ووفقا لبعض التقديرات فقد أدت المواجهات المسلحة والعمليات العسكرية التي وقعت فى دارفور (منذ فبراير 2003) إلي مقتل نحو 300 ألف شخص، بالإضافة إلى 180 ألف آخرين ماتوا جوعاً، ونزوح نحو 1.6 مليون شخص داخل دارفور، وفر نحو 200 ألف لاجئ إلي الدول المجاورة وخاصةً تشاد . وإذا ما استعرضنا أسباب الأزمة في دارفور يمكن الإشارة إلي عديد من الأسباب أهمها :
1.    أسباب بيئية: حيث تعاني المنطقة منذ سنوات عديدة من تدهور بيئي وأمني، مع تعاقب موجات الجفاف وبالتالي تعدد المجاعات .
2.    أسباب تنموية: وتتلخص في إهمال الحكومات المركزية المتعاقبة لعملية التنمية في الإقليم رغم إسهامه الكبير في الدخل القومي .
3.     أسباب سياسية: وترجع إلي الانشقاق الذي حدث في صفوف الجبهة القومية الإسلامية عام 2000 حيث بدأ العمل المعادي للحكومة المركزية يبرز في دارفور نظراً لأن عدداً من القيادات السياسية للجبهة القومية الإسلامية ينحدرون من إقليم دارفور.
4.    العسكرية القبلية: أدت الصراعات القبلية علي الأرض ومصادر المياه بسبب التصحر والجفاف إلي تشكيل ميليشيات قبلية من قبائل متعددة متصارعة .
إن  الأمر الذي لا شك فيه أن مشكلة دارفور تعكس بامتياز صراعاً دولياً واضحاً بين مختلف القوي الكبرى فيما أطلق عليه صراع المحاور في الإقليم .
أولاً :  تشكل الولايات المتحدة الأمريكية  محوراً قائماً بذاته لمصالحها الكبرى في السودان وتسعي للإنفراد به إذ تعتبره منطقة نفوذ طبيعية لها استنادا إلي علاقاتها بأغلب الأنظمة التي حكمت السودان. وتؤيد الولايات المتحدة الانتشار السريع لقوة حفظ السلام المشتركة في دارفور (يوناميد) المكونة من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وقوامها 26 ألف جندي.
ثانياً :  تشكل بريطانيا محوراً ثانياً، وتنطلق في ذلك مما تعتبره حق تاريخي بصفتها المستعمر السابق للسودان، وتحاول مقاومة فكرة أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية  وريثة جديدة لمناطقها القديمة.
ثالثاً :  أبدت فرنسا اهتماماً كبيراً بتطورات الوضع في دارفور، وهو أمر منطقي وطبيعي حيث أن إقليم دارفور يجاور مناطق نفوذ فرنسية غاية في الحساسية والأهمية، تاريخياً واقتصادياً واستراتيچياً، ونعني بها جمهورية تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، كما أنه بوابة رئيسية إلى منطقة غرب أفريقيا. ولفرنسا قاعدة عسكرية في تشاد.  ومن هنا ينطلق الموقف الفرنسي أيضاً من ظروف تدفق اللاجئين إلي تشاد، وتهديد الولايات المتحدة بالتدخل، مما يشير إلي تغير الوضع في إقليم دارفور وما حوله، وهى مناطق ذات علاقات ومصالح مع فرنسا ومجموعة الدول الفرانكفونية المرتبطة بها، لذا تدخلت فرنسا في مشكلة دارفور لحماية مصالحها في المنطقة ولإبعاد الولايات المتحدة عن مجالها الحيوي
رابعاً :  انطلقت دول أوروبية أخري مثل ألمانيا والنرويج لتزج بنفسها في هذا السباق القائم علي المصلحة، لتشكل في النهاية محورا أوروبياً في وجه المحور الأمريكي.
خامساً : شكلت الصين محوراً قائماً بذاته، حفاظاً علي مصالحها النفطية في السودان يعد النفط وضمان الحصول عليه واستمرار ذلك هو عنصر المصلحة الرئيسي والأكبر للصين في التعامل مع قضية دارفور . حيث أن شركة النفط الصينية الوطنية هي أكبر مستثمر أجنبي للنفط فى السودان منذ عام 1999 ، حيث استثمرت الصين 15 مليار دولار علي الأقل في السودان وتمتلك 50 بالمائة من مصفاة للنفط تقع بالقرب من الخرطوم بالمشاركة مع الحكومة السودانية . وتحصل الصين علي 65 إلى 80 بالمائة من النفط الذي تنتجه السودان ويبلغ 500 ألف برميل.
ومن هنا لا يمكن فصل الاضطراب الحاصل في دارفور عن دائرة الصراعات الدولية علي النفوذ في أفريقيا .ولابد من قيام تأييد دولي واسع لجهود الوسيط الدولي المشترك للأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي من أجل إحياء العملية السياسية بين الحكومة السودانية وجماعات المتمردين غير الموقعين علي اتفاق سلام دارفور في العام 2006، بما في ذلك المحادثات الجارية في العاصمة القطرية الدوحة. وتأييد  التوصل إلى حل سياسي للنزاع ، بما يتضمنه من فقرات تتعلق بالأمن والتعويضات حسبما تحدد في إتفاق سلام دارفور، وهو ما أوجد أطراً عريضة من أجل التوصل إلي نتيجة نهائية تسمح في نهاية المطاف لملايين من أهالي دارفور بالعودة إلي ديارهم وإعادة بناء حياتهم من جديد والعيش في سلام.
*د. عبدالعظيم محمود حنفي باحث في العلوم السياسية مدير مركز الكنانة للبحوث والدراسات القاهرة.
© منبر الحرية، 04 أبريل 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

تحولت فكرةُ الإتقانِ إلى علمٍ قائمٍ بذاته هو (علم إدارة الجودة ) والذي إنضم خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرةِ لمنظومةِ العلومِ الإجتماعيةِ بل وأصبحت هناك معاهدٌ لا تقوم بتدريس إلاَّ علم الجودة (Quality Management/ QM). ورغم أن هناك أدبيات كثيرة في علم الجودة أشهرها كتابات البروفيسور Deming الذي جرى العرف على إعتباره أب أو أحد آباء “علم إدارة الجودة” إلاَّ أنني لا أُريدُ في مقالٍ عامٍ كهذا أن أدخل في تفصيلاتِ وتفريعاتِ علمِ إدارةِ الجودةِ والمواضيع الأساسية لهذا العلم وهي الجودة أو الإتقان في مرحلة التخطيط ثم الجودة أو الإتقان في مرحلة التنفيذ ثم المراجعة بعين تنظر للجودة والإتقان، ولكنني أُريد أن أقول أن تواجدَ وتطبيقاتِ علومِ إدارةِ الجودةِ وتفشي ثقافة الإتقان ما هي إلاَّ إنعكاس لحقيقة أكبر وهي وجود حراك إجتماعي فعّال في المجتمع. فالإتقانُ ملمحٌ من ملامحِ المتميزين…والمتميزون هم الذين يفرزون مكوناتِ ثقافةِ الإتقانِ ومفرداتِ علومِ إدارةِ الجودةِ …وإذا لم يكن المجتمعُ يسمح بحراكٍ إجتماعي يبرز المتميزين من أبناءِ وبناتِ المجتمع فإن ثقافةَ الإتقانِ لا توجد وتحل محلها ثقافةُ العشوائيةِ وتعم في المجتمع كلُ بدا ئلِ صور ومشاهد الإتقان.
وكما ذكرت في فصلٍ من فصول أحد كتبي تحت عنوان “التحول المصيري” فإن الحراك الإجتماعي الحر وتفاعلاته هما اللذان يجعلان أصحاب القدرات الأعلى من أبناءِ وبناتِ أي مجتمعٍ يشغلون المواقع القيادية في كل مجالاتِ الحياة في المجتمع وهو ما يفرز هرماً إجتماعياً صحيحاً وسليماً قد يطلق البعضُ عليه أنه الهرم الذي أنتجته الداروينية الإجتماعية بينما يغضب البعضُ (ولاسيما إذا كان هؤلاء ينتمون لعلماءِ الإجتماع الإشتراكيين) ويفضلون أن نقول (ولا مانع لدينا) أن هذا الهرم لا يبنى بالداروينية الإجتماعية وإنما يبنى بالحراكِ الإجتماعي الحر والفعال والذي يتيح الفرصة لكل متميّزٍ ومتميّزةٍ من أبناءِ وبنات المجتمع لتقدم الصفوف والمشاركة بفاعليةٍ في صنعِ الواقعِ والمستقبلِ: وهذه هي الخلفية الوحيدة التي تسمح بذيوعِ ثقافةِ الإتقان.
وعلى النقيض فإن المجتمعاتِ التي لا تسمح تركيبتُها بالحراكِ الإجتماعي الحر تفتح المجال على مصراعِيه أمام غير المتميزين وغير الموهوبين وأصحاب القاماتِ المتوسطة لكي يحتلوا مواقعاً عديدة على رؤوس الكثير من المؤسساتِ والتنظيماتِ والهيئاتِ في المجتمع وهو ما يوجه ضربةً قاضيةً لثقافةِ الإتقانِ ويشيع مناخاً ثقافياً مختلفاً تماماً أُسميه بثقافةِ القاماتِ المتوسطةِ وفيه يختفي الإتقانُ وتشن الحروب بلا هوادةٍ على المتميزين والمتميزات من أبناء وبنات المجتمع لأن أصحابَ القاماتِ المتوسطة هم المصدر الأول لهذا المناخ العام : فبدونه تتبدل قواعدُ اللعبة ويهبطون من مواقعِهم العالية إلى مواقعٍ أدنى تتناسب مع قدراتهم ومحدوديةِ مواهبهم.
وموضوعُ الثقافة التي ينشرها “متوسطو القامة” بل والمناخ العام الذي يخلقونه هو موضوع يستحق الكثيرَ من العناية من المفكرين والدارسين : لأن المثقفَ المستنير بوسعه أن يتصور كلَ ملامح الحياةِ والمجتمعِ والعلاقاتِ التي تنشأ عن سيادةِ وشيوعِ “متوسطي القامة” وما يخلقونه من آلياتٍ لبقائهم وبقاء نوعياتهم في مواقعٍ مؤثرةٍ وكذلك الدمار الذي يحدثونه في “القيم” و “المثل” و”الأخلاق العامة” وكذلك إنعكاسات شيوعهم على الحياةِ السياسيةِ والإقتصاديةِ والثقافيةِ والتعليميةِ والإعلاميةِ، وما يجرون المجتمعَ إليه من “إنخفاضٍ مروعٍ” في “كلِ المستوياتِ”.
ومن النقاط التي يجدر توضيحها عند الحديث عن “الإتقانِ” و”إدارةِ الجودةِ” أن الإتقان ليس أمراً مرتبطاً بالتقدمِ التكنولوجي وإنما هو فكرةٌ في رؤوسِ بعض الناسِ. ويذكر كاتبُ هذه السطور أنه عندما كان يحاضر ذات يومٍ بمعهد جوران (Juran) لإدارةِ الجودةِ بالولايات المتحدة الأمريكية أنه أسهب في شرح فكرته أن “الإتقانَ” فكرةٌ في رؤوس المتميزين وليس ثمرة التكنولوجيا (فالتكنولوجيا نفسها ثمرة أُخرى من ثمارِ تفكير المتميزين)…أَذكر أنني عندما أسهبت في شرحِ هذه الفكرة وتطرقتُ للحديثِ عن “الإتقان” في مصرَ القديمةِ وكيف أن بناءَ هرمِ خوفو بالذات يُعد مثالاً بلا نظير لكون الإتقان “فكرة في الرؤوس” قبل أن يكون أي شئ آخر، إن عميد المعهد الذي كنت أُحاضرُ به علّق على هذه الجزئية بقوله أَنني لست بحاجةٍ لمزيدٍ من الأدلةِ على صحةِ هذا الزعم لأن شعار معهد جوران نفسه ليس إلاَّ عاملاً فرعونياً ينقش على جدار !! ويعني ذلك أن أكبرَ معهدٍ في العالمِ لعلومِ إدارةِ الجودةِ لم يربط بين الإتقان وبين التقدم التكنولوجي إذ أنه وجد أن العاملَ المصري القديم كان تشخيصاً لفكرةِ الإتقانِ …وتحفل مصر القديمة بأدلةٍ كثيرةٍ على أن الإتقان “فكرةٌ” قبل أن ي كون أي شئٍ آخر : فإذا قمنا بمقارنةٍ بسيطةٍ بين درجات الإتقان في هرمِ الملك خوفو ودرجات الإتقان في الهرمين الذين بناهما والدُ الملك خوفو وهو الملك سنفرو لأدركنا كيف يمكن أن تحدث طفرةٌ هائلةٌ في مستوياتِ ومعدلاتِ الإتقان خلال سنواتٍ قليلةٍ وهو ما لا يمكن أن يكون له تفسير إلاَّ وجود كادرٍ بشريٍّ يجسد بدرجةٍ أعلى دقائق فكرةِ الإتقانِ .
ولا أكاد أتصور وجود خلاف حول ما شهدته حياتُنا المعاصرة من تدهورٍ مذهلٍ في مستوياتِ ودرجاتِ الإتقانِ في مصرَ خلال نصف القرن الأخير وهو أمر لا يفسر إلاَّ بإنقلابِ الهرمِ المجتمعي وتلاشي التميّز وما أدى إليه ذلك من شيوع ثقافةِ متوسطي القامة والذين لا يمكن أن يكون الإتقان وشيوع روحه هدفاً لهم إذ أن فاقدَ الشيء لا يُعطيه . إن شيوع قّيم وثقافة ومستويات “متوسطى القامة” يجعلنا نكاد نرى كلمات الفقرة الأخيرة من المزمور 12 تتجسد كل لحظة أمام عيوننا :
(الأَشرار يتمشون في كلِ ناحيةٍ عند إرتفاع “الأرذال” بين الناس)
… يتبع
© منبر الحرية، 01 أبريل 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018