مقومات بناء مجتمعات ما بعد الثورة

إدريس لكريني24 فبراير، 20110

إذا كانت النخب السياسية قد أسهمت بشكل ملموس في الدفع بعدد من المجتمعات نحو تحقيق الديمقراطية والتطور والتنمية، فإن الأوضاع السياسية داخل الأقطار العربية، تعكس الحالة المتردية التي تعيشها النخب السياسية في مختلف هذه الأقطار نتيجة لعجزها عن قيادة أي تغيير أو إصلاح....

peshwazarabic22 فبراير، 20110

بقدر ما أبكى نظام الرئيس السابق حسني مبارك الشعب المصري حزناً، نجده وقد أبكاهم فرحاً عندما حققوا انتصاراً فتح الباب أمام حريتهم وانعتاقهم التاريخي. الديكتاتورية والقمع والبطالة والفساد لا تحدّ من المقدرة الفطرية والذكاء الجماعي للشعوب عندما تكتشف نقاط ضعف النظام فتطرحه أرضاً في لحظة منازلة تاريخية. هذه قصة متكررة عبر التاريخ المديد للأمم والحضارات، فالأنظمة تنهار بفضل ذلك التناقض الذي يتطور عبر الزمن بين حاجات المجتمع وأحلامه، وبين سطحية الأنظمة وأفعالها ومحدودية رؤيتها واحتكارها للسلطة (وهو الأهم)، وبين عزل بقية قوى المجتمع. وبينما تجدد الأنظمة الذكية نفسها بواسطة تداول السلطة وحماية الحريات ومواجهة الفساد، نجد أن الانظمة التقليدية تتآكل من دون أن تشعر أنها سائرة نحو لحظة اشتعال. وفي لحظة الصدام الأهم، تتخلى الطبقة الطفيلية المستفيدة الملتصقة بالنظام الذي يحتكر السلطة عن رئيس البلاد والنظام الذي فتح لها أبواب الاستفادة غير المشروعة، فتتركه وحيداً. تبين في مصر أن النظام هشّ ومفكك، لأنه بني على قواعد شكلية وأسس قسرية لا تتماشى والطبيعة الانسانية التي تحركها العدالة. في التاريخ الانساني، هوت الأنظمة التي تحتكر السلطة السياسية عند كل امتحان مصيري. ستبقى في الحاضر صرخة العدالة والحرية والحقوق وتداول السلطة قادرة على قلب أكثر الانظمة قوة بين ليلة وضحاها.
وكم من اختلاف بين الماضي واليوم، بين لحظة جيلي في سبعينات القرن الماضي وبين لحظة الجيل الراهن ٢٠١١، ففي السبعينات لم يكن هناك «يوتيوب»، ولا انترنت ولا «فايسبوك» ولا هاتف نقال يصور الحدث، كما هو حاصل اليوم. قصص تصفية المدن وحرقها وقتل ألوف الناس وتصفية المعارضين في كل مكان وبدم بارد سادت القاموس العربي في السبعينات. تلك كانت الطريقة المتبعة لترويض الشعوب العربية، ففي الكثير من البلدان العربية قصص تقشعر لها الأبدان، كما حصل إبان انتفاضة فاس في المغرب عام ١٩٩١، وحوادث شبيهة في ليبيا والعراق والجزائر وسورية (حماه وحمص) واليمن، وبالطبع في الحرب الأهلية الأردنية الفلسطينية عام ١٩٧٠، وفي الحرب الأهلية اللبنانية، والأهلية الجزائرية… وغيرها.
مع عام ٢٠١١، اختلف كل شيء، فالتنكيل يُنقل عبر العالم بالصورة والصوت عبر المحطات ومن خلال هواتف المواطنين. فضائح القتل تصل إلى بقية أبناء الشعب، بما فيه الجندي والضابط، مما يساهم في إسقاط الدعاية الرسمية بلحظة واحدة. في مصر مثلاً، فقد النظام نصف شرعيته عندما أرسل الجمال والقتلة والبلطجية ليضربوا المتظاهرين المسالمين، وفقد نصف شرعيته الآخر عندما رأى مزيداً من الناس ينضمون للثورة.
لقد دخل العرب في زمن الاستقلال الثاني. الاستقلال الأول كان في مواجهة الاستعمار، أما هذا الاستقلال، فهو تأكيد لمبدأ أن الشعب مصدر السلطات جميعاً وأساس الشرعية. أهداف هذا الاستقلال بسيطة: كل الناس يريدون الكرامة الإنسانية والمشاركة الحقة والحرية السياسية والشخصية وعملاً منتجاً وأماناً اقتصادياً وشعوراً بالمساواة والحقوق. وكل الناس يريدون القضاء على الفساد، لأنه يسرق عملهم وإنتاجهم، ويريدون قضاءا مستقلاً ويسعون لانتخاب مسؤوليهم وقادتهم، وكل الناس يريدون تغيير وزرائهم إن لم يحققوا لهم أهدافهم. المجتمعات العربية تبحث الآن عن زعماء يتصرفون بحرص على الناس. الشعارات القادمة في الحركة العربية بسيطة: حرية – عدالة اجتماعية – كرامة – حقوق – تداول السلطة… وفي بعض الحالات اسقاط النظام العاجز عن إصلاح حاله.
إن البلاد العربية في بداية طريق جديد تشكِّله مطالب شجاعة يحمل لواءها جيل شاب يسعى إلى فرض حالة تغيير شامل في بعض الأنظمة، بينما يسعى لإصلاح بعضها الآخر. الاصلاح يعني فرض تنازلات أساسية على النخب العربية الحاكمة تتنازل بموجبها عن احتكار السلطة. لكن رفض الاصلاح سوف يعني ثورات لا حد لطموحها، مما سيهوي بعدد من الأنظمة العربية. في المرحلة القادمة، سنعيش وسط عاصفة رملية عاتية، وبعد انتهاء العاصفة لن نكون نحن أنفسنا كما كنا قبلها، سنكون مختلفين روحاً وعقلاً.
عودة مصر إلى مصر هي بداية الطريق لعودة مصر إلى العرب. وهذا سيعني الكثير: فقد اكتشف المصريون، وقبلهم بأيام التونسيون، آليات التغيير، وأكدوا لبقية العرب أن هذه الآليات قابلة للتحقيق والتصدير. من تونس الى مصر وقع التصدير الأول للثورة، والآن سيقع التصدير الثاني من مصر الى ليبيا واليمن وغيرهما، فكل الثورات تصدِّر الثورة، وإن لم تصدر الثورة بصورة مباشرة ستفعل ذلك من خلال النموذج والأفكار والوسائل والطرق. سيصدَّر النموذج المصري والتونسي حتماً، إلاّ إذا قامت الأنظمة العربية بحماية نفسها من الثورة عبر القيام بإصلاحات كبيرة تغير المضمون وتطور الأوضاع وتسمع صوت الشارع. عودة مصر ستعني بروز كرة ثلج بألوان مختلفة من الأفكار والكتب والأبحاث والأفلام والمسلسلات والأدب والشعر والرواية والتعليم والمدارس. نحن على أعتاب ثورة ثقافية ستصاحب الثورة الشبابية وتمهد لعالم عربي ديموقراطي ومختلف.
لقد بدأ الشباب في العالم العربي بتجاوز نخبهم السياسية بكل أصنافها، وبتجاوز اللغة التقليدية للنخب. لقد قضى الكثير من الدول العربية على جميع الرموز والنخب الوسطية، وفَرَّغت الأحزاب المعارضة من قيمتها، وخلقت وضعاً يجعل الناس يتناقضون بعضهم مع بعض على أبسط المسائل الطائفية والعائلية والفئوية. هذه السياسات أقنعت المجتمعات بأنه لا بديل من النظم سوى الانهيار أو التطرف الاسلامي. الثورات الجديدة تقول لنا: هناك طريق ثالث سلمي ووسطي وديموقراطي، والخيار ليس بين النظام والتطرف الإسلامي والفئوية، بل بين النظام والقوى الشبابية والشعبية والديموقراطية.
ثقة جديدة تمتد الآن بين العرب من ليبيا ومن اليمن والبحرين الى سورية، ومن الأردن الى بقية الأقطار العربية، بما فيها إيران. لقد بدأت مرحلة تاريخية لها مميزاتها وخصائصها، ومعها ينبعث إنسان عربي تنتجه كرامة جيل. إننا نمر بعاصفة رملية كبيرة نسير وسطها، بينما نبحث عن طريقنا ونتأقلم مع تقلباتها ومفاجآتها. سنصل الى نهاية، وسنكون مختلفين، بعد انقشاع العاصفة وعودة النور الى بلادنا.
‎© منبر الحرية،18 فبراير/شباط 2011

peshwazarabic26 يناير، 20110

من الخطأ أن يصبح جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة هدف بحد ذاته، بل من الحكمة أن تسخّر الدول النامية إمكانياتها للاستفادة من تلك الاستثمارات في إطار سياسات التنمية الشامل. ولكن لا يمكن تحديد السياسات العامة الأكثر فعالية لتحقيق تلك الاستفادة بشكل مطلق، بل من الضروري استخلاص العبر من تجارب بعض الدول في هذا الصدد مع الأخذ بعين الاعتبار توخي الحذر عند التطبيق، من منطلق أن لكل بلد إطاراً اقتصادياً وتاريخياً وجغرافياً وثقافياً وسياسياً يختلف عن الآخر.
إن عملية جذب الدول للشركات للاستثمار المباشر، تختلف من الدول الغنية إلى الدول النامية، حيث تعمل الدول المتقدمة على تقديم ما يعرف بالهبات المباشرة في كثير من الأحيان. بينما تلجأ الدول الفقيرة إلى حوافز تخفيض الضرائب. كما أن هنالك ترتيبات تفضيلية، مثل اتفاقيات الاتحاد الأوروبي مع كثير من الدول والتي تعرف باسم اتفاقيات الشراكة، وكذلك مبادرة الولايات المتحدة الأمريكية لحوض البحر الكاريبي. وأيضاً قانون النمو والفرص في افريقيا الصادر عن الولايات المتحدة. ولكن يجب النظر دائماً إلى مثل تلك الترتيبات على أساس أنها منفذاً مؤقتاً وليس دائماً.
والتحدي الأكبر يكمن في إمكانية تحقيق تلك الحوافز الفوائد المرجوة؟ وهل يؤدي ذلك إلى خطر إنفاق الأموال العامة؟ وهل هناك خطر من مدى القدرة على ضمان بقاء تلك الشركات في البلد المضيف؟ ومن يضمن بقاءها في حال انتهاء الحوافز أو توقفها؟ أو في حال لم يعد بإمكان الشركات الاستفادة من الترتيبات أو التفضيلات الممنوحه للدول من أجل تشجيعها؟
ومن الممكن استغلال منافع الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تضطلع به الشركات عبر الوطنية استغلالاً أكبر، فلقد بدأت التكنولوجيا تتغير، والعمليات والوظائف قابلة للتجزئة بصورة متزايدة، والحدود الفاصلة بين ما هو داخلي وما هو خارجي للمؤسسات تتبدل. والتحدي الذي تواجهه البلدان التي ترغب بالتطور والتقدم هو كيفية الاستفادة من تلك الشركات استفادة أكبر، وهنا تظهر أهمية السياسات العامة المعتمدة من قبل تلك الدول.
ومقدار النجاح الذي يحققه البلد المضيف للاستثمارات أصبح يعتمد على قدرة البلد على تطوير القدرات المحلية، والدول الأكثر نجاحاً في مجال استقطاب الشركات عبر الوطنية هي التي لجأت إلى اتباع نهج ثنائي يستند إلى تنمية القدرات المحلية مع استهداف الموارد والأصول للشركات. والصين تعتبر من أكثر الدول المعتمدة على هذا النهج في استراتيجيتها لجذب استثمارات الشركات عبر الوطنية. ومن عناصر هذا النهج :
توافق ما هو مستهدف في تشجيع الاستثمار مع الاستراتيجات الإنمائية والصناعية الأوسع نطاقاً للبلد المعني.
توفير رزمة من الحوافز بطريقة مركزة لتشجيع الشركات عبر الوطنية على الاستثمار في الأنشطة الرئيسية.
إشراك الشركات المنتسبة في تطوير ورفع المستوى المهني والتكنولوجي للموارد البشرية.
بنية رفيعة المستوى من قبيل مناطق التجهيز والمجمعات العلمية والمدن الصناعية بالإضافة إلى المناطق الحرة.
إن قدرة الدول النامية على الاستفادة من الفرص الجديدة الناشئة عن التنافس بين الشركات يعتمد إلى حد كبير على ما تتخذه بنفسها من إجراءات بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى ما تقدمه الدول المتقدمة من مساعدات سواء على صعيد تطوير القدرات المؤسسية، أو إزالة الحواجز أمام صادرات البلدان النامية خاصة في ظل بيئة تنافسية عالمية تزداد حدة. كذلك من الضروري طرح دور منظمة التجارة العالمية، الذي من الممكن أن تلعبه لتشجيع الدول النامية على التصدير والحد من سياسات الحماية المتبعة من قبل الدول الصناعية، كسياسات الدعم والإعانات المتخصصة، والتدابير الوقائية التي تقوّض فعلاً الفرص المتاحة أمام البلدان النامية لاستغلال ميزتها النسبية على أتم وجه.
الكثير من الأفكار والنظريات تعتبر أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتمثلة بالشركات هي من سلبت خيرات وإمكانيات الدول النامية وأنها تبحث فقط عن مصالحها الخاصة، وجعلت الدولة النامية أكثر تبعية لها. لكن في هذا السياق لا بد من التساؤل عن بعض التطورات الحاصلة في هذا الإطار:
هل كان بإمكان الصين الدولة العملاقة ودول أخرى كالهند وكوريا الجنوبية وإيرلندا تحقيق ما حققته في المجال الاقتصادي دون هذه الاستثمارات ؟
إذا كانت الدول النامية تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية فما هي طرق العلاج؟ وإذا كانت محصلة الأوضاع في كثير من الدول سيئة للغاية، فالحصول على شيء أفضل من لا شيء. فمصر لا تملك أية قدرة على مستوى صناعة السيارات، والآن تمتلك مصانع لتجميع سيارات “BMW” وما نتج عن ذلك من انعكاسات على المستوى التصدير، وخلق فرص عمل واكتساب خبرات ومهارات في مجال صناعة السيارات. فهل كانت مصر قادرة على فعل شيء من ذلك دون الاستثمار المباشر الأجنبي لشركة “BMW” ؟؟؟
© منبر الحرية،26 يناير/كانون الثاني 2011

peshwazarabic20 ديسمبر، 20100

قد يكون ظهور مصادر جديدة للاستثمار الأجنبي من الدول النامية ذا أهمية خاصة بالنسبة للبلدان النامية المضيفة لتلك الاستثمارات ذات الدخل المنخفض، وشركات اقتصادات الدول النامية هي الآن مستثمرة هامة في العديد من أقل البلدان نمواً.

peshwazarabic2 ديسمبر، 20101

الجزء الأول
يترتب على زيادة القدرة التنافسية التصديرية الناتجة عن الاستثمار الأجنبي المباشر آثار هامة، والبلدان التي حققت أكبر المكاسب من حيث الحصص السوقية هي بصورة رئيسية بلدان نامية. وأصبحت تلك البلدان تنتمي بفضل ما اكتسبته مؤخراً من حصص سوقية إلى البلدان الـ20 الأكثر تصديراً في العالم. كذلك توجد 5 شركات مقارها في اقتصاديات نامية تحتل مكانة في قائمة أكبر 100 شركة في العالم.  أي إن هنالك تغيّرات هائلة قد أخذت تحدث في تكوين التجارة العالمية. ويمكن اعتبار ذلك من المؤشرات التي تبعث على الأمل، وهناك إمكانية للتقدم في حال تم استغلال الظروف والإمكانيات استغلالاً جيداً.
إن احتدام المنافسة يجبر الشركات عبر الوطنية على البحث عن سبل جديدة لزيادة كفاءتها وإمكانياتها، بما في ذلك عن طريق توسيع نطاق وصولها إلى المستوى الدولي، والوصول إلى أسواق جديدة في مرحلة مبكرة وتحويل بعض الأنشطة الإنتاجية من أجل تخفيض التكاليف. وهذا يؤدي إلى اتخاذ أشكال جديدة للإنتاج الدولي على مستوى ترتيبات الملكية وترتيبات تعاقدية جديدة . كما إن سياسة الدول الرائجة في عصرنا الحالي من فتح الأسواق المالية والسماح بجميع أنواع الاستثمارات الأجنبية، تساعد الشركات على زيادة استثماراتها في الخارج. بحيث أتاحت استراتيجية الشركات وتغيير النظم الإنتاجية العالمية إمكانات جديدة للبلدان النامية للانخراط في نظم الإنتاج العالمية.
ويلاحظ أن الكثير من البلدان التي حققت تقدماً في الأسواق التصديرية كانت معتمدة اعتماداً كبيرا ًعلى الاستثمار المباشر. وهناك بعض الميّزات النسبية التي تتمتع بها تلك البلدان تلعب دوراً في استقطاب الاستثمار الأجنبي، فمثلاً تتميّز الصين بحجم اقتصادها، أما كوستاريكا وأيرلندا فتتميّزان باتباع سياسات وطنية قائمة على نهج استباقي لاجتذاب الاستثمار الأجنبي في مجال التكنولوجيا الرفيعة المستوى والارتباط بشبكات الموردين الدولية.
أما هنغاريا والمكسيك وأيرلندا تتميّز بإمكانية وصولها إلى أسواق رئيسية وبشروط تفضيلية، فمثلاً ميزة المكسيك هي إمكانية التصدير إلى الولايات المتحدة الأمريكية وفقاً لاتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، مما يجعل المجال كبيراً أمام الدول التي تفرض عليها الولايات المتحدة شروطاً في تجاراتها مثل أن تدخل إلى السوق الأمريكية عن طريق المكسيك وهذا ما تفعله اليابان. وذلك أيضاً ما يحدث في هنغاريا وأيرلندا اللتين كانت تتميزان بحصولهما على شروط تفضيلية في الأسواق الأوروبية مما جعلهما محط أنظار الكثير من الشركات.
عمليه اجتذاب أنشطة الشركات الموجهة للتصدير عملية تنافسية إلى حد كبير. والدول المتقدمة قد تجد صعوبة في إدامة قدراتها التنافسية عندما ترتفع الأجور وتتغير الأوضاع في الأسواق. وهذا ينطبق أيضاً على الدول النامية، فالهند التي استطاعت من خلال مجموعة من المميزات ومنها الأجور المنخفضة أن تكون مصدر جذب من الطراز الأول للشركات عبر الوطنية. ولكن فيما بعد ونتيجة ارتفاع الأجور فيها جعلها تتراجع لتصبح روسيا – محط الأنظار – صاحبة الأجور المنخفضة أكثر من الهند.
فالفوائد المستمدة من التجارة المرتبطة بالشركات بدءاً بتحسين الميزان التجاري وتحسين العمليات التصديرية وإدامتها، تساعد على زيادة الصادرات. ولكن في المقابل فإن الشركات الأجنبية تستورد وقد تكون حصيلة النقد الصافي بين التصدير والاستيراد صغيرة في بعض الحالات. وقد تكون قيمة الصادرات مرتفعة، ولكن مع تدني مستويات القيمة المضافة تصبح العملية مستقبلياً تحمل في طياتها مخاطر ذات نتائج سلبية.
لا يمكننا اعتبار المكاسب الإنمائية الناتجة وتمتع تلك الاستثمارات بالديمومة والاستقرار مقولة قابلة للنقاش. ومن الخطأ أن يصبح جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة هدف بحد ذاته، بل من الحكمة أن تسخّر الدول النامية إمكانياتها للاستفادة من تلك الاستثمارات في إطار سياسات التنمية الشاملة، وفي كثير من الأحيان تتحمل الدول النامية مسؤولية فشل الاستثمارات في تحقيق نهضة اقتصادية نتيجة غياب التخطيط والسياسات العامة.
فالمسألة ليست في اجتذاب الاستثمارات بقدر ما هي كيف يمكن للبلدان النامية المضيفة أن تستفيد إلى أقصى حد ممكن من الأصول التي تتحكم بها الشركات؟
الأمر يعتمد على الاستراتيجيات التي تتبعها الشركات من جهة، وعلى ما يقابلها من قدرات السياسات العامة في البلد المضيف.إذ أن عدداً من المنافع المستمدة على المدى الطويل والتي يمكن عزوها إلى الشركات الأجنبية العاملة في التصدير قد لا تتحقق في البلد المضيف، بحيث من الممكن عدم قيام انخراط بين الشركات الأجنبية والاقتصاد المحلي، وبالتالي عدم قيام الشركات بتنمية المزايا النسبية الدينامية للبلدان المضيفة.
هناك أولويات مشتركة بين البلدان سواء كانت غنية أم فقيرة أهمها تحسين الصادرات وإدامتها لكي تسهم في التنمية إسهاماً كبيراً. فيجب على البلدان النامية النظر في كيفية التحول في أي صناعة من الصناعات إلى أنشطة ذات قيمة مضافة أعلى، وهنا يكمن التحدي في كيفية الاستفادة من إمكانيات الشركات لتحقيق التنمية المستدامة.
‎© منبر الحرية،25 نونبر/تشرين الثاني 2010

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

ردا على السفير البلجيكي كاريل دي جاشت الذي انتقد “الإمتيازات الكبيرة” التي يتمتع بها رجال السياسة الكونغوليين، ثارت ثائرة الرئيس الكونغولي جوزيف كابيل فاتهم بلجيكا بمحاولة التدخل في الشؤون الداخلية لبلاده والبحث عن وضعها تحت الوصاية.

نحن لسنا بصدد تبرير أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية الكنغولية، إنما تجدر بنا الإشارة إلى أنه كلما وجه أحدهم انتقادا لأحد القادة الأفارقة سارع هؤلاء باتهامه بمحاولة انتهاك سيادة بلادهم. فمؤخرا، وعندما اشتدت عليه الضغوطات الخارجية بعد التلاعب بالانتخابات، أعلن الريس موغابي و بدون تردد “أن الزيمبابوي ليست للبيع”. كأن احترام نتائج الانتخابات الديمقراطية يشكل تهديدا لسيادة بلاده! فهؤلاء القادة اليوم، وأسلافهم من قبلهم، نصبوا أنفسهم كحامين للسيادة الوطنية، ثم استغلوا ذريعة الحفاظ على السيادة، لتبرير سياسات تنموية غير فعالة من جهة و جمود اقتصادي من جهة أخرى.

لا يمكن الاعتراض على أهمية سيادة الدول الإفريقية على أراضيها، ولاسيما سيادتها على ثرواتها الطبيعية من أجل تحقيق الازدهار الاقتصادي. ولكن تدخل الدولة لتوجيه الاقتصاد من أجل حماية هذه السيادة غالبا ما يفرز نتاـْج عكسية و سلبية كما أنه يكرس تبعية الدول الإفريقية اقتصاديا للخارج.

بعيد حصولهم على الاستقلال، قام العديد من صناع القرار في الدول الإفريقية (الجزائر، الكونغو(زائير سابقا)) بوضع إستراتيجية تنمية اقتصادية مركزية مبنية على عدم التبعية، وذلك عبر استبدال المنتجات المستوردة بالمنتجات المحلية، و فرض التعريفات الجمركية و غير الجمركية للحد من منافسة السلع الأجنبية و تأميم الشركات و تكريس احتكارات الدولة. لكن و للأسف، فقد فشل هذا الخيار الاستراتيجي على جميع الأصعدة. فعدم قدرة الاقتصاد على خلق الثروات من جهة، و قدم المعدات الصناعية الإفريقية من جهة أخرى يشهدان على فشل هذه الإستراتيجية التي جعلت اقتصاد الدول الإفريقية يزداد اعتمادا على السلع المستوردة. فاستبدال المنتجات المستوردة بالصناعة المحلية باء بفشل ذريع إذ أنه أدى إلى ارتفاع مهول في فواتير الاستيراد و زيادة العجز في الميزان التجاري وارتفاع الدين العام. فعلى الرغم من أن إفريقيا تضم قرابة % 14 من سكان العالم فإنها لا تغطي سوى 2.9% من الصادرات العالمية. كما أن سياسة التأميم واحتكار الدولة أدت إلى سوء الإدارة و التبذير و زيادة الدين العام.

من المعروف أن العنصر الأساسي للسيادة الاقتصادية للدولة يكمن في الحرية و القدرة على الاختيار. لذا فإن اعتماد مفهوم السيادة المطلقة قد أعطى لكثير من الدول الإفريقية الوهم بالحرية، لكنه، وفي نفس الوقت، عرض للخطر قدرتهم على التطور نحو الحكم الذاتي. لأن هذا المفهوم المطلق للسيادة لم يفشل فقط عمليا إنما استعمل أيضا كذريعة لتعطيل الإصلاحات.

لذا و لغاية سنة 1994، رفضت الجزائر السياسات الداعية إلى التغيير و ذلك بحجة الحفاظ علي “سيادتها”. فحتى لو كانت توصيات البنك الدولي و صندوق النقد الدولي قابلة للنقاش، لا شيء يمنع أصحاب القرار في الجزائر، مثلا، من المباشرة بإصلاحات هيكلية كانت تفرض نفسها. و في زمبابوي و الكونغو، كما في الجزائر، لم يكتف القادة بوضع البلاد في حالة جمود اقتصادي باسم السيادة، بل سخروا هذه السيادة لخدمة مصالحهم الشخصية. خير مثال على هذا، هي سياسة الرئيس الزييري موبوتو سنة 1974 التي هدفت إلى إعادة أملاك المقيمين في الخارج إلى أرض الوطن. فتحت غطاء سياسة “إنماء قومية”، انتقلت هذه الأملاك إلى أعضاء الحكومة و حلفائهم. وبينما كان القادة الأفارقة يتهمون الغرب بانتهاك سيادة بلادهم، لم يتوانوا عن سرقة أموال المساعدات الأجنبية لصرفها على حاشيتهم. فمعادلة السيادة مقابل الثروات المالية هي من أهم أسباب عدم النمو و الجمود المؤسساتي الذي تعيشه الكثير من الدول الإفريقية.

فالمشكلة لا تكمن في الحق بالحفاظ على السيادة إنما تكمن في الوسائل التي تجعل الحصول على السيادة ممكنا. فالاندماج الاقتصادي لا يؤدي بالضرورة إلى فقدان الاستقلال. بل على العكس، لأن الانفتاح الاقتصادي هو السبيل الوحيد لكي تحصل الدول الإفريقية على القوة الاقتصادية اللازمة، والتي ستسمح لها باتخاذ قراراتها بدون أي ضغوط خارجية. فالصين لم تخسر سيادتها،عندما اختارت الانفتاح الاقتصادي، بل على العكس، و بفضل حرية الاستثمار وحرية التبادل و تفعيل المنافسة، استطاعت الصين الحصول على رؤوس الأموال و التكنولوجيا اللازمين لكل تحرر اقتصادي. لذا فإن الدول الإفريقية ستكون رابحة لا محالة إذا اتبعت هذا النهج. فإذا كان المبتغى هو التمتع بالحكم الذاتي والوصول إلى السيادة الحقيقية فيجب علينا أن نتعلم أولا كيف نصل إلى مرحلة الفعالية. مرحلة لا يمكن إدراكها إلا داخل إطار يشجع على التبادل و الانفتاح. لأن البلدان والاقتصاديات المغلقة و “المحمية” تفتقر إلى الحوافز و المسؤولية الضروريين لتحسين الأداء الاقتصادي.  فعلى نقيض الأيديولوجيات السيادية التي يروج لها بعض رجال السياسة الأفارقة، تشكل الإصلاحات الانفتاحية، المتمثلة في حرية الاستثمار و الإنتاج و الاستهلاك و حرية التبادل، البوابة إلى الخروج من التبعية الاقتصادية نحو الاستقلال الذاتي و السيادة الحقيقية.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2008.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

إن فشل الأشكال المختلفة من الدولانية في العالم الثالث، وإفلاس الشيوعية في الاتحاد السوفييتي السابق والصين، والبطالة المرتفعة الطويلة الأمد، والركود النسبي في دول أوروبا الغربية ذات الأنظمة الاقتصادية المعقدة أجبر على إعادة النظر في نموذج التنمية بما يتوافق مع مصلحة السوق والمُلكيّة الخاصة -وباختصار دولة مُقيِّدة بشكل أكثر. ولكن المعركة حول الأفكار والسياسات مستمرة ولم تنتهِ بعد. وفي الحقيقة إنها لن تنتهي أبداً حيث أن قوى الدولانية تجتمع من جديد بدلاً من أن تستسلم. لهذا فإنه من المهم تحليل ما هي السياسات الناجحة وتلك التي تفشل للحصول على تقارب ثابت ودائم لإخراج الدول الفقيرة من فقرها.
إن الشيوعية -وهي شكل متطرف من الدولانية– ذهبت إلى أبعد حد في قمع الأسواق وتجريم الأعمال الحرة. لقد كانت تكاليف الفرصة البديلة لهذه الحماقة المنظمة ضخمة: ففي بولندا على سبيل المثال؛ انخفض دخل الفرد النسبي من حوالي 100% منه في إسبانيا في عام 1950 إلى 40% فقط عام 1990. ومع انهيار النظام الشيوعي بدأت تجربة طبيعية كبيرة، فمن خلال النظر إلى نتائجها ينصدم المرء بالتفاوتات الهائلة بين دول الاتحاد السوفييتي السابق:
 في عام 2004 ارتفع الناتج الإجمالي المحلي مقارنة مع عام 1989 بنسبة 42% في بولندا، و26% في سلوفينيا، و20% في سلوفاكيا وهنغاريا، وعلى النقيض من ذلك فقد انخفض بنسبة 57% في مولدوفا، و45% في أوكرانيا، ولو شملنا اقتصاد الظل في الحسابات فإن الاختلافات في الناتج سوف تكون أقل لكنها تبقى كبيرة.
 إن جميع الأنظمة الاقتصادية الانتقالية قد حققت تقدماً كبيراً في تخفيض التضخم المالي، وبشكل أفضل فقد ترافق أداء النمو طويل الأمد يداً بيد مع الانخفاض في التضخم، وهذا يؤكد على أنه في الدول التي ترث تضخماً مالياً كبيراً، فإن مقاومة التضخم بنجاح يفضي إلى نمو اقتصادي طويل الأمد.
 إن الاستثمار الأجنبي المباشر يأتي عادة بعد نجاح اقتصادي سابق، ويعزز النجاح الاقتصادي المستقبلي، فما بين الأعوام 1989-2003 استقطبت جمهورية التشيك 3700 دولاراً لكل فرد من الاستثمار الأجنبي المباشر، و3400 دولاراً في هنغاريا، و1000-2400 دولاراً في دول البلطيق الثلاث، و1300 دولاراً في بولندا. إن تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر لكل فرد في أوكرانيا ومولدوفا كان فقط 128 و210 دولاراً على التوالي.
إن البلدان ذات المردود الاقتصادي الأفضل تميل كذلك إلى تحقيق نتائج غير اقتصادية أفضل. وعلى سبيل المثال؛ ما بين الأعوام 1989-2001 ارتفعت كفاءة الطاقة (الناتج الإجمالي المحلي لكل كغم مما يقابله من النفط) -وهو مؤشر هام للتأثير البيئي- من 2.5 إلى 3.9 في بولندا، ومن 1.5 (1992) إلى 1.6 فقط في روسيا، بينما انخفضت في أوكرانيا من 1.6 في عام 1992 إلى 1.4 في عام 2001. لقد ارتفع متوسط العمر المتوقع في بلدان وسط وشرق أوروبا بينما انخفض في معظم الدول خارج اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، وعلى سبيل المثال؛ ارتفع في بولندا من 71 إلى 74 عاماً خلال السنوات 1990-2002 بينما انخفض من 70 إلى 68 عاماً في أوكرانيا . إن هناك اتجاهات مشابهة في معدل وفيات الأطفال؛ فما بين الأعوام 1990-2002 انخفض معدل وفيات الأطفال لكل 1000 مولود حيّ من 16 إلى 8 في بولندا، ولكن فقط من 18 إلى 16 في أوكرانيا، ومن 21 إلى 18 في روسيا.
كيف نفسر هذه الاختلافات الكبيرة؟ إذا تحدثنا بلغة النمو في الناتج الاجمالي المحلي فمن المغري أن نطّلع على الاختلافات في الظروف الأوليّة؛ فمثلاً كانت دول البلطيق –إستونيا ولاتفيا وليتوانيا- أكثر اعتماداً على صادراتها إلى نادي الاتحاد التجاري السوفيتي القديم، المعروف اختصاراً بالكوميكون (30%-40% من الناتج الإجمالي المحلي) من الدول الشيوعية في وسط وشرق أوروبا (4%-15% من الناتج الإجمالي المحلي). وعقب انهيار الاتحاد السوفيتي، فإنه يمكننا أن نجادل بأن دول البلطيق قد تعرضت إلى انخفاض أكبر كثيراً في الناتج الإجمالي المحلي.
إن مثل تلك الاختلافات في الظروف الأولية تستطيع أن تفسّر فقط جزءاً من التباين وفقط خلال الأعوام الأولى؛ فعلى الرغم من الصدمات الأولية الهائلة التي تعرضت لها دول البلطيق، إلا أنها أنجزت على المدى البعيد بشكل أفضل، لنقُل، من رومانيا، التي كانت نسبياً أقل اعتماداً على التجارة مع الكوميكون.
إن الاختلافات في النمو الطويل الأمد ناتجة بشكل كبير عن إصلاحات أكثر شمولية موجَّهة نحو السوق وعن استقرار أكثر نجاحاً في الاقتصاد الكلي، ويدعم هذا الاستنتاج دراسات تجريبية مهمة وجادة.
إن الدول التي تُدرِك الإصلاحات تميل إلى إدراك النمو كذلك. خُذ أرمينيا على سبيل المثال؛ التي استطاعت توسعة مجالها في الحرية الاقتصادية وعملت على تقليل نسبة الضرائب للناتج المحلي الإجمالي إلى معدلات منخفضة، أثناء تقوية النظام المالي لديها، ولقد نما ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 70% منذ عام 1996، وقد يكون هذا مؤشراً آخر على أن نموذج الضرائب المنخفضة هو أكثر تحفيزاً للنمو الإقتصادي السريع ممّا هو عليه في الأنظمة التي تقوم بإعادة توزيع واسع لإيرادات الخزينة كما في نماذج دول شرق أوروبا الكبرى.
إن أفضل النتائج الاقتصادية تكون عادة مترافقة مع أفضل النتائج غير الاقتصادية لأن بعض الإصلاحات تكون حاسمة لكلتيهما، فعلى سبيل المثال؛ رفعت الإصلاحات الموجهة نحو السوق مجمل الكفاءة الاقتصادية بشكل كبير، حيث قام كلاهما بتعزيز النمو الاقتصادي والتقليل من التلوث البيئي. إن استحداث سيادة القانون كان مهماً للتنمية بعيدة الأمد ولفرض التشريعات البيئية كذلك، فالتحرر الاقتصادي لم يؤدي إلى تحفيز النمو فقط بل جعل الغذاء الصحي أكثر توفراً وأرخص نسبياً.
إن دول ما بعد الشيوعية التي توجهت بشكل أكبر نحو اقتصاد السوق حققت نتائج اقتصادية -وغير اقتصادية- أفضل من تلك التي لم تنفذ أو نفذت إصلاحات موجهة نحو السوق بشكل أقل. كيف يمكن مقارنة هذا الاستنتاج الأساسي مع تلك التجربة في الدول التي يتواجد فيها قطاع كبير من المشاريع المملوكة للدولة، وأنظمة تحد من التنافس، ومعوّقات لدخول السوق، وقيود على الاستيراد، وأسواق عمل غير مرنة، وحماية ضعيفة لحقوق المُلكيّة الخاصة، وعدم تحمل المسؤولية المالية، وخلافه؟ إن هذه المظاهر في التراكيب المختلفة هي من مواصفات الأنظمة الدولانية التي تقوم فيها الأنظمة السياسية وبيروقراطية الدولة بخنق حرية السوق، وتتصف كذلك بحكومات فاشلة تكون فيها وبشكل ظاهري منظمات الدولة في الحقيقة أدوات للنهب الخاص.
إن قراءتي في الدراسات التجريبية تقترح ثلاثة دروس واسعة:
أولاً: لم تحقق أية دولة فقيرة تقارباً اقتصادياً دائماً تحت أي من الأنظمة الدولانية أو ذات الحكومات الفاشلة، مما يتضمن أن التغيير المؤسسي الذي يُحدِث مثل تلك الأنظمة يحول دون تحقيق التقارب الدائم. والأنظمة التي تقمع وتحد بشدة وتشوه تنافس السوق المشروع تسبب فشلاً اقتصادياً.
ثانياً: إن الحالات الناجحة ذات التقارب الاقتصادي المستمر حدثت تقريباً تحت أنظمة تتمتّع بأسواق حرّة (كنظام الولايات المتحدة الذي كان يحاول اللحاق بالنظام البريطاني في القرن التاسع عشر) أو أثناء وبعد التحول إلى مثل تلك الأنظمة (كنمور آسيا منذ عام 1960 أو بعض الأنظمة الاقتصادية في الفترة اللاحقة للشيوعية بعد عام 1990) مما يوحي أن التسارع في النمو لا يحتاج إلى الانتظار إلى حين قيام مؤسسات “جيدة”، بل من الممكن أن يتسارع النمو خلال عملية الإصلاح بشرط أن تقوم الإصلاحات بتحسين المؤسسات من أجل النشاطات الإنتاجية، وهذا بسبب أن الإصلاحات تزيد الإيراد والإنتاجية في القطاعات التي تم قمعها سابقاً (كالزراعة في الصين أو كقطاع الخدمات في النظام السوفييتي) أو بسبب أن البنية التحفيزية السابقة شجعت على التبذير الجماعي (الاشتراكية المهيمنة).
إن آثاراً مثل تلك التحولات تميل إلى الإضمحلال بعد مدة معينة، عندها سوف تعتمد خطى النمو المستقبلي غالباً على قوة الحوافز الدائمة للعمل والابتكار -والتي بدورها تعتمد على مدى تقدم الدولة نحو كونها دولة مقيّدة، لذلك فإن مدى الاصلاحات الموَجَّهة نحو السوق التي بدأت تحت إمّا نظام دولاني أو نظام لحكومة فاشلة يعتبر أمراً هاماً بالنسبة للنمو قصير أو طويل الأمد.
إن بعض الأنظمة الاقتصادية خصوصاً النمور الآسيوية المسماة “بمعجزات النمو” قد سببت الكثير من الجدل، علماً أنه لا يوجد نقص في التفسيرات التي تعزو نموها السريع والاستثنائي إلى بعض المداخلات الحكومية الخاصة (كالأرصدة الموجهة والعلاقات الوثيقة بين الحكومة والأعمال التجارية)، ونظرة دقيقة لتجربتهم توحي بتفسير آخر:
لفترة ما اختلفت “الأنظمة الاقتصادية المعجزة” في مدى تدخل الحكومة فيها؛ (من عدم تدخل فعلي في هونغ كونغ إلى بعض التدخلات في معظم الدول الأخرى)، ولكنها جميعاً اشتركت في أمر واحد: حدوث أعداد كبيرة من إصلاحات السوق والتي -بالإضافة إلى ظروفها الأولية- ضمنت درجة أكبر من الحرية الاقتصادية أكثر منها في الدول النامية الأخرى. لقد اتجهت تدخلات الحكومة إلى إعاقة النمو طويل الأمد بدلاً من تعزيزه؛ أنظر إلى حركة تحفيز الصناعة الثقيلة التي قادتها الحكومة في كوريا الجنوبية في السبعينات من القرن الماضي والتي ساهمت في نمو دينها الخارجي وحوّلت الاستثمار عن المزيد من الصناعات الموجهة نحو التصدير. نتيجة لذلك انخفض نمو الانتاج المحلي الاجمالي لكوريا الجنوبية بشكل حاد في بداية عقد الثمانينات من تلك الفترة، مما حث على التغيير في السياسة الاقتصادية إلى تدخل أقل من قبل الحكومة.
إن السمات العامة “للدول المعجزة” تشمل معدلات منخفضة لنسبة الضرائب إلى الناتج الإجمالي المحلي بسبب قلة برامج دول الرفاه الشاملة. وهذا يزيد من عرض العمالة ويشجّع على الادّخارات الفردية. إن قادة النمو في عالم ما بعد الشيوعية الذين حققوا معدلات منخفضة لنسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي يجب العمل على تشجيعهم للمحافظة على تلك النسب. إن دولة الرفاه الواسعة في الخدمات العامة تمنع الأشكال التطوعية من التضامن البشري ومن الممكن، خصوصاً في الأنظمة الاقتصادية الأفقر، أن تعيق النمو الاقتصادي، وهذا تحذير لتلك الأنظمة الاقتصادية الأفقر التي لها الآن معدلات عالية من نسبة الإنفاق العام إلى نسبة الناتج المحلي الإجمالي أكثر مما كان لدى السويد أو ألمانيا أو فرنسا عندما كانت تتمتّع بدخل فردي مشابه.
ثالثاً: بينما نشأت جميع حالات التقارب الاقتصادي الدائم تحت أنظمة أسواق حرّة، أو خلال وبعد التحول إلى تلك الأنظمة، إلاّ أنه ليست جميع الإصلاحات الموجهة نحو السوق قد أدت إلى تقارب اقتصادي مستمر. إنه يتم الإعلان عن الإصلاحات بشكل متكرر لكنها لا تنفذ، أو قد يتم تنفيذها في البداية ثم بعد ذلك يتم إبطالها أو تعديلها بشكل جذري، وفي مثل تلك الحالات يكون نقد إصلاحات السوق في غير محله.
قد تفشل الإصلاحات الموجهة نحو السوق إذا كانت غير مكتملة بشكل حاسم، وكمثال على ذلك إدخال نظام ثابت لأسعار الصرف من دون انضباط في الجهاز المالي. إن الانهيار الاقتصادي السابق في الأرجنتين ينبهنا على أن السياسات المالية غير المسؤولة قد تضعف نتائج إصلاحات سوق جادة. وقد تفشل الإصلاحات الموجهة نحو السوق كذلك في إحداث تقارب اقتصادي دائم إذا كانت بعض عناصرها الأساسية منظمة بشكل سيء، كخطأ في حساب المعدل الابتدائي لمستوى تثبيت أسعار الصرف أو كبنية تحفيزية سيئة في قانون الإفلاس.
لا تخول أي من هذه المشاكل البحث عن “حل ثالث” كطريقة مثلى لضمان تقارب النظام الاقتصادي بشكل دائم، إنها مجرّد عقبات يجب التغلب عليها على الطريق لتحقيق اقتصاد سوق متكامل.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 3 كانون الثاني 2006.

نبيل علي صالح10 نوفمبر، 20100

درج استخدام مفهوم التنمية بصورة مكثفة منذ عدة عقود، ويقصد به –على نحو الإجمال لا التخصيص- رفع مستوى الدخل القومي بزيادة متوسط إنتاج الفرد من خلال تهيئة وبناء مختلف قطاعات الدولة لخدمة وإنجاز ذلك الهدف.
وبما أن الفرد السليم والمعافى هو الأساس في عملية البناء الوطني، وزيادة الدخل القومي للدول، فلا بد إذاً من البدء بتنمية قدرات وإمكانات هذا الفرد الذاتية والتوجه العلمي الصريح والواضح لتهيئته نفسياً وعقلانياً وعملياً (على مستوى العلم والمهارات التطبيقية).
وحتى تنمو مواهب الأفراد وتنمو مقدراتهم وقابلياتهم الذاتية، لابد من وجود مناخ اجتماعي وثقافي وسياسي مناسب يشكل حاضنة ملائمة لنمو وبروز واستثمار تلك الاستعدادات والقابليات الفردية، وهذا بدوره يحتم توفر فضاء سياسي قانوني دستوري يمارس الناس فيه حقوقهم في التعبير عن معتقداتهم وآرائهم وقناعاتهم السياسية والثقافية والمعتقدية بصورة صحية وسلمية تداولية، يكون فيها المشترك العام هو خدمة الناس والأفراد تحت سقف القانون والنظام العام الذي يتفق عليه كل أفراد المجتمع ضمن آليات ديمقراطية سلمية بعيداً عن توسل واستخدام أدوات العنف الرمزي والمادي.
وحتى يحدث في أي مجتمع نوع من التشارك والاندفاع الجماعي الحقيقي المؤثر في اتجاه خدمة عملية التنمية الهادفة إلى تطوير واقع الفرد والمجتمع على مستوى بناء أسس ومعايير اقتصادية صحيحة تساهم في زيادة الإنتاج والدخل الفردي والوطني، لابد من تعميم ثقافة التنمية بين جميع مكونات المجتمع، وعلى مختلف المستويات، بدءاً من أصحاب القرار، إلى مختلف البنى الاجتماعية والاقتصادية البشرية، حيث أن التنمية المنظمة والشاملة، التي تشارك فيها كل المؤسسات والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويساهم فيها الجميع طوعياً لا قسرياً هي الشرط اللازم الحقيقي للنهوض الذي لا يمكن أن يتحقق فجأة، وإنما عبر سلوك طريق طويل منظم من العمل والتعب والجهد والمثابرة والكدح والإيمان بأن الوطن لا يقوم إلا بمحبة كافة أبنائه له، وبمشاركتهم الفاعلة والمنتجة في العمل الميداني المسؤول.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن عملية التنمية باتت حالياً ثقافة عمومية ومسؤولية عامة، لا تختص بفئة أو شريحة معينة، كما أنها لم تعد حصراً وحكراً على نخب اقتصادية أو غير اقتصادية بذاتها، لأنه إذا كان مطلوباً رفع وزيادة دخل الفرد، فلابد من رفع إنتاجيته وفاعليته عبر توفير المناخ السياسي والاجتماعي الأنسب والأفضل لتبلور طاقاته ومواهبه كما ذكرنا، وهذا المناخ الصحي التداولي التشاركي هو الذي يمكن أن يسمح للفرد ذاته بالمشاركة المبدعة في عملية التنمية وعياً وثقافة وعملاً..
وفي اعتقادي أن أحد أهم أسباب الفشل الذريع الذي لحق بكل مشاريع التنمية في عالمنا العربي حتى الآن، يكمن في ابتعاد الفرد وتغييبه قسرياً –بالرغم من كونه أساس ولب وجوهر عملية التنمية- عن المشاركة الواعية والفاعلة في العملية التنموية الفردية والمجتمعية.
من هنا نعتقد بضرورة تهيئة الأجواء الثقافية والإعلامية والاجتماعية المناسبة لإطلاق المبادرات الجادة الهادفة إلى دفع الفرد باتجاه الانخراط الجدي والحقيقي في مختلف مشروعات التنمية، وذلك عبر التوجيه الصحيح الدائم، والاستمرارية في العمل الدؤوب والصادق. لأن الواقع العربي العام صعب ومعقد وينذر كوارث حتمية أكثر مما هو قائم حالياً على مستوى السياسة من خلال سيطرة الاستبداد ونزع ممارسة السياسة –وما ينتج عنها من حقوق وواجبات وحريات فردية وعامة مسؤولة- من المجتمع، وعلى مستوى الاقتصاد من خلال وجود ما يزيد على 140 مليون مواطن عربي يعيشون تحت خط الفقر المدقع، ارتفاع معدلات البطالة حيث تصل نسبة الشباب العاطل عن العمل إلى ما يزيد على 50% من السكان بالنسبة لمعظم الدول العربية مما يجعل معدل البطالة بين الشباب في الدول العربية الأعلى في العالم كله. وهنا يتمثل التحدي العربي الأكبر –كما تؤكده كل تقارير التنمية- في ضرورة توفير 51 مليون فرصة عمل جديدة خلال السنوات العشر القادمة أي بحلول عام 2020م.
© منبر الحرية،26 تموز/يوليو  2010

peshwazarabic10 نوفمبر، 20102

لقد أثبتت حقائق التاريخ بأن الازدهار الحضاري لا يمكن أن يتم صدفة وإنما نتيجة ظروف معينة. إنه أشبه ما يكون بناتج تفاعل كيماوي يحتاج ظروف معينة و شروط خاصة لكي يتم. وقد عكف الكثير من الباحثين على دراسة هذه الظاهرة الحضارية في المجتمع البشري  . وأهم ما يمكن الإشارة إليه بالإضافة للعامل الاقتصادي هو دور الحرية الاجتماعية و عدم الأدلجة في بناء الحضارة.  تقدم سجلات التاريخ شواهد على ذلك فالمجتمع الإغريقي القديم لم يكن مقيد فكريا  وأطروحاتهم الفلسفية خير دليل. والحضارة العربية الإسلامية الغابرة كانت كذلك.  لقد كان العرب ما بين 700-1000  ميلادية أقرب للعلمانيين المعاصرين سواء كانوا في بغداد أو الأندلس أو القاهرة.  و هذا هو سر النهضة العربية الإسلامية اليتيمة. اندثرت هذه الحضارة و حتى يومنا هذا بسبب الأغطيات الإيديولوجية الدينية التي لم تكن موجودة بشكلها الصارم أيام النهضة اليتيمة. التنوع الفكري و الديني و القومي في تلك الحقبة الزاهرة مماثل لما هو عليه الآن في المجتمعات المتطورة المعاصرة .
كانت ملامح العلمانية الأولى أساس نهضة العرب الوحيدة، و العلمانية ذاتها أساس نهضة الغرب الآن، لذا على المجتمعات العربية الإسلامية أن لا تتوقع أية نهضة بعيدا عن المجتمع العلماني.  لم تتطور تركيا الحديثة إلا بعد اختيارها طريق العلمانية و لم تتطور ماليزيا  إلا بسبب نظامها العلماني.  لقد قادت العلمانية والحرية الغرب إلى التطور الحضاري و إلى سيطرته على الكثير من جوانب الحياة المعاصرة. الغرب ليس غبيا عندما يطمح لفتح مجتمعه ليكون متعدد الثقافات (Multi culture society). الغرب لا يريد أن يدمر مجتمعاته بالتعددية الفكرية و الدينية ، بل يدرك أن هذا التعدد و الاختلاف هو عنصر قوة لديمومة التحديث. التعدد الاجتماعي و الانفتاح على الآخر  والحرية الفكرية هي السر وراء بناء الحضارة ، لذا تطمح هذه المجتمعات إلى بناء الفرد المعاصر الذي يستطيع تقبل الآخر فردا كان أو فكرا. المجتمعات المغلقة فكريا لا تستطيع تقبل الآخر و لا تستطيع تقبل ما لا يسود اجتماعيا، مثل هذه المجتمعات لا يمكنها الاندماج عالميا ولا يمكنها بناء حضارة،  لذا فان سر البناء المعاصر هو الفرد الاجتماعي المعد إعدادا خاصا ليحيا زمنه الحالي و المعقد، و لكن كيف يُبنى الفرد المعاصر؟ إن علم الاجتماع يهتم بالشخص (Person  ) وليس الفردIndividual  وذلك أن الشخص هو الفرد الذي تفاعل اجتماعياً وأصبح كائناً اجتماعياً. وبذلك يكون التفاعل الاجتماعي مابين الأشخاص مجالاً أساسيا و مهما في علم الاجتماع. الشخص أو اللبنة الاجتماعية يمتلك حرية القيام بأفعاله ضمن الضوابط الاجتماعية، فهو يملك احتمالية كبيرة و واسعة لتحقيق الفعل. لكي يكون الفرد عضوا في المجتمع (شخصا) فإنه لابد وأن يخضع لعملية التأنيس (Socialization)  و بذلك يكون قادر على التفاعل الاجتماعي ( Social interaction ) . إن التأنيس يعني أن عضو المجتمع قادر على التفاعل مع الأعضاء الآخرين ويستجيب اجتماعيا وليس للدوافع  الذاتية فقط. عملية التأنيس تسير بشكل طبيعي للفرد من خلال نموه و تطوره اجتماعيا. حرية الإرادة ميزة مهمة يجب توفرها في اللبنة الاجتماعية و الحرية هنا هي المساحة المسموح  للفرد العضو التحرك فيها اجتماعيا. إن مفهوم الحرية الاجتماعية مفهوم نسبي ومهما تقلصت هذه الحرية فإنها تبقى موجودة و لا يمكن إلغائها مطلقا  (حتى مجتمع العبيد يتمتع أفراده بنسبة من الحرية المحدودة جدا) لكن حرية الإبداع لابد أن تكون من السعة بما يتجاوز حرية العبيد بكثير،  وهذه الحرية هي ما يكفلها المجتمع لأبنائه. حرية الإرادة هذه هي ما تظهر من خلاله فردية اللبنات الاجتماعية، وهي ما تشكل الحركة المتغيرة دائما في المجتمع. على أية حال إن الدول المتطورة تهتم كثيرا ببناء أفرادها و يمكن  بيان ملامح البناء فيما يلي:
خلق مواطن صالح للمعيشة في الظروف الاجتماعية المعاصرة بتغيراتها، أي خلق مواطن محلي معاصر. منذ مراحل التعليم الأولى يتعلم الطفل التعامل الاجتماعي وحدود حريته وطريقة التفكير والتعامل مع الآخرين وفهم الأديان الموجودة في مجتمعه وليس عقيدته الخاصة، لأن معظم المدارس ذات توجه تربوي عام. إن الإعداد هو إعداد تطبيقي و ليس نظري، و طريقة التعليم ليس طريقة الكتاتيب التي تعتمد الحفظ الأصم بل المناقشة و النقد. وحتى العلوم الطبيعية يدرسها الطالب الصغير من وجهة نظر دورها في مجتمعه مثل البيئة و الطاقة النظيفة و استهلاك الطاقة و هو بذلك يعرف فائدتها التطبيقية المباشرة. خلق مواطن يمكن أن ينتج و يعمل بالمواصفات التي يحتاجها مجتمعه، على المستوى المهني يسير الطالب في دراسته بالاتجاه الذي يختاره و الذي يمكن من خلاله أن يوفر له فرص أكبر في سوق العمل. سوق العمل يلعب دورا كبيرا في اختيارات الطالب و كذلك في توجيه المناهج الدراسية و البحوث، و سوق العمل مرتبط بمنظومة الحياة المعقدة وتلعب الصناعة و التكنولوجيا دورا كبيرا فيها.  إبعاد المدارس عن خلق جيل مؤدلج قوميا كان أو دينيا أو سياسيا. هذه الاتجاهات تترك للعائلة و الفرد، وبذلك يكون الجيل المنتًج غير مشحون ضد الآخر و ذي مرونة فكرية عالية في تقبل التحديث الذي هو الهم الأساسي لديمومة المجتمع و تطوره، والولاء الوحيد هو للوطن و كسب المواطنة لا يحتاج أدلجةَ فكرية صارمة. و لما كانت الظروف المحلية و العالمية دائمة التغير و التطور اجتماعيا و تكنولوجيا فإن منظومات التعليم تعيش نشاطا فاعلا دءوبا في تطوير مناهجها و أساليبها التعليمية وبصورة مستمرة.  من هذا يتضح الابتعاد عن أدلجة المجتمع و خلق أفراد ضيقي الأفق في مجتمعات ذات تنوعات عرقيه و دينيه مختلفة.
خلال القرن العشرين حصلت الدول العربية على استقلالها السياسي و طمحت في البناء.  و كان البناء الأول هو بناء مؤسسات دولة وليس بناء مجتمع،  لذا اتجهت الحكومات العربية إلى استنساخ ملامح المدينة الغربية المعاصرة. لاشك أن فجوة التخلف الحضاري هائلة أكثر من خمسة قرون لذا واجهت عملية البناء الاجتماعي التحديات التالية:
البناء الاجتماعي غير مؤهل لطفرة خارقة يتجاوز بها تراكمات كل تلك القرون، كما أن الإمكانيات المادية مهما كانت لا يمكنها أن  تساعد في تجاوز هذه الفجوة القاتلة .إضافة لعدم توفر المتخصصين في هذا المجال، حتى الغرب لم يكن ليألف التعامل مع حالة كهذه.
خلال القرن الماضي و الوقت الحاضر كان التركيز وما يزال على ظواهر التحديث الضرورية مثل مراكز البحوث و الجامعات لتوفير الكوادر المهنية و كذلك المستشفيات و المعامل …إلخ. لقد حاولت الدول العربية و الإسلامية أن تكسب مدنها و مجتمعاتها ملامح المعاصرة ، و لكنها خلال هذا الهم الكبير تركت ورائها بنائين مهمين هما:  البناء المعاصر للفرد ليكون شخصا اجتماعيا معاصر و ليس مجرد كادرا مهنيا.
بناء الفرد و نوعيته هو الذي سيعزز و يديم البناء الحضاري الأعلى مثل الجامعات و مراكز البحوث و المؤسسات التكنولوجية و الثقافية.
وليس مجرد تعليم القراءة و الكتابة كافيا لمحو الأمية. إن تعليم القراءة و الكتابة قد يساهم في زيادة الأمية الحضارية. مهارات القراءة والكتابة تساعد على دوام التواصل مع ما هو مكتوب و هنا قد يكون نوع المكتوب مشكلة أكبر من عدم القراءة و الكتابة! ، لذا فإن مفهوم الأمية في المجتمعات العربية لاشك مختلف عن مفهوم الأمية في المجتمعات الغربية، على ذلك يكون البناء التربوي المدروس للمناهج الدراسية و التوعية الثقافية مهم جدا بالإضافة لمهارتي القراءة و الكتابة. إذ لابد من تغيير الثقافة الاجتماعية البالية و المتخلفة.  عليه نجد أن البناء العربي يجب أن يكون باتجاهين، الأول بناء الإنسان و الثاني بناء المؤسسات العلمية المتقدمة، و لكن للأسف اهتمت الدول العربية و ما تزال بالبناء الفوقي أو المؤسساتي دون أن تهتم ببناء الإنسان، و القرى هي المصدر الكبير و الأساسي لهذا الإنسان و لكن الدولة العربية تركته للتربية الاجتماعية السائدة و الغير مناسبة لزمنه الحالي. هذا التناقض في بناء الفرد ما بين المؤسسة التعليمية المكتفية بالمعارف العامة (التي تعتمد المعاصرة) و التربية الاجتماعية البعيدة أساسا عن المعاصرة هو ما يخلق الكثير من الإشكالات الاجتماعية و السياسية. المجتمع العربي يعاني ليس من أمية الأبجدية فقط و لكن من أمية حضارية نتيجة الانقطاع الحضاري المستمر، و الذي مازال يلعب دورا كبيرا في القرى والأزقة العربية بشكل ظاهر و في المدن بصور متفاوتة. التعامل اليومي مع منظومات معاصرة مثل السيارة، الكهرباء، نظام المرور في الشارع، جهاز الدولة، منظومات التعليم  و البحوث، الأنظمة السياسية الأحزاب، البرلمانات، أجهزة الإعلام، المجتمع المتنوع الأعراق ، … الخ من الأنظمة المعاصرة يتطلب دراية و أسلوب تعامل خاص ودور خاص،  و لكن لم يتم تنشئة الأجيال العربية الحديثة عليه. نعم قد تكون هناك مدرسة تحاول أن تقدم شيئا، و لكن عموم المجتمعات العربية بعيدة عن التحديث حتى داخل المدن.  ينشأ الفرد العربي نشأة عشوائية و حسب الموروث الاجتماعي و الديني دون أن يكون له إعداد خاص ليعيش القرن الحادي و العشرين. لهذا السبب و للأسف نجد أن معظم محاولات التحديث العربية مجرد تحديث سطحي لم يصل للقعر و لم تنجز المجتمعات العربية خلال تعاملها بكل المنظومات المعاصرة المذكورة أعلاه أو التي لم تذكر أية كفاءة. إن أي جامعة عربية حديثة وذات أحدث المعدات لن تستطيع أن تعمل بنفس كفاءة جامعة غربية بسبب نوعية الفرد العامل على إدارتها و الطالب الذي يدرس بها، لذا سيبقى التحديث مجرد مظاهر مهزوزة سهلة التراجع و تبقى جهود التحديث بعيدة طالما بقي الفرد البسيط بعيدا عن التوجيه و التربية الحديثة، و هذا لا يتم إلا من خلال تقليص الفرق الحضاري بين المدينة و القرية أو الزقاق و تغيير مناهج التربية و التعليم للأطفال.
© منبر الحرية،11 ماي /أيار 2010

نبيل علي صالح10 نوفمبر، 20100

لا شك بأن لظاهرة الفساد المتفشية على نطاق واسع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أسباباً موضوعية ضاربة الجذور في داخل بنيتها الثقافية والتاريخية. حيث لعبت “الثقافة المخفية” –كمؤسسة غير شكلية- دوراً بارزاً على صعيد تكريس معادلات وأنظمة تفكير وسلوكيات عمل مهدت الطريق أمام نمو مارد الفساد في تلك المجتمعات. وقد كانت لمؤسسات الحكم العربية المتلاحقة الدور الحيوي المكمل لدور الثقافة المخفية في زيادة مساحة الفساد والمفسدين من خلال تبنيها لمختلف المناخات والأجواء الفكرية والاجتماعية القديمة التي تدعو (وتمارس) ثقافة الفساد كآلية شبه (قانونية!) تريد من خلالها الحفاظ على التوازنات التقليدية المسيطرة في المجتمع، بما يسمح لها (لمؤسسة الحكم العربية) الإبقاء الدائم على وجودها على رأس سلطة الحكم بما لا يزعزع بنيانها، ولا يؤثر سلباً على امتيازاتها.
وبالنتيجة فقد أدت السياسات الفوقية القسرية التي طبقتها تلك المؤسسة (ممثلة بالنخب السياسية الحاكمة) –وعلى مدى زمني طويل نسبياً- إلى توسيع رقعة الفساد، خصوصاً مع تصاعد سياسات الانفتاح الاقتصادي، وفتح الأسواق المحلية أمام الرساميل الأجنبية الذي التزمت به تلك النخب تحت شعار ظاهري هو تنمية مجتمعاتها وتطوير بلدانها في ظل هيمنة كاملة لمؤسسات إدارية وسياسية مترهلة وفاسدة وغير مهيكلة اقتصادياً بما يتناسب مع ضرورات التحفيز الاقتصادي وعوامل الجذب الاستثماري.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018