peshwazarabic

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

قبل فترة زمنية قصيرة، أجرى مجلس بلدة البورغ، وهي بلدة صغيرة في إقليم ملقة الإسباني، استفتاء بين سكان البلدة البالغ عددهم ألف نسمة. طُلب من المواطنين الاختيار بين بديلين اثنين: الإنسانية أو الليبرالية الجديدة. جاءت نتيجة الاستفتاء 515 صوتاً للإنسانية و4 أصوات لليبرالية الجديدة. منذ ذلك الحين، لم أستطع إبعاد تلك الأصوات الأربعة عن تفكيري. ففي وجه تلك المعضلة الدرامية، لم يتردد أولئك الفرسان الأربعة في التصدي للإنسانية باسم تلك الفزّاعة المرعبة، المتمثلة بالليبرالية الجديدة. هل كانوا أربعة مهرجين أو أربعة حكماء؟ هل كان ذلك من قبل النكتة “البورجية”، أو أنها كانت الإشارة العاقلة الوحيدة في ذلك الاستفتاء الهزلي؟
وبعد ذلك بفترة ليست بطويلة، عقد مؤتمر دولي في شياباز ضد الليبرالية الجديدة، بدعوة من القائد ماركُس، بطل آخر زمان في السياسة الغربية التافهة، التي تديرها وتُسيرها وسائل الإعلام. كان من بين الحضور عدد كبير من شخصيات هوليوود اللامعة، وصديقي ريجس دبريه الذي اعتنق الديجولية متأخراً، ودانيال ميتران، أرملة الرئيس فرانسوا ميتران الدائمة، والذي أضفى عليها بماركة اشتراكية. تلكم كانت أحداث طريفة، ولكن من الخطأ الجسيم إهمالها كرفرفات لا قيمة لها في سجل البلاهة الإنسانية. وفي الحقيقة، فإنها تمثل الأبعاد المتفجرة لحركة سياسية وأيديولوجية شاسعة، متجذرة بصلابة، في قطاعات على اليسار والوسط واليمين، وموحدة في شكوك عميقة تجاه الحرية كأداة لحل قضايا الإنسانية. لقد بنوا مخاوفهم في شكل شبح جديد أطلقوا عليه اسم “الليبرالية الجديدة”. وفي مجمل التعابير الشائعة التي يستخدمها علماء الاجتماع والسياسة، فإنها تعرف كذلك بأنها “الفكر الوحيد”، كبش الفداء الذي تعلق على شماعته الكوارث الحالية والماضية من التاريخ العالمي.
أساتذة ذوو عقول كبيرة، في جامعات باريس وهارفارد والمكسيك، ينتفون شعورهم وهم يحاولون أن يثبتوا بأن الأسواق الحرة لا تخدم أبعد من جعل الغني أكثر غنى والفقير أكثر فقراً. إنهم يقولون لنا بأن التدويل والعولمة لا يخدمان سوى الشركات الضخمة عابرة القارات، وتسمح لهما “بعصر” البلدان الناشئة إلى درجة خنقها، وأنها تُدمرُ الطبيعة الكونية تدميراً تاماً. لذا، فلا عجب أن نرى مواطني بلدة البورغ الجهلة، أو مواطني شيابان، يعتقدون بأن العدو الحقيقي للإنسانية—المُدان بكافة الشرور، من معاناة وفقر واستغلال وتمييز وإساءة وجرائم ضد حقوق الإنسان، التي ترتكب في القارات الخمس، ضد ملايين البشر، هي تلك الكائنة المدمرة التي تعرف بالليبرالية الجديدة. إنها ليست أول مرة في التاريخ أن ما أسماه كارل ماركس بالصنم—وهو بناء اصطناعي ولكنه في خدمة مصالح ملموسة جداً—قد اكتسب استمرارية، واصبح يثير مثل هذا التمزيق في الحياة، مثل الجنِّي الذي أطلق بشكل عابث غير حكيم إلى الوجود، عندما فرك علاء الدين المصباح السحري.
إنني أعتبر نفسي ليبرالياً، وأعرف أناساً كثيرين ممن هم ليبراليون، وغيرهم كثر ممن هم غير ذلك، ولكن، وعلى امتداد تاريخ طويل من العمل يبدو طويلاً، فإنني لم أر ليبرالياً جديداً واحداً. ماذا يمثل الليبرالي الجديد؟ هو ضد ماذا؟ وعلى النقيض من الماركسية، أو الأنماط المختلفة للفاشية، فإن الليبرالية الحقيقية لا تمثل عقيدة، أيديولوجية متكاملة تكفي نفسها بنفسها، مع أجوبة جاهزة على جميع القضايا الاجتماعية. وبدلاً من ذلك، فإن الليبرالية هي عقيدة لا تتعدى الجمع بين مبادئ أساسية بسيطة نسبياً، تتجمع حول الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية (أي الديمقراطية والسوق الحرة). كما أنها تضم تشكيلة واسعة من التوجهات والصيحات الاحتجاجية. الذي لم تشمله حتى الآن، والذي لن تشمله في المستقبل، هو ذلك الكاريكاتور الذي يقدمه أعداؤها تحت تسمية الليبرالية الجديدة. في الإنجليزية “Neo” أي الجديد، هو شخص يزعم بأنه ذو شأن، شخص هو في الوقت ذاته داخل وخارج شيء ما؛ إنه تركيبة مهجنة مراوغة، رجل من القش، أقيم دون أن يجسد قيمة محددة، أو فكرة، أو نظاماً أو عقيدة.
قول الليبرالية الجديدة مطابق لقول شبه ليبرالية، أو ليبرالية زائفة. إنها هراء في هراء. إما أن يكون المرء مناصراً للحرية أو ضدها، ولكن لا يستطيع أن يكون نصف مناصر، أو مناصراً زائفاً للحرية مثلما أنه لا يمكن للإنسان أن يكون نصف حامل، أو نصف حيّ، أو نصف ميت. لم تخترع التسمية للتعبير عن حقيقة فكرية، بل كسلاح ماض يستخدم للسخرية. لقد اخترع التعبير بهدف التقليل من قيمة الحرية وحيث أننا ندخل الألفية الجديدة، فإن الليبرالية، أكثر من أية أيديولوجية أخرى، تُجسد التقدم الهائل الذي أحرزته الحرية على امتداد تاريخ الحضارة الإنسانية الطويل.
يجب أن نحتفل بما أنجزته الليبرالية بالفرح والسكينة، ولكن دون جلبة الانتصار. يجب أن يكون واضحاً في مفهومنا أنه، وعلى الرغم من أن إنجازات الليبرالية كانت باهرة، فإن ما لم يتم إنجازه حتى الآن هو أكثر أهمية. يضاف إلى ذلك، وحيث أنه لا شيء في التاريخ الإنساني مُقدّرٌ أو دائم، فإن التقدم الذي تم إحرازه في العقود الأخيرة، في موضوع الحرية، ليس أمراً لا يمكن الرجوع عنه. وما لم نتعلم كيف ندافع عنه، فإن ثقافة الحرية يمكن أن تصبح آسنةً، وسوف يفقد العالم الحر الأرضية لصالح قوى الاستبداد الشمولية والقبلية، مرتدين قناعاً من القومية أو التطرف الديني. لقد خلفت هذه القوى الشيوعية كأشد أعداء الديموقراطية مراساً وتجربة.
بالنسبة لليبرالي، فإن أهم ما حدث في هذا القرن، هو هزيمة الهجوم الشمولي الكبير ضد ثقافة الحرية. الفاشية والشيوعية، كل واحدة منها في زمنها، وصلت إلى مرحلة تهديد بقاء الديمقراطية. إنهم الآن ينتمون إلى الماضي، إلى التاريخ الأسود للعنف والجرائم التي تتجاوز الوصف، ضد الحقوق المدنية والعقلانية، وليس هنالك أي دليل بأنها سوف تبعث من رمادها في المستقبل المنظور. بطبيعة الحال، ما زال هنالك ما يُذكر بالفاشية في العالم. وفي بعض الأوقات، أحزاب متشددة ومتعصبة إلى أقصى الحدود، أمثال جبهة جان ماري لوبن الوطنية في فرنسا، أو الحزب الليبرالي في النمسا بزعامة جورغ هيدر، تستهوي درجة عالية خطرة من التأييد الانتخابي. كذلك، ما زالت هنالك بقايا باهتة للصرح الماركسي الهائل تجسده كوبا وكوريا الشمالية. ومع ذلك فإن تلك الفسائل الفاشية والشيوعية، لا تشكل بديلاً خطيراً أو كبيراً للخيار الديمقراطي.
مازالت تعيش دكتاتوريات، ولكن، وخلافاً للامبراطوريات الشمولية الكبيرة، فإنها تفتقر إلى أجواء عقائدية، أو ادعاءات جامعة تتجاوز حدودها. كثير منها، مثل الصين، تحاول الآن الجمع بين سياسات الحزب الواحد للدولة، وبين اقتصاديات السوق والاقتصاد الحر. وفي أقاليم شاسعة من أفريقيا وآسيا، وبشكل خاص في المجتمعات الإسلامية، نشأت دكتاتوريات أصولية، التي أعادت تلك البلدان إلى حالة من البدائية البربرية في شؤون تتعلق بالمرأة، والتعليم، والمعلومات، والحقوق المدنية والأخلاقية الأساسية. ومع ذلك، ومهما كانت الصور المرعبة التي تمثلها بلدان مثل ليبيا، وأفغانستان، والسودان أو إيران، فإنها لا تشكل تهديداً يتوجب على ثقافة الحرية أخذه بجدية: تأخر العقيدة التي يؤمنون بها تحكم على تلك الأنظمة بالتقهقر المتواصل إلى الخلف، في السباق نحو الحداثة، سباق سريع سبق وأن أحرزت فيه البلدان الحرة سبقاً حاسماً.
وعلى الرغم من الجغرافيا الكئيبة التي تكشف النقاب عن استمرارية الدكتاتوريات، فإن أمام الليبراليين الشيء الكثير الذي يستحق أن يحتفل به في العقود الأخيرة. ثقافة الحرية حققت تقدمات حاسمة في مناطق شاسعة من أواسط وغرب أوروبا، وجنوب شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية. في أمريكا اللاتينية، ولأول مرة في التاريخ، تسلمت مقاليد الحكم حكومات مدنية—ولدت عن طريق انتخابات حرة—في كل بلد من تلك البلدان تقريباً. (الاستثناء هو كوبا، وهي دكتاتورية أكيدة، والبيرو، وهي دكتاتورية مقنّعة). وأكثر من ذلك لفتاً للأنظار أن تلك الديمقراطيات تطبق الآن وإن كان على مضض وغير حماس وقلة دراية، سياسات السوق، أو على الأقل سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى سياسات التدخل والتأميم الهادف إلى كسب ود الجماهير، والذي اتسمت به تقليدياً حكومات القارة.
ولعل أكثر الأمور مغزى وأهمية حول تلك التغييرات في أمريكا اللاتينية، هي ليست الكم بل الكيف والنوعية. ومع أنه ما زال شائعاً سماع رجال الفكر الذين أُخرجوا من أعمالهم بعد انهيار الأيديولوجية الشمولية يصرخون على الليبرالية الجديدة، فإن صراخهم يشبه صراخ الذئب الموجه إلى القمر، فمن أدنى أمريكا اللاتينية إلى أقصاها، على الأقل في وقتنا هذا، يوجد توافق متين وراء النظام الديمقراطي، وضد الأنظمة الدكتاتورية و”المثاليات” الشمولية. ومع أن هذا التوافق أكثر تقييداً بالنسبة للسياسة الاقتصادية، فإن حكومات أمريكا اللاتينية أصبحت تنحني لنظرية الاقتصاد الليبرالي. تشعر بعض الحكومات بالحرج بالاعتراف بذلك، والبعض الآخر يغطون أنفسهم بالهجوم على الليبرالية الجديدة. ومع ذلك، فليس أمامهم من سبيل سوى تخصيص النشاطات الاقتصادية، وتحرير الأسعار، واقتصاد السوق الحر، ومحاولة لجم التضخم، والسعي لدمج اقتصادهم في الأسواق الدولية. لقد أدركوا نتيجة التجارب المرَّة، أنه ضمن المناخ الاقتصادي السائد اليوم، فإن البلدان التي لا تتبع هذه المؤشرات تحكم على نفسها بالانتحار. أو، بعبارات أقل رعباً، ذلك البلد يحكم على نفسه بالفقر والتخلف وحتى بالتفكك. كثير من القطاعات اليسارية في أمريكا اللاتينية قد طورت مواقفها من كونها عدواً لدوداً للحرية الاقتصادية، إلى اعتناق الاعتراف الحكيم الذي أدلى به فاسلاف هافل: “مع أن قلبي قد يكون إلى اليسار من الوسط، فقد كنت أدرك دائماً بأن النظام الاقتصادي الوحيد الناجع هو اقتصاد السوق. إنه الاقتصاد الطبيعي الوحيد، الوحيد الذي يبدو عملياً، الوحيد الموصل إلى الرخاء، لأنه الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة نفسها”.
علامات التقدم تلك مهمة وتعطي تثبيتاً تاريخياً للنظرية الليبرالية. ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال التقاعس، لأن واحدة من أكثر حقائق الليبرالية تثبيتاً وصفاءً هي التي تبين بأن الحتمية التاريخية غير موجودة. لم يكتب التاريخ بعد بما يعارض أية مقولة أخرى. التاريخ من صنع الرجال، وكما أن الرجال يستطيعون انتهاج الطريق السوي، بإجراءات تدفع التاريخ إلى آفاق التقدم والحضارة، فإنهم يستطيعون أن يرتكبوا الأخطاء كذلك، سواء نتيجة القناعة، أوالتلبد، أو الجبن، وبالتالي يسمحون للتاريخ بأن ينزلق إلى مهاوي الفوضى، والإفقار والظلامية والبربرية. تستطيع ثقافة الديمقراطية أن تكسب أرضاً جديدة، وأن تعزز التقدم الذي سبق وأن أحرَزَتْه. أو أنها تستطيع مشاهدة عرينها وهو ينكمش إلى لا شيء. المستقبل يعتمد علينا—على أفكارنا، على أصواتنا، وعلى القرارات التي يتخذها أولئك الذين نضعهم في السلطة.
بالنسبة لليبراليين، فإن الحرب من أجل تقدم الحرية في التاريخ هي، فوق كل شيء، صراع فكري، معركة أفكار. لقد كسب الحلفاء الحرب ضد دول المحور، ولكن ذلك الانتصار العسكري لم يفعل أكثر من تأكيد تفوق فكرة الإنسان والمجتمع، كفكرة عريضة، أفقية، تعددية، متسامحة وديمقراطية على تصور ضيق الأفق، مقطع الأوصال، عنصري، منحاز وعمودي. انهيار الامبراطورية السوفييتية أمام الغرب الديمقراطي أكد صحة نظريات آدم سميث، وألكس دو تكفيل، وكارل بوبر، وإزيا برلين حول المجتمع المنفتح والسوق الحر، وأثبت خطر العجرفة المميتة للأيديولوجيين، مثل كارل ماركس، ولينين، وماو تسيدونغ، الذين كانوا يعتقدون بأنهم قد كشفوا النقاب عن قوانين التاريخ الجامدة، وفسروها بطريقة صحيحة تمثلت بدكتاتورية البروليتاريا والتخطيط المركزي. ويجب أن نتذكر أيضاً بأن الغرب حقق انتصاره على الشيوعية في وقت كانت فيه مجتمعاته مليئة بالشعور بالنقص: الديمقراطية العادية قدمت أقل القليل من “الجذب الجنسية” مقابل المجتمعات التي يفترض أنها خالية من الطبقية للعالم الشيوعي.
المعركة الحالية هي ربما أقل مشقة لليبراليين من تلك التي قاتل فيها أساتذتنا. ففي تلك المعركة، كان هنالك مخططون مركزيون، ودول بوليسية، وأنظمة الحزب الواحد، واقتصاديات تهيمن عليها الدولة، تدعمهم امبراطورية مسلحة تسليحاً شاملاً، بالإضافة إلى حملة علاقات عامة قوية، تدار في قلب الديمقراطيات، على يد طابور خامس من رجال الفكر أغرتهم وطوعتهم الآراء الاشتراكية. اليوم، المعركة التي يجب أن نخوضها ليست ضد مفكرين شموليين عظام أمثال ماركس، أو مفكرين اجتماعيين ديمقراطيين أذكياء مثل جون مينارد كينز؛ ولكن ضد أنماط كاريكاتورية جامدة، تحاول زرع الشكوك والفوضى في المعسكر الديمقراطي؛ ومن هنا يجيء الهجوم المتعدد، المنطلق من خنادق مختلفة ضد الشبح المرعب الذي يحمل اسم الليبرالية الجديدة. المعركة أيضاً ضد أصحاب الرؤية المتشائمة، وهي فئة جديدة من المفكرين المتشائمين. فبدلاً من محاربة ثقافة الديمقراطية، كما فعل غورغ لوكاس، وأنطونيو جرامسكي، وجان بول سارتر، فإن أصحاب الرؤى المتشائمة قانعون بنفي وجودها، محاولين التأكيد لنا بأن الديمقراطية غير موجودة، وأننا نتعامل مع خيال، يكمن وراءه ظل الاستبداد الخطير.
أود أن أبرز من بين تلك الفئة رمزاً أفرده في بحث ما أشير إليه: إنه الدكتور روبرت كابلان. في مقالة مثيرة، يقول كابلان أنه، وعلى النقيض من التوقعات المتفائلة حول مستقبل الديمقراطية والذي تجلت طلائعه في موت الماركسية في شرق أوروبا، فإن الإنسانية تتجه في الواقع نحو عالم يسيطر عليه الاستبداد. هذا الاستبداد جليٌ في بعض الحالات؛ وفي حالات أخرى، فإنه مُقنَّع بمؤسسات ذات مظهر مدني وليبرالي. بالنسبة لكابلان، فإن هذه المؤسسات هي مجرد زينة. القوة الحقيقية هي—أو سوف تصبح قريباً—في أيدي الشركات الدولية الضخمة، ملاك التكنولوجيا ورأس المال، والذين يتمتعون، بفضل تواجدهم المستدام عبر الحدود، بحصانة تامة في أعمالهم. وقد كتب يقول: “أقرر بأن الديمقراطية التي نشجعها في كثير من مناطق العالم الفقيرة هي جزء عضوي من التحول نحو شكل جديد من أشكال الاستبداد؛ وأن الديمقراطية في الولايات المتحدة هي في خطر أعظم من أي وقت مضى، ومن مصادر غامضة؛ وأن كثيراً من نظم الحكم المستقبلية، وبالأخص نظامنا، قد تشبه الأوليغاركية (فئة المصالح الحاكمة) التي كانت سائدة في أثينا واليونان في العصور الخوالي، أكثر مما تشبه الحكومة الحالية القائمة في واشنطن”.
تحليله يتسم بسلبية أشد فيما يتعلق بإمكانية تجذر الديمقراطية في العالم النامي. ووفق ما يقوله كابلان، فإن جميع الجهود الغربية لفرض الديمقراطية في بلدان تفتقر إلى تقاليد ديمقراطية قد انتهت إلى فشل ذريع. بعض تلك الإفشالات كانت باهظة الثمن، كما هو الحال في كامبوديا، حيث فشل استثمار ملياري دولار من قبل المجموعة الدولية في ترسيخ حكم القانون أو الحرية، ولو ميلمتراً واحداً في مملكة أنجور العتيقة. نتائج تلك الجهود، في مناطق مثل السودان أو الجزائر أو أفغانستان أو البوسنة أو سيراليون أو الكونجو أو مالي أو روسيا أو ألبانيا أو هاييتي، قد أدت إلى نشوب الفوضى، والحروب الأهلية والإرهاب، وإحياء الدكتاتوريات الوحشية الضارية التي تمارس التطهير العرقي، أو ترتكب حروب إبادة ضد الأقليات الدينية.
كابلان ينظر بازدراءٍ مماثل لعملية “الدمقرطة” في أمريكا اللاتينية. تشيلي والبيرو هما الاستثناءان. حقيقة أن الأولى جرَّبت دكتاتورية أغوستو بينوشيه، والثانية تعاني من دكتاتورية ألبرتو فوجيموري والقوات المسلحة، في رأيه، تضمن الاستقرار في تلك البلدان، وبالمقارنة مع ذلك، فإن ما يطلق عليه اسم حكم القانون عاجز عن حماية ذلك الاستقرار في كولومبيا وفنزويلا والأرجنتين والبرازيل، حيث ضعف المؤسسات المدنية في رأيه، والفساد المستشري، والفروق الفلكية في مداخيل الناس، “تدفع لرد فعل من قبل الملايين من سيئي التعليم، الذين أصبحوا يسكنون المناطق الحضرية في أحياء قذرة مزدحمة، والذين لا يجدون أية فوائد محسوسة من الأنظمة البرلمانية الغربية”.
كابلان لا يضيع أي وقت في الدوران حول الموضوع إذ يقول ما يفكر فيه بوضوح، وما يفكر فيه هو أن الديمقراطية والعالم النامي نقيضان لا يلتقيان، “الاستقرار الاجتماعي يتم نتيجة قيام طبقة متوسطة. النظم الاستبدادية، بما فيها الملكيات، هي التي تخلق الطبقات الوسطى، وليس الديمقراطية”. وهو يذكر مثلاً حوض الباسيفيك الآسيوي (والذي يمثله، أكثر ما يمثله، رئيس وزراء سنغافورة لي كوان يو، وكذلك تشيلي في عهد بينوشيه). ومع أنه لم يذكر ذلك، فقد كان بإمكانه أن يذكر أيضاً الجنرال فرنسيسكو فرانكو، رئيس إسبانيا. الأنظمة الاستبدادية التي يراها تخلق الطبقات الوسطى والتي تجعل الديمقراطية أمراً ممكناً، هي الصين و”سوقها الاشتراكي”، والبيرو في ظل حكم فوجيموري (دكتاتورية عسكرية مع دمية مدنية). تلكم هي أنماط التنمية التي يراها، والقادرة على خلق “الرخاء من الفقر المدقع”. الخيار المتاح في العالم النامي في رأي كابلان ليس “بين الدكتاتوريين والديمقراطيين، وإنما هو بين الدكتاتوريات السيئة، وتلك التي هي أفضل منها بقليل”. وفي رأيه أن “روسيا، إنما هي فاشلة، جزئياً بسبب أنها ديمقراطية، والصين، على ما يبدو، ناجحة، بسبب أنها ليست كذلك”.
لقد خصصت مساحة لمراجعة هذه الآراء، بسبب أن كابلان يملك ميزة القول بصوت عالٍ، ما لم يملكه الكثيرون ممن يشاطرونه الرأي، ولكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عن آرائهم أو أنهم يكتفون بالهمس فيها. تشاؤم كابلان، بالنسبة للعالم النامي كبير؛ ولكنه ليس أقل مما أوحى به العالم المتقدم في نفسه. فبمجرد أن تنتهي الدكتاتوريات الكفؤة من تطوير بلدانها الفقيرة، وتسعى الطبقات الوسطى إلى التمتع بالديمقراطية على الطراز الغربي، فإنهم يكتشفون بأنهم إنما يطاردون السراب. ذلك أن الديمقراطيات الغربية تكون قد استبدلت بنظام (مشابه لذلك الذي كان قائماً في أثينا وسبارته) والذي تكون فيه الأوليغاركية—المتمثلة بالشركات متعددة الجنسيات، والتي تعمل في القارات الخمس—قد استلبت من الحكومات السلطة في اتخاذ القرارات ذات الأهمية للمجتمع وللفرد. سوف تمارس الأوليغاركية (حكم ذوي المصالح) سلطاتها مع انعدام مساءلتها، ذلك أن السلطة تأتي إلى الشركات الضخمة، ليس عن طريق الانتخاب، ولكن من خلال قوتها التكنولوجية والاقتصادية. وفي حالة أن لا يكون القارئ على علم بالإحصائيات، فإن كابلان يذكرنا بأنه من بين أعلى 100 اقتصاد في العالم، فإن 51 منها ليست بلداناً وإنما مؤسسات اقتصادية، وأن أقوى 500 شركة كبرى وحدها، تمثل 70% من التجارة العالمية.
وجهات النظر هذه هي نقطة انطلاق مناسبة للمقارنة مع التصور الليبرالي لأحوال العالم هنا، على أحد قرني الألفية الجديدة. بالنسبة للتصور الليبرالي، فإن خلق الإنسان للحرية، حتى وإن أخذنا في الاعتبار الفوضى العارمة التي أحدثتها، هي المنبع لأعظم الإنجازات التي تحققت، في ميادين العلوم، وحقوق الإنسان، والتقدم التكنولوجي، ومكافحة الاستبداد والاستغلال.
ومن أكثر الأمور غرابة في وجهات نظر كابلان هو القول بأن الدكتاتوريات وحدها هي التي تخلق الطبقات الوسطى، وهي التي تحقق الاستقرار للبلدان. فإذا كان الأمر كذلك، فإن جنة الطبقات الوسطى لن تكون الولايات المتحدة، وغرب أوروبا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وإنما هي المكسيك أو بوليفيا أو الباراغواي. تاريخ أمريكا اللاتينية هو حديقة حيوانات للطغاة الصغار، والحكام الأقوياء والقادة المبجلين. الرئيس بيرون، على سبيل المثال، دمر تقريباً الطبقى الوسطى في الأرجنتين، وكانت طبقة وسطى شاسعة وتتمتع بالرخاء، وتمكنت من تطوير بلدها بوتيرة أسرع مما فعلته معظم البلدان الأوروبية. أربعون عاماً من الدكتاتورية، لم تجلب إلى كوبا أقل القليل من الرخاء، بل أنزلتها إلى مرتبة المتسول الدولي؛ ولتجنب الموت جوعاً، فرض على الكوبيين أن يأكلوا الحشيش والزهور، بينما تمارس نساؤهم الدعارة مع السائحين القادمين من البلدان الرأسمالية.
بطبيعة الحال، يستطيع كابلان أن يقول بأنه لا يتحدث عن جميع الدكتاتوريات، وإنما عن الدكتاتوريات الكفؤة مثل تلك الموجودة في آسيا الباسيفيك، أو دكتاتوريات بينوشيه وفوجيموري. لقد قرأت بحثه، بصدفة تامة، عندما كانت أوتوقراطية إندونيسيا الموصوفة بالكفؤة، تنهار وكان الجنرال سوهارتو يتخلى عن مركزه تحت الضغط، وكان الاقتصاد الإندونيسي يتداعى. وقبل ذلك بقليل، كانت أوتوقراطيات كوريا وتايلندا السابقة قد انهارت، وأخذ نمور آسيا المشهورين بالاختفاء كالدخان، وكأنهم شيء من تمثيليات هوليوود بالغة الإثارة. يبدو أن دكتاتوريات السوق تلك لم تكن ناجحة مثلما تصورها كابلان. إنهم الآن يركعون على ركبهم أمام صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والولايات المتحدة، واليابان وغرب أوروبا، طالبين إنقاذهم من دمار شامل.
من وجهة النظر الاقتصادية، كانت دكتاتورية الجنرال بينوشيه ناجحة، ولنقطة محددة (أي كفاءتها التي تقاس فقط بنسبة التضخم، والعجز في الموازنة، والاحتياطيات الرسمية، ونسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي). هكذا كانت دكتاتورية فوجيموري أيضاً، ومع ذلك، فإننا نتحدث عن كفاءة نسبية جداً. عندما نترك الأمن المريح والمجتمع المفتوح (الولايات المتحدة في حالة كابلان) ونتفحص تلك الأنظمة من منظور أولئك الذين عانوا جرائم وشطط الأنظمة الدكتاتورية، فإن تلك الكفاءة النسبية تختفي. وعلى النقيض من كابلان، فنحن الليبراليون لا نؤمن بأن إنهاء الاقتصاد الشعبي، أو الإمساك برقبة التضخم، يشكلان أقل درجات التقدم للمجتمع، أو إذا كان في الوقت ذاته تحريراً للأسعار، وخفض الإنفاق العام، وخصخصة القطاع العام، فإن كل ذلك لا قيمة له إذا كانت النتيجة إخضاع المواطنين للعيش في ظل الخوف المرعب. التقدم لا يعني الدوس على حقوق المواطنين. التقدم لا يحرم المواطنين من صحافة حرة، أو حرمانهم من اللجوء إلى قضاء نزيه محايد، عندما يعتدي على حقوقهم أو يساء إليهم أو التزوير ضدهم.
التقدم لا يسمح بأن يتعرض المواطنون للتعذيب، أو مصادرة الأموال، أو الاختفاء أو القتل، وفق نزوات العصابة الحاكمة. فبموجب النظرية الليبرالية، فإن التقدم يسير في آن معاً في ميادين الاقتصاد والسياسة والثقافة. وإلا، وبكل بساطة، فإنه ليس بتقدم. هذا القول يستند إلى أسباب عملية وأخلاقية. في المجتمعات المفتوحة حيث تنتقل المعلومات دون قيود أو إعاقة، والتي يسود فيها حكم القانون، هي أكثر تحصيناً في مواجهة الأزمات من المجتمعات المقيدة. وقد ثبت ذلك من خلال نظام حزب الثورة المؤسساتي في المكسيك قبل بضع سنوات، وفي فترة لاحقة بعد ذلك، من خلال الجنرال سوهارتو في إندونيسيا. إن غياب دور حكم القانون الحقيقي في بلدان حوض الباسيفيك الاستبدادية، لم يؤكد عليه بدرجة كافية في الأزمة الراهنة.
كم كان عدد الدكتاتوريات الكفؤة؟ وكم كان عدد غير الكفؤة؟ كم من الدكتاتوريات أغرقت بلدانها في وحشيات لا عقلانية، كما يحدث اليوم في الجزائر وأفغانستان؟ الأغلبية الساحقة من الدكتاتوريات هي تلك غير الكفؤة، أما الكفؤة فهي الاستثناء. أليست مغامرة غير محسوبة اختيار الدكتاتورية من أجل تحقيق التنمية—أن يؤمل بأن يكون ذلك النظام محترماً وانتقالياً وليس العكس؟ ألا توجد طرق أقل مخاطرة، واقل عنفاً لتحقيق التقدم الاقتصادي؟ الحقيقة أنه توجد مثل هذه الطرق، ولكن أناساً مثل كابلان لا يريدون رؤيتها.
في البلدان التي تزدهر فيها الديمقراطية، فإن ثقافة الحرية ليست بالضرورة ذات تقاليد قديمة، لم تكن تقليداً في أي من الديمقراطيات المعاصرة إلى أن اختارت تلك المجتمعات هذه الثقافة وتقدموا بها، بعد تجارب ونكسات عديدة، وأتقنوها عبر مسيرتهم، إلى أن جعلوا ثقافة الديمقراطية ثقافتهم الذاتية. الضغط الدولي والمساعدات يمكن أن يكونا عنصراً فعالاً من الدرجة الأولى، في تطبيق أي مجتمع لثقافة الديمقراطية، كما تدل على ذلك تجربة ألمانيا واليابان، وهما بلدان يفتقران إلى التقاليد الديمقراطية، كأي بلد من بلدان أمريكا اللاتينية، ومع ذلك تبنّيا ثقافة الديمقراطية وأصبحت جزءا من حياتهما. فمنذ وقت قصير من انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد انضمتا إلى الديمقراطيات المتقدمة في العالم. لماذا إذن تكون دول نامية (أو روسيا) غير قادرة على تحرير نفسها من التقليد الاستبدادي؟ فلماذا لا يستطيعون أن يفعلوا ما فعله الألمان أو اليابانيون، وأن يبنوا ثقافة الحرية؟
وعلى النقيض من النتائج المتشائمة التي توصل إليها كابلان، فإن العولمة تفتح فرصة من الدرجة الأولى، لبلدان العالم الديمقراطية، وبالأخص لديمقراطيات العالم المتقدم في أمريكا وأوروبا، للمساهمة في دفع التسامح والتعددية وحكم القانون والحرية إلى الأمام. كثير من البلدان ما زالت عبداً للتقاليد الأوتوقراطية، ولكن علينا أن نتذكر بأن الأوتوقراطية قد كانت في يوم من الأيام تهيمن على الإنسانية كلها. إن توسع ثقافة الحرية ممكن إذا ما تم تحقيق ما يلي:
أ‌- أن نؤمن إيماناً واضحاً بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تسمح بالتعصب، وعدم التسامح، والعنصرية، والتي تسمح قانوناً بالتمييز الديني والإثني والسياسي وعلى أساس الجندر.
ب‌- أن نطبق سياسات اقتصادية وخارجية متناسقة، وتوجيهها بطريقة من شأنها، في آن معاً، تشجيع التوجهات الديمقراطية في العالم النامي، من جهة، ومعاقبة والتحيز ضد الأنظمة التي، مثل نظام الصين أو النظام المدني–العسكري التوأم القائم في البيرو، والذي يشجع السياسات الليبرالية في حقل الاقتصاد، بينما يبقي على الدكتاتورية في سياساته.
لسوء الحظ، وخلافاً لموقف كابلان، فإن ذلك النمط من التحيز لصالح الديمقراطية، والذي جلب كل تلك المنافع الكبيرة لبلدان مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان قبل نصف قرن، لم تطبقه البلدان الديمقراطية في يومنا هذا في تعاملها مع بقية العالم. وفي الحالات التي تم تطبيقها، فقد طبقت جزئياً وبطريقة مراوغة، كما هي الحال مع كوبا.
ومع بزوغ بدايات الألفية الجديدة، فإن لدى الديمقراطيات في البلدان المتقدمة حوافز أقوى للعمل بقناعات مبدئية وحازمة في دعم الديمقراطية. هذا الدافع يتأتى عن وجود خطر جديد، خطر يشير إليه كابلان في بحثه. ففي نظرته التشاؤمية المطلقة، يتنبأ كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية في المستقبل، تتألف من الشركات القوية المتعددة الجنسيات، والتي تعمل دون قيد في جميع أرجاء العالم. هذا التصور الكارثي يوضح الخطر الحقيقي الذي نشعر به. اختفاء الحدود الاقتصادية، وانتشار الأسواق العالمية يدعمان الاندماج والتحالف بين الفعاليات الاقتصادية عندما تسعى إلى المنافسة بشكل أكثر فعالية في جميع ميادين الإنتاج.
إنشاء شركات كبرى لا يشكل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، ما دام أن الديمقراطية حقيقية، أي ما دامت هنالك قوانين عادلة وحكومات قوية. (بالنسبة لليبرالي “القوية” تعني المحدودة والفعالة، وليس “الكبيرة”). في اقتصاد السوق الذي يكون مفتوحاً للمنافسة، فإن الشركة الكبيرة تفيد المستهلك بسبب أن حجم إنتاجها يمكّنها من تخفيض الأسعار ومضاعفة الخدمات. لا يكمن الخطر في حجم الفعالية الاقتصادية؛ وإنما يتأتى الخطر عن الاحتكار، الذي يكون دائماً سبباً في عدم الفعالية ومسبباً للفساد. وما دام أن هنالك حكومات ديمقراطية تحترم القانون—حكومات تحاكم حتى بيل جيتس إذا ما تجاوز القانون—لن يكون هنالك أي خطر يخشى منه. ما دام أن الحكومات الديمقراطية تحافظ على أسواق مفتوحة أمام المنافسة، وخالية من الاحتكار، عندها فلا خوف أبداً من الشركات الضخمة، والتي كثيراً ما تخدم المجتمع عن طريق مبادراتها السباقة في التقدم العلمي والتكنولوجي.
الشركة الرأسمالية لها طبائع الحرباء. ففي بلد ديمقراطي، فإنها تشكل مؤسسة ناجعة في التطور والتقدم. ولكن، في البلدان التي لا يسودها حكم القانون، ولا يوجد فيها سوق حرة، والذي يتقرر كل شيء فيه على يد إرادة حاكم مطلق، أو فئة حاكمة مستنفعة، فإن المؤسسة الرأسمالية يمكن أن تكون مصدراً للكوارث. الشركات ليست أخلاقية أو لا أخلاقية، وهي تتأقلم بسهولة مع قوانين اللعبة التي تعمل في إطارها. فإذا كان سلوك الشركات متعددة الجنسيات مدعاة للإدانة في كثير من البلدان النامية، فما ذلك إلا مسؤولية أولئك الذين يقع على عاتقهم وضع قوانين اللعبة، في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. نحن لا نستطيع لوم الشركات في اتباعهم لتلك القوانين، من خلال سعيهم لتحقيق الربح.
من تلك الحقيقة، يستخلص كابلان هذه النتيجة المتشائمة: مستقبل الديمقراطية معتم، لأن الشركات الضخمة سوف تسلك في الألفية الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية السلوك ذاته الذي تنتهجه حالياً في—على سبيل المثال—نيجيريا في عهد الكولونيل أباتشا.
في الحقيقة، لا يوجد أي سبب عقلي أو افتراضي لمثل هذا الاستخلاص. وبدلاً من ذلك، يجب أن نقرر النتيجة التالية: يتوجب على جميع البلدان في عالم اليوم والتي تحكمها الدكتاتورية أن تتطور سريعاً نحو الديمقراطية، وأن تطور ذلك الصرح من النظام القانوني، الذي يطالب الشركات الكبيرة بانتهاج السلوك السوي والأخلاقي، مثلما يطلب منها أن تفعل في البلدان المتقدمة. فبدون عولمة حكم القانون والحرية، فإن العولمة الاقتصادية تشكل خطراً جسيماً على الحضارة، وفوق كل شيء، على صحة الكرة الأرضية. يتوجب على الدول الكبرى تحمل مسؤولية أخلاقية نحو تشجيع وتنمية الأساليب الديمقراطية في العالم النامي. كما أن عليها واجباً عملياً. فبتبخر الحدود، فإن أعظم الضمانات بأن تعم الفوائد الاقتصادية جميع الناس هو التأكد بأن تدفق الاقتصاد على امتداد العالم سوف يتم في حدود الحرية والتنافس، وأن يكون موجهاً بالحوافز والحقوق والقيود التي يفرضها المجتمع الديمقراطي.
لن يكون أي من ذلك سهلاً، ولن يتم تحقيق أي شيء منه في فترة زمنية قصيرة. ولكن بالنسبة لليبراليين، فإن إدراكنا بأننا نسير نحو هدف يمكن تحقيقه يشكل لنا حافزاً عظيماً. فكرة أن يكون العالم موحداً حول ثقافة الحرية ليست يوتوبيا خيالية، بل هي فكرة جميلة يمكن تحقيقها، الأمر الذي يبرر الجهود التي نبذلها. وكما قال كارل بوبر، أحد أعظم أساتذتنا:
“التفاؤل واجب. المستقبل مفتوح. إنه ليس مقرراً سلفاً، ولا يستطيع أحد التنبؤ به، إلا من قبل الحظ. نحن جميعنا نساهم في تقريره، من خلال ما نفعل. ونحن جميعنا مسؤولون بالتساوي لنجاحه”.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 26 آب 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

بتاريخ 20 نيسان 2006، أصبح مارت لار، رئيس وزراء إستونيا السابق ثالث من ينال جائزة “ميلتون فريدمان لتقدم الحرية”، والتي تعطى كل سنتين للشخص الذي يكون قد ساهم مساهمة مهمة في تقدم الحرية الإنسانية. إنها تأتي مصحوبة بمبلغ 500 ألف دولار كجائزة مالية، ويقدم معهد كيتو—وهو مؤسسة غير ربحية تعنى بأبحاث السياسة العامة—ومقره الرئيسي في واشنطن العاصمة جائزة فريدمان.
يجري اختيار من يربح جائزة فريدمان من قبل لجنة تحكيم دولية، والتي تضمنت هذا العام آن أبلبوم من صحيفة الواشنطن بوست؛ وفريد زكريا من النيوزويك إنترناشونال؛ وفرانسيسكو فلوريس، رئيس السلفادور السابق؛ وفريد سميث، رئيس شركة الفيديرال إكسبرس؛ وروز فريدمان. وقد ربح الجائزة في السابق كل من بيتر بوير، عالم الاقتصاد البريطاني، لمساهمته الرائدة في التنمية الاقتصادية، وهيرناندو دي سوتو، عالم الاقتصاد البيروفي لمساهمته حول أهمية حقوق الملكية في مساعدة الفقراء على الحصول على رأس المال. إن هذين العالمين الاقتصاديين ساعدا في بلورة أُسس نظرية لتطبيق مبادئ السوق في محاربة الفقر. وقد أظهرا بأن السوق الحرة، التي تتسم بالتجارة الحرة، وتدخّل الدولة المحدود في الاقتصاد، والتركيز القوي على الملكية الفردية، وسيادة القانون، هي أفضل الآليات للحد من الفقر على امتداد العالم. وقد وضع مارت لار تلك المبادئ النظرية موضع التنفيذ في مصلحة أبناء وطنه.
ووفق التقرير السنوي “الحرية الاقتصادية في العالم لسنة 2005″، والذي يصدر عن معهد فريزر في كندا، فقد صُنِّفت إستونيا في المرتبة التاسعة من حيث الحرية الاقتصادية. كثير من الناس اليوم يجدون صعوبة في تذكر أيام الاتحاد السوفييتي، عندما كان اقتصاد إستونيا محكوماً كلياً من قبل الدولة، ويعاني من خطوط الانتظار الطويلة ونقص السلع والمواد. لقد استبدل مارت لار “يد الحكومة الميتة” بيد آدم سميث غير المرئية. فقد ألغت حكومته تعرفة الاستيراد (وهو قرار انعكس جزئياً نتيجة انضمام إستونيا للاتحاد الأوروبي)، وشرَّع ضريبة دخل ثابتة. وقد هبطت ضريبة الدخل على الأرباح التي يعاد استثمارها إلى الصفر، كما تم إتباع سياسة نقدية مستقرة أدت إلى مكافحة التضخم. كما حققت الحكومة أشواط بعيدة في خصخصة شركات الدولة.
ومع أن اقتصاد إستونيا عانى من أزمة اقتصادية حادة، ولكن قصيرة الأمد، وهو ما عانته جميع الاقتصاديات الانتقالية، إلا أنه وبحلول عام 1995 عاد اقتصاداً مدوياً في نشاطه. ووفق إحصاءات البنك المركزي، فقد نما معدل الناتج المحلي الإجمالي السنوي بمقدار 6.6%. وخلال ذلك العقد، نما دخل الفرد من المجموع الكلي، معدلاً بالقوة الشرائية 6847 دولاراً إلى 12773 دولاراً مرتبطاً بأسعار عام 2000، وهي زيادة تبلغ 86.5%. لقد كان النمو الذي حققته إستونيا نمواً مستداماً، ومن أعلى مستويات التقدم في المنطقة، بحيث وضع البلد على طريق الانضمام إلى بقية الدول المتقدمة.
كما أن رئاسة مارت لار شهدت عودة إستونيا إلى الحكم الديمقراطي، والذي تمتعت به خلال فترة قصيرة من استقلالها بين الحربين العالميتين. لم يكن ذلك أمراً حتمياً. ففي روسيا البيضاء شهد تسلم ألكسندر لوكاشنكو للحكم في عام 1994 عودة البلاد إلى الدكتاتورية الشيوعية. وكان على أوكرانيا أن تنتظر 13 عاماً بعد إعلان استقلالها في عام 1991، قبل أن تصبح ديموقراطية، وعادت روسيا إلى الأوتوقراطية تحت زعامة فلاديمير بوتين.
كان تأثير مارت لار أبعد من النفوذ الذي له على مواطني بلاده. فقد تعلمت بلاد أخرى كانت تحت الحكم الشيوعي من إصلاحات إستونيا وقلّدتها. فقد أدّى نجاح استونيا في تطبيق الضريبة الثابتة إلى انتقالها إلى روسيا وسلوفاكيا وأوكرانيا وغيرها. وشكل تحرير استونيا للتجارة من جانب واحد إلهاماً مستمراً للبلدان الأخرى، بما في ذلك جورجيا. كما أن هنالك من يشعرون بأن وجود إستونيا الليبرالية اقتصادياً في الاتحاد الأوروبي سوف يقود الاتحاد الأوروبي بعيداً عن سياسته الاشتراكية. ومع أنني غير مقتنع بأن إستونيا الليبرالية اقتصادياً في الاتحاد الأوروبي لن تكون بمأمن فيها، ناهيك عن أن إستونيا لن تكون قادرة على تغيير مناقشات السياسة العامة في بروكسل، فإنني آمل بكل تأكيد بأن يكون تفاؤل مارت لار حول مستقبل الاتحاد الأوروبي في محله.
كان مارت لار اختياراً رائعاً لجائزة فريدمان لعام 2006. وإنني في منتهى السعادة بأن المؤسسة التي أعمل بها—معهد كيتو—قد استطاعت أن تكرمه على النحو الذي كرمته فيه، كما آمل بأن شعلة الحرية التي أضاءها مارت لار وزملاؤه في إستونيا سوف تستمر في الانتشار إلى سائر أرجاء العالم.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 22 آب 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

إفشاء حقيقة جمع وكالة الأمن القومي سراً بيانات المكالمات الهاتفية لملايين الأمريكيين جاء على خلفية اقتراح المدعي العام غونزاليس ان للرئيس «صلاحية تنفيذية متأصلة» للتنصت على المكالمات المحلية في الولايات المتحدة من دون ضمان. كان ذلك الادعاء ضمن سلسلة من المزاعم الدستورية غير الطبيعية التي لجأت اليها ادارة بوش خلال الحرب على الارهاب. وبين هذه الادعاءات: سلطة إبقاء الأمريكيين على الاراضي الأمريكية واحتجازهم من دون تهم أو محاكمات طوال فترة تلك الحرب، وسلطة تجاوز القوانين التي تتعارض مع أي من التدابير التي يريد الرئيس اتباعها في الحرب على الارهاب.
وهناك مبدأ عام يقف خلف كل هذه الادعاءات هو أن سلطة الرئيس لا بد أن تُترك من دون قيود، لا يراقبها سوى حسن نية السلطة التنفيذية والاحتمالات البعيدة لمحاكمة الرئيس.
الأكثر إثارة للدهشة أنه حتى عندما كان الرئيس يستنزف الدعم المحافظ في بعض الشؤون، كالهجرة والإنفاق، استمر المحافظون في دعم مزاعمه الدستورية المريبة. ولطالما احتفى اليمين بـ”قوة السلطة التنفيذية” الهاميلتونية، لكن نظرية الرئيس الواسعة للسلطة التنفيذية تفوق ذلك بكثير. فهي تتقرب من كابوس جيمس ماديسون الذي تجتمع فيه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الأيدي ذاتها، في حال سماها ماديسون “التعريف الأكيد للطغيان”.
وعلى رغم ذلك، فإن القياديين المحافظين استجابوا بهزء لأي محاولات لتحجيم قوة بوش. في آذار كتب محررو صحيفة “وول ستريت جورنال”، بعدما لاحظوا محاولات الكونغرس العرجاء لاستعادة الاشراف على الرقابة التي تتولاها السلطة التنفيذية: “فلنتمنَ أن عندما يندب أحد ملوك العاصمة (الرئاسة الامبراطورية) في المرة المقبلة، ينفجر الجميع بالضحك. ما كنا نشاهده هذا الأسبوع هو مجموعة من الاقزام الليليبوتيين في كابيتول هيل وهم يربطون إدارة بوش التي كثيراً ما تشبه غوليفر”.
وبعد شهر أوشك المدعي العام لغوليفر، اثناء شهادته أمام الكونغرس، أن يتطرق الى نظرية الادارة حول صلاحية السلطة التنفيذية في تطبيق الرقابة بلا ضمانات على المكالمات المحلية للأميركيين، رافضاً في الوقت ذاته أن يؤكد وجود برنامج كهذا أو ينكره. في ذلك اليوم، أصدرت وزارة العدل ما يمكن أن يطلق عليه “التوضيح غير التوضيحي” لشهادة غونزاليس: “يجب ألا تفسر شهادة المدعي العام اليوم على أنها تقترح وجود برنامج محلي أو عدم وجوده.”
يثق المحافظون بأن جورج دبليو بوش لن يسيء استخدام السلطات التي لديه. ولكن، قبل سنوات قليلة فقط أدركوا أن ليس كل رئيس أهلاً للثقة غير المشروطة. عرفوا أن الرئاسة يمكن أن يمسكها رجال مرتشون فاسدون جداً، لا يثنيهم شيء عن الاحتفاظ بالسلطة. ورأوا الرئيس بيل كلينتون على هذا النحو سواء بانصاف أو بظلم، ونددوا به بعبارات شديدة. ودان المحافظون، بمن فيهم محررو الصحيفة، سوء استخدام مئات من ملفات (اف. بي. آي) والانتهاكات المزعومة لسلطاته خلال فضيحة (ترافلغيت). وبدأ مرشح آخر باسم كلينتون، يقود استطلاعات الرأي في تسمية الديمقراطيين، فاعتنقوا بلا تردد نظريات السلطة التنفيذية التي ستسمح لكل رئيس بالتجسس على الأمريكيين من دون رقابة واحتجازهم من دون محاكمة.
في الاجتماع السنوي للجنة العمل السياسي المحافظ في شباط الماضي، حاز العضو السابق في الكونغرس بوب بار، وهو محافظ عتيد ومدير سابق لمحاكمة الرئيس في محاولة إزاحة الرئيس كلينتون من منصبه، على استقبال فاتر جداً، عندما حذر من اخطار الرئاسة الامبراطورية. كان خصمه في المناظرة، فيت دن، مهندس قانون المواطنة، أكثر ارضاء للجمهور. قال دن للجمهور: “لدى الحركة المحافظة شكوك موضوعية بالسلطة الحكومية، ولكن لسوء الحظ احياناً تحتاج هذه الشكوك الى الرضوخ.” وتحتاج كلمة أحياناً الى اعادة نظر لتصبح (من الآن فصاعداً).
بدأ البنتاغون يسمي الحرب على الارهاب “الحرب الطويلة” التي على عكس الحروب الأخرى لن تنتهي بمعاهدة سلام عبر طاولة ديبلوماسية، بل ستأخذ عقوداً من الزمن، وعندما يتحقق النصر، قد لا نعرف في شكل أكيد أننا ربحنا. إن السلطات فوق الدستورية التي نتحملها اليوم ستتوافر لجميع الرؤساء في المستقبل، سواء كانوا أخلاقيين أم لا، ونظامنا الدستوري برمته يتنكر للفكرة القائلة أن انتخاب الرجال الجيدين هو رقابة جيدة على سوء استخدام السلطة. وللحفاظ على هذا النظام، تحتاج هذه البلاد بشدة، الى انبعاث “الشكوك الموضوعية” للمحافظين.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 4 تموز 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20101

قبل نصف قرن، كان الاقتصاديون التقليديون يلجؤون إلى تحليل السياسة العامة وفق التبرير التالي: تكون الأسواق كفؤة، أو تسودها “كفاءة باريتو” حين تسود المنافسة الكاملة. وتعني كفاءة باريتو أنه ليس هناك من طريقة لإعادة توزيع المدخلات أو المخرجات لزيادة منفعة شخص من دون إلحاق الأذى بشخص آخر، أو، بكلمة أخرى، أن جميع المكاسب من المبادلات قد تحققت. لكن في حالات عدة، تُستبعد هذه النتائج في أنواع عدة من “فشل السوق”، مثل حالة عدم توازن الاقتصاد الكلي، أو الاحتكار الطبيعي، أو المؤثرات الخارجية (سواء منها السلبية أو الإيجابية). المؤثرات الخارجية الإيجابية يمكن توليدها بواسطة “السلع العامة”، التي توفر المنفعة لكل شخص طالما أن الناس ينتجون ويستهلكون هذه السلع. ويتعين على الحكومة التدخل لتصحيح فشل السوق وزيادة الرفاه الاجتماعي إلى أقصى حد.
كان ذلك تحليل السياسة قبل ثورة الخيار العام. وجهة النظر اليوم مختلفة تماماً وتبدأ بسؤال بسيط: كيف تصنع القرارات الجماعية؟ الجواب، بالطبع، هو أن القرارات يتخذها صنّاع السياسة—السياسيون والبيروقراطيون (الإداريون)—والناخبون. الفكرة الأساسية لنظرية الخيار العام بسيطة للغاية: وهي أن الأفراد حين يقومون بدورهم كناخبين، أو كسياسيين أو بيروقراطيين يواصلون الاهتمام بمصالحهم ويحاولون زيادة منفعتهم.
وفيما عدا بعض المبشرين القريبين مثل كتاب أنثوني داونز للعام 1957، نظرية اقتصادية في الديمقراطية، وكتاب دانكن بلاك للعام 1958، نظرية اللجان والانتخابات، يمكن رد بداية مدرسة الخيار العام إلى العام 1962 حين نشر جيمس بيوكانن وغوردون توللوك كتابهما، حسابات تفاضل وتكامل الوفاق. وكان العديد من اقتصاديي الخيار العام البارزين يتحلقون حول بيوكانن وتوللوك في جامعة فرجينياتك في ذلك الحين، أمثال: جيفري برينان، وروبرت دي. توليسون، وريتشارد إي. واجنر، وونستون بوش، وغيرهم. ومقابل عمله الذي أرسى قواعد الخيار العام، مُنح بيوكانن في العام 1986 جائزة نوبل.
حسب مفهوم ضيق، فإن تحليلات الخيار العام تعنى بـ”فشل الدولة”. فالدولة التي تدار بفعاليات تهمها مصلحتها الشخصية في “السوق السياسي” غير قادرة في أحيان كثيرة على تصحيح فشل السوق—أو، على الأقل، تصحيحه بتكلفة أدنى من تكلفة فشل السوق الأصلية ذاتها. أما حسب مفهوم أوسع، فإن الخيار العام هو التحليل الاقتصادي للمؤسسات السياسية، حسب قول دينس موللر في كتابه الخيار العام 3. وفي هذا المفهوم الواسع، فإن جميع الاقتصاديين الذين درسوا تدخل الحكومة قد أصبحوا عملياً الآن اقتصاديين مختصين بالخيار العام.
الدولة
لماذا نحتاج للدولة لتقديم سلع وخدمات معينة؟ ولماذا لا يكون هناك فوضى وترك كل شخص يتدبر شؤونه بنفسه سواء بشكل فردي أو كعضو في مجموعة خاصة؟ يلخص العنوان الفرعي لكتاب جيمس بيوكانن للعام 1975، حدود الحرية، أين يفترض أن الأفراد يريدون أن يكونوا: في مكان ما “بين الفوضى والنظام الديكتاتوري.” وحسب تصور التيار الرئيسي للخيار العام، فإن الدولة ضرورية لوقف “حرب الجميع ضد الجميع” (الهوبزيانية—نسبةً إلى هوبز)، وكما قال مانكور أولسون، فإن “قاطع طريق مقيم”، أي الدولة، يولد من الازدهار أكثر مما يولد “قاطع الطريق المتجول” الذي تقضي على نشاطه.
حين نقر بأن الدولة ضرورية، فإن الخيار العام اليقيني يحلل كيف تباشر الدولة مهماتها في كفاءة التوزيع، وإعادة التوزيع. ويحاول الخيار العام المعياري بيان المؤسسات التي تقود الأفراد إلى الحصول على ما يريدون من الدولة دون أن يتعرضوا لاستغلالها.
النهج التعاقدي الذي يدافع عنه العديد من منظّري الخيار العام هو جزء من الدعامة المعيارية لنظرية الخيار العام. وتُظهر لنا “مرحلة دستورية” يقبل الأفراد فيها قواعد اللعبة السياسية بالإجماع، “ومرحلة ما بعد الدستور”، تُطبَّق فيها أحكام السياسة اليومية. وتشتمل المرحلة الأخيرة عادة على قرارات تعتمد على موافقة الأغلبية، وليس الاتفاق بالإجماع.
الدوران. لماذا يوافق الأفراد على أن يكون لهم خيار جماعي بناءً على حكم الأغلبية؟ ثمة طريقة واحدة يتأكد فيها الفرد ألا يتعرض لاستغلال الأغلبية: أن يكون له حق نقض أي خيار جماعي، أو بكلمة أخرى، فرض الموافقة على جميع القرارات بالإجماع. إلا أن الموافقة بالإجماع تكاد تكون مستحيلة من الناحية العملية لأن تكلفة القرار عالية بشكل يمنع اعتماده—فمن الضروري إقناع عدد أكبر من الأفراد، وسيكون من مصلحة كل واحد أن يكذب بشأن خياراته للتلاعب بالقرار والحصول على أقصى منفعة ممكنة ودفع أقل ضريبة. من جهة أخرى، كلما انخفض مستوى التعددية المطلوب، زادت مخاطر تعرض الفرد للاستغلال. واعتماداً على تكلفة التوصل إلى قرار والمنافع الضائعة إذا ما اتخذ القرار الخاطئ، فإن النسبة المطلوبة قد تكون الأغلبية البسيطة (50 بالمئة زائد صوت واحد) أو نسبة أعلى، مثل الأغلبية المشروطة.
هنا نواجه أول مشكلة تكشفها تحليلات الخيار العام: الأغلبيات—خاصة الأغلبيات البسيطة—هي أغلبيات تعسفية. وهي أبعد من أن توضح من هي الأغلبية وماذا تريد. فالأغلبيات قد تكون غير متماسكة، أو ما هو شبيه بذلك، أي أن تدور على غير هدى بين مختلف البدائل (انظر “لماذا تريد الأغلبية [أ] و[ليس أ] كلتاهما أدناه). فقد تصوت الأغلبية للاقتراح “أ” وتفضله على “ب”، وتفضل “ب” على الاقتراح “ج”، ثم تصوت للاقتراح “ج” إذا خيّرت أن تختار ما بين “أ” و”ج”. وتبدو الأغلبية متشددة وغير عقلانية. وهذا يفسر السبب في أن الناخبين يبدون غالباً غير ثابتين على موقف—مثال ذلك، عندما يصوتون على الحد الأدنى للأجور الذي قد يتسبب في البطالة، ثم عند التصويت على برامج الحكومة الهادفة إلى إيجاد وظائف.


لماذا تريد الأغلبية [أ] و[ليس أ] كلتيهما

إفرض وجود مجتمع مكوّن من ثلاثة ناخبين: “س”، و”ص”، و”ع”. ثم افرض أنهم يناقشون ثلاثة اقتراحات لسياسات متنافرة هي “أ”، و”ب”، و”ج”.
يبين الجدول 1 ترتيب خيارات كل ناخب من الاقتراحات الثلاثة. الناخب “س” يفضل الاقتراح “أ”، وخياره الثاني هو “ب”، وخياره الأخير هو “ج”. الناخبان الآخران لهما خيارات مختلفة. لاحظ أننا نفترض وجود منفعة ترتيبية، ما يعني أن ترتيب البدائل هو المهم.
الآن، إفرض أن الاستفتاء سأل الناخبين أن يختاروا، بموجب حكم الأغلبية، بين الاقتراحات “أ” و”ب”، فسوف يفوز الاقتراح “أ” لأن “س” و”ع” يفضلان “أ” على “ب” وسوف يصوتان بناءً على ذلك؛ أما “ع” الذي يفضل “ب” فسوف يتفوق عليه الآخران بأصواتهما. أما إذا عرض على الناخبين الاختيار ما بين “ب” و”ج”، فسوف يفوز الاقتراح “ب” لأنه المفضل لدى كل من “س” و”ع”. الآن، فكر فيما يحدث إذا طلب من الناخبين الاختيار ما بين “أ” و”ج”، سيفوز “ج” لأن الناخبين “ص” و”ع” سيصوتان للخيار “ج”. وهذا يعني أن “الخيارات الاجتماعية” التي عبر عنها الناخبون غير انتقالية: “أ” مفضلة على “ب”، “ب” مفضلة على “ج” لكن “ج” مفضلة على “أ”.
ويحدث هذا لأن خيارات بعض الناخبين (وهو الناخب “ع” في هذه الحالة) ليست “خيار القمة الوحيد”. ولمعرفة ما يعني ذلك، تصور وجود سلسلة أحادية الأبعاد من “أ” إلى “ب” إلى “ج” (كما لو أنها صفت بهذا الترتيب على طول محور واحد). خيارات الناخب “س” هي خيار القمة الوحيد، لأنه يواصل خسارة منافع كلما ابتعد أكثر عن “أ” في أي اتجاه. في هذه الحالة هو لا يستطيع التحرك “يساراً” مبتعداً عن “أ” لأنه يقف عند أقصى يسار السلسلة، لكنه كلما ابتعد أكثر تجاه اليمين قلت المنفعة التي يحصل عليها. وبالمثل خيارات الناخب “ع” هي خيارات القمة الوحيدة: فخياره المفضل هو “ب” الواقع في منتصف السلسلة ويخسر منفعة إذا تحرك ناحية اليسار إلى “أ” أو ناحية اليمين إلى “ج”. لكن خيارات “ص” ليست ذات قيمة أحادية: فخياره المفضل “ج” وكلما تحرك في اتجاه اليسار إلى “ب” تناقصت منفعته، لكنها تعاود الارتفاع عند “أ”.


يمكن للدوران أن يحدث حين لا تكون خيارات بعض الناخبين هي الوحيدة التي في القمة—أي أنه، بالنظر لوجود طيف واسع من الخيارات، فإن قوة ما يفضله الناخب لا تتراجع بشكل ثابت عندما يفكر في خيارات تبتعد أكثر فأكثر عن أفضل خياراته. وليس هناك في عقلانية الفرد ما يوحي بوجود خيار وحيد في القمة. وكما لاحظ موللر في كتابه، الخيار العام 3، “خلال حرب فيتنام، كان القول الشائع أن بعض الناس يفضلون إما الانسحاب الفوري أو القيام بتوسيع شامل يهدف إلى تحقيق نصر كامل.” مثال آخر: بعض الناس يعتقدون أنه إما أن يُمنع بيع التبغ أو يُترك المدخنون وشأنهم. الخيارات “البين بين” هي الأقل تفضيلاً (من قبل البعض).
طريقة أخرى لرؤية عدم تناسق ظاهرة الدوران هي فهم كيف أن الائتلافات التوزيعية غير مستقرة. فإذا صوتت الطبقة الوسطى مع الطبقة الفقيرة، فإن الطبقتين ستجردان الطبقة الغنية من أموالها. عندها يكون من مصلحة الأغنياء رشوة الطبقة الوسطى لتشكيل تحالف جديد يهدف إلى أخذ ما يمكن أخذه من أموال الفقراء بتقديم جزء ضئيل من تلك الأموال للطبقة الوسطى. وحين يدرك الفقراء أنهم قد يكونوا أفضل حالاً إذا تعرضوا بنسبة أقل للاستغلال، فقد يعرضوا على الطبقة الوسطى استغلال الأغنياء واقتسام الغنيمة معها بنسب متفاوتة. ويتشكل بذلك تحالف فائز جديد. فما الذي تريده الأغلبية في هذه الحالة؟
“الطبقة الوسطى” بالطبع لا تصوت كرجل واحد، وفي نظام الأغلبية البسيطة، فإن أي تحالف يضم أغلبية بسيطة من الناخبين سيصوت كرجل واحد. تبادل الخدمات هي الطريقة التي تتشكل التحالفات بموجبها عادة. وتصف عملية “تبادل الخدمات” تبادلاً غير رسمي للأصوات: السياسي “س” يدعم إجراء لا يحبذه كثيراً لكن السياسي “ص” يجده مهماً للغاية في مقابل دعم “ص” لإجراء يريده “س” بإلحاح. فإذا كان هذا التبادل في الأصوات ممكناً، فإن في وسع شخص آخر أن يزاود على أحد المتبادلين ويحصل على دعم لمشروعه. ويمكن أيضاً قلب التحالف الجديد رأساً على عقب. ويبلغنا موللر عن بعض الأدلة التجريبية أن هذه المقايضة بالأصوات تحدث في الكونجرس—مثال ذلك، تصويت النواب الذين يمثلون مزارعي الفستق لصالح مبادرات يحبذها المزارعون العاملون في صناعة السكر مقابل تصويت أعضاء الكونجرس الذين يمثلون مزارعي السكر على إجراءات لصالح مزارعي الفستق.
نظرية الناخب المتوسط. حين لا يحدث أي دوران تنطلق نظرية الناخب المتوسط. وفي حالة بسيطة ذات بعد واحد تنص النظرية على أنه إذا كان لدى جميع الناخبين خيارات قمة وحيدة، فإن البديل الفائز في تصويت بأغلبية بسيطة هو البديل المثالي (أو الأكثر تفضيلاً) الواقع في النقطة الوسطى من توزيع الخيارات. ويمكن ملاحظة ذلك في الشكل 1، والذي يمثل خيارات الناخبين س1 إلى س5. ويمثل المحور الأفقي البدائل المختلفة لقضية ذات بعد واحد—مثل معدل ضريبة أعلى أو أدنى، يتراوح المعدل فيها ما بين صفر بالمئة إلى 100 بالمئة. وقد مثلت قوة كل واحد من خيارات الناخبين لكل معدل من معدلات الضريبة بمنحى خاص على شكل حرف U مقلوب، قِيس على محور عمودي (وقِيس بطريقة “ترتيبية”، بمعنى أن الناخبين يفضلون البدائل “أكثر” أو “أقل”—وبالتالي فإن ارتفاع منفعة كل ناخب لا تهم).
خذ مثلاً الناخب س3، مستوى الضريبة المثالية بالنسبة له هو ت3، والتي تتطابق مع قمة منحنى المنفعة الخاص به. وكلما انحرف معدل الضريبة عن ت3 قلَّ رضاه عن البديل، وتلك طريقة أخرى للقول أن ذلك هو خيار القمة الوحيد بالنسبة له. وينطبق الشيء ذاته على الناخبين الأربعة الآخرين. وحسب التعريف، فإن بديل س3 المثالي، ت3، هو الخيار المتوسط من بين الخيارات المثالية الخمسة الأخرى.
من السهل الآن فهم نظرية الناخب المتوسط. وفي عملية تصويت زوجية، لا يمكن لأي بديل أن يفوز على ت3 (على فرض تصويت جميع الناخبين). إفرض، مثلاً، أنه طلب من الناخبين الاختيار ما بين ت2 وت3. وحيث أن ت3 هي المتوسط، فإن غالبية الناخبين (أي س3 والناخبان اللذان على يمينه) يفضلانه على أي معدل أدنى. تذكّر أن الخيارات في هذا المثال ذات قمة أحادية وأن الناخب يفضل بديلاً هو الأقل بعداً عن خياره المثالي. لاحظ أن هذا الأمر يصح بغض النظر عن الطريقة التي تتوزع بها معدلات الناخبين الآخرين المثالية على طول السلسلة المتصلة—المعدل المتوسط سيفوز دائماً.
وهذا يفسر السبب في أن البرامج السياسية، خاصة في أنظمة الحكم ذات الحزبين، متشابهة جداً. فإذا وعد الرئيس بوش في الانتخابات الرئاسية المقبلة بالمعدل ت2، ووعد السيناتور كيري بالضريبة ت5، فإن الناخب س3 سيصوت لبوش لأن الناخب س3 يحصل على قدر أكبر من المنفعة من ت2 مما يحصل من ت5. ومن ثم تفوز ت2 في هذه المزاوجة. وإذا كان كيري مهتماً بنفسه، ويريد أن يُنتخب فسوف ينتقل إلى معدل الضريبة  ت4 وبذلك يواجه بوش. وإذا كان بوش مهتماً بنفسه ويريد أن يعاد انتخابه، فسوف ينتقل إلى المعدل ت3. وسيفعل كيري الشيء ذاته. وبذلك ينتقل السياسيان نحو النقطة المتوسطة سعياً لتحقيق الفوز في الانتخابات.
وفيما عدا الناخب المتوسط، فإن جميع الناخبين لن يكونوا سعداء بالنتيجة. وهذا الشكل من التصويت (سواءً كان في الانتخابات أو الاستفتاءات) لا يمكن فصله عن الخيارات الجماعية. فإذا قرر الخيار الجماعي نوع السيارة التي يتعين على كل شخص قيادتها، فإن النتيجة قد تكون إنتاج سيارة من طراز فورد توروس للجميع. وسيكون الناخب المتوسط سعيداً (على فرض أن التوروس هي السيارة المفضلة للناخب المتوسط)، لكن الآخرين جميعاً سيفضلون قيادة سيارة أخرى.

دوران أم استبداد؟ يصبح الدوران أكثر احتمالية كلما تزايد عدد البدائل الممكنة وازداد تغاير خيارات الأفراد. ويمكن للأغلبية المشروطة أن تقلل من احتمالات الدوران ويمكن أيضاً لـ”واضع الأجندة” الذي يقرر أي البدائل توضع على ورقة الاقتراع أن يقل من الدوران، لكن الأغلب أنه سيضع أجندة تعطي نتيجة توافق ما يفضله. فإذا كان “س” هو واضع الأجندة فسوف يختار أولاً جمع الاقتراح “ب” مع الاقتراح “ج” وإرسال ذلك الخيار إلى الناخبين. ثم يقرن الفائز مع الاقتراح “أ”، الذي يفضله الناخب “س”. ونتيجة تلك الأجندة أن الاقتراح “أ” سوف يفوز. وبالمثل، إذا كان واضع الأجندة هو “ص”، فسوف يعمل على أن ينافس الاقتراح “أ” الاقتراح “ب” ويدفع الفائز لمعارضة الاقتراح “ج” وبالتالي يفوز الاقتراح “ج”.
وإذا لم يكن هناك أي دوران، فثمة خطر آخر يلوح في الأفق: وهو خطر وجود أغلبية ثابتة قد تستغل وتضطهد أقلية يمكن تحديدها. ونبدو هنا وكأننا نواجه خياراً غير مريح: سواءً أغلبية غير متماسكة مع تحالفات غير ثابتة، أو ديكتاتورية واضع أجندة، أو “استبداد أغلبية” توكوفيلية (نسبة إلى توكوفيل).
قواعد تصويت مختلفة. إلى جانب قاعدة الأغلبية البسيطة التي حللناها أعلاه، ثمة عدد كبير من قواعد التصويت المختلفة، الهدف منها معرفة ما هي الأغلبية بالضبط وما الذي تريده، خاصة حين يتنافس أكثر من مرشحَين. قاعدة التعددية تختار المرشح الذي يحصل على أعلى نسبة مئوية من الأصوات. وقاعدة الأغلبية التي تنص على إجراء دور ثان من الانتخابات تجمع المرشحين اللذان حصلا على أعلى نسبة مئوية من الأصوات خلال الجولة الأولى. ويدعو معيار كوندورسيه أن يكون الفائز الشخص الذي يهزم جميع المرشحين الآخرين بشكل زوجي. أما نظام هار ونظام كومبس فينحيان جانباً المرشحين الأقل تفضيلاً خلال عدة جولات. وحسب نظام التصويت بالموافقة، يصوت الناخب لعدة مرشحين، وحسب هذا المعيار يفوز المرشح الأكثر شعبية. العدّ حسب نظام البوردا يطلب من الناخبين تقييم المرشحين بالنقاط ويفوز المرشح الذي يحصل على أكبر عدد من النقاط.
لجميع تلك الأنظمة مزايا وعيوب مختلفة، وغالباً ما تعطي نتائج مختلفة. وقد استخلص جوردون توللوك أنه “بالنسبة لمجموعة معينة من الناخبين ذوي الخيارات الثابتة، يمكن الحصول على النتيجة المرجوة بإحدى طرق التصويت، على الأقل.” وهذا أمر له تبعاته في عالم الواقع: ويشير بحث لريتشارد إيه. جوسلين، أنه في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي عام 1972 كان يمكن لإدموند موسكي أن يفوز على جورج ماكغوفرن لو اتبعت إجراءات تصويت غير قاعدة الأغلبية.
حين تكون القضية التي يتعين اتخاذ قرار بشأنها متعلقة بإنتاج وتمويل سلعة عامة، يحث كل فرد على التقليل مما يريده، على أمل الحصول على المنافع بينما يدفع ضرائب أقل. وقد ابتُدِعت أنظمة “كشف الخيارات” نظرياً بهدف جعل الناخبين يكشفون بصدق أي من البدائل هو الأجدى بالنسبة لهم. وموللر متفائل من أن خط البحث هذا سيقود في النهاية إلى آليات اختيار جماعية أفضل لكنه يبين أيضاً كيف أن تصويت المرء بقدمه—الخروج كمقابل للتصويت—هو غالباً حل أفضل: في نظام سياسي لا مركزي، يحصل الأفراد على تركيبة من السلع العامة والضرائب التي يريدونها عن طريق الانتقال إلى نطاقات السلطة التي تقدم الحزمة المفضلة بالنسبة لهم. ويكشفون عن خياراتهم الحقيقية باختيار المكان الذي يعيشون فيه.
لماذا التصويت؟ في انتخابات العام 2000 الرئاسية كانت نسبة الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم 67.5 بالمئة. المشكلة بالنسبة لنظرية الخيار العام ليست أن ثلث الناخبين لم يدلوا بأصواتهم، بل أن الثلثين قد أدلوا بها بالفعل. فلماذا اهتموا بالذهاب إلى صناديق الاقتراع؟ المؤكد، بالنسبة للناخب الفرد العادي هو أن تكلفة التصويت متدنية ولا تزيد عن الوقت الذي ينفقه المرء في الذهاب إلى مكان الاقتراع. لكن المنفعة المتوقعة (قيمة المنافع التي يعد بها المرشح المختار ناخبيه مضروبة باحتمالات أن يؤدي عمل الناخب إلى انتخاب المرشح) ضئيلة للغاية. وتبعاً لذلك، فإن على الناخب العقلاني أن يمتنع عن التصويت. والسبب في أن الكثيرين من الناخبين يذهبون للاقتراع يدعى “مفارقة التصويت.”
في كتابه، يراجع موللر العديد من الحلول المقدمة لمفارقة التصويت. والفكرة السائدة هي النظر إلى المصلحة الذاتية من منظور أضيق: يتعين على الناخب أخذ منافع أخرى بعين الاعتبار غير المكاسب المتوقعة من سياسات مرشحه المفضل. وقد تكون تلك المنافع السعادة في التعبير عن رأي أو كون الفرد جزءً من الحشد الجماهيري (مثلما يحدث عندما يهتف المرء أو يستهجن خلال مباراة في الهوكي)، والرضى الذي يشعر به المرء عندما يقوم بواجبه الأخلاقي، أو الرغبة في أن ينظر إليه “كمواطن صالح.” الواقع، أن هناك أدلة على أن الناس يصوتون غالباً ضد مصالحهم الشخصية الضيقة. باختصار، فإن المنافع التي يحصل عليها الأفراد من التصويت لها علاقة بالتعبير عن “خياراتهم العامة.”
يزن الناخب منافعه، المستقلة عن كونه مع الجانب الفائز أو الخاسر، مقابل تكلفة التصويت. وكلما ارتفعت تكلفة التصويت (مع تساوي الاشياء الأخرى)، انخفضت نسبة المشاركة في الانتخابات. ويتحدث موللر عن بحث بيّن أنه قبل أن تصبح ضريبة انتخابات غير قانونية في الولايات الجنوبية، فإن ضريبة انتخابات مقدارها ستة دولارات فرضت عام 1960 خفضت احتمالية مشاركة الأفراد في الانتخابات بنسبة 42 بالمئة. الناخبون عقلانيون—وهم يصوتون لأسباب غير المنافع المتوقعة من المرشحين المفضلين لديهم، لكنهم يزنون تلك الأسباب مقابل تكلفة التصويت.
لهذه النتيجة عواقب كثيرة. إحداها، حيث أن ليس للناخب سوى تأثير قليل أو لا تأثير على نتيجة الانتخابات، فليس لديه حافز بالاطلاع جيداً على القضايا السياسية. ولأن الناخبين يبقون “جاهلين بقدر معقول” فإن في وسع السياسيين التهرب من التزاماتهم والتساهل في خياراتهم الأيديولوجية الشخصية.
تحريف الوسطاء
في ديمقراطياتنا، لا يحسم الناخبون معظم القضايا بشكل مباشر. في بعض الحالات يصوتون لممثلين يتوصلون إلى قرارات في اللجان أو الجمعيات الوطنية. وفي حالات أخرى ينتخبون ممثلين يستخدمون موظفين لاتخاذ القرارات. إن تعقيدات النظام وحوافز القوى الفاعلة فيه لا تجعل الخيارات الجماعية بالضرورة أكثر تمثيلاً لخيارات المواطنين.
السياسيون. تفترض نظرية الخيار العام أن السياسيين يريدون الفوز في الانتخابات—وإلا فإنهم لن يبقوا سياسيين لفترة طويلة. ولتحقيق هدفهم، يطرح السياسيون أموراً يعتقدون أنها تحظى بتفضيل الأغلبية، وينضمون إلى الأحزاب السياسية. يقول أنثوني داونز في كتابه، نظرية اقتصادية في الديمقراطية، “تصيغ الأحزاب سياساتها كي تفوز في الانتخابات، وليس الفوز في الانتخابات بهدف صياغة السياسات.”
القاعدة المستخدمة في انتخابات الكونجرس الأمريكي والانتخابات البرلمانية في معظم الدول التي تتبع التقاليد البريطانية هي قاعدة التعددية. وهذه تشجع سيطرة الحزبين لأن حزباً ثالثاً لن يحصل إلا على عدد قليل من المرشحين المنتخبين حتى لو تمكنوا من الحصول على نسبة جيدة من الأصوات في جميع المحافظات. وطالما كانت القضايا ذات بعد واحد في الأنظمة السياسية ذات الحزبين، وثمة خيار قمة وحيد، فإن الأحزاب السياسية ستحاول الاقتراب إلى أقصى حدّ ممكن من الناخب المتوسط. وفي الحالات متعددة الأبعاد، أو تعدد الخيارات ذات الأولوية فقد يحدث دوران.
في الأنظمة السياسية ذات التمثيل النسبي، فإن أكثر من حزبين سياسيين قد يزدهران ويشكلان ائتلافاً حاكماً. هناك أنظمة مختلفة من التمثيل النسبي. لكن الفكرة العامة هي أن بعض إجراءات التعديل تقرّب نسبة الممثلين من نسبة الأصوات الشعبية التي تلقتها الأحزاب المختلفة في البلد ككل. ويعطي التمثيل النسبي تمثيلاً أفضل للناخبين الذين لديهم خيارات أو أيديولوجيات لا تحملها سوى أقلية من الناس، لكنها تقود إلى قيام ائتلافات حاكمة أقل استقراراً.
البيروقراطيات. عند تطبيق تحليلات الخيار العام على البيروقراطية، فإنها تكشف عن أسباب أخرى للشك في قدرة الدولة على التوفيق بكفاءة بين خيارات الأفراد وجمع مطالبهم في السياسات العامة. مرة أخرى نقول، يفترض الخيار العام أن البيروقراطي (الموظف الحكومي) هو فرد عادي، مثل أي شخص آخر، يحاول الحصول على أقصى منفعة ممكنة.
ما معنى ذلك من الناحية العملية؟ وما الذي يفعله البيروقراطي لزيادة منفعته إلى أقصى حدّ، بالنظر إلى القيود المفروضة عليه؟ معظم المحاولات التي بذلت للإجابة على هذا السؤال هي صيغ معدلة عن النموذج النظامي الذي طوره وليام نيسكانين في كتابه للعام 1971، البيروقراطية والحكومة التمثيلية. وقد افترض أن البيروقراطيين يعملون على زيادة ميزانية مكاتبهم لأن ذلك يمكنهم من زيادة تعويضاتهم الحقيقية من ناحية البهرجة (مكاتب أوسع، وحساب نفقات أفضل، إلخ)، ومخاطر أقل من عدم تحقيق أهدافهم، أو تميزهم، إلخ. لذا فإن البيروقراطيين يأخذون أكثر مما يريد السياسيون (ومما يفترض المواطنين أيضاً)، أو تكلفتهم تكون أعلى.
يستطيع البيروقراطيون فعل ذلك لأن الجهات التي ترعاهم (السياسيون أو المسؤولون الآخرون الذين يقررون ميزانيات الوكالات) لا يعرفون التكلفة الحقيقية لإنتاج ما يطلبونه من البيروقراطيين. يحاول الراعون، بالطبع، السيطرة على أنشطة البيروقراطية لكن الميزة الاحتكارية (كون البيروقراطية المزود الوحيد) للمكاتب ستتغلب، على الأقل، على بعض هذه الجهود. وتدعم هذه النظرية أعداد كبيرة من الدراسات التي تبين أن تكاليف ما تنتجه المكاتب العامة أعلى مما في المشاريع الخاصة المماثلة.


هل لصوتك أهمية فعلية؟
رغم أن مسألة حسم التصويت تتحول بسرعة إلى مسألة تقنية، فإن الأفكار العامة يمكن إدراكها بسهولة. إفرض أنك عضو في جماعة مكونة من ثلاثة أشخاص، “س”، و”ص”، و”ع”، من ضمنهم أنت (ص). ويتعين اتخاذ قرار بأغلبية بسيطة على أحد الاقتراحين “أ” مقابل “ب”. إفرض أن ثمة فرصة بنسبة 50:50 في أن أحد العضوين الآخرين سيصوت للاقتراح “أ”، وبالمثل إلى “ب”. ليس هناك امتناع عن التصويت أو بديل ثالث. فما هي احتمالات أن يكون لصوتك أهمية، أي بمعنى أن يكون حاسماً؟ يصل الأمر هنا إلى حد السؤال عن احتمالية حدوث تعادل في الأصوات إذا لم تنتخب. ولأن كلاً من الناخبين “س” و”ع” يمكن أن يصوت كل منهما إما للاقتراح “أ” أو “ب”، فثمة أربع نتائج محتملة للتصويت من دون صوتك: “أ-أ” (أي أن يختار الناخبان “س” و”ع” كلاهما الاقتراح “أ”)، و”ب-ب”، و”أ-ب”، و”ب-أ”، وفي النتيجتين الأخيرتين فقط (“أ-ب” و”ب-أ”) هناك تعادل في النتيجة من دون صوتك؛ وفي الحالتين الأخريين لا أهمية إن قمت بالتصويت للاقتراح “أ” أو الاقتراح “ب”، أو إن لم تقم بالتصويت نهائياً. لذلك، هناك ثلاث فرص في أن يكون لصوتك أهمية. يدرك الأشخاص الذين سبق وأن أجروا بعض التحليلات الابتدائية المركبة ونظرية الاحتمالات أنه إذا كانت “p” هي احتمالية اختيار أحد الناخبين للاقتراح “أ” وأن “1-p” هي احتمالية التصويت للاقتراح “ب” بدلاً من “أ”، فإن الاحتمالية “P” بأن يكون هناك تعادل تتمثل في المعادلة التالية:
P = nCn/2 × pn/2 × (1-p)n/2
حيث (nCn/2) هي عدد تراكيب الناخبين n، بأخذ (n/2) على حدة. الواقع أنه بوجود عدد كبير من الناخبين (ألف أو أكثر على الطاولة) من الضروري استخدام تقريب للمعادلة أعلاه لحساب الاحتمالية “P”، حتى إذا استخدم الحاسوب. بتعداد النتائج الممكنة واحتساب احتمالياتها المساوية، وإضافة احتماليات النتائج المتعادلة، أو بدلاً من ذلك استخدام المعادلة أعلاه، يمكن احتساب أنه بمجموعة من خمسة أشخاص (من ضمنهم أنت) فإن احتمالية أن يكون صوتك مهماً هي 8/3 أو 0.375. وكلما زاد عدد الناخبين، قلت احتمالية أن يكون لصوتك أهمية. وإذا كان عدد الناخبين 1000 شخص تكون الاحتمالية حوالي 0.02 فقط أو 0.015؛ وإذا كان العدد 100 مليون (وهو تقريباً عدد الناخبين في الانتخابات الرئاسية) تنخفض النسبة إلى 0.00006 (حوالي 17000:1). وتتلاشى احتمالية أن يكون صوتك حاسماً بشكل درامي باحتمالية اختيار أي ناخب لبديل آخر أو تحول الآخر عن نسبة 50:50. ومن السهل رؤية ذلك في مثالنا عن المجموعة المكونة من 3 أشخاص. إفرض الآن أن كل واحد من العضوين الآخرين صوّت للاقتراح “أ” مع احتمالية مقدارها 0.8 (أو صوت للاقتراح “ب” مرة واحدة من 5 مرات). الآن، النتيجتان اللتان تجعلان صوتك مجدياً (أ ب) و(ب أ) قد يتكرر حدوثها 25/4 مرة كل واحدة، أي أن تكرار حدوث هذا الحدث أو ذاك له احتمالية مقدارها 25/8 أو 0.32. خذ بعين الاعتبار مرة أخرى، الانتخابات الرئاسية. افرض أن حوالي 100 مليون ناخب سيشاركون فيها. وأن احتمالية قيام أحد هؤلاء الناخبين المنتقى بشكل عشوائي بالتصويت لكيري هي 0.49 وأن احتمالية تصويته لبوش هي 0.51. تجاهل تعقيدات المجمع الانتخابي. فاحتمالية أن يكون هناك تعادلاً، وأن يكون لصوتك أهمية، يمكن احتسابها: هي ثماني فرص من (108691) أي عشرة مرفوعة إلى القوة 8691 (10 يتبعها 8690 صفراً) وهي رقم أكثر من فلكي. وهو أكبر بكثير من المجموع الكلي للجزيئات الأولية الموجودة في عالمنا البالغة (10100) وعمر الكون بالثواني هو (3×1017). وبالتالي، فإن احتمالية أن يكون لصوتك أهمية، أقرب ما تكون إلى الصفر.

لقد كانت هناك بعض التحديات الحديثة (ذكرها موللر في كتابه، الخيار العام 3) لهذه المنهجية، وتم الحصول على بعض الاحتمالات الأعلى. لكن من الناحية العملية فإن صوتاً واحداً—صوتك—ليس له أهمية محتملة في أن يغيّر نتيجة الانتخابات.


طريقة أخرى يمارس فيها البيروقراطي سلطته هي أن يكون واضع أجندات. كما سبق ورأينا فإن واضع الأجندة يستطيع في معظم الأحيان قيادة النظام نحو النتائج التي يفضلها بتقريره أي البدائل، وحسب أي ترتيب، سيتم التصويت عليها من قبل السياسيين أو المواطنين.
مجموعات المصالح. للتأثير على الخيارات الجماعية، يتعين على المواطنين المشاركة في أعمال جماعية: المشاركة في التظاهرات، وتنظيم أنشطة الكولسة، والمساهمة في الأحزاب السياسية، إلخ. نتيجة العمل الجماعي لفئة ما (مثل الحماية الجمركية) هي غالباً سلعة عامة لأعضاء الجماعة—ينتفع فرد فيها منها سواء ساهم أم لم يساهم. علاوة على ذلك، فإن عمل فرد واحد قد لا يكون مهماً لإنجاح العمل الجماعي. لذا، ففي المشاركة الجماعية سيتحمل الفرد تكلفة مقابل عدم الحصول عملياً على أي منفعة شخصية، وهذا سيغريه بالاعتماد على جهود الآخرين دون تحمل أي تكلفة. ويصح هذا خاصة في المجموعات الكبيرة حيث لعمل الفرد تأثير أقل، ويمكن للمتهربين أن يتجنبوا التعرض للعقوبة بسهولة، كأن تقاطعهم الجماعة. لذلك، فإن المجموعات الصغيرة التي لديها مصالح متمركزة مثل المزارعين أو منتجي الصلب تكون أفضل تنظيماً، وتقوم بعمل جماعي أكثر فاعلية من المجموعات الكبيرة ذات المصالح المشتتة مثل دافعي الضرائب أو مستهلكي الصلب. وتستغل المجموعات الأفضل تنظيماً، عادة، المجموعات الأقل تنظيماً.
كانت تلك خلاصة كتاب مانكور أولسون المؤثر، منطق العمل الجماعي. مثال ذلك، المزارعون السويسريون، الذين يشكلون جزءاً صغيراً من مجموع سكان بلدهم، يحصلون على دعم مالي مؤثر يعادل 86 بالمئة من دخلهم، في حين أن المزارعين في غانا الذين يشكلون قطاعاً كبيراً من السكان، يحصلون على دعم مالي سلبي يصل إلى 27 بالمئة من دخلهم، بينما يذهب الدعم إلى طبقة سكان المدن قليلي العدد.
ستشارك مجموعات المصالح فيما يدعونه منظرو الخيار العام “السعي للاستئجار”، أي السعي لإعادة توزيع المنافع على حساب الآخرين. وكلما زاد حجم الدولة، وزادت المنافع التي يمكنها أن تعطيها، زاد عدد الساعين للاستئجار، وقد كتب موللر يقول، “يمكن النظر إلى الميزانية الفيدرالية كلها على أنها إيجار عملاق جاهز لأن يختطفه من يملكون أقوى العضلات السياسية.” السعي للاستئجار لا ينتج تحويلاً صرفاً للمال؛ فحين يتنافس الأفراد أو المجموعات على بعض الامتيازات من الدولة (مثل الحصول على دعم، أو احتكار)، فإنهم يستخدمون لذلك موارد حقيقية (مثل حبر، أوراق، سفر، وجبات، وقت) في محاولة انتزاعها. ونتيجة لذلك، فإن جزءاً من الإيجار المتوقع سوف يهدر، مولداً خسارة اجتماعية صافية.
النمو وتبريرات الدولة

طيلة الفترة من عام 1870 حتى العام 1913، كان مجموع نفقات الحكومة (الفيدرالية والولايات) في الولايات المتحدة حوالي 7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفعت إلى 12 بالمئة في العام 1920، وإلى 20 بالمئة عام 1937. وبحلول العام 1980 كانت قد بلغت 31 بالمئة، وارتفعت بقدر طفيف منذ ذلك الحين. التطور نفسه حدث في القطاعات العامة للدول الأخرى، رغم أن بعضها شهد نمواً أكبر بعد عقد الثمانينات، وتصل نفقات بعض الحكومات الآن إلى 50 بالمئة أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي فلماذا نمت الدولة بهذا القدر؟
نموذجان. تتأرجح نظرية الخيار العام بين نموذجين للدولة: نموذج مَطالِب المواطن، والنموذج الاستبدادي. في النموذج الأول، يقول موللر، “السياسات هي انعكاس لخيارات الناخبين الأفراد.” أما في النموذج الاستبدادي فيقول، “إن خيارات الدولة أو الأفراد القائمين على الحكومة هي الحاسمة.” وبناءً على النموذج المستخدم، فإن تحليل سبب نمو الدولة يعطي نتائج مختلفة.
يدعي نموذج مطالب المواطن أن المواطنين يطلبون المزيد من السلع العامة، ومزيداً من السيطرة على المؤثرات الخارجية السلبية (مثل التلوث)، ومزيداً من إعادة توزيع الدخل. إحدى الفرضيات المهمة، المدعومة ببعض البحوث، تقول أن التوسع في منح النساء والفقراء حق التصويت قد غذى نمو دور الدولة. لكن هل هذا ما يريده المواطنون حقاً؟ وأي قطاع من المواطنين هو ذاك؟
يشدد النموذج الاستبدادي على عوامل جانب العرض: الدولة تنمو لأن الحكام أو المنتفعين يريدون غنيمة أكبر. ويشكل البيروقراطيون قطاعاً كبيراً من جمهور الناخبين—15 بالمئة من دول مجلس التعاون الاقتصادي والتنمية، و20 بالمئة أو أكثر من بعض الدول—وبينت البحوث أن نسبة مشاركتهم في الانتخابات أعلى من المواطنين الآخرين. وتفسير آخر هو أن في وسع المنشورات أن تخدع الناخبين الجاهلين بقدر معقول. يستشهد موللر في كتابه الخيار العام 3 بدليل أن الديمقراطية المباشرة والفيدرالية توفران ضوابط فعالة على نمو النموذج الاستبدادي. وهذا يوحي بأن نموذج مطالب المواطن أكثر صلاحية للتطبيق في مثل هذه الأحوال.
نظريات الخيار الاجتماعي. ما هي معايير الحكم على عمل الدولة؟ وما الذي يتوجب على الدولة فعله، وكيف؟ تلك الأسئلة هي موضوع مادة نظريات الخيار العام المعيارية، والتي تشمل نظريات “علم الاقتصاد الدستوري” و”الخيار الاجتماعي” من خارج مدرسة الخيار العام الضيقة.
في نظريات الخيار الاجتماعي نجد نوع “دالّة الرفاه الاجتماعي” التي سبقت ثورة الخيار العام. إن دالّة الرفاه الاجتماعي عبارة عن ترتيب، لجميع أشكال مكافئ باريتو في الأسعار والأجور وتوزيع الدخل. وللاختيار من بينها، يجب على المجتمع—الذي يعني عملياً الدولة—أن يزن منفعة مختلف الأفراد. وقبل تطور مدرسة الخيار العام الفكرية، كان معروفاً أن دالّة الرفاه الاجتماعي تتطلب أن تكون المنفعة قابلة للقياس بشكل واضح وقابلة للمقارنة بين الأفراد. بكلمة أخرى، يجب أن يكون في وسع المرء أن يحسب، مثلاً، زيادة بنسبة 10 بالمئة في منفعة “س” تساوي “بالنسبة للمجتمع” انخفاضاً يزيد عن 15 بالمئة من منفعة “ص”. وليس هناك أي أسس علمية لمثل هذه الأحكام الأخلاقية أو لدالّة الرفاه الاجتماعي القائمة عليها.
تعرّض كينث أرو في كتابه للعام 1951، الخيار الاجتماعي والقيم الفردية، لهذه المشكلة بمنهج مختلف. وتساءل ما إذا كان في الإمكان بناء دالّة الرفاه الاجتماعي من بعض حقائق بديهية بسيطة، وتجنب أي مقارنة “بين شخصية” في المنفعة. وفي محاولته الإجابة على السؤال، بيّن أنه لا توجد أي دالّة رفاه اجتماعي يمكنها، في الوقت نفسه، احترام مكافئ باريتو، وأن تكون غير مستبدة، وانتقالية (أي لا تقود إلى الدوران). من ناحية، عمم أرو ما تم التوصل إليه حول الدوران، وبين أن الخيارات الاجتماعية لا بد أن تكون إما غير متناسقة أو ديكتاتورية.
ترويض الاستبداد

ثمة ازدواجية وتناقض في مجموع النظريات والأدلة التجريبية المسماة “الخيار العام” والتي يضمها موللر بشكل جيد في كتابه، الخيار العام 3:
“ينظر بعض الدارسين—أمثال برينان، وبيوكانن، ونيسكانين، وأشر—إلى الدولة ويرون وحشاً جشعاً همه استغلال سلطته على المواطنين إلى أقصى حدّ. وينظر آخرون—أمثال بريتون، وويتمان—إلى الدولة ويرون كياناً مؤسساتياً مساوٍ للسوق يعطي التنافس الديمقراطي مستويات من الكفاءة يمكن مقارنتها بما تحققه منافسة السوق.”
ويمكن النظر إلى الخيار العام على أنه يظهر فائدة السياسات أو وجود فشل للدولة؛ مثل القول أن الدولة إما أنها تشجع كفاءة التوزيع أو أنها مجرد آلة لإعادة التوزيع؛ وإما أنها تطرح نموذج الطلب للدولة حيث يردّ المنافسون السياسيون على مطالب المواطنين أو نموذج العرض حيث يحكم الاستبداد. بتعبير آخر، ثمة توتر دائم بين الخط الليبرتاري والخط الذي يدعو إلى تدخل الدولة في نظرية الخيار العام.
ثمة شيء مؤكد: لقد حطم الخيار العام وجهة النظر الساذجة، القائلة بأنه لتبرير تدخل الدولة، يكفي بيان أنه إذا حدث فشل للسوق فإن الدولة المثالية يمكن أن تصححه. بعد ثورة الخيار العام، لم يعد في وسع المحللين السياسيين الاكتفاء بمقارنة الأسواق الحقيقية بالدولة المثالية؛ عليهم تحليل الدولة كما هي قبل أن يحلموا بكيف يجب أن تكون. الخيار العام أنهى حيرة الدولة ونزع عنها القداسة.
الذهاب لمدى أبعد. يقدم كتاب دنيس موللر، الخيار العام 3، نظرة شاملة لأدبيات الخيار العام التي نشرت خلال نصف القرن الماضي. وسوف يبقى بمثابة “علم اللاهوت الشامل” لعلم اقتصاد الخيار العام الذي صدر في بداية هذا القرن.
من وجهة نظر، يمكننا الذهاب أبعد مما ذهب موللر الذي ربما كان يميل إلى الإفراط في التفاؤل حول السياسة. وكلما توسع سلطان الدولة، زاد احتمال أن تكون الأغلبيات إما غير متناسقة أو مستبدة. وربما كانت الحالة النمطية هي ظاهرة الدوران: فكلما زاد تدخل الدولة ازداد تحول القضايا لتصبح متعددة الأبعاد؛ وكلما قل التجانس بين خيارات الناخبين، زاد عدم تناسق أو دكتاتورية الدولة المستبدة.
علينا التشكيك في النهج التقليدي الذي يوازن بين التكاليف والمنافع بحثاً عن الوضع الأفضل. الأفضلية يمكن تعريفها بطريقة فضفاضة بحيث يكون كل شيء هو الأفضل، بمعنى أنها لا تستطيع وصف الوضع الحالي للعالم. أليس هذا ما يفعله بعض علماء الاقتصاد حين يجادلون أن المنافسة السياسية بين مجموعات المصالح تعطي أفضل النتائج لأن الأفراد سينظمون أنفسهم حين تصبح تكلفة الاستبداد عالية جداً؟ أليست لدينا فكرة مليئة باللغو عن الوضع الأفضل؟
المدافعون عن خط تدخل الدولة لديهم معيار خارجي عن الوضع الأفضل يكمن في نوع من دالّة الرفاه الاجتماعي. الشيء الأفضل هو ما يزيد دالّة منفعة الفرد إلى أقصى حدّ، يتمثل ربما في التكاليف المالية والمنافع. وعلى هذا الأساس، يمكن من الناحية النظرية بيان أن بعض المؤسسات (التنافسية) تقود إلى كفاءة باريتو وأن في وسع الدولة أن تستخدم تحليلات التكلفة–المنفعة لإيصالنا إلى هناك. لكن، وكما بينت تحليلات الخيار العام، فإن هذا المنهج يفترض مسبقاً وجود مقارنات “بين شخصية” من المنفعة أو “خيارات اجتماعية” هي إما غير متناسقة أو ديكتاتورية.
علينا أن نأخذ على محمل الجد التحدي الذي أثاره أنثوني دي جيساي، وهو أحد منظّري الخيار العام (غير التقليديين) في كتابه، الدولة، والذي يذكّر علماء الاقتصاد أن المقارنات “البين شخصية” في المنفعة “هي مجرد طريق التفافية تعيدنا إلى تحكّمية لا يمكن إنقاصها، تمارسها السلطة.” ويواصل حديثه قائلاً، “في نهاية الأمر، حدس الفرد هو الذي يقوم بالمقارنة التي تحدد القرار، أو أنه ليس هناك مقارنة… وبطريقة مماثلة، التباينين القائلين: (تجد الدولة أن زيادة منفعة الجماعة “س” وإنقاص منفعة الجماعة “ص” قد تتمخض عن زيادة صافية في المنفعة)؛ وأن (تختار الدولة تفضيل الجماعة “س” على الجماعة “ص”) هما وصف للواقع نفسه.” وما أن يتحقق ذلك حتى يصبح الخيار العام بمثابة اتهام للدولة.
أخيراً، أخْذ نظرية الخيار العام على محمل الجد يفرض ضمناً التحقيق في ماهية “نحن” و”هم” كتجمعات سياسية. والبيانات من مثل “نحن كمجتمع نفكر أو نفعل هذا وذاك،” أو “الفرنسيون (أو الأمريكيون) يعتقدون أن يفعلون هذا وذاك،” هي إما مجرد أحاديث لا معنى لها منطقياً أو أنها ديكتاتورية. وليس ثمة طريق غير ديكتاتورية لتجميع خيارات الأفراد المختلفة وصهرها في مجموعة واحدة من الخيارات “السوبر”، إلا إذا كان لدى الأفراد خيارات متطابقة أو كانوا مجمعين على أمر ما. الأمثلة على الخيارات المتشابهة نجدها في الجماعات الصغيرة ذات الروابط الوثيقة مثل الأزواج، والأسرة الواحدة، أو بضع أصدقاء—رغم أنه حتى في مثل هذه الحالات، يكون أحد الأفراد غالباً “ديكتاتوراً” أو قائداً. الأمثلة على التصويت بالإجماع تشمل حملة شراء أسهم في شركة أو أعضاء ينضمون إلى جمعية. الإجماع هو الطريقة الوحيدة للخروج من مأزق الوقوع بين تجمعات لا معنى لها وأخرى ديكتاتورية.
لذا، وباستثناء ما قد نجده في منظور دستوري تجريدي (الاتفاق على الأحكام الأساسية جداً) فإن “نحن” السياسية تفترض أن بعض الأفراد يفرضون خياراتهم على الآخرين. وهذا يعني أن ثورة الخيار العام تقرع ناقوس موت “نحن” السياسية.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 23 أيار 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

يحمل الجدل حول ما إذا كانت موسكو ستشهد استعراض تفاخر للمثليين في شهر أيار المقبل العديد من المضامين المهمة لمستقبل روسيا. التهديدات باستخدام العنف موجودة ولابد من مقاومتها. إن كيفية استجابة السلطات الروسية للتهديدات باستخدام العنف التي أصدرها تالغات تاج الدين الذي ينتمي للقيادة الروحية المركزية للمسلمين في روسيا، لهي قضية مهمة في شأنها الخاص. وبحسب السيد تاج الدين: “يجب عدم السماح بالاستعراض، وإذا ظهروا في الشوارع رغم ذاك، حينها لا بد من ضربهم.” ليس لمثل هذه التهديدات مكان في مجتمع يحكمه القانون. لا يجوز أن يتعرض الفرد للعنف لأنه يمشي مشابكاً يديه في الشارع، أو لأنه يمشي بسلام في استعراض. يجب أن يكون هذا واضحاً. (وهو واضح لدى المسلمين الآخرين، مثل السيد نفج الله آشيروف، المفتي الأعلى للجزء الآسيوي من روسيا، الذي رفض علناً الدعوات للعنف). ففي حديث إذاعي، قال السيد آشيروف إن المسلمين سوف لن يلجأوا للعنف ضد المشتركين في استعراض المثليين، على الرغم من أنهم (أي المسلمين) ضد هذا الأمر تماماً. فقال في محطة إذاعة موسكو: “لا أعتقد أن لدينا الحق في “جَلد” أي شخص أو قتله. فهذه الأشياء غير مقبولة لدينا لأنها ضد القانون.”
ولكن مسألة ما إذا كان الاستعراض سيُسمَح به أم لا، تتضمن أيضاً قضية كبرى عن المجتمع الروسي: ما إذا كانت روسيا ستصبح رائدة في مجال الصناعة، والتكنولوجيا، والآداب والعلوم، أم إنها ستتراجع نحو التعصب والتخلف. إنها قضية أن تصبح مجتمعاً منفتحاً أم منغلقاً. والإجابة عليها تحتوي على بعض المضامين التي تمتد إلى أبعد من حب البعض أو كرههم للمثليين.
لقد أوضحت دراسات المدن الأمريكية والكندية، وبشكل فاعل، أن المدينة أو الإقليم المنفتح يتقبل التنوع بأسلوب سلمي، ويُتوقع أن يكون أكثر إنتاجية اقتصادية، وأكثر ثراء وازدهاراً وتطوراً، تكنولوجياً وتجارياً. وفي دراسة رائدة للحياة الحضرية في أمريكا أجراها ريتشارد فلوريدا من جامعة جورج ميسن، وغاري غيتس من المعهد الحضري، ونشرت في حزيران عام 2001، ابتدع فلوريدا وغيتس مقياساً لحضور الشذوذ الجنسي الذكري في مجتمع سكاني حضري، ومن ثم ربطاه بوجود الصناعات التكنولوجية، والنمو الاقتصادي. واستنتجا بأن: “الشاذين جنسياً لا ينبئون بتركيز الصناعات التكنولوجية المتقدمة فحسب، بل إنهم مجسات للتنبوء بنموها أيضاً.” خمسة من المدن العشر التي تحتل المراكز الأولى في نموها في التكنولوجيا المتطورة ما بين عام 1990 وعام 1998، سجلت مواقع متقدمة بين المدن العشر الأولى في مؤشر المثليين.” وفي الدراسة نفسها، وجدا أيضاً معامل ارتباطٍ وثيقٍ بين وجود المبدعين من الناس (مثل الكتّاب، المصورين، النحاتين، الممثلين، وغيرهم)، وبين صناعات التكنولوجيا المتطورة –ذات الأهمية الخاصة لروسيا التي تواجه أزمة ديموغرافية طويلة الأمد– كما اكتشفا أن هناك معامل ارتباط قوي بين نسبة السكان الأجانب بالولادة وبين نجاح الصناعات التكنولوجية.
يبدو أن القضية ليست قضية الكليشية القديمة التي تقول إن “هؤلاء القوم” مبدعون أصلاً، ولكن ظهر أن الأماكن التي تستعرض أو تمتلك الكثير من الإبداع هي تلك الأماكن المفتوحة للإبداع، وهذا يعني الأماكن المتسامحة والمنفتحة لتعبيرات التنوع، بما فيه التنوع الإثني والتنوع الجنسي.
وكما قال غاري غيتس في مؤتمر المعهد الحضري حول “ديموغرافيا التنوع،” إن وجود الرجال المثليين والنساء السحاقيات بين السكان أمر مهم لأنهم:
“يضيفون مناخاً اجتماعياً من التسامح إزاء التنوع في المدن، ولهذا الأمر نتائج اقتصادية ايجابية لمختلف الأقاليم والمدن. ونقطة الجدل هنا أن مجتمع المثليين والسحاقيات الحيوي يوفر واحدة من أقوى الأدلة للتنوع والتسامح، فيما بين المناطق السكنية وفي المدن على حد سواء.”
لقد وصف غيتس أهمية هذا التسامح، قائلاً:
“وما هي نتائج التسامح؟ حسناً، إن تصدقوا زميلي ريتش فلوريدا، فإن أحد أكبر النتائج هو الإبداع. ويذهب (أي فلوريدا) إلى أن الإبداع هو ما تحتاجه المدن–وليس ما تحتاجه هو رأس المال البشري فقط–بل إنها تحتاج لرأس المال الإبداعي. ومثلما كانت المدن والمجتمعات البشرية تستقر حول مناجم الفحم والحديد الخام والممرات المائية، من الناحية التاريخية، فإن مدن اليوم تحتاج لأن تستقر قرب المبدعين. والمبدعون متنقلون، لذا فإن المدن تحتاج لأن تكون فضاءات تستقطب المبدعين وتجذبهم للعيش والاستقرار. وهؤلاء هم الذين سيقودون النجاح الاقتصادي.”
كيف للتسامح مع المثليين أن يظهر أو يؤثر في النجاح الاقتصادي؟ إنه تفويض جيد للانفتاح والتسامح مع المجتمع بوجه عام. وهذا الانفتاح وذاك التسامح يبعثان على ازدهار المجتمع. كما لاحظ ريتشارد فلوريدا، من جامعة جورج ميسن، أن “هناك عدة أسباب جعلت مؤشر المثليين [كنسبة مئوية للشاذين جنسياً من مجموع السكان]، مقياساً جيداً للتنوع. لقد تعرض المثليون لمستوى عالٍ من التمييز. كما أن محاولاتهم للاندماج في الاتجاه العام للمجتمع قد جوبهت بمعارضة شديدة. وإلى حد ما، يمثل الشذوذ الجنسي الحد الأخير لحدود التنوع في مجتمعنا، لذا فإن المكان الذي يرحب بالمثليين يرحب بكل أنواع الناس.”[1] لقد بات من الواضح أن الترحيب بالموهبة أو الكفاءة شرط أساسي لجذبها.
وليست هذه القضية بالقضية الجديدة. فالعلاقة بين التسامح والازدهار موغلة في القدم، كما هو معروف. لقد برزت هولندا كقائد في أوروبا على صعيد التجارة والفنون والتكنولوجيا والصناعة، منذ عدة سنوات خلت، بسبب الدرجة العالية من التسامح الذي أظهرته في التعامل مع الأقليات. فقد وصف الفيلسوف الهولندي الكبير بينيديكت دي سبينوزا، إبن الزوجين الفارين من الاستقصاء الاسباني،[2] وصف حرية الهولنديين عام 1670 قائلاً: “تحصد مدينة أمستردام ثمار هذه الحرية في ازدهارها العظيم، وفي إعجاب الآخرين بها. ففي هذه الدولة الأكثر ازدهاراً، والمدينة الأكثر روعة، يعيش أناس من كل أمة ومن كل دين، يعيشون بسلام سوية في أعظم انسجام، فلا يسألون أي سؤال لأخيهم المواطن قبل ائتمانه على بضاعتهم، سوى عما إذا كان غنياً أم فقيراً، أو أنه يتصف بالنزاهة أم لا. أما دينه وطائفته، فلا أهمية لهما: إذ ليس للدين تأثيراً في كسب قضية أو خسرانها أمام القضاة، وليست هناك طائفة محتقرة إلى الحد الذي يُحرَم فيه أبناؤها من حماية السلطة الموقرة للمدينة، شرط أن لا يلحقوا ضرراً بأحد، وأن يدفعوا لكل فرد مستحقاته، وأن يعيشوا باستقامة.” فهل سينعم مجتمع المثليين في موسكو بحماية السلطة الموقرة للمدينة بوجه تهديدات العنف، أم أن قادة المدينة سيسمحون بتعصب البعض أن يلحق الضرر بحرية ورفاهية الجميع؟
إن القرار حول السماح بالاستعراض في شارع تفيرسكايا من عدمه، ليس مجرد قرار حول تأييد أو عدم تأييد الفرد لرؤية المثليين وهم في العلن. إنه لقرار مرتبط بمستقبل روسيا. قبل ثلاثة عشرة عاماً، انتخبت روسيا، وبشكل ديمقراطي قادة قاموا بالخيار الصحيح في عدم تجريم الشذوذ الجنسي. وبعملهم هذا، فقد أوصلوا مجتمعهم إلى مراتب متقدمة من الحداثة، والتقدمية، والانفتاح. إن الجدل حول السماح باستعراض المثليين في موسكو هو مدخل أو تفويض لجدل أوسع بكثير، جدل حول خيار روسيا: إما أن تختار أن تُعدّ من بين الأمم المعروفة بالإبداع في التكنولوجيا، والعلوم، والأدب، والثقافة، والثروة، أو بين الأمم التي تُعرف بالتعصب، والغطرسة، والفقر، والرجعية. يبدو أن هنالك أمور على المحك أكثر مما يدرك الناس.
ملاحظات:
[1] ومن النتائج المشابهة التي تبين العلاقة بين الانفتاح والتسامح، من ناحية، وبين الإبداع الاقتصادي من ناحية أخرى، قد بينها ميريك إس. غيرتلر من جامعة أونتاريو، الذي وجد أن النسبة المئوية للمقيمين الأجانب بالولادة هي أيضاً مؤشر جيد للرفاه الاقتصادي.
[2] الاستقصاء الإسباني هو المحكمة الدينية التي أقامتها الكنيسة الكاثوليكية، في إسبانيا من 1542 وحتى 1834 والتي أدانت عدداً كبيراً من الناس بتهمة الهرطقة أو الكفر، وحكمت عليهم بالتعذيب والإعدام.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 8 آذار 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

الانتخابات الأخيرة تشكل نكسة لعملية السلام الهشة، وقد تكون مأساة للفلسطينيين، الذين من الممكن أن يكونوا الخاسر الأكبر فيها. ومع ذلك، فإن الدعم المالي الدولي للسلطة الفلسطينية يجب أن يتواصل في الوقت الراهن.
من المؤكد أن حماس سوف تشكل الحكومة، والقادة في بلدان مجاورة مثل مصر، حيث تتواجد جماعات إسلامية قوية، يشعرون بعصبية متزايدة إزاء ذلك.
هل حماس تنمّي توجهاً أصولياً خطراً، من شأنه إخراج العملية السلمية عن سيرها إلى أجل غير مسمى، وتضيف إلى عدم الاستقرار في المنطقة؟
على الرغم من الانتخابات التي جرت بدعم قوي من حكومة الولايات المتحدة، فقد شعر كثيرون بأنه كان من الواجب تأجيلها –بمن في ذلك الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
الاضطراب في المنطقة لم يكن مؤاتياً لإجراء انتخابات عقلانية. كان متوقعاً أن يكون أداء مرشحي حماس جيداً، ولكن لا أحد تنبأ لها بانتصار ساحق.
نتيجة الانتخابات جاءت إلى حد ما بسبب الفساد المستشري في السلطة الفلسطينية، وغياب نتائج ظاهرة من عملية السلام، والبطالة العالية في صفوف الشبان من شعب فلسطين. لقد تم النظر إلى حماس كحل يائس لما رأوه وضعاً يائساً لا رجاء فيه.
والآن، تسعى الأسرة الدولية لرسم إجابة مناسبة على خط حماس التاريخي المتشدد ضد حل سلمي مع إسرائيل. منذ اتفاقيات أوسلو، والولايات المتحدة والعديد من البلدان الأوروبية، تقدم المساهمات لدعم احتياجات السلطة الفلسطينية اليومية. لقد أصبح ذلك الخبز والزبدة التي تدعم معظم النشاطات الحكومية، الهادفة إلى مساعدة القطاعات الأكثر حاجة بين الشعب الفلسطيني.
وَقْف هذا الدعم من شأنه أن يؤدي إلى نتيجتين: أولاً، داخلياً، سوف يخلق مزيداً من التعاطف مع حماس والمزيد من تقوية صورتها كحكومة للمستضعفين. سوف يقوي مركزها السياسي ويدفعها أبعد فأبعد عن عملية السلام. ثانياً: عزل حماس الآن سوف يزيد من عداء العالم العربي للغرب. وقد يترجم هذا إلى مساعدات مالية إضافية من شأنها زيادة قوة حماس. سوريا وإيران وجماعات إسلامية عديدة من المرجح أن تحل محلَّ معظم ما سوف يتوقف من دعم الولايات المتحدة وأوروبا، وبالمقابل تحقيق نفوذ سياسي.
عندما تجد نفسها في السلطة، سوف تسرع حماس في إدراك الحقائق السياسية والاقتصادية. الحكم من الداخل سوف يكون له بعداً مختلفاً كلياً.
سوف تفهم حماس بأنها لا تستطيع العمل بدون المساعدات المالية الهائلة التي كانت تنصب إلى السلطة من المجموعة الدولية. فإذا انتفت هذه المساعدة الحيوية، فإن حماس لن تستطيع أن تدفع لخدمات القطاع العام. كما أن ذلك سوف يصيب بالشلل الاقتصاد الهش الذي عانى من تدهور عام منذ الانتفاضة الثانية التي اندلعت في أيلول عام 2000.
الأمل هو في أن تدرك قيادة حماس بأنها في حاجة إلى أن تصبح جزءً من المجموعة الدولية، وأن تفهم، مثل معظم العالم العربي، بأن إسرائيل موجودة لتبقى.
يتوجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إعطاء حماس فسحة قصيرة من الزمن لتعيد التفكير في سياساتها المتشددة. ومثل ذلك سوف يتيح للحكومة الجديدة الخروج من زهو الانتصار إلى واقع السياسة.
فإذا فشلت حماس في تغيير أهدافها المتشددة، فإن عملية السلام في الشرق الأوسط سوف تتعرض للفشل.
في تلك الحالة يتوجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إيجاد حل بديل للمساعدات، من أجل تخفيف معاناة الفلسطينيين وتجاوز حماس في عمل ذلك.
بروز حماس كقوة سياسية مرشح لأن يأخذ أياً من المسارين. ومع أنه من غير المحتمل ذلك، فإن حماس قد تفاجئ المجموعة الدولية وتبرز كشريك قوي في السلام. هذا الاحتمال يجب أن يدفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إعطاء حماس فرصة للتيقظ وتغيير المسار.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 5 آذار 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لم تحقق معظم الديمقراطيات في العالم الثالث رخاء كبيراً. ومن هذه الديمقراطيات ما يتسم بالفساد والفشل والفوضى والعجز عن السيطرة على الجريمة أو أداء أبسط وظائف المجتمع المدني.
ومع قيام واشنطن بوضع دستور للعراق وبالضغط على الحكام العرب من أجل إجراء الإصلاحات يصبح حرياً بنا أن نحلل الأسباب التي تجعل بعض الديمقراطيات تعمل بصورة أفضل من البعض الآخر.
إن قواعد التنمية الاقتصادية والحكم الفعال ثابتة ومعروفة تماماً؛ إلا أن أسباب إحجام العديد من المجتمعات عن تنفيذها غير مفهومة. ويعزى الفشل في ذلك غالباً إلى ثقافاتهم أو إلى الفساد، لكن البلاء العام يكمن في بناها السياسية، فكلها تقريباً تقوم على التمثيل النسبي.
ولكي تدرك معنى التمثيل النسبي عليك أن تتخيل أن الكونجرس (أو البرلمان) يتألف من أربعة أحزاب أحدها للمحافظين، وآخر للاشتراكيين، وثالث لليسار الراديكالي (أو لحزب ديني كما هو الحال في بعض الدول)، والرابع للخضر، وأن كلاً من الأخيرين له خمسة بالمئة من مقاعده. تخيل أيضاً أن كل حزب يديره كبار في السن أمضوا عقوداً طويلة في أماكنهم. لن يكون ثمة فكر جديد، والخلافات السياسية المستحكمة ستحسمها الأصوات المتأرجحة –الراديكاليون أو الخضر. وهذا النوع من نظم الحكم، وغالباً ما يكون بعدد أكبر من الأحزاب صغيرة الحجم، ابتليت به أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية. وأي حزب يتمكن من تحقيق خمسة بالمئة من الأصوات على الأقل يصبح ممثلاً في الكونجرس.
ويزيد الأمر سوءاً بتقدم كل حزب للترشح على المستوى القومي حيث تحدد مرشحيه قوائم تسيطر عليها آليات كل حزب –وهى عادةً من رجال الحرس القديم من أصحاب المحسوبية والضغائن. فيضع هؤلاء العجائز أسماءهم على قمة القائمة بينما يأتي الأصغر سناً في ذيلها لو وافق رؤساؤهم على وجودهم أصلاً. وإذا فاز الحزب بأربعين مقعداً بالكونجرس يقع الاختيار على الأسماء الأربعين الأولى بالقائمة. وهو نظام يحبذه الساسة القدامى، فهم لا يفقدون مقاعدهم إلا فيما ندر. والإصلاحيون أيضاً—وهم يعتبرون مثيرين للمتاعب في الغالب—يمكن إقصاؤهم بمجرد استبعادهم من القوائم أو وضعهم في ذيلها. ويتوطن الفساد ويحظى بالحماية حيث لا يتمكن الناخبون من استبعاد مرشح فرد. وطالما فاز الحزب بخمسة بالمئة من الأصوات فإن عجائزه المتربعين على قمة القائمة ستكون لهم دائماً مقاعد في الكونجرس ويحددون من يُوضَع معهم بالقوائم. وفى نظم الحكم النيابي يتلو ذلك تصويت الائتلاف الفائز لأحد أكبر زعمائهم سناً ليتولى رئاسة الوزراء.
أما في النظامين الأمريكي والإنجليزي فيمثل كل عضو بالهيئة التشريعية منطقة جغرافية محددة، ويمكن التصويت له في الانتخابات التالية. ويمكن لمرشحين جدد أن ينافسوا أحد أصحاب المقاعد الأقوياء في المجلس. وفي نظام التمثيل النسبي نجد أن من يمثلون الشعب كله أو قطاعات عريضة منه يمثلون الكل ولا أحد. فيمكنهم أن يتحدثوا في عموميات ونادراً ما يساءلون عن عدد معين من الأصوات، أو عن سياسات، أو عواقب.
وتعد فنزويلا مثالاً واضحاً في هذا الصدد، وتعتبر نموذجاً للنظم في أمريكا اللاتينية. فمن سبعينيات القرن العشرين وحتى التسعينيات نجد أن كارلوس أندريه بيريس ورافائيل كالديرا فاز كل منهما برئاسة الجمهورية مرتين حيث لم يكن للناخبين أي اختيار آخر: فرفْض أحدهما معناه فوز الآخر. وفى غمار يأسهم للخلاص من الأحزاب الفاسدة، غير الكفؤة، الجامدة، والقديمة، صوتوا لصالح المنظر اليساري والرئيس الحالي هوجو شافيز. يصف فلاديمير شيلمينسكى المدير السابق لغرفة التجارة الفنزويلية الوضع في مقال بصحيفة الوول ستريت جورنال بقوله:
“ظل مستوى المعيشة في تدهور طوال عقود. ولم تكن العملية الديمقراطية تعمل إلا لمصلحة الساسة وأعوانهم. والحزبان اللذان تداولا السلطة منذ 1958—الديمقراطيون الاجتماعيون والمسيحيون الاجتماعيون لم يختلفا كثيراً في ذلك، إذ آثر كلاهما النهج الاشتراكي والحرية السياسية. كانت سياساتهما تتملق الفقراء ولكنها كانت تنتهي بالفشل دائماً. ولم يكن للمُلكية الخاصة والعقود الخاصة مكان في قوانينهما. وكان ثلثا العمال المستعدون للعمل لا يجدون عملاً في الاقتصاد الرسمي.”
وتمثل حكومة إسرائيل نموذجاً آخر للتمثيل النسبي على المستوى القومي. فبإمكان أي حزب أن يفوز بمقاعد في الكنيست إذا فاز بما لا يزيد عن 1.5 بالمئة من أصوات الناخبين على المستوى القومي، أي بعدد 55 ألف صوت. ويعطي النظام قوة كبيرة للأحزاب الدينية—وهي أقلية محدودة—فتحصل على حوالي 20 بالمئة من الأصوات. وباعتبارهم المعسكر المتأرجح الذي يمكن أن يتحالف مع حزب العمال أو مع الليكود لتشكيل حكومة، فلهم سلطة سياسية كبيرة تصل إلى حد إعفائهم من الخدمة العسكرية، وكثير منهم لا يعملون ولا يدفعون ضرائب.
وقليل من الدول تعمل بها نظم التمثيل النسبي بشكل جيد، كالدول الاسكندنافية، ومؤخراً سلوفاكيا، مثلاً. إلا أن هذه الدول إما أنها متجانسة إثنياً وصغيرة للحد التي يمكّن الحكومة فيها من التفاعل محلياً أو أنها حديثة العهد حيث لم يضمر البرلمان فيها بعد ولم يُصَب بعد بالشلل الذي أصاب حكومات التمثيل النسبي الأقدم. ويلاحظ في الوقت نفسه أن ديمقراطيات شرق آسيا الناجحة (والهند) لا تعتمد نظام التمثيل النسبي، ولو أن بعضها يعتمد نظاماً مختلطاً حيث يتم انتخاب نسبة 10 إلى 20 بالمئة من أعضاء المجالس التشريعية بنظام التمثيل النسبي. أما البرلمان الروسي (الدوما) فيتم انتخاب 50 بالمئة من أعضائه بنظام التمثيل النسبي، والمكسيك 40 بالمئة. وتعد شيلي من دول أمريكا اللاتينية القلائل التي لا تعتمد هذا النظام.
تحدثت روث ريتشاردسون، وزير مالية نيوزيلندا السابقة ومهندسة حرية السوق والرخاء بتلك الدولة بأوائل التسعينيات، في مؤتمر أقامه معهد كيتو العام الماضي بموسكو، وقالت إن العديد من الدول التي “ابتليت بنظام التمثيل النسبي” تتسم بالسوء النوعي للسياسات العامة وتواجه مصاعب جمة في إقرار إصلاحات ناجحة. واستشهدت بأوروبا الغربية كمثال حيث ثبت عجزها—باستثناء بريطانيا—عن إصلاح قوانين العمل الجامدة والأنظمة الطاردة للأعمال التجارية المُبادِرة.
وتناول هرناندو دي سوتو، العالم الاقتصادي البيروفي الفذ، أيضاً هذه المشكلة في كتابه بعنوان “الطريق الآخر” حيث يرى أن الديمقراطية تنجح بصورة أفضل في الدول الأنجلوساكسونية لأنها لا تعتمد نظام التمثيل النسبي.
وعلى الرغم من دراية الولايات المتحدة بهذا الدرس العالمي في علم حقوق المواطنة نجدها تختار نظام التمثيل النسبي للتطبيق في التجربة العراقية في مرحلة التحول الديمقراطي. فالنظام لا يحدد مناطق انتخابية بتمثيل إقليمي محدد كالكونجرس الأمريكي الذي يعطى سلطة متوازنة للولايات والدوائر الانتخابية الأصغر. وهذا النظام ذو المجلسين المطبق في الولايات المتحدة كان سيساعد على حل مشكلة حماية أقليات كالأكراد والسنة والمسيحيين في دولة أغلبية سكانها من الشيعة. وكان القلق من منع الإرهابيين الناس من التصويت في المناطق السنية سيزول لو كانت هناك مناطق جغرافية محددة لكل منها نائب يمثلها في البرلمان. حينئذ لم يكن ضعف نسبة التصويت سيصبح أمراً ذا بال؛ لأن أهالي كل منطقة سيكون لهم من يمثلهم في كل الأحوال.
يقول المحلل الأوروبي فرانك جلوديك في رسالة إلى سينترال يوروب ريفيو بتاريخ أيار 2000:
“إن التمثيل النسبي له خطره في أية دولة تعانى تقسيمات إثنية أو إيديولوجية أو دينية، فهو يدفع الناس للتصويت وفقاً لهذه القواعد المستقرة سلفاً بغض النظر عن مدى درايتهم بما إذا كانت هدّامة، وعن إيثارهم لغيرها. حتى هامش الخمسة بالمئة من الأصوات اللازم لأي حزب لكي يحتل مقاعد بالبرلمان ليست عقبة أمام هذه الأنماط الانتخابية وتأثيرها السلبي.”
لِمَ؟ لأنك حين تعتمد نظام التمثيل النسبي عليك أن تفترض أن ’الآخرين‘ سيصوتون بناءً على الخلفية الإثنية، ما يضعك في موضع المخاطرة. والسبيل الوحيد لكي تحمي نفسك هو أن تفعل بالمثل .
وفي ظل نظام التمثيل النسبي، نرى كيف أن سلوبودان ميلوسوفيتش أصبح سلطة رئيسية من خلال نسبة خسيسة تبلغ 20 بالمئة من الأصوات في صربيا.
إن نظام التمثيل النسبي لا يساعد على توحيد الشعوب والأمم المتباينة العديدة بشكل فعال، فهو بطبيعته ميال للتطرف، وعدم الاستقرار، وعدم الاعتدال، والفشل. والناس تنسى أن الولايات المتحدة كانت منذ نشأتها بلد متعدد الأعراق والديانات.
إن الديمقراطيات الفاشلة مناخ لعدم الاستقرار والبؤس في معظم بقاع العالم. فهي تمثل خطراً على المصالح الأمريكية والرخاء العالمي. ومع أن هناك عوامل ثقافية أخرى—كاتجاه الولاء الأسمى نحو الأسرة والقبيلة بدلاً من الأمة—تلعب دوراً حيوياً فإن واشنطن، في جهودها لبناء حكومات معتدلة ناجحة في العراق والعالم العربي، بحاجة لتشجيع النظم التي ثبت نجاحها فى دول أخرى.
© معهد كيتو، منبرالحرية، 7 شباط 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

إن تقديم الديمقراطية وتعزيزها والحفاظ عليها ليس بالأمر اليسير. تواجه الديمقراطية تحديات عديدة شأنها بذلك شأن سائر الأمور الحسنة الأخرى في حياتنا. ولكن يمكن التغلب عليها جميعاً. ومن المهم جداً أن نتعلم من تجارب الآخرين الذين خرجوا من ظلمات الدكتاتورية والطغيان إلى نور الديمقراطية الدستورية.
1. تحدي التوقعات
المغالاة في التوقعات: إذا كانت التوقعات عالية على نحو غير واقعي، وكان الناس يتوقعون من الديمقراطية أن تجلب الازدهار والصحة والتعليم وكل ما هو جميل في الحياة، فإنهم سيصابون بخيبة أمل كبيرة وسيسقط دعمهم للديمقراطية ويتلاشى. ليست الديمقراطية سحراً. ولا يعني الحصول على الديمقراطية ضماناً السعادة والصحة والغنى بين ليلة وضحاها. فكل ما يمكن للديمقراطية أن تضمنه هو الحق “في البحث عن السعادة”. لا يمكن للديمقراطية أن تضمن تحقيقاً للسعادة أو الحظ الحسن. إذ يجب كسب على كل ما تقدم ذكره من خلال العمل الجدي في المجتمعات التي يحكمها القانون ويسودها العدل، وليس مصادرتها من قبل طغيان الأقوى.
تدني مستوى التوقعات: إذا كانت التوقعات هابطة، وإذا توقع الناس انتخابات غير عادلة، وتصرفات غير قانونية وغير عادلة من قبل بعض مسؤولي الحكومة، وتسخيراً عنيفاً من قبل رجال الشرطة ورضوا بكل ما تقدم، فإن الشعب عندئذ سيستسلم للعيش وفقاً للمظهر الخارجي للديمقراطية فقط وليس مضمونها الجوهري. فمن أجل نجاح الديمقراطية، يجب أن يتوقع الشعب فعلاً من القضاة والمحافظين وأعضاء مجالس المحافظات وأعضاء البرلمان والوزراء والرؤساء وضباط الشرطة أن يطبقوا القانون. في الحكومات الفاسدة وغير الديمقراطية، يصاب الشعب بالدهشة عندما يتصرف المسؤولون وفقاً للقانون. أما في البلدان الديمقراطية التي يحكمها القانون، يندهش الشعب عندما يتصرف المسؤولون بشكل منافٍ للقانون.
إن التوقعات الواقعية هي المفتاح لتعزيز الديمقراطية وترسيخها. إذا كان الناس يتوقعون نتائجاً سحرية من الديمقراطية، فسيصابون بخيبة أمل وسيهجرون الديمقراطية. ومن ناحية اخرى، إذا لم يتوقع الناس من مسؤولي الحكومة تصرفات عادلة أو انتخابات نزيهة، فانهم قد لا يصابون بخيبة أمل، ولكنهم دون شك لن يتمتعوا بالديمقراطية لوقت طويل.
2. تحدي الشرف

من المهم أن يفهم الانسان الشريف، رجلاً كان أم امرأة، ان قبول الهزيمة في الانتخابات النزيهة—في البلدان الديمقراطية التي يحكمها القانون—أشرف له من أن يرفض القبول بها ويقاتل مستخدماً كل أنواع الأسلحة. في المجتمعات الديمقراطية الناشئة، من الصعب على الذين كانوا خصوماً للحكومة أو الذين يؤمنون بقضاياهم بشدة أن يتقبلوا إمكانية فوز الطرف الآخر في الانتخابات. قد يكون من الصعب أن نتعلم أن التسليم بنتائج العملية الدستورية أشرف من تحديها بالقوة. إن منزلة “المعارضة الوطنية المخلصة” هي منزلة شريفة. إذ ربما تحل هذه المعارضة في يومٍ ما محل الحكومة الحالية، عندها يجب على الحكومة الحالية أن تظهر التزامها بالشرف في أن تكون هي معارضة وطنية. من المخجل أن نرفض نتاج انتخابات عادلة في بلد ديمقراطي دستوري.
يمكن الحصول على شرف الديمقراطية بسهولة عندما يفهم الجميع أن خسارة الانتخابات لا تعني خسارة كل شيء، لأن الديمقراطية الدستورية تحمي حقوق الحياة والحرية والملكية، وتمكّن المعارضة الوطنية الحالية من أن تكون حكومة في الانتخابات المستقبلية.
3. تحدي التعددية

إن نظريات الديمقراطية القائمة على أساس ادعاءات “إرادة الأمة” كثيراً ما تؤول الى الفشل. يمكن أن تتكون الأمة من خليط من الأفراد والعائلات والعشائر والمجتمعات الدينية والمدن والمناطق والمجموعات العرقية. ليست الأمة كالفرد الواحد الذي يكون له رأي واحد ونهائي إزاء قضية واحدة. تحوي الأمة عدة آراء مختلفة إزاء العديد من القضايا، ولن يتفق الجميع مع بعضهم البعض. إذا حاول أي بلد ديمقراطي أن يصر على مبدأ تماثل الآراء في الكثير من الأمور، ستجد الأمة أنها منقسمة على نفسها. وستكون هنالك صراعات ربما تؤدي الى اندلاع أعمال عنف.
من المهم أن تكون الأمور التي تقررها العمليات الديمقراطية محددة، إذا كنا نريد أن تكون ديمقراطيتنا منسجمة ومستقرة. في الديمقراطية الدستورية المستقرة، هنالك الكثير من القضايا لا تبت بها الانتخابات الديمقراطية ولكنها رهن بالاختيار الحر للمجموعات والأفراد، والذين يتولى الدستور حماية حقوقهم.
إن الحريات المحمية دستورياً ذات أهمية خاصة في الدول ذات “الأقليات الدائمية” مثل الجماعات الدينية والعرقية. فإذا ما اقتنع هؤلاء انهم غير قادرين على أن يصبحوا أغلبية ليفوزوا في الانتخابات في يوم ما وأن اغلب حقوقهم الأساسية ستسلب اذا ما بقوا أقلية، فإنهم سيشعرون بعزلة تامة وربما يلجؤون إلى العنف. إن كل من حرية الدين، وحرية ارتداء الحجاب، وحرية اللغة، وحرية التجمع مع الآخرين من دون التخوف من الاعتقال أو التحرش، هي حريات محمية بالدستور في البلدان الديمقراطية ولا تتأثر بتغير قرارات الأغلبية.
لا توجد هنالك “إرادة واحدة للأمة”، بل هنالك إرادات ووجهات نظر واهتمامات وآراء مختلفة. يجب الاحتراس من الساسة الذين يدعون بأن هنالك ارادة واحدة للأمة وأنهم يمثلون صوتها الشرعي الوحيد. إذا كان من الممكن التكلم عن “ارادة الأمة” بشكل هادف، يمكن حينها الإشارة الى الدستور فقط، وليس الأشارة إلى قائد أو قرار سياسي أو قضية ما، لأن الدستور في حد ذاته بحمايته للحقوق هو المعيار الوحيد لوحدة الأمة.
4. تحدي العدالة

هنالك خطرمن تحول الديمقراطية الى أداة للظلم وخصوصاً في المجتمعات ذات التنوعات العرقية أوالدينية أوالعائلية أوالعشائرية أواللغوية القوية. عندما تحصل مشاكل ما، يقوم الكثير من الساسة بإلقاء اللائمة على المجموعات الأخرى، وعلى الأغلب الأقليات، ومن ثم يطالبون الدولة بمعاقبتهم ومصادرة ممتلكاتهم. يمكن أن يطالب الساسة الانتهازيون وغير العادلين الدولة بإعادة توزيع أملاكهم الى مناصريهم. يمكن أن ينزل مستوى الحكومة حينئذ إلى مستوى النهب والسلب. لن تكون حياة وأموال وحريات الناس في مثل هذه البلدان في مأمن من الخطر. يمكن للجماعة التي فازت اليوم وسلبت أموال الغير أن تخسر غداً وتخسر كل ما حصلت عليه بل أكثر من ذلك. ويخسر الجميع في نهاية المطاف. إن تقييد نشاطات الحكومة بالقانون، وعدم اعتبار سياسة الدولة وسيلة لتكريم مناصري الحكومة ولمعاقبة مناوئيها، يجعل الدولة الديمقراطية الدستورية قادرة على ان تجلب الازدهار للجميع.
إن سرقة مجموعة معينة وجزل العطاء للآخرين لا يفضي بالدولة إلا الى الفقر، ماعدا أولئك الذين يستحوذون على السلطة المطلقة والذين لا ينفكون عن امتلاك القصور الفخمة والسيارات الفارهة. يجب أن يكون هَمّ الدولة الوحيد هو الدفاع عن العدالة ضد العدوان. عندما تكون الدولة أداة للعدوان والعنف، تكون الديمقراطية في خطر.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 4 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

سألني صحفي قبل أيام قليلة عن رأيي بمقترح قدمه بعض المجتمعيين الأدعياء لـ “تأجيل استحداث حقوق جديدة”. فكرت متسائلاً: بكم من الطرق يمكن لهذا المقترح أن يُخطئ؟ يبدو المجتمعيون وكأنهم يرون الحقوق على أنها صناديق صغيرة: عندما يكون لديك الكثير منها فإن الغرفة ستمتلئ. وحسب رأيي، فإن لدينا حق واحدٌ فقط—أو عدد لا محدود من الحقوق. أما الحق الإنساني الواحد فهو حقك في أن تعيش الحياة التي تختارها طالما انك لا تخالف الحقوق المتساوية للآخرين.
ولكن لهذا الحق الوحيد مضامين لا حصر لها. وكما قال جيمس ويلسون، وهو أحد الموقعين على الدستور (الأمريكي)، في استجابة لمقترح بإضافة لائحة حقوق للدستور: “نعدد كل حقوق الإنسان؟! أنا متأكد أيها السادة، أن ليس هناك من رجل في المؤتمر السابق قد حاول القيام بمثل هذا الشيء”. وعلى العموم، من حق الإنسان أن يرتدي قبعة—أو لا يرتدي؛ أن يتزوج أو لا يتزوج، أن يزرع البازلاء أو التفاح؛ أن يفتح دكاناً لبيع لوازم الخياطة. من المستحيل حصر وتعداد جميع الحقوق التي لدينا، فعادة ما نتجشم عناء تحديد أو تعريف هذه الحقوق فقط عندما يقترح أحدٌ ما فرض قيود معينة على هذا الحق أو ذاك. إن معاملة الحقوق على أنها مزاعم ملموسة يجب تحديدها أو حصرها في رقم معين سيؤدي إلى إساءة فهم للمفهوم برمته.
إن كل حق من الحقوق يحمل مسؤولية مترابطة به. إن حقي في التكلم بحرية يدل ضمنياً على مسؤوليتك في عدم التلصص عليّ. كما أن حقك في المُلكيّة الخاصة يدل بشكل ضمني على مسؤوليتي بعدم سرقتها، أو أن أجبرك على استخدامها بالطريقة التي أريد. باختصار، إن حماية حقوقي تتضمن احترامي لحقوق الآخرين. لذلك لماذا اشعر بعدم الارتياح عندما أسمع المجتمعيين وهم يتحدثون عن “الحقوق والمسؤوليات”؟ تكمن المشكلة في أن هناك ثلاثة معانٍ لمصطلح (لمسؤولية) وكثيراً ما يتم الخلط بينها.
أولاً، هنالك المسؤوليات آنفة الذكر، الإلتزامات المرتبطة بحقوق الناس الآخرين.
ثانياً، هنالك “المسؤوليات” التي يصر البعض على أننا نمتلكها كمستلزمات أساسية لممارسة حقوقنا. ويستذكر هذا المعنى، الذي كثيراً ما نجده في كتابات المجتمعيين، الطريقة السياسية في فرنسا ما قبل الثورة والقائمة على الفكرة القائلة بأن الحقوق هي الامتيازات التي نحتفظ بها طالما كنا نستخدمها بمسؤولية. إن هذه الفكرة تحط من شأن التقاليد الفردانية الأمريكية. فهي تدل على أننا نمتلك حقوقنا فقط عندما يقوم شخص آخر—وهو الحكومة في الواقع—بتأييد الطريقة التي نستخدمها فيها والمصادقة عليها. في الحقيقة، وكما يخبرنا إعلان الاستقلال (الأمريكي)، أن لدى البشر حقوقاً قبل أن يدخلوا في الحكومات التي وجدت لأجل حماية تلك الحقوق.
في بعض الأحيان يقع المحافظون—كما هو حال المجتمعيون—في هذه الطريقة من التفكير. فصديقنا ستيوارت بتلر، من مؤسسة التراث، يدافع عن التأمين الصحي الذي تتولاه الحكومة على أساس أن “الحرية تتضمن المسؤولية أيضاً”. ولكن إذا استطاعت الحكومة أن تطلب منا أو تلزمنا بالتصرف بطريقة تعتبرها مسؤولة من خلال شراء التأمين الصحي، فأي نوع من الحرية نملك؟
نادراً ما يحاول الناس أن يأخذوا حقوقنا عندما يعتقدون أننا نستخدم هذه الحقوق بطريقة مسؤولة. لا يحاول أحد أن يراقب الكلام العام السائد، ولكن الكلام البذيء أو الراديكالي هو الذي يتعرض عادة للتهديد. علينا أن نحمي حتى الاستخدام غير المسؤول للحقوق والسبب أنها حقوق وليست امتيازات. لا تقدم الحكومة مطلقاً على الاستحواذ على حريات المواطنين العاديين ودافعي الضرائب. ولكن من خلال تأسيس السوابق القانونية عبر الهجمات على حقوق المجموعات الممتهَنة أو المحتقرة، تضع الحكومة حجر الأساس لعملية تضييق حقوق كل فرد من الأفراد.
ثالثاً، هنالك مسؤوليات أخلاقية تقع خارج مملكة الحقوق. كثيراً ما يزعم البعض—وأشهرهم في هذا الخصوص الفيلسوفة المجتمعية ماري آن غليندون—إن “لغة الحقوق هي لغة غير كاملة في العادة”. إنها كذلك بالطبع؛ فالحقوق لا ترتبط بسوى نطاق محدود من الأخلاقيات، وهو في الواقع نطاق ضيق وليست متعلقة بكافة الأخلاق. تؤسس الحقوق بعض معايير الحد الأدنى لمعاملة بعضنا البعض. علينا أن لا نقتل، أو نغتصب أو نسرق أو نبادر الى استخدام القوة ضد بعضنا البعض. وهذا يترك الكثير من الاختيارات الأخرى لتتم معالجتها من قبل نظريات الأخلاق الأخرى. إلا أن هذه الحقيقة لا تعني أن فكرة الحقوق ليست بغير الصالحة أو الناقصة في المجال الذي يمكن تطبيقها فيه، بل تعني فقط أن معظم القرارات التي نتخذها كل يوم تتضمن اختيارات محاطة أو مقيدة بشكل واسع فضفاض ببعض الالتزامات لاحترام حقوق بعضنا البعض.
عادة ما يُتَّهم مؤيدو مبادئ الحرية بإغفال أو إهمال أو حتى رفض المسؤوليات الأخلاقية. قد تكون هناك بعض الحقيقة في التهمة الاولى، فمؤيدو مبادئ الحرية يقضون جل أوقاتهم في الدفاع عن الحرية وبهذا فهُم كثيراً ما ينتقدون الحكومة. ويتركون الأمر للآخرين ليكتشفون الالتزامات الأخلاقية ويحثون الناس على افتراضها. لِمَ ذلك؟ أرى لذلك سببين: الأول هنالك قضية التخصص. فنحن لا نطالب الباحث في مرض الايدز: لماذا لا تبحث عن علاج للسرطان ايضاً؟ وبوجود حكومة بمثل هذا الحجم الكبير الذي هي عليه، يجد مؤيدو مبادئ الحرية أن مهمة تحديد حجمها تستهلك الوقت. والثاني، هو أن مؤيدي مبادئ الحرية قد لاحظوا أن العديد من غير المؤيدين لمبادئ الحرية يريدون تفعيل وتنفيذ كل فضيلة من الفضائل الأخلاقية بشكل قانوني. وكما قال وليام نيسكانين، لقد فشل ليبراليو دولة الرفاه في التمييز بين الفضيلة وبين المطلب الضروري، بينما فشل المحافظون المعاصرون في التمييز بين الإثم وبين الجريمة. (إن الإسهام الأوحد الذي تقدم به المجتمعيون للجدل الحالي هو انهم جعلوا من هذين خطأين فادحين).
عندما يحذف مؤيدو مبادئ الحرية القيم الأخلاقية من تحليلهم الاجتماعي، فإنهم على كل حال يتجاهلون الدروس التي قام جميع عقلاؤهم بتدريسها. فقد كتب آدم سميث كتابه: نظرية العواطف الاخلاقية، وركز فريدرك هايك على أهمية التقاليد والأخلاق. أما إين راند فقد وضعت منظومة صارمة للأخلاقيات الشخصية. وكان عمل توماس ساز يتحدى السلوكيين والتخفيضيين بالالتزام بالافكار القديمة التقليدية حول الخطأ والصواب، والحق والباطل، ومسؤولية الفرد عن اختياراته. ويؤكد تشارلس موري على قيمة وضرورة المجتمع والمسؤولية. على مؤيدي مبادئ الحرية أن يفعلوا المزيد لإيضاح دور المسؤولية الأخلاقية في فلسفتهم. وعلى كل حال، سيواصلون الإصرار على أن الحكومة تستطيع تقويض القيم الضرورية للمجتمع الحر—الشرف، الاعتماد على الذات، التعقل، التوفير، التعليم، التحمل، الانضباط، المُلكيّة، العقد، والأسرة، ولكنها لا تستطيع غرسها.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 2 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لقد تأكد مؤخراً أن مؤيدي مذهب الحرية، أو الليبراليين الكلاسيكيين، يعتقدون بأن “الأفراد يتشكلون او يُصنََّعون بشكل تام وأن تفضيلاتهم القيمية تكون في موضع أولوية على أي مجتمع وخارج نطاقه.” “لقد تجاهلوا الدليل العلمي القاطع حول التأثيرات السلبية للانعزال،” والأكثر غرابة من ذلك “إنهم يعارضون بشدة فكرة “القيم المشتركة” أو فكرة “المصلحة العامة.”” إنني اقتبس هنا من الخطاب الرئاسي الذي ألقاه البروفسور أميتاي إتزيوني عام 1995 في الجمعية الأمريكية السوسيولوجية (مجلة أميريكان سوسيولوجيكال ريفيو، شباط 1996). حظي البروفسور إتزيوني، بوصفه ضيفاً دائماً في البرامج الحوارية التلفازية ومحرراً لصحيفة ذي ريسبونسيف كوميونيتي، بشهرة واسعة بين أوساط الجماهير لكونه مروّجاً لحركة سياسية تدعى الاجتماعياتية.
وقلما كان إتزيوني يقوم بمفرده بمثل هذه الاتهامات. فقد جاءت من اليمين ومن اليسار على حد سواء. فمن اليسار، ذهب السيد إي. جي. دونيه، كاتب عمود صحفي في الواشنطن بوست في كتابه: “لماذا يكره الأمريكيون السياسة؟” إلى أن الشعبية المتزايدة للقضية الليبرالية اقترحت أن العديد من الأمريكيين أقلعوا حتى عن إمكانية حصول “المصلحة العامة”، وفي مقال حديث في مجلة الواشنطن بوست ذكر أن “التأكيد الليبرالي على الأفراد الأحرار يبدو وكأنه يفترض أن الأفراد يأتون إلى هذا العالم وهم بالغون كاملون ويمكن اعتبارهم مسؤولين عن تصرفاتهم منذ لحظة الميلاد.” ومن اليمين، ادعى الراحل راسل كيرك في مقال لاذع له تحت عنوان: “مؤيدي مذهب الحرية: سقسقة الطائفيين”، بأن “الليبراليين الخالدين، مثلهم مثل إبليس، لا يطيقون أية سلطة، دنيوية كانت أم روحية.” وبأن “الليبرالي لا يقدس المعتقدات والأعراف القديمة، أو العالم الطبيعي، أو وطنه أو الشعلة السرمدية الكامنة في أبناء جلدته.”
وبأدب أكثر، شجب السيناتور دان كوتس (من إنديانا) وديفيد بروكس من مجلة ويكلي ستاندرد معتنقي الليبرالية على تجاهلهم المزعوم لقيمة المجتمع، إذ كتب كوتس مدافعاً عن مقترحه باتباع المزيد من البرامج الفيدرالية “لإعادة بناء” المجتمع، أن “مقترحه محافظ وواعٍ، ليس ليبرالياً صرفاً. وهو يميز إسهامات المجموعات—ليس الأفراد فقط—في إعادة بناء البنى التحتية الاجتماعية والأخلاقية لمناطق سكناهم.”
لم يتم تثبيت مثل هذه الاتهامات التي كثيراً ما كررها المعارضون للمثل الليبرالية التقليدية من خلال اقتباسات من الليبراليين التقليديين، كما لم يتم تقديم أي دليل ليثبت أن هؤلاء الذين يفضلون الحرية الفردية والحكومة الدستورية المحدودة الصلاحيات، يعتقدون بما جاء في اتهامات إتزيوني وأتباعه. إن الاتهامات غير المعقولة والتي غالباً ما تكون مصنعة مفبركة وغير مثبتة يمكن أن يتم التسليم بها على أنها حقائق، لذلك من الضروري محاسبة إتزيوني ونقاد آخرين من الاجتماعياتيين للحرية الفردية، على ما تسببوا به من التشويهات والتحريفات.
الفردانية الذرية

دعونا نفحص الحجة الواهية “للفردانية الذرية” التي وضعها إتزيوني وديون وكيرك وآخرون. لقد قام النقاد الاجتماعياتيون بالتأسيس للاتهامات الموجهة ضد الليبرالية التقليدية، مثل الفيلسوف تشارلز تيلور والعالم السياسي مايكل ساندل فوضعوا الأصول الفلسفية للاتهام وبدأوا به. على سبيل المثال، يدّعي تيلور أنه بسبب إيمان مؤيدي مذهب الحرية بالحقوق الفردية ومبادئ العدالة التجريدية، “فإنهم يؤمنون بالإكتفاء الذاتي للإنسان، أو الفرد—إن اعجبك ذلك.” إن هذا تحديث للهجوم القديم على الليبرالية التقليدية الفردية، الذي بموجبه افترض الليبراليون التقليديون أن “الفرد المجرد” أساس لوجهات نظرهم حول العدالة.
ليست هذه الإدعاءات سوى محض ترهات لا معنى لها. فلا أحد يؤمن فعلياً بوجود “الفرد المجرد”، لأن جميع الأفراد يمتلكون بالضرورة وجوداً مادياً. ولا يمكن ان يكون “إكتفاءاً ذاتياً” حقيقياً للأفراد، وهذا ما يدركه أي قارئ لكتاب: ثروة الأمم. بالعكس، فإن الليبراليين التقليديين والمؤيدين لمبدأ الحرية يذهبون الى أن نظام العدالة يجب أن يتجرد من الخصائص أو الصفات المادية للأفراد. وعليه، فعندما يقف الفرد أمام المحكمة، فإن ارتفاعه ولونه وثروته ومنزلته الاجتماعية وديانته ليس لها علاقة بقضية العدالة. وهذا ما تعنيه المساواة أمام القانون، فهي لا تعني أن لا أحد يمتلك فعلاً ارتفاعاً أو لون بشرة أو معتقدات دينية محددة. إن التجريدية هي عملية عقلية نستخدمها عندما نحاول أن نميز ما هو ضروري أو ذا صلة بالمشكلة، وهي لا تتطلب اعتقاد بالكيانات التجريدية.
إن السبب الدقيق وراء الحاجة إلى التعاون كضرورة لبقاء الإنسان وازدهاره هو عدم قدرة الأفراد أو المجموعات الصغيرة على الاكتفاء الذاتي بشكل كامل. ولأن هذا التعاون يحدث بين أفراد لا حصر لهم ولا يعرفون بعضهم البعض، فان القوانين التي تحكم ذلك التفاعل هي تجريدية بطبيعتها. إن القوانين التجريدية التي تحدد سابقاً ما يمكن أن نتوقعه من بعضنا البعض تجعل التعاون ممكناً على نطاق واسع.
لا يمكن لشخص عاقل أن يعتقد بأن الأفراد قد يتشكلون بشكل كامل خارج مجتمعهم وبمعزل عنه. فان اعتقد بذلك، فهذا يعني أن ليس بمقدور أحد أن يكون له والدان أو أبناء عم أو أصدقاء أو مَثَل أعلى أو حتى جيران. فمن الواضح أن كلاً منا متأثر بمن حوله. إن ما يؤكده مؤيدو مذهب الحرية هو أن الفروقات بين البالغين الطبيعيين لا تقتضي وجود اختلاف في الحقوق الأساسية.
مصادر الالتزامات وحدودها
ليس مذهب الدفاع عن الحرية بالأساس نظرية تجريدية حول أولوية الأفراد على حساب الأشياء المجردة أقل من كونه نظرية سطحية عن “الأفراد المجردين”، كما أنه ليس رفضاً أو شذوذاً عن التقاليد، كما اتهمه كيرك وبعض المحافظين. بل إنه نظرية سياسية انبثقت استجابةً للنمو غير المحدود لسلطة الدولة. يستمد مذهب الدفاع عن الحرية قوته من اندماج قوي للنظرية المعيارية الأخلاقية والمصادر السياسية وحدود الالتزامات والنظرية الإيجابية الموضحة لمصادر النظام. إن كل شخص له الحق في أن يكون حراً. والأشخاص الأحرار يستطيعون أن ينتجوا النظام بتلقائية، من غير قوة آمرة عليهم.
وماذا عن وصف ديونيه اللامعقول لمبدأ الدفاع عن الحرية الذي ذكر فيه: “أن الأفراد يجيئون إلى هذا العالم كبالغين كاملين، ويعتبرون مسؤولين عن أفعالهم منذ لحظة ولادتهم”؟ يميز الليبراليون الكلاسيكيون الفرق بين البالغين والأطفال، وكذلك الفروقات بين البالغين العاقلين والبالغين المجانين أو المعاقين أو المتخلفين عقلياً. إن وجود الأوصياء شيء ضروري للأطفال وللبالغين غير الطبيعيين؛ لأنهم غير قادرين على اتخاذ قرارات مسؤولة بأنفسهم. لكن لا يوجد هناك أي سبب واضح لجعل بعض البالغين العاقلين يمتلكون سلطة اتخاذ القرارات بالنيابة عن بالغين عاقلين آخرين، كما يعتقد اليساريون واليمينيون المؤيدون للسلطة الأبوية على حد سواء. يذهب الليبراليون الكلاسيكيون إلى أنه ليس لأي بالغ عاقل الحق في فرض الخيارات على بالغين عاقلين إلا في ظروف غير طبيعية، مثلما يحدث عندما يجد شخص ما شخصاً فاقداً لوعيه فيقدم له المساعدة الطبية أو يتصل بسيارة الإسعاف.
إن ما يميز مذهب الليبرالية الكلاسيكية عن غيرها من وجهات النظر الأخلاقية السياسية هو نظريتها في الالتزامات القابلة للفرض. فبعض الالتزامات لا تفرض عادة بالقوة، مثل كتابة رسالة شكر للمضيف بعد حفلة عشاء، لكن في بعض الحالات أخرى، كالالتزام بعدم توجيه لكمة في الوجه لناقد غير مرغوب فيه، أو الالتزام بدفع ثمن زوج من الأحذية قبل أن تأخذها وتخرج من المحل، فتعتبر الالتزامات واجبةً هنا. يمكن للالتزامات أن تكون عامة أو خاصة. إن لدى الأفراد—مهما كانوا أو أينما كانوا، ما عدا في بعض الحالات الاستثنائية—واجبات مفروضة عليهم تجاه الآخرين وهي: أن لا يسببوا لهم الأذى في حياتهم أو حرياتهم أو صحتهم أو ممتلكاتهم. وعلى حد تعبير جون لوك: “لأن الناس جميعهم متساوون ومستقلون، لا يحق لأي كان أن يلحق الأذى بحياة الآخرين أو صحتهم أو حريتهم أو ممتلكاتهم”. يتمتع كل الأفراد بحق عدم التعرض للأذى من قبل الآخرين في تمتعهم بهذه الأشياء. إن هذه الحقوق والواجبات مترابطة فيما بينها، ولأنها عامة و”سلبية” في خصائصها، فإنها تحت ظروف معينة تسمح بأن يتمتع بها الجميع وفي نفس الوقت. إن الأساس الذي تستند إليه النظرة الليبرالية الكلاسيكية هي القاعدة العامة التي توصي بحقوق الإنسان وعدم جواز قتلهم أو جرحهم أو سلبهم. ولا يجب افتراض وجود “شخص مجرد” لتأكيد ذلك الحق. إن السبب الذي يجعل الليبرالي الكلاسيكي يدافع عن حقوق الفرد هو احترامه وليس ازدراءه للـ”شعلة المتقدة في أبناء جلدته.”
تعتبر هذه الالتزامات عامة وشاملة ولكن ماذا عن الالتزامات “الخاصة”؟ وانا أكتب هذه السطور، جالساً في مقهى وقد طلبت لتوّي فنجاناً آخراً من القهوة. لقد قمت بملء حريتي بتحمل التزام معين لدفع ثمن القهوة: لقد نقلت بعضاً من حق ملكيتي لمبلغ معين من المال لصاحبة المقهى، وقد نقلت هي بدورها حقها في ملكية فنجان القهوة لي. يذهب الليبراليون الكلاسيكيون إلى أن الالتزامات الخاصة، تحت الظروف الطبيعية على أقل تقدير، يجب أن تتم بالموافقة أو القبول، ولا يمكن فرضها من جانب واحد عن طريق الآخرين. إن المساواة في الحقوق تعني أنه لا يحق لبعض الناس فرض الالتزامات على الآخرين بكل بساطة، لأنهم بذلك ينتهكون الأسس الأخلاقية كما ينتهكون حقوق الآخرين أيضاً. من ناحية أخرى، يذهب الاجتماعياتيون إلى أننا نولد جميعاً بالتزامات معينة كثيرة، مثل إعطاء هذا الكيان من الاشخاص—الذي يطلق عليه الدولة أو بشكل أكثر غموضاً الأمة أو المجتمع أو الناس—الكثير من المال والكثير من الطاعة أو حتى حياة المرء. و يذهب الاجتماعياتيون الى أن مثل هذه الالتزامات يمكن أن تُفرض بالقوة. في الحقيقة، ووفقاً للاجتماعياتيين أمثال تيلور وساندل، فإنني أُعتبر فرداً مُشَكّلاً ليس بواسطة حقائق نشأتي وتجاربي فحسب، بل بواسطة مجموعة الالتزامات المعينة المفروضة عليّ.
أعود وأكرر، يدعي الاجتماعياتيون أننا كأشخاص مُشكلين من خلال التزاماتنا المعينة، ولهذا لا يمكن لتلك الالتزامات أن تكون أمراً اختيارياً. مع ذلك، فأن هذا محض تأكيد ولا يمكنه أن يكون بديلاً عن مناقشةٍ أو جدل يذهب إلى أن الفرد مقيد بالتزامات نحو الآخرين؛ وهي ليست تبريراً للقسر أو الإجبار. قد يتساءل المرء—وهو محقٌ في تساؤله—إذا ولد الفرد مقيداً بالتزامات لإطاعة الأوامر، فمن هو الذي ولد ممتلكاً للحق في إصدار الأوامر؟ إذا ما أراد أحد ما نظرية التزام مترابطة، فلا بد أن يكون هناك أحد ما، فرد أو مجموعة أفراد، عليه أو عليهم حق تنفيذ الالتزام. إذا ما كنت فرداً مُشكّلاً بواسطة التزامي بالطاعة، إذاً فمن الذي يُشكَّل كشخص له حق الطاعة؟ إن مثل هذه النظرية في الطاعة، يمكن أن تكون مرتبطة بعصر الملوك-الآلهة، ولكنها تبدو بالأحرى في غير مكانها في نطاق العالم الحديث. و خلاصة القول، لا يوجد شخص عاقل يمكنه تصديق فكرة وجود أفراد مجردين، والخلاف الحقيقي ما بين الليبراليين الكلاسيكيين والاجتماعياتيين هو ليس حول الفردانية بحد ذاتها، بل حول مصدر الالتزامات المعينة، إن كانت إلزامية أو اختيارية.
المجموعات والمصالح العامة

إن نظرية الالتزام التي تركز على الأفراد، لا تعني بأنه لا يوجد “شيء” مثل المجتمع، أو أنه ليس بإمكاننا أن نتحدث عن مجموعات لها معنى. فحقيقة وجود الأشجار المنفصلة لا تعني بأنه لا يمكننا التحدث عن وجود غابات. المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد، ولا هو شيء “أكبر أو أحسن” منفصلاً عنهم. وكما أن المبنى ليس مجرد مجموعة من الطابوق، بل هو طابوق وعلاقات فيما بين طابوقة واخرى، كذلك المجتمع فهو ليس عبارة عن فرد مع حقوقه، بل العديد من الأفراد مع مجموعة من العلاقات المعقدة فيما بينهم.
من شأن لحظة من التفكير أن توضح بأن ادعاءات الليبراليين الكلاسيكيين يرفضون “القيم المشتركة” و”المصلحة العامة” على أنها ادعاءات غير مترابطة. إذا ما تقاسم الليبراليون الكلاسيكيون قيمة الحرية (في الحد الأدنى) فإنهم لن يستطيعوا “معارضة فكرة القيم المشتركة”، وإذا آمنوا بأننا جميعاً سنكون في حال افضل إذا ما تمتعنا بالحرية، عندها لا يمكن أن يكونوا قد “تخلّوا عن إمكانية تحقق المصلحة العامة”، لأن الجزء الرئيسي من جهودهم ينصب على التأكيد على معنى المصلحة العامة! ورداً على إدعاء كيرك بأن الليبراليين الكلاسيكيين يعارضون العرف، دعوني أشير إلى أن الليبراليين الكلاسيكيين يدافعون عن أعراف الحرية، والتي تعتبر ثمرة تاريخ إنساني يمتد إلى آلاف السنين. إضافة إلى ذلك، فان التقليدية الصرفة ليست متماسكة، لأن التقاليد أو الأعراف لا يمكن أن تصطدم ببعضها البعض، وبعد ذاك لن يكون للفرد ثمة مرشد للأداء الصحيح. وعموماً، إن القول الذي يدّعي بأن الليبراليين الكلاسيكيين “يعارضون التقاليد” يعد قولاً غير معقول ومنافٍ للذوق. إذ أن الليبراليين الكلاسيكيين يتبعون التقاليد الدينية، والعادات العائلية، والتقاليد العرقية، والتقاليد الاجتماعية كالمجاملات واحترام الآخرين، وغيرها من الامور التي لا أخالها تندرج ضمن التقاليد من منظار كيرك بكل تأكيد.
إن قضية الليبراليين الكلاسيكيين للدفاع عن الحرية الشخصية، والتي شوهها النقّاد الاجتماعياتيين، هي قضية بسيطة ومعقولة. من الواضح أن الأفراد المختلفين يحتاجون إلى أشياء مختلفة ليعيشوا بسلامة وصحة وفضيلة. وعلى الرغم من طبيعتهم المشتركة، إلا أن الناس يتميزون ويختلفون عددياً ومادياً، فلدينا احتياجات مختلفة، إذن، كم إلى أي حد يمكن للمصلحة العامة أن تتسع؟
أكد كارل ماركس، وهو ناقد اجتماعياتي لاذع لمذهب الليبراليين الكلاسيكيين، بأن المجتمع المدني مُرتكز على “تفكك الإنسان” بحيث أن ذلك الإنسان “بجوهره لم يعد في المجتمع بل في اختلاف”، وعلى العكس من ذلك، فحسب الاشتراكية، يمكن للفرد أن يتعرف على طبيعته “كنوع احيائي”. ونتيجة لذلك، يؤمن الاشتراكيون بأن التدبير الجمعي لكل شيء أمراً مناسباً، ففي الحالة الاشتراكية الحقيقية، يمكننا أن نستمتع بنفس المصلحة العامة، ولا يمكن للصراع أن يتواجد. أما الاجتماعياتيون فهم أكثر حذراً، ولكن بالرغم من كثرة كلامهم، نادراً ما أخبرونا عن ماهية مصلحتنا العامة. فالفيلسوف الاجتماعياتي ألاسدير ماكينتاير، على سبيل المثال، أصر في 219 صفحة في كتابه المؤثر: ما بعد الفضيلة، أن هناك “حياة جيدة للإنسان” يجب أن تكون مطلوبة جماعياً، بعدها وعلى نحو هزيل، ختم قائلاً بأن “الحياة الجيدة للإنسان هي الحياة المُستغلة في البحث عن حياة جيدة للإنسان.”
هناك إدعاء مألوف بأن توفير ضمان التقاعد من خلال الدولة يعتبر عنصراً للمصلحة العامة، فهذا “يجمعنا جميعاً سوية”. ولكن من هو المشمول “جميعاً سوية”؟ تشير الإحصائيات التأمينية على أن الذكور الامريكيين من أصول إفريقية (الأمريكيون السود) والذين قاموا بدفع نفس الضرائب لنظام الضمان الاجتماعي كما دفعها الذكور البيض من خلال حياتهم المهنية يحصلون بالنهاية ما يعادل النصف. إضافةً إلى ذلك، يموت ذكور سود أكثر من البيض قبل أن يستلموا قرشاً واحداً، وهذا يعني بأن كل نقودهم قد صُرفت من أجل منفعة الآخرين وأن شيئاً من استثماراتهم لن ينفق على أهاليهم. وبصيغة أخرى، تعرض السود للسرقة من أجل نفع المتقاعدين غير السود. هل يعتبر الذكور السود جزءاً “منا جميعاً” ويستمتعون بالمصلحة العامة، أو هل إنهم ضحايا المصلحة العامة من الآخرين؟ (وعلى القراء أن يعلموا أنه سينتفع الجميع في ظل خصخصة النظام التقاعدي، وهذا ما يدفع مؤيدي الحرية إلى التأكيد على المصلحة العامة من خلال حرية الاختيار ما بين انظمة التقاعد وليس تلك المفروضة من الدولة). وما الادعاءات حول “المصلحة العامة” إلا أغطية لمحاولات أنانية للحصول على مصالح خاصة، كما ذكر الليبرالي الكلاسيكي، الروائي النمساوي روبرت موزيل في عمله الرائع: الرجل بلا خصائص: “في هذه الأيام المجرمون فقط يجرؤون على إيذاء الآخرين من دون فلسفة.”
وقد لاحظ الليبراليون الكلاسيكيون التعددية المحتومة للعالم الحديث ولهذا السبب فهم يؤكدون على أن الحرية الفردية هي جزء من المصلحة العامة على الأقل. وهم يفهمون أيضاً الحاجة القصوى للتعاون من أجل بلوغ مراد المرء، فلا يمكن لإنسان منعزلٍ أن يكون “مكتفٍ ذاتياً”، وهذا هو السبب بالضبط وراء الحاجة للقوانين التي تحكم الملكية والعقود، على سبيل المثال، لأجل ان نجعل التعاون المسالم ممكناً ولمأسسة الحكومة لفرض تلك القوانين. إن المصلحة العامة هي نظام عدالة يسمح للجميع العيش معاً بتوافق وسلام، وهي الأكثر شمولاً مما تميل الى أن تكون، وليست مصلحة عامةً “لجميعنا”، بل لبعض منا على حساب الآخرين (هنالك معنى آخر، مفهوم من قبل كل الآباء، لمصطلح “الاكتفاء الذاتي.” إذ يرغب الآباء بأن يعتمد أطفالهم على أنفسهم وليس على غيرهم مثل السارقين أو المتسولين والمتسكعين أو الطفيليات. تلك هي حالة مهمة لاحترام الذات، وكثيراً ما يخلط تايلور ونقاد آخرون لمذهب الليبرالية الكلاسيكية بين ميزة اكتفاء الذات وحالة عدم الاعتماد على الآخرين المستحيلة).
إن قضية المصلحة العامة مرتبطة باعتقادات الاجتماعياتيين فيما يتعلق بالشخصية أو الوجود المستقل للجماعات. فكلاهما جزء لايتجزأ من وجهة نظر مبدئية وغير علمية ولا عقلانية للسياسة، وجهة نظر تميل إلى شخصنة المؤسسات والمجموعات، كالدولة أو الأمة أو المجتمع. وبدلاً من إثراء العلوم السياسية وتجنب ادعاءات الاجتماعياتيين التي تزعم سذاجة الفردانية التي ينادي بها الليبراليون الكلاسيكيون، وعلى أية حال، فان فرضية التشخيصية تعتم القضايا وتمنعنا من طرح الأسئلة الممتعة التي يبدأ معها البحث العلمي. ولم يقم أحد أبداً بوضع القضايا بشكل أفضل مما فعل المؤرخ الليبرالي التقليدي باركر ت. موون من جامعة كولومبيا في دراسته للإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر، الموسومة:“الإمبريالية والسياسة العالمية” إذ ذكر فيها:
“إن اللغة في الغالب تشوش الحقيقة. وقد أعميت أبصارنا، أكثر مما نتوقع، إزاء حقائق العلاقات العامة بواسطة خدع اللسان. فعندما يستخدم المرء كلمة (فرنسا) البسيطة ذات المقطع الواحد، فإنه سيفكر بفرنسا كوحدة، كينونة. عندما نريد تجنب التكرار المربك، فإننا نستخدم ضمائر شخصية ترمز إلى الوطن… على سبيل المثال عندما نقول (أرسلت فرنسا قواتها المسلحة لفتح تونس)… نحن لا ننسب القوات إلى وحدة البلد، بل إلى الشخصية أيضاً. الكلمات ذاتها تخفي الحقائق وتجعل من العلاقات الدولية دراما ساخرة تكون الأمم المشخصة هي الممثلون، وبكل سهولة ننسى الرجال والنساء وهم الممثلون الحقيقيون. كم سيكون الأمر مختلفاً إذا لم نكن نمتلك كلمة كـ فرنسا… كان علينا حينها أن نقول بدلاً عن تلك الكلمة: الثلاثة وثمانون مليون رجل وامرأة وطفل ذوو الاهتمامات والمعتقدات والمقيمون في منطقة 218.000 ميلاً مربعاً من البلاد! حينها يجب علينا أن نصف بشكل أدق حملة تونس على هذا النحو: (بعض من هؤلاء الثلاثة والثمانين مليون شخص أرسلوا ثلاثين ألفاً آخرين لفتح تونس). هذه الطريقة في وضع الحقائق بشكل مباشر تطرح سؤالاً، أو على الأصح سلسلة من الأسئلة. من هم (البعض)؟ لماذا أرسلوا الثلاثين ألفاً إلى تونس؟ ولماذا هؤلاء يطيعون؟”
ان التشخيصات الجماعية تضفي غموضاً، بدلاً من أن توضح، الكثير من القضايا السياسية المهمة. هذه الأسئلة، التي تتمركز تقريباً حول تفسير الظواهر السياسية المعقدة والمسؤولية الأخلاقية، لا يمكن لها ببساطة أن تُفسَّر داخل حدود تشخيص المجموعة والتي تسدل عباءة من الغرائبية على أفعال صنّاع السياسة، وبهذا تسمح للبعض باستخدام “الفلسفة” أو—الفلسفة الصوفية—لإلحاق الأذى بالآخرين.
ينفصل الليبراليون الكلاسيكيون عن الاجتماعياتيين من خلال اختلافاتهم في القضايا المهمة، ولا سيما فيما يتعلق بكون القسر أو الإكراه ضرورياً لصيانة المجتمع، والتكافل، والصداقة، والحب، والأشياء الأخرى التي تجعل الحياة تستحق العيش، ويمكن التمتع بها مع الأخرين وبشكل مشترك فقط. لا يمكن إزالة تلك الفروقات بكل بداهة، لأن حلولها لا تستند الى التشويه المخزي، أو التصورات غير المعقولة، أو بإطلاق الأسماء الوضيعة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 كانون الثاني 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018