شؤون اقتصادية

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

تبدو أمريكا في حالة من الفزع المذهل بشأن ارتفاع أسعار البنزين. ويعتقد مقدمو البرامج الإذاعية والمدافعون عن الفقراء في التلفزيون ان أعمال الشغب الواسعة باتت وشيكة وان مدنا كاملة ستحترق ما لم يفعل السياسيون شيئا لإنقاذ أمريكا من الليل الاقتصادي الحالك والطويل الذي خيّم علينا. في الحقيقة، ان أسعار البنزين اليوم تأخذ من محفظات جيوبنا عضة اقل مما كان عليه المعيار في الحرب العالمية الثانية.
على سبيل المثال، دعونا ننظر إلى عام 1955، وهو عام يقترن لدى غالبيتنا بالسيارات الكبيرة، والمحركات الضخمة، والوقود الرخيص—أيام المجد الآلي، إذا جاز التعبير. كان البنزين يباع بتسع وعشرين سنتا للغالون. ولكن الدولار الواحد عام 1955 كان يساوي أكثر من الدولار اليوم. فلو استخدمنا دولارات اليوم، لكان سعر البنزين دولارا وست وسبعون سنتا للغالون عام 1955.
ولكن البنزين اليوم يكلف ثلاث دولارات للغالون، إذن فنحن أسوأ حالا مما كان عليه الحال عام 1955، صحيح؟ كلا. لأننا كنا عام 1955 أفقر مما نحن عليه اليوم، إذ كان للدولار وست وسبعين سنتا تأثيرا اكبر على المصروف اليومي (بمعنى أنها كانت تمثل جزءا واسعا من الدخل) من الدولار وست وسبعين سنتا اليوم. إذا ما عدلنا أسعار البنزين ليس مع التضخم فحسب، بل مع التغييرات في معدل الدخل الاستهلاكي لكل فرد (والذي يعرف بالدخل ناقصا الضرائب)، فعليها (أي أسعار البنزين) ان تكلف اليوم خمسة دولارات وسبع عشرة سنتا للغالون الواحد لكي يكون لها نفس تأثير التسعة وعشرين سنتا في عام 1955.
دعونا نأخذ عاما آخرا مقترنا لدينا بأسعار البنزين الواطئة—عام 1972، العام الذي سبق حصار النفط العربي. كان البنزين يباع بست وثلاثين سنتا للغالون الواحد. وإذا ما عدلناه مع التضخم، فان السعر في الواقع كان دولارا وست وثلاثون سنتا في عملة اليوم. وإذا ما عدلناه ثانية في التغييرات التي يُحدثها في معدل الدخل الاستهلاكي للفرد، فيجب ان يكون السعر 2.66 دولارا للغالون لكي يكون له نفس تأثير اليوم.
هل كنا أحسن حالا عندما كنا نقود (سياراتنا) إلى محطة الوقود عام 1972 مما نحن عليه الآن؟ كلا، لان سياراتنا تحصل على مسافة ميلية اليوم أفضل بـ60 إلى 70% مما كانت عليه عام 1972 (22.4 ميلا للغالون الواحد مقابل 13.5 ميلا للغالون). وهذا يوازن أكثر من زيادة الـ10.5% في أسعار البنزين المكيفة وفقا للتغير في التضخم والدخل منذ ذلك الحين إلى الآن.
الآن دعونا ننظر إلى العام 1981، العام الذي تولى فيه رونالد ريغان الرئاسة. بيع البنزين بدولار وثمانية وثلاثين سنتا في ذلك العام، وهي تساوي 2.72 دولارا بعملة اليوم. وإذا ما سويَتْ وفقا للتغير الذي تحدثه في معدل الدخل الاستهلاكي للفرد، فعلى هذه الأسعار ان تكون 4.30 دولارا لكي يكون لها تأثير مساو. يمكن ان تكون هناك ثلاثة أسباب جعلت أسعار البنزين تبدو مرتفعة جدا في نظرنا اليوم. أولا، ان العديدين منا لا يثمنون التأثير الطويل الأمد الذي يمتلكه التضخم على الأسعار. ثانيا، ان العديدين لا يقدّرون مقدار الزيادة في دخلنا بالنسبة للأسعار. وأخيرا، ما زلنا نتذكر عام 1998 جيدا، وهو العام الذي واجهنا فيه أوطأ أسعار للبنزين منذ عام 1949. اذ بيع البنزين عام 1998 بـ1.03 دولارا للغالون، وهي توازي 1.21 دولارا للغالون الواحد في قياسات اليوم. سعر اليوم اكثر من ضعف ذلك، والناس يكرهون الزيادة في السنوات العديدة الماضية، وذلك لأنهم يعتقدون ان أسعار عام 1998 كانت طبيعية. ولكنها لم تكن كذلك.
الآن دعونا نضع الزيادة في أسعار اليوم على أساس المصروفات الحقيقة. ان الأسرة المتوسطة تنفق 136 دولارا للبنزين في كل شهر أكثر مما كانت في عام 1998، و114 دولارا في الشهر أكثر مما كانت تنفق عام 2002. ولكن، صدّق او لا تصدّق، ان الدخل الاستهلاكي الحقيقي (المعدل وفقا للتضخم) لكل أسرة قد تزايد بشكل أسرع حتى من أسعار المضخات؛ بمبلغ 800 دولارا في الشهر منذ عام 1998، و279 دولارا في الشهر منذ عام 2002.
وفقا لذلك، فان الأمريكيين، من حيث المعدل، مازالوا متقدمين اقتصاديا على اللعبة.
لا احد يحب أسعار البنزين العالية. ولكنها ليست سيئة على النحو الذي يعتقده معظم الناس. تذكّروا ذلك ولا تنسوه في المرة القادمة عندما يبدأ احد السياسيين او المدافعين عن الفقراء بتوزيع المعزقات.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 26 تموز 2006.

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

يريد الرئيس بوش مساعدة الأولاد في المدارس العامة الفاشلة. هذا حسن. يريد فعل ذلك من خلال إعطائهم قسائم فيدرالية للالتحاق بالمدارس الخاصة. ولكن هذا شيء سيء.
الرئيس على حق في تفضيله للخيار أمام الآباء والمنافسة بين المدارس. ان للحرية التعليمية تاريخ طويل ولامع يعود إلى أثينا القديمة—الأثينيون أعطونا الديمقراطية (بالرغم من شكلها غير المتطور) ومعظم الثقافة الغربية.
ليس هذا بالشيء الهيّن عندما نعتبر ارث إسبارطة القديمة، رائدة النظام التربوي الذي تديره الدولة، اسما لفرق كرة القدم في المدارس الثانوية.
ولكن إذا ما تناولتَ بالدراسة الخمس وعشرين قرنا اللاحقة من التاريخ التربوي، فستصل إلى نتيجة لا مفر منها: ان تمويل الحكومة للمدارس الخاصة يجلب معه سيطرة حكومية—وكلما ارتفع مستوى التدخل الحكومي، كلما أصبحت المشكلة أكثر جدية.
هولندا مثال جيد. ففي عام 1917، كان الهولنديون في عراك سياسي محتدم حول محتوى مدارسهم الحكومية. فلم تستطع المجاميع السياسية والدينية المختلفة الاتفاق على المنهج الرسمي (الا يبدو هذا مألوفا؟).
وبدلا عن سفك الدماء، توصلوا الى فكرة ألطف وأكثر اعتدالا: هي ان يمولوا أي مدرسة عليها طلب شعبي واضح. فيحصل الكاثوليك على مداس كاثوليكية، ويحصل الكالفينيون على مدارس كالفينية، وهلم جرى. عملت الفكرة كالسحر. وبعيدا عن تقسيم وبلقنة الجمهور، كما يخشى نقاد أسلوب اختيار المدارس الحديث، قامت حرية وتنوع التربية والتعليم بتفتيت الصراع الذي تسبب فيه النظام التعليمي الحكومي.
لحدّ الآن كل شيء على ما يرام، ولكن مع التمويل الحكومي، جاءت السيطرة الحكومية. اليوم، الحكومة هي التي تحدد مستلزمات تراخيص المعلم، وهي التي تحدد مستويات الرواتب، وتبت في طرد المعلمين، وتحدد جوهر المنهج الدراسي، وتحدد مدى الإنفاق، وتجعل من غير الشرعي اخذ مبالغ إضافية فوق مبلغ القسيمة، وتمنع تحقيق الأرباح في المدارس الخاصة. بعبارة أخرى، فان مدارس هولندا الخاصة “المستقلة” قد فقدت استقلالها.
في الحقيقة، مثلما هرب المتطهرون—البيوريتانيون—من كنيسة انجلترا المؤسسة، اعرف العديد من المعلمين الهولنديين الذين جاءوا إلى أمريكا للهرب من غطاء التدخل الحكومي في مدارس بلدهم الخاصة.
هنالك عدة طرق لتخفيف هذا الانتهاك التنظيمي. ان العمل على مستوى الولاية وليس على مستوى الأمة، على سبيل المثال، يمكن ان يلجم “مختبر” الفيدرالية. فالولايات التي أوغلت في تحجيم استقلالية المدارس الخاصة يحتمل ان تنفِّر وتطرد الآباء والمشاريع، مما ينتج رد فعل اقتصادي من شأنه ان لا يشجع الإفراط في التدابير التنظيمية. ان انعدام هذا العامل المخفف على المستوى القومي هو سبب رئيس لمعارضة مقترح الرئيس الفيدرالي للقسائم.
من الحلول المثلى للمشكلة التنظيمية هي تجنب استخدام أموال الحكومة على الإطلاق. هنالك قوتان محركتان تقفان خلف الرغبة في تنظيم المدارس التي تمولها الحكومة: معارضة الدفع للتعليم الذي ينتهك اعتقاداتنا، والرغبة في المساءلة. ان الحوافز الضريبية التعليمية على مستوى الولاية تتصدى لكلا الاهتمامين بشكل أكثر فاعلية من القسائم او الاحتكار الحكومي الموجود.
ان أمريكا في حرب ثقافية دائمة حول المناهج الدراسية في المدارس العامة، كالتفكير بـ”التصميم الذكي”، والصلاة المدرسية، والتعليم الجنسي، وانتقاء الكتب المنهجية، الخ. لقد أزال البرنامج التعليمي الهولندي الخاص الكثير من هذا الصراع، ولكن ليس كله. وفي الوقت الحاضر، هنالك عدم ارتياح في بعض أنحاء السكان الليبراليين عموما بشأن بعض المدارس الإسلامية الخاصة—ولا سيما في ذروة جريمة قتل مخرج الأفلام ثيو فان غوك الدينية الحافز. ولكن إذا ما تم تحجيم الوصول إلى المدارس الإسلامية الخاصة، فان المسلمين الهولنديين المطيعين للقانون سيعانون كثيرا. انه موقف خسارة-لخسارة، متأصل في تمويل الحكومة للتعليم.
ان الحوافز الضريبية تتجنب لعبة المجموع الصفري هذه. ان برنامج حافز ضريبي متكامل في التعليم يتكون من جزأين: حافز للآباء ليستخدموه في نفقاتهم، و حافز للأفراد والمشاريع التجارية التي تتبرع لمنظمات تمويل المنح الدراسية. الجزء الأول يساعد العائلات ذات الدخل المتوسط على دفع النفقات الدراسية لأبنائهم، أما الجزء الثاني فيضمن ان تحصل العائلات ذات الدخل الواطئ أيضا على الموارد التي تحتاجها للمساهمة في سوق التربية.
في ظل هذا النظام، لن يكون الفرد مجبرا على تمويل أي شيء قد يعترض عليه. تتضمن الحوافز الشخصية الناس الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم، وتسمح حوافز التبرعات لدافعي الضرائب باختيار منظمة تمويل المنح الدراسية التي يرفدونها بتبرعاتهم. ولا تستخدم أية أموال حكومية.
ان المساءلة لدافع الضرائب تحت ظل الحوافز الضريبية اكبر بكثير من التعليم الحكومي او قسائم التعليم الخاص. ان كنت لا تحب الطريقة التي تنتهجها احد منظمات تمويل المنح الدراسية في تخصيص أموالك، فبإمكانك إعادة توجيه تبرعاتك نحو مكان آخر.
لذا، بينما كان الرئيس محقا في تفضيل الاختيار الأوسع للآباء والاستقلالية الأكبر للتربويين، هناك طرق لتحقيق تلك الأهداف أفضل من التوسع الخطير للتدخل الفيدرالي في مدارسنا. لنترك السلطة التعليمية للولايات وللناس—الذين يكفل لهم الدستور والتعديل العاشر هذا الحق.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 21 تموز 2006.

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

يعد السياسيون والإقتصاديون بالنمو والازدهار ومستوى معيشة أعلى. فما الذي يقصدونه بهذه المصطلحات؟ وهل هناك مقياس موضوعي يستطيع الناس من خلاله أن يحكموا ما إذا كان الشعب في مجتمع ما، أو إذا كانت شعوب العالم تتوقع أن تكون الابتكارات التكنولوجية والسياسية (بما في ذلك المالية) ذات فائدة وتقود إلى تكوين ثروة أكبر؟ فكيف لنا أن نتأكد من أن ابتكاراً مالياً، أو تغييراً في استراتيجية شركة ما أو في سياسة حكومة ما سيحسن من الأوضاع داخل المجتمع أم سيزيدها سوءاً؟
والإجابة هي أن التغيرات في إجمالي القيمة السوقية للمؤسسات (القيمة السوقية للدَّين والحصص) في مجتمع ما مضافاً إليها القيمة السوقية للالتزامات المستحقة على حكومته ستكون أفضل تقدير نستخدمه للتوصل إلى مثل هذه الأحكام—في حال أصبحت الأسواق المالية عميقة وشفافة. زيادة هذا المجموع تعني أن قدرة المجتمع على توليد عوائد وتسديد الدَّين—سواء كان هذا عاماً أوخاصاً—قد زادت. والعكس: عندما يقل هذا المجموع (وهو يقاس بواسطة وحدة ثابتة نسبياً، عوضاً عن أي عملة معينة)، يشير الناس إلى أن حكومتهم أو إدارات شركاتهم تتخذ قرارات خاطئة وتصر عليها. والسبب بسيط: تَحوْل الأسواق المالية المتطورة التي تخلو نسبياً من العراقيل دون الاستمرار في ارتكاب الأخطاء. وبعمل ذلك، تعاود توجيه استخدام رأس المال وتضمن أن المدخرات ورأس المال موزع بطريقة أكثر فعالية.
وعندما يتضاءل المجموع المذكور أعلاه، إلى أين تذهب الثروة؟ هذا يعتمد. فكلما قلت مقدرة رأس المال والشعب في التحرك، كلما أمكن النظر أكثر إلى القيمة المتضائلة على أنها خسارة دائمة. تنصهر تلك الأشياء المتوقع أن تظل ثابتة، وهي جهد الناس وإبداعهم. ويمكن توقع حدوث أخطاء أكثر، وأن يدوم تأثيرها وقت أطول. وهكذا فإن النقصان يعكس توقعات متضائلة بتوليد عوائد مستقبلية (نظراً لأن كل خطأ يعتبر تكلفة). وتوليد عوائد مستقبلية يعني النمو والقدرة على تسديد الدين. ومع ذلك عندما يتحرك رأس المال والشعب، فإن الثروة التي تختفي من بلد ما تظهر مرة مجدداً في بلدان أخرى.
ثمة بضعة أمثلة توضح تلك النقاط أفضل من الثروة التي كونتها حالات الشتات المتعددة عبر التاريخ –الأرمن، والهوغونوتيون، واليهود، والمهاجرين الفقراء من أوروبا الذين أسسوا القارات الأحدث. (ترك بعض الأغنياء أوروبا.) أجبرت السياسة والأنظمة المهاجرين على ترك مواطنهم. دعنا نلقي نظرة سريعة على كيف أدى انتقال أكثر الناس موهبة ونشاطاً إلى كثير من “معجزات” العالم الاقتصادية.
حقائق وراء تحقيق معجزات

حظيت قصص أسطورية لمجتمعات فقيرة أو معدمة قفزت بين عشية وضحاها إلى مراتب أعلى من غيرها بإعجاب ورمقت بحسد وأثارت نقاشات حادة حول سبب تداعي الأغنياء وارتقاء الأفقر. لم تثر ثروات الدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط مثل هذه النقاشات لأن تلك الدول تندرج في عداد نموذج الدول التي “تعثر على كنوز”. ولكن كيف تقوم المجتمعات بذلك وهي لا تفتقر إلى الموارد الطبيعية فحسب بل أنها تعاني من الكوارث؟ وهل يمكن أن تواكبها دول أخرى وتحقق نسب نمو عالية مشابهة؟
لم تكن معجزة القرن السابع عشر في أوروبا إسبانيا ولا البرتغال وكلاهما تندرجان في عداد نموذج الدول التي “تعثر على كنوز”، بل هولندا وأمستردام اللتان تقعا تحت سطح البحر واللتان تكونت ثرواتهما على الرغم من العقبات الطبيعية. كما كان هناك ألمانيا الغربية التي بزغت بإعجاز من أتون الحرب العالمية الثانية. وهناك أيضا معجزات آسيوية تسترعي انتباهنا مثل هونغ كونغ وسنغافورة. كما أن هناك نموذج إسكتلندا الذي يكاد يضيع في طي النسيان، والذي يعلمنا درساً خاصاً.
فما هو القاسم المشترك بين كل تلك المعجزات؟ فالهولنديون شكلوا أول جمهورية أوروبية، كانت تستوعب كافة الأديان (في الوقت الذي كانت فيه باقي أوروبا تميز بقسوة ضد الكثيرين) وفيها حقوق راسخة للمُلكيات، وهو ما أوجد فرص لتجارة غير معاقة نسبياً وابتكار مالي.
ولكن سيكون من المضلل القول أن الفضل في هذا يعود للهولنديين. فقد جذب انفتاح الجمهورية الجديدة إلى أمستردام تجاراً مهاجرين متعلمين ولهم صلات ومصرفيين (من شمالي إيطاليا)، وكان اليهود والهوغونوتيون الذين كانوا يعاملون بتمييز ضدهم في أماكن أخرى في أوروبا من أبرزهم. إذ أنهم ساعدوا في تحويل أمستردام إلى المركز المالي والتجاري لعالم القرن السابع عشر. كان فيها أول بورصة مالية في العالم، حيث تاجر الفرنسيون، وأهل البندقية، والفلورنسيون، والجنويون، والألمان، والبولنديون، والهنغاريون، والإسبان، والروس، والأتراك، والأرمن، والهندوسيون، ليس فقط في الأسهم بل أيضاً في اشتقاقاتها المعقدة.
كان الكثير من رأس المال المستثمر في أمستردام ملكاً لأجانب، أو لأمسترداميين ولدوا في الخارج. كان هناك “عولمة” خلال القرن السابع عشر، حتى وإن لم يكلف أحداً نفسه عناء استخدام المصطلح. ووجه الاختلاف بين ذلك الوقت والزمن الحاضر هو في جزء كبير منه بالطبع سرعة تدفق المعلومات. لم يكلف ماكس ويبر نفسه عناء النظر إلى نماذج الهجرة عندما جاء بفكرة أن الدِّين (أخلاقيات البروتوستانت) كان له بشكل أو بآخر علاقة بنجاح أمستردام المنظور. على الرغم من أن فكرة ويبر اقتبست على نحو متكرر كافٍ لجعلها تبدو حقيقة، فإنها لم تكن صحيحة في أمستردام أو في أي مدن أو دول تجارية مزدهرة أخرى. فقد حول التجار المهاجرون المتعلمون، ولهم شبكات حول العالم، أمستردام القرن السابع عشر إلى “معجزة”. وكانت نفس العوامل وراء تحقيق معجزات أخرى أيضاً.
وتشترك هامبورغ، وهونغ كونغ، وسنغافورة، وتايوان، وألمانيا الغربية من الناحية التاريخية مع تاريخ أمستردام، ولكن الدِّين المشترك ليس عاملاً. إذ وفرت الحكومة مظلة قانون ونظام في كل من هذه الأماكن، وفرضت ضرائب منخفضة نسبياً ومنحت الشعب حصة من الذي كان يحققه مجتمع الأعمال، وبذلك تم جذب المهاجرين وأصحاب المشاريع الفردية من مختلف أنحاء العالم.
صمم السير ستامفورد رافلز سينغافورة لتكون ميناءاً في بداية القرن التاسع عشر، ودعمه بنظام إداري قانوني بالإضافة إلى نظام تعليمي كان مفتوحاً لكافة الأطياف العرقية. جلبت التجارة والأمن الازدهار للمهاجرين المفلسين من إندونيسيا، والصين بشكل خاص. عرضت تايوان (بعد القرن السابع عشر) وسينغافورة وهونغ كونغ على المهاجرين فرصاً كانوا محرومين منها في الصين، التي كان يسيطر عليها في البداية أمراء الحرب وبيروقراطية تميز طبقياً ومن ثم بيروقراطية شيوعية. استفادت هونغ كونغ من أمواج المهاجرين القادمين من الصين، لا سيما من تدفق تجار شنغهاي والممولين عندما “حرر” ماوتسيتونغ الصين في عام 1949، مثلما ارتقت أمستردام حين فر التجار والممولون من شبه الجزيرة الأيبيرية في قرون مبكرة، وفر الهوغونوتيون من فرنسا، وفر اليهود من كثير من أجزاء أوروبا.
كان المهاجرون من شنغهاي أول من بدأ في صناعة النسيج والشحن في هونغ كونغ. وأسست تلك الشعوب أيضاً شبكة من التجار والمتداولين في التجارة ورجال المال وأصحاب المصانع كما فعل اليهود، والإيطاليون، والأرمن، والفارسيون، وجماعات أخرى من المهاجرين على مر التاريخ في أنحاء مختلفة من العالم.
خطة مارشال
تندرج معجزة ألمانيا الغربية خلال الحرب العالمية الثانية في عداد هذا النموذج أيضاً، على الرغم من أن نجاحها مقرون بخطة مارشال في ذاكرة الشعب. ولقد تمت المبالغة في أثر تلك المساعدة بحجم كبير. فالمؤرخون والاقتصاديون (المدعومون من قبل حكومات) يجيدون خلق الأساطير وتخليدها. تكون الأساطير أحياناً عن الوطنية، وتشير على نحو مضلل أن الفضل في المعجزات الاقتصادية يعود إلى ذكاء الشعب الذي يعيش داخل حدود وطنية مرسومة. وتكون أحياناً أخرى عن الأدوار المفيدة بشكل كبير التي تلعبها المساعدات الخارجية. كلا النوعين من الأساطير يبرر بصورة ملائمة زيادة النفوذ الممنوح للحكومة.
قدَّر الاقتصاديون أن مساعدات خطة مارشال، في فترة ما بين عام 1948 وعام 1950 بلغت ما بين 5 و10 في المئة من إجمالي الناتج القومي الأوروبي، مع أن هذه الأرقام مشكوك فيها. فإن الإحصائيات الأوروبية من تلك الفترة تقلل بشكل كبير من قيمة الدخول الوطنية بسبب الأسواق السوداء المنتشرة جراء تنظيم الأسعار وجني الضرائب عن طريق المصادرة. وبعد كل ذلك لم تحدث أية معجزات في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، عندما قُدر بأن القروض والمساعدات لأوروبا بلغت أيضاً نسبة 5 في المئة تقريباً من إجمالي الناتج القومي الأوروبي. صحيح أن التعرفات حول العالم قلت بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما لم يحدث بعد الحرب العالمية الأولى. والاستنتاج الأصح كما يبدو هو أن المعجزات مرتبطة بتعرفات أقل أكثر من ما هي مرتبطة بالمساعدات الخارجية.
إذن ما الذي تسبب في معجزة ألمانيا الغربية؟ في فترة ما بين عام 1945 وعام 1961 استقبلت ألمانيا 12 مليون مهاجر، ومعظمهم مدرب في صورة جيدة. كان نحو 9 ملايين منهم ألمان من بولندا وتشيكوسلوفاكيا. وهرب الآخرون من جنة ألمانيا الشرقية الشيوعية. على الرغم من أن انتقال رأس المال البشري ذلك لم يذكر في الكتب في ذلك الوقت، يمكن أن نستدل على أهميته من كون نسبة العاملين إلى عدد السكان في ألمانيا الغربية في الخمسينات والستينات أكبر بكثير من نسبة العاملين إلى عدد السكان في بلدان أخرى: 50 في المئة في ألمانيا مقارنة ب45 في المئة في فرنسا، و40 في المئة في المملكة المتحدة، و42 في المئة في الولايات المتحدة، و36 في المئة في كندا. وعندما توقف تدفق الأوروبيين، وصلت أمواج جديدة من موظفين صغار في السن ومهرة من أراضي حوض البحر الأبيض المتوسط. وبكلمات أخرى، لا تعود معجزة ألمانيا الغربية للمساعدات الخارجية وإنما لنفس الملامح التي تسببت في تحقق معجزات سابقة ولاحقة في أماكن أخرى؛ هجرة عمال مهرة ومعدلات ضرائب أقل بكثير.
المعجزة الاسكتلندية
يوضح الدرس الاسكتلندي، الذي لا يُذكر إلا نادراً في كتب التاريخ، الأمور الأخرى التي يمكن أن تقف وراء تحقق المعجزات الاقتصادية. في عام 1750 كانت اسكتلندا بلداً فقيرة جداً. كانت نوعية أراضيها رديئة وكان شعبها غير متعلم يعمل في الزراعة التي تسد رمق العيش؛ لم يكن هناك أنهاراً صالحة للملاحة؛ وعرقلت جبال قاحلة وتلال صخرية الاتصالات. كان التبغ المصنع أهم صادراتها في ذلك الوقت. ومع ذلك وبعد أقل من قرن، تصدرت اسكتلندا مع انجلترا صفوف الدول الصناعية في العالم؛ فقد كان مستوى المعيشة فيها نفس مستوى المعيشة في إنجلترا، بينما كان أقل بكثير في عام 1750. فكيف قام الاسكتلنديون بذلك؟
جعل اتحاد عام 1707 اسكتلندا جزءاً من انجلترا. وأصبحت تخضع لنظام الضريبة والقانون والعملة الإنجليزي، وسمح لها بدخول الأسواق الإنجليزية. كما ألغى الاتحاد أيضاً البرلمان الاسكتلندي، تاركاً اسكتلندا دون إدارة منفردة حتى عام 1885. وتبين أن ذلك أفضل نعمة (يذكرنا بنجاح هونغ كونغ لاحقاً تحت الحكم البريطاني البعيد)، لأنه منع النظام المصرفي والأسواق المالية من أن تصبح أداة لتمويل حكومي. والنتيجة كانت سوقاً مالياً نما تجاوباً مع متطلبات الاقتصاد الخاص.
ومع حلول عام 1810 أصبح هناك 40 بنكاً مستقلاً. كان التشدد في ذلك الوقت يقضي بأن تقرض البنوك فقط في حال أن القروض مكفولة بضمان سلع في الترانزيت أو قيد التصنيع، وليس لمدة تتعدى 90 يوماً. في المقابل، كانت البنوك الاسكتلندية حرة في أن تقرض لفترات غير محددة ومن دون أي ضمانات مادية. وهكذا فإن خطوط ائتمان البنوك الاسكتلندية أصبحت شرطاً مسبقاً لسندات المخاطرة.
كانت الكمبيالات، وهي موجودات البنوك الرئيسية في بلدان أخرى، الأقل أهمية بالنسبة للبنوك الاسكتلندية. وقدم أكبر حجم من القروض لأصحاب مصانع وتجار تلقوا ائتماناً مشفوعاً فقط بتوقيعاتهم الخاصة مضافاً إليها وجود شخصين أو ثلاثة كضامنين. ازدهرت البنوك بمدخرات ضئيلة وكانت تصدر تقارير مالية غير انتظامية.
يسلط المؤرخ المالي الاسكتلندي إيه. دبليو. كير الضوء على مزية أسواق البلد المالية: “كانت الحصانة النسبية من التدخل القانوني الذي كان يميز النظام المصرفي في اسكتلندا حتى عام 1844 نعمة على البلاد من دون شك، فقد أنقذت البنوك من المضايقات والتمييزات غير الضرورية والقيود التي أعاقت النظام المصرفي الإنجليزي وشوهته. سمح للقطاع المصرفي في اسكتلندا النمو في وقت تقدمت فيه البلد في الثروة والفكر. ليس هذا فقط وإنما تسنى له حتى قيادة البلاد على طريق الازدهار، واستخراج نظام مصرفي صحي وطبيعي، من خبرة عملية، ما كان يمكن أن يتم تحقيقه في ظل رقابة حكومية وثيقة مشابهة لتلك التي مورست في دول أخرى”. أظهر البلد كيفية الازدهار سريعاً، بدءاً من اللاشيء، عن طريق التجارة والتمويل غير المعاق من قبل التعرفات ولكن تحت وقاية مظلة إنجليزية سياسية وقانونية يعتمد عليها. (كان آدم سميث اسكتلنديا كما تعلمون).
قارنوا اسكتلندا في ذلك الوقت بفرنسا، حيث كانت تُرفض أغلبية كبيرة من التراخيص للمؤسسات المالية حتى عام 1857. لم يؤدِّ سوى كساد شديد إلى تحرير الإجراءات. ومع ذلك، حتى في عام 1870 لم تكن الخدمات المصرفية في فرنسا كما كانت في اسكتلندا في بداية القرن، إذ كانت القوانين تحرم الصناعيين الصغار من الحصول على خط ائتمان.
تتميز اسكتلندا عن غيرها ليس فقط بنظامها المصرفي الفريد من نوعه، بل أيضاً بتركيزها على التعليم. في عمل بعنوان “إنتاج العلماء في اسكتلندا” يقدم آر. إتش. روبرتسون الإحصائيات ذات العلاقة. بلغ إنتاج “علماء اسكتلنديين متميزين” أوجهه ما بين عام 1800 وعام 1850، وتضائل بشكل متسارع بعد عام 1870. والسبب؟ هاجر معظم الاسكتلنديين المتألقين ولم يعد هناك معجزة اسكتلندية.
ارتبط سقوط اسكتلندا النسبي في القرن العشرين بمحاكاة التعليم الاسكتلندي المتزايد بالتعليم الانجليزي (بدأت المحاكاة المصرفية بطيئة في عام 1845). لو سُمح لجزء كبير من أكثر الناس حيوية وذكاء في منطقة بالهجرة، وكانت إمكانية الحصول على خطوط ائتمان محصورة بالنسبة لأولئك الذين ظلوا في بلادهم، فما الذي يمكن توقعه غير التدني؟
ثمة دروس أخرى يمكننا الاستفادة منها من الحالة الاسكتلندية. لم تكن المدخرات شرطاً مسبقاً لازدهار الاسكتلنديين. فلم يكن لديهم ما يستحق الذكر. ولم يتلقوا أي مساعدات خارجية. ولكن حالما أتيحت لهم الفرص ونمت الأسواق المالية نسبياً من دون معيقات، لم يدخر الاسكتلنديون فحسب وإنما أيضاً استخدموا مدخراتهم في أفضل ما يكون. وفي اسكتلندا انتقلت المدخرات إلى الشركات الخاصة، في الوقت الذي انتقلت فيه في انجلترا وفي بلدان أخرى إلى الحكومات. لم تكن هناك حاجة لتشجيع روح المشاريع الفردية الاسكتلندية من قبل الدولة. على عكس المعجزات التي ذكرت سابقاً، لم يكن هناك انتقال واسع النطاق للمواهب من جميع أطراف العالم إلى اسكتلندا. ومع ذلك انتهت المعجزة بهجرة الموهبة الاسكتلندية، وتشكيل أسواق مالية أكثر تنظيماً وفرض ضرائب أعلى.
ما هي الدروس؟

هناك دائماً شرارات إبداعية بشرية، وربما تكون موزعة عشوائياً حول العالم. أما الازدهار فهو ليس بسبب الأفكار الجديدة بل بسبب تسويق أفكار جديدة. وتعتمد دوافع تسويق الأفكارعلى فرض الضرائب والوصول إلى الأسواق المالية.
أكبر مزايا الأسواق المالية الخاصة هي أنها تنزع المركزية عن صنع القرارات وتتجنب الاستمرار في ارتكاب الأخطاء. ولذلك عندما تواجه الشركات صغيرة الحجم الاختبارات المالية فإنها تتوسع. ولو أخفقت فإن الخسارة التي يتكبدها المجتمع تكون أقل بكثيرمن خسارة المشاريع الكبيرة التي تشرف عليها الحكومة والتي لا يُسمح لها غالباً بأن تمنى بفشل.
يبرر الإنفاق المستمر على مثل هذه المشاريع جيش كبير من الاقتصاديين الذين ترعاهم الحكومة، الذين يُعتبرون كهنة أوقاتنا، والذين لا يفوتهم أبداً المجيء بنظريات نصف ناضجة لإخفاقات في السوق يجب أن يعالجها منظمون حكوميون وبيروقراطيون أذكياء وزاهدون. ونتيجة خلق الأساطير هي رمي المال الجيد بعد المال السيء.
وقد يقدر اقتصاديون في المستقبل بالضبط كم هي نسبة الأداء المشهود للإقتصاد الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية يمكن أن يعزى إلى الانتقال الضخم إلى أمريكا من قبل أشخاص في غاية المهارة والطموح ولهم صلات جيدة من شتى أنحاء العالم، وقد كان العالم حتى 10 سنوات خلت معادياً للمبادرة والأمل. عندها سندرك كم ساعد تحول ذلك الرأس المال البشري غير المقاس في تغطية كثير من سياسات الولايات المتحدة الخاطئة والمكلفة. وما يجب أن يكون واضحاً من الدليل التاريخي هوأنه عندما وفي حال احتفظ باقي العالم بالأشخاص الموهوبين، فإنه لن يكون بإمكان الولايات المتحدة بعد الآن الاعتماد على جذبهم لتمويه أخطائها المكلفة.
وأمام الحكومات عدد من الخيارات لزيادة معدلات النمو. وإحداها هو عرض حزمة من الضرائب والمزايا لجذب مواهب أكثر ورأس مال من الخارج. ولكن نظراً لأن مثل هذه السياسة تثبط النمو في أماكن أخرى، فإنها قد تؤدي إلى اتخاذ إجراءات مضادة. وتشجيع مزيد من المشاريع المحلية قد يشكل بديلاً أفضل. ويمكن القيام بهذا عن طريق تخفيض الضرائب المفروضة على الدخل والأرباح الرأسمالية، وهو ما سيزيد مبالغ المال سريعاً التي سيكون الناس مستعدين لاستثمارها كرأس مال في المشاريع، كما سيسرع في إعادة توجيه الأموال في اتجاه تمويل المشاريع الفردية. سيؤدي كلا التأثيرين لكفاءة أكبر من خلال تحجيم الأخطاء (وبالتالي التكلفات) التي تحول دون معدلات نمو أكبر.
ما هي أفضل طريقة لتقييم تكوين الثروة عبر قيم رقمية؟ بالتأكيد ليس من خلال الإحصائيات الحكومية التي تعكس مجاميع مُساء قياسها وتتطلع إلى الخلف. إذ أن أفضل مقياس يمكن الاعتماد عليه هو التغيرات الكبيرة التي طرأت على قيمة السندات السوقية التي تقاس بوحدة ثابتة نسبياً من حساب أو ذهب بدلاً من وحدة ورقية معومة. وذلك لأن آراء طائفة واسعة من الناس الذين يدعمون آراءهم بالمال أثبتت أنها تتكهن بشكل أفضل حيال وجهة الأمور من آراء أولئك الذين لا يدعمون آرائهم بأموال.
إن التغيرات في القيمة التي ذكرت سابقاً ليست مؤشراً مثالياً على الذي ستؤول له الأمور. وليس هناك شيئ كذلك. ولكنها أفضل من البدائل كمقياس لتكوين الثروة وهي أكثر موثوقية. والمهم في الأمر هو أن الأسواق المالية يجب أن يكون لديها العمق المناسب. أي أنه على أسواق الأسهم أن تكون قادرة على عكس التوقعات المتعلقة بسياسات الحكومة والبنك المركزي، الذي تؤثر قوانينه وسياساته وأنظمته على إداراة الشركات. فعندما يكون هناك بضعة مصادر للمعلومات في مجتمع ما، أو إذا كانت المعلومات مسيطراً عليها، وكانت أيدي اللاعبين مقيدة، لن تقوم أسواق البورصة بالوفاء بأدوارها. ومن دون العمق المناسب، سيقل اهتمام رأس المال بها.
سوف تشهد المجتمعات التي تضع العقبات في طريق المعلومات لأسباب سياسية، كما فعلت الصين عندما وضعت شينخوا، وكالة الأنباء المركزية الصينية الحكومية، قيوداً على جميع نشاطات الداوجونزالتجارية في البلاد؛ التقلبات الكبيرة في سوق البورصة لديها التي شهدتها سوق بورصة نيويورك قبل قرن، قبل صدور نشرة الداوجونز واستحداث التقارير السنوية. وعندما يحدث ذلك، فلا أسواق الأوراق المالية ولا الإحصائيات الرسمية ستخبرنا كثيراً عما سيحدث بالنسبة للنمو وتكوين الثروة. تذكروا: على الورق، كانت الدول تنمو في صورة رائعة في ظل الشيوعية، ولكن من نشأ منا في ظل الشيوعية يعرف أن الإحصائيات السياسية المتعلقة بالنمو كانت كلها عبارة عن كذبة كبيرة.
علم الاقتصاد الكلي الذي لا يستند إلى أساس علمي
على الرغم من أن علم الاقتصاد الكلي الذي لا يستند إلى أساس علمي كان أسطورة وليس كذبة، فإنه خلف في أعقابه آثاراً مدمرة ومفاجآت غير سارة واضطرابات. فلماذا أصبح أسطورة؟ إن التركيز على المجاميع الوطنية أخفى حقيقة أن الأشياء التي أرادها الناس في بلد كانت تقاس، في حين أنه في أمكنة أخرى كانت الأشياء التي كان يرغب فيها الحكام والمؤسسة الحاكمة هي التي تقاس. طوى النسيان حقيقة وجود افتراض قوي في بداية الأمر بأن وراء العد الإجمالي علاقة بين الحكومات والمواطنين قائمة على تبادل الخدمات، كما لو كانت صفقة خاصة، بعد وقت ليس بطويل. وقادت نماذج علم الاقتصاد التي تلخص عمل الاقتصاد في بضعة معادلات بسيطة لنفس التنبؤات سواء كان “الانتاج” و”المحصول” يشيران إلى شيء كارثي أو شيء إيجابي.
نظراً لأن التوظيف من قبل الحكومة و”محصول” الحكومات أُضيفا، تباعاً، للتوظيف ولكل ما كان ينتج في القطاع غير الحكومي—ونظراً لأن هناك أسباب وجيهة، مع أنها ليست اقتصادية، لتدخل الحكومات أحياناً للقيام بأمور بناءة—ليس من العجيب أن نجد أن النفقات الحكومية أُوجدت لخلق وظائف وتحقيق محصول. ومن خلال استخدام تلك الأرقام بشكل مسلّم به، حوّل الاقتصاديون، بمساعدة من الإعانات المالية الحكومية الكبيرة لمكاتب الإحصائيات وللأكاديميين، فكرة سياسية خادمة للذات إلى جدل “علمي” يبدو محايداً عن الأرقام والطرق الإحصائية، مبقين المؤسسات السياسية بعيداً عن الصورة. وهكذا أصبح علم الإقتصاد الكلي نظرية لا تنطوي على تهديد يمكن تدريسها في العديد من الجامعات حول العالم.
أصبح التلاميذ أساتذة ولم يكفوا عن محاولة فهم أسطورة علم الاقتصاد الكلي ووهم المجاميع القومية الشاملة. ومع حلول الوقت الذي لاحظ فيه بعضهم أن الإمبراطور كان بلا ملابس، قد يكونوا واجهوا ورطة رائد الفضاء كيبلير الذي، برغم عدم إيمانه بعلم التنجيم، كتب بحوثاً عنه لأن الملوك دفعوا له نظير كتابتها.
اضطر الإقتصاديون أن يفعلوا ما فعل وإما أن يخفوا معتقداتهم الحقيقية أو ينسحبوا من المبادرة “العلمية”. بقي الإقتصاديون المتوسطون وحافظوا على المبادرة كأمر مفروغ منه، وكتبوا معظم “المحصول العلمي”، ودققوه، ونشروه وأصروا أن على كل شخص أن يمر عبر قنوات يسيطرون عليها. هكذا تتحول الأفكار الزائفة إلى “علم”.
وكنتيجة، فإن أكبر دليل تاريخي يشير إلى أن الإزدهار سيعاق أقل إذا لم تشكل الحكومات سوى المؤسسات التي تمكّن المشاريع الفردية والأسواق المالية من الازدهار. ويمكن أن نكون على ثقة من أن فكرة أن بإمكان الحكومات غالباً أن تفعل أكثر من هذا هي نتيجة لخلق الأساطير المدعومة حكومياً.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

كما هو حال العديد من العملات، فإن سعر صرف البوليفار الفنزويلي يتمتع بشيء من الثبات. وربما يبدو بالنسبة للبعض أن تحديد سعر صرف ثابت للعملة أمرا عاديا تماماً، بل وحتى طبيعي. فأسعار صرف العملات يبدو أنها تتحرك دون أسباب ظاهرة أصلاً. فلماذا لا نتخلص من اللُّبس الذي تتسم به الحركات اليومية لأسعار العملة صعوداً وهبوطاً؟ لكن، كما هي الحال بالنسبة لأية سلعة، هناك سعر “حقيقي” لكل عملة، وهو سعر دالّ على العرض والطلب. وحين تُطبع كميات إضافية من الأموال فإن هذا يقلل من قيمة تلك العملة، بسبب زيادة العرض. والحقيقة التي تقول إن سعر النفط مقوَّم بالدولار تعزز هذه العملة من خلال زيادة الطلب عليها.
الأسعار الاصطناعية تدفع الناس إلى إيجاد وسيلة لتنفيذ التعاملات بالسعر الذي يعتبر دالا على قيمة السلع أو الخدمات بالنسبة إليهم. والعملات لا تختلف عن ذلك. وفي حين أن سعر الصرف الرسمي تم تثبيته عند مستوى 2.15 بوليفار للدولار، فإن السعر السائد في السوق السوداء حسب الأنباء وصل إلى معدلات عالية عند مستوى 7.1 للدولار. بعبارة أخرى فإن دولة فنزويلا بالغت في  قيمة عملتها بنسبة تصل إلى 325 بالمائة. بالتالي لا عجب أن الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز أعلن يوم الجمعة الماضي عن سعر جديد مزدوج للبوليفار، وهو 4.3 بوليفار لمعظم السلع، و 2.6 إلى واحد للسلع “ذات الأولوية”، مثل المواد الغذائية والكتب.
يشتمل البيان الرسمي الذي أعلن فيه شافيز عن تخفيض قيمة العملة على تعليقين لهما أهمية خاصة. الأول هو أن التخفيض من شأنه تقليص الواردات. وعلى حد تعبير شافيز: “في السنة الماضية استوردنا 90 مليون زوجا من الأحذية. هل هذا معقول بالله عليكم؟ نستطيع أن نصنع كل هذه الكمية بأنفسنا.” الثاني هو أنه أعلن أنه “لا يوجد سبب لدى أي شخص يجعله يرفع الأسعار”، وطالب المواطنين “بإدانة المضاربين علناً”. أية شركة يثبت عليها أنها ترفع الأسعار تكون معرضة لاستيلاء الحكومة عليها.
ملاحظات شافيز حول الواردات تشي بإخفاقه في فهم قيمة التجارة والمنافسة. فهو يخفق في استيعاب السبب الذي من أجله اشترى الفنزويليون هذا العدد الكبير من البضائع الأجنبية، وهي الأحذية في هذه الحالة. ليس السبب في ذلك هو أنهم لا يحبون وطنهم، وإنما لأن الأحذية المستوردة تلبي حاجاتهم على نحو أفضل من غيرها بالأسعار التي يرغبون في دفعها. بطبيعة الحال فإن تخفيض قيمة البوليفار ستجعل الأحذية المصنوعة في فنزويلا أرخص (طالما أنها تستخدم مدخلات الإنتاج المحلية). فإذا لم تستطع الشركات  العثور على نوعية جيدة من الجلود أو الأربطة في السوق المحلية، فإنها ستختار أمراً من اثنين: فإما أن تصنع منتَجاً ذا قيمة متدنية، أو منتَجاً ذا سعر أعلى. في نهاية الأمر سيقرر المستهلكون الفنزويليون ما هو المركّب السليم بين هذين الأمرين. لكن إذا استمروا في شراء الأحذية المستوردة فإن السبب في ذلك هو أن صانعي الأحذية الأجانب أفضل من (صانعي الأحذية المحليين) في تلبية رغبات المستهلكين.
لكن الأمر المثير للقلق حتى أكثر من ذلك هو هجوم شافيز العنيف على أصحاب المشاريع من الفنزويليين. خلال العقد الماضي أو نحو ذلك كانت قيمة البوليفار تتناقص بمعدل سنوي يبلغ حوالي 30 بالمائة، وهي أعلى نسبة، كما تشير بيانات بلومبيرج، بين البلدان الثمانية والسبعين التي ترصد بياناتها الاقتصادية. وفي حين أن التضخم يمكن أن ينشأ عن عوامل متنوعة، إلا أن نسبته إلى “الجشع” على هذا النحو البسيط هو أمر غير سليم أبدا. على سبيل المثال، إن السبب الذي أضر كثيراً بجمهورية فايمار في ألمانيا وجعل الناس يحملون أموالهم في عربات صغيرة لم يكن حدوث موجة هائلة من الجشع، وإنما بسبب طباعة كميات ضخمة من الماركات الألمانية.
في فنزويلا المعاصرة يمكن أن نتوقع أن تكون إحدى عواقب التخفيض هي ارتفاع معدلات التضخم. الواردات المرتفعة الأسعار تعني سلعاً مرتفعة الأسعار، على المستوى الأجنبي والمستوى المحلي، كما هي الحال في الأحذية المصنوعة من جلود مستوردة. ورغم إصرار شافيز على أنه “ليس هناك سبب” يدعو لرفع الأسعار، فإنه حتى وزير المالية الفنزويلي يقر بأن سعر الصرف الجديد سيؤدي إلى تضخم الأسعار. من المؤكد أن المستهلكين الفنزويليين يفهمون هذه الظاهرة، على اعتبار أنهم بدأوا في الاصطفاف لشراء السلع الأجنبية قبل أن يبدأ سريان الإجراءات الجديدة.
يستطيع الرئيس شافيز أن يشن هجوماً عنيفاً على “المضاربين”، لكن حين تقوم إحدى الشركات برفع الأسعار بسبب ارتفاع التكاليف فليس هذا من الشر، تماماً مثلما أنه ليس من الشر أن يرتفع منسوب الماء في حالة المد مع ظهور القمر. وكما هي الحال مع البوليفار، فإن  الانخفاض المصطنع في أسعار السلع في المحلات في فنزويلا من شأنه أن يؤدي إلى نشوء سوق سوداء أو إلى نقص السلع. وعلى حد تعبير أحد المراقبين المحليين “فإن من المستحيل عدم حدوث تعديل في الأسعار. لأنه إذا لم يتم تعديل الأسعار فإن مصيرها هو الاختفاء.”
لكن ما هو أسوأ حتى من ذلك هو أن إصرار شافيز على الأمور التي تؤلف السعر العادل يحمل معه ثمناً خاصاً به. ذلك أن تهديده باستخدام الجيش لم يكن تهديداً فارغاً، حيث أن الأنباء أفادت أنه تم إغلاق 70 محلاً بسبب تغيير الأسعار بطريقة غير قانونية. إن التهديد باستخدام القوات المسلحة يبعث القشعريرة في النفوس، حين ترى رجالاً في ملابس عادية تخفي هوياتهم الحقيقية وهم يغيرون على الشركات بصورة خاطفة لارتكابها جريمة بيع السلع. فضلاً عن ذلك، فإن هذا يؤدي إلى نتائج عكسية، لأن تقلص العرض الناتج عن إغلاق المحلات من شأنه فقط أن يؤدي إما إلى أن ترفع المحلات الأخرى أسعارها أو أنها لا تعاود عرض منتجات جديدة، وبالتالي تترك زبونها خالي الوفاض، وهو الأمر الذي سيحدث على الأرجح في ظل المناخ الحالي.
حين فشلت محاولات كسرى الفرس سرخيس في ردم مضيق الدردنيل بسبب الأمواج العاتية، قيل إنه أمر بجَلد البحر. والرئيس شافيز، شأنه في ذلك شأن الحكام الآخرين، يبالغ في تقدير قوته حين يقلل من مدى قوة وعناد قوانين الطبيعة، وهي في هذه الحالة الطبيعة البشرية. والمفارقة هي أن قرار التخفيض نفسه هو إقرار مُكْرَه بحدود نفوذه وإشارة على قبوله لحقائق السوق. وفي حين أن من المؤكد أن الاقتصاد الفنزويلي سيستفيد حين يتم التداول في عملته عند مستويات أقرب من ذي قبل إلى سعره “الحقيقي”، فإن الأمية الاقتصادية لمهندس هذا الاقتصاد هي نذير شؤم لجمهورية فنزويلا البوليفارية.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

إذا كان النصف الأول من القرن العشرين، قد شهد حربين كونيتين، جلبتا للعالم كارثة إنسانية، ففي النصف الثاني من القرن نفسه، لاسيما العقود الأخيرة منه، شهدت  كثير من الدول الرأسمالية المتقدمة، ذات الاقتصاد الحر نموا مضطردا في الاقتصاد، كما شهدت هذه الدول تحسنا كبيرا في مستوى المعيشة، حيث ازدادت الأجور، وشهدت بلدان كثيرة كأمريكا، وكندا، ودول أوربا الغربية، واليابان في شرق آسيا، ثراء ورفاهية، كما اتسعت دائرة الديمقراطية، لتشمل دولا عديدة، بالترافق مع ازدياد الحريات الشخصية…
وكان أهم حصاد ـ بالمقابل ـ في العقدين الأخيرين من القرن المنصرم، هو تساقط الأنظمة الشمولية، في كل من الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية، بعد أن دب فيها الوهن، وعانى الإنهاك، وما عادت الشعوب تسوغ لحكامها، أسباب الركود، واستمرار الصعوبات الاقتصادية، وغياب المؤسسات الديمقراطية؛ فقد تنعمت الشعوب بالثراء  في النظم الرأسمالية المتقدمة لدرجة كبيرة نسبيا..
فالأمريكيون عادوا إلى مفهوم سياسة الأمس البعيد نسبيا.. أن لا سبيل للعزلة والانغلاق على أنفسنا، فمثل هذه السياسة ستفضي بنا، إلى خفض في مستويات المعيشة لدى شعبنا الأمريكي، إذن، لابد من الانفتاح الاقتصادي على العالم، إذا أردنا لاقتصادنا النمو والازدهار، ولشعوبنا مزيدا من الرفاه، ولأوطاننا قصب السباق في التقدم؛ هكذا كان لسان حالهم …
تتعدد المدارس الفكرية في الاقتصاد العام، وتختلف في رؤاها، لكن في المحصلة، أن هذا الانقسام، والتنافس النظري، لا بد له أن يكون إغناء  للفكر الاقتصادي، ودفعا لمزيد من الإمعان، والتفكر، وأن هذا الاختلاف خير من إجماع خامل في التطابق والتوافق، يفتقد إلى روح الحماس والتقصي في البحث؛ هذا الأمر يذكرنا بمسألة إجماع أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي. في مسألة زراعية  جاء الإجماع  برفع الأيدي  بخمول دون بحث،  أو تقص  واستمزاج  الآراء، فسرعان ما بان خطؤها بعد ذلك؛ بل يرى كثير من العلماء والاقتصاديين ، من أن التنوع في المدارس الفكرية حتى في ميدان الاقتصاد، يغني ذهن الطالب مستقبلا في التحليل الاقتصادي لمشكلات العالم العديدة والمتنوعة، ويساعده في السعي للرقي والإعلاء من المستويات المعيشية للمجتمعات التي يعيش هو في كنفها..
إن حاجتنا للمعرفة الاقتصادية أمر مهم في حياتنا، فهي تحفز الذهن والفكر للوقوف على مسائل اقتصادية عديدة، منها استكشاف حالات السوق، من حيث تقلبات الأسعار، ومعدلات النمو، وتوزيع الدخل، والسبيل الأنسب في كيفية استغلال الموارد، فلا بد للتاجر، للإنسان المتعامل مع السوق، أن يكون على دراية،  بنوعية وكمية السلع التي ينبغي إنتاجها، ولمن يتم استهلاكها، وهنا يقتضي معرفة مستويات الدخول، والقدرة الشرائية، والاستهلاك عند طبقات الشعب وفئاته وشرائحه..
من المعلوم أنه في القرن التاسع عشر؛ أصبح الاقتصاد الحر، هو السائد، في أوربا وأمريكا، وتصدر مبدأ الاقتصاد الحر المعروف: دعه يعمل، دعه يمر.. وجاء مضمونه ملبيا لدعوة العاملين في الشؤون الاقتصادية….
اندارت المنظومة الاشتراكية، بدورها، بعد انهيارها، إلى الاقتصاد الحر، مفضلة اللامركزية، على المركزية المتشددة، التي كانت تتمسك بها الأحزاب الشيوعية في إدارتها لاقتصاد البلد؛ والتي أثبتت عدم فاعليتها ونجاعتها..
في النظم الرأسمالية ذات الاقتصاد الحر، غالبا ما  تؤخذ القرارات الاقتصادية، انطلاقا من استكشاف السوق، وهذه الواقعة تشغل اهتمام الملايين من السكان، وآلاف الشركات الإنتاجية، حيث تتدفق إلى السوق كميات من السلع والبضائع، فكيف تكون عليها الحال، لو انقطع ذلك التدفق ؟ فالسوق بهذي الحالة، هي الوسيط بين المنتج والمستهلك، ويتم على أساس ذلك ومن خلالهما، تحديد الأسعار، وعند زيادة كمية الاستهلاك، من قبل الفرد أو الأسرة، تزداد قيمة السلعة بسعرها، وفقا لمبدأ العرض والطلب، مما يدفع المنتج بالتالي إلى عرض المزيد من السلع، وبالمقابل، إذا ما خف الطلب على سلعة ما، تدنى سعرها، وخف عرضها، ومثل هذا ينسحب على عناصر أخرى عديدة، مثل الأرض، وأجور العاملين رفعا وانخفاضا؛ ويسبب هذا تنافسا بين المنتجين، فيعمد المنتج، بالتالي، للاستعانة بالآلة الأكثر كفاءة، والأغزر إنتاجا، وربما الأفضل جودة، للسلعة المنتجة..لتعالج هذه المعادلة.
لاشك، أنه في العقود الأخيرة الماضية، ومع نهاية الحرب الباردة، توسع نطاق السوق الرأسمالية بانضمام دول أوربا الشرقية إلى سوق الاقتصاد الحر، بعد تفكك المعسكر الشيوعي،  فهل تفلح هذه الدول في التنمية والتطور؟ وهل وصفة الاقتصاد الحر هي العلاج الوحيد للتنمية والتطور؟
في ظل هذا التناقض والتنافس، ظهرت دول جديدة على الساحة، وما زال أمامها المستقبل ينبئ بمزيد من التطور؛ فإلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، برزت كل من اليابان باقتصاد قوي، وتقانة متقدمة متطورة فالصناعة اليابانية هي التي أصبحت تغزو الأسواق دون منافسة قوية، والناس يقبلون على اقتناء منتجاتها على نطاق واسع لجودتها كما هو شائع ومتداول، وأيضا! غدت أوربا المشكّلة بحجمها الكبير، وسوقها الجديدة، وعلاقاتها الواسعة والمتشعبة، هي الأخرى منافسة قوية في السوق، وربما في غضون عقود قادمة، تظهر دول أخرى  جديدة كالصين والهند وسواهما  تتنافس على الساحة الدولية، ومن هنا ينجلي الواقع عن صراع سياسي بين هذه الدول المتطلعة للسيادة الاقتصادية، فالسياسة هو تعبير مكثف عن الاقتصاد بتعبير أحد كبار المفكرين، فمن يخفق اقتصاديا، لا يمكن له أن يكسب سياسيا، فكثير من الشعوب الفقيرة، ترى مستقبلها في صورة الدول المتقدمة اقتصاديا، وعلى هذا الأساس تناضل، لترقى ببلدانها إلى مصاف تلك الدول، والعائق أمام  ذلك هو طبيعة النظم القائمة على شمولية الحكم، لهذا فلا سبيل أمام تلك الشعوب إلا بتغيير تلك النظم، فبعض تلك النظم تنتبه للخطر المحدق بسلطتها فتبدأ بإصلاحات، وتصالح شعوبها، لكن بعضها الآخر يتشبث بالسلطة، ويستميت في الدفاع عن امتيازاته، هذا الفريق في طريقه إلى الزوال حتما..!
© منبر الحرية، 16 أغسطس/آب 2009

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

ينوء العراق تحت عبء تركة تاريخية ثقيلة ورثها عن حقبة الاستبداد العنصري، ليس من اليسير التخلص منها تماماً لمجرد الإدعاء بالحاجة إلى المصالحة، دون البحث في العلل والمعضلات الحقيقة، التي خلّفت أوضاعاً شاذة ومتطرفة من الغبن واللامساواة شملت شرائح واسعة وفئات كبيرة من العراقيين.
تتسم تلك الأوضاع- التي تتجسد اليوم في التركة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الشاملة للنهج العنصري والاستبدادي للنظام الآفل- بتعثر تأسيس دولة الحق والقانون، حتى هذا الوقت، وفشل تكريس دورها كدولة راعية للمساواة بين جميع مواطنيها وضامنة للعدالة السياسية بينهم. إذ لاتزال تلعب، إلى حدّ كبير، دور الوصي على النهج الاستبدادي والمواصل لذهنية الإقصاء والإنكار بحق الآخرين، انطلاقاً من مصادرات أيديولوجية، هي إما قوموية أو طائفية، كان النظام السابق يعمد، على الدوام، إلى استلهام شرعيته السياسية منها.
لقد عجزت الدولة العراقية عن أن تكون دولة دستورية بالفعل حتى هذا الوقت، ونكصت حكوماتها عن الالتزام الحقيقي بمواد الدستور الجديد ونصوصه، بل أن استمرار عدد منها كان قائماً أصلاً على عدم الاتساق مع روحه، وعلى عدم الإيفاء باستحقاقاته الشرعية والأخلاقية إلى حدّ بعيد. وهنا يلاحظ أن تلك الحكومات، التي توالت بعد سقوط بغداد، تمتاز بقاسم مشترك يتمثل في أنها جميعاً تنطلق من الذهنية الأيديولوجية ذاتها في ممارساتها السياسية لدى التعاطي مع استحقاقات المسألة الكوردية، وبخاصة تلك المعضلات التي تشكل وشكلت الجذر الحقيقي للمحنة الكوردية. وهذا ما يجعلها جميعاً مواصلة لنهج الاستبداد القديم، الذي يحول دون تحقيق الشروط الأساسية للمساواة بين المواطنين، وبالتالي تفاقم الغبن السياسي والقومي بحقهم واستمراره.
فضلاً عن ذلك، فشلت الدولة العراقية في إزالة التشويه الاجتماعي والديموغرافي الشاملين الذي خلّفه النظام السابق على جميع المستويات، وفي كل الأماكن، بغرض تكريس استبداده، ومصادرة الحياة الاجتماعية والهيمنة عليها. وهنا تبدو حالة التشظّي الاجتماعي والانقسام القائمة فعلياً بين مكونات المجتمع العراقي عقبة رئيسة أمام التأسيس لمواطنة جديدة وحقيقية ترتكز على المساواة والحرية.
ليس من المنطقي، وليس من العدل أيضاً، التشدق وإظهار الحماسة المجانية للمصالحة ما لم تنجز سيرورة المساواة بين المواطنين قبلاً. وهذه الأخيرة لن تنمو على أرض الواقع وتتم ما لم تتطلع السلطة الحاكمة في بغداد بحزم إلى الأمام، وتتخلص نهائياً من الإرث المادي والنظري للاستبداد القديم، وتنفصل عن الممارسات السياسية التي هيمنت على الحياة العراقية طوال العقود الماضية.
إن ولادة الدولة العراقية الجديدة، أو إعادة تأهيلها، بصفتها دولة الحق والمساواة، تعني نهاية حقبة القهر والتعسف والطغيان الفردي. لا أن تؤول بالنتيجة إلى أشكال جديدة من الاستبداد العرقي أو الديني بزعم المصالحة مع نموذج سياسي وأيديولوجي، استبدادي وعنصري، أدّى إلى الهلاك ودمار البلد وخرابه على أهله، وثبت أنه نموذج مضاد للتاريخ وللعقل ولمصالح البشر. وبعبارات تالية تعني الانعتاق من البنية السابقة للحكم، وتمكين الدولة من القيام بدور الراعية للمساواة والوصية على العدل.
إن ربط التحول إلى دولة الحق والمساواة بإزالة كل أشكال الغبن والقهر السياسي والتمييز والعنصري المتوارثة، يعدّ بداهة تفرض نفسها على عقل كل من يريد بداية صحيحة لبناء دولة حديثة في العراق ولنشوء مجتمع سياسي متقدم. وبدلاً من الارتكاس إلى الممارسات القديمة وإلى بنى الاستبداد التي مازالت تهيمن على سلوك السلطة السياسية وتستبد باتجاهات تفكيرها، يتعين على السلطة الحاكمة أن تنطلق من قيم سياسية ومبادئ أجمع عليها معظم العراقيين دستورياً، ومن ثم عليها أن تنجز تماماً سيرورة الحياة السياسية دستورياً دون الاكتراث بالنزق السياسي أو الزعيق الذي يبديه حفنة من ضيقي الأفق والمتعصبين، يريدون خلالها إخضاع الحياة مجدداً لمعاييرهم العرقية أو الطائفية الخاصة، ويعمدون، بكل الوسائل، إلى استعادة النموذج الشمولي البائد.
المصالحة غير ممكنة، وغير قابلة للتطبيق إن لم تكتسب مدلول الإنصاف والمساواة. وبخلاف ذلك تكون دعوى باطلة غايتها المساومة على حقوق الضحايا مع أقلية انتهازية من الأفراد، هم فضلاً عن شراكتهم العميقة مع نظام الاستبداد في إرهابه ومسؤوليتهم في جرائمه المروعة، لا يمكن الركون إلى قناعتهم بضرورة مستقبل سياسي جديد للعراق على أساس الشراكة الحقيقية والمساواة بين الجميع. وعليه فإن كل ادعاء بالمصالحة يستهدف التسوية معهم في مثل هذه الظروف، حيث لا تزال المسائل متشابكة بشدّة وعالقة، لا يعدو أن يكون استجداءاً مجانياً ونفاقاً يراد به المماطلة والتسويف والهروب من الاستحقاقات الدستورية والسياسية الأكثر أهمية.
المصالحة ممكنة فقط حينما تكف السلطة الحاكمة في بغداد عن التفكير بأنها قادرة على إلغاء حقائق التاريخ وحقوق البشر، وتضمن لنفسها الهيمنة والاستمرار دون الالتزام بشيء أو التقيد بمبدأ. وتتوقف عن تكريس بقاءها بإيغالها في إقصاء الآخر فلا تعبأ بحقوقه المستلبة، وتعدّ ذلك انتهاكاً صريحاً. وفي مثل هذه الحال ينبغي أن يكون المبدأ الحاسم لديها في تحديد طبيعة العلاقة بين الناس هو المساواة والحرية في تقرير مصائرهم، بدلاً من الاعتقاد أن المراوغات السياسية والمناورات هي السبيل الأمثل لممارسة السلطة. إذ ليس أسهل على من لايكترث بحقوق البشر من تحويل السياسة إلى مجرد مخاتلة ومكر، وخداع وتضليل، وبالتالي تغدو ممارسة السلطة لديه غاية بذاتها ولذاتها، مجردة تماماً من كل قانون سياسي أو مبدأ أخلاقي سام.
© منبر الحرية، 21 مايو 2009

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

كلما مر أسبوع، أصبح تخبط وزير الخزانة الأميركية هنري بولسون أكثر إثارة وحبساً للأنفاس. ففي نهاية شهر آذار (مارس) الماضي أخرج وزير الخزانة خطة كبيرة لتتويج مجلس الاحتياط الفيدرالي (بنك أميركا المركزي) كعامل استقرار مالي جديد للأمة. هل الاحتياطي الفيدرالي هو من يوفر الاستقرار حقا؟ بل إنه هو الذي خلق المشكلة المالية التي نعاني منها!

وإذا لم يكن ما فعله سيئاً بما فيه الكفاية، فقد تقمص وزير الخزانة دور القائد المشجع لبكين طالباً منها رفع قيمة اليوان الصيني مقابل الدولار. وبينما يعمل بولسون كل ما بوسعه لتخفيض قيمة العملة الأميركية، فإنه يدعونا إلى البقاء هادئين وواثقين بدعوى أن العوامل الاقتصادية ما زالت سليمة. إنه بذلك يذكرني بالمتعامل في السندات المالية الذي يُقدم خدمة غالية لشركائه عن طريق كونه مخطئاً طوال الوقت.

خلال فترة ولاية غرينسبان– بيرنانكي، اعتنق الاحتياطي الفيدرالي وجهة النظر القائلة بأن الاستقرار في الاقتصاد، والاستقرار في الأسعار شيئان منسجمان يتمم احدهما الآخر. فما دام التضخم باقٍ على المستوى المحدد أو أقل منه، فإن قاعدة العمل هي الإصابة بالذعر لرؤية أي اضطراب حقيقي أو متصوّر للاقتصاد، وتقديم إغاثة طارئة سريعة. ويفعل الاحتياطي الفيدرالي ذلك عن طريق تخفيض نسب الفوائد إلى ما هو أدنى من سعر السوق لو كان السوق هو الذي يحددها. وعندما تُصبح نسب الفوائد منخفضة بشكل غير طبيعي فإن المستهلكين يخفضون من مدخراتهم لصالح الاستهلاك، كما يرفع المستثمرون من نسب إنفاقهم على الاستثمار.

ثم يتكون لديك اختلال بين التوفير والاستثمار. ويكون لديك اقتصاد غير قابل للنمو المستمر. وهذا باختصار هو الدرس الذي تعلمناه حعن النظام النقدي المركزي الذي تم تطويره في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. فقد حذّر علماء الاقتصاد النمساويون من أن استقرار مستوى الأسعار قد يتعارض مع الاستقرار الاقتصادي وقد ركّزوا تركيزاً كبيراً على حقيقة أن مستوى الأسعار، كما يُقاس في العادة، إنما تشمل البضائع والخدمات فقط. وتُستثنى منها أسعار الموجودات. (اذ لا يشمل جوهر القياس الذي يتبعه الاحتياطي الفيدرالي لقياس أسعار المستهلكين جميع البضائع والخدمات ، بطبيعة الحال). وقد توصّل النمساويون إلى نتيجة مفادها أن الاستقرار المالي يجب أن يشتمل على بُعد يمتد إلى إدخال أسعار الموجودات، وان التغيّرات في الأسعار المقارنة لمجموعة مختلفة من السلع والخدمات والموجودات هي أمر بالغ الأهمية. فبالنسبة للمدرسة النمساوية للاقتصاد، يمكن أن يكون الاقتصاد المستقر متوافقاً مع سياسة نقدية تكون فيها الأسعار في انخفاض طفيف.

الأزمة المالية الأميركية الحالية تتبع النمط الكلاسيكي. ففي عام 2002 صدرت عن المحافظ بيرنانكي صفارات إنذار تقول بأن التباطؤ الاقتصادي يُهدد الاقتصاد الأميركي. وقد أقنع زملاءه أعضاء المجلس بذلك الخطر. وكما عبّر غرينسبان عن ذلك قائلا: “إننا نواجه تحديات جديدة في الحفاظ على استقرار الأسعار، وبشكل خاص بتجنب هبوط التضخم إلى مستويات منخفضة أكثر من اللازم.”

ففي مواجهة احتمال انكماش اقتصادي، أصاب الاحتياطي الفيدرالي الذعر. وما أن جاء شهر تموز (يوليو) 2003 حتى أصبح معدل نسب الأموال الفيدرالية بمستوى قياسي منخفض بأقل من 1% حيث ظلت في ذلك المستوى المنخفض على امتداد سنة كاملة. وقد أدى ذلك إلى وقوع اكبر جميع دورات السيولة الحديثة، وكما توقع أعضاء المدرسة النمساوية، انتهى انتعاش التسهيلات المالية نهاية سيئة.

وحفاظاً على النمط الذي دأب الاحتياطي الفيدرالي على اتباعه، فقد أصابه الذعر مرة أخرى، بحيث أقدم على تخفيض نسب الفائدة وإغراق الاقتصاد بالسيولة. واذا ما أجري قياس اولي لكمية الإصدارات النقدية، لتبين أن الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس زاد من إصداراته بمعدل سنوي بلغ 37.7% ما بين نهاية كانون الثاني (يناير) وحتى 24 آذار (مارس). وبهذا الاندفاع الكبير لكميات النقد ومكاسب الأسعار التي تحققت في شهر شباط (فبراير) 2007 والتي بلغت 4% لسلع الاستهلاك، و6.4% لسلع الإنتاج، و13.6% للسلع المستوردة، فليس عجيباً أن نرى ارتفاع توقعات التضخم.

وليس غريباً أيضاً أن يظل الدولار عليلاً. وهو الأمر الذي يجعل من رسالة وزير الخزانة بولسون إلى بكين رسالة شاذة، ولا سيما أنها مبنية على معطيات غير صحيحة قدّمها عدد كبير من الاقتصاديين المرموقين. أعرب، مارتن فلدستاين، بروفيسور الاقتصاد في جامعة هارفرد، عن وجهة نظره بأن ميزان التجارة الثنائي بين الولايات المتحدة والصين يتقرر نتيجة لسعر تبادل العملة بين اليوان والدولار. لذلك، ولكي يمكن تخفيض فائض التجارة لصالح الصين مع الولايات المتحدة، فإنه يدعو إلى رفع قيمة اليوان.

هذه النصيحة كلام فارغ. فالموازين التجارية تتقرر نتيجة لقدرات التوفير الوطنية، وليس نتيجة لأسعار الصرف. إن فائض التوفير الصيني وعجز التوفير الأميركي يقرران إلى حد كبير اختلال التوازن التجاري بيننا وبين الصين. يتوجب على وزارة الخزانة الأميركية أن تكون قد تعلّمت هذا الدرس بعد سنوات من إرغام اليابانيين على رفع قيمة الين الأمر الذي أدى إلى النيل من استقرار الاقتصاد الياباني وبدون إعطاء أية فائدة للتوازنات التجارية.

وإلى أن يتخلى مجلس الاحتياط الفيدرالي عن تحديد التضخم وتتخلى الولايات المتحدة عن سياستها القائمة على ضعف الدولار، فإن التضخم سيكون هو سيد الموقف.

.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 10 أيلول 2008.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

هنالك قول مأثور لعضو محكمة العدل العليا الأمريكية أوليفير هولمز قال فيه “الضرائب هي ما ندفعه لقيام مجتمع متمدن،” بينما قال سلفه على محكمة العدل العليا الأمريكية، رئيس المحكمة جون مارشال، وكان محقاً فيما قال، “السلطة على فرض الضريبة هي السلطة على التدمير.”

في أية نقطة تنتقل فيها الضريبة من كونها ضرورية لإدارة الحكومة بشكل مناسب إلى الاستبداد؟

الآباء (المؤسسون) الأمريكيون، اعتبروا، في إعلان الاستقلال الأمريكي، أن أحد تظلماتهم ضد الملك جورج الثالث أنه قد فرض “ضرائب علينا بدون موافقتنا.” “لا ضرائب بلا تمثيل” كان هو النداء الذي قامت على أساسه الثورة، ومنذ ذلك الحين كان هنالك توافق واسع بأن فرض أية ضريبة دون موافقة المحكوم هو نوع من الاستبداد الضريبي. هذا هو السبب الذي يجعل فرض الضرائب في الأنظمة الديمقراطية تحوز على شرعية أخلاقية أعظم من تلك الضرائب التي تُفرض من قبل الأنظمة غير الديمقراطية.

وبانتشار الديمقراطية على امتداد العالم، فإن أناساً أقل يتعرضون الآن لذلك النوع من الاستبداد الضريبي. ومع ذلك، وفي السنوات الأخيرة، فإن بعض البلدان وبشكل رئيسي ضمن الاتحاد الأوروبي قد حاولت تحت شعار “التنسيق الضريبي” و”الممارسات الضريبية غير المنصفة،” فرض توجّهاتهم لفرض ضرائب أعلى على الدول ذات الضرائب المُنخفضة. وقد حاولت بعض المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فرض ضرائب على الآخرين بدون موافقتهم.

شكل آخر من أشكال الاستبداد الضريبي يقع عندما تفرض الحكومات نسباً ضريبية أعلى من الحد الأعلى لجمع الأموال. لقد كان معروفاً على امتداد القرون بأن كل ضريبة لها نسبة عليا والتي إذا تم تجاوزها لن تجلب مداخيل أخرى لأن الناس سوف يتوقفون عن التعامل مع النشاطات الخاضعة لتلك الضريبة، سواء كانت العمل أو الادخار أو الاستثمار أو الاستهلاك للبضائع والخدمات الخاضعة للضرائب. مثل تلك النسب العالية من الضرائب تُشجع على انتشار الأسواق السوداء الخفيّة و/أو نزوح أنشطة معينة.

على سبيل المثال، فإن نسباً عالية من الضرائب على رأس المال تدفع الناس إلى الانتقال بأموالهم إلى مناطق تفرض نسب ضرائب أقل. نسب الضرائب العالية جداً على العمل يمكن أن تدفع بالناس إلى الانتقال حتى من بلد إلى بلد أو دولة أخرى. هنالك حالات كثيرة معروفة، حيث قام من يحصلون على مداخيل عالية مثل نجوم السينما والرياضة وغيرهم بالانتقال من بلدانهم الأصلية التي تفرض ضرائب عالية مُقعِدة، إلى أماكن أكثر وداً من الناحية الضريبية. ولكن لسوء الحظ، هنالك حكومات كثيرة، بما في ذلك حكومة الولايات المتحدة التي ما زالت تفرض ضرائب ونسب ضرائب أعلى من الحد الأعلى لجمع الموارد.

نوع آخر من الاستبداد الضريبي يتجلى عندما تُفرض ضرائب قصراً لتمويل برامج حكومية ذات مردودٍ قليل أو حتى بلا مردود، أو حيث تكون برامج الإنفاق متلبسة بالرشاوى وسوء الإدارة.

وقد أعلن الرئيس جروفر كليفلاند، في خطابه السنوي إلى الكونغرس عام 1886 قائلاً “عندما يُقتطع جزء أكبر من مداخيل الناس من خلال أنماط من الضريبة تفوق ما هو ضروري لمواجهة التزامات الحكومة ونفقاتها في إدارة الاقتصاد، فإن مثل تلك الضرائب تُصبح ابتزازاً بلا رحمة وانتهاكاً للمبادئ الأساسية لحكومة حرة.”

الحكومات من حيث طبيعتها ليست مؤهلة لأن تدار بمثل الكفاءة التي تدار بها النشاطات الكثيرة للقطاع الخاص، حيث يُنفق الناس من أموالهم الخاصة، ولكن هنالك قادة سياسيون كثيرون في كل بلد من بلدان العالم تقريباً الذين يتجاهلون إلى حد كبير مسؤوليتهم تجاه دافعي الضرائب بقبولهم لمستويات عالية من الفساد و/أو سوء الإدارة. وقد عبّر الرئيس كالفين كولدج بشكل واضح عندما قال “إن جمع ضرائب أعلى مما هو ضروري على نحو مطلق، هو نوع من أنواع النهب القانوني.”

الاستبداد الضريبي يمكن أن يوجد أيضاً عندما يتم اختيار أعضاء مجموعة من الناس لدفع نسبة تفوق النسبة المُقررة على أساس من دينهم أو عرقهم أو جندرهم أو غير ذلك من الظروف. في أيامنا هذه نرى ذلك كثيراً في الحكومات التي تُسيء إلى فكرة الضريبة المتصاعدة. على سبيل المثال، ففي الولايات المتحدة فإن واحدا بالمائة من أعلى فئة من دافعي الضرائب يدفعون 40 بالمائة من ضريبة الدخل، بينما هم لا يملكون سوى 21 بالمائة من الدخل. وفي الوقت ذاته فإن الـ50 بالمائة الأكثر انخفاضاً بين دافعي الضرائب يدفعون فقط 3 بالمائة من الضريبة بينما هم يحصلون على 12 بالمائة من الدخل.

عندما تُحوّل الأغلبية العبء الضريبي كله تقريباً إلى أقلية صغيرة يتوجب عليهم أن يدفعوا قسطاً غير متناسب إطلاقاً مع نسبة مداخيلهم، فإن ذلك يُمثّل شكلاً من أشكال الاستبداد الضريبي. بلدان كثيرة، ربما يبلغ عددها دزينتين، والذين عانى مواطنوها تحت حكم الشيوعية المستبد، قد فرضوا “ضريبة ثابتة” لتفادي هذا الشكل من أشكال الاستبداد الضريبي.

الاستبداد الضريبي يُخفّض من الفرص الاقتصادية ومن الوظائف ومن نمو الدخل ويؤدي إلى النيل من المجتمع المدني. الاستبداد الضريبي سوف يستمر ما دام أن السياسيين يستطيعون شراء أصوات مجموعة من المواطنين عن طريق إصدار الوعود لهم بتحويل عبء الحكومة إلى الآخرين، وإلى المدى الذي يواصل فيه القضاة السكوت على فرض ضرائب غير مناسبة وضرائب تنطوي على التمييز.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 25 حزيران 2008.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

يعمل النفط المملوك من قبل الدولة على الدوام على زرع بذور فنائه بنفسه. إن معظم الناس لا يدركون بان ما نسبته 90 في المائة تقريبا من احتياطيات النفط السائل في العالم تتم إدارتها من قبل حكومات أو من قبل شركات مملوكة من قبل الدولة. فشركة “ايكزون موبيل” وهي اضخم شركة نفطية في العالم مملوكة للقطاع الخاص تمتلك فقط نسبة 1.08 في المائة من احتياطيات النفط العالمي، والشركات النفطية الخمس الأضخم في العالم المملوكة للقطاع الخاص تمتلك معا نسبة 4 في المائة فقط من الاحتياطيات النفطية في العالم.

هناك نفط سائل موجود في الأرض يكفي للاستمرار بحيث يمتد لأجيال قادمة وعند إدخال الرمال الزيتية والصخر الزيتي، فسوف يكون النفط كافيا للاستمرار على مدى قرون. فلو كان هناك سوق حرة حقيقية في مجال النفط، مع وجود الاحتياطي والإنتاج المملوكين والمُدارَين من قبل العديد من الشركات التنافسية، فان سعر النفط سوف يشكل جزءا من السعر السائد هذه الأيام.

إن السعر المرتفع للنفط هو نتيجة مباشرة نجمت عن قيود ومعوقات العرض المصطنعة التي تم فرضها من قبل دول عدة بما في ذلك الولايات المتحدة، بالإضافة إلى عدم كفاءة وسوء إدارة في معظم الشركات النفطية التي تتم إدارتها من قبل الدولة.

معظم هذه الدول—وكذلك منتجين رئيسيين آخرين للنفط يعتمدون بشكل رئيسي على شركات مملوكة للدولة مثل روسيا—قامت بالتقليل من الاستثمار في مجال استكشاف وتطوير منشآت إنتاج جديدة للنفط، كما أنها أساءت إدارة المنشآت الموجودة لديها.

وبالرغم من وجود سادس اضخم احتياطيات نفطية في فنزويلا على مستوى العالم، فقد هبط إنتاجها نظرا لسوء الإدارة التي تتم من قبل حكومة الرئيس شافيز. كما أن المكسيك أيضا تعاني من هبوط في إنتاجها النفطي لان الحكومة ترفض السماح للشركات الخاصة بالاستكشاف عن النفط وإنتاجه ولان شركة “بيمكس” النفطية المملوكة للدولة هي شركة غير كفوءة وغير مؤهلة. بمضي عقد أو عقدين من السنوات اعتبارا من الآن سوف يكون واقع الدول النفطية الاشتراكية في أسف بالغ بسبب سوء تصرفها الحالي.

عندما ترتفع أسعار أية سلعة فان الناس سيقومون بالبحث عن مصادر مغايرة وعن بدائل لتلك السلعة التي ارتفع سعرها. فعندما ارتفعت أسعار النفط إلى ما فوق 30 أو 40 دولارا أمريكيا للبرميل الواحد فقد اصبح استخراج النفط من الرمال الزيتية في كندا والصخر الزيتي في كولورادو اقتصاديا بشكل مفاجئ. وهذان الاحتياطيان هما الأضخم من تلك الاحتياطيات النفطية السائلة المعلومة.

تكمن المشكلة على المدى القصير في أن تطوير الرمال الزيتية والصخر الزيتي يستلزم القيام باستثمارات متقدمة هائلة وإلى قليل من السنوات قبل أن يحل إنتاجها محل معظم احتياجات أمريكا الشمالية من النفط المستورد من خارج القارة.

لقد أعلنت شركة “شل اويل” النفطية عن أن التكنولوجيا الجديدة لاستخراج النفط (“تكنولوجيا الموقع”) في كولورادو قد تكون تنافسية بأسعار تزيد عن 30 دولارا أمريكيا للبرميل. ومع ذلك، فان الوصول إلى إنتاج على نطاق واسع سوف يستغرق سنوات غير قليلة.

وبالرغم من الافتتان الجاري حاليا بالوقود الحيوي فانه من غير المرتقب أن ينتج في أي وقت مقادير تزيد عن حصة قليلة من سوق النفط نظرا لأنها ليست تنافسية السعر مع النفط السائل ومع الزيت الرملي والزيت الصخري عندما يتم الأخذ بالاعتبار جميع التكاليف الملازمة له، مثل أسعار المواد الغذائية العالية.

وفي الوقت الحالي، فإن السيارة الجديدة التي قمتم بشرائها منذ عقد من السنوات من الآن سيتم في الغالب وبكل تأكيد تشغيلها كهربائيا بالكامل. وهناك خطوات ضخمة تم تحقيقها في مجال تكنولوجيا البطاريات. فقد توصلت شركة “ميتسوبيشي” مؤخرا إلى اختراع سيارة تدار بالكهرباء بالكامل، وهي السيارة الرياضية “مييف”. وهناك شركتا “نيسان” و”رينو” كانتا قد أعلنتا عن انهما ستنتجان سيارات كهربائية على نطاق واسع بحلول عام 2012.

وبما أن الناس سوف يتحولون إلى السيارات الكهربائية، فان الحاجة إلى البنزين والنفط المستورد سوف تختفي بشكل سريع. ومن الواجب أن يتم التوسع في مجال المنشآت النووية والفحم النظيف بغرض إنتاج المزيد من الكهرباء، إلا أن إنتاجها من الطاقة سيكون جزءا على حساب تكلفة البترول. كما أن تكنولوجيا البطاريات الجديدة سوف تعمل على مد يد المساعدة كي تصبح الطاقة الشمسية وطاقة الرياح اكثر جدوى من الناحية الاقتصادية نظرا لأنها ستكون قادرة على تخزين تلك الطاقة. وحتى وان تم ذلك فان الطاقة الشمسية وطاقة الرياح ستشكلان فقط جزءا صغيرا من الطاقة التي سنحتاجها مستقبلا وذلك بسبب القيود والتحديدات التي تلازم إنتاجهما.

وباختصار، العالم بحاجة إلى مواد الوقود السائل (النفط)، وبشكل رئيسي للمواصلات، ولكن عندما تتم الغلبة للكهرباء في معظم سوق الطاقة، فان أمريكا وأوروبا والصين واليابان سوف يكتشفون بان بإمكانهم إنتاج كل الكهرباء التي هم بحاجة إليها من مصادر نووية ومن الفحم ومن ماء السدود ومن الكتل الحيوية والحرارة الأرضية والشمس والرياح. كما أن أمريكا الشمالية ستكون أيضا مستقلة عن النفط الأجنبي بسبب التطويرات التي تتم على الرمال الزيتية وعلى الصخر الزيتي.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 آذار 2008.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

إذا كان كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي محتفظين ببقائهما، فما الذي سيكون عليهما أن يعملاه إن كان حالهما كذلك؟ لقد احتدم الجدال بطريقة متزايدة حول هذا التساؤل من قبل بعض الخبراء، وحتى من قبل أفراد ينتمون إلى هاتين المؤسستين. كما أن هناك عددا متزايدا من النقاد من اليمين واليسار، كليهما على وشك أن يصلا إلى اتفاق بأن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد تساهلا بدرجة كبيرة جدا مع فساد كان قد استشرى بين عملائهما، وأن الكثير من برامجهما لا تقوم بالوفاء باختبارات التكاليف والمنافع المعقولة.

يقول صندوق النقد الدولي بأن “غرضه الأساسي هو أن يضمن استقرار النظام النقدي العالمي”، ويقول البنك الدولي بان المهمة الموكولة إليه هي “أن يتم التخلص من الفقر العالمي”. هذه الأهداف هي أهداف جديرة بالثناء حتى وإن كانت غير قابلة للتحقيق، وعلى وجه الخصوص من قبل مؤسسات متعددة الأطراف تمت الهيمنة عليها على المستوى السياسي. كما أن صانعي القرارات في المؤسستين لا يتم انتخابهم بطريقة ديمقراطية. ويجب ألا ننسى بأن مدراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد سمحوا لمهماتهم أن تتداخل فيما بينهما، وفي أحيان كثيرة، تم تعريف “النجاح” على أنه عبارة عن أموال يتم دفعها وليس خدمات يتم تقديمها.

في صيف العام 1944، قام عدد كبير من الأشخاص المتنورين البارزين في عالم المال والاقتصاد، بما في ذلك “جون ماينارد كينز”، بالالتقاء في مؤتمر عقد في “بريتون وودز” في “نيو هامبشير” بغرض التخطيط للنظام المالي العالمي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. قام الكثيرون من بين الحضور بإبداء عدم الثقة بنظام اقتصاد السوق الحر، واضعين اللوم عليه بالنسبة لحدوث “الكساد العظيم” وبالنسبة لصعود “النازية”. وبما أنهم كانوا جميعا نموذجيين جدا من بين طبقات أكاديمية وسياسية، فقد أخطأوا في تشخيص الأسباب التي أدت إلى حدوث “الكساد”، وهكذا فقد توصلوا إلى “حلول” غير عملية عملت على خلق مشاكل جديدة. (كانت الأسباب الفعلية لحدوث “الكساد العظيم” تتمثل في السياسات النقدية الصارمة التي تمت بطريقة غير مناسبة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي وبنوك مركزية أخرى، والتعرفات الجمركية المفرطة، والسياسات التجارية التقييدية. فتم وضع اللوم على السوق الحر، وبعد ذلك، استخدامه كعذر لتوسيع دور الحكومات بشكل كبير).

كانت الحكمة السائدة عندئذ تتمثل في اعتبار الاشتراكية موجة المستقبل وبأن البرامج الحكومية الضخمة هي وحدها التي سوف تتمكن من حل المشاكل الاقتصادية وأمراض المجتمع الأخرى. وهكذا، فقد أعقب ذلك من الناحية المنطقية أنه إذا كانت بعض المشاكل الاقتصادية المعينة عالمية، فسيكون بالإمكان حلها من خلال مؤسسات عالمية قوية متفوقة على الدولة القومية.

ومن بركان فلسفة المثالية هذه، والتي تم وضعها في غير محلها ومن الرغبة في التحكم والسيطرة من قبل أولئك “المفكرين المتنورين”، وُلد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وكان أحد القرارات الذي تم اتخاذه في المؤتمر هو أن يتم استحداث نظام أسعار صرف ثابتة بين الدول، وهو الذي كان يتطلب وجود آلية تقوم “بإدارة” نظام السعر الثابت، والتي، من هنا، ستكون صندوق النقد الدولي.

قام صندوق النقد الدولي بهذه المهمة بالكامل لغاية العام 1971 عندما قام الرئيس الأمريكي نيكسون “بإقفال نافذة الذهب” التي تتعلق بمجال تحويل النقود إلى ذهب، مؤشرا بذلك على النهاية الفعلية لنظام سعر الصرف الثابت.

وبحلول نهاية نظام سعر الصرف الثابت، كان من الواجب على صندوق النقد الدولي أن يخرج من العمل ليكون بلا وظيفة وأن يتم حله. ولكننا كما نعلم، كان في العالم الحقيقي مؤسسات مستحدثة من قبل الحكومات لديها ما دعاه الرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” بـ”الشيء الوثيق الصلة والأقرب إلى الحياة الأبدية”. وبالرغم من كل هذا، كان لدى صندوق النقد الدولي بعض المباني الضخمة مقامة في مواقع رئيسية بمركز مدينة واشنطن، وهي عبارة عن كادر من الموظفين المدللين من ذوي الأجور المرتفعة زائدا مسؤولين بيروقراطيين حكوميين من ذوي النهج السلطوي من دول متعددة الذين أحبوا السفر بغرض حضور مؤتمرات تتم تحت رعاية الصندوق.

أدرك المسؤولون عن تطوير مهمة صندوق النقد الدولي بأن معظم زعماء حكومات الدول سوف يروق لهم أن ينفقوا أموال شعوب أخرى، ولكن فرض الضرائب بشكل مباشر على شعوبهم لا يمكن اعتباره تصرفا شعبيا. لذا، قام الصندوق بإلحاق “شروط” معينة بخصوص قروضه التي سيمنحها والتي يتم في معظم الأحيان إدخالها في خطة تخص موازنة موزونة مكونة من نوع من تقييد الإنفاق ومن زيادات ضريبية وخفض في قيمة العملة. وأصبح من الممكن أن يقوم الزعماء المحليون بإلقاء تبعة المشقة التي ستنجم عن ذلك على صندوق النقد الدولي وليس على سوء إدارتهم هم أنفسهم.

أما إمكانية الدفاع عن البنك الدولي فهي أقل بدرجة كبيرة! فقد تأسس البنك على أساس افتراض مزيف هو أن الدول الغنية في حال قيامها بإقراض الأموال إلى الدول الفقيرة فسوف تصبح الدول الفقيرة غنية وسوف يختفي الفقر على نطاق واسع. وفي حقيقة الأمر، ازدهرت الدول الغنية لأنها قامت باستحداث المؤسسات والسياسات التي أتاحت للأفراد الذين يسعون نحو الأرباح أن يبتكروا السلع والخدمات في سبيل زميلهم الإنسان. وتمتاز الدول الغنية بوجود حكم القانون لديها، وحماية الملكية الخاصة، وبتدخل حكومي قليل نسبيا مع وجود أسواق حرة. أما الدول الفقيرة، فيفتقر معظمها إلى وجود هذه الصفات المميزة، كما أنها تمتاز بتساهلها مع فساد مستشرٍ على نطاق واسع.

كان لدى البنك الدولي مهمة مستحيلة. فقد كان مطلوبا منه أن يقدم معظم أمواله إلى الحكومات، ولكن الحكومات التي لا تستطيع جذب رأس مال القطاع الخاص الضروري إليها، كانت إما فاسدة جدا أو غير مؤهلة لإدارة أية أموال تتلقاها. وهناك العديد من ديكتاتوريي دول العالم الثالث قد أصبحوا أغنياء من برامج البنك الدولي، كديكتاتور دولة الكونغو الرئيس الراحل “موبوتو” على سبيل المثال. ونظرا لأن البنك كان يقدم قروضا إلى وكالات حكومية في دول ذات سيادة، فقد كانت لديه فقط رقابة محدودة على المشاريع التي يقوم بتمويلها. كما أن الدول المتلقية والمانحة كلتيهما تقومان بالضغط على مديري البنك الدولي بغرض تقديم القروض، وحيث أن كل دولة مشاركة في هذا الشأن ستقوم بإنفاق أموال دولة أخرى، فإن الحوافز العديدة التي ستضمن إنفاق الأموال بطريقة سليمة سوف تكون مفقودة.

عندما كنت في الخدمة العامة بصفتي رئيسا للجنة الاقتصادية الانتقالية لبلغاريا عام 1991، شهدت كيف يقوم موظفو البنك الدولي بتقويض الإصلاحات المطلوبة في هذا المجال. ففي إحدى الحالات، حاولنا أن نقوم بالخصخصة وأن نزيل احتكار شركة هواتف مملوكة للدولة، وهي شركة “بول تيل”. وكانت شركات الاتصالات الدولية من القطاع الخاص على استعداد أن تقدم أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا في مجال الخدمات الهاتفية إلى بلغاريا. ومع ذلك، قام البنك الدولي بتقديم قرض إلى شركة الهواتف المملوكة للدولة بالإضافة إلى تقديم شرط صريح وهو أن لا تسمح الحكومة البلغارية بقيام منافسة من القطاع الخاص. وعندما قمت بمواجهة موظف البنك المسؤول، كان جوابه لي: “إن من الواجب علينا أن نتأكد بأن قرضنا سوف يسدَّد”!

بافتراض وجود عدد كبير من الأفراد من ذوي النفوذ والتأثير، والذين لديهم مصلحة كامنة في بقاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فأن إلغاء هاتين المؤسستين سوف لن يتم. وبناءا على ذلك، ما الذي يمكن أن يتم القيام بعمله؟

الحل الأفضل هو أن يتم خصخصتهما. فهاتان المؤسستان تقومان بتوليد دخل مكتسب يتم جنيه من إقراضهما للأموال، وهما تتلقيان بعض الأتعاب مقابل عملهما الاستشاري، كما يوجد لدى كل منهما أصول مالية وعقارية كبرى تعتبر في الوقت الحالي “مملوكة” من قبل الحكومات التي قدمت رأس المال لهما. وبالإمكان إعطاء الحكومات “المالكة” حصصا من الأسهم بحيث تساوي مساهماتها في كل مؤسسة منهما، وبعدئذ، يمكن لكل حكومة أن تختار إما أن تمتلك أو تبيع حصتها إلى أطراف من القطاع الخاص.

ومن الواجب أن يتم إجراء تغيير على بنية الإدارة وعلى مجلس الإدارة الحاليين ليكونا على شكل شركة عادية حيث يقوم المساهمون بانتخاب عدد قليل من أعضاء مجلس الإدارة للإشراف على الشركة. وبالإضافة إلى الدخل المكتسب والأتعاب التي تجنيها المؤسستان، فبإمكانهما أن تصبحا متعاقدتين مع حكومات أو مع مجموعة من الحكومات بغرض تقديم خدمات معينة، كإدارة المنح، وجمع البيانات ونشرها، أو حتى لتكونا بمثابة منقذين للحكومات التي تعاني من صعوبات مالية.

ومن خلال تحويلهما إلى شركتين عاديتين تسعيان إلى الربح، فسوف تقومان، على الأرجح، بإنجاز المهمة في مجال توزيع الموارد وضبط التكاليف. فقد تنمو الحوافز الخاصة بالدول المتقاعسة بحيث تُدفَع إلى تبني سياسات نمو اقتصادي عالٍ، كما ستنمو مؤسسات اقتصادية ناجحة قائمة في دول نامية في حال إزالة مساندة صندوق النقد الدولي/البنك الدولي. ومن المحتم أن يطور صندوق النقد الدولي خطا رئيسيا تماما للتأمين على مخاطر العملات بالنسبة للحكومات وللمستثمرين من القطاع الخاص، والذي قد يكون خطا مربحا جدا إذا ما تم تسعيره بالشكل المناسب والذي سيخدم بصفته حافزا قويا بالنسبة للسياسة المالية الحصيفة.

ومن المحتم كذلك أن تعمل الخصخصة على تمكين دافعي الضرائب الذين قاموا بدفع مبالغ السندات من أن يحصلوا على عائد جزئي على الأقل من استثماراتهم في تلك السندات. فالحكومات، بما في ذلك حكومة الولايات المتحدة، قامت باستحداث العديد من المؤسسات التي تمت خصخصتها بكل نجاح لتحقق المنفعة لكل فرد. وبناءا عليه، لماذا لا تشمل الخصخصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؟

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 22 شباط 2008.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018