ردا على السفير البلجيكي كاريل دي جاشت الذي انتقد “الإمتيازات الكبيرة” التي يتمتع بها رجال السياسة الكونغوليين، ثارت ثائرة الرئيس الكونغولي جوزيف كابيل فاتهم بلجيكا بمحاولة التدخل في الشؤون الداخلية لبلاده والبحث عن وضعها تحت الوصاية.
نحن لسنا بصدد تبرير أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية الكنغولية، إنما تجدر بنا الإشارة إلى أنه كلما وجه أحدهم انتقادا لأحد القادة الأفارقة سارع هؤلاء باتهامه بمحاولة انتهاك سيادة بلادهم. فمؤخرا، وعندما اشتدت عليه الضغوطات الخارجية بعد التلاعب بالانتخابات، أعلن الريس موغابي و بدون تردد “أن الزيمبابوي ليست للبيع”. كأن احترام نتائج الانتخابات الديمقراطية يشكل تهديدا لسيادة بلاده! فهؤلاء القادة اليوم، وأسلافهم من قبلهم، نصبوا أنفسهم كحامين للسيادة الوطنية، ثم استغلوا ذريعة الحفاظ على السيادة، لتبرير سياسات تنموية غير فعالة من جهة و جمود اقتصادي من جهة أخرى.
لا يمكن الاعتراض على أهمية سيادة الدول الإفريقية على أراضيها، ولاسيما سيادتها على ثرواتها الطبيعية من أجل تحقيق الازدهار الاقتصادي. ولكن تدخل الدولة لتوجيه الاقتصاد من أجل حماية هذه السيادة غالبا ما يفرز نتاـْج عكسية و سلبية كما أنه يكرس تبعية الدول الإفريقية اقتصاديا للخارج.
بعيد حصولهم على الاستقلال، قام العديد من صناع القرار في الدول الإفريقية (الجزائر، الكونغو(زائير سابقا)) بوضع إستراتيجية تنمية اقتصادية مركزية مبنية على عدم التبعية، وذلك عبر استبدال المنتجات المستوردة بالمنتجات المحلية، و فرض التعريفات الجمركية و غير الجمركية للحد من منافسة السلع الأجنبية و تأميم الشركات و تكريس احتكارات الدولة. لكن و للأسف، فقد فشل هذا الخيار الاستراتيجي على جميع الأصعدة. فعدم قدرة الاقتصاد على خلق الثروات من جهة، و قدم المعدات الصناعية الإفريقية من جهة أخرى يشهدان على فشل هذه الإستراتيجية التي جعلت اقتصاد الدول الإفريقية يزداد اعتمادا على السلع المستوردة. فاستبدال المنتجات المستوردة بالصناعة المحلية باء بفشل ذريع إذ أنه أدى إلى ارتفاع مهول في فواتير الاستيراد و زيادة العجز في الميزان التجاري وارتفاع الدين العام. فعلى الرغم من أن إفريقيا تضم قرابة % 14 من سكان العالم فإنها لا تغطي سوى 2.9% من الصادرات العالمية. كما أن سياسة التأميم واحتكار الدولة أدت إلى سوء الإدارة و التبذير و زيادة الدين العام.
من المعروف أن العنصر الأساسي للسيادة الاقتصادية للدولة يكمن في الحرية و القدرة على الاختيار. لذا فإن اعتماد مفهوم السيادة المطلقة قد أعطى لكثير من الدول الإفريقية الوهم بالحرية، لكنه، وفي نفس الوقت، عرض للخطر قدرتهم على التطور نحو الحكم الذاتي. لأن هذا المفهوم المطلق للسيادة لم يفشل فقط عمليا إنما استعمل أيضا كذريعة لتعطيل الإصلاحات.
لذا و لغاية سنة 1994، رفضت الجزائر السياسات الداعية إلى التغيير و ذلك بحجة الحفاظ علي “سيادتها”. فحتى لو كانت توصيات البنك الدولي و صندوق النقد الدولي قابلة للنقاش، لا شيء يمنع أصحاب القرار في الجزائر، مثلا، من المباشرة بإصلاحات هيكلية كانت تفرض نفسها. و في زمبابوي و الكونغو، كما في الجزائر، لم يكتف القادة بوضع البلاد في حالة جمود اقتصادي باسم السيادة، بل سخروا هذه السيادة لخدمة مصالحهم الشخصية. خير مثال على هذا، هي سياسة الرئيس الزييري موبوتو سنة 1974 التي هدفت إلى إعادة أملاك المقيمين في الخارج إلى أرض الوطن. فتحت غطاء سياسة “إنماء قومية”، انتقلت هذه الأملاك إلى أعضاء الحكومة و حلفائهم. وبينما كان القادة الأفارقة يتهمون الغرب بانتهاك سيادة بلادهم، لم يتوانوا عن سرقة أموال المساعدات الأجنبية لصرفها على حاشيتهم. فمعادلة السيادة مقابل الثروات المالية هي من أهم أسباب عدم النمو و الجمود المؤسساتي الذي تعيشه الكثير من الدول الإفريقية.
فالمشكلة لا تكمن في الحق بالحفاظ على السيادة إنما تكمن في الوسائل التي تجعل الحصول على السيادة ممكنا. فالاندماج الاقتصادي لا يؤدي بالضرورة إلى فقدان الاستقلال. بل على العكس، لأن الانفتاح الاقتصادي هو السبيل الوحيد لكي تحصل الدول الإفريقية على القوة الاقتصادية اللازمة، والتي ستسمح لها باتخاذ قراراتها بدون أي ضغوط خارجية. فالصين لم تخسر سيادتها،عندما اختارت الانفتاح الاقتصادي، بل على العكس، و بفضل حرية الاستثمار وحرية التبادل و تفعيل المنافسة، استطاعت الصين الحصول على رؤوس الأموال و التكنولوجيا اللازمين لكل تحرر اقتصادي. لذا فإن الدول الإفريقية ستكون رابحة لا محالة إذا اتبعت هذا النهج. فإذا كان المبتغى هو التمتع بالحكم الذاتي والوصول إلى السيادة الحقيقية فيجب علينا أن نتعلم أولا كيف نصل إلى مرحلة الفعالية. مرحلة لا يمكن إدراكها إلا داخل إطار يشجع على التبادل و الانفتاح. لأن البلدان والاقتصاديات المغلقة و “المحمية” تفتقر إلى الحوافز و المسؤولية الضروريين لتحسين الأداء الاقتصادي. فعلى نقيض الأيديولوجيات السيادية التي يروج لها بعض رجال السياسة الأفارقة، تشكل الإصلاحات الانفتاحية، المتمثلة في حرية الاستثمار و الإنتاج و الاستهلاك و حرية التبادل، البوابة إلى الخروج من التبعية الاقتصادية نحو الاستقلال الذاتي و السيادة الحقيقية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2008.