“إن التقدم الاقتصادي في القرن العشرين أكد تماما أن اقتصاد السوق هو الوحيد القادر على تأمين فعالية عالية في الاقتصاد الوطني”—ليونيد أبالكين.
مقدمة
إن المعنى الرئيسي لعبارة أبالكين التي استشهدت بها في الافتتاحية واضح. وكما بينت هذه النقطة في مكان آخر، فهناك الآن اتفاق عام على أن اقتصاد السوق يعمل بشكل أفضل من الخيار الاشتراكي أو خيار التخطيط المركزي. وذلك يجعلنا متفقين على ما يعني أن الاقتصاد “يعمل بشكل أفضل”. لأن مثل هذا الاقتصاد ينتج حزمات أكثر من السلع والخدمات حسب احتياجات الأشخاص الذين يستهلكونها. كما أن الاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يستطيع أن يحقق معدلات إنتاجية ذات قيمة مضافة أعلى من تلك الناتجة عن اقتصاد يستند إلى مبادىء أخرى.
يشير أبالكين إلى “الكفاءة” في توليد القيمة. ويعزي ارتفاع الكفاءة النسبية لاقتصاد السوق إلى ثلاثة أسباب: كونه يجعل حوافز الأطراف المشاركة متوافقة مع القيمة الاقتصادية المولدة؛ كما أنه يوفر كافة المعلومات المحلية المتاحة للأطراف المشاركة في بيئة محايدة ولامركزية؛ وأخيرا يتيح اقتصاد السوق البيئة المواتية لبروز المواهب الخلاقة والمبدعة للأطراف المشاركة التي اختارت أن تكون من الرياديين المحتملين.
لن أقوم بالتطرق الى المزيد من الكلام بشأن الخصائص المتعارف عليها لاقتصاد السوق. إن الاهتمام الزائد والمبالغ فيه بميزات اقتصاد السوق المولدة للكفاءة قد يكون على حساب الميزة الطبيعية المرتبطة به والتي تُعتبر مساوية لها، إن لم تتجاوزها بالأهمية. وهذ الميزة التي تهمنا هنا هي أن الاقتصاد الذي يستند إلى مبادىء حرية السوق يقلل بشكل ملحوظ من عدد القرارات الاقتصادية التي يجب أن تؤخذ لاعتبارات سياسية من قبل مؤسسة ما تمثل الوحدات الجماعية. وبتعبير عملي آخر، فبالإمكان القول إن الاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يقلص من حجم وأهمية البيروقراطية السياسية. ولو اختار أبالكين أن يؤكد على هذه الميزة أكثر من ميزة الكفاءة لقال: “إن المنطق يؤكد أن اقتصاد السوق هو الوحيد القادر على السماح بالتسييس الأدنى للإقتصاد الوطني.” وإذا أراد أيضا أن يوسع نطاق هذه العبارة، لأضاف قائلا: “وإنه من خلال هذا الحد الأدنى للتسييس—وتخفيض البيروقراطية—يمكن تحسين الوصول الى مختلف الأهداف الاجتماعية مهما كانت هذه الأهداف.”
في الجزء الثاني من هذه الورقة سوف أقوم بوصف العلاقة بين التسييس ونظام السوق بينما أقوم بإظهار الفارق بين التسعير السياسي وتسعير السوق. وفي الجزء الثالث سأقوم بمناقشة الآثار المترتبة على التسعير السياسي في اقتصاد ما من خلال العلاقات بين المواطنين وبين مجموعات من المواطنين. وسيتحدد من خلال هذا التحليل، الذي يستخدم المساهمات الحديثة لنظرية الخيار العام، المصادر المحتملة لهدر القيمة الاقتصادية، إضافة إلى تحديد الظروف التي يوضع فيها الأشخاص موضع التبعية وفي مجابهة مع الآخرين. إن التداعيات المعيارية الناجمة عن ذلك واضحة. وسيتناول الجزء الرابع الدور المحوري للعمل السياسي أو الجماعي في تصميم وبناء وتنفيذ ومتابعة الإطار الهيكلي الذي يُسمح فيه بتوظيف اقتصاد السوق. ومن بين الخيارات المطروحة، يفضل الخيار الجماعي. ولكن مثل هذا الخيار سيكون مقيدا بردود الأفعال من التدخلات المعنية بتوليد القيمة ومن التدخلات البيروقراطية. وفي الجزء الخامس، سأعود للتفريق بين السعر السياسي وسعر السوق لبيان كيفية إمكان تطوير أهداف “اجتماعية” متفق عليها بدون تسييس علني للأسواق. كما وسأقدم فكرة حول سعر السوق المتأثر بالناحية السياسية، وسأظهر حدود التطبيق. وسيحتوي الجزء الأخير على الخاتمة والنتائج.
السعر السياسي وسعر السوق
إن الخاصية المميزة للأنظمة الاشتراكية تشتمل على استخدام أسعار محددة سياسيا لبعض السلع والخدمات المختارة والتي يُفترض أنها تستند إلى اعتبارات توزيعية ورعائية. ويتم إتاحة السلع والخدمات المختارة بواسطة هذه الطريقة للمستهلكين وفق أسعار تعكس تقديرات سياسية بدلا من أسعار تستند الى آليات الطلب والعرض. تشمل هذه السلع والخدمات المختارة عادة: الخدمات الطبية والخدمات التعليمية ورعاية الطفل ووسائل المواصلات داخل المدن والإسكان والحليب والخبز وغيرها. ويتم توفير وإتاحة بعض أو جميع هذه السلع والخدمات للمستهلكين أو المستخدمين بأسعار دون تلك التي يتم تحديدها بواسطة قوى السوق.[1]
فلنأخذ بعين الاعتبار مثالا مبسطا. نفترض أنه قد تم اتخاذ قرار سياسي جماعي لتزويد الخبز للمستهلكين بسعر “صفر”، والذي يمكن تسميته “سعرا سياسيا” لأنه بمعزل عن أية علاقة بين تكلفة الإنتاج والطلب. وإذا اقتصر الفعل السياسي على الإعلان عن هذا السعر السياسي، فإنه يمكن التنبؤ برد الفعل مسبقا. حيث سيقوم المستهلكون المحتملون بطلب كميات كبيرة من الخبز بسعر الصفر، في حين لن يكون هناك موردون محتملون يرغبون بتوفير الخبز في السوق بهذا السعر. ويتوجب على صانعي القرار السياسيين، الذين يحاولون بداية تلبية طلب المستهلكين المحتملين، تخصيص كميات كبيرة من الموارد لإنتاج الخبز، إما بواسطة الأمر المباشر أو بواسطة مخطط محدد لدعم الموردين المحتملين. وهذا يعني أنه حتى إذا توفر ما يكفي من الخبز لتلبية جميع الطلبات بالسعر السياسي الزائف، فإنه يجب القيام بعمل سياسي إضافي علاوة على تحديد الأسعار نفسها، لجعلها قابلة للتطبيق. وهذا بدوره يعني ضرورة سحب الموارد من استخدامات أخرى وتخصيصها لإنتاج الخبز، مما سيشجع الإسراف في استهلاك الخبز نظرا للسعر الزائف المنخفض. (إن المثال التوضيحي من التجربة السوفييتية الذي يقدم غالبا هنا هو قصة الفلاحين الذين يطعمون الخبز للماشية).
ومع ذلك، وكما ذكرت آنفا، لا أريد أن أشدد على آثار التسعير السياسي المتمثلة في الإسراف وخفض الكفاءة. وعليه، دعونا نفترض أن صانعي القرار السياسيين الذين يخططون باسم الجماعة سيوجهون الموارد لإنتاج الخبز بالكميات المثلى للطلب تقريبا وبسعر السوق. بينما يتم العرض بسعر الصفر وينتج عن هذا المزيج من توافر أقصى درجات العرض مقابل سعر صفر للطلب نتيجتان: سيكون هناك فائض من الخبز، وسيتطلب تمويل تكلفة انتاج الخبز توفير موارد مالية من مصادر أخرى من غير مستهلكي الخبز. ويستدعي ذلك اتخاذ قرارات وافعال سياسية على مستوى مؤسستين اضافة الى اجراءات بشأن ضبط ضمان عدم تجاوز تحديد السعر.
من الممكن مقارنة هذا النظام من التسعير السياسي مع نظام تسعير السوق بافتراض عدم وجود تدخل مسيّس في سوق الخبز؛ وعليه، فان السعر يعكس نتيجة التفاعل فيما بين الطلب والعرض. وفي هذا الإطار، من الممكن أن يقدم الموردون والمنتجون الخبز للمشترين المحتملين بالشروط التي يختارونها، ومن الممكن أن يختار المستهلكون المحتملون الشراء أو عدمه وبالكميات التي يريدونها. وبالتالي من خلال ذلك يتم التوصل للوضع الكفؤ تقريبا لسوق الخبز (“الكفؤ” مقاسا من حيث جداول الطلب في الاقتصاد). وبالتالي تحت هذا النظام من تسعير السوق ستغيب النتيجتان الناجمتان عن التسعير السياسي. ولن يكون هناك فائض أو نقص في الطلب على الخبز؛ كما لن يكون هناك فائض أو نقص في العرض. ولن يكون هناك أي داعٍ لقيام أطراف أخرى في الاقتصاد، بخلاف مستهلكي الخبز، بوجوب تمويل إنتاج الخبز. ولذا تصبح القرارات السياسية المتعلقة بـ(أ) وضع السعر السياسي، (ب) تخصيص العرض المتاح بين المستهلكين المحتملين، و(ج) تمويل إنتاج العرض المتاح، غير ضرورية في ظل نظام تسعير السوق.
ويتوقع بالطبع أن يكون هناك فروقات بين النظامين في مجال التوزيع. وقد يكون أولئك المستهلكون، الذين نجحوا في الحصول على الخبز بسعر الصفر تحت نظام التسعير السياسي، في حال أفضل بكثير عما قد يكونوا عليه تحت نظام تسعير السوق. (بالرغم من أنهم قد لا يكونوا في وضع أفضل حقيقة عندما يتم الأخذ بالاعتبار السعر الكامل، بما في ذلك كلفة الوقت الضائع في انتظار الدور). ولكن مقابل هذه المكاسب المحتملة للمستهلكين ستكون هنالك خسائر واضحة يُمنى بها من توجب عليهم تمويل العرض المتاح. كما أنه في ظل نظام التسعير السياسي يتم نوع من تحويل القيمة بين مستهلكي السلع وغير المستهلكين. بينما في إطار نظام تسعير السوق لا يوجد مثل هذه التحويلات في القيمة.
التسعير السياسي، التحفظ البيروقراطي، والهدر الاجتماعي
يستند نظام تسعير السوق الى وظيفتين تنسيقيتين يفشل نظام التسعير السياسي في أدائهما. يتم تخصيص العرض المتاح بين المستهلكين المحتملين، كما يتم تقديم الكمية المعروضة لمواجهة الطلب المحتمل. وإذا تم وضع سعر سياسي أقل من سعر السوق، يتوجب عندها اللجوء لاستخدام بعض وسائل الترشيد غير السعر لضبط العملية إلا إذا تم تعديل العرض لمقابلة أي طلب يظهر. وفي هذه الحالة، سينجم عنه فاقد ضخم في القيمة الاقتصادية.
تحت ظروف الطلب المفرط، فان وسائل الترشيد اللاسعري قد تأخذ أي شكل من الأشكال المتعددة، إما منفردة أو مجتمعة. من الممكن تخصيص العرض المتاح بواسطة بعض آليات الترشيد الواضحة، على سبيل المثال بواسطة إصدار كوبونات حصص للتمكن من الشراء. أو من الممكن القيام بالتقنين بواسطة نظام آخر مختلف يأخذ بالاعتبار “من يأتِ أولا، يُخدم أولا” والتي تشمل على فترات انتظار وطوابير طويلة في المحلات. وأخيرا، يمكن ترشيد استهلاك السلع عبر وسائل التسعير الخاص. ويترتب على اختيار أي من وسائل الترشيد هذه إنشاء مؤسسة بيروقراطية لتنفيذ هذه الإجراءات، لن يكون هنالك حاجة إليها في ظل نظام تسعير السوق.
كما تبرز الحاجة إلى إقامة مؤسسات بيروقراطية أخرى عندما نتناول الموضوع من جانب تنسيق العرض. فإذا كان التعديل التلقائي لأسعار العرض كما في ظل نظام السوق غير مسموح به، يتوجب عندئذ على المنتجين، وبطريقة ما، أن يحفزوا على إنتاج كمية السلع التي تم تحديدها سياسيا. ويمكن تنظيم الإنتاج مباشرة عن طريق مؤسسات الدولة أو يمكن دعم الموردين الخاصين. وعلى أية حال، يتم تحصيل الإيرادات من مصادر أخرى في الاقتصاد وهذا التحصيل يعتمد مرة أخرى على المؤسسات البيروقراطية. أو من الممكن أن يطلب حجم الإنتاج مباشرة بالأمر، وفي هذه الحالة يخضع الموردون لضغوط بيروقراطية قسرية.
يتطلب التسعير السياسي انشاء مؤسسة بيروقراطية يكون دورها مكمل وصلاحياتها متسعة لتحقيق التنسيق المطلوب لتحقيق الأهداف. إن جميع الافراد ليس فقط بصفتهم طالبين أو مستخدمين للسلع المنتجة النهائية، ولكن أيضا بصفتهم موردين للمدخلات التي تدخل في إنتاج مثل هذه السلع، لا بد أن يخضعوا للمعاملة التمييزية للمؤسسات البيروقراطية، التي لا ضرورة لوجودها في ظل نظام السوق. وسيخلق ذلك اعتمادا كاملا من قبل المواطنين على البيروقراطية القائمة بغض النظر عن خصائص السلوك الفردي للبشر الذين يعيشون في ظل حكم البيروقراطية. وحتى لو كانت البيروقراطية في ظل هذا الوضع مثالية وعادلة، إلا أن علاقة التبعية ستستمر.
ومع ذلك، وكما تقترح نظرية الخيار العام الحديثة، فإنه من غير المحتمل أن يكون العملاء البيروقراطيون مختلفين عن الأشخاص الآخرين في المجتمع؛ ولا يتوقع بروز أنماط سلوك مغايرة. وسيسعى البيروقراطي، كما سيفعل غيره، لزيادة منفعته الخاصة للحد الأقصى، رهنا بالقيود التي تواجهه. ونظرا لأن الهيكل المؤسسي في نظام التسعير السياسي يضع الأشخاص الآخرين في علاقة التبعية، فمن غير المتوقع أن يرفض البيروقراطي عمدا أن يمارس هذه السلطة التحفظية لكي يُعظّم منفعته. إن المحسوبية، والمعامله التمييزية (الإيجابية والسلبية)، والتصنيفات التعسفية، جميعها خصائص تُميز أي نظام يضع الناس في علاقة التبعية مع بيروقراطيين بشر يتنفسون ويعيشون.
ستكون هذه الخصائص موجودة تحت نظام التسعير السياسي وإن كان لا يوجد فساد بالمعنى المفهوم للكلمة. وسيكون للبيروقراطيين الذين يمتلكون سلطة تحفظية لتخصيص أو توزيع القيمة الاقتصادية، بالتأكيد، فرصاً لتحقيق المنافع الربحية لأن السلطة التي تقوم بالتخصيص والتوزيع يصبح لها قيمة بحد ذاتها. وبالتالي سيكون هنالك علاقة طردية مباشرة بين السلطة وفرص الربح واستغلال المكاسب.
لكن مشاكل التمييز البيروقراطي لا تكمن حصرا، أو حتى أساسا، في الرشوة. فأولا، تتواجد هذه المشاكل بسبب التمييز البيروقراطي، والذي يعني أنه يجب أخذ الخيارات بين مختلف المطالبين على أسس أخرى غير القيمة المضافة. وفي هذا الصدد، يصبح إدخال التمييز البيروقراطي، الذي برز بسبب التسعير السياسي، مصدرا لعدم الكفاءة على كافة مستويات الاقتصاد. وثانيا، فإن علاقة التبعية القائمة بين هؤلاء الأشخاص الذين يمتلكون سلطة تمييزية وأولئك الواقعين تحت تلك السلطة تخلق تفرقة طبقية تعسفية. وثالثا، وربما الأكثر أهمية، فإن النقص المفتعل في ظل نظام التسعير السياسي يصبح النتيجة الطبيعية لاستثمارات مبددة اجتماعياً. ويجد الافراد أنه من المنطقي استثمار الموارد في محاولة لتأمين الوصول التفضيلي إلى مكامن القوة الاقتصادية المتأصلة في التمييز البيروقراطي. إن الارباح المتولدة من أنشطة غير منتجة والتي يحصلها أولئك الذين يتنافسون لضمان الوصول، رغم صعوبته وندرته، إلى السلع المقيّمة (مثل أولئك الذين يطلبون الخبز بسعر الصفر)، تمثل استثمارات مبددة لجمهور الأفراد غير القادرين على النجاح في الجهد التنافسي.
يجب أن يكون هناك القليل من الخلاف أو أن لا يكون هناك خلاف أصلا بخصوص التحليل الاقتصادي العلمي (القائم على الحقائق وعلاقات السببية) لتأثيرات التسعير السياسي على حجم ومجال والحدود التمييزية والنتائج السلوكية الثانوية للمؤسسة البيروقراطية. فلا يوجد نتائج معيارية موحدة يمكن الوصول إليها مباشرة من التحليل. ومع ذلك، وللدرجة التي يمكن أن يتفق عليها المحللون والمراقبون، فان الآثار الناجمة في حد ذاتها تعتبر خصائص غير مرغوبة لأنظمة التسعير السياسي، كما ان المنافع النسبية التي تدعيها مثل هذه الأنظمة مقارنة مع أنظمة تسعير السوق ليست بالأهمية. يجب الاعتراف بأن تقليل التسييس-البيروقراطية في التفاعل الاقتصادي، والذي يحققه نظام تسعير السوق، هو عامل هام في مفاضلة الحكم النهائي، علاوة على المناقشة المألوفة حول الكفاءة.
الدستور السياسي للنظام الاقتصادي
لقد أشرت لغاية الآن إلى أنظمة التسعير السياسي وتسعير السوق بدون ذكر مباشر للبنية الدستورية التي تحدد الإطار الذي يعمل من خلاله أي نظام للتفاعل الاقتصادي. إنه في غاية الأهمية التأكيد على ضرورة العمل السياسي أو الجماعي في تأسيس وصيانة بنية النظام في جميع الأحوال. إن التقليل من مدى ونطاق التمييز البيروقراطي الذي تمت مناقشته في الجزئين السابقين يشير بشكل خاص إلى وضع التفاعل الاقتصادي داخل بنية النظام، أي داخل دستور النظام الاقتصادي. وكما اقترح التحليل، فإن أسعار السوق تميل إلى التقليل من التحفظ البيروقراطي بالنسبة إلى ذلك الذي يقتضيه التسعير السياسي. لكن أسعار السوق تعمل بفعالية فقط في إطار مجموعة من القواعد والذي يجب تأسيسها أو المحافظة عليها بشكل جماعي. ولا مفر من التسييس على مستوى الخيار الدستوري.
ساقصر مناقشتي علي مجمل هذه الملامح للبنية الدستورية التي ستسمح لاسعار السوق أن تبرز وأن تعمل. ولن أقوم بمناقشة كيف يتم أخذ الخيار الدستوري الأساسي ضمن مجموعات من القواعد. أولا، يجب أن يكون هناك توزيعا منتشرا ولامركزيا للقدرات لإنتاج القيمة الاقتصادية مع اعتراف سياسي وقانوني واضح لهذا التوزيع. يجب أن تنتشر الملكية أو حقوق الملكية على نطاق واسع في التملك، في كل من الموارد البشريه والأصول غير البشريه، كما أنه يجب توفر حماية قانونية صريحة لنمط الملكية نفسها. ثانيا، يجب السماح للملاك الخواص تبادل حقوق الملكية فيما بينهم، كما يجب أن يكون هناك إنفاذ سياسي وقانوني للعقود الطوعية المعتمدة لتبادل هذه الحقوق.
وفي ظل مثل هذا النمط من الملكية الخاصة المنتشرة واللامركزية، مع الاعتراف السياسي والقانوني وانفاذ العقود، ستكون العناصر الأساسية لدستور نظام السوق في مكانها. سيتم تخصيص مصادر الموارد بين عدة استخدامات منفصلة؛ وسيتم تنظيم الإنتاج من خلال مجموعة من المدخلات؛ وسيتم إنتاج السلع والخدمات وتوفيرها وتسعيرها للمستهلكين الذين يطلبونها. لا يُطلب من أي أحد مباشرة، سواء كفرد عادي أو في موقع سياسي، الاهتمام بتفاصيل الإنتاج، أو الأنماط المستخدمة للإنتاج، في ظل تشابك عمليات السوق. هذا الناتج، أو أنماط الانتاج، سيكون محصلة التفاعل المستقل بين العديد من الأشخاص. وبهذا لا تتم عمليات التخصيص أو التوزيع نتيجة لاختيار أي طرف.
وعند هذه النقطة بالتحديد قد تكون المبالغة في التركيز على معيار الكفاءة لتقييم أداء اقتصاد السوق مضللة. ومما لا شك فيه أن الكفاءة التي تم تحقيقها بواسطة تفاعل السوق تُعرّف بمثل هذا التفاعل. وتظهر جداول القيمة وفق خيارات السوق التي أخذها جميع المشاركين؛ ولكنها لا توجد بصورة مستقلة. ولا حاجة لأن يكون هناك علاقة بين أداء اقتصاد السوق والكفاءة لتحديد جداول القيمة من قبل المخطط أو صانع القرار السياسي. وفي حالة واحدة يمكن أن تكون عبارة أبالكين صحيحة، ألا وهي عندما يرغب صانعو القرار بالسماح للسوق تحديد الكفاءة.
سيظهر نظام السوق بأنواعه في اللحظة التي يتكامل فيها وجود العناصر الأساسية. بينما من الممكن أن تمتد البنية الدستورية لتشمل قواعد أخرى أو مؤسسات من المتوقع أن تيسر عملية التبادل الشاملة. ومن الممكن أن تأخذ المؤسسة السياسية، أي الدولة في هذه الحالة، مسؤولية تحديد الوحدة النقدية للنظام الاقتصادي، كما يمكن أن تسعى للحفاظ على استقرار قيمة هذه الوحدة. كما يمكن أن يكون هناك ترتيبات مؤسساتية متخصصة تهدف إلى تشجيع القوى التنافسية، وخاصة تلك التي تعزز حرية الدخول في الإنتاج والتي تحظر الترتيبات الاحتكارية. اما المرافق العامة والسلع الأخرى المستهلكة جماعيا (على سبيل المثال حماية البيئة) تبقى ضمن سلطة الدولة، كما أنه من الممكن إدخال التشريعات الدستورية التي تُحدد الوسائل التي يتم عبرها تمويل السلع والخدمات الموردة من قبل الدولة.
البيروقراطية الدنيا واقتصاد السوق الاجتماعي
يترتب على الاهتمام والتركيز على العلاقة بين الخصائص التنسيقية لسعر السوق ونطاق التمييز البيروقراطي تأثير على فعالية التدخل السياسي الذي يتم لتعزيز الأهداف الاجتماعية. وقد يرفض صناع القرار السياسي، الذين يعملون كوكلاء للنخبة الحاكمة أو أولئك الذين يدعون انهم يمثلون الدوائر الانتخابية في الديمقراطيات، معيار الكفاءة كما هو معرّف بإجراءات اقتصاد السوق حتى وإن تم توسيع القطاع الجماعي ليشمل تمويل السلع غير المستثناة والمستهلكة جماعيا. وقد يسعى هؤلاء الوكلاء، ولذات الأسباب التوزيعية والرعائية التي حفّزت العديد من التجارب الاشتراكية في الأنظمة التي تتحكم فيها الدولة بالأمور الاقتصادية والاجتماعية، إلى استخدام السلطة السياسية لتعديل نتائج نظام السوق، ولو بشكل جزئي.
في الوقت ذاته، يمكن قبول منافع نظام السوق من حيث إنتاج قيمة اقتصادية وتقليل دور التمييز البيروقراطي. والسؤال هو كيف يمكن الإبقاء على الخصائص التنسيقية للأسواق في ظل استخدام السلطة السياسية لتعديل الأنماط التوزيعية والحصصية في اتجاه تلك الأنماط المرغوبة بشكل أكبر من قبل صانعي القرار (والمخططين)؟
افترض أنه قد تم تأسيس القواعد الأساسية لاقتصاد السوق. عندها ستصبح حقوق الملكية لامركزية ويتم إنفاذ العقود الطوعية. استرجع مناقشتي السابقة في الجزئين الثاني والثالث. إذا تم توفير الإمدادات بشكل كاف لتلبية جميع المطالب بسعر الطلب المقرر سياسيا والذي يواجه المستهلكين والمستخدمين المحتملين، عندئذ، لا تستدعي الحاجة استخدام نظام مكمل للترشيد. وإذا قبلت جميع الإمدادات المعروضة بسعر العرض المقرر سياسيا، عندئذ لا تبرز الحاجة إلى استخدام نظام لترشيد البيع بين المزودين المحتملين. وعليه، يمكن استخدام السعر لترشيد الطلب ولتنشيط العرض. ولكن، في هذه الحالة، ستغيب خاصية توازن السوق. وقد لا يكون سعر طلب السلعة للمستهلكين معادلاً لسعر العرض للمزودين. وكما اشير سابقا، تتم تحويلات في القيمة في الأسواق في ظل نظام التسعير السياسي. وإذا شجع صناع القرار السياسي المشاركين في السوق على شراء المزيد من سلعة ما غير تلك التي تُمليها خياراتهم سيحدث خلل في هيكل الأسعار في السوق بين سعر الطلب الذي تعرض به السلعة إلى المستهلكين وسعر العرض الذي يقدم للمنتجين وبالتالي ينخفض سعر الطلب عن سعر العرض. وهنا يتوجب العثور على وسائل لتمويل الفارق حتى لو حققت هذه الأسعار هدف الترشيد المطلوب.
وفي هذه الحالة، يجب أن يرغب صانعو القرار السياسي بإحداث خلل في الاتجاه المعاكس في السوق لسلعة أو سلع أخرى. ويعني هذا جعل سعر الطلب أعلى من سعر العرض في سوق سلعة أخرى (أو عدة سلع) لتوليد العوائد اللازمة لتمويل الدعم المالي للسلعة أو الخدمة المفضلة. وأسوة بما حدث في السوق الأول، يمكن استخدام الأسعار لإلغاء الحاجة إلى التمييز البيروقراطي في آليات الترشيد التكميلية. لكن هذا الاعتراف بتحويلات القيمة عبر الأسواق يفترض توازن الموازنة. وهذا يعني أن العائدات المحصلة من السلع غير المفضلة يجب أن تساوي بالضبط الدعم المالي المدفوع للمنتجين والمستهلكين للسلع المفضلة. وبالتالي يمكن تشجيع إنتاج واستهلاك سلعة واحدة؛ ويمكن عدم تشجيع إنتاج واستهلاك سلعة أخرى. ويمكن تحقيق الهدف الاجتماعي المزعوم ضمن مجموعة من القيود التي تفرضها تفضيلات المشاركين في الاقتصاد من خلال دورهم كطالبين ومزودين للسلعتين (أو مجموعة السلع).
قصة الخبز والفودكا
يمكن هنا توضيح الفرق بواسطة مثال بسيط. افترض أن صانعي القرار السياسي، مهما كانوا، قد قاموا بتعديل نتائج اقتصاد السوق الحصصية والتوزيعية من خلال طريقة محددة. قد يكون الهدف الاجتماعي المعلن تشجيع إنتاج واستهلاك الخبز وعدم تشجيع إنتاج واستهلاك الفودكا، وفي الوقت ذاته، تقليل فقدان الكفاءة والتحفظ البيروقراطي.
يحدث التفاضل التمييزي من خلال دعم إنتاج الخبز بينما تفرض ضريبة على إنتاج الفودكا. وبموجب هذه الترتيبات، سيستمر تسويق السلعتين بأسعار تُحدد سياسيا رغم أنها لا تزال تعتبر من ناحية اخرى أسعار السوق. ولكي يعمل هذا المخطط بطريقة فعالة، يجب أن يتوازن جانبا الحساب. وكذلك، يجب أن يُعدّل النظام ليتوافق مع تغير جداول الطلب والعرض للسلعتين بتأثير تغير رغبات الطالبين والمزودين. ولا يمكن لصناع القرار السياسي أن يفرضوا وببساطة وحدة ضريبة على الفودكا بشكل مستقل عن وحدة الدعم للخبز. وبالنظر إلى سلوك طالبي الفودكا والموردين، فإن أية وحدة ضريبية على الفودكا ستولد إجمالي عائدات محددة ستكون متاحة لتمويل دعم الخبز. ولكن في هذه الحالة، سيعتمد حجم وحدة الدعم على سلوك طالبي ومزودي الخبز. ولا يمكن أن يقوم صانعو القرار السياسي ببساطة باختيار أي وحدة دعم للخبز إذا كانت رغبتهم تقليل الحاجة إلى التمييز البيروقراطي في توزيع الخبز. في المقابل، يجب تحديد حجم الإنفاق على أي وحدة دعم مختارة مسبقا للخبز، وفقا لسلوك طالبي وموردي الخبز. ويثبت حجم وحدة الدعم حتى يمكن تمويل الإنفاق عليه من وحدة الضريبة على الفودكا وفقا لسلوك طالبي الفودكا والموردين.
قد يرغب صانعو القرار السياسي باختيار حلول قد تتناقض بكل بساطة مع سلوك المشاركين في الاقتصاد. على سبيل المثال، قد تتجاوز العائدات المطلوبة لتمويل دعم كامل للخبز لكي يُقدم بسعر الصفر، كما ورد في العرض السابق، خارج الحدود التي يمكن توليدها عن طريق فرض ضريبة على الفودكا. وسيفرض سلوك العرض والطلب للمشاركين في جميع الأسواق، والذي يجب السماح به بدون أي ضغط بيروقراطي، قيودا على قدرة صانعي القرار السياسي لتعديل نتائج الأسواق. ضمن هذه الحدود، فإن هيكل أسعار السوق قد يحتاج الى تعديله بشكل ملحوظ ليحقق الأهداف الاجتماعية المتوخاة.
الخاتمة
يجب أن يتم تحديد الموارد وتجميعها في أي نظام اقتصادي لإنتاج مخرجات ذات منفعة والتي بدورها يجب أن توزع على المستهلكين. فالاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يستطيع أن يحقق هذه المجموعة من المهمات بفعالية أعلى وكذلك سيولد معدلات انتاجية ذات قيمة مضافة أعلى مقارنة بالاقتصاد الذي يستند إلى خيار التخطيط المركزي. لقد كان هدفي هنا التأكيد على أهمية الميزة الطبيعية لاقتصاد السوق الحر، التي تربط نظام الاقتصاد مع الخيارات السياسية والبيروقراطية. وإذا لم يتم تخصيص الموارد وتوزيع المنتجات من خلال نظام للسوق، عندئذ يجب أن يتم إنجاز الوظائف التخصيصية والتوزيعية مباشرة بواسطة مؤسسة سياسية بيروقراطية. والنتيجة المباشرة والواضحة هنا أن السوق يحد من التدخل البيروقراطي في حياة المواطنين للدرجة الممكنة.
إلا أن هذه النتيجة لا تعني أن الأسواق أو منظومة السوق تستطيع إزالة المحددات الجوهرية المحكومة بنُدرة الموارد كمفعول السحر، إلا أنها تستطيع تقليص حدة هذه المحددات بواسطة زيادة كفاءة استخدام الموارد. ومع ذلك، ستبقى المحددات الأساسية على الموارد قائمة؛ ويكون مفعول الاسواق عليها من خلال هياكل الأسعار الموضوعية، عوضا عن التدخل التمييزي والقسري للبيروقراطية المشخصنة. أي يتم استبدال النفوذ الخاضع لتقدير أو سلطة البيروقراطية بالسلطة الموضوعية للأسعار، وما يصاحب ذلك من انعكاسات على طبيعة العلاقات بين الاشخاص.
يقلل نظام السوق من التمييز البيروقراطي، ولكنه يعمل فقط في إطار دستوري مستدام وفعال سياسيا. إن وجود العناصر الأساسية—توزع الملكية الخاصة وإنفاذ العقود—ضرورية للسماح بنشوء الأسواق وإنتاج أنماط من المخرجات تعكس أعلى قيمة لأفضليات المشاركين، كما يُعبَّر عنها من خلال سلوك السوق.
وقد لا تحصر السياسة، كيفما تعمل ومهما كانت آلية اتخاذ القرار وكيف يتم اختيار صانعي القرار، أنشطتها لتأسيس ومتابعة الإطار الدستوري بإرادتها. وقد يطلب السياسيون، بصفتهم الشخصية وكممثلين لدوائر المواطنين، تعديل بعض المخرجات التي تظهر نتيجة لتفاعلات السوق غير المسيطر عليها. قد يشارك العديد من المواطنين في تصنيف بعض السلع بأنها “تستحق التشجيع” (تسمى أحيانا “سلع الجدارة”) وأخرى بأنها “لا تستحق التشجيع” (تسمى أحيانا “سلع الإسراف”). وسيحاول أي نظام سياسي تعديل نتائج تفاعل السوق باتجاه تشجيع المجموعة الأولى من السلع ومنع المجموعة الثانية.
هناك وسائل أفضل من أخرى للتدخل في آلية عمل الأسواق إذا تم القبول بنتيجة تخفيض التمييز البيروقراطي وتحسين الكفاءة. وقد تُعزَّز أهداف اقتصاد السوق الاجتماعي بواسطة التخطيط لآليات الضرائب والدعم المنتقاة بطريقة متوازنة تستجيب لسلوك العرض والطلب للمشاركين.
الاقتصاد السياسي للتحول الى اقتصاد السوق
بوريس ميلنر[2]
القرارات السياسية وقرارات السوق
لقد قمت بقراءة ورقة جيمس بيوكانن بمزيد من الاهتمام. إن تحليله الواضح والاصيل والحيادي لآليات التخطيط المركزي واقتصاد السوق يفوق المقارنات المماثلة، ليس فقط لتعمقه في الموضوع، بل أيضا بسبب جدة فرضياته واستنتاجاته.
الفرضية الأساسية للورقة هي التفسير الموسع لكفاءة اقتصاد السوق. لقد تم توسيع نطاق المعايير المألوفة المتعلقة بإنتاج السلع (العوامل المحفزة للاطراف الاقتصادية الفاعلة، التوافر التام للمعلومات في ظل نظام لامركزي، والبيئة المواتية لتوليد القدرات الخلاقة والمبدعة) من قبل بيوكانن ليضيف عليها ويتناول بالتحليل تأثير عامل مهم آخر هو: العلاقة بين القرارات السياسية وقرارات السوق.
وأعتقد هنا أن المبدأ الذي صاغه في غاية الأهمية:
“إن الاقتصاد الذي يستند إلى مبادىء حرية السوق يقلل بشكل ملحوظ من عدد القرارات الاقتصادية التي يجب أن تؤخذ لاعتبارات سياسية من قبل مؤسسة ما تمثل الوحدات الجماعية. وبتعبير عملي آخر، فبالإمكان القول إن الاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يقلص من حجم وأهمية البيروقراطية السياسية.”
إن هذه النتيجة المستخلصة صحيحة بوجه عام، عند تساوي المعطيات الأخرى، في الكيفية التي يعمل بها بشكل متواز نظامان اقتصاديان—نظام التخطيط المركزي ونظام السوق—وفق خصوصية كل منهما وحسب قواعد السلوك الخاصة بهما.
الانتقال من اقتصاد التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق
تبرز الحاجة إلى مزيد من التحليل في حالة الأنظمة المتحولة التي تستبدل الآليات التوظيفية لنظام بنظام آخر. وهنا يجدر الأخذ بعين الاعتبار بعض الخصائص التي تُميز الفترة الانتقالية للتحول إلى السوق، والتي يمر بها حاليا اقتصادنا (أي اقتصاد الاتحاد السوفييتي السابق).
الخاصية الأولى هي تفرد ميزة التحول بحد ذاتها؛ ولذلك نعاني من نقص في النظريات والإجراءات الممكن للدولة اتباعها في المرحلة الانتقالية، واستحالة التعلم مباشرة من التجربة التاريخية المتاحة. إن هذه الفترة الانتقالية فريدة من نوعها نظرا لعدم إضطرار أي دولة أخرى في العالم أن تتوجه نحو السوق الحر من خلال تفكيك البنية الهرمية الاحتكارية الكبرى لمنتجي وموزعي السلع التجارية، تلك البنية التي أقيمت بجهد كبير وعلى مدى عقود عديدة. لا يوجد تجربة مماثلة لبلد في العالم اضطر أن يُغير قواعد السلوك لنظامه الاقتصادي، وهو في طريقه للتحول إلي اقتصاد السوق الحر، بتفكيك كافة الروابط الإدارية المتأصلة والعلاقات القائمة على أسس غير اقتصادية وفي وقت قصير. ولم يضطر أحد أثناء التحول نحو اقتصاد السوق الحر لأن يتغلب على عقلية الهيمنة والخضوع التي اخترقت عقول الملايين بعمق عبر ما لا يقل عن ثلاثة أجيال وأصبحت لهم بمثابة النمط الطبيعي. وعليه، نجد أن المهمة معقدة بدرجة يصعب تصديقها، كما أن الحاجة متواصلة للاختيار بين العديد من الاحتمالات، مع بروز مثبطات لا مفر منها تبطىء التغيير، وضرورة العمل للتغلب على العقبات. إضافة إلى ذلك، فان البحث عن حلول لهذا الوضع لا يمكن الوصول إليه من خلال وصفات جاهزة. كما أنه لا يمكن توقع جميع التفاصيل والعلم بكافة الخلفيات أو تجنب أي خطأ أو سوء تقدير غير متوقع.
وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن الركون الى أن العلاقة بين الإدارة البيروقراطية (“التسعير السياسي”) وآليات السوق ستكون مستقرة في جميع الأوقات. إن تحرير الأسعار سيأخذ وقتا؛ وخاصة أننا نعتمد الاسلوب المتدرج (خطوة خطوة) لتحرير اسعار العديد من السلع.
لا يسع المرء إلاّ أن يلاحظ خاصية أخرى لهذه المرحلة: إن بناء العلاقات الاقتصادية الجديدة يتم إطلاقه وتنفيذه بدرجة أقل من خلال الاعتماد على آليات التطوير التلقائية المنبثقة “من الأسفل” من خلال الأطراف الاقتصادية الفاعلة الأساسية، وأكثر “من الأعلى”، إذ تقوم السلطات المركزية والجمهورية والإقليمية بدور مزدوج فهي تفكك التركيبة الإدارية القديمة وتأسس للتحول إلى اقتصاد السوق الجديد.
وباستعمال تعبير بيوكانن، يجب أن تؤدي هذه العملية إلى خلق “دستور سياسي اقتصادي”. ولهذا السبب يبدو لي، فيما يتعلق بالظروف الحالية التي تشهدها عملية التحول إلى اقتصاد السوق، أن الفقرة التالية من ورقة بيوكانن يجب اعتبارها بالغة الأهمية: “أسعار السوق تعمل بفعالية فقط في إطار مجموعة من القواعد والذي يجب تأسيسها أو المحافظة عليها بشكل جماعي. ولا مفر من التسييس على مستوى الخيار الدستوري.”
في هذا الإطار سيتم البحث عن أجوبة للأسئلة التالية: (أ) كيفية تقليل التأثير السياسي على الروابط والعلاقات الاقتصادية، (ب) كيف ستعمل مؤسسات الدولة التنظيمية في إطار اقتصاد السوق، و(ج) كيفية إجراء الانتقال من العلاقات الرأسية إلى الأفقية.
هناك طريقتان أساسيتان: (أ) أن تبرز المؤسسات السياسية وتحدد وظائفها من داخل اقتصاد السوق لخدمة مصالح القطاع الحر؛ (ب) أن تُغير الهياكل الحكومية طبيعتها المستندة إلى العلاقات غير المستمدة من السوق والتخصيص المركزي للموارد وتتحول إلى مؤسسات سياسية لخدمة مصالح السوق.
لا يمكن لهذه الطرق أن تنجح بمفردها، حيث أننا نتعامل مع نظام واسع ومعقد جدا ومتشعب من الارتباطات الإدارية والترتيبات الهيكلية التي تجذرت بشكل مدروس وثابت. ولهذا السبب بدأت عمليات الانتقال من خلال عدة قنوات للتحول إلى بنية حكومية جديدة مع ظهور الأطراف الاقتصادية العاملة في آن واحد والتي يجب أن تنمو معا.
إن أحد الأهداف هو إزالة تركيبة البنية المتكيفة مع “العلاقات غير المستندة إلى اقتصاد السوق” وخلق الحد الأدنى لبنية أخرى جديدة. ويمكن اللجوء إلى اتجاه آخر يتمثل في تأسيس بنية متوازية ويتم من خلالها الاستبدال التدريجي للمؤسسات القديمة بأخرى جديدة. وعلاوة على ذلك، هناك طريقة تحويل البنية الحكومية إلى الاطراف الاقتصادية العاملة التي تنشط في ظل سوق حر وتدار على أسس ديمقراطية.
هناك طرق أخرى ممكنة، ولكنه من الواضح مسبقا أن الفترة الانتقالية محتّمة، مع وجود كل من البنية القديمة والجديدة معا وجنبا إلى جنب مع قيام الجديدة بتهميش القديمة بتجذر علاقات السوق وتطورها وكذلك مع تجمع قوة كافة الاطراف الاقتصادية العاملة في اقتصاد السوق—الشركات، والمصالح المختلفة، والاتحادات، والجمعيات الاقتصادية، والشركات المساهمة، وبورصات الاسهم والسلع، والوسطاء التجاريين، والمشاريع الصغيرة العاملة في مختلف القطاعات.
إن عملية الانتقال تعني تطوير ظروف مختلفة من شأنها، كما يؤكد بيوكانن، إلغاء الحاجة إلى القرارات السياسية المتعلقة بتثبيت الأسعار السياسية وتخصيص الموارد المتاحة بين المستهلكين المحتملين و”تمويل” إنتاج السلع التي تم تخصيصها.
تحول الحكومة
يتم أثناء فترة التحول تقليص هيمنة ومهام الحكومة المركزية. وتصبح وظائفها منحصرة في المقام الأول على الإشراف على أنشطة السوق—ومثال ذلك، التنظيم الإداري المحدود؛ الرقابة على النظم المالية والائتمانية والضريبية؛ والحفاظ على شبكة الأمان الاجتماعي. وتصبح القوة الاقتصادية في المركز مجموع التفويضات المخولة لها من قبل بقية الجمهوريات.
وضمن إطار تجميع هذه القوة التي تم تأسيسها بالاتفاق، تمارس الحكومة المركزية سلطاتها في الإشراف على جميع أملاك اتحاد الجمهوريات وموارده المالية وبرامجه الاقتصادية، بما يضمن الدرجة القصوى من التنسيق في تنفيذ الإصلاح. وفي إطار هذه العمليات التي تستهدف مأسسة التحول إلى اقتصاد السوق، يصبح من الضروري التأكيد باستمرار على “أهمية الميزة الطبيعية لاقتصاد السوق الحر التي تربط نظام الاقتصاد مع الخيارات السياسية والبيروقراطية،” كما يفعل بيوكانن.
إن الصيغة التي قدمها بيوكانن متصلبة وتفيد بأنه: “إذا لم يتم تخصيص الموارد وتوزيع المنتجات من خلال نظام للسوق، عندئذ يجب أن يتم إنجاز الوظائف التخصيصية والتوزيعية مباشرة بواسطة مؤسسة سياسية بيروقراطية. والنتيجة المباشرة والواضحة هنا أن السوق يحد من التدخل البيروقراطي في حياة المواطنين للدرجة الممكنة.”
في المرحلة الانتقالية تخرج المؤسسات التي لها سلطة بيروقراطية مباشرة على المنشآت والمشاريع التجارية من المسرح؛ كما تنتهي مرحلة خضوع الاطراف الاقتصادية العاملة وتظهر مؤسسات مختلفة النوعية: خزينة للدولة، إدارة لمساعدة المشاريع الصغيرة، مجلس لمحاربة الاحتكار. وهنا تبدأ عملية واسعة لإعادة الهيكلة والتنسيق وتحول بُنية المؤسسات الحكومية ووظائفها. وهذه هي العمليات التي تفتح الطريق باتجاه تأسيس علاقة جديدة بين نظامي التسعير السياسي والاقتصادي، وكذلك باتجاه تقليص التدخل الحكومي في تحديد الأسعار. وعليه، إذا كنا نتحدث عن “أسعار سوق تتأثر سياسيا” فنحن ننطلق من الفرضية القائلة بأن الأسعار تتأثر بالسياسات الاقتصادية العامة وكذلك بسياسات الحكومة التي تؤثر على السعر: الاقتطاعات من الربح أو العوائد والضرائب والتعرفة والدعم وهكذا. ولكن كيف من الممكن أن ينتقل أحدنا إلى مثل هذا النظام في ظل الظروف الخانقة لأزمة اقتصادية صعبة؟
مشكلة التسعير
يتم حاليا تدارس ثلاثة طرق متباينة لمعالجة مشكلة التسعير اثناء عملية الانتقال الى اقتصاد السوق:
1. عملية الانتقال يجب أن تبدأ بإصلاح عام للأسعار (ترفع الأسعار لمرة واحدة مع تعويض دخول المواطنين على ذلك).
2. يتم إصلاح الأسعار بعد استقرار الأنظمة المالية والائتمانية والدورة النقدية وبعد إنهاء احتكارات الحكومة.
3. يتم التحول إلى نظام تحرير الأسعار تدريجيا بأسلوب الخطوة خطوة ومن غير قرارات إدارية تفرض رفع الأسعار.
وهكذا يجب أن تأخذ الفترة الانتقالية في الاعتبار هذه الطرق والتي تخضع لطبيعة ودرجة “التأثير السياسي على أسعار السوق”. ولقد أصبحت هذه المعايير متغيرة وديناميكية. وهناك خيارات عديدة ممكنة من ضمنها عدة حلول وسطية.
ولكن، ما هي العوامل المميزة والهامة لإحداث مثل هذا التأثير؟ من الممكن اعتبار الآتي:
تنسيق السياسات المالية والائتمانية وسياسات العملة والضرائب؛
التنظيم التشريعي للنشاطات الاقتصادية والمشاريع الخاصة وتشجيع التنافس وحماية المستهلك والبيئة؛
خلق بنية تحتية لاقتصاد السوق؛
تقليص عجز موازنة الحكومة بدرجة ملحوظة وربط الموارد المالية الفائضة؛
الربط العضوي لعملية الانتقال إلى تسعير السوق بإزالة كافة الاحتكارات المسيطرة على نظم العلاقات الاقتصادية فيما بين المؤسسات والمنظمات والمواطنين.
مسألة الحماية الاجتماعية
تُصمم برامج موجهة خصيصا لتخفيف وطأة الإصلاح الاقتصادي وتوفير الحماية الاجتماعية للمواطنين. إن السكان شديدو الحساسية لبرامج الإصلاح مع قلقهم في مدى قدرتهم على ضمان الاحتفاظ بالحد الأدنى من مستوى المعيشة في ظل هذه البرامج.
في يومنا هذا، يتم التحول إلى اقتصاد السوق في خضم أزمة اقتصادية عميقة وروابط اقتصادية متحللة وعدم استقرار سياسي وتوترات عرقية إضافة إلى وجود بيئة اجتماعية ونفسية غير مواتية.
إذا كان الثمن المطلوب للإصلاح فوق طاقة احتمال المواطنين، فهناك احتمال كبير جدا بظهور حركات الاحتجاج بأشكال مختلفة وبروز مقاومة متنامية ضد إعادة هيكلة الاقتصاد. الأسعار والحوافز، الاسعار والبيئة الاجتماعية، تلك ستكون في مقدمة المشكلات طوال الفترة الانتقالية للتحول إلى اقتصاد السوق.
ملاحظات:
[1] من الممكن بالطبع أن تكون عدم الكفاءة الإدارية في التوزيع كبيرة جدا لتجعل الأسعار الشمولية لمثل هذه السلع أعلى من أسعار السوق الحرة وبالرغم عن قصد المخططين.
[2] نائب مدير المعهد الاقتصادي للأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 7 أيلول 2006.