مقومات بناء مجتمعات ما بعد الثورة

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

“إن التقدم الاقتصادي في القرن العشرين أكد تماما أن اقتصاد السوق هو الوحيد القادر على تأمين فعالية عالية في الاقتصاد الوطني”—ليونيد أبالكين.


مقدمة
إن المعنى الرئيسي لعبارة أبالكين التي استشهدت بها في الافتتاحية واضح. وكما بينت هذه النقطة في مكان آخر، فهناك الآن اتفاق عام على أن اقتصاد السوق يعمل بشكل أفضل من الخيار الاشتراكي أو خيار التخطيط المركزي. وذلك يجعلنا متفقين على ما يعني أن الاقتصاد “يعمل بشكل أفضل”. لأن مثل هذا الاقتصاد ينتج حزمات أكثر من السلع والخدمات حسب احتياجات الأشخاص الذين يستهلكونها. كما أن الاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يستطيع أن يحقق معدلات إنتاجية ذات قيمة مضافة أعلى من تلك الناتجة عن اقتصاد يستند إلى مبادىء أخرى.
يشير أبالكين إلى “الكفاءة” في توليد القيمة. ويعزي ارتفاع الكفاءة النسبية لاقتصاد السوق إلى ثلاثة أسباب: كونه يجعل حوافز الأطراف المشاركة متوافقة مع القيمة الاقتصادية المولدة؛ كما أنه يوفر كافة المعلومات المحلية المتاحة للأطراف المشاركة في بيئة محايدة ولامركزية؛ وأخيرا يتيح اقتصاد السوق البيئة المواتية لبروز المواهب الخلاقة والمبدعة للأطراف المشاركة التي اختارت أن تكون من الرياديين المحتملين.
لن أقوم بالتطرق الى المزيد من الكلام بشأن الخصائص المتعارف عليها لاقتصاد السوق. إن الاهتمام الزائد والمبالغ فيه بميزات اقتصاد السوق المولدة للكفاءة قد يكون على حساب الميزة الطبيعية المرتبطة به والتي تُعتبر مساوية لها، إن لم تتجاوزها بالأهمية. وهذ الميزة التي تهمنا هنا هي أن الاقتصاد الذي يستند إلى مبادىء حرية السوق يقلل بشكل ملحوظ من عدد القرارات الاقتصادية التي يجب أن تؤخذ لاعتبارات سياسية من قبل مؤسسة ما تمثل الوحدات الجماعية. وبتعبير عملي آخر، فبالإمكان القول إن الاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يقلص من حجم وأهمية البيروقراطية السياسية. ولو اختار أبالكين أن يؤكد على هذه الميزة أكثر من ميزة الكفاءة لقال: “إن المنطق يؤكد أن اقتصاد السوق هو الوحيد القادر على السماح بالتسييس الأدنى للإقتصاد الوطني.” وإذا أراد أيضا أن يوسع نطاق هذه العبارة، لأضاف قائلا: “وإنه من خلال هذا الحد الأدنى للتسييس—وتخفيض البيروقراطية—يمكن تحسين الوصول الى مختلف الأهداف الاجتماعية مهما كانت هذه الأهداف.”
في الجزء الثاني من هذه الورقة سوف أقوم بوصف العلاقة بين التسييس ونظام السوق بينما أقوم بإظهار الفارق بين التسعير السياسي وتسعير السوق. وفي الجزء الثالث سأقوم بمناقشة الآثار المترتبة على التسعير السياسي في اقتصاد ما من خلال العلاقات بين المواطنين وبين مجموعات من المواطنين. وسيتحدد من خلال هذا التحليل، الذي يستخدم المساهمات الحديثة لنظرية الخيار العام، المصادر المحتملة لهدر القيمة الاقتصادية، إضافة إلى تحديد الظروف التي يوضع فيها الأشخاص موضع التبعية وفي مجابهة مع الآخرين. إن التداعيات المعيارية الناجمة عن ذلك واضحة. وسيتناول الجزء الرابع الدور المحوري للعمل السياسي أو الجماعي في تصميم وبناء وتنفيذ ومتابعة الإطار الهيكلي الذي يُسمح فيه بتوظيف اقتصاد السوق. ومن بين الخيارات المطروحة، يفضل الخيار الجماعي. ولكن مثل هذا الخيار سيكون مقيدا بردود الأفعال من التدخلات المعنية بتوليد القيمة ومن التدخلات البيروقراطية. وفي الجزء الخامس، سأعود للتفريق بين السعر السياسي وسعر السوق لبيان كيفية إمكان تطوير أهداف “اجتماعية” متفق عليها بدون تسييس علني للأسواق. كما وسأقدم فكرة حول سعر السوق المتأثر بالناحية السياسية، وسأظهر حدود التطبيق. وسيحتوي الجزء الأخير على الخاتمة والنتائج.
السعر السياسي وسعر السوق

إن الخاصية المميزة للأنظمة الاشتراكية تشتمل على استخدام أسعار محددة سياسيا لبعض السلع والخدمات المختارة والتي يُفترض أنها تستند إلى اعتبارات توزيعية ورعائية. ويتم إتاحة السلع والخدمات المختارة بواسطة هذه الطريقة للمستهلكين وفق أسعار تعكس تقديرات سياسية بدلا من أسعار تستند الى آليات الطلب والعرض. تشمل هذه السلع والخدمات المختارة عادة: الخدمات الطبية والخدمات التعليمية ورعاية الطفل ووسائل المواصلات داخل المدن والإسكان والحليب والخبز وغيرها. ويتم توفير وإتاحة بعض أو جميع هذه السلع والخدمات للمستهلكين أو المستخدمين بأسعار دون تلك التي يتم تحديدها بواسطة قوى السوق.[1]
فلنأخذ بعين الاعتبار مثالا مبسطا. نفترض أنه قد تم اتخاذ قرار سياسي جماعي لتزويد الخبز للمستهلكين بسعر “صفر”، والذي يمكن تسميته “سعرا سياسيا” لأنه بمعزل عن أية علاقة بين تكلفة الإنتاج والطلب. وإذا اقتصر الفعل السياسي على الإعلان عن هذا السعر السياسي، فإنه يمكن التنبؤ برد الفعل مسبقا. حيث سيقوم المستهلكون المحتملون بطلب كميات كبيرة من الخبز بسعر الصفر، في حين لن يكون هناك موردون محتملون يرغبون بتوفير الخبز في السوق بهذا السعر. ويتوجب على صانعي القرار السياسيين، الذين يحاولون بداية تلبية طلب المستهلكين المحتملين، تخصيص كميات كبيرة من الموارد لإنتاج الخبز، إما بواسطة الأمر المباشر أو بواسطة مخطط محدد لدعم الموردين المحتملين. وهذا يعني أنه حتى إذا توفر ما يكفي من الخبز لتلبية جميع الطلبات بالسعر السياسي الزائف، فإنه يجب القيام بعمل سياسي إضافي علاوة على تحديد الأسعار نفسها، لجعلها قابلة للتطبيق. وهذا بدوره يعني ضرورة سحب الموارد من استخدامات أخرى وتخصيصها لإنتاج الخبز، مما سيشجع الإسراف في استهلاك الخبز نظرا للسعر الزائف المنخفض. (إن المثال التوضيحي من التجربة السوفييتية الذي يقدم غالبا هنا هو قصة الفلاحين الذين يطعمون الخبز للماشية).
ومع ذلك، وكما ذكرت آنفا، لا أريد أن أشدد على آثار التسعير السياسي المتمثلة في الإسراف وخفض الكفاءة. وعليه، دعونا نفترض أن صانعي القرار السياسيين الذين يخططون باسم الجماعة سيوجهون الموارد لإنتاج الخبز بالكميات المثلى للطلب تقريبا وبسعر السوق. بينما يتم العرض بسعر الصفر وينتج عن هذا المزيج من توافر أقصى درجات العرض مقابل سعر صفر للطلب نتيجتان: سيكون هناك فائض من الخبز، وسيتطلب تمويل تكلفة انتاج الخبز توفير موارد مالية من مصادر أخرى من غير مستهلكي الخبز. ويستدعي ذلك اتخاذ قرارات وافعال سياسية على مستوى مؤسستين اضافة الى اجراءات بشأن ضبط ضمان عدم تجاوز تحديد السعر.
من الممكن مقارنة هذا النظام من التسعير السياسي مع نظام تسعير السوق بافتراض عدم وجود تدخل مسيّس في سوق الخبز؛ وعليه، فان السعر يعكس نتيجة التفاعل فيما بين الطلب والعرض. وفي هذا الإطار، من الممكن أن يقدم الموردون والمنتجون الخبز للمشترين المحتملين بالشروط التي يختارونها، ومن الممكن أن يختار المستهلكون المحتملون الشراء أو عدمه وبالكميات التي يريدونها. وبالتالي من خلال ذلك يتم التوصل للوضع الكفؤ تقريبا لسوق الخبز (“الكفؤ” مقاسا من حيث جداول الطلب في الاقتصاد). وبالتالي تحت هذا النظام من تسعير السوق ستغيب النتيجتان الناجمتان عن التسعير السياسي. ولن يكون هناك فائض أو نقص في الطلب على الخبز؛ كما لن يكون هناك فائض أو نقص في العرض. ولن يكون هناك أي داعٍ لقيام أطراف أخرى في الاقتصاد، بخلاف مستهلكي الخبز، بوجوب تمويل إنتاج الخبز. ولذا تصبح القرارات السياسية المتعلقة بـ(أ) وضع السعر السياسي، (ب) تخصيص العرض المتاح بين المستهلكين المحتملين، و(ج) تمويل إنتاج العرض المتاح، غير ضرورية في ظل نظام تسعير السوق.
ويتوقع بالطبع أن يكون هناك فروقات بين النظامين في مجال التوزيع. وقد يكون أولئك المستهلكون، الذين نجحوا في الحصول على الخبز بسعر الصفر تحت نظام التسعير السياسي، في حال أفضل بكثير عما قد يكونوا عليه تحت نظام تسعير السوق. (بالرغم من أنهم قد لا يكونوا في وضع أفضل حقيقة عندما يتم الأخذ بالاعتبار السعر الكامل، بما في ذلك كلفة الوقت الضائع في انتظار الدور). ولكن مقابل هذه المكاسب المحتملة للمستهلكين ستكون هنالك خسائر واضحة يُمنى بها من توجب عليهم تمويل العرض المتاح. كما أنه في ظل نظام التسعير السياسي يتم نوع من تحويل القيمة بين مستهلكي السلع وغير المستهلكين. بينما في إطار نظام تسعير السوق لا يوجد مثل هذه التحويلات في القيمة.
التسعير السياسي، التحفظ البيروقراطي، والهدر الاجتماعي

يستند نظام تسعير السوق الى وظيفتين تنسيقيتين يفشل نظام التسعير السياسي في أدائهما. يتم تخصيص العرض المتاح بين المستهلكين المحتملين، كما يتم تقديم الكمية المعروضة لمواجهة الطلب المحتمل. وإذا تم وضع سعر سياسي أقل من سعر السوق، يتوجب عندها اللجوء لاستخدام بعض وسائل الترشيد غير السعر لضبط العملية إلا إذا تم تعديل العرض لمقابلة أي طلب يظهر. وفي هذه الحالة، سينجم عنه فاقد ضخم في القيمة الاقتصادية.
تحت ظروف الطلب المفرط، فان وسائل الترشيد اللاسعري قد تأخذ أي شكل من الأشكال المتعددة، إما منفردة أو مجتمعة. من الممكن تخصيص العرض المتاح بواسطة بعض آليات الترشيد الواضحة، على سبيل المثال بواسطة إصدار كوبونات حصص للتمكن من الشراء. أو من الممكن القيام بالتقنين بواسطة نظام آخر مختلف يأخذ بالاعتبار “من يأتِ أولا، يُخدم أولا” والتي تشمل على فترات انتظار وطوابير طويلة في المحلات. وأخيرا، يمكن ترشيد استهلاك السلع عبر وسائل التسعير الخاص. ويترتب على اختيار أي من وسائل الترشيد هذه إنشاء مؤسسة بيروقراطية لتنفيذ هذه الإجراءات، لن يكون هنالك حاجة إليها في ظل نظام تسعير السوق.
كما تبرز الحاجة إلى إقامة مؤسسات بيروقراطية أخرى عندما نتناول الموضوع من جانب تنسيق العرض. فإذا كان التعديل التلقائي لأسعار العرض كما في ظل نظام السوق غير مسموح به، يتوجب عندئذ على المنتجين، وبطريقة ما، أن يحفزوا على إنتاج كمية السلع التي تم تحديدها سياسيا. ويمكن تنظيم الإنتاج مباشرة عن طريق مؤسسات الدولة أو يمكن دعم الموردين الخاصين. وعلى أية حال، يتم تحصيل الإيرادات من مصادر أخرى في الاقتصاد وهذا التحصيل يعتمد مرة أخرى على المؤسسات البيروقراطية. أو من الممكن أن يطلب حجم الإنتاج مباشرة بالأمر، وفي هذه الحالة يخضع الموردون لضغوط بيروقراطية قسرية.
يتطلب التسعير السياسي انشاء مؤسسة بيروقراطية يكون دورها مكمل وصلاحياتها متسعة لتحقيق التنسيق المطلوب لتحقيق الأهداف. إن جميع الافراد ليس فقط بصفتهم طالبين أو مستخدمين للسلع المنتجة النهائية، ولكن أيضا بصفتهم موردين للمدخلات التي تدخل في إنتاج مثل هذه السلع، لا بد أن يخضعوا للمعاملة التمييزية للمؤسسات البيروقراطية، التي لا ضرورة لوجودها في ظل نظام السوق. وسيخلق ذلك اعتمادا كاملا من قبل المواطنين على البيروقراطية القائمة بغض النظر عن خصائص السلوك الفردي للبشر الذين يعيشون في ظل حكم البيروقراطية. وحتى لو كانت البيروقراطية في ظل هذا الوضع مثالية وعادلة، إلا أن علاقة التبعية ستستمر.
ومع ذلك، وكما تقترح نظرية الخيار العام الحديثة، فإنه من غير المحتمل أن يكون العملاء البيروقراطيون مختلفين عن الأشخاص الآخرين في المجتمع؛ ولا يتوقع بروز أنماط سلوك مغايرة. وسيسعى البيروقراطي، كما سيفعل غيره، لزيادة منفعته الخاصة للحد الأقصى، رهنا بالقيود التي تواجهه. ونظرا لأن الهيكل المؤسسي في نظام التسعير السياسي يضع الأشخاص الآخرين في علاقة التبعية، فمن غير المتوقع أن يرفض البيروقراطي عمدا أن يمارس هذه السلطة التحفظية لكي يُعظّم منفعته. إن المحسوبية، والمعامله التمييزية (الإيجابية والسلبية)، والتصنيفات التعسفية، جميعها خصائص تُميز أي نظام يضع الناس في علاقة التبعية مع بيروقراطيين بشر يتنفسون ويعيشون.
ستكون هذه الخصائص موجودة تحت نظام التسعير السياسي وإن كان لا يوجد فساد بالمعنى المفهوم للكلمة. وسيكون للبيروقراطيين الذين يمتلكون سلطة تحفظية لتخصيص أو توزيع القيمة الاقتصادية، بالتأكيد، فرصاً لتحقيق المنافع الربحية لأن السلطة التي تقوم بالتخصيص والتوزيع يصبح لها قيمة بحد ذاتها. وبالتالي سيكون هنالك علاقة طردية مباشرة بين السلطة وفرص الربح واستغلال المكاسب.
لكن مشاكل التمييز البيروقراطي لا تكمن حصرا، أو حتى أساسا، في الرشوة. فأولا، تتواجد هذه المشاكل بسبب التمييز البيروقراطي، والذي يعني أنه يجب أخذ الخيارات بين مختلف المطالبين على أسس أخرى غير القيمة المضافة. وفي هذا الصدد، يصبح إدخال التمييز البيروقراطي، الذي برز بسبب التسعير السياسي، مصدرا لعدم الكفاءة على كافة مستويات الاقتصاد. وثانيا، فإن علاقة التبعية القائمة بين هؤلاء الأشخاص الذين يمتلكون سلطة تمييزية وأولئك الواقعين تحت تلك السلطة تخلق تفرقة طبقية تعسفية. وثالثا، وربما الأكثر أهمية، فإن النقص المفتعل في ظل نظام التسعير السياسي يصبح النتيجة الطبيعية لاستثمارات مبددة اجتماعياً. ويجد الافراد أنه من المنطقي استثمار الموارد في محاولة لتأمين الوصول التفضيلي إلى مكامن القوة الاقتصادية المتأصلة في التمييز البيروقراطي. إن الارباح المتولدة من أنشطة غير منتجة والتي يحصلها أولئك الذين يتنافسون لضمان الوصول، رغم صعوبته وندرته، إلى السلع المقيّمة (مثل أولئك الذين يطلبون الخبز بسعر الصفر)، تمثل استثمارات مبددة لجمهور الأفراد غير القادرين على النجاح في الجهد التنافسي.
يجب أن يكون هناك القليل من الخلاف أو أن لا يكون هناك خلاف أصلا بخصوص التحليل الاقتصادي العلمي (القائم على الحقائق وعلاقات السببية) لتأثيرات التسعير السياسي على حجم ومجال والحدود التمييزية والنتائج السلوكية الثانوية للمؤسسة البيروقراطية. فلا يوجد نتائج معيارية موحدة يمكن الوصول إليها مباشرة من التحليل. ومع ذلك، وللدرجة التي يمكن أن يتفق عليها المحللون والمراقبون، فان الآثار الناجمة في حد ذاتها تعتبر خصائص غير مرغوبة لأنظمة التسعير السياسي، كما ان المنافع النسبية التي تدعيها مثل هذه الأنظمة مقارنة مع أنظمة تسعير السوق ليست بالأهمية. يجب الاعتراف بأن تقليل التسييس-البيروقراطية في التفاعل الاقتصادي، والذي يحققه نظام تسعير السوق، هو عامل هام في مفاضلة الحكم النهائي، علاوة على المناقشة المألوفة حول الكفاءة.
الدستور السياسي للنظام الاقتصادي

لقد أشرت لغاية الآن إلى أنظمة التسعير السياسي وتسعير السوق بدون ذكر مباشر للبنية الدستورية التي تحدد الإطار الذي يعمل من خلاله أي نظام للتفاعل الاقتصادي. إنه في غاية الأهمية التأكيد على ضرورة العمل السياسي أو الجماعي في تأسيس وصيانة بنية النظام في جميع الأحوال. إن التقليل من مدى ونطاق التمييز البيروقراطي الذي تمت مناقشته في الجزئين السابقين يشير بشكل خاص إلى وضع التفاعل الاقتصادي داخل بنية النظام، أي داخل دستور النظام الاقتصادي. وكما اقترح التحليل، فإن أسعار السوق تميل إلى التقليل من التحفظ البيروقراطي بالنسبة إلى ذلك الذي يقتضيه التسعير السياسي. لكن أسعار السوق تعمل بفعالية فقط في إطار مجموعة من القواعد والذي يجب تأسيسها أو المحافظة عليها بشكل جماعي. ولا مفر من التسييس على مستوى الخيار الدستوري.
ساقصر مناقشتي علي مجمل هذه الملامح للبنية الدستورية التي ستسمح لاسعار السوق أن تبرز وأن تعمل. ولن أقوم بمناقشة كيف يتم أخذ الخيار الدستوري الأساسي ضمن مجموعات من القواعد. أولا، يجب أن يكون هناك توزيعا منتشرا ولامركزيا للقدرات لإنتاج القيمة الاقتصادية مع اعتراف سياسي وقانوني واضح لهذا التوزيع. يجب أن تنتشر الملكية أو حقوق الملكية على نطاق واسع في التملك، في كل من الموارد البشريه والأصول غير البشريه، كما أنه يجب توفر حماية قانونية صريحة لنمط الملكية نفسها. ثانيا، يجب السماح للملاك الخواص تبادل حقوق الملكية فيما بينهم، كما يجب أن يكون هناك إنفاذ سياسي وقانوني للعقود الطوعية المعتمدة لتبادل هذه الحقوق.
وفي ظل مثل هذا النمط من الملكية الخاصة المنتشرة واللامركزية، مع الاعتراف السياسي والقانوني وانفاذ العقود، ستكون العناصر الأساسية لدستور نظام السوق في مكانها. سيتم تخصيص مصادر الموارد بين عدة استخدامات منفصلة؛ وسيتم تنظيم الإنتاج من خلال مجموعة من المدخلات؛ وسيتم إنتاج السلع والخدمات وتوفيرها وتسعيرها للمستهلكين الذين يطلبونها. لا يُطلب من أي أحد مباشرة، سواء كفرد عادي أو في موقع سياسي، الاهتمام بتفاصيل الإنتاج، أو الأنماط المستخدمة للإنتاج، في ظل تشابك عمليات السوق. هذا الناتج، أو أنماط الانتاج، سيكون محصلة التفاعل المستقل بين العديد من الأشخاص. وبهذا لا تتم عمليات التخصيص أو التوزيع نتيجة لاختيار أي طرف.
وعند هذه النقطة بالتحديد قد تكون المبالغة في التركيز على معيار الكفاءة لتقييم أداء اقتصاد السوق مضللة. ومما لا شك فيه أن الكفاءة التي تم تحقيقها بواسطة تفاعل السوق تُعرّف بمثل هذا التفاعل. وتظهر جداول القيمة وفق خيارات السوق التي أخذها جميع المشاركين؛ ولكنها لا توجد بصورة مستقلة. ولا حاجة لأن يكون هناك علاقة بين أداء اقتصاد السوق والكفاءة لتحديد جداول القيمة من قبل المخطط أو صانع القرار السياسي. وفي حالة واحدة يمكن أن تكون عبارة أبالكين صحيحة، ألا وهي عندما يرغب صانعو القرار بالسماح للسوق تحديد الكفاءة.
سيظهر نظام السوق بأنواعه في اللحظة التي يتكامل فيها وجود العناصر الأساسية. بينما من الممكن أن تمتد البنية الدستورية لتشمل قواعد أخرى أو مؤسسات من المتوقع أن تيسر عملية التبادل الشاملة. ومن الممكن أن تأخذ المؤسسة السياسية، أي الدولة في هذه الحالة، مسؤولية تحديد الوحدة النقدية للنظام الاقتصادي، كما يمكن أن تسعى للحفاظ على استقرار قيمة هذه الوحدة. كما يمكن أن يكون هناك ترتيبات مؤسساتية متخصصة تهدف إلى تشجيع القوى التنافسية، وخاصة تلك التي تعزز حرية الدخول في الإنتاج والتي تحظر الترتيبات الاحتكارية. اما المرافق العامة والسلع الأخرى المستهلكة جماعيا (على سبيل المثال حماية البيئة) تبقى ضمن سلطة الدولة، كما أنه من الممكن إدخال التشريعات الدستورية التي تُحدد الوسائل التي يتم عبرها تمويل السلع والخدمات الموردة من قبل الدولة.
البيروقراطية الدنيا واقتصاد السوق الاجتماعي
يترتب على الاهتمام والتركيز على العلاقة بين الخصائص التنسيقية لسعر السوق ونطاق التمييز البيروقراطي تأثير على فعالية التدخل السياسي الذي يتم لتعزيز الأهداف الاجتماعية. وقد يرفض صناع القرار السياسي، الذين يعملون كوكلاء للنخبة الحاكمة أو أولئك الذين يدعون انهم يمثلون الدوائر الانتخابية في الديمقراطيات، معيار الكفاءة كما هو معرّف بإجراءات اقتصاد السوق حتى وإن تم توسيع القطاع الجماعي ليشمل تمويل السلع غير المستثناة والمستهلكة جماعيا. وقد يسعى هؤلاء الوكلاء، ولذات الأسباب التوزيعية والرعائية التي حفّزت العديد من التجارب الاشتراكية في الأنظمة التي تتحكم فيها الدولة بالأمور الاقتصادية والاجتماعية، إلى استخدام السلطة السياسية لتعديل نتائج نظام السوق، ولو بشكل جزئي.
في الوقت ذاته، يمكن قبول منافع نظام السوق من حيث إنتاج قيمة اقتصادية وتقليل دور التمييز البيروقراطي. والسؤال هو كيف يمكن الإبقاء على الخصائص التنسيقية للأسواق في ظل استخدام السلطة السياسية لتعديل الأنماط التوزيعية والحصصية في اتجاه تلك الأنماط المرغوبة بشكل أكبر من قبل صانعي القرار (والمخططين)؟
افترض أنه قد تم تأسيس القواعد الأساسية لاقتصاد السوق. عندها ستصبح حقوق الملكية لامركزية ويتم إنفاذ العقود الطوعية. استرجع مناقشتي السابقة في الجزئين الثاني والثالث. إذا تم توفير الإمدادات بشكل كاف لتلبية جميع المطالب بسعر الطلب المقرر سياسيا والذي يواجه المستهلكين والمستخدمين المحتملين، عندئذ، لا تستدعي الحاجة استخدام نظام مكمل للترشيد. وإذا قبلت جميع الإمدادات المعروضة بسعر العرض المقرر سياسيا، عندئذ لا تبرز الحاجة إلى استخدام نظام لترشيد البيع بين المزودين المحتملين. وعليه، يمكن استخدام السعر لترشيد الطلب ولتنشيط العرض. ولكن، في هذه الحالة، ستغيب خاصية توازن السوق. وقد لا يكون سعر طلب السلعة للمستهلكين معادلاً لسعر العرض للمزودين. وكما اشير سابقا، تتم تحويلات في القيمة في الأسواق في ظل نظام التسعير السياسي. وإذا شجع صناع القرار السياسي المشاركين في السوق على شراء المزيد من سلعة ما غير تلك التي تُمليها خياراتهم سيحدث خلل في هيكل الأسعار في السوق بين سعر الطلب الذي تعرض به السلعة إلى المستهلكين وسعر العرض الذي يقدم للمنتجين وبالتالي ينخفض سعر الطلب عن سعر العرض. وهنا يتوجب العثور على وسائل لتمويل الفارق حتى لو حققت هذه الأسعار هدف الترشيد المطلوب.
وفي هذه الحالة، يجب أن يرغب صانعو القرار السياسي بإحداث خلل في الاتجاه المعاكس في السوق لسلعة أو سلع أخرى. ويعني هذا جعل سعر الطلب أعلى من سعر العرض في سوق سلعة أخرى (أو عدة سلع) لتوليد العوائد اللازمة لتمويل الدعم المالي للسلعة أو الخدمة المفضلة. وأسوة بما حدث في السوق الأول، يمكن استخدام الأسعار لإلغاء الحاجة إلى التمييز البيروقراطي في آليات الترشيد التكميلية. لكن هذا الاعتراف بتحويلات القيمة عبر الأسواق يفترض توازن الموازنة. وهذا يعني أن العائدات المحصلة من السلع غير المفضلة يجب أن تساوي بالضبط الدعم المالي المدفوع للمنتجين والمستهلكين للسلع المفضلة. وبالتالي يمكن تشجيع إنتاج واستهلاك سلعة واحدة؛ ويمكن عدم تشجيع إنتاج واستهلاك سلعة أخرى. ويمكن تحقيق الهدف الاجتماعي المزعوم ضمن مجموعة من القيود التي تفرضها تفضيلات المشاركين في الاقتصاد من خلال دورهم كطالبين ومزودين للسلعتين (أو مجموعة السلع).
قصة الخبز والفودكا

يمكن هنا توضيح الفرق بواسطة مثال بسيط. افترض أن صانعي القرار السياسي، مهما كانوا، قد قاموا بتعديل نتائج اقتصاد السوق الحصصية والتوزيعية من خلال طريقة محددة. قد يكون الهدف الاجتماعي المعلن تشجيع إنتاج واستهلاك الخبز وعدم تشجيع إنتاج واستهلاك الفودكا، وفي الوقت ذاته، تقليل فقدان الكفاءة والتحفظ البيروقراطي.
يحدث التفاضل التمييزي من خلال دعم إنتاج الخبز بينما تفرض ضريبة على إنتاج الفودكا. وبموجب هذه الترتيبات، سيستمر تسويق السلعتين بأسعار تُحدد سياسيا رغم أنها لا تزال تعتبر من ناحية اخرى أسعار السوق. ولكي يعمل هذا المخطط بطريقة فعالة، يجب أن يتوازن جانبا الحساب. وكذلك، يجب أن يُعدّل النظام ليتوافق مع تغير جداول الطلب والعرض للسلعتين بتأثير تغير رغبات الطالبين والمزودين. ولا يمكن لصناع القرار السياسي أن يفرضوا وببساطة وحدة ضريبة على الفودكا بشكل مستقل عن وحدة الدعم للخبز. وبالنظر إلى سلوك طالبي الفودكا والموردين، فإن أية وحدة ضريبية على الفودكا ستولد إجمالي عائدات محددة ستكون متاحة لتمويل دعم الخبز. ولكن في هذه الحالة، سيعتمد حجم وحدة الدعم على سلوك طالبي ومزودي الخبز. ولا يمكن أن يقوم صانعو القرار السياسي ببساطة باختيار أي وحدة دعم للخبز إذا كانت رغبتهم تقليل الحاجة إلى التمييز البيروقراطي في توزيع الخبز. في المقابل، يجب تحديد حجم الإنفاق على أي وحدة دعم مختارة مسبقا للخبز، وفقا لسلوك طالبي وموردي الخبز. ويثبت حجم وحدة الدعم حتى يمكن تمويل الإنفاق عليه من وحدة الضريبة على الفودكا وفقا لسلوك طالبي الفودكا والموردين.
قد يرغب صانعو القرار السياسي باختيار حلول قد تتناقض بكل بساطة مع سلوك المشاركين في الاقتصاد. على سبيل المثال، قد تتجاوز العائدات المطلوبة لتمويل دعم كامل للخبز لكي يُقدم بسعر الصفر، كما ورد في العرض السابق، خارج الحدود التي يمكن توليدها عن طريق فرض ضريبة على الفودكا. وسيفرض سلوك العرض والطلب للمشاركين في جميع الأسواق، والذي يجب السماح به بدون أي ضغط بيروقراطي، قيودا على قدرة صانعي القرار السياسي لتعديل نتائج الأسواق. ضمن هذه الحدود، فإن هيكل أسعار السوق قد يحتاج الى تعديله بشكل ملحوظ ليحقق الأهداف الاجتماعية المتوخاة.
الخاتمة
يجب أن يتم تحديد الموارد وتجميعها في أي نظام اقتصادي لإنتاج مخرجات ذات منفعة والتي بدورها يجب أن توزع على المستهلكين. فالاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يستطيع أن يحقق هذه المجموعة من المهمات بفعالية أعلى وكذلك سيولد معدلات انتاجية ذات قيمة مضافة أعلى مقارنة بالاقتصاد الذي يستند إلى خيار التخطيط المركزي. لقد كان هدفي هنا التأكيد على أهمية الميزة الطبيعية لاقتصاد السوق الحر، التي تربط نظام الاقتصاد مع الخيارات السياسية والبيروقراطية. وإذا لم يتم تخصيص الموارد وتوزيع المنتجات من خلال نظام للسوق، عندئذ يجب أن يتم إنجاز الوظائف التخصيصية والتوزيعية مباشرة بواسطة مؤسسة سياسية بيروقراطية. والنتيجة المباشرة والواضحة هنا أن السوق يحد من التدخل البيروقراطي في حياة المواطنين للدرجة الممكنة.
إلا أن هذه النتيجة لا تعني أن الأسواق أو منظومة السوق تستطيع إزالة المحددات الجوهرية المحكومة بنُدرة الموارد كمفعول السحر، إلا أنها تستطيع تقليص حدة هذه المحددات بواسطة زيادة كفاءة استخدام الموارد. ومع ذلك، ستبقى المحددات الأساسية على الموارد قائمة؛ ويكون مفعول الاسواق عليها من خلال هياكل الأسعار الموضوعية، عوضا عن التدخل التمييزي والقسري للبيروقراطية المشخصنة. أي يتم استبدال النفوذ الخاضع لتقدير أو سلطة البيروقراطية بالسلطة الموضوعية للأسعار، وما يصاحب ذلك من انعكاسات على طبيعة العلاقات بين الاشخاص.
يقلل نظام السوق من التمييز البيروقراطي، ولكنه يعمل فقط في إطار دستوري مستدام وفعال سياسيا. إن وجود العناصر الأساسية—توزع الملكية الخاصة وإنفاذ العقود—ضرورية للسماح بنشوء الأسواق وإنتاج أنماط من المخرجات تعكس أعلى قيمة لأفضليات المشاركين، كما يُعبَّر عنها من خلال سلوك السوق.
وقد لا تحصر السياسة، كيفما تعمل ومهما كانت آلية اتخاذ القرار وكيف يتم اختيار صانعي القرار، أنشطتها لتأسيس ومتابعة الإطار الدستوري بإرادتها. وقد يطلب السياسيون، بصفتهم الشخصية وكممثلين لدوائر المواطنين، تعديل بعض المخرجات التي تظهر نتيجة لتفاعلات السوق غير المسيطر عليها. قد يشارك العديد من المواطنين في تصنيف بعض السلع بأنها “تستحق التشجيع” (تسمى أحيانا “سلع الجدارة”) وأخرى بأنها “لا تستحق التشجيع” (تسمى أحيانا “سلع الإسراف”). وسيحاول أي نظام سياسي تعديل نتائج تفاعل السوق باتجاه تشجيع المجموعة الأولى من السلع ومنع المجموعة الثانية.
هناك وسائل أفضل من أخرى للتدخل في آلية عمل الأسواق إذا تم القبول بنتيجة تخفيض التمييز البيروقراطي وتحسين الكفاءة. وقد تُعزَّز أهداف اقتصاد السوق الاجتماعي بواسطة التخطيط لآليات الضرائب والدعم المنتقاة بطريقة متوازنة تستجيب لسلوك العرض والطلب للمشاركين.


الاقتصاد السياسي للتحول الى اقتصاد السوق
بوريس ميلنر[2]
القرارات السياسية وقرارات السوق
لقد قمت بقراءة ورقة جيمس بيوكانن بمزيد من الاهتمام. إن تحليله الواضح والاصيل والحيادي لآليات التخطيط المركزي واقتصاد السوق يفوق المقارنات المماثلة، ليس فقط لتعمقه في الموضوع، بل أيضا بسبب جدة فرضياته واستنتاجاته.
الفرضية الأساسية للورقة هي التفسير الموسع لكفاءة اقتصاد السوق. لقد تم توسيع نطاق المعايير المألوفة المتعلقة بإنتاج السلع (العوامل المحفزة للاطراف الاقتصادية الفاعلة، التوافر التام للمعلومات في ظل نظام لامركزي، والبيئة المواتية لتوليد القدرات الخلاقة والمبدعة) من قبل بيوكانن ليضيف عليها ويتناول بالتحليل تأثير عامل مهم آخر هو: العلاقة بين القرارات السياسية وقرارات السوق.
وأعتقد هنا أن المبدأ الذي صاغه في غاية الأهمية:
“إن الاقتصاد الذي يستند إلى مبادىء حرية السوق يقلل بشكل ملحوظ من عدد القرارات الاقتصادية التي يجب أن تؤخذ لاعتبارات سياسية من قبل مؤسسة ما تمثل الوحدات الجماعية. وبتعبير عملي آخر، فبالإمكان القول إن الاقتصاد الذي يستند الى مبادىء حرية السوق يقلص من حجم وأهمية البيروقراطية السياسية.”
إن هذه النتيجة المستخلصة صحيحة بوجه عام، عند تساوي المعطيات الأخرى، في الكيفية التي يعمل بها بشكل متواز نظامان اقتصاديان—نظام التخطيط المركزي ونظام السوق—وفق خصوصية كل منهما وحسب قواعد السلوك الخاصة بهما.
الانتقال من اقتصاد التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق

تبرز الحاجة إلى مزيد من التحليل في حالة الأنظمة المتحولة التي تستبدل الآليات التوظيفية لنظام بنظام آخر. وهنا يجدر الأخذ بعين الاعتبار بعض الخصائص التي تُميز الفترة الانتقالية للتحول إلى السوق، والتي يمر بها حاليا اقتصادنا (أي اقتصاد الاتحاد السوفييتي السابق).
الخاصية الأولى هي تفرد ميزة التحول بحد ذاتها؛ ولذلك نعاني من نقص في النظريات والإجراءات الممكن للدولة اتباعها في المرحلة الانتقالية، واستحالة التعلم مباشرة من التجربة التاريخية المتاحة. إن هذه الفترة الانتقالية فريدة من نوعها نظرا لعدم إضطرار أي دولة أخرى في العالم أن تتوجه نحو السوق الحر من خلال تفكيك البنية الهرمية الاحتكارية الكبرى لمنتجي وموزعي السلع التجارية، تلك البنية التي أقيمت بجهد كبير وعلى مدى عقود عديدة. لا يوجد تجربة مماثلة لبلد في العالم اضطر أن يُغير قواعد السلوك لنظامه الاقتصادي، وهو في طريقه للتحول إلي اقتصاد السوق الحر، بتفكيك كافة الروابط الإدارية المتأصلة والعلاقات القائمة على أسس غير اقتصادية وفي وقت قصير. ولم يضطر أحد أثناء التحول نحو اقتصاد السوق الحر لأن يتغلب على عقلية الهيمنة والخضوع التي اخترقت عقول الملايين بعمق عبر ما لا يقل عن ثلاثة أجيال وأصبحت لهم بمثابة النمط الطبيعي. وعليه، نجد أن المهمة معقدة بدرجة يصعب تصديقها، كما أن الحاجة متواصلة للاختيار بين العديد من الاحتمالات، مع بروز مثبطات لا مفر منها تبطىء التغيير، وضرورة العمل للتغلب على العقبات. إضافة إلى ذلك، فان البحث عن حلول لهذا الوضع لا يمكن الوصول إليه من خلال وصفات جاهزة. كما أنه لا يمكن توقع جميع التفاصيل والعلم بكافة الخلفيات أو تجنب أي خطأ أو سوء تقدير غير متوقع.
وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن الركون الى أن العلاقة بين الإدارة البيروقراطية (“التسعير السياسي”) وآليات السوق ستكون مستقرة في جميع الأوقات. إن تحرير الأسعار سيأخذ وقتا؛ وخاصة أننا نعتمد الاسلوب المتدرج (خطوة خطوة) لتحرير اسعار العديد من السلع.
لا يسع المرء إلاّ أن يلاحظ خاصية أخرى لهذه المرحلة: إن بناء العلاقات الاقتصادية الجديدة يتم إطلاقه وتنفيذه بدرجة أقل من خلال الاعتماد على آليات التطوير التلقائية المنبثقة “من الأسفل” من خلال الأطراف الاقتصادية الفاعلة الأساسية، وأكثر “من الأعلى”، إذ تقوم السلطات المركزية والجمهورية والإقليمية بدور مزدوج فهي تفكك التركيبة الإدارية القديمة وتأسس للتحول إلى اقتصاد السوق الجديد.
وباستعمال تعبير بيوكانن، يجب أن تؤدي هذه العملية إلى خلق “دستور سياسي اقتصادي”. ولهذا السبب يبدو لي، فيما يتعلق بالظروف الحالية التي تشهدها عملية التحول إلى اقتصاد السوق، أن الفقرة التالية من ورقة بيوكانن يجب اعتبارها بالغة الأهمية: “أسعار السوق تعمل بفعالية فقط في إطار مجموعة من القواعد والذي يجب تأسيسها أو المحافظة عليها بشكل جماعي. ولا مفر من التسييس على مستوى الخيار الدستوري.”
في هذا الإطار سيتم البحث عن أجوبة للأسئلة التالية: (أ) كيفية تقليل التأثير السياسي على الروابط والعلاقات الاقتصادية، (ب) كيف ستعمل مؤسسات الدولة التنظيمية في إطار اقتصاد السوق، و(ج) كيفية إجراء الانتقال من العلاقات الرأسية إلى الأفقية.
هناك طريقتان أساسيتان: (أ) أن تبرز المؤسسات السياسية وتحدد وظائفها من داخل اقتصاد السوق لخدمة مصالح القطاع الحر؛ (ب) أن تُغير الهياكل الحكومية طبيعتها المستندة إلى العلاقات غير المستمدة من السوق والتخصيص المركزي للموارد وتتحول إلى مؤسسات سياسية لخدمة مصالح السوق.
لا يمكن لهذه الطرق أن تنجح بمفردها، حيث أننا نتعامل مع نظام واسع ومعقد جدا ومتشعب من الارتباطات الإدارية والترتيبات الهيكلية التي تجذرت بشكل مدروس وثابت. ولهذا السبب بدأت عمليات الانتقال من خلال عدة قنوات للتحول إلى بنية حكومية جديدة مع ظهور الأطراف الاقتصادية العاملة في آن واحد والتي يجب أن تنمو معا.
إن أحد الأهداف هو إزالة تركيبة البنية المتكيفة مع “العلاقات غير المستندة إلى اقتصاد السوق” وخلق الحد الأدنى لبنية أخرى جديدة. ويمكن اللجوء إلى اتجاه آخر يتمثل في تأسيس بنية متوازية ويتم من خلالها الاستبدال التدريجي للمؤسسات القديمة بأخرى جديدة. وعلاوة على ذلك، هناك طريقة تحويل البنية الحكومية إلى الاطراف الاقتصادية العاملة التي تنشط في ظل سوق حر وتدار على أسس ديمقراطية.
هناك طرق أخرى ممكنة، ولكنه من الواضح مسبقا أن الفترة الانتقالية محتّمة، مع وجود كل من البنية القديمة والجديدة معا وجنبا إلى جنب مع قيام الجديدة بتهميش القديمة بتجذر علاقات السوق وتطورها وكذلك مع تجمع قوة كافة الاطراف الاقتصادية العاملة في اقتصاد السوق—الشركات، والمصالح المختلفة، والاتحادات، والجمعيات الاقتصادية، والشركات المساهمة، وبورصات الاسهم والسلع، والوسطاء التجاريين، والمشاريع الصغيرة العاملة في مختلف القطاعات.
إن عملية الانتقال تعني تطوير ظروف مختلفة من شأنها، كما يؤكد بيوكانن، إلغاء الحاجة إلى القرارات السياسية المتعلقة بتثبيت الأسعار السياسية وتخصيص الموارد المتاحة بين المستهلكين المحتملين و”تمويل” إنتاج السلع التي تم تخصيصها.
تحول الحكومة
يتم أثناء فترة التحول تقليص هيمنة ومهام الحكومة المركزية. وتصبح وظائفها منحصرة في المقام الأول على الإشراف على أنشطة السوق—ومثال ذلك، التنظيم الإداري المحدود؛ الرقابة على النظم المالية والائتمانية والضريبية؛ والحفاظ على شبكة الأمان الاجتماعي. وتصبح القوة الاقتصادية في المركز مجموع التفويضات المخولة لها من قبل بقية الجمهوريات.
وضمن إطار تجميع هذه القوة التي تم تأسيسها بالاتفاق، تمارس الحكومة المركزية سلطاتها في الإشراف على جميع أملاك اتحاد الجمهوريات وموارده المالية وبرامجه الاقتصادية، بما يضمن الدرجة القصوى من التنسيق في تنفيذ الإصلاح. وفي إطار هذه العمليات التي تستهدف مأسسة التحول إلى اقتصاد السوق، يصبح من الضروري التأكيد باستمرار على “أهمية الميزة الطبيعية لاقتصاد السوق الحر التي تربط نظام الاقتصاد مع الخيارات السياسية والبيروقراطية،” كما يفعل بيوكانن.
إن الصيغة التي قدمها بيوكانن متصلبة وتفيد بأنه: “إذا لم يتم تخصيص الموارد وتوزيع المنتجات من خلال نظام للسوق، عندئذ يجب أن يتم إنجاز الوظائف التخصيصية والتوزيعية مباشرة بواسطة مؤسسة سياسية بيروقراطية. والنتيجة المباشرة والواضحة هنا أن السوق يحد من التدخل البيروقراطي في حياة المواطنين للدرجة الممكنة.”
في المرحلة الانتقالية تخرج المؤسسات التي لها سلطة بيروقراطية مباشرة على المنشآت والمشاريع التجارية من المسرح؛ كما تنتهي مرحلة خضوع الاطراف الاقتصادية العاملة وتظهر مؤسسات مختلفة النوعية: خزينة للدولة، إدارة لمساعدة المشاريع الصغيرة، مجلس لمحاربة الاحتكار. وهنا تبدأ عملية واسعة لإعادة الهيكلة والتنسيق وتحول بُنية المؤسسات الحكومية ووظائفها. وهذه هي العمليات التي تفتح الطريق باتجاه تأسيس علاقة جديدة بين نظامي التسعير السياسي والاقتصادي، وكذلك باتجاه تقليص التدخل الحكومي في تحديد الأسعار. وعليه، إذا كنا نتحدث عن “أسعار سوق تتأثر سياسيا” فنحن ننطلق من الفرضية القائلة بأن الأسعار تتأثر بالسياسات الاقتصادية العامة وكذلك بسياسات الحكومة التي تؤثر على السعر: الاقتطاعات من الربح أو العوائد والضرائب والتعرفة والدعم وهكذا. ولكن كيف من الممكن أن ينتقل أحدنا إلى مثل هذا النظام في ظل الظروف الخانقة لأزمة اقتصادية صعبة؟
مشكلة التسعير
يتم حاليا تدارس ثلاثة طرق متباينة لمعالجة مشكلة التسعير اثناء عملية الانتقال الى اقتصاد السوق:
1. عملية الانتقال يجب أن تبدأ بإصلاح عام للأسعار (ترفع الأسعار لمرة واحدة مع تعويض دخول المواطنين على ذلك).
2. يتم إصلاح الأسعار بعد استقرار الأنظمة المالية والائتمانية والدورة النقدية وبعد إنهاء احتكارات الحكومة.
3. يتم التحول إلى نظام تحرير الأسعار تدريجيا بأسلوب الخطوة خطوة ومن غير قرارات إدارية تفرض رفع الأسعار.
وهكذا يجب أن تأخذ الفترة الانتقالية في الاعتبار هذه الطرق والتي تخضع لطبيعة ودرجة “التأثير السياسي على أسعار السوق”. ولقد أصبحت هذه المعايير متغيرة وديناميكية. وهناك خيارات عديدة ممكنة من ضمنها عدة حلول وسطية.
ولكن، ما هي العوامل المميزة والهامة لإحداث مثل هذا التأثير؟ من الممكن اعتبار الآتي:
 تنسيق السياسات المالية والائتمانية وسياسات العملة والضرائب؛
 التنظيم التشريعي للنشاطات الاقتصادية والمشاريع الخاصة وتشجيع التنافس وحماية المستهلك والبيئة؛
 خلق بنية تحتية لاقتصاد السوق؛
 تقليص عجز موازنة الحكومة بدرجة ملحوظة وربط الموارد المالية الفائضة؛
 الربط العضوي لعملية الانتقال إلى تسعير السوق بإزالة كافة الاحتكارات المسيطرة على نظم العلاقات الاقتصادية فيما بين المؤسسات والمنظمات والمواطنين.
مسألة الحماية الاجتماعية

تُصمم برامج موجهة خصيصا لتخفيف وطأة الإصلاح الاقتصادي وتوفير الحماية الاجتماعية للمواطنين. إن السكان شديدو الحساسية لبرامج الإصلاح مع قلقهم في مدى قدرتهم على ضمان الاحتفاظ بالحد الأدنى من مستوى المعيشة في ظل هذه البرامج.
في يومنا هذا، يتم التحول إلى اقتصاد السوق في خضم أزمة اقتصادية عميقة وروابط اقتصادية متحللة وعدم استقرار سياسي وتوترات عرقية إضافة إلى وجود بيئة اجتماعية ونفسية غير مواتية.
إذا كان الثمن المطلوب للإصلاح فوق طاقة احتمال المواطنين، فهناك احتمال كبير جدا بظهور حركات الاحتجاج بأشكال مختلفة وبروز مقاومة متنامية ضد إعادة هيكلة الاقتصاد. الأسعار والحوافز، الاسعار والبيئة الاجتماعية، تلك ستكون في مقدمة المشكلات طوال الفترة الانتقالية للتحول إلى اقتصاد السوق.
ملاحظات:

[1] من الممكن بالطبع أن تكون عدم الكفاءة الإدارية في التوزيع كبيرة جدا لتجعل الأسعار الشمولية لمثل هذه السلع أعلى من أسعار السوق الحرة وبالرغم عن قصد المخططين.
[2] نائب مدير المعهد الاقتصادي للأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 7 أيلول 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

إن إحدى المسائل الأكثر أهمية بالنسبة للأمريكيين هي كيفية التحكم بتحديد أسعار أدوية الوصفات الطبية وخصوصا بالنسبة لكبار السن الذين يعتمدون على تغطية التأمين الصحي “الميدي كير”. بعض المدافعين عن هذه السياسة يحثون الحكومة الفيدرالية على أن تقوم بالتعاقد بشكل مباشر مع شركات صناعة الأدوية لشراء الأدوية الخاصة بكبار السن وفق أسعار يتم تثبيتها من قبل الحكومة. وبالرغم من سمو نوايا هؤلاء المدافعين فان التحكم في مثل هذه الأسعار قد يكون ضارا بصحة الأمريكيين المستقبلية.
عندما يتم ضبط الأسعار دون المستويات الطبيعية فقد تقوم موارد هذه الصناعة كالمواهب المخترعة ورؤوس الأموال الخاصة بالمستثمرين بهجر هذه الصناعة سعيا نحو عائدات افضل في مكان آخر، الأمر الذي يعني بأنه سوف يكون هنالك اكتشافات واختراعات اقل، كما ستكون الأدوية الجديدة التي سوف تتاح أمام المستهلكين اقل عددا. وفي غالب الأحيان سوف يحدث مثل هذا التغيير على مدى فترة طويلة، أطول من مدة المنصب الذي يتولاه أي صانع سياسة. وهكذا فانه لأمر هام وحيوي أن يتم تذكير صناع السياسة بالتأثير الذي ينتج عن تحديد الأسعار حينما يتم عرضه كسياسة حكومية.
تمزيق أوصال العرض والطلب
يعتبر تحديد أسعار السوق من خلال التفاعل الديناميكي بين العرض والطلب بمثابة لبنة البناء الأساسية للاقتصاد. فأفضليات المستهلك بالنسبة لأي منتج هي التي ستحدد مقدار ما سيقوم بشرائه وفق سعر معين. فالمستهلكون سيقومون بشراء منتج ما بمقدار اكبر عندما ينخفض سعر ذلك المنتج، ويتساوى جميع المستهلكين على هذا الأمر. وبدورها تقوم الشركات بتحديد ما سترغب في عرضه وفق أسعار متباينة. وعموما، في حال رغبة المستهلكين بدفع سعر أعلى بالنسبة لإحدى المنتجات، عندئذ سوف تحاول المزيد من الشركات الصانعة بإنتاج ذلك المنتج وبزيادة سعة إنتاجها كما ستقوم بإجراء الأبحاث اللازمة لتحسين ذلك المنتج. وهكذا، فان الأسعار المرتفعة المتوقعة سوف تؤدي إلى زيادة في عرض السلع وسينتج عن هذا التفاعل الديناميكي سعر متوازن في السوق حيث يتم التفاعل بين المشترين والبائعين بكل حرية وسيكون السعر الناتج سببا في التساوي المحكم بين الكمية المطلوبة للمستهلكين والعرض الذي يقدمه البائعون.
ولكن عندما تتبنى الحكومة عملية التحكم في الأسعار سوف تقوم بتحديد سعر المنتج في السوق وستفرض بان يتم عقد كافة الصفقات التجارية أو نسبة كبيرة منها وفق ذلك السعر بدلا من السعر المتوازن الذي يفرضه التفاعل الذي يتم بين العرض والطلب. وبما أن العرض والطلب يتغيران استجابة لأذواق المستهلكين والتكاليف إلا أن السعر الذي تفرضه الحكومة سوف يتغير فقط بعد عملية سياسية طويلة وسوف لن يكون سعر الحكومة سعرا متوازنا على الإطلاق، الأمر الذي يعني بان سعر الحكومة سوف يكون إما مرتفع جدا أو منخفض جدا.
وعندما يكون السعر مرتفع جدا فسوف يكون هناك كميات هائلة من المنتج المعروض للبيع عند مقارنته مع ما يريده الأفراد، وهذا هو حال الوضع بالنسبة للعديد من برامج المزارع الأمريكية والأوروبية حيث تقوم الحكومات، في جهودها لزيادة إنتاج المزارع، بشراء الإنتاج الذي لا يرغب به المستهلكون، وهذا بدوره يعمل على تشجيع المزارعين على تربية المزيد من الأبقار وتحويل المزيد من الأراضي إلى مراعي أو أراضي للغلال. وبالرغم من ذلك، فان الأسعار المرتفعة لا تعمل على تشجيع المستهلكين على شراء منتجات المزارع، الأمر الذي يؤدي إلى وجود فائض في العرض (مثل “جبل الزبدة”). فالحكومة، عندئذ، تعمل على تفاقم هذه الأوضاع من خلال الاستمرار في شراء فائض المحصول وفق السعر الذي تم وضعه.
هناك أيضا مشاكل خطيرة تنتج عندما تقوم الحكومة بتثبيت الأسعار دون مستوى التوازن، الأمر الذي يجعل المستهلكين يرغبون في شراء المزيد من المنتج بشكل اكبر مما يقوم المنتجون بعرضه. فعندما قامت الحكومة الفيدرالية بتقييد سعر البنزين الذي ازداد ارتفاعا في أعوام السبعينيات من القرن الماضي تشكلت عند محطات الوقود طوابير طويلة من السيارات وقد حصل على مقدار ضئيل من البنزين فقط أولئك السواقين الذين انتظروا لساعات طويلة في طابور الانتظار.
وفي كلتا حالتي ضبط الأسعار الحكومية، سوف ينتج عن ذلك فقدان خطير للرخاء الاقتصادي نظرا لعدم بيع سلعا كافية. ويتم تعريف الفرصة الضائعة الخاصة بخلق فائض من المنتجين والمستهلكين لهذه المبيعات بأنها “ضياع الوزن الكلي” نظرا لان الدخل المتوقع منها هو الذي سوف يضيع والى الأبد. وبالإضافة إلى حدوث فقدان في الوزن الكلي، سوف يعمل السعر المرتفع بشكل مصطنع على تحويل الأرباح من المستهلكين إلى المنتجين وان هذه الأجور، في اغلب الأحيان، سوف تضيع نظرا لقيام المنتجين بإنفاقها على تشكيل جماعات ضغط وعلى أنشطة مؤثرة أخرى للحفاظ على الأسعار التي تم فرضها بالقانون. أما في حالة السعر المنخفض، فسوف يقوم المنتجون بتحويل الأرباح إلى المستهلكين. ومن خلال التنافس على الحصول على كميات محدودة من المنتج الذي تم التحكم في تحديد سعره فمن الجائز أن يقوم المستهلكون بفقدان ما سوف يكسبونه بعد الحصول عليه وفق السعر المنخفض. وعلى سبيل المثال، ربما قام أولئك الأفراد الذين انتظروا في أعوام السبعينيات من القرن الماضي في طوابير البنزين عند محطات الوقود بتكبد تكاليف كبيرة من جراء الوقت الذي أضاعوه في الوقوف في الطوابير تعادل ما قاموا بتوفيره من سعر البنزين الذي تم تحديد سعره. (ويقول الباحثان روبرت ديكون وجوب سونستيلي بان طوابير البنزين قد كلفت المستهلكين مبالغ اكثر مما قاموا بتوفيره من أسعار البنزين التي تم تحديدها). وهكذا فان الأسعار المنخفضة بشكل مصطنع لم تضر فقط بالمنتجين بل قامت بإيذاء المستهلكين أيضا.
تحديد الأسعار تاريخياً
عندما تقوم الحكومة بخفض سعر سلع رائجة بين الناس فسوف تكسب تعاطف أصوات الناخبين وكذلك الدوائر الانتخابية، كما ستكسب الحكومة التعاطف من جانب جماعات الضغط وكذلك الشركات عند رفع الأسعار بغرض تشجيع الجو الصحي للصناعات. وبافتراض بان القيام بهذه الأشياء سوف يفيد صناع السياسة فإننا سوف لن نندهش إذا علمنا بان تحديد الأسعار يعتبر أمرا شائعا عبر تاريخ الاقتصاد في الدول الغربية.
الخبز والثـــورة. في أوائل القرن العشرين قام عالم الاقتصاد هنري بورن بتدوين التأثير الذي أحدثه تحديد الأسعار على فرنسا في الأعوام التي أعقبت الثورة الفرنسية عندما وجد سكان مدينة باريس بان من الصعب عليهم شراء الحنطة. لم يكن النقص في مادة الحنطة يعود إلى أية مشاكل زراعية، حيث كتب بورن بان فرنسا في العام 1793 كانت أمة زراعية مزدهرة قادرة على إطعام نفسها. وبدلا من ذلك، كان التهديد بالمجاعة يعود إلى مشاكل حدثت في الشراء والتوزيع الداخلي التي خلقتها الحكومة. فعلى سبيل المثال، قام وكلاء في مدينة باريس وكذلك النخبة العسكرية والحكومة بالتنافس فيما بينهم على شراء الحنطة مما أدى إلى حدوث نقصان محلي في هذه المادة لم يكن قد حدث مثله في السابق إطلاقا، الأمر الذي أدى إلى قيام بلبلة اجتماعية.
وفي محاولة منها لإرضاء جمهور الناس، قررت مدينة باريس تقديم دعم حكومي لمادة الطحين مما عمل على تشجيع الخبازين من البلدات المجاورة على السفر إلى باريس لشراء مادة الطحين والذي أدى إلى المزيد من النقصان في هذه المادة في المدينة.
وقد حاول المؤتمر العام الفرنسي الذي كان يحكم الشعب الفرنسي في ذلك الوقت التعامل مع هذه المشكلة من خلال تثبيت الحد الأعلى لأسعار الحنطة وإصدار التعليمات إلى المزارعين لتوريد هذه المادة إلى الأسواق المحلية. وكما سوف يتوقعه المرء، لم يتعاون المزارعون مع القانون الجديد فكانت الأسواق خالية من مادة الحنطة وحدث المزيد من النقصان في هذه المادة وأخفقت الحسابات الرسمية التي كانت مرصودة لتوريدات الحنطة في الإبقاء على المخزون ومتابعته واستمرت القلاقل في المدن. وكتب بورن انه في العام 1793 اصدر المؤتمر العام قانونا آخر تم بموجبه تمديد الحد الأقصى للأسعار ليشمل توريدات أساسية أخرى من مادة الحنطة. وقد عمل تحديد الأسعار هذا والمقترن مع مطالبة وفساد الحكومة على خلق فوضى في الاقتصاد الفرنسي. واستجاب التجار لذلك من خلال إجراء خفض في جودة بضائعهم كما ازدهرت السوق السوداء. كما كتب بورن قائلا: “لقد كان التاجر الأمين هو الضحية لهذا القانون. فقد رفض أنداده الحريصون أن يستسلموا. فعمل الجزار، عند قيامه بوزن اللحم، على إضافة المزيد من “النتاتيف” بشكل اكبر مما كان يضيفه من قبل وقام أصحاب المحلات التجارية الآخرون ببيع سلع من النخب الثاني وفق الحد الأعلى (للأسعار). واشتكى عامة الناس لكونهم يشترون عصير الأجاص مقابل الخمر وزيت الخشخاش مقابل زيت الزيتون وعشبة الدردار مقابل الفلفل ومادة النشا مقابل السكر.”
أمثلة من القرن العشــرين. قدّم القرن الماضي الكثير من الأمثلة على المشاكل الاقتصادية التي نجمت عن تحديد الأسعار في أوروبا الشيوعية. وقد أورد العالم الاقتصادي ديفيد تار بعضاً من هذه المشاكل في دراسته حول توزيع أجهزة التلفزيون المنتجة محليا في بولندا الشيوعية. ونظرا لإبقاء الحكومة البولندية على أسعار أجهزة التلفزيون وفق سعر منخفض بشكل مصطنع فقد تفوق الطلب على العرض إلى حد كبير وأصبحت أجهزة التلفزيون نادرة الوجود. وقد كان على المستهلك الذي يرغب في شراء جهاز تلفزيون أن يقوم بالتوقيع على قائمة انتظار وكان على المستهلك، في اغلب الحالات، أن يقوم بزيارة المعرض التجاري كل يوم للحفاظ على مكانه على قائمة الانتظار. وقام تار بعملية حساب للتكلفة الاجتماعية التي يتحملها الطابور الخاص بشراء أجهزة التلفزيون فكانت قد بلغت عشرة أضعاف حجم “ضياع الوزن الكلي” وان تكلفة تحديد أسعار أجهزة التلفزيون بالنسبة للاقتصاد البولندي كانت اكبر من المبيعات الإجمالية لهذه الصناعة.
وفي أعوام الثمانينيات من القرن الماضي، قام وزير المالية في اليابان بتنظيم رسوم وأتعاب السمسرة (الوساطة المالية) وحظر على شركاتها أن تقوم بالمنافسة على الزبائن وفق ذلك الأساس. ومع ذلك، حسبما كتب العالمان في الاقتصاد كيفن هيبنر ويونغ بارك، كان لعدد كبير جدا من زبائن الشركات أهمية قصوى كما كانوا مربحين بالنسبة لصناعة التداول بالأوراق المالية. وقد وجدت هذه الصناعة طرقا أخرى، قد تكون فاسدة، بغرض المنافسة بين الشركات التجارية. وقد كانت هناك شركات أوراق مالية تضمن لمستثمري الشركات بان يتم تحقيق مبالغ معينة لهم كحد أدنى من العائدات وبقيامها، بكل فعالية، بتعويض العميل في حال حدوث هبوط في الاستثمار بالنسبة للقيمة. كما قامت شركات الأوراق المالية بتمويل هذه الممارسة المكلفة من الأرباح التي كانت تكسبها من الأجور التي تم تثبيتها من قبل الحكومة والخاصة بتقديم خدمات السمسرة للزبائن الكبار والصغار. ومن هنا فان مؤسسات الأوراق المالية عملت على تدوير برنامج تحديد الأسعار ليصبح برنامج تحويل يعمل على انتقال الموارد من المدخرين المنزليين إلى مستثمري الشركات الكبار.
فعندما تقوم الحكومة بمنع الشركات من التنافس على الأسعار فان تلك الشركات سوف تتنافس على أية نواحي تكون مفتوحة أمامها. وفي حقبة تنظيم الخطوط الجوية الأمريكية التي قام خلالها مجلس الطيران المدني بتثبيت الأسعار، حاولت شركات الخطوط الجوية جذب الزبائن من خلال تقديم الطعام والمقاعد الخالية والسفرات المتكررة وقد يكون هذا الشكل من المنافسة مكلفا كالتنافس على الأسعار. وبالرغم من ارتفاع الأسعار والحماية من دخول مشتركين جدد في هذا المجال فان الشركات الناقلة القائمة عندئذ قامت بالتنافس مستخدمة الأجور التي تتقاضاها ولم تكن تجني من ذلك أرباحا عالية.
تحديد الأسعار في الوقت الحالي
بالرغم من التاريخ المزعج لتحديد الأسعار، استمرت الحكومة في اتباع هذه الممارسة وقامت في بعض الحالات بتمويه هذه السياسات باستخدام برامج تسعير مدروسة إلا أنها أدت إلى حدوث مشاكل خطيرة للمنتجين والمستهلكين.
تحديد الإيجارات. يقدم تحديد الإيجارات مثالا تقليديا على التشوهات التي تنجم عن تحديد الأسعار. هناك عدد كبير من الأشكال المتنوعة من تحديد الإيجارات لكنها جميعا تأخذ شكل الأسعار التي هي دون مستوى السوق والتي قد تم فرضها بالقانون بالنسبة للإسكان الاستئجاري. وقد تم تدوين نتائج ذلك بشكل جيد كما تم استغلالها بشكل جيد. أولا، فقد تم حدوث نقص في وحدات الإسكان المعروضة للإيجار بما أن المالكين اصبحوا اقل اهتماما في تأجير أملاكهم وفق أسعار دون مستوى السوق. وعوضا عن ذلك، اختار المالكون أن يسكنوا هم أنفسهم في الوحدات المعروضة للإيجار أو قاموا بتأجيرها إلى أقاربهم أو بيعها.
وقد أدى هذا النقص في الوحدات السكنية إلى مجموعة من التشوهات ذات العلاقة، فعلى سبيل المثال، نظرا لوجود طابور من الأفراد لديهم رغبة في استئجار كل شقة من الشقق الإسكانية وان المالكين غير مسموح لهم بالتمييز القائم على الأسعار، قام المالكون بالتمييز وفق أي جانب من الجوانب التي يرضون بها هم. ربما يقوم المالكون بطلب دفعات غير معلنة من المستأجرين أو قد يطلبون من المستأجرين تقديم “بدل خلو” كي يتم التوقيع على عقد الإيجار. إضافة إلى ذلك، سيكون لدى المالكين حافز اقل يدفعهم نحو صيانة شققهم كما سيكون هناك المزيد من الصعوبة أمامهم في التعويض عن تكاليف التحسينات التي قاموا بها بفضل السعر الذي قامت الحكومة بتثبيته، وفي نفس الوقت سيكون هناك طلبا قويا على الشقق بغض النظر عن حالتها. ونتيجة لذلك سوف تهبط نوعية وجودة قطاع الإسكان وقد يصبح هذا المجال جاذبا لسكان اقل ثراء، الأمر الذي يضر بتجارة الأحياء السكنية وسيكون توفير اسكانات جديدة اقل ربحا من ناحية الإنشاءات إذا قامت الحكومة بتحديد أسعار الإيجارات، وهكذا، سيكون هناك عدد اقل من المستثمرين الذين سيدخلون في هذا المجال وسيحدث بطء في النمو الاقتصادي.
الرعاية الصحية “ميدك إيد” والأدوية. في العام 1990 أصدرت الحكومة الفيدرالية قانونا تم بموجبه تحديد مستويات أسعار جديدة يجب على حكومات الولايات أن تقوم بدفعها مقابل الأدوية التي تقدمها الرعاية الصحية “ميدك إيد”، وقد تباينت هذه الأحكام وفق تباين الأدوية، إلا انه في بعض الحالات كان من حق “ميدك إيد” أن لا تدفع اكثر من الحد الأدنى لمستوى الأسعار الذي تفرضه شركة الدواء على أي زبون آخر.
قد يبدو مثل هذا البرنامج معقولا إلا انه يعمل على تشويه الحوافز الدافعة في سوق الأدوية. تقوم “ميدك إيد” باستخدام شبكة من سلسلة مؤسسات وصيدليات مستقلة قائمة فعليا بغرض توزيع الأدوية على أعضائها إلا أن عدداً كبيراً من هذه المؤسسات ليست لديها مقياس تدرج في المساومة خاص بأسعار جيدة، كما انه ليس لديها سيطرة للتأثير على الأطباء الذين يقدمون الوصفات الطبية. وفي مثل هذه الظروف، من الطبيعي أن لا تحصل على السعر الأقل السائد في السوق والذي يذهب إلى كبار المشترين والى تابعي منظمة الرعاية الصحية أو آخرين لديهم القدرة على “تحريك حصة السوق”.
وعندما وجدوا بان عليهم أن يقوموا بتقاضي أجور من “ميدك إيد” وفق الحد الأدنى من الأسعار التي تقدم لأي زبون آخر عملت شركات الأدوية على خفض مقدار الحسومات. وقد نتج عن القانون المذكور زيادة في نفقات الدواء بالنسبة لكثيرين من مشتري القطاع الخاص لان شركات تصنيع الدواء حاولت أن ترفع الأسعار فوق أسعار المبيعات الحكومية.
فشل السوق
أحد الأسباب التي دعت الحكومة للجوء إلى تحديد الأسعار هو أن تضمن بان يتم بيع السلع والخدمات وفق سعر “عادل”. وضمن وضع يتوفر به عدد كبير من المستهلكين الذين لديهم اطلاع جيد والذين يشترون سلعهم من عدد كبير من البائعين لديهم القدرة على تطوير سمعة تجارية بالنسبة للجودة العالية أو المنخفضة، فان عمل السوق الحر سوف يعمل بشكل جيد، كما سيكون سعر السوق سعرا “عادلا” ويعود ذلك إلى التنافس بين المبتكرين وبين المشترين. ومع ذلك، هناك مناسبات معينة يتم بها إحباط الداخلين في هذا المجال أو قد تكون المعلومات المتاحة لفرد واحد أو اكثر معلومات ضئيلة.
في مثل هذه الحالات، يجوز للحكومة أن تقوم بفرض تحديد للأسعار في محاولة منها لحماية المواطنين من الاستغلال. قد يحدث مثل ذلك إذا كان على المرضى مثلا اختيار الأدوية دون طلب مساعدة الأطباء. في مثل هذه الحالة، قد يحتاج المرضى إلى حماية الحكومة ضد الأسعار المرتفعة بالنسبة للأدوية الخاطئة. لقد عمل نظام الرعاية الصحية الحديث الخاص بنا على إزالة هذا القلق من خلال توظيف أطباء وصيادلة ولجان متفق عليها لهم إلمام بذلك ولهم تأثير على الاختيار الصحيح للدواء.
“إن سعر السوق لأية سلعة معينة سيكون من النادر أن يستمر لمدة طويلة دون مستوى سعرها الطبيعي مع انه قد يستمر لمدة طويلة اكثر من المتوقع. ومهما يكن الشيء الذي تم دفع سعره بشكل اقل من السعر الطبيعي فان الأشخاص الذين تأثرت مصلحتهم بهذا السعر الأقل سوف يشعرون فورا بالخسارة وسيقومون في الحال بسحب إما تلك الأرض أو أولئك العمال أو تلك الحصة بحيث لا يتم استخدامها بشكل يعمل على زيادة الكمية التي تم جلبها إلى السوق عما يكفي من العرض للوفاء بالطلب. وبناء على ذلك، سوف يرتفع سعرها في السوق في وقت قريب ليصل إلى السعر الطبيعي وهذا هو، على الأقل، ما سيكون عليه الحال مع وجود الحرية الكاملة.” آدم سميث، في كتابه: ثروة الأمم.
لقد قامت مجتمعات “البيوريتان” الأوائل، الذين ورد وصف لهم في كتاب هاغ روكوف المسمى إجراءات متطرّفة: تاريخ تحديد الأجور والأسعار في الولايات المتحدة الأمريكية، بإهمال تحديد الأجور والأسعار التفصيلية بعد فرضها في العامين 1630 و1633 بوقت قصير نظرا لكونها غير فعالة. وكانت القوانين اللاحقة التي صدرت ضد الأسعار “المفرطة” غامضة بشكل اكبر وكانت، حسب قول روكوف، تهدف إلى الحيلولة دون “البيع الذي يقع تحت بند الاحتيال أو الجهل أو الاحتكارات القصيرة المدى وليس إلى إجراء خفض في سعر التوازن في سوق معين.” كان تفسيره لذلك هو أن البيوريتان واجهوا أسواقا استعمارية غير متطورة وانه “من غير الممكن الاعتماد على المنافسة في تنظيم الأسعار وحماية المستهلكين.” وبالإمكان التخفيف من آثار فشل السوق، مثل الافتقار إلى الدخول في هذا المجال، وذلك بواسطة تحديد الأسعار تحديدا صحيحا، من الناحية النظرية على الأقل. وتكمن الصعوبة في ذلك في عملية التنفيذ. من الناحية النموذجية،
ليس هناك كيان لديه الاطلاع الجيد بحيث تتاح له القدرة على تحري الخلل بالضبط وان يختار السعر الصحيح لتصحيح الوضع ومن ثم يتم إجراء تعديل عليه وتطبيقه بشكل يسير. والمنافسة هي الأداة التي تعتبر افضل من استخدام تحديد الأسعار بالنسبة لحماية المستهلكين، ويبدو بان البيوريتان قد تحققوا من ذلك وقاموا تدريجيا بالتوقف عن استخدام تحديد الأسعار. وكما كتب روكوف يقول: “على المرء أن يتوقع أن يقل إصدار تدفقات سلسلة من المعلومات وان تقل الحاجة إلى التنظيم بما أن الأسواق تنمو وتزداد، وبالفعل فقد بدا بان مثل هذا الشيء قد تم حدوثه.”
ومن الناحية الأكثر نموذجية، تحاول الحكومات معالجة التأثيرات السيئة التي تنجم عن تحديد الأسعار من خلال الإعانات الحكومية الداعمة لهذا النشاط المحبط. وفي مجال الصناعات الدوائية، تذهب تلك الإعانات الحكومية نحو البحث والتطوير، وبفعل خفض تكلفة البحوث قد تسترد الإعانة دخل السوق الحر. ومع ذلك، فقد تبرز للمرة الثانية صعوبة في عملية اختيار مستوى الإعانة والتي يتم بواسطتها البت فيما إذا كان من الممكن تقديمها وكيف يتم تقديمها بغرض تقديم ربح للشركات ولتجنب القيام بأعمال ضغط وفساد غير فعالين. فمن الناحية العملية، تعتبر هذه المسائل غاية في الصعوبة بالنسبة لكيفية إدارتها بطريقة يستفيد منها المستهلكون.
خفض الأسعار من خلال السوق
لقد وجد القطاع الخاص عدة طرق ناجحة بشأن خفض الأسعار التي يتم دفعها من قبل المشترين. وفي معظم الحالات، يمكن للحكومة أن تستخدم أساليب متماثلة بغرض الحصول على أسعار رخيصة بالنسبة للأدوية التي تتم وفق وصفات طبية دون أن تقوم بالتشويش على السوق التنافسي.
الشــراء بالجملة. إن النهج الأكثر شيوعا هو أن تتم الاستفادة من مقياس التدرج. فالمشتري الذي تمثل مشترياته حجما ضخما من الصفقات التجارية في السوق يمكنه أن يقوم بالمساومة بغرض الحصول على سعر افضل من خلال التهديد بالرجوع عن دمج الصفقات أو أن يقوم بنقل تجارته إلى مورِّد سلع منافس له (إذا لم يكن المنتج محميا ببراءة اختراع). إضافة لذلك، يعمل المشتري الذي تكون مشترياته ضخمة على إتاحة فعاليات يتم تقديمها للبائع. فتكاليف الصفقة التجارية المنخفضة (فاتورة واحدة ومساومة واحدة وشحنة واحدة) وحجم الصفقة المضمون واقتصاديات مقياس التدرج سوف تعمل على استحداث توفير في التكلفة بالنسبة للمورد بحيث يمكن للطرفين من تقاسمها. هناك أمثلة لا حصر لها قدمها القطاع الخاص تدل على هذا النهج، فعل سبيل المثال، تقوم سلسلة أسواق السوبر ماركت الضخمة بدفع أسعار للسلع المرزومة بحيث تقل عن أسعار المحلات التجارية القابعة في الزوايا وذلك بسبب المشتريات المركزية الواسعة النطاق.
هناك نقطة اكثر ذكاء إلى حد طفيف لها علاقة بالصناعات الدوائية وهي أن المشتري الذي يتعامل مع أحجام كبيرة يمكنه في معظم الأحيان أن يحصل حتى على أسعار منخفضة من خلال مساعدة مورده على زيادة حصته في السوق. وبإمكان مؤسسات التأمين أن تتفق على تعليم أو تشجيع الأطباء على تقديم وصفات طبية لدواء معين. وفي مقابل عمل التغيير في حصة السوق ضمن شبكة المورد، سوف تعرض شركة تصنيع الدواء على المورد أسعارا اقل.
تعزيز المنافســة. بإمكان المشتري أن يقوم بشكل صريح بتعزيز المنافسة في المكان الذي لا توجد فيه منافسة. فعلى سبيل المثال، بدأت عدة شركات ضخمة في منطقة ديترويت مؤخرا بتمويل شركة خطوط طيران صغيرة منخفضة التكاليف سميت باسم “برو إير” بحيث تعمل من ذلك المطار. وفي مطار ديترويت تهيمن شركة الطيران “نورث ويست إيرلاينز” التي تتقاضى أجورا عالية إلى حد ما لسبب يعود إلى عدم وجود منافس أمامها. وتقوم كل شركة من شركات “جنرال موتورز” و”ماسكو” و”ديملر كرايزلر” بدفع مبالغ ثابتة من المال كل شهر مقابل عدد معين من الرحلات الجوية الخاصة بموظفيها، الأمر الذي يعطي شركة الخطوط الجوية المبتدئة استقرارا ويتسبب في جعل منافسيها التيقن من انه ليس بالإمكان أن يتم إخراجها من هذه التجارة. وبفعل تشجيع الدخول إلى هذا المجال والحفاظ على منافس منخفض التكلفة أمام شركة “نورث إيرلاينز” سوف تقوم الشركات بالتوفير في مجال رحلات الطيران التي يسافر بها موظفيها على شركة “برو إير” وكذلك من خلال أي خفض يتم في الأسعار التي تقدمها شركة “نورث إيرلاينز” استجابة للمنافسة.
المعلومــات. هناك طريقة أخرى للحصول على أسعار منخفضة من خلال السوق، وهي أن تقوم مؤسسة مستقلة بتقديم معلومات حول البدائل المنافسة إلى المشترين الفرديين. وباستخدام هذه المعلومات يمكن للمستهلك المطلع أن يقوم بتحديد المنتج الذي يناسب بالشكل الأفضل احتياجاته ويمكنه أن يطالب بسعر مخصوم عندما يشتري منتجا مختلفا. هناك الكثير من الشركات الضخمة التي تسلك هذا النهج في البرامج الصحية الخاصة بموظفيها ويجوز للموظف أن يقوم باختيار برنامجا من مجموعة من البرامج المعتمدة وتقوم الشركة بتقديم تصنيفات ترتيبية أو بطاقة إحراز نقاط لمساعدة الموظفين للمقارنة بين البرامج. وتتسبب هذه التصنيفات في جعل البرامج تتنافس فيما بينها على الزبائن بالنسبة للأسعار ولنواحي الجودة.
الخلاصة
إن فرض تحديد الأسعار على سوق تنافسي يعمل جيدا سوف يضر بالمجتمع من خلال خفض الكميات التجارية في المجال الاقتصادي وسيعمل على خلق دوافع تدفع إلى تبديد الموارد. هناك العديد من الباحثين الذين وجدوا بان تحديد الأسعار يعمل على خفض الدخول في مجالات التجارة والاستثمار على المدى الطويل. ومن الممكن أن يقوم تحديد الأسعار بخفض الجودة وان يخلق سوقا سوداء وان يحفز على الترشيد المكلف. وفي حالة الأدوية، يكون، على الأرجح، المجال الذي يصيبه الضرر بالشكل الأكبر هو مجال الخفض في الاكتشافات والاختراعات بحيث تضر جميع مرضى الأجيال القادمة.
ومع أن صانعي السياسات يعرفون بان تحديد الأسعار يمكن أن يكون ضارا جدا فانهم مستمرون في الحصول على دوافع قوية تدفعهم نحو تشريع أسعار منخفضة لأنفسهم، الأمر الذي يؤدي في اغلب الأحيان إلى تبني المزيد من تحديد أسعار أكثر تعقيدا. وتقوم الحكومة بتثبيت أسعارها بإرجاعها إلى بعض الأسعار المرجعية في الاقتصاد وليس باختيار رقم ثابت أو أن تقوم بتحديد أسعارها بمقدار ثابت دون ذلك المقدار الخاص بمستهلكين آخرين. إن مثل هذه البرامج سوف تعمل على تدمير الرخاء الاقتصادي من خلال إدخال دافع جديد إلى السوق—والذي قد يكون من ناحية أخرى سوقا عاملا بشكل جيد—فإما أن يكون السعر للمستهلكين غير الحكوميين مرتفعا أو أن يرتفع السعر المقدم للمستهلكين الفقراء. وبشكل عام، فان السعر المرجعي الذي تقوم الحكومة باختياره سوف يرتفع بسبب تحديد الأسعار وليس بسبب التغيير الذي طرأ على قوى العرض والطلب المخفية.
من الطبيعي أن تقود الشهادة الدامغة ضد تحديد الأسعار إلى التفكير في طرق أخرى لخفض تكاليف الشراء. فالقطاع الخاص يستخدم عدداً كبيراً من الطرق التي تكون فعالة ومتوافقة مع اقتصاد السوق. قد تكون مثل هذه الأساليب، عند استخدامها من قبل سوق القطاع الخاص، اقل ضررا إلى حد كبير بالرخاء الاقتصادي من تحديد الأسعار الذي تفرضه الحكومة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 30 أيار 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

كلّ الشكر إلى العمل الريادي المقدم من نخبة من المفكرين، فقد كان اهتمام المفكرين، وصانعي السياسات، والعامة مركزاً على دور القانون في بناء المؤسسات ودور المؤسسات في تكوين التنمية الاقتصادية. وقد ساهمت الليبرالية في سعادة البشرية عن طريق تركيزها بشكل متزامن على تفويض وتحديد مجموعة من المؤسسات التي توجد، وتخلق، وتعزز القانون. من أجل فهم علاقة الليبرالية بهذه المؤسسات فإنه من السهل أن نعمل تمييزاً بسيطاً، وهو التمييز بين أن تكون “ضد الحكومة” وأن تكون في صالح “تحديد الحكومة”، وغالباً ما يتم الخلط بينهما، خاصة من قبل أعداد معترف بها من أعداء الليبرالية والذين يفضلون الحكومة الغير محدودة، لكن لا يمكن لهما أن يكونا أكثر اختلافاً. فعلى سبيل المثال يُعتبر المجرمون والإرهابيون الذين يريدون تدمير الحياة والحرية والممتلكات “ضد الحكومة”، فهم يسعون إلى إضعاف الحكومة، وبالمقابل، فإن الليبراليين الذين يطالبون بتحديد الحكومة، لا يسعون لتدميرها، بل لتقويتها لتؤدي مجموعة محدودة من الوظائف القيّمة بشكل فعال.
إن ما يطمح إليه الليبراليون هو ليس حكومة ضعيفة، بل حكومة فعالة، وقانونية وشرعية ومحدودة، أي حكومة تستطيع تنفيذ مهام معينة بشكل فعال وكَفوء، ولكن عليها أن تكون محددة بهذه المهام فقط. ما هو ضروري حقاً أن تكون هذه الحكومة حكومة قانون، أكثر من أن تكون حكومة قوة أو عنف.
إن معظم الحكومات حول العالم تقوم بكلتا الوظيفتين معاً: أكثر من المطلوب و أقل منه. فهي تقوم بأكثر مما هو مطلوب عندما تنفذ مهاماً لا يجب تنفيذها على الإطلاق، مثل فرض الاحتكارات والقيود على التجارة الحرة، أو تنفيذها لمهام يمكن أو يجب تنفيذها بمساعدة منظمات المجتمع المدني، سواء أكانت تزويد خدمات الهاتف أو إدارة مراكز العناية بالأطفال، كما تقوم بما هو أقل من المطلوب عندما تفشل بتعريف الحقوق في استخدام المصادر النادرة، وعندما تفشل بتزويد خدمة الدفاع عن الحياة والحرية والملكية. تكمن الطريقة لتحرير المصادر من أجل السماح للحكومة بتنفيذ مهامها القيمة بشكل جيد في منع الحكومة من عمل كل تلك الأمور التي لا يجب عملها إما لكونها غير عادلة أو لأنه يمكن عملها بشكل أفضل من قِبل التنسيق الحر والطوعي للمواطنين. وبهذا لن تقوم الحكومة بوظيفتها بشكل أفضل فقط، بل إنها عندما تقوم بتعريف وحماية الحقوق والأسواق والمنظمات الطوعية بشكل أفضل، فإنها بذلك توفر الثروة والتقدم.
لماذا تعتبر المؤسسات مهمة؟
تعتبر المؤسسات مهمة لأن الحوافز مهمة، إذ تحث الحوافز الأفراد والجماعات على التصرف بطريقة ما وليس بأخرى، وتحث الحوافز الجيدة الأفراد والجماعات على التعاون من أجل إنتاج القيمة عن طريق الإنتاج والتبادل ومن أجل تجنب وتفادي العنف. تحث الحوافز الجيدة الأشخاص والجماعات على إلقاء المسؤولية على الأشخاص الأكثر قدرة على إنتاج قيمة معينة. تتكون هذه الحوافز من قبل المؤسسات، والتي تضم ليس مجرد منظمّات وإجراءات رسمية كالهيئات الحكومية التنفيذية والتشريعية والمحاكم والأحكام القانونية المدوّنة ومراكز الشرطة، بل أيضاً هيئات وإجراءات غير رسمية وغير حكومية كالمعايير الأخلاقية، والسُمعة والتوقعات المتبادلة بشأن السلوك، والكثير غير ذلك. يمكن لفرض القوانين والإجراءات أن يكون داخلياً؛ أي أن تَفرِض هذه القوانين أطرافٌ متأثرة بهذا الإجراء، أو أن يكون خارجياً؛ أي أنه يجب أن يقوم طرف ثالث تحكيمي بفرض هذه القوانين أو أن تقوم منظمات النظام القضائي بذلك.[1] يواجه المرء حافزاً عندما يتوقع شعوراً بالخجل، كخسارة سمعة قيّمة مثلاً أو ضياع فرصة معينة للكسب، أو أن يفرض الآخرون عليه عقاباً أو يقدموا له مكافأة، سواء كان ذلك منظّماً ضمن هيئة حكومية أم غير منظم.[2]
إن الكثير من الناس لا يفهمون أهمية بناء المؤسسات بطريقة صحيحة، فهم لا يفهمونها لأنهم لا يزالون يؤمنون بالسحر. قلائل هم الذين يؤمنون أن أنشودة الكلمات السحرية أو التعويذة تمارس سلطة على العالم. أغلبنا يؤمن بالسبب والنتيجة، وبردِّ النتائج إلى أسبابها. وقد نجح هذا المنهج العلمي في المجالات التحقّقية مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا. عندما يتعلق الموضوع بعلم السلوك الإنساني، فإن الكثير من الناس وربما معظمهم ما زالوا—للأسف—يؤمنون بالسحر، لأنهم يؤمنون بأن هناك مجموعة خاصة من السحرة القادرين على تغيير العالم بقوة الكلمات فقط؛ ويعرف هؤلاء السحرة بالمُشرِّعين وسانِّي القوانين، والحكام، والرؤساء. ولذا معظم الناس يصدّقون عندما يقول هؤلاء الأشخاص كلمات مثل “يعطي القانون الحق لكل مواطن برعاية صحية جيدة، أو حقّ التعليم الجيد، أو بمستوى معيشي أرقى”، أن هذه الكلمات تحمل القوة التي تحقق النية الكامنة وراءها.
إن الأشخاص الذين يؤمنون بمبادئ السبب والنتيجة لا رغبة لهم بالتحقّق من النية المعلنة في قانون ما، فهم لا يتحققون فقط من نية المُشرِّعين، بل أيضاً من آلية السببية. فكيف يتم إدراك هذه النية؟ وما هو التأثير المحتمل للقانون المُسَنّ من قبل المُشرِّعين؟ إن السؤال عن التأثيرات المحتملة للقانون المُسَنّ من قبل المُشرِّعين هو نفسه السؤال عن الحوافز التي يواجهها الأفراد والجماعات. هل سيأتي القانون بحوافز تعمل على حث الناس على إيجاد رعاية صحية أو مستوى تعليمي أفضل أو مستوى معيشي أرقى؟ إن السؤال عن الحوافز هو نفسه السؤال عن المؤسسات التي تقدم نموذجاً خاصاً لهذه الحوافز.
إن الفرق بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية واضح من صور القمر الصناعي الليلي. إذ يبدو الشمال مظلماً تماماً بينما يتوهج الجنوب بالضوء، ماذا يعني ذلك؟ إن الحوافز لدى الناس تخلق الضوء، ويتم تكوين الحوافز بواسطة المؤسسات.
المؤسسات والتكنولوجيا

لقد تم إثبات أن المحدد طويل الأمد للنمو الاقتصادي ليس ببساطة الاستثمار الرأسمالي؛ أي إضافة آلات أو أبنية أكثر، بل هو نمو وتطبيق المعرفة. كما أشار جويل موكير “إن الاختلافات في المؤسسات هي أفضل في شرح اختلافات مستويات الدخل في المقطع العرضي في اللحظة المعطاة. تستطيع المعرفة أن لا تتأثر—وهي فعلاً لا تتأثر—بالحدود القومية، إن لم تكن دائماً بالسهولة غير الخلافية التي يتخيلها بعض الاقتصاديين. إذا كان السبب الوحيد لكون ألمانيا أغنى من زيمبابوي اليوم هو أن المانيا تملك كمية أكبر مما تستغله من معرفة، عندئذ يمكن إزالة الاختلاف في وقت قصير نسبياً. مع ذلك إذا سُئلنا، لماذا ألمانيا اليوم أغنى منها في عام 1815، عندها لا يمكننا مهاجمة التكنولوجيا على الرغم من أن المؤسسات الفضلى يمكن أن يكون لها أهمية أيضاً.”
ومع ذلك، كما يظهر موكير، فإن نمو التكنولوجيا معتمد بشكل عميق بالمحافظة على المؤسسات الملائمة. تُعتبر بعض المؤسسات ملائمة لنمو المعرفة والتكنولوجيا أكثر من غيرها، وحتى عندما تكون التكنولوجيا متوفرة في الكتب أو الأشكال الأخرى، فإن عدم وجود الحقوق لحماية الملكية يجعلها عديمة الجدوى. ما هو جيد أن التغير نحو المؤسسات الجديدة قد يسمح للدول الفقيرة جداً بزيادة دخلها ورفاهية سكانها من خلال النمو الاقتصادي بسرعة لافتة، وذلك بتبني التكنولوجيا الجاهزة من الدول الأخرى ووضعها قيد الاستعمال الجيد. كما أشار يوهان نوربيرغ “يشير التاريخ أن الاقتصاد يمكن أن ينمو بشكل أسرع بالاعتماد على ازدهار وتكنولوجيا الدول الأخرى. لقد استغرق من انجلترا 58 سنة لمضاعفة ثروتها منذ عام 1780. بعد مائة عام فعلت اليابان الشيء نفسه في خلال 34 سنة، وفي القرن اللاحق استغرق ذلك من كوريا الجنوبية 11 عاماً فقط.” إن الزيادة السريعة في معايير العيش في الدول الفقيرة سابقاً مثل كوريا الجنوبية هو دليل قوي على قدرة المؤسسات العاملة على السماح للناس الفقراء بتخطي مئات من سنوات التنمية البطيئة المتصاعدة التي مرت بها الدول الأخرى والوصول إلى ازدهار استثنائي في وقت قصير نسبياً.
على مقياس أصغر، فإن قفزة العديد من الدول إلى الأجهزة الخلوية عند إزالة الاحتكارات الحكومية يوضح أنه يمكن استيراد التكنولوجيا بشكل سريع عند إنشاء المؤسسات الملائمة، وذلك يسمح بالتقدم السريع في النمو الاقتصادي والعيش الكريم. هذه هي الأخبار الجيدة، لكن يجب تصنيف المؤسسات بشكل ملائم أولاً.
“طوائف الحمولة” مقابل الاستدلال العلمي
لا يمكن للطريقة العلمية مع ذلك أن تتوقف فقط عند استـحضار الكـلمة الســرية “المؤسسات.” يجب على المرء أن يذهب إلى أبعد من ذلك ويتساءل: كم تؤثر المؤسسات في الاختلاف وكيف يكون ذلك؟ أيكون كافياً أن ننسخ ببساطة كل مؤسسات المجتمعات الغنية وأن نعيد إنشائها في المجتمعات الفقيرة؟
إن الجهد لفعل ذلك يذكِّر بـ”طوائف الحمولة” للمحيط الهادئ الجنوبي. حيث وصف الفيزيائي الشهير ريتشارد فينمان ما أطلق عليه “علم طائفة الحمولة” في خطاب التخريج في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا:
“في البحار الجنوبية يوجد طائفة حمولة البضائع من الناس. خلال الحرب رأوا طائرات تهبط مع الكثير من البضائع الجيدة وأرادوا الشيء نفسه أن يحدث الآن، لذلك رتبوا تقليد الأشياء كالطرق ولوضع النيران على جوانب الطرق، ولصنع كوخ خشبي ليقف فيها الشخص مع قطعتين خشبيتين على قمته مثل السماعات وقضيبين من الخيزران مثبتين كالهوائيات—هو المراقب—وانتظروا الطائرات أن تهبط، إنهم يفعلون كل شيء بشكل صحيح. إن الشكل مثالي. إنها تبدو تماماً كما بدت سابقاً لكنها لا تعمل، لم تهبط الطائرات، لذلك سأطلق على هذه الأشياء علم طائفة الحمولة لأنها تتبع الأشكال والمبادئ الظاهرية للبحث العلمي لكنها تفتقد شيئاً أساسياً لأن الطائرات لا تهبط هناك. والآن يتوجب عليَّ بالطبع أن أخبركم ما الذي ينقصهم، لكنه سيكون من الصعب أن أشرح لسكان جزر البحر الجنوبي كيف يتوجب عليهم أن ينظموا الأمور للحصول على ثروة أكثر في نظامهم، إنه ليس بالأمر السهل بأن نخبرهم كيف يطوروا أشكال سماعات الأذن.”
غالباً ما يقوم صانعو السياسة في الدول النامية وبشكل أهم صانعي السياسة في الدول المتقدمة ومنظمات العون الدولية بإخبار الناس في الدول النامية أن يطوروا شكل سماعات الأذن عندهم، فهم يقررون أنه إذا امتلك الفقير المؤسسات التي يتمتع بها الغني اليوم، فهم أيضاً سيكونون أغنياء. أتذكر عندما كنت أعمل في الاتحاد السوفييتي السابق والتقائي بموظفي الحكومة الأمريكية الذين كانوا مشغولين في إعداد نسخة عن هيئة التبادل والسندات المالية للولايات المتحدة الامريكية، حيث كان ذلك متطلب أساسي لوجود سوق رأسمالي فعّال، وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك ملكية خاصة بشكل فعلي بعد، إلا أنهم قاموا بتطبيق منطق بسيط ولكن منطوٍ على مغالطة، كما يلي:
‌أ. تمتلك الولايات المتحدة الامريكية هيئة التبادل والسندات المالية؛
‌ب. تمتلك الولايات المتحدة الامريكية سوق رأسمالي عالي التطوير؛ ولذلك
‌ج. تمتلك الولايات المتحدة الامريكية سوق رأسمالي عالي التطوير لأنه فيها هيئة التبادل والسندات المالية؛ ولذلك
‌د. إذا كان على روسيا أن تملك سوقاً رأسمالياً عالي التطوير، فإنها تحتاج أولاً إلى هيئة تبادل وسندات مالية خاصة بها.
في رومانيا مباشرة بعد سقوط تشاوشيسكو بُذلت جهود كبيرة لإنشاء أنظمة تجارية محوسبة لسوق مالي لم يوجد بعد. وقد تروى قصص متشابهة عن المحاولة لنسخ الانماط الخارجية—شكل سماعات الأذن—للنظم البنكية والمالية، وقانون التنافسية، ومؤسسات أخرى، تلك أمثلة على “صناعة سياسة طائفة الحمولة.” إذا قمت بإنشاء هيئة التبادل والسندات المالية أو نظام محطات تجارة محوسبة، فإن تجّار البورصة، ورجال الأعمال وأصحاب المبادرة، والرأسماليين سوف يرون تلك الأنظمة على أنها معلّقة فوق الرؤوس وسوف يقررون الهبوط، مخدوعين من قِبل الشرك الذكي المصمم من قبل صانعي السياسة.
بالكاد يكون نموذج طائفة الحمولة للتنمية الاقتصادية شيءً جديداً. في الحقيقة، أحد الأمثلة الأكثر شؤماً لتلك العقلية أُعطي من قبل في. أي. لينين على المؤسسة المعنية للتجربة الاشتراكية. كما أشار لينين، فإن إدارة المصانع سهلة: “يصبح كل المواطنين موظفين وعمال لولاية (نقابة) البلاد الواحدة. كل ما هو مطلوب أن يعملوا بشكل متكافئ، وأن يقوموا بما مطلوب منهم عمله، وأن يتم الدفع لهم بالتساوي. ولهذا فقد تم تبسيط المحاسبة والسيطرة الضرورية من قبل الرأسمالية للحد الأقصى وتم تخفيضها للعمليات البسيطة بشكل استثنائي—والتي يستطيع أي شخص متعلم انجازها—من الإشراف والتسجيل، ومعرفة قواعد علم الحساب الاربعة، وحتى اصدار وصولات ملائمة.” ما الذي يمكن أن يكون أبسط؟ لقد نظر بحرص لينين ورفاقه إلى الشركات الرأسمالية كما نظر الميلانيزي في العصر الحجري إلى الطرق وأبراج المراقبة. وعرفوا ما وجب عمله وقد أدوه، مع الحصول على نفس النتيجة.
إذا أقبل شخص على إقامة مقارنات، في أية قضية، فإنه من الأفضل أن ينظر، ليس إلى ما تملكه الدول الغنية اليوم، ولكن إلى ما طورته خلال فترة تحولها من بلاد نامية إلى بلاد متطورة. إن الأمر ليس فيما تملكه البلدان الغنية من مؤسسات اليوم، عندما تكون غنية وقادرة على تحمّل السياسات غير الفعالة، ولكن فيما ملكته من مبرر لتطورها.
في 1992 نبّه ميلتون فريدمان الجــمهور في مــؤتمر كـهذا في مدينة مكسيكو “إن الولايات المتحدة ليست النموذج لمدينة مكسيكو، أو أي من تلك البلاد. كنموذج لكَ، خذ الولايات المتحدة في السنوات المائة والخمسين الأولى.” في السنوات الأخيرة، كما أشار فريدمان، كان هنالك عدد كبير من المؤسسات غير الفعالة التي تم إنشاؤها في الولايات المتحدة والتي خفضت النمو الاقتصادي أقل مما كان عليه، ولكن—على الرغم من ذلك—كان من الممكن تحمّلها من قبل دولة غنية جداً. “نستطيع تحمل كلامنا التافه لأنه ولفترة طويلة كان لدينا وقت لبناء قاعدة، لذا كان باستطاعتنا تحمل الهدر.” دعونا نطبق استنتاج فريدمان من خلال النظر إلى البلاغات الحالية للسلطة التنظيمية في الولايات المتحدة الأمريكية. في عام 2002 عبأت هذه البلاغات 75606 صفحة من السجل الفيدرالي وكلفت الأمريكيين 860 بليون دولار كفرص ضائعة للثروة و25 بليون دولار في النفقات الإدارية، والتكلفة المجتمعة 885 بليون دولار. بالمقابل، فإن جميع الأرباح ما قبل الضريبة على الشركات الأمريكية مجتمعة في تلك السنة وصلت إلى 699 بليون دولار، أو 186 بليون دولار أقل من تكلفة الأنظمة. إن الدولة الأفقر—وبالأخص تلك التي على الحد الأدنى من البقاء—ستشعر مباشرةً بتكلفة تلك الأنظمة المعقدة. إن مؤسسات تنظيمية كهذه، على الرغم من أنها تتواجد مع ثروة حقيقية، قد تكون مسببة لكارثة في البلدان الفقيرة التي قد لا تحتمل المصاريف الهائلة اللازمة للاستجابة لتلك الأنظمة. أشار البنك الدولي مؤخراً أنه “لكي يكون للأساليب التنظيمية في الدول النامية فرصة واقعية للنجاح، عليها أن تكون أبسط، وبالغالب أقل كثافة في المعلومات، وأقل عبئاً على المحاكم.” كان على البنك الدولي أيضاً أن يضيف أن معياراً كهذا قد يكون مرحباً به في الدول الغنية.[3]
نسخ أكثر لن يجدي
مثال آخر على صناعة سياسة طائفة الحمولة هو المحاولة لنسخ قواعد رأس المال الأمريكية كقاعدة للنظام الصناعي في الدول النامية. تملك أمريكا نظاماً واسعاً لملكية الأسهم، بوجود خمسين بالمائة من العائلات الأمريكية تملك أسهماً في شركات تجارية عامة. ولكن كما أشار روبرت أنديرسون، الموظف السابق في البنك الدولي، إن ملكية الأسهم المعقودة بشكل واسع ليس شرطاً ضرورياً للنمو الاقتصادي. “ضمن الشركات الكبرى العامة، لم تكن النسب للأسهم المتعاقد عليها بشكل واسع عالية إلا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان. وكانت النسبة في هذه الدول الثلاث 80-100% أما في البلدان الأخرى فكانت الحصص أصغر، فمثلاً، كانت 60% في كندا وسويسرا وفرنسا؛ و50% في ألمانيا؛ و10% أو أقل في هونغ كونغ والنمسا وبلجيكا واليونان.” بالكاد تكون بلجيكا من بلدان العالم الثالث، على الرغم من حقيقة أن اقتصادها يملك قاعدة رأسمالية تختلف بشكل كبير عن تلك في الولايات المتحدة الأمريكية. في البلدان التي تفتقر لنظم النموذج الأمريكي القانونية والرقابية، فإن قواعد النموذج الأمريكي الرأسمالي ليست إلا دعوة لنزاع ما بين الإداريين ومالكي الأسهم، وبين أصناف مختلفة من مالكي الأسهم (ومن الواجب الإشارة إلى أن نزاعات كهذه توجد في الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، وهي متفاقمة بشكل إجمالي باختلال “قواعد عدم الاستيلاء” وقواعد الضرائب المعقدة، والتي تجعل من الصعب على المستثمرين تتبّع سلوك الإداريين.)
ما يهم، ليس ما إذا كان شكل سماعات الأذن بنفس الشكل التي في الولايات المتحدة، ولكن ما إذا كانت تولّد الثروة والحرية. وذلك يتطلب الانتباه إلى أنماط السبب والأثر، والقيود التي تحيط بتنفيذ الإجراءات والقوانين. إننا لا نستطيع تجنب مشكلة تحديد السبب والنتيجة.[4]
الأنظمة المتطورة تحتاج إلى قوانين بسيطة
هناك علاقة سببية واحدة طبقت بشكل جيد، وهي أن بساطة القوانين والمؤسسات تؤدي إلى زيادة تطور الأنظمة، وعلى سبيل المثال، إذا كان سهلاً على الناس الحصول على ملكية قانونية للأرض، يمكن لهم أن يخلقوا أنظمة اقتصادية واجتماعية متطورة. وقد أوثق هيرناندو دي سوتو على تعقيدات القوانين والتي يجب اتباعها من أجل الحصول على ملكية قانونية للأرض في عدة دول: تأخذ تلك الإجراءات في الفلبين “168 خطوة تتضمن مراجعة 53 مؤسسة خاصة وعامة، وتأخذ من 13-25 سنة لإكمالها”، وفي مصر تتضمن العملية “75 إجراءاً بيروقراطياً على الأقل بعد مراجعة 31 مؤسسة خاصة وعامة، وتأخذ من 5-14 سنة لانجازها”. والاختلافات مع الدول الغنية مثل كندا أو ألمانيا أو اليابان لا يمكن أن تكون أوضح من ذلك. الابتكارات التكنولوجية مثل تسجيل الانترنت، يمكن أن تساعد، ولكنها ليست بديلاً عن الحاجة للتخلص من التعقيد البيروقراطي الزائد.[5] إن الإجراءات المعقدة والمكلفة، هي غالباً ناتجة (أو على الأقل مصونة) عن الفرصة لخلق أو دعم الوظائف الحكومية، أو لإنتاج دخل قانوني إضافي لموظفي الحكومة.
الحصول على المُلكية من خلال الاحتلال ونقل الملكية من خلال البيع هي ليست أنظمة المُلكية الوحيدة الموضوعة بتعقيد غير ضروري من قبل المؤسسات التي صممت بشكل سيء من منظور غالبية السكان، ولكنه مصمم بشكل جيد من منظور مجموعات قليلة من أصحاب امتيازات الاحتكار. وفي بعض البلدان فإن انتقال المُلكية من خلال الوراثة معقد جداً ولكن في حالات أخرى، يعتبر بسيط جداً، الاختلاف هو مؤسسي، على سبيل المثال تعلمت من خلال رحلتي إلى جواتيمالا بأن المهنة القانونية في ذلك البلد عبارة عن احتكار في اجراء الوصايات، وعلى المحامي أن يُشغل في إنشاء وصية قانونية شرعية. والنتيجة هي فقط نسبة ضئيلة من السكان—النخبة الغنية—تستمتع بحماية العهود القانونية سارية المفعول. وبالتناقض، وبالانتظار لرحلة إلى بغداد، راجعت مؤخراً وصيتي باستخدامي برنامج حاسوب تجاري ويطلق عليه “صانع الوصية”. إن لم يتوفر لي حاسوب لكان باستطاعتي أن أشتري نموذجاً مبسطاً من أحد المراكز لأقل من دولار. أمليت الطلبات ووقعتها أمام ثلاثة شهود وهم وقعوا أيضاً، وكانت النتيجة وصية شرعية. وعاقبة ذاك الاختلاف هو أينما وضعت اجراءات التركة بكل تعقيد من قبل تلك الاحتكارات، استهلك أعضاء العائلة نسبة أعلى من صراع التركة على توزيعها أكثر من الحالة في الدول حيث تكون إجراءات الميراث بسيطة ومتوفرة للجميع.
هنالك أيضاً رابط قوي ما بين بلاء الفساد الحكومي ومدى التدخل الحكومي في السوق. فكلما زادت العوائق التي تفرضها الدولة في وجه رغبة المستهلكين والبائعين، على سبيل المثال، فإن الفرص تزداد للبيروقراطيين لانتزاع الرسوم والضرائب.
إن الدرس لمثل هذه التجارب واضح: القوانين والإجراءات التي تحكم التعاملات تحتاج إلى أن تكون بسيطة وفعالة. يمكن للحكومات أن تساعد في تبسيط القوانين من خلال التركيز على وضع قوانين أساسية من الإجراءات، ولكن ليس من خلال ضمان النتائج. القوانين التي تحكم الابلاغات التي تلح على العدالة والنزاهة في النتائج—بدلاً من بساطة الإجراء—لا بد من فشلها في ضمان العدالة أو البساطة.
الأسواق بحاجة إلى التنظيم وليس التدخل
إن النظام الموسع للمجتمع الحر يستند على ما أسماه فريدريك هايك “نظام الأعمال”. كما قال هايك: “إذا كانت الأعمال المنفصلة للأفراد تُنتِج نظاماً عاماً، فالمطلوب هو ليس أنه من غيرالضروري فقط أن يتدخلوا في شؤون بعضهم البعض، ولكن أيضاً مع تلك التقديرات والتي فيها نجاح العمل للأفراد يعتمد على أعمال مشتركة ما بين الآخرين، وسيكون هناك على الأقل فرصة جيدة بأن هذا التوافق سيظهر فعلاً.” وما نحتاجه هو نظام قد يعمل على جعل التعاملات منتظمة من خلال الاعتماد على قواعد وإجراءات بسيطة ومباشرة.
وما يسمى حالياً بـ”التنظيم” هو بالضبط لا يعتبر تنظيماً بالمرة، ولكن هو نظام اعتباطي، متقلب، وغير متوقع بتدخلاته، وبمشرِّعين أو بيروقراطيين مفوضين بتغيير القوانين كما ومتى أرادوا، وبفرض بلاغات وأوامر معقدة وباهظة وغير متوقعة على أفراد السوق. فلا فائدة من التعبير “القوانين” إذا كان لوصف شيء غير متوقع ومتغير كثيراً. وصف جميس ماديسون، المؤلف الرئيس لدستور الولايات المتحدة، مخاطر السماح للمشرِّعين أو البيروقراطيين بالتفرد في مثل هذه السلطة الاعتباطية، كما هي حالياً مطبقة تحت اسم “التنظيم”:
“مازالت التأثيرات الداخلية للسياسات المتقلبة أكثر مأساوية. فهي تسمم نعمة الحرية نفسها. فلو كانت القوانين كثيرة جداً بحيث لن يكون هناك وقت لقراءتها، أو إذا كانت مشوشة ومبهمة جداً بحيث لا يمكن فهمها، فإنه سيكون هناك فائدة أقل للأشخاص عند وضع القوانين بواسطة رجال يقومون هم باختيارهم. وإذا تم إلغاء هذه القوانين أو تعديلها قبل أن يتم نشرها، أو إذا مرت في سلسلة تغيرات متواصلة بحيث لا يستطيع أي مرء يعرف القانون اليوم أن يخمن ما سيكون عليه في المستقبل. فالقانون يُعرَف على أنه قاعدة عمل، ولكن كيف يكون هذا القانون قاعدة إذا كان يُعرَف ويُثبَّت بشكل أقل؟ التأثير الآخر لعدم استقرار السياسة العامة هو الفائدة غير المعقولة التي يعطيها لطبقة الأذكياء، والمغامرين، والأثرياء أكثر من طبقة العمال ومعظم الجماهير والذين لا تتوفر لهم المعلومات. يقدم كل تنظيم جديد يخص التجارة أو العوائد المالية، أو في أي حالة تؤثر على قيمة أنواع المُلكية المختلفة، يقدم ثمرة الجهد للأشخاص الذين يراقبون التغيير ويستطيعون تتبع نتائجها، وثمرة الجهد هذه لم تنشأ بجهودهم ولكن بكدح وتعب تلك الأعداد الضخمة لزملائهم المواطنين. هذه حالة الأشياء التي يمكن القول عنها كحقيقة نوعاً ما، أن القوانين صُنعت للأقلية وليس للأكثرية.”
لا يعد فقط ما يسمى بالسلطة التنظيمية الحديثة غير منتجة للتنظيم الفعلي، ولكن يمكن توفير الأنظمة بشكل فعال عن طريق المؤسسات الطوعية مثل مكاتب الاعتماد وشهادة الجودة والتقرير المالي ومقاييس الأداء والمكاتب الأخرى المشابهة. وتوفر هذه الأساليب التنظيمية غير الحكومية درجة عالية من قابلية التنبؤ. ولكونها تنافسية ولا تستطيع أن تتحكم بفرض الاحتكارات القسرية عند وضع الأنظمة، فإنها تستطيع على الرغم من ذلك أن تتبلور في الاستجابة للمتغيرات في التكنولوجيا واحتياجات السوق.
خاتمة
يهتم الليبراليون بالمؤسسات أكثر من غيرهم في أي تيار سياسي آخر، فهم يشددون على تطبيق المبادئ العلمية في العلاقات الاجتماعية أكثر من التفكير الخيالي، ولذلك فهم يركزون على الحوافز والتي تعني بأنهم مهتمون بشكل معمق في بناء ونشوء المؤسسات. ويتطلب ذلك أكثر من السببية المنطقية وراء الكثير من محاولات نسخ المؤسسات القائمة في المجتمعات الغنية، التي تقوم دون السؤال سواء كان ثراء هذه المجتمعات ناتجاً بواسطة هذه المؤسسات، أو المؤسسات—مهما كانت عدم فعاليتها—ممكنة بسبب الثراء السابق لهذه المجتمعات، الثراء الذي كان نتيجة مؤسسات أخرى مجتمعة. وتحتاج المجتمعات المتحررة والغنية إلى قوانين بسيطة وقابلة لأن يُتنبأ بها. وتستطيع الحكومة ذات السلطة المحدودة تزويد إطار العمل الأساسي للقوانين التي تجعل التعقيدات الاجتماعية ممكنة. ويفهم التنظيم على أنه القوانين والمبادئ التي تجعل التبادلات منتظمة، ويجب تمييزه عن تفويض المشرعين والبيروقراطيين لسلطة تغيير القوانين بشكل عشوائي وعرض إرادتهم على الآخرين من خلال المراسيم والأوامر. ويمكن توفير مثل هذا التنظيم بواسطة المؤسسات الحكومية الرسمية القانونية، والتي تتضمن الهيئة التشريعية ومحاكم القانون، أو بواسطة المؤسسات الطوعية للمجتمع المدني مثل مكاتب الاعتماد ومؤسسات تحديد المعايير. تعد الحركة الليبرالية فلسفة الحرية والقانون والازدهار. وهي أيضاً فلسفة مؤسسات القانون—أي لحكومة ذات سلطة محدودة—التي تنشئ الإطار الذي من خلاله نمارس الحرية، ومن خلال هذه الحرية يكوّن الأشخاص الثروة والازدهار العام.
حُضّرت هذه الورقة من أجل “البرنامج الليبرالي للقرن الجديد: وجهة نظر عالمية” وهو مؤتمر مدعوم بالاشتراك بين معهد كيتو ومعهد التحليل الاقتصادي والاتحاد الروسي للصناعيين وأصحاب المبادرة، 8-9 نيسان 2004، موسكو، الاتحاد الروسي الفيدرالي.
ملاحظات:
[1] إقرأ “البنية والتغير في التاريخ الاقتصادي” لدوغلاس نورث (نيويورك: شركة دبليو دبليو نورتون، 1981)، وبالأخص الفصل الخامس عشر: “المؤسسات عبارة عن مجموعة من القوانين وإجراءات الالتزام والأعراف الأخلاقية والسلوكية والتي تُكوَّن للحد من سلوك الفرد وذلك من أجل الرفع من المصلحة أو المنفعة أو الثروة.”
[2] “المؤسسات توفّر بنية من الحوافز للاقتصاد؛ وعند نشوء هذه البنية فإنها توجه التغير الاقتصادي نحو النمو أو الركود أو الهبوط.” دوغلاس نورث في “المؤسسات”.
[3] إقرأ ريتشارد إبستين “قوانين بسيطة لعالم معقد” (كيمبريدج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة هارفرد، 1995)، صفحة 21: “يتوجب أن يكون الرد الصحيح للمجتمعات الأكثر تعقيداً في اعتماده الكبير على قوانين بسيطة، وذلك يشمل القوانين القديمة التي طالما يتم إهمالها كبقايا من العصور القديمة الزائلة.”
[4] كمثال جيد عن وصف السببية، إقرأ دارون أسيموغلو وسيمون جونسون و جيمس إيه. روبنسون “قصة نجاح إفريقية: بوتسوانا” 11 تموز 2001، حيث أشار الكتّاب، في بوتسوانا: “إن النظام الأساسي للقانون والعقود نجح بشكل معقول. فقد قل نسبياً النهب الحكومي والخاص. ولم تُحدث العوائد الكبيرة من الماس عدم استقرار سياسي محلي أو نزاعاً على التحكم بذلك المصدر… نرى أن السياسات الاقتصادية الجيدة لبوتسوانا، ونتيجة لذلك نجاحاتها الاقتصادية، تعكس مؤسساتها، أي ما نسميه مؤسسات الملكية الخاصة والتي تحمي حقوق الملكية للمستثمرين الحقيقيين والمحتَملين، وتوفر الاستقرار السياسي، وتضمن تقييد النخبة السياسية من خلال النظام السياسي ومشاركة كافة أطياف المجتمع.”
[5] في بعض الحالات، قد تساعد التكنولوجيا على تبسيط الإجراءات، كما هو الحال في أندهرا براديش في الهند حيث قلّصت الحوسبة الوقت المطلوب لتسجيل تغيير ملكية الأرض من عشرة أيام إلى ساعة واحدة، ولكن ببساطة وفي معظم الحالات يبقى التخلص من عدد الهيئات المعنية والتصاريح المطلوبة خطوة أكثر فائدة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 23 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

تحتدم المناقشات والمجادلات هنا وهناك، عبر وسائل الإعلام في عالمنا العربي بخاصة، حول التقارير السنوية التي تصدر عن الأمم المتحدة بشأن التنمية البشرية في البلدان العربية. ثم ما تلبث هذه المناقشات وأن تدور دوراناً عجيباً لتستقر على نقاط ومحاور لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تقلب أو تغير الصورة القاتمة التي ترسمها التقارير المشار إليها. بل أن طبيعة الإستقبال العربي المثقف ونصف المثقف لهذه الخلاصات الأممية المشحونة بالدلالات والنذر المخيفة، بالنسبة لمستقبلنا ولمستقبل أجيالنا الصاعدة، تكرس ذات الإختلالات والإخفاقات التي تقدمها هذه التقارير على نحو رقمي لا مجال فيه للشكوك وللظنون، حتى لو تركنا هامشاً من نوع ما للمبالغات وللـ”تدخلات” الغربية في صياغتها. لذا لم تكن دعوة صديقي الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان لنشر هذه التقارير من أجل إطلاع العالم، العربي خاصة، على حقائقها “المريرة” دعوة “مشبوهة” كما يحلو للبعض أن يدّعي، ذلك أننا يجب أن نرى أنفسنا بالمرآة بغض النظر عن إرهاصات فريدمان أو دوافع جامعي البيانات ومحرري التقارير موضوع المناقشة.
لا مراء من أن مثل هذه التقارير تصدر عن أهم هيئة دولية معترف بها عالمياً ومعتمدة من قبل جميع الدول العربية كسلطة عالمية مستقلة ومحايدة، الأمر الذي يجعل خلاصاتها (حتى بإفتراض وجود “التشويه” المتعمد وليّ الحقائق المشبوه) صحيحة بنسبة عالية جداً ربما تتجاوز التسعين بالمائة. وهذه فرصة لنا في العالم العربي لكي نراجع الذات ونحتكم إلى النقد الذاتي الذي قد يكون قاسياً أحياناً، آخذين بنظر الإعتبار إخفاق أغلب الحكومات والمنظمات الإقليمية العربية في تجهيز مثل هذا التقرير لصانع القرار السياسي ولجمهور القرّاء الصغير نسبياً في عالمنا الذي هاجر القراءة والكتابة إلى إغتراب الفضائيات الرخيصة والأغاني والفنون المتدنية.
ربما لا تعرف كتل كبيرة من المواطنين في الدول العربية المتباعدة معنى “التنمية البشرية”، أو أنها تجهل أبعادها الإستراتيجية والإقتصادية والإجتماعية الحقيقية. ولكن ينبغي، على أقل تقدير، ملاحظة أن مفهوم التنمية البشرية يصب في فكرة إحالة الإنسان “الخام” إلى إنسان مثقف أو إلى إنسان يمتلك من المهارات ما يمكنه من أن يكون عضواً نافعاً مفيداً في المجتمع، بدلاً من أن يبقى “عالة” عليه، الأمر الذي يعرّض هذا الإنسان لمزالق الإنحراف والجريمة واللاجدوى وحتى إلى “البطالة المقنعة” المتفشية في الأقطار العربية التي يرنو فيها الناس لأن يكونوا مدراء ورؤساء مؤسسات جميعاً، إعتماداً على المستورد والوافد من أصحاب المهارات الصناعية والزراعية الأجانب، الأمر الذي يؤول إلى إستهلاك مبالغ مهولة من مدخولاتنا الإقتصادية الوطنية. لذا تشكل العمالة الوافدة، خاصة تلك المستقدمة من دول أجنبية، دالة واضحة المعالم على إخفاق أغلب أنظمتنا التعليمية والتربوية والمهنية والجامعية التي تتكاثر على نحو مدارس وكليات أنيقة كـ”الفطر” عبر مدننا وقرانا ولكن بلا جدوى، حيث تكون المعطيات أو المخرجات في أغلب الحالات نوعاً من “الأمية المقنّعة” التي تقدم لنا خريجين لا يقرأون ولا يكتبون. هذا ما يفسر إنحسار حركة التأليف والإبداع وضآلة أعداد ونوعية المطبوع والمقروء والمكتوب بأيدٍ عربية. أما إذا أراد المرء أن يتساءل عن “تسويق” المنتج الثقافي العربي إلى القاريء العالمي، فإن هذا نوع من الأحلام الوردية التي قد لا تتحقق قط، بإستثناء ثلاث أو أربع حالات شهدت قبولاً دولياً لكتّاب عرب هم من بقايا الأنظمة التربوية القديمة التي يحلو للبعض الإشارة إليها بتعبير الـ”رجعية”. ويبدو أن الخلل الأخطر الذي تعاني منه العديد من الدول العربية لا يتمثل فقط في أن الجميع يريدون أن يكونوا مدراءً وقادة إداريين، بل يتمثل كذلك في غياب مؤسسات التعليم المهني ومؤسسات المعاهد الفنية التقنية التي تصنع الفئة أو الحلقة الوسطية في بنية الإنتاج الصناعي والزراعي والتجاري، الأمر الذي يفسر فتح الأبواب واسعة لإستقدام المهارات الأجنبية، من الفنيين الجيدين إلى المربيات الجاهلات. إن مشكلة أنظمتنا التعليمية والتربوية والمعرفية تتبلور في أن الحكومات العربية لا تدخر جهداً ولا تمنع الأموال عن بناء المدارس وتأسيس الجامعات، مهتمة بـ”الكم” بدلاً من “النوع”، حيث يغرم القياديون التربويون والجامعيون بعملية تقديم أرقام أعداد الخريجين من هذه المدارس والجامعات إلى ولاة الأمر الذين يطلعون عليها ويسعدون بها نظراً لتزايد هذه الأعداد ومضاعفتها. ولكن أن يسأل المرء عن مستوى هؤلاء الخريجين وهل يمكن أن يقارنوا حرفياً بأقرانهم من خريجي المدارس والجامعات في اليابان أو ألمانيا، فهذه قضية أخرى تثير القلق وكوامن الحذر. هنا يكمن مأزق الجامعة أو المؤسسة الأكاديمية العربية التي تُخرّج أطباء لا يعرفون سوى الأسبرين ومهندسين بلا مهارات عملية وخريجي لغات أجنبية لا يقرأون سوى العربية، كما يحدث في العديد من الجامعات والمدارس !
لذا كانت النتائج مأساوية بحق: فقد تحولت العديد من مجتمعاتنا المزركشة بالشهادات والدرجات العلمية الأولية والعليا إلى مجتمعات إستهلاكية بدلاً من أن تكون مجتمعات إنتاجية، حسب معايير أعداد الكليات والمدارس التي تفتحها الحكومات العربية حتى في القرى النائية. وبدلاً من أن ينتج حملة الشهادات الأولية والعليا الكتب التي تخاطب الجمهور وتصنع الثقافة، لم نزل نعاني من “عقدة الخواجة” في جميع حقول الثقافة المحلية، بعد أن كانت الثقافة العربية الإسلامية هي منبع الثقافات العالمية في القرون الوسطى، عبر العصر العباسي خاصة. حتى في حقول الموسيقى والغناء والفنون العادية التي تغزو عقول أبناءنا وبناتنا من النشء والشبيبة، يبقى الإنتاج نمطاً ضعيفاً من محاكاة الفنون الرخيصة الموجودة في دول العالم الأخرى. لقد سدت السبل أمامنا، وأغلقت الأقدار أبواب الإبداع والإبتكار بدرجة تثير المخاوف والقلق: المخاوف من تواصل الإندفاع إلى الإستهلاك، والقلق من مستقبل خال من الإيحاء ومن المبادرة الحضارية والثقافية.
لماذا، إذاً، يميل بعض المعلقين العرب لأن ينحي باللائمة على الدول الغربية وعلى إسرائيل لتبرير تردي معطيات التنمية البشرية العربية. إن تقارير الأمم المتحدة أعلاه تقدم لنا مرآة لرؤية الذات ولمراجعة كل ما يشوب وجهنا من كلف وبثور يعكس ما نعاني منه في دواخلنا من أمراض إجتماعية وتردي ثقافي. ولكن رؤية الحقيقة المؤلمة عبر المرآة تذكرنا بشاعرنا العربي الكبير الحطيئة الذي لم ينجُ أحد من هجائه اللاذع، حتى إذا ما رأى صورة وجهه معكوسة عبر سطح الماء في بركة، هجا نفسه ولعن صورته بأقبح الأوصاف. إن إحالة مشاكلنا التربوية والتنموية إلى “الآخر” هي أسهل وأسرع الطرق للتملص من المسؤولية التاريخية: فهل منعت الإدارة الأميركية حكومة عربية من أن تفتح جامعة أو كلية رصينة، أم أن إسرائيل فجرت الثانويات والإعداديات المهنية التي تخلق أجيالاً من المهنيين والحلقات الوسطية المهمة في العملية الصناعية ؟ هذا كلام مردود، ذلك أن الدول العربية تمتلك من الموارد والقدرات الطبيعية الخام ما يجعلها قادرة على مواكبة العديد من دول العالم المتسابقة اليوم في مضمار التنمية البشرية. الخلل ليس في “الآخر” ( الضحية دائماً) وإنما الخلل يقبع في قصر النظر وفي الميل إلى تقديم الأرقام لولاة الأمر، بدلاً عن تقديم الحقائق ومستويات التعليم والتربية كما هي وكما ينبغي أن تكون.
© منبر الحرية، 26 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، كان هنالك إجماع بشأن السياسات الاقتصادية التي ينبغي تبنيها من أجل تحسين الإدارة الاقتصادية، ومن ثم بالتالي استعادة النمو في الدخل وخلق الوظائف فيما يعرف بإجماع واشنطن.
لكن هذا المنهج (إجماع واشنطن)، قد أثمر نتائج غير مرضية، بل ومدمرة في بعض الأحيان. حيث أن العديد من اقتصاديات المنطقة العربية، وغيرها قد عانت من الركود أو التراجع. و لم يتحسن مستوى المعيشة في كثير من الدول العربية ذات الاقتصاديات الفقيرة. تتجلي خطورة الوضع الاقتصادي وتداعياته السياسية في أزمة الركود الاقتصادية الحالية. فالركود الاقتصادي من شأنه أن يقوض شرعية الأنظمة العربية الحاكمة، بل وحتى قدرتها على ممارسة عملية الحكم في بعض الأحيان. وتشتد خطورة المشكلة بوجه خاص لكون الاقتصاديات الراكدة لا تستطيع توفير وظائف كافية لذلك المد المتنامي من الشباب الباحثين عن عمل في منطقة تعاني نظمها فشلا مديدا في حل تلك المعضلة. إن هذه الخلطة التي تجمع بين عجز الأنظمة، وتصاعد معدلات البطالة والفقر، ووجود قطاعات كبيرة من الشباب لخلطة سريعة الالتهاب جداً على الصعيد السياسي. إن الأداء الاقتصادي الباهت يسبب إحباطات شعبية تجاه قيادة النظام، ويفاقم نمو السكان من خطورة تلك المشاكل الاقتصادية ليجعل من الأشق على الأنظمة أن تحافظ على مستويات المعيشة الراهنة، ناهيك عن أن ترفع تلك المستويات. كذلك فإن الفساد الواسع النطاق يولد المزيد من الإحباطات هو الآخر عندما يضطرون للإنفاق من دخولهم المحدودة لدفع الرشاوى وغيرها من المدفوعات من أجل أن يؤمنوا لأنفسهم الخدمات الأساسية التي تقدمها الدولة، ولكن التعبير عن أي من تلك الإحباطات لن يكون ممكناً من خلال هياكل الحكومة، وهذا بحد ذاته قد يتسبب في إحباطات إضافية تجاه الجهاز الحكومي. ويصبح الاحتمال أكثر وروداً هو أن تؤدي تلك الإحباطات إلى ازدياد المطالبات بالإصلاح السياسي الذي يسمح للمواطنين بان يكون لهم على الأقل صوت في عملية صنع القرار. والأنظمة العربية الحاكمة وفق خبرة الرصد لاستجابتها لتلك المتطلبات تكون دوما بإحدى طريقتين : فهي إما أن تزيد من حجم المساهمة الشعبية بهدف نزع فتيل الاستياء المتنامي، أو أن تلجأ إلى المزيد من القسر والإكراه.
وقد اختارت العديد من دول المنطقة العربية إستراتيجية تجمع بين عناصر من كلا الخيارين، وذلك باتخاذ إجراءات محدودة للإصلاح السياسي بينما يشن في الوقت نفسه هجوم على المعارضة التي تتجاوز الحدود المقبولة التي أقرها النظام. وقد لاقت هذه الإستراتيجية نجاحا كبيرا لأنها مكنت الأنظمة الحاكمة من أن تسيطر على شكل الإصلاح السياسي وإيقاعه. ومع ذلك فإنه ليس من الواضح بعد أن كان من المستطاع الثبات على هذه الإستراتيجية على المدى البعيد. كما أن هذه التحديات تهدد إدارة الدولة والاستقرار السياسي بطريقتين : طريقة مباشرة، طالما أن بعض التحديات تجعل المواطنين يتحدون الحكومات ( كالشباب العاطلين عن العمل مثلاً ) وطريقة غير مباشرة، من خلال ردود فعل الدول تجاه التحديات ( كالتقشف في الميزانية على سبيـل المثال) وقد يجادل البعض، بطبيعة الحال، بأن الفشل الاقتصادي لا يترجم تلقائياً إلى كارثة سياسية، كما أن ليس هنالك إجماع على مدى عمق التهديدات التي تمثلها هذه التحديات الاقتصادية للأنظمة الحاكمة القائمة.
ورغم أن المصاعب الاقتصادية المتصاعدة تجابه إدارات حكومات جميع الأنظمة بتحديات جسيمة، فإن شكوكاً كثيرة تحوم حول مدى قدرة الحكومات المختلفة في المنطقة العربية على التعامل مع هذه التحديات. فعند أقصى أحد الطرفين تهدد هذه التحديات بإمكانية تقويض، لا إدارة الدولة فقط، بل ومدى رضوخ المحكومين أنفسهم لسلطة الحكم.
ففي بعض البلدان، وبالأخص الأشد فقراً منها، قد تتغلب التحديات على أي هيكل حكومي، مفضية إلى انهيار النظام، كما حدث في أفغانستان والصومال. إلا أن حتى المشاكل الاقتصادية العميقة قد لا تتمكن من إسقاط الأنظمة التي لها قدرة مواصلة ضخ الامتيازات والمكاسب إلى مؤيديها الرئيسيين، وإخماد أصوات المعارضين. ولا توجد هناك علاقة بسيطة بين الركود الاقتصادي وانصياع المحكومين لسلطة الحكم.
لقد أبدت حكومات المنطقة وجماعات النخبة لحد الآن تفضيلا ملحوظاً لإتباع نمط إصلاح يمضي بخطوات تدريجية، أو حتى متثاقلة. والأسباب وراء ذلك تتفاوت ما بين حالة وأخرى، ولكنها عادة ما تكون مزيجاً من عاملين:
العامل الأول يتمثل في خشية بعض الأنظمة – ولها بعض الحق أن تخشى- من أن الإزاحة الاجتماعية التي سيسببها الإصلاح الاقتصادي الشامل سينتج عنها الوقوع في مخاطر زعزعة الاستقرار السياسي. أما العامل الثاني فهو أن ذوي المصالح المكتسبة وأقوياء النفوذ سوف يعملون أما على سد الطريق بوجه الإصلاحات، أو على ضمان أن يعود عليهم نوع معين من الإصلاحات بمكاسب لا تتناسب وحقيقة ما يستحقون على حساب الجماعات الأخرى في المجتمع. وتكون الحصيلة صورة مختلطة متداخلة تبدو فيها الأنظمة وقد أخذت بتطبيق شيء من الإصلاحات الاقتصادية، بل وفي أغلب الأحيان الكثير منها (وبالذات في مجال سياسة الاقتصاد الواسع). في حين ترجئ أو تتحاشى الإصلاحات الأكثر تعقيداً، كالخصخصة، وإصلاح القواعد التنظيمية، وتطوير حكم القانون.
وقد كانت نتائج ذلك النمط من الإصلاح مخيبة للآمال، سواء بسبب المصاعب المصاحبة التي لابد أن تواجهها أية سياسة اقتصادية، أو بفعل انعدام التوافق في عملية الإصلاح. ورغم أن الأداء الاقتصادي لدى بعض الأقطار كان أفضل بدرجة ملحوظة في أواسط التسعينيات وأواخرها منه في الأعوام العشرة الماضية، فإن سرعة النمو لم تبلغ في أي قطر من الأقطار العربية حتى اليوم حداً يكفل خفض نسبة البطالة أو رفع معدلات الأجور الفعلية ومستويات المعيشة.
© منبر الحرية، 5 فبراير 2009

نبيل علي صالح9 نوفمبر، 20101

من خلال تجربتي المتواضعة في بعض مواقع الإدارة والتوجيه والإشراف –وأحياناً الإنتاج العملي- يمكنني استخلاص نتيجة عملية مفادها أنه لا يمكن السير في طريق التنمية الصحيح من دون وجود نظام معرفي قيمي عملي يمكنه دفع وتحريض وتحفيز أجمل وأرقى ما في داخل الفرد العربي من طاقات ومواهب وإمكانات هائلة، فالإنسان العربي –لم يصبح مواطناً بعد- يمتلك قدرات وطاقات خلاقة ومبدعة إذا ما تم استثمارها على طريق العمل والبناء والتطوير بعد معرفتها ووعيها من الداخل أولاً، وثانياً بعد خلق الأجواء المجتمعية الملائمة لنموها وتكاملها على مستوى الخارج والفعل العملي التجريبي..
ونحن عندما نتحدث هنا عن التنمية نعني بها بدايةً تنمية الفرد، وتنظيم مهاراته، باعتباره حجر الزاوية في بناء وتطوير ومن ثم تنمية أي مجتمع، حيث أنه لا يمكن لأي بلد أن ينمو ويتنامى ويتقدم على طريق الرقي الحضاري العلمي والتقني من دون تنمية أفراده ثقافياً وعلمياً ومعرفياً، وهذا شرط أساسي لازم، وكذلك العمل أيضاً على رفع مستواهم ودخولهم عبر زيادة إنتاجية الفرد من خلال تهيئة وبناء مختلف قطاعات الدولة لخدمة وإنجاز ذلك الهدف الكبير.
وحتى يشارك الفرد في اجتماعنا العربي والإسلامي في تنمية مجتمعاته، بصورة فعالة يمكن من خلالها تحقيق نتائج مثمرة على صعيد التنمية والبناء المجتمعي ككل، لا بد من وجود قناعة فكرية، وحالة رضى وطواعية ذاتية في داخل نفس هذا الفرد عن طبيعة العمل الذي يريد الاضطلاع به وتنفيذه.. لأن الفرد الذي يعمل في ظل مناخ ثقافي ونظام معرفي يقتنع به عن وعي وإدراك كاملين، لا بد وأنه سيصل مع باقي الأفراد المقتنعين والمتفهمين إلى إنجاز غايات تنموية صحيحة ومنتجة وفعالة. والعكس صحيح أيضاً، وهو أن الفرد الذي يعمل تحت ظل بيئة ثقافية مناقضة ومعادية –إلى حد ما- لما يختزنه في داخله من قيم وأفكار ومشاعر وتراكيب نفسية وشعورية وتطلعات وغايات (أنظمة قيم ومعنى) هو بالضرورة فرد غير قادر على العطاء والإثمار الحضاري، وغير قادر أيضاً على تحقيق أبسط شروط التنمية الحقيقة، مما ينعكس سلباً على حركة وتنمية المجتمع ككل.
إذاً، نقول وبصورة أكثر تركيزاً وضبطاً، أنه وحتى تنمو مواهب الأفراد وتنمو مقدراتهم وقابلياتهم الذاتية لابد من وجود مناخ اجتماعي وثقافي وسياسي مناسب يشكل حاضنة ملائمة لنمو وبروز واستثمار تلك الاستعدادات والقابليات الفردية، وهذا بدوره يحتم توفر فضاء سياسي قانوني دستوري يمارس الناس فيه حقوقهم في التعبير عن معتقداتهم وآرائهم وقناعاتهم السياسية والثقافية والمعتقدية بصورة صحية وسلمية تداولية يكون فيها المشترك العام هو خدمة الناس والأفراد تحت سقف القانون والنظام العام الذي يتفق عليه كل أفراد المجتمع ضمن آليات ديمقراطية سلمية بعيداً عن توسل واستخدام أدوات العنف الرمزي والمادي.
وحتى يحدث في أي مجتمع نوع من التشارك والاندفاع الجماعي الحقيقي المؤثر في اتجاه خدمة عملية التنمية الهادفة إلى تطوير واقع الفرد والمجتمع على مستوى بناء أسس ومعايير اقتصادية صحيحة تساهم في زيادة الإنتاج والدخل الفردي والوطني، لابد من تعميم ثقافة التنمية بين جميع مكونات المجتمع، وعلى مختلف المستويات، بدءاً من أصحاب القرار، إلى مختلف البنى الاجتماعية والاقتصادية البشرية، حيث أن التنمية المنظمة والشاملة، التي تشارك فيها كل المؤسسات والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويساهم فيها الجميع طوعياً لا قسرياً هي الشرط اللازم الحقيقي للنهوض الذي لا يمكن أن يتحقق فجأة، وإنما عبر سلوك طريق طويل منظم من العمل والتعب والجهد والمثابرة والكدح والإيمان بأن الوطن لا يقوم إلا بمحبة كافة أبنائه له، وبمشاركتهم الفاعلة والمنتجة في العمل الميداني المسؤول.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن عملية التنمية باتت حالياً ثقافة عمومية ومسؤولية عامة، لا تختص بفئة أو شريحة معينة، كما أنها لم تعد حصراً وحكراً على نخب اقتصادية أو غير اقتصادية بذاتها، لأنه إذا كان مطلوباً رفع وزيادة دخل الفرد، فلابد من رفع إنتاجيته وفاعليته عبر توفير المناخ السياسي والاجتماعي الأنسب والأفضل لتبلور طاقاته ومواهبه كما ذكرنا..، وهذا المناخ الصحي التداولي التشاركي هو الذي يمكن أن يسمح للفرد ذاته بالمشاركة المبدعة في عملية التنمية وعياً وثقافة وعملاً..
وفي اعتقادي أن أحد أهم أسباب الفشل الذريع الذي لحق بكل مشاريع التنمية في عالمنا العربي حتى الآن، الذي لا يزال مجرد حقل تجارب لأفكار اقتصادية تأتي من هنا وهناك من دون وجود أدنى قناعة ووعي علمي صحيح بها داخل نفوس وعقول الناس عندنا (تبيئة مفاهيم)، يكمن في ابتعاد الفرد وتغييبه قسرياً –بالرغم من كونه أساس ولب وجوهر عملية التنمية- عن المشاركة الواعية والفاعلة في العملية التنموية الفردية والمجتمعية.
وهذا يقودنا لإعادة التأكيد على أن نجاحنا في تحدي التنمية الاقتصادية للتخلص من ألبسة التخلف المهترئة التي تلف واقعنا العربي والإسلامي عموماً، لا يمكن أن يكون مضموناً، إلا إذا اكتسبت التنمية العربية الفردية والمجتمعية إطاراً يستطيع أن يدمج الأمة ككل ضمنه، وقامت على أساس ثقافي قيمي يتفاعل معها.. فحركة الأمة كلها شرط أساسي لإنجاح أي تنمية، كما كان يؤكد السيد محمد باقر الصدر أحد متنوري الفكر الإسلامي.. لأن حركتها تعبير عن نموها ونمو إرادتها وانطلاق مواهبها الداخلية..، فالتنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للأمة يجب أن يسيرا في خط واحد.
من هنا نعتقد بضرورة تهيئة الأجواء الثقافية والإعلامية والاجتماعية المناسبة لإطلاق المبادرات الجادة الهادفة إلى دفع الفرد باتجاه الانخراط الجدي والحقيقي في مختلف مشروعات التنمية، وذلك عبر التوجيه الصحيح الدائم، والاستمرارية في العمل الدؤوب والصادق. لأن الواقع العربي العام صعب ومعقد وينذر كوارث حتمية أكثر مما هو قائم حالياً على مستوى السياسة من خلال سيطرة الاستبداد ونزع ممارسة السياسة –وما ينتج عنها من حقوق وواجبات وحريات فردية وعامة مسؤولة- من المجتمع، وعلى مستوى الاقتصاد من خلال وجود ما يزيد على 140 مليون مواطن عربي يعيشون تحت خط الفقر المدقع، وارتفاع معدلات البطالة حيث تصل نسبة الشباب العاطل عن العمل إلى ما يزيد على 50% من نسبة عدد السكان بالنسبة لمعظم الدول العربية، مما يجعل معدل البطالة بين الشباب في الدول العربية الأعلى في العالم كله. وهنا يتمثل التحدي العربي الأكبر –كما تؤكده كل تقارير التنمية- في ضرورة توفير 51 مليون فرصة عمل جديدة خلال السنوات العشر القادمة أي بحلول عام 2020م.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

كان الإنسان في  العهود السابقة، في أوربا مثلا في القرون الوسطى تحديدا، يعيش حالة مزرية من الفقر المدقع، أو يعيش حالة الكفاف في أفضل حالاته، وكانت الإقطاعيات المجاورة تعيش حالة من النزاع الدائم، والغزوات، واعتبرت مثل هذه النزاعات، والحروب، في فترات خلت من التاريخ أمرا واقعا،  وضرورة، بل كان هناك من يشيد بحسناتها..
لكن الحالة بدأت بالتحسن ولو بشكل بطيء، بعد القرن السادس عشر، إثر التبادل التجاري بين الدول، وشاعت حالة الاعتماد المتبادل، فالتجارة خففت من الاحتقانات فيما بين الدول، بل ربما قلنا أن التجارة شرعت بإرساء أسس السلام بينها…
ثمة حكاية طريفة من القرن السادس عشر تقول : بينما كانت السويد والدانمرك في نزاع دائم، أقام مزارعون من البلدين على الحدود نقاط  التقاء تجارية، وأرسوا السلام  فيما بينهم، بالضد من رغبات حكام البلدين، عندما أخذوا يتبادلون المواد والبضائع، فيقايضون ( اللحم والزبدة، بالسمك والبهارات) لذلك شاعت نادرة تناقلها شعب البلدين تقول : ( أرسى الثور السلام )  فالثور هو عدة  المزارعين، وهو أيضا من عناصر قوى الإنتاج المهمة في ذلك العهد..
إن النمو الحقيقي والتحسن الملحوظ في أوربا، بدأ منذ القرن التاسع عشر، جرّاء الثورة الصناعية، حيث كان المزيد من الإنتاج، والتوسع في حجم الادخار، وتوظيف تلك الادخارات بإدخالها في حيز الاستثمار، كل هذا إلى جانب أسباب أخرى لا سيما السياسة الاقتصادية المتبعة، والتي سنوضح طبيعتها بعد قليل، كل هذا، دفع أوربا إلى النهضة الحقيقية بخطا وئيدة، لكن ثابتة.. هذا عن العالم الأوربي، عالم الغنى، فكيف كانت حال النمو والتنمية، بالنسبة لعالم الفقر.
إن النموّ في البلدان الفقيرة، ولنأخذ الهند مثالا، إذا لم يتحقق بمعدلات جيدة نسبيا، لكن النتيجة دفعت الإنسان الهندي في المحصلة، للبحث عن عمل، والتحرر من سطوة الإقطاعي، الذي ظلّ يتحكم في مصيره ومصير الملايين من أمثاله، حتى المرأة التي كانت عالة على أهلها، قابعة في البيت حبيسة المنزل، تابعة لمعيلها، أتيحت لها فرص العمل، بعيدا عن عبودية الزوج والأهل؛ كما صارت الأسر ترسل أبناءها للمدارس.. لهذا حق لبعضهم القول، من أن النمو يبقى أجدى وسيلة،  وأفضل سبيل لتجاوز حالات الفقر.
ترى أية سياسة اقتصادية ينبغي أن تتبع، حتى يكتب لتلك السياسات النجاح في التنمية، ومعالجة مسألة الفقر، وتوفير الثروة.؟ هذا هو السؤال المهم والأساسي المطروح، وهو غاية هذا  النص الذي بين أيدينا في التناول والمعالجة.
أمامنا نموذجان للاقتصاد: الاقتصاد الرأسمالي، أي اقتصاد السوق، أما الثاني فهو اقتصاد التخطيط المركزي، النموذج السوفييتي.. فلو أخذنا شعب بلد واحد في بلد منقسم، تتوزع شعوبه على النموذجين، ثم وقفنا على النتائج، نستطيع أن نستخلص بعض الأفكار ونخرج بالتالي بنتيجة ما؛ فالاقتصاد الرأسمالي، أي اقتصاد السوق، يدخل في إطارها ألمانيا الغربية، في حين أن ألمانيا الشرقية، أو ألمانيا الشيوعية، تدخل ضمن اقتصاد التخطيط المركزي، النموذج السوفييتي، وهما بلد واحد ينقسم، أو يتوزع شعبا وأرضا بين النموذجين كما قلنا، وكوريا الجنوبية الرأسمالية، إلى جانب كوريا الشمالية الشيوعية، مثال ثالث وأخير، تايوان الرأسمالية، والصين الشيوعية؛ كانتا من قبل كيانا واحدا، يمثلهما مركز واحد  ولنتأمل الآن في النتائج، نتائج السياسات الاقتصادية المتبعة في كل بلد..
لقد شهدت ألمانيا الرأسمالية ( معجزة اقتصادية) في الوقت ذاته كانت ألمانيا الشيوعية تنحدر نحو الفقر، كما أن  كوريا الرأسمالية عرفت تطورا اقتصاديا وتكنولوجيا هائلا، تعرض في ذات الحين اقتصاد كوريا الشيوعية، إلى ركود ثم الميل باتجاه الانهيار.. وفي حين كانت الصين الشيوعية تعاني من الفقر والمجاعة، شهدت تايوان تطورا هائلا، مما حدا بالصين أخيرا مضطرة إلى فتح أسواقها أمام عالم التجارة والاستثمار.. ولا ننسى النموذج السوفييتي في أوربا الشرقية كيف أنه انهار بالكامل، حيث شمل الانهيار الاتحاد السوفييتي وكافة دول أوربا الشرقية.. وهنا حق القول، من أن السياسة الاقتصادية للرأسمالية (السوق الحرة) هي التي كسبت الرهان، وانتصرت على اقتصاد التخطيط المركزي، الذي اندحر أي اندحار..!
عمد كثير من القادة اليساريين بغية التخفيف من وطأة الفارق الكبير بين بلدان النموذجين ــ الاقتصاد الحر, والتخطيط المركزي ــ إلى الترنم بهذه المقولة، في الاقتصاد الحر، حيث البلدان الرأسمالية ( الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا ).
من خلال قراءتي للأدبيات الماركسية، لا تجد في هذه المقولة سوى نصف الحقيقة، صحيح أن الأغنياء يزدادون غنى، لكن أيضا أشار ماركس بالتحسن الذي يطرأ على وضع الطبقات الدنيا أيضا؛ لكن ربما أن نتفق بأن البون، أو الفارق بين الطبقتين، يزداد اتساعا، لكن القول بأن الفقراء يزدادون فقرا، فهذا لا يقره الواقع، وإلا فلماذا يدعو بليخانوف إلى التنمية الرأسمالية لتحسين وضع الطبقات الدنيا، فقد قال في عام 1883: ( نحن لا نعاني في روسا من نمو الرأسمالية، بل نعاني من عدم كفاية نموها ) وبعد أكثر من عقدين عاد لينين ليكرر نفس الكلام، ويمضي به أكثر وضوحا، عندما قال ما معناه من إن معاناة الشعب الروسي ليست بسبب الرأسمالية في روسيا، وإنما بسبب تأخر الرأسمالية فيها، ونحن مع تطور الرأسمالية بشكل مطلق ودون تحفظ، إن هذا الكلام  يستدعي منا أن نقف عنده ونتمعن فيه عندما يقول: ونحن مع تطور الرأسمالية  على الإطلاق.. فماذا يعني هذا الكلام، أنه يعني فسح المجال أمام القطاع الخاص الرأسمالي، أي أصحاب الملكيات الخاصة للتنمية الرأسمالية والاستثمار، وتقديم التسهيلات اللازمة لهم، أي ( دعه يعمل، دعه يمر ) تلك المقولة الاقتصادية القديمة، أو الترنيمة المعروفة، والتي أثبتت جدواها ومثال دول النمور الآسيوية ماثل لعيان، فقحط الأرض، وفقرها لم يحولا دون تنميتها أمام الإرادة الحرة…
علينا أخيرا إدراك أهمية الاقتصاد الحر، وبالتالي ضرورة فسح المجال أما الناشطين اقتصاديا للعمل بكامل الحرية وألا نقيدهم بمركزية السلطة، بقراراتها المتشددة إذا أردنا لبلدنا الازدهار ولشعبنا الوفرة والعيش الكريم
© معهد كيتو، منبر الحرية، 9 ديسمبر 2008.

peshwazarabic9 نوفمبر، 20100

تراجعت أسعار المواد الغذائية في الشهور الأخيرة بعد أن وصلت إلى أعلى مستوياتها هذا العام. ومع ذاك، ما تزال الأمم المتحدة تحذر من أزمة غذاء يمكن أن تلقي بأكثر من مئة مليون فرد  في براثن الفقر المدقع.
فهل يجب أن يبقى الغذاء غاليا علما أن عدد البشر في تزايد مستمر ونمو دخلهم الفردي يرفع من معدلات الاستهلاك الفردي؟ تؤكد منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة في آخر تقرير لها أن قرابة مليار فرد يعانون من نقص في التغذية. فهل يحتم عليهم قدرهم البقاء جائعين؟  كلا على الإطلاق.
خلال النصف الأخير من القرن العشرين، تنامى عرض المواد الغذائية على نحو أسرع من تنامي الطلب، فتراجعت الأسعار الحقيقية للحبوب بمعدل 75%. فهذا التراجع خفض التكاليف الغذائية علما أن النظام الغذائي البشري يتكون من أكثر من 60% من الحبوب. أما في الآونة الأخيرة، فقد بدأ النمو السكاني بالتباطؤ، غير أن الطلب على المواد الغذائية مازال يشهد ارتفاعا سريعا نتيجة ارتفاع المداخيل. وبحلول عام 2050، ربما يتزايد الطلب على المواد الغذائية إلى ما بين 60% و100%. فان لم نقم بزراعة وإنتاج المزيد من المواد الغذائية في الهكتار الواحد واستغلال المزيد من الأراضي، ستستمر الأسعار في الارتفاع.
إن الارتفاع الحالي للطلب على المواد الغذائية كان أمرا متوقعا. بل أنه، وكما قال جاك ديوف، المدير العام لمنظمة المواد الغذائية  والزراعة التابعة للأمم المتحدة: “كان متوقعا، وقد تنبأنا به، وكان يمكن تفاديه… ولكن العالم فشل في ذلك.” ولكن لا يجب إلقاء اللائمة على “العالم”: فاللوم يقع على الحكومات المنفردة، ولا سيما في البلدان الأكثر فقرا، حيث أقامت الكثير من العوائق الضخمة بوجه حركة المواد الغذائية ، مما أبقى الأسعار مرتفعة.  حيث أن نسبة المبادلات التجارية في ما بين الدول الإفريقية لا تتجاوز 15% فقط من حجم مبادلاتها الكلية . أما التعرفة الجمركية في البلدان الفقيرة  فمعدلاتها أعلى مما هي عليه في البلدان المتطورة. ففي جنوب الصحراء الإفريقية، يبلغ معدل التعرفة على الواردات الزراعية 33%. كما أن التدابير التنظيمية المتفاقمة، والشريط الأحمر، والتأخيرات عند نقاط التفتيش الجمركي والفساد، تزيد الوضع سوءً. وبما أن هذه العوائق ترفع أيضا تكاليف المدخلات (inputs) ، فان المنتجين المحليين يصبحون غير قادرين على الاستجابة لارتفاع الطلب على المواد الغذائية.
أوكرانيا هي خير مثال على بلد يمتلك إمكانات زراعية ضخمة ولكنها بقيت غير مستغلة. فإذا تحسنت جودة الزراعة وتم استعمال مدخلات أفضل، كالأسمدة، يمكن لأوكرانيا أن تضاعف محاصيلها الزراعية الحالية، و ستصبح قادرة على تصدير من 50 إلى 80 مليون طن إضافي من الحبوب في العام الواحد. وهذه الكمية تكفي، من حيث القيمة الغذائية للحبوب، لإطعام 50 مليون شخصا في الصين. أما في الهند، حيث معدل الاستهلاك اقل مما هو عليه في الصين، فهي تكفي لإطعام 100 مليون نسمة.
تعتبر الأراضي الأوكرانية أراض خصبة قابلا للزراعة حيث كان هذا البلد من بين رواد العالم في ميدان الزراعة في منتصف ثمانيات القرن التاسع عشر. وأصبحت أوكرانيا بعد ذلك  الممول الغذائي للاتحاد السوفيتي. وعلى الرغم من الإرث الشيوعي، فأوكرانيا مازالت  بلدا مصدّرا للمواد الزراعية. ولكن التدخلات الحكومية و فرض نضام الحصص على للصادرات أبقى معدلات الأسعار المحلية منخفضة بشكل مصطنع، مما بدد كافة محفزات وطموح المزارعين.
و الأرجنتين مثال مشابه لأوكرانيا من حيث إهدار و تبذير إمكانياته الزراعية. حيث أن زراعة  15 مليون هكتارا، بدلا من التسعة ملايين هكتار التي تزرع حاليا يمكن أن تنتج 30 مليون طنا إضافيا من الحبوب للتصدير كل عام. وبوسع هذا الرقم أن يغذي 30 مليون نسمة في الصين، أو 60 مليون في الهند، لسنة كاملة. ولكن، هنا أيضا، يتراجع الإنتاج بسبب الممارسات السياسية لإدارة الرئيسة كريستينا فيرناندز. هذه الأخيرة اتبعت نهج الحكومات السابقة مستخدمة كافة المناورات التكتيكية المتوفرة لأجل إبقاء المواد الغذائية رخيصة مهما كانت التكاليف. ففي آذار (مارس) الماضي، تمت زيادة ضرائب الصادرات على العديد من السلع الغذائية، فوصلت نسبة الضريبة على فول الصويا، وهو أهم منتوج موجه للتصدير، إلى 45%.
لقد تسببت عدة عقود من ممارسة مثل هذه السياسات في تقليص حجم الأراضي المزروعة منذ بداية ستينيات القرن العشرين. كما أن السياسات الاقتصادية الانعزالية الرامية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي أثبتت فشلها وخلقت مشاكل جمة لعديد من البلدان، لا سيما تلك التي لا تتوفر على إمكانات ضخمة كأوكرانيا أو الأرجنتين. كما أن نيجيريا، والسنغال، ومالاوي قد لهثت خلف سراب هذه السياسات، في حين أن العديد من بلدان جنوبي الصحراء الكبرى تفخر فعلا بكونها “مكتفية ذاتيا”. فكانت النتيجة انخفاضا خطيرا للاستهلاك الغذائي الفردي.
في محاولاتها للإبقاء أسعار المواد الغذائية رخيصة تفشل الحكومات في إدراك أن الصادرات المقيدة والضرائب الزراعية تقلص من استثمار وإنتاج المزارعين. فالنتيجة هي ارتفاع شامل للأسعار.
لقد أدت ردود فعل الحكومات إزاء الأزمة الغذائية إلى نتائج عكسية: إذ قام أكثر من 30 بلدا بفرض قيود على الصادرات أو منعها كليا، مما ساهم في تفاقم ارتفاع أسعار المواد الغذائية . وخلاصة القول فإن تحرير التجارة وتحرير المزارعين من القيود المفروضة عليهم من قبل السياسيين يبقى السبيل الأنجع لتحقيق مصلحة المنتجين والمستهلكين في كل مكان.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

ماذا يستطيع السياسيون أن يفعلوا لخلق وظائف تُدرّ أجوراً أعلى؟ لا بد أن السياسيين يظنون بأن معظمنا يعتقد بأن الجواب هو: الكثير. إن أحد أكثر الوعود الانتخابية تكراراً هي خلق وظائف جديدة بأجور جيدة. إنني سوف أحاول أن أُدلل بأن السياسيين يستطيعون عمل عدد من الأشياء لزيادة الوظائف ذات الأجور العالية. ولكن هذا لا يعني أنني أحبذ أن يحافظ السياسيون على وعودهم الخاصة بالأجور العالية، ذلك لأن الأشياء التي يستطيع السياسيون عملها لتحسين الوظائف ليست هي الأشياء التي سوفيفعلونها.
السياسيون يستطيعون تشريع سياسات من أمرين عامين اثنين، لتحقيق النتائج المرجوة، بما في ذلك خلق وظائف عالية الأجر: 1) السياسات القابلة للتنفيذ، ولكن بطريقة لا يستفيد منها السياسيون؛ 2) السياسات غير القابلة للتطبيق (وعادة ما تجعل الأمور أكثر سوءً)، ولكنها مع ذلك تخلف سراب الفعالية بطرق تخدم السياسيين.
وفق الترتيبات الديمقراطية السائدة، فإن النجاح الانتخابي يتطلب من السياسيين أن يظهروا كدعاة لتحقيق أهداف اجتماعية مرغوبة، مع عمل مباشر وحاسم يخدم جماعات المصالح الخاصة المنظمة. وحتى عندما تكون تلك المصالح مضرة اجتماعياً، وهي عادة كذلك، فإنها تفعل أكثر لخدمة مصالح السياسيين، بدلاً من السياسات التي تخدم الأهداف الاجتماعية العامة، بشكل غير مباشر، عن طريق خلق بيئة يستطيع الناس فيها تحقيق مصالحهم المختلفة من خلال التفاعل الإيجابي. المعضلة السياسية بالنسبة للتوجه غير المباشر تتألف من أمرين: الفوائد التي تتأتى تدريجياً وتعمّ ساحات واسعة بحيث أن القلائل فقط هم الذين يلاحظونها، وبذا يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل على السياسيين ادعاء فضل لهم في خلقها. وكما أوضح إف. إيه. هايك في مجلده الثالث بعنوان: القانون، والتشريع والحرية، فإن السياسيين “الذين يتطلعون إلى إعادة انتخابهم، على أساس ما حقق حزبهم خلال السنوات الثلاث أو الأربع التي مضت، في إعطاء مزايا خاصة وبارزة لناخبين، ليسوا في ذلك المركز الذي يتيح لهم إصدار القوانين العامة، والتي تكون بالفعل أكثر ما تكون خدمة للصالح العام.” عندما ننظر إلى السياسات التي تهدف إلى خلق وظائف عالية الأجر، فإننا بسهولة نجد أمثلة حيث يُفضل السياسيون “الفوائد” البارزة التي تسيء إلى الجمهور، بدلاً من الفوائد غير البارزة التي هي حقاً في صالح جماهير المواطنين.
كثير من السياسات تزيد من عدد الوظائف التي تعطي أجوراً عالية بشكل غير مباشر، ويبدو أن كثيراً منها تزيد العدد مباشرة، ولكنها في الحقيقة، تُنقص تلك الوظائف وتخفض مستوى أجورها. السياسات السابقة جميعها تفعل الشيء الضروري الوحيد لزيادة الأجور والرواتب: رفع إنتاجية العمل، بينما السياسات الأخرى جميعها تُخفض أو تؤخر زيادة الإنتاجية، وبالتالي تُخفض الأجور إلى ما هو أدنى مما كان يجب أن تكون عليه. التحيّزُ السياسي ضد السياسات الفعالة يبدو واضحاً من القائمة التالية، ومن البحث الموجز. لننظر أولاً في بعض السياسات التي تؤدي إلى زيادة الأجور.
 إلغاء القيود على الواردات: أحد أكثر الإجراءات فعالية يمكن للحكومة اتخاذها لزيادة إنتاجية العمل والأجور هو إلغاء التعرفة الجمركية والقيود على الاستيراد. تخفيض القيود على الاستيراد يزيد من المداخيل الحقيقية بوسيلتين. أولاً، إنه يخفض السعر الذي يدفعه العمال لتلك البضائع والخدمات التي يمكن إنتاجها بكلفة أقل في بلدان أخرى من تلك التي يدفعونها داخل بلادهم. ثانياً، إنه يزيد التنافس أمام المنتجين المحليين من قبل المنتجين في الخارج، وهذا يُوجه العمال إلى تلك المجالات التي تكون فيها إنتاجيتهم أعظم، والتي يتمتعون فيها بميزة نسبية.
رفع الإنتاجية هو أمر ضروري وكاف لرفع الأجور، على الأقل بشكل عام. لا يستطيع أي إنسان عاقل أن ينكر بأن هنالك كلفة تتأتى عن انتقال العمال إلى وظائف ذات إنتاجية أعلى، أو أن القليلين سوف لا يجدون وظائف تعطيهم أجوراً مساوية لتلك التي كانوا يتقاضونها. ولكن لا يمكن لأي اقتصاد أن يزدهر في غياب منافسة مفتوحة، والتي تبقي جميع الموارد، بما في ذلك الموارد العمالية، متنقلة من الوظائف الأقل قيمة إلى الوظائف الأعلى قيمة (من وجهة نظر المستهلكين)، استجابة لأحوال متغيرة على الدوام. لكن حتى أولئك الذين ينتهي بهم الأمر إلى قبض أجور أقل، بسبب التأقلمات الخاصة المطلوبة منهم، يظلون يكسبون أجوراً أعلى كثيراً من تلك التي كانوا سيتقاضونها لو ظل الاقتصاد مغلقاً على نفسه ضد إحداث مثل ذلك التأقلم.
 وضع نهاية لرفاه الشركات الكبرى الاحتكارية: القيود على الاستيراد هي شكل من أشكال الرفاه بالنسبة للشركات الكبرى، ولكنها ليست لسوء الحظ الشكل الوحيد. لقد نجحت تلك الشركات عن طريق لوبيات الضغط على الحكومة باكتساب عدد كبير من أساليب الدعم والأنظمة التي تجلب لهم الثروات، عن طريق فرض القيود على المنافسات التي تواجههم. إلغاء جميع أشكال المحاباة من شأنه زيادة عدد الوظائف التي تدفع أجوراً أعلى عن طريق تخفيض الضرائب والتأثير المشوِّه الذي تحدثه، وإتاحة المجال أمام التنافس الداخلي والخارجي بتوجيه الأيدي العاملة ورأس المال إلى أكثر الميادين إنتاجية، وفق ما يراه المستهلكون وليس كما يراه السياسيون الذين يخدمون مصالح عملائهم الخاصة.
 فئات ضرائب هامشية أقل: بغض النظر عن مدى كفاءة أية حكومة، فإن عليها أن تجمع الإيرادات للإنفاق على نشاطاتها، وهذا يعني فرض الضرائب. لسوء الحظ فإن جميع الضرائب تُخفض الإنتاجية عن طريق: 1) وضع فجوة بين السعر الذي يتلقاه المورد وبين ما يدفعه صاحب الطلب على البضاعة، وبالتالي، الحيلولة دون حدوث تبادل تجاري مُثمر؛ 2) دفع الناس إلى اتخاذ قرارات لتفادي دفع الضرائب، بدلاً من خلق الثروة. تلك التشوهات تسمى عادة بخسائر الأحمال الثقيلة، وهي كلفة لا مفر منها في دفع ضرائب فوق وبالإضافة إلى كلفة الفرصة لجني المال. إن تخفيض الخسائر الناتجة عن الأحمال الثقيلة نتيجة رفع نسب الضرائب يزيد من فعالية التعامل بين أصحاب العمل والعمال وإلى توجيههم إلى مناحي تستجيب لرغبات المستهلكين، ورفع مستوى الإنتاجية العامة، وكلاهما من شأنه رفع الأجور الحقيقية للعمالة. إذن، فإن طريقة فعالة لزيادة عدد من يتقاضون أجوراً عالية هي عن طريق تخفيض نسب الضرائب وتوسيع قاعدة دافعي الضرائب عن طريق إغلاق منافذ الهرب من دفعها. فكلما كانت نسبة الضرائب الهامشية أقل، كانت الفجوة أقل بين ما يتلقاه البائعون وما يدفعه المشترون. وكلما نقصت منافذ التهرب من دفع الضريبة (مصحوباً بنسب ضريبة أقل)، قلت الفائدة الضريبية من تحويل الموارد من الإنتاج ذي القيمة العالية إلى القيمة المنخفضة التي تتأتى عن تجنب دفع الضريبة.
 تجنب التضخم: تستطيع الحكومة أن تفعل الكثير لرفع أعداد الوظائف التي تدفع أجوراً عالية، وذلك عن طريق تجنب التضخم. التضخم يستنفذ الإنتاجية العمالية، ويخفض الأجور الحقيقية، تماماً مثلما يأكل من قيمة العملة. إن أكثر الأمور ضرراً بالنسبة للتضخم هي أنه يشوّه المعلومات التي تنقلها أسعار السوق، وتخفيض قدرة سوق المال على توجيه الموارد، بما في ذلك العمالة، إلى حيث تحقق أعلى إنتاجية لها. ومثلما أن المسطرة للقياس تفقد فائدتها في قياس ومقارنة المسافات، إذا كان طولها خاضعاً لتغييرات مفاجئة، كذلك، فإن أسعار السوق هي أقل فائدة لتقرير ومقارنة القيم، عندما تكون قيمة المال خاضعة لتقلبات فجائية. كذلك، فإن التشوهات الناتجة عن التضخم تجعل من المستحيل معرفة ما هي نسبة الفائدة المناسبة عندما يقترض الناس أو يقرضون مالاً لتمويل استثمارات طويلة الأجل. لذا، وفي أجواء من التضخم، فإن كثيراً من الاستثمارات الكفؤة، والتي تزيد من إنتاجية العمال في المستقبل، وتزيد من أجورهم المستقبلية، لا تأخذ طريقها إلى التنفيذ أبداً.
تجنُّب الترف
 خفض الإنفاق المترف: ليس هنالك من شك بأن تخفيض الإنفاق المُترف من شأنه زيادة الأجور الحقيقية عن طريق زيادة إنتاجية الاقتصاد. إن جزءاً كبيراً من الإنفاق تُحركه قدرة بعض دوائر المجلس التشريعي، أو جماعات المصالح الخاصة، على الاستحواذ على فوائد ومزايا عن طريق توزيع الكُلف على قاعدة دافعي الضرائب كلها. وحيث أن أولئك الذين يستفيدون أكثر من غيرهم يدفعون جزءً بسيطاً من الكلفة، فإن الضغط يتجه نحو توسيع الإنفاق إلى ما هو أبعد كثيراً من المستوى الأكثر كفاءةً اجتماعياً. الموارد تنتقل من الاستخدامات ذات الفوائد العالية إلى الاستخدامات الأقل فائدة بالنسبة للمستهلكين، وبالتالي تخفيض قيمة البضائع والخدمات المتاحة، وبالتالي تخفيض القيم الحقيقية للرواتب والأجور. الإنفاق الحكومي الزائد هو عنصر سلبي خارجي، تماماً مثلما هو التلوث الزائد، والأول ليس أقل هدماً للإنتاجية وليس أقل فعلاً في إذابة الأجور الحقيقية من الأخير. فإذا كان السياسيون قلقين بسبب النتائج السلبية الناتجة عن سياسة البذخ في الإنفاق، مثلما هم قلقون، كما يقولون، من التلوث الزائد، فإن النتيجة ستكون إنفاقاً حكومياً أقل مضيعة ووظائف برواتب وأجور أعلى.
 إلغاء الحد الأدنى للأجور: إن هذا سوف يزيد من الأجور عن طريق زيادة رأس المال البشري، والذي هو لكثير من الشباب الصاعدين يمكن تكوينه أفضل تكوين بالتدريب العملي في العمل. التشريعات الخاصة بالحد الأدنى للأجور تخلق البطالة بشكل واضح بين الشباب اليافع، والذين هم، ولأسباب عديدة، بما في ذلك مدارس عامة عديمة الجدوى، لا يملكون المهارات التي تستحق الحد الأدنى للأجور المنصوص عليه في القانون. النتيجة لن تكون فقط البطالة، التي قد تكون قصيرة المدى، بل تخفيضاً في الفرص لكثير من الشباب لكي يكتسبوا المهارات التي تجعلهم أكثر إنتاجية على المدى الطويل. وحتى أولئك الذين يحصلون على وظيفة بالحد الأدنى من الأجر هم أقل احتمالاً في الحصول على وظيفة يقدم فيها صاحب العمل فرص تدريب لهم، على حساب إنتاج فوري بشكل من الأشكال. الحد الأدنى يحرم الكثير من الشباب من فرص قليلة لمواصلة تعليمهم الرسمي من أجل كسب المهارات الضرورية التي تمكنهم من الحصول على مداخيل أعلى في المستقبل نتيجة العمل بأجور منخفضة عندما تكون عليهم مسؤوليات مالية قليلة. إلغاء قانون الحد الأدنى يجعل أمراً شرعياً للشباب الأقل حظأً بأن تتوفر لهم الفرص نفسها للحصول على وظائف في المستقبل بأجور أعلى، مثل تلك التي تتوفر لمن هم أكثر حظاً من خريجي الجامعات الذين يتلقون الدعم فيها.
 إنقاص سلطة نقابات العمال: إن إزالة بعضٍ من الامتيازات التشريعية المعطاة للنقابات العمالية سوف يكون أحد الوسائل الفعالة لزيادة الأجور. نقابات العمال تعمل على زيادة أجور بعض العمال، ولكنها تفعل ذلك عن طريق تخفيض أجور آخرين بقدر يؤدي إلى تخفيض الأجور بشكل عام. وبسبب الامتيازات التشريعية التي تتلقاها الاتحادات، فإن من الصعب، وفي بعض الأحيان من المستحيل على العمال أن يتأهلوا لبعض الوظائف، بدون الانتماء إلى أحد الاتحادات. وهكذا، فإن الاتحادات تستطيع رفع بعض الأجور عن طريق حظر الانتماء إلى بعض مجالات العمل وجعل أولئك العمال أقل كفاءة، مع وجود قوانين عمل صارمة.
جميع هذه الممارسات تؤدي إلى تخفيض في الإنتاجية للقوة العاملة. إن منع الدخول إلى بعض مجالات العمل يزيد من أجور بعض أعضاء النقابات الذين يعملون في تلك المجالات، بيد أن ذلك يزيد من عدد العمال في مجالات أخرى، حيث مهاراتهم أقل قيمة. هذا لن يؤدي فقط إلى تخفيض أجورهم، بل إنه يخفض من إنتاجية وأجور العمال بشكل عام، عن طريق الحيلولة بينهم وبين الالتحاق في وظائف تعطيهم مردوداً أعلى. وبسبب تقليص مرونة أصحاب العمل على نقل العمال من مجال عمل إلى مجال عمل آخر، استجابة لظروف متغيرة، فإن قوانينَ عملٍ غير مرنة تخفض كذلك من إنتاجية وأجور العمال.
اتحادات العمال على امتداد القطاع الصناعي قد خفَّضت أيضاً من الإنتاجية الاقتصادية العامة عن طريق تجمع العمال الذي يحول دون المنافسة. فإذا ما وافقت الشركات في صناعة ما بشكل صريح على تخفيض الإنتاج من أجل رفع الأسعار، فإنها تكون قد خالفت القانون الذي يمنع التواطؤ بين الشركات لتحديد الأسعار (والذي استُثني من تطبيقه نقابات العمال) والذي يفرض عقوبات صارمة، بما في ذلك السجن، لكبار المديرين. ومن الناحية الأخرى، فإن الشركات في الصناعات لا تقلق كثيراً إذا ما تم تنقيص الإنتاج بسبب إضرابٍ من الاتحادات. لذا، فإن أرباح الشركات وأجور أعضاء الاتحادات يمكن زيادتهما بسبب عدم كفاءة “الكارتل” (الاتفاقات لتحديد التجارة) التي تظل ضمن القانون فقط بسبب أن وراءها اتحادات العمال. (إنني لا أجادل بالنسبة لقوانين مكافحة التواطؤ لتحديد الأسعار، وحتى لو أمكن جعل تلك القوانين بمعزل عن الاعتبارات السياسية، وهذا لم يحدث أبداً ولن يحدث، فإنها سوف تظل تحد من التنافسية في المجتمع، بسبب نظريات الكتب الجامدة التي تفترض تنافساً كاملاً، وهو ما بُنيت عليه.)
جميع هذه النقائص الآتية من قوى اتحادات العمال تُخفض التنافس وبالتالي تؤدي إلى تناقص الأجور الحقيقية. إن تلك النواقص سوف تتناقص كما أن الأجور الحقيقية للعمال سوف تتزايد إذا تم تحجيم نفوذ اتحادات العمال. وكما بيّنت، فإن جميع السياسات التي بحثتها لها قاسم مشترك واحد: إن من شأنها زيادة الأجور عن طريق رفع الإنتاجية الاقتصادية. كما أن شيئاً آخر يجمعها: أنها ترفع الأجور على مستوى عريض، وبشكل غير مباشر، وتدريجياً، عن طريق خلق بيئة يتعاون الناس فيها تعاوناً منتجاً، من خلال السوق وبطرق تخدم مصالحهم المشتركة أفضل خدمة. هذا يعني أن الوظائف الأفضل والأجور الأعلى لن يظهرا على الفور، وحتى لو كان الأمر كذلك، فلن ينظر إليهما على أنهما نتيجة عمل حكومي تستحق عليه الثناء. وعليه، فإن فعالية تلك السياسات في خلق ذلك النوع من الوظائف التي يعد السياسيون دوما بخلقها لن تترجم إلى تأييد سياسي كبير بالنسبة لهم. يفضّل السياسيون تلقي الامتنان عندما يبدون وكأنهم يخلقون وظائف أفضل مصحوبة بنتائج عكسية، بدلاً من نيل الامتنان لسياسات تخلق بالفعل وظائف أفضل. وسوف نبحث الآن في سياسات لها شعبية سياسية لأنها ظاهرياً تعد بزيادة الوظائف ذات المداخيل الأعلى، بينما هي في الواقع تؤدي إلى انخفاضها.
السياسات التي تخفض الأجور

 تقييد الاستيراد: عندما يجادل السياسيون بشأن زيادة القيود على الاستيراد، أو ضد تخفيضها، فإنهم يدَّعون دائماً بأنهم يريدون حماية الوظائف التي تعطي أجوراً عالية. القيود على الاستيراد تحمي بالفعل بعض الوظائف ذات الأجور العالية، ولكن على حساب تخفيض خلق وظائف أخرى، حتى بأجور أعلى، بسبب الانخفاض العام في الإنتاجية والتي تخفّض معدل الأجور الحقيقية. بيد أن الوظائف المحمية يحتلها حالياً عدد معروف وقليل نسبياً من الذين يتمتعون بتمثيل سياسي جيد، وهم على وعي تام بالمزايا التي يحصلون عليها من السياسيين، الذين يدلون بأصواتهم إلى جانب فرض قيود على الاستيراد تحميهم من المنافسة الأجنبية. إن الخسائر الناتجة حتى عن وظائف أعلى إنتاجية يمكن أن يتجاهلها السياسيون، ما دام أنها مبعثرة وغير مركزة وليس من السهل ملاحظتها، ذلك أننا لا نفتقد ما لم نكن قد حصلنا عليه أصلاً. وحتى لو لوحظت الخسارة فإن السبب—تقييد الاستيراد—لا يُرى بسهولة.
 وضع الشركات الكبرى على قائمة من يتلقون المنح والعطايا: السياسيون يتأرجحون بين مهاجمة رجال الأعمال وبين الثناء عليهم، ويتوقف ذلك على نوعية الموضوع السياسي والجو المحيط به. بيد أنهم ثابتون في دفع كميات كبيرة من المنح والعطايا لصالح الشركات الكبرى، والتي يدفع ثمنها دافعو الضرائب، من خلال ضرائب أعلى وإنتاجية اقتصادية أقل. أكثر الأقوال شيوعاً في تبرير تلك العطايا هي أنها تخلق وظائف جديدة.
وفي الحقيقة فإنها تخلق وظائف جديدة، ولكن على حساب تدمير فرص قيام وظائف أكثر إنتاجية، كان يمكن أن تنشأ لو لم توضع قيود على التنافس، ولو كان قد سمح للمستهلكين بصرف أموالهم التي يدفعونها كضرائب لشراء ما يفضلون من بضائع، بدلاً من دفعها كعطايا لرفاهية الشركات الكبرى.
لسوء الحظ، فإن الوظائف التي تنشأ هي مرئية ويمكن رؤيتها بسهولة كنتيجة لإجراء حكومي، بينما الوظائف ذوات المردود الأعلى والتي لا تنشأ تظل غير مرئية—ذلك أن من الصعب افتقاد ما لم ينشأ أصلاً.
 رفع الضرائب: كثيراً ما يدعو السياسيون لفرض ضرائب أعلى كأفضل وسيلة لدعم النمو الاقتصادي، وخلق وظائف أكثر وأعلى مردوداً. الفرضية هي أن الضرائب الأعلى سوف تخفض العجز في الموازنة، والذي بدوره يخفض الفوائد التي تدفع على الاقتراض الحكومي. إن شعبية رفع الضرائب من أجل خلق وظائف جيدة يتعارض مع جوهر هذا البحث. إنها تقول بأن السياسيين مستعدون لاتخاذ قرار غير محبوب—رفض الضرائب—من أجل تحقيق فائدة أعم، ألا وهي نمو اقتصادي عام وخلق للوظائف. بيد أن رفع الضرائب ليس طريقة ناجعة لزيادة النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وحتى لو أدى رفع الضرائب إلى تخفيض عجز الموازنة، فإنه ليس من المحتمل أن يكون له تأثير كبير على نسب الفوائد. الذي يقرر نسبة الفائدة هو سوق رأس المال العالمي، حيث كثيراً ما تنخفض الفائدة في ذات الوقت الذي يرتفع فيه عجز الموازنة، وترتفع عندما يكون في حالة انخفاض. ثانياً، رفع الضرائب قلما يخفّض العجز في الموازنة، على الأقل ليس لأمد طويل. وحتى عندما تؤدي الضرائب الأعلى إلى موارد ضريبية أكبر، فإن الأموال الإضافية تُستخدم في جميع الحالات لتوسيع الإنفاق الحكومي والصرف على برامج الرفاه، مع نمو الإنفاق بأكثر من نمو الواردات. والنتيجة هي استبدال الإنفاق الخاص بالإنفاق العام الذي يكون خاضعاً للمؤثرات السياسية بدلاً من الاعتبارات الاقتصادية—وهي وصفة أكيدة لتخفيض الإنتاجية وتخفيض الأجور الحقيقية. كذلك، وبنسب ضرائب أعلى، فإن أصحاب المصالح الخاصة مستعدون لدفع مزيدٍ من المال للسياسيين مقابل إعطائهم منافذ للتهرب من الضريبة، ومن شأن ذلك إدخال اختلالات إضافية على الإنتاجية في توزيع الموارد بين الإنفاق والاستثمار. إن الثمن السياسي لرفع الضرائب يُعوَّض بما هو أكثر منه في المزايا السياسية الناشئة عما يبدو بأنه خلقٌ لوظائف جديدة، في الوقت الذي يُستخدَم فيه المزيد من الدخل القومي لشراء مزيدٍ من التأييد الانتخابي.
 زيادة الإنفاق الحكومي: إن قائمة الفوائد التي تنشأ من زيادة الإنفاق العام على بناء الطرق والتعليم ودعم الزراعة والمتنزهات العامة وتوسيع المطارات وتحويل منتوجات المياه وغير ذلك، تنطوي دائماً على وظائف إضافية. بيد أن الوظائف التي تنشأ تشكل جزءاً كبيراً من نفقات تلك المشاريع وليست فوائداً. إن الوظائف الضرورية لبناء طريقٍ أو لإعادة تحويل علب الألمنيون مليئةٌ بأناس لا ينتجون قيمة في غير ذلك من النشاطات. وما لم تؤخذ هذه الكلفة بعين الاعتبار، فإن الوظائف التي يتم إنشاؤها سوف تدمر الثروة الهامشية، لأن القيمة التي يصنعها العمال الذين يعملون في المشاريع التي تمولها الحكومة سوف تكون أقل من القيمة (في معيار تفضيل المستهلكين) التي كان يمكن لهم إنجازها في مناحي أخرى. إذن فالحوافز السياسية تجعل سوء التوزيع هذا للعمالة أمراً لا مفر منه.
 تنظيم سوق العمل: يستطيع السياسيون أن ينالوا الفضل في حماية وخلق الوظائف عن طريق فرض عددٍ من القيود التي تخفض الإنتاجية في أسواق العمل. لنذكر اثنين: أولاً، تنفيذ قوانين العمل الإلزامي يضع الضغط على أصحاب العمل لتوظيف عمال على أساس التنوع العرقي للمجتمعات التي يعملون فيها، ويزيد من صعوبة التخلص من العمال غير المنتجين. ثانياً، إن الذي يُعيَّن بإرادة سياسية يقلل من المرونة المتاحة لدى صاحب العمل بتعديل التعويضات بوسائل تجذب أفضل تشكيلةٍ من العمال في مصانعهم، وبأقل الكلف.
إن خيرة السياسات التي تخلق وظائف ذات مردودٍ أعلى بشكل غير مباشر يكمن في أنها تفعل ذلك عن طريق خلق مجموع إطار إيجابي يتم في كنفه تعامل الناس وتفاعلهم بشكل أكثر فاعلية. الزيادة ذاتها في الإنتاجية، التي ترفع المداخيل، ترفع كذلك المستوى العام للثروة، وترفع من مستوى حياتنا في العديد من المجالات. وعلى سبيل المثال، كلما ازدادت الثروة، فإن وفيات الأطفال تنخفض، وترتفع توقعات الحياة (ونوعية الحياة أيضاً) في جميع مستويات العُمر، وينخفض الفقر، وتصبح البيئة أكثر نظافة، ويزيد ارتياد النشاطات الفنية، وتزداد أوقات الراحة، وتصبح الوظائف أكثر أماناً وأبهجَ وأعلى مردوداً.
المشكلة في السياسات التي تعمل على خلق وظائفٍ ذات مردود أعلى مباشر هو أنها تفعل ذلك عن طريق التحويلات الحكومية وسياسات الحماية، وهي بمجموعها سلبية. ومع ذلك، فإن هذه السلبية مفروضة بدوافع سياسية لأن السياسيين يتلقون الكثير من الثناء والتقدير لتوفيرها، بينما لا يعانون أي ملامة للخسائر الأكبر التي تنتج عنها.
بالتنسيق مع مجلة فريمان، نيسان 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 8 شباط 2007.

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

قد يبدو واضحا أن النمو الاقتصادي يحد من الفقر، ومع ذلك، يبقى هذا الموضوع مثار خلاف. اذ أكد بعض الباحثين أن النمو الاقتصادي لا يقضي على الفقر بل من الممكن أن يُفاقم مشاكل الفقراء (الأمم المتحدة 1997). فعلى سبيل المثال، أشار كل من دريز وسين (1990) أن النمو الاقتصادي لا ينتج عنه مردود يحسن الرفاه في العديد من الإجراءات غير المالية. إن الدعوة لزيادة الإنفاق الحكومي (سكويرز 1993) أو لإعادة توزيع الثروة (تودارو 1997) هما الامتداد المنطقي للنقاش حول القول أن النمو الاقتصادي لا يكفل القضاء على الفقر.
ويسمي تودارو (1997) هذا الزعم بأن النمو يقلل الفقر بشكل فعلي بـ “نظرية انسياب الفوائد إلى الأسفل.” وفي الظروف الأقل مثالية، لا يوجد حتى “انسياب” للأسفل. وببساطة، فإن التقدم الاقتصادي العام “لا يحسن من مستويات شديدي الفقر” (تودارو 1997: 155). وفي الواقع، أكد بعض اقتصاديي التنمية أن “عمليات النمو” “تنساب عادة للأعلى” إلى الطبقات الوسطى و”خاصة طبقة الأغنياء جدا” (تودارو 1997: 163).
من المواضيع التي لم يتم بحثها بتوسع هو تأثير الثروة النسبية للأغنياء والفقراء على مستوى الرفاهية. هناك الكثير من المؤلفات التي تؤكد على أنه يترتب على تحسين دخل الفقراء تأثير أكبر على متوسط مستوى الرفاهية والازدهار في بلد ما عن ذلك الذي يترتب على تحسين دخل الأغنياء (تودارو 1997). ولم تتم دراسة هذا المقترح بشكل مستفيض كما أن التحليل المتأني يشكل جدول أعمال هام للبحوث.
توزيع الثروة والفقر

من الممكن فحص السؤال الأول المتعلق بالعلاقة بين الأغنياء والفقراء عن طريق تقدير علاقة دخول الفقراء والأغنياء بعضها ببعض. وعلى سبيل المثال، من الممكن تقدير المعادلات التالية:

باعتبار أن Yp و Yr يمثلان معدل الدخل الفردي للفقراء والأغنياء، على التوالي، وأن βp و βr يمثلان مُعامِلات “تحويل دخل الفئة الاجتماعية”. وتظهر β الزيادة النسبية في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة واحدة كدالة لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للمجموعة الأخرى. فعلى سبيل المثال، تمثل βr التغير الذي يطرأ على دخل الفقراء بسبب التغير الذي يطرأ على دخل الأغنياء. فإذا كانت نظرية “انسياب الفوائد للأسفل” صحيحة، يجب أن تكون قيمة βr موجبة. وفي حال كون نظرية “الإنسياب للأعلى” صحيحة، فيجب أن تكون قيمة المعامل سالبة.
وعند تقدير المعادلات 1 و2 أعلاه، قد تبرز مشكلة محتملة للمتغيرات الإضافية التي من الممكن أن تؤثرعلى الدخل. ولقد تم فحص المتغيرات الهامة في كتاب بارو وسالا-إي-مارتن (1995) وتشمل رأس المال البشري والمؤسسات ومتغيرات أخرى. ويفترض أن تتجلى هذه التأثيرات في دخل الطبقة الأخرى. وهكذا، ستكون المتغيرات الإضافية الوحيدة المطلوبة هي تلك المتغيرات التي غالبا ما يتم حذفها في معادلات النمو عبر الوطنية. إن أكثر المتغيرات وضوحا هي المتغيرات الجغرافية. حيث تقع العديد من البلدان الفقيرة في العالم في بيئآت استوائية وغير ساحلية. ويقول كل من ساكس (1997)، وساكس وورنر (1997) وسويل (1994) بأن هذه العوامل منهكة وخاصة لرفاهية الإنسان. وغالبا ما تكون البلدان غير الساحلية معزولة عن الممارسات التجارية والافكار والابتكارات ومؤسسات تعزيز الأسواق. بينما تعاني البلدان الاستوائية من الأمراض وانعدام المرافق الصحية والمجاعات. وتهدد هذه الظروف قدرة السكان على الاستمرار في الحياة كما تؤثر بشكل معاكس على الدخل وتؤدي إلى إستدامة الفقر. وأخيرا، يقول لوكاس (1988) أن اقتصادات المدن تستتبع زيادة إنتاجية بشكل أعلى من اقتصادات الريف بسبب تأثيرات خارجية تعزى إلى رأس مال بشري يمتاز بإنتاجية أكبر.
السؤال الثاني المتعلق “بالانسياب للأسفل” هو سؤال مباشر بشكل أكبر ويرتبط بالعلاقة بين الفقر والدخل النسبي للفقراء والأغنياء. لنأخذ بعين الاعتبار مثالا بسيطا لمعدل مستوى الفقر (HP) لبلد ما:

وتمثل β درجة حساسية الفقر بالنسبة إلى الدخل، وp وr يمثلان الفقراء والأغنياء، على التوالي. ويفترض أنه في حال زيادة ثروة السكان في بلد ما سيؤدي ذلك إلى تخفيض الفقر، إلا إذا تم افتراض نظرة ماركسية بأنه سيتم انخفاض دخل الفقراء بسبب المكاسب التي حصل عليها الأغنياء—وهذه هي حجة “الانسياب للأعلى”—عند بعض اقتصاديي التنمية. وفي مثل هذه الظروف، تكون سياسات إعادة التوزيع أو السياسات التي تُعظم “نوعية التنمية” بدلا من التنمية فحسب، هي السياسات المفضلة لأن مثل هذه السياسات ستؤدي إلى تخفيض معدل مستوى الفقر في بلد ما.
وبالرغم من تأكيدات الماركسيين، هناك أسباب بسيطة للاعتقاد أن قيمة βr يمكن أن تتجاوز قيمة βp. وباعتبار التأثيرات الخارجية غير المسيطر عليها، فإذا قام الأغنياء في بلد ما بالاستثمار في بعض الخدمات التحتية التي تساعد الأغنياء، فقد يساعد ذلك الفقراء أيضا حيث أن تأثيرات هذه الخدمات التحتية سوف تنتشر وتمتد كمنافع للفقراء. وعلى سبيل المثال، فإن الاستثمار في مجال التعليم ينتج مؤثرات إيجابية للمجتمع بدرجة محسوسة وتعم على نطاق واسع.
ويمكن الأخذ بعين الاعتبار أيضا التفاعل بين دخل الأغنياء واقتصادات الحجم ودخل الفقراء. فإذا تم اعتبار اقتصادات الحجم في توفير الخدمات المختلفة (مثل الخدمات الصحية والصرف الصحي)، فان زيادة الطلب المرتبطة بارتفاع دخل الاغنياء ستدفع مستوى الاسعار الى الانخفاض، وبناء عليه، سيتيح ذلك المجال للفقراء لزيادة الاستهلاك (زيادة دخولهم الحقيقية)، شريطة أن لا تكون اقتصاديات الحجم قد أدت إلى سعر أعلى لقلة التنافس.
إذا أُخذ بالاعتبار أنماط الاستهلاك والاستثمار النسبي للأغنياء والفقراء، فانه، بافتراض أن الفقراء ينفقون معظم دخلهم على استهلاك الحد الادنى لمقابلة احتياجات معيشتهم، وأن الاغنياء يقومون باستثمار الجزء الأكبر من دخلهم، فانه في مثل هذه الظروف، فإن الزيادة في دخل الأغنياء ستؤدي إلى رفع معدل النمو الاقتصادي وبالتالي خفض معدل مستوى الفقر في بلد ما.
إستقراء من واقع التجربة العملية

لكي نفحص العلاقة بين دخل الأغنياء والفقراء فمن الممكن تقدير المعادلتين 1 و2 لعدد من الدول الواردة في تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية (1997) والتي تم احتساب وتسجيل مؤشر الفقر الانساني لها. ولقد تم احتساب هذا المؤشر لـ 78 دولة. ولكن فقدان مدخلات خاصة بفئآت دخل الأغنياء والفقراء تقلل عدد العينة التي يتم تقديرها.
تم احتساب هذا التقدير باستخدام التحليل باسلوب الانحدار البسيط، واستند الى نسبة السكان في المدن (الحضري) ونسبة المساحة الاستوائية من البلد واختير متغير إضافي للبلدان غير الساحلية. ويعرَّف الأغنياء بأنهم يشكلون ما نسبته 20% من الشريحة العليا لتوزيع الدخل بينما يعرف الفقراء بأنهم الذين يشكلون ما نسبته 20% من الشريحة الدنيا من توزيع الدخل. هذه التقديرات محسوبة باللوغارثمات الطبيعية. ولقد تم تسجيل نتائج التحليل الانحداري في الجدول 1.
وتبين البيانات الواردة في الجدول 1 أن زيادة دخل الأغنياء بمقدار دولار واحد يرتبط بزيادة تقدر بحوالي 75 سنتا في دخل الفقراء، وأن هذه العلاقة متماثلة. ولكن عندما يتم شمول متغيرات إضافية في التقديرات، فمن الواضح أن دخل الأغنياء والفقراء يتأثران بطريقة مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن نسبة الأرض والمياه في البلدان الاستوائية لها تأثير سلبي شديد على دخل الفقراء وليس على دخل الأغنياء، بينما يبدو أن نسبة السكان الذين يعيشون في المناطق الحضرية ذات تأثير إيجابي شديد على دخل الأغنياء ولكن ليس على دخل الفقراء. إن الزيادة في دخل الأغنياء مرتبطة بشكل وثيق مع الزيادة في دخل الفقراء، حتى في حال أن أدرجت المتغيرات الجغرافية. فزيادة دخل الأغنياء بمقدار دولار يزيد من دخل الفقراء بحوالي 71 سنتا. وفي المقابل، فإن إضافة المتغيرات الجغرافية، عندما يكون دخل الفقراء هو المتغير المستقل، يبين أن دخل الأغنياء أقل حساسية بالنسبة لدخل الفقراء. فإن زيادة دخل الفقراء بمقدار دولار سيؤدي إلى زيادة دخل الأغنياء بحوالي 41 سنتا فقط. هناك انسياب للأعلى بمعنى أن زيادة دخل الفقراء يزيد من دخل الأغنياء، ولكن زيادة دخل الأغنياء له تأثير إيجابي أكبر على زيادة دخل الفقراء.

في الواقع، إن التقديرات المستقلة لدخل فئتي الأغنياء والفقراء كدالة للطبقة الأخرى غير ذات معنى. ويتم تحديد دخل جميع الطبقات معا. غير أن جوهر قصة “الانسياب للأعلى” والمضمون العادي لمصطلح “الانسياب للأسفل” هو أنه هناك عوائق للتحديد المشترك لدخول الأغنياء والفقراء، وعليه، لا يستفيد الفقراء من الزيادة في دخل الأغنياء. ولكن حتى لو أخذنا فرضية الانسياب للأسفل لمحددات الدخل المستقلة لفئات الدخل المختلفة ظاهريا، فإن البيانات لا تدعم انسيابا قويا للأعلى ولا انسيابا ضعيفا للأسفل.
وللتمكن من دراسة تأثير دخل الأغنياء والفقراء على مقاييس الفقر، يمكن تقدير المعادلات 3 و4 مع شمول تأثيرات المتغيرات الجغرافية. إن أحد الاعتبارات الهامة هي كيفية قياس الفقر الإنساني. إن أحد المقاييس الملائمة والرسمية للفقر هو مؤشر الفقر الإنساني الذي تم تطويره من قبل الأمم المتحدة.
ويستند مؤشر الفقر الإنساني على فكرة سين (1997) عن الفقر وتعريفه على أنه حرمان الإنسان. ويقر تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية هذا “المنظور عن الحرمان.” ويحاول هذا المقياس أن يضع قيمة للرفاه “لأكثر الناس حرمانا في المجتمع.” ولقد تم تصميمه كأداة مدافعة باسم الفقراء في العالم وكأداة تخطيط لتحديد المناطق التي تحتاج إلى سياسات محددة لمكافحة الفقر.
تم تأسيس مؤشر الفقر الإنساني باستخدام مجموعة معقدة من المعادلات. وتشتمل مكوناته على ثلاثة مقاييس رئيسية للرفاه، هي: طول العمر والمعرفة ومستوى معيشة لائق. يُقاس طول العمر في بلد ما بنسبة السكان الذين لا يتوقع لهم أن يعيشوا حتى سن الـ 40. وتقاس المعرفة بنسبة البالغين الأميين المستثنين من وسائل القراءة والكتابة. كما تُقاس نسبة من لا يتوفر لهم مستوى لائق من المعيشة في المجتمع بنسبة من لا يتوفر لديهم مياه آمنة وخدمات صحية، وكذلك النسبة المئوية للأطفال تحت عمر الخمس سنوات الذين يعانون من سوء التغذية (نقص الوزن).
ولا يوجد مجال للشك لمناقشة إن كانت هناك بعض المقاييس الأخرى للحرمان والتي قد لا تشكل مقياسا أفضل للفقر. ولكن من الصعب تصور أن معظم المراقبين لن يتفقوا مع وجهة النظر القائلة بأن هذه المقاييس تقيس في الواقع الرفاه الإنساني المتضائل وبذلك تشكل مقياسا صحيحا لمقارنة الحرمان الإنساني.
في ضوء هذه الاعتبارات، يمكن تقدير المعادلتين 3 و4 باستخدام مؤشر الفقر الإنساني كمتغير تابع وإضافة مقاييس لنسبة المساحة الاستوائية من البلد ونسبة الحضر من السكان وكذلك متغير صنفي يعادل 1 إذا كانت البلد غير ساحلية و صفرا فيما عدا ذلك.
يتم الحصول على اختبار مباشر للرابطة بين الفقر/الدخل بتقدير مؤشر الفقر الإنساني لدخل الفقراء والأغنياء بالإضافة إلى باقي المتغيرات التي يفترض أنها تؤثر على مستوى الفقر في بلد ما. ويبين الجدول 2 نتائج التحليل بأسلوب الانحدار. تظهر البيانات أن مؤشر الفقر يرتبط سلبيا بدخل الفقراء والأغنياء. وفي كلتا الحالتين، تبدو التأثيرات واضحة وبالتأكيد قوية إحصائيا، بيد أن النتائج تنطبق بشكل أكبر على دخل الأغنياء مقابل دخل الفقراء. إذ يبلغ معامل دخل الأغنياء ضعف معامل دخل الفقراء تقريبا. وبالمثل، فإن قيمة القوة التوضيحية (R2 المعدلة) للتقدير الذي يشمل دخل الفئة الغنية كمتغير مستقل أعلى مقارنة مع التقدير الذي يشمل على دخل الفئة الفقيرة كمتغير مستقل.

إحدى الصعوبات التي تواجه النتائج الواردة في الجدول 2 هي صعوبة تفسير حجم التأثيرات. ومن أجل الحصول على نتائج سهلة التفسير، يتم تقدير مكونات مؤشر الفقر الإنساني كمتغيرات تابعة مع المتغيرات المستقلة نفسها. أما المتغيرات التابعة فتشمل نسبة السكان الذين لا يعيشون ليصلوا لسن الأربعين ونسبة السكان البالغين الأميين ونسبة السكان التي لا يوجد لديها سبيل للمياه الآمنة ونسبة الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية. ويبين الجدول 3 نتائج هذه التقديرات.[1]
النمط الذي يبرز في الجدول 3 يعكس أن مكونات مؤشر الفقر الإنساني غالبا ما تكون مرتبطة سلبيا مع دخل الفقراء ودخل الأغنياء، إضافة إلى المتغيرات الجغرافية. وعليه، فإن ارتفاع الدخل لأي مجموعة يميل إلى خفض معدلات الفقر.
إن السمة الأبرز في الجدول 3 هي أن تأثير مُعامِلات دخل الأغنياء على الحد من الفقر أقوى من تأثير معاملات دخل الفقراء. وهذه الملاحظة صحيحة لجميع الحالات. وتكشف اختبارات تقديرات المعاملات المحدودة أن معاملات فئة دخل الأغنياء تفوق حتما معاملات فئة دخل الفقراء لمتغيرات البقاء والأمية والأطفال الذين يعانون من سوء التغذية. وتُشير اختبارات الدلالة لسبل الوصول إلى المياه الآمنة والخدمات الصحية أنه في حين كون هذه المقاييس أكثر تأثرا وحساسية لدخل الأغنياء منها لدخل الفقراء إلا أن الفروقات غير ذات أهمية من ناحية إحصائية. وبشكل عام وأهم من ذلك، لا يوجد ما يدل على أن الفقراء لا يستفيدون من مكاسب الدخل للأغنياء، كما تدل عليه مقاييس الفقر الواسعة والراسخة على الأقل.
وتستحق نتائج الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية اهتماما خاصا. فيكون معامل دخل الأغنياء سالبا وهاما وذا مغزى حيث يشير إلى أن الزيادة في دخل الأغنياء تقلل من مقياس سوء التغذية للأطفال. في حين يكون معامل دخل الفقراء موجبا ولكن بشكل ضئيل وغير ذي أهمية. ويفترض أن يعكس التقدير علاقة خطية متعددة. إن إجراء تحليل انحداري لمتغير نقص التغذية على دخل الفقراء فقط يؤدي إلى خفض نسبة الأطفال الذين يعانون من نقص التغذية. ومع ذلك، يكون تقدير التحليل الانحداري البسيط المشابه لدخل الأغنياء أكبر بشكل جوهري.[2] وعليه يكون التفسير الأسهل والأكثر احتمالا أن العلاقة بين دخل الأغنياء والأطفال الذين يعانون من نقص التغذية سالبة وقوية، ولكن العلاقة بين دخل الفقراء والانخفاض في سوء تغذية الأطفال أضعف وربما تكون غير موجودة.
يبدو واضحا من البيانات المتوفرة لدينا أن زيادة دخل الأغنياء تؤدي إلى تناقص في مستوى الحرمان الإنساني بدرجة أكبر من زيادة دخل الفقراء. التفسير الآخر هو أن قياس الخطأ لدخل الفقراء أكبر من قياس الخطأ لدخل الأغنياء. هناك العديد من المشاكل المتعلقة بالقياس والمرتبطة بالدخل والرفاه البشري في بلدان العالم ذات الدخول المنخفضة. ويفترض أن تكون مشاكل القياس أكثر حدية لسكان المناطق الريفية. ووفقا لذلك، من الممكن إظهار أن العلاقة الأضعف بين دخل الفقراء مقابل دخل الأغنياء في علاج الفقر الإنساني تعزى إلى صعوبة قياس الدخل الحقيقي لأكثر الشعوب فقرا في العالم. ولكن هذه الحجة نفسها تعاني من بعض الضعف لأنه وللمدى الذي يمكن لنا أن ننسب هذه المشكلة إلى الانقسامات بين المدن (الحضر) والريف، يجب أن يعتبر متغير الحضر ما يفسر هذه الحقيقة في التقديرات.
إن الأمر الأكثر ارتباطا هو دور النمو الاقتصادي في الحد من الفقر. فالرأي المتعلق بنظرية الانسياب للأعلى والنظرة المتحيزة لنظرية الانسياب للأسفل—والانسياب هنا يشير إلى انسياب طفيف—يستندان بشدة على الرأي القائل أن “نوعية النمو” وإعادة توزيع منافع النمو الاقتصادي يؤديان إلى التخلص من الفقر وليس النمو بحد ذاته. النتائج الموثقة في الجدولين 2 و3 يتحديان ذلك التصريح. لنفترض على سبيل المثال أن البلدان الفقيرة في العالم تعاني من معدل نمو اقتصادي يبلغ 5% سنويا. بعد خمسة سنوات سينتج عن الدخل المركب زيادة تقدر بحوالي 27.62%. وبتجاهل أثر مجموعة الدخل الأخرى، فإن تأثير نمو دخل الطبقة الغنية سيخفض معدل الوفيات (“الوفاة قبل 40”) بنحو 3.76%، في حين أن زيادة دخل طبقة الفقراء ستخفض معدل الوفيات بنحو 2.55%.[3] وبالتالي، وإذا تساوت جميع العوامل الأخرى، فإن تخفيض الفقر بواسطة نمو دخل الطبقة الأكثر ثراء سيولد أثراً أعظم من تخفيض الفقر الذي يُنسب إلى نمو دخل الطبقة الفقيرة. ومع ذلك، فإن دخل الأغنياء والفقراء لا ينموان بهذه الطريقة، بل في الواقع ينموان سويا كما هو موثق بوضوح في الجدول 1. والأهم من ذلك أن البيانات تُشير إلى إنخفاض الفقر عندما يزداد الغني ثراء. وعليه، يجب أن يُعزز النمو الاقتصادي رفاه الفقراء والأغنياء.

من الممكن أن يتم فحص دور النمو الاقتصادي في تحسين الفقر مُقاسا بواسطة مؤشر الفقر الإنساني مباشرة. ويحتوي الجدول 4 تقديرات التحليل الانحداري لتأثير النمو الاقتصادي، مقاسا بالنسبة المئوية لمعدلات النمو للناتج المحلي الإجمالي للفرد لمراحل زمنية متعددة، على مؤشر الفقر الإنساني. ولأغراض التحقُّق، تم شمول المستويات الأولية للناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في التقديرات لضمان من أن النتائج تتعامل مع النمو ولا تقتصر على توزيع الدخل عبر البلدان.[5] وتبين النتائج أن معدلات النمو لجميع الفترات تُعتبر محددات هامة لمعدلات الفقر، وتكون الإشارة سالبة في جميع الحالات—أي أن النمو الاقتصادي يؤدي إلى خفض معدلات الفقر. علاوة على ذلك، فإن القوة التفسيرية لمعدلات النمو تزداد نوعا ما بطول الفترة، مع حدوث القوة القصوى في تقديرات الفترة 1970-90.

إن استعمال مكونات مؤشر الفقر الإنساني في تحليلات انحدارية مماثلة في الجدول 5 وباستخدام التقديرات الواردة في الجدول 4 ذات القيمة الأعلى لـ R2 المُعدلة (تقدير 1970-90) يُعطي مزيدا من الدلائل على منافع النمو الاقتصادي للفقراء. وعلى الأخص، في حالة زيادة النمو الاقتصادي بمقدار انحراف معياري واحد عن متوسط النمو للفترة 1970-90 (أي بمقدار 0.44)، عندها ستزداد نسبة السكان الذين سيتجاوزون سن الأربعين بحوالي 6 نقاط مئوية. وعند متوسط العينة، سيكون هناك انخفاض في النسبة المئوية لأولئك الذين لا يعيشون ليبلغوا سن الأربعين من 21% إلى حوالي 15%.
إن الفقر في جنوب صحراء إفريقيا مسألة مزعجة للغاية. وأحد اختبارات قوة النمو الاقتصادي للحد من الفقر هو البحث في سجلات 25 دولة إفريقية. وبإجراء تحليل انحداري لمؤشر الفقر الإنساني على المتغيرات الجغرافية ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ونمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (باللوغارثمات)، يتم الحصول على التقديرات التالية:[6]

وبإجراء تحليل انحداري لنسبة السكان الذين لا يعيشون ليبلغوا سن الأربعين، وعلى نفس المتغيرات، فإن ذلك يؤدي إلى التقديرات التالية:

تُظهر التقديرات أعلاه أن البيانات في الجداول 4 و5 تتماشى أيضا مع النتائج لجنوب صحراء إفريقيا. وفي كلا التقديرين، يكون معامل النمو طويل الأمد سالبا وشديدا—أي إن النمو الاقتصادي هو أقوى متنبىء بالانخفاض في درجة الحرمان. وتُبين اختبارات F لمساواة المعاملات أننا لا نستطيع أن نرفض المقترح أن معاملات عينة إفريقيا لا تختلف بشكل ذي أهمية عن معاملات العينة الكاملة.[7]

الخاتمة
يرتبط دخل الفقراء بشكل وثيق مع دخل الأغنياء. وبينما هذه العلاقة ليست تناسبية بالتساوي، فهي جديرة بالذكر. حيث ترتفع دخول الفقراء بارتفاع دخول الأغنياء بمقدار أكبر من العكس. والأهم من ذلك أن لدخل الأغنياء الأثر الملموس في الحد من مقياس الأمم المتحدة التقليدي للفقر. وبشكل ملحوظ، يؤدي النمو في دخل الأغنياء إلى التخفيض التناسبي لآثار الفقر وبمقدار أكبر من الحالة التي يزداد فيها دخل الفقراء. إضافة إلى ذلك، فإن النمو الاقتصادي يخفض الفقر بشكل واضح. والنتائج التي تم الحصول عليها لبلدان جنوب صحراء إفريقيا لا تختلف بشكل ملحوظ عن باقي دول العالم.
إن مصطلح “الانسياب للأسفل” مصطلح مغلوط: فالنمو في الحقيقة يستلزم شلالا وليس قطرة. وقد تكون نوعية النمو مهمة، ولكن النمو نفسه هو أضمن السبل نحو التقليل من الحرمان الإنساني حول العالم.
ملاحظات:
[1] تم استعمال منحنى لوغارثم الأرجحية. ولقد تم إضافة الرقم 1 إلى المتغير التبعي لمتغيرات مياه الشرب الآمنة والخدمات الصحية لتفادي أن يكون اللوغارثم صفرا.
[2] معامل دخل الفقراء هو -0.46 ومعامل دخل الأغنياء -0.82.
[3] تم الحساب على أساس مقاييس متوسط العينة “الوفاة قبل الأربعين”.
[4] إحصاء F في العمود الأول هو الاختبار بأن معامل الدخل للفقراء يساوي معامل الدخل للأغنياء؛ إحصاء t يظهر بين القوسين.
[5] يمكن اعتبار متغير مستوى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي كمعدل “مستقر” طويل الأمد بالمعنى التقليدي للاقتصاد الكلي، واعتبار معدل النمو الفعلي بمعدل النمو الفائض.
[6] تم استعمال منحنى لوغارثم الأرجحية مرة أخرى للمتغير التبعي.
[7] لمؤشر الفقر، F = 0.03 و p = 0.034. ولنسبة الوفاة قبل سن الأربعين،F = 1.01 وp = 0.327.
[8] ∆(النتاتج المحلي الإجمالي) هي النسبة المئوية لمعدل النمو للنتاتج المحلي الإجمالي الواقعي للفرد بين عامي 1970 و1990؛ إحصاء t يظهر بين القوسين.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 تشرين الأول 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018