العلاقات الجيو-إستراتيجية والسياسية الدولية

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

إن مصطلح الليبرالية (Liberalizm) تعني فيما تعنيه التحررية وهي مشتقة من الكلمة الانجليزية (Liberty) وتعني الحرية. يعود ظهورها إلى ديمقراطية أثينا اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد أو إلى حركة الإصلاح البروتستانتي الديني في ألمانيا، وهو مذهب فكري وسياسي واقتصادي في آن واحد. وفيه تأخذ الحرية الفردية الخاصة بعدها الأقصى حيث يتقلص دور الدولة الكابحة للفعاليات الاقتصادية ليقتصر دورها على حماية الأفراد واستثماراتهم الخاصة، مما يؤدي إلى توسيع الحريات العامة وتفتح الإبداعات الإنسانية وتعظيم الإنسان ودوره في الحياة العامة. وقد ورد في الموسوعة الأمريكية عن الليبرالية ما يلي: (إن النظام الليبرالي الجديد الذي ارتسم في فكر عصر التنوير بدأ يضع الإنسان بدلاً من الإله في مركز الأشياء، فالناس بعقولهم المفكرة يمكنهم أن يفهموا كل شيء، ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم ومجتمعاتهم عبر فعل نظامي عقلاني.).
وفي نظام الاقتصاد الحر(النظام الرأسمالي) تفتح الأبواب أمام الاستثمارات الرأسمالية والتي تذهب بشكل رئيسي إلى نقل الخبرة والرفاهية من البلدان الغنية إلى البلدان الفقيرة، فهناك قوانين موضوعية تتحكم بالاقتصاد وتساهم في تطويره كالأسواق الحرة، والعرض والطلب، وتقليص وإنهاء تدخل الدولة…الخ. ويقابلها التخطيط الاقتصادي والخطط الخمسية في الدول ذات الاقتصاد الموجه الذي أثبت فشله بعكس الاقتصاد الحر الذي أثبت ازدهاره وتقدمه على مر عصوره ودهوره.
ولهذا يقول الاقتصادي الشهير(ريكاردو): إن الإنتاج الرأسمالي تتوفر فيه إمكانية التوسع بلا حدود، طالما أن زيادة الإنتاج تؤدي بشكل آلي إلى اتساع الاستهلاك، فلا مكان إذاً لفيض الإنتاج وأن الإنتاج وزيادة القيمة يتماثلان عفوياً. ويرى (جيمس ميل) أيضاً وهو منظر الاقتصاد الحر فيضاً في الإنتاج، وبائع السلعة لابد أن يشتري بثمنها سلعة أخرى، أي أنه يرى البيع والشراء وجهين لعملة واحدة. فالاقتصاد الليبرالي الحر بشكله العصري الحالي يمنح الأفراد حرية العمل ويفتح أمامهم أبواب المبادرات الفردية على مصارعها(دعه يعمل دعه يمر).  مما يؤدي إلى تفجير الطاقات الإبداعية للفرد وإلى ازدهار البلدان وتقدمها وإلى تراكم الثروة وارتفاع مستوى المعيشة، ورفع قدرة الدولة أيضاً للاهتمام الكافي بشعبها وبلادها. بالإضافة إلى هذا وذاك ما ينجم عنه من انتشار المؤسسات الخيرية التي تساعد الفقراء والمحتاجين بمختلف السبل وبكل أريحية وسلاسة. بعكس النظام الاقتصادي المغلق الذي يدار بتخطيط مركزي من قبل مجموعة من المسؤولين أو اللامسؤولين! مما يؤدي إلى الفساد الاقتصادي والنهب المنظم لثروات البلاد وانهيار الحكومات والدول.
وخير مثال على ذلك هو الانهيار المدوي لما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي السابق ومعه كل منظومة الدول الاشتراكية الدائرة في فلكه. ولهذا نرى أن الاقتصاد الليبرالي الحر قادر على الدوام على تجديد نفسه بنفسه ليتابع مسيرة التقدم والازدهار الاقتصادي، حيث أثبت هذا الاقتصاد نفسه على الساحة العالمية أنه الأكثر قبولاً ونجاحاً ورواجاً في نفس الوقت، في عصرنا هذا بل في ما هو آت من العصور والدهور أيضاً. ويتطلب إنجاح الاقتصاد الحر مطالبة الحكومات في تخفيض الإنفاق الحكومي أو خفض مقدار الضرائب أو العمل بهما في وقت واحد، وقد يوصي برفع الدعم على المواد التي تثقل كاهل الدولة وتتكون عبئاً ثقيلاً على ميزانيتها ومواردها، وإعادة نوع من التوازن إلى ميزانية الدولة المأزومة، بالإضافة إلى مكافحة الهدر الحكومي والفساد في أجهزة ومؤسسات الدولة.
ففي سورية على سبيل المثال، والتي تسير منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي على نهج الاقتصاد المغلق  وغلبة الملكية العامة للدولة، وزيادة الإنفاق العام والحماية الجمركية…الخ. ورغم الانفتاح السوري الخجول على الاستثمارات الأجنبية الذي بدأ بقانون الاستثمار رقم/10/ والتعديلات التي أدخلت عليه لدفع عجلة الاقتصاد إلى الإمام لتصل حصة القطاع الخاص إلى 6 % فقط من الناتج الإجمالي المحلي، ورغم مثل هذه القرارات الانفتاحية القليلة جداً والتي أدت إلى ظهور بعض البنوك الخاصة مثل بنك (بيمو) السعودي الفرنسي وبنك (عودة) اللبناني بالإضافة إلى بنوك أخرى مؤخراً، إلا أن ذلك لم يكن كافياً للولوج إلى سويات الاقتصاد الحر ولم يحل دون تحجر وركود الاقتصاد السوري، وانتشار ظاهرة البطالة حيث يدخل في سورية كل عام ما لا يقل عن(300) ألف شخص في سوق العمل، ناهيك عن البطالة المقنعة وارتفاع مؤشر الفقر ولجم الإبداعات الفردية والعجز في ميزانية الدولة…الخ.
ولذا نرى أنه وفي حال فتح سورية أبوابها أمام الاستثمارات الأجنبية بجدية والأخذ بركائز الاقتصاد الحر عندها سيتم القضاء على البطالة والبطالة المقنعة معاً، و لصارت بخطوات حثيثة نحو الاستخدام الأمثل للعمالة الوطنية وتحقيق الرفاهية لسكانها. وبالمقارنة مع دولة مثل تايوان – والتي تقل مساحتها عن ربع مساحة سورية-  نراها أكثر تقدماً من النواحي الاقتصادية بل تتقدمها في جميع المجالات الأخرى، والسر يكمن في اعتماد تايوان على الاقتصاد الليبرالي الحر والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية وتفجير طاقات أبنائها الإبداعية بإفساح المجال لهم بالعمل الحر. ومن هنا كان لتوجه سورية أو أي بلد عربي لازالت تأخذ بالنظام الاقتصادي المغلق والمخطط مركزياً، أن تسير نحو الخصخصة ورفع الدعم عن المواد الغذائية وإعطاء المجال للأفراد ليوظفوا طاقاتهم الإبداعية أيضاً، والاتجاه نحو سياسات السوق، وإقامة سوق الأوراق المالية، وتقليص دور الدولة…الخ. أي التوجه نحو الاقتصاد الليبرالي بكل تفاصيله ومؤسساته، فهو الحل الأمثل لبلد مثل سورية أو أي بلد عربي آخر لازال ينهج في اقتصاده نهجاً كلاسيكياً مقيداً.
© منبر الحرية، 24 فبراير 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

ليساعدني الله، هذه الجملة والعبارة التي لم تفارقني أبدا منذ وجدت نفسي هنا في الأرض الأمريكية، طبعا لم تكن دهشتي بذلك الحجم الذي كنت أتصوره، لأن قراءاتي وثقافتي عن عظمة وقيم الديمقراطية الحاضرة دوما مع الهواء والماء والخبز، جاءت متوافقة مع كل المشاهدات ولحظات الاكتشاف المثيرة كل دقيقة وزمن ومكان…
هاي… مع الابتسامة الحاضرة في وجوه الأمريكيين، والإعلانات التي تصل إلى مدى حرصهم على كرامة وفرح الحيوان، ولهفتهم على الكلاب خاصة، فيما تجد أن الحياة هادئة وتسير بعفوية دون إزعاجات وإرهاصات رمادية.
في أوكلاهوما سيتي أول ولاية أخذتني في أحضانها، بطبيعتها المجنونة، ما بين برد وحرارة، وربيع وصيف يستيقظ وقت ما يشاء، كان صوت صديقتي من واشنطن يربطني باللغة العربية  وبأشياء جميلة أخفيتها في جسد قصيدة من ورد، فيما كان صديقي الكردي يسامرني في وحدتي، هنا وحيدا داخل جدران بيضاء، ونهارات لا ضوضاء فيها، ولا فوضى، ولا الشرق المغبر في صحراء الحزن والألم.
شهر كامل حولني من شاعر وصحفي وسياسي، إلى طفل أمريكي يحبو داخل معمعة الزمن والمكان، طليقا، عليه أن يتعلم المشي والأبجدية والاعتماد على النفس، شهر دون أنترنت وأخبار وسياسة، لقد تحولت إلى روائي، أكتب ذاتي، وأرسم بالحبر وجمر الحب تفاصيل اللوحة الجديدة، وأبدأ بترميم صلصال الروح من وحل الماضي، ولكن فكرة واحدة لم أستطع أن أفكر بمسحها.. لأن القلب والعقل متلازمان أحيانا في التشبث بحزن قد يجعلك تبدو فرحا هنا.. في وطن الآباء الأولون.
أعلام تزين مداخل البيوت، تهمس في الأذن مدى محبتهم لوطنهم العظيم، لأنهم بوجيز العبارة مواطنون دون درجات، أقصد هم كل شيء في الوطن، مساواة وقوانين تجعلك تشعر أنك قديس حقا، وما عليك سوى ممارسة الحرية وصناعة مادة الحب والأمل والعمل والحياة كلها دفعة واحدة، دون تمييز أو غبار أو ظلم أو هلوسات شيطانية….
هذه أمريكا .. التي يتمنى الكثيرون في شرقنا موتها، ويهربون من حقيقة أنهم أنفسهم هائمون في صناعة الموت وظلم النفس والإنسان، والتبعية في الحياة والعقل والدين والحلم لأصحاب العروش والعمامات السوداء، والإبداع في فن الظلم والطغيان، وقهر فكرة التطور والعيش بكرامة وحرية تحت جنح القانون والعدالة. لكن أمريكا لم ولن تموت بالدعاء والسحر والشعوذة والأصولية المجنونة، وأخيرا بالمحصلة نجد الجميع يمدون بأصابعهم نحوها سعيا لنيل الرضا، الأعداء منهم والأصدقاء؟
كل شيء هنا مختلف، الوجوه ببراءتها، السماء.. النوارس .. الشجر..الأحلام .الكلاب مألوفة في تقاسيمها وحنونة، فيما شرقنا الكلب والإنسان سواء، دون حقوق، والشوارع نظيفة دون أن تلمح أحد ما ينظفها، ثقافة الوعي بالنظافة وحماية البيئة هي التي تبقي الحياة نظيفة، أيضا الجلوس في الستار بوكس وشرب القهوة مع العصافير شيء ممتع، تلك العصافير التي تجلس بالقرب منك، بدفئها وحنانها، لا تخشاك، لأن عشها وصغارها وهي في أمان ولها ضمان على الحياة.
كل شيء يسير بانتظام وبعفوية، دون مصادمات، وكأنك في كوكب آخر، لا أدري حتى هنا كانت النصيحة الأولى من الأصدقاء الشرقيين : ( ابتعد عن مخالطة العرب) لا أدري لماذا، أعتقد أن الشرقي يأتي هنا ولا يستطيع أن يتطهر من بقايا الفوضوية وغبار الألوان الرمادية، ولهذا يعيشون في شروخ وابتعاد، والمحاولة لأن يتحول إلى مواطن أمريكي، ولكن صعب جدا، قد يكون كل شيء أمريكيا داخل الإطار المصطنع، مع بقاء رائحة الفم وطعم الذاكرة عروبة وشرقية سلحفاتية، وممارسة الحرية بشكل مشوه ومرضي .
يحتاج المرء لسنوات لأجل أن يندمج ضمن المجتمع الأمريكي، إتقان اللغة، والإبداع في العمل، وتعاطي الحرية الإنسانية بتوازن وعقلانية متسلسلة، إلى جانب الإرادة التي تدفعك إلى أن تكون ذاتا فاعلة ومؤثرة، شاعرة ومستشعرة، وتفتح أجنحتك أمام الريح الأمريكية لتحلق في طياتها حرا، فأنت إنسان هنا، والقانون هو الحامي بعد الله، والوطن خلق لأجلك، يحبك لتحبه، يعطيك لتشكره، ولهذا أمريكا عظيمة، والسر هنا.
الحرية ليست أن تلبس وتأكل البيتزا والهمبرغر وتجلس في الستار بوكس، أو تنام كل ليلة مع شقراء، أو تحظين برجال هم أشبه بالوجبات السريعة، فلا مكان، ولا وقت لأن تغلب هذه الأشياء على عملك والفرص التي تنتظرك، الحرية هي أن تبحث عن الإنسان في كل الأشياء والأماكن، لتصل إلى إنسانيتك، وحين تعود إلى وطنك الأم ستعمل لأجل الإنسان وخلاصه بصدق تحت وازع الوطن والقانون.
تسير الحياة سريعة، وهادئة، ولا مهرب من عيش المقاربة والتأسف على حياة أحبائنا ممن ظلوا هناك وراء السياج القاسي، ووجه الاختلاف بين أمريكا والشرق يكون حاضرا، هنا أنت كل شيء، وهناك في الشرق نحن لاشيء. وحين نحلم أن نفكر بذلك، يقمعك الجميع بسياط أو فتوى أو لعنة…
أمريكا… حلم لم ينتهي فصوله، ولوحة ملونة عليك أن ترسم نفسك داخلها، وتعود يوما إلى أرض الجذور، لتغير عن المكان هناك كل التراكمات الأزلية الملوثة، وتفتح القبر، وتخرج الإنسان من جسد الصمت والخنوع، والولاء للآلهة الأرضية، وتبدأ بالبذرة الأولى، حرية الإنسان لأجل خدمة الإنسان، وحينها حتما سيكون الجميع حاضرا أمامك، الوطن والقانون والأحلام والقصائد.. تضحك..تغني.. تصرخ.. تحب وتعشق دون خوف
هذا ما همست به الأرواح السالفة في أعماقي، وكذلك ذاكرة الشمس
ويلسون بمبادئه… مارتين لوثر… كوخ العم توم.. عصافير واشنطن…. صديقتي الأمريكية الشاعرة… والشوارع بطقوسها الشعرية …
© منبر الحرية، 19 فبراير 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

لم يكن يخطر في بال الباحث الأميركي مايكل كلير، وهو يُسطِّر صفحات كتابه المهم والمثير للقلق، والذي عنونه بـ “الحروب على الموارد: الجغرافيا الجديدة للنزاعات العالمية” (صدر في عام 2001 عن دار نشر ميتروبوليتان بوكس)، أن إحدى أكثر المناطق برودة وهدوءاً في العالم، وأبعدها عن أيدي الإنسان العابثة (ونعني القطب المتجمد الشمالي)، سيكون إحدى الساحات التي تتشكل منها هذه “الجغرافيا الجديدة للنزاعات العالمية” التي بشّر بها كلير واستقصاها في كتابه من شمال كوكبنا إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، مُحذّراً من تبعات ظهورها في سياق مشهدٍ عالمي يصبح فيه التنافس على الموارد الحيوية “السمة الأبرز للبيئة الأمنية العالمية”، والمبدأ الناظم الذي تُعبأ له الطاقات، وتستخدم من أجله، القدرة العسكرية بين القوى المتنافسة.
لكن المشهد الجيوبوليتيكي الذي بدأ يتكشّف الآن، سيدفع كلير بالتأكيد (إن لم يكن قد دفعه بالفعل)، وباحثين آخرين يشاطرونه الاهتمامات نفسها، إلى إعادة رسم خريطة النزاعات العالمية من جديد؛ فالقطب الشمالي القارس البرودة لم يعد استثناءاً، وانضم هو الآخر إلى باقي بؤر التوتر الساخنة الكثيرة التي يزخر بها عالمنا اليوم. والسبب، كالمعتاد، هو السباق المحموم والشرس على الموارد الطبيعية.
وإذا صدقت التقديرات الأولية، فإن الثروة الكامنة في قلب الجليد القطبي يسيل لها اللُّعاب حقاً، وحتماً فإنها تستثير الكثير من الأطماع والمشاحنات كذلك. ورغم أن معظم هذه التقديرات لا تزال غير رسمية، لكن تقريراً صدر عن دائرة المسح الجيولوجي الأميركي، رجّح أن القطب الشمالي يحتوي على أكثر من 90 بليون برميل من النفط الخام (13% من احتياطيات النفط العالمي التي لم تستكشف بعد)، وحوالي 47.3 تريليون سنتيمتر مكعب من الغاز الطبيعي (30% من احتياطيات الغاز العالمي التي لم تستكشف بعد) ونحو 20% من الغاز الطبيعي السائل. أما وزارة الموارد الطبيعية الروسية فتقول إن بإمكان روسيا استخراج ما يزيد عن 586 بليون برميل من النفط من أعماق مياه القطب الشمالي في مناطق تعتبرها روسيا ضمن أراضيها مثل: بارينتز، وبيشورا، وكارا، وشرق سيبيريا، وبحر تشوكشي، وبحر لابتيف، إذ يمكن أن تصل كمية النفط في هذه المناطق إلى 418 مليون طن (3 بليون برميل)، بينما تصل احتياطيات الغاز حوالي 7.7 تريليون سنتيمتر مكعب. وتقول الوزارة أيضاً: إن الاحتياطيات غير المستكشفة حتى الآن تقدر بنحو 9.24 بليون طن (67.7 بليون برميل) من النفط، و88.3 تريليون سنتيمتر مكعب من الغاز. وإضافة لذلك، يحتوي القطب الشمالي على ترسيبات هائلة من المعادن النفيسة والأحجار الكريمة مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والماغنسيوم والهيدروكربون والبلوتينيوم والزنك والماس، ثم الثروة السمكية الهائلة غير المستغلة بعد. وكل هذه الثروات لها سوق عالمي كبير اليوم وتشعل التنافس التجاري الدولي خاصة مع صعود الهند والصين وبعض الدول النامية الأخرى على المستوى العالمي.
ويأتي هذا الاهتمام الجديد بالمنطقة القطبية الشمالية، من عدة زوايا. فمن ناحية قانونية، أمهلت اتفاقية الأمم المتحدة للبحار الدول المحاذية للقطب (وهي روسيا وكندا والولايات المتحدة والنرويج والدنمارك وأيسلندا والسويد وفنلندا)، عشر سنوات من لحظة التوقيع على الاتفاقية ومصادقته، لإثبات سيادتها على منطقة القطب. كما أن ما شهدته المنطقة القطبية في صيف العام 2007 للمرة الأولى في تاريخها مثّل حدثاً فارقاً ومفصلياً؛ إذ بدأت مساحات كبيرة من الجليد الكائن بها في الاضمحلال والتلاشي، وبالمثل فإن المنطقة قد تعرضت في العام المنصرم (2008) لثاني أكبر عملية انكماش لرقعتها الجليدية، وهو ما رصدته الأقمار الصناعية التي تعمل لهذا الغرض منذ 30 عاماً. ويقول العلماء إن هذا سيساعد على فتح الممرات البحرية إلى القطب الشمالي من جهة مناطق على الحدود الكندية – الأميركية ومن جهة مناطق أخرى قريبة من الحدود الروسية، الأمر الذي سيصبح معه الإبحار خلال تلك الممرات ممكناً في المستقبل المنظور، وهذا سيسمح بتأمين معبر بين المحيطين الهادئ والأطلسي، قد يشكل طريقاً تجارية دولية جديدة بعد قرون من البحث المضني الذي أودى بحياة مئات المستكشفين عن طريق يصل آسيا بأوروبا. والفضل -إذا جاز التعبير- في ذلك، يعود إلى ظاهرة التغيّر المناخي، الذي يُغيّر شكل القطب الشمالي، حيث باتت المساحات الجليدية التي تطفو على معظم المحيط القطبي أصغر بنسبة 25 في المائة على الأقل مما كانت عليه قبل ثلاثة عقود. وأخيراً ابحث عن النفط؛ ففي ظل الزيادة الحالية للأسعار والطلب العالمي المتزايد على الطاقة، فإن كل دولة من الدول المتاخمة للقطب تحاول الاستحواذ على مناطق سيادة سياسية واقتصادية فيه، لتزيد من مخزوناتها من النفط والغاز ومصادر الطاقة الأخرى.
وكانت روسيا هي أول من بدأ سباق السيطرة على القطب الشمالي. ففي العام 2001 سلّمت موسكو إلى الأمم المتحدة وثائق تزعم فيها أن حافة “لومونوسوف” التي توجد تحت مياه المحيط الشمالي المتجمد، هي في الحقيقة جزء من الرصيف القاري لسيبيريا، لذا يتعين ضمّها إلى الأراضي الروسية، ومع أن الطلب رُفِض من قِبل الأمم المتحدة، إلا أن الروس أصرّوا على مطلبهم. وقد دفعت التحركات الروسية هذه كندا، التي تتوفر على ثاني أطول شريط ساحلي يطل على القطب الشمالي، إلى الدخول بقوة إلى مضمار السباق القطبي ومحاولة قطع الطريق أمام أي “إدعاءات” قد تنال من ما تعتبره حقوقاً لها في المنطقة القطبية. وفي اتجاه موازٍ، أشرع علماء دنماركيون مراكبهم في حملة لاستكشاف قاع المحيط شمالي جزيرة جرينلاند ومحاولة إثبات أن القطب الشمالي كان في السابق جزءاً من هذه الجزيرة التابعة للدنمارك. وكي لا يكونوا الخاسرين، أرسل حرس الشواطئ الأميركي مهمة بحرية مماثلة إلى شمالي ألاسكا. فبالنسبة للولايات المتحدة، البلد الوحيد على الأرض الذي لم يتمكن من استخراج كميات معقولة من احتياطه النفطي، تبدو المناطق الأميركية القريبة من القطب الشمالي محل جذب خاص إذا ما قورنت بالمحمية القطبية الشمالية الواقعة في ولاية ألاسكا حيث لا توجد قيود تشريعية، فيدرالية أو محلية، للتنقيب عن البترول، كما أن الاعتماد على نفط هذه المناطق يُجنِّب الولايات المتحدة التقلب الهائل في أسعار النفط العالمي الذي تجاوز قبل الأزمة المالية 147 دولاراً، كما يجنبها عدم الاستقرار في مناطق شرق أوسطية وأفريقية وأميركية جنوبية.
والحقيقة أن فورة النشاطات هذه من جانب الدول المحاذية للقطب الشمالي، والمتصارعة عليه، قد سلطت الأضواء على اتجاهين قويين يهيمنان على قضية هذه المنطقة. أولهما، السرعة غير المتوقعة لتتابع الأحداث، ما يعكس بصورة جزئية الاعتقاد بأن القمم الجليدية تذوب بصورة أسرع مما كان يعتقد في الماضي. وأما الاتجاه الثاني، فهو العدد الكبير من القضايا السياسية والقانونية والفنية التي تظل دون حل بصورة خطيرة، إذ تهدد توقعات الإدارة المنظمة لإحدى أكثر مناطق العالم هشاشة واستدامة للحياة.
غير أن السؤال (والهاجس) الأكثر أهمية، بلا شك، يتعلق بحدة التنافس ومداه بين دول المنطقة؛ فهل يتم تصعيد التنافس إلى حافة المواجهة المسلحة للسيطرة على القطب الشمالي؟ الواقع أن التجارب التاريخية تُفيد عكس ذلك ولا تدعو للقلق. ففي منتصف القرن العشرين شهد العالم تنافساً مشابهاً على القطب المتجمد الجنوبي بعدما زعمت دول، وهي بريطانيا والأرجنتين وتشيلي وفرنسا والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا، سيادتها على أراضيه. لكن، وفي تطور غير مألوف خلال فترة الحرب الباردة، انتهى ذلك السباق إلى تطوير نوع من التعاون جاء بمناسبة “السنة الدولية للعلوم الجيوفيزيائية” لعامي 1957- 1958 قامت خلالها 12 دولة بتوقيع معاهدة وضعت الإطار القانوني لإدارة القارة المتجمدة في القطب الجنوبي. وحرّمت المعاهدة على الدول القيام بتفجيرات نووية، والتخلص من النفايات النووية في القارة المتجمدة، أو نشر قوات عسكرية فوق أراضيها.
وبالمثل، فإن حلاً دبلوماسياً مشابهاً يمكنه أن يُنهي السباق المحتدم بين الدول لبسط السيادة على أراضي القطب الشمالي المتجمد. ورغم وجود هيئة دولية تسمى “مجلس القطب الشمالي” تضم الدول المجاورة للقطب مثل كندا والدانمرك وفنلندا وأيسلندا والنرويج والسويد وروسيا والولايات المتحدة، فإن اتفاقية شاملة حول القطب الشمالي قد يكون لها أثر أكبر في الحد من التنافس الدولي وتنظيم إدارة مشتركة للقطب الشمالي. ويمكن للاتفاقية مثلاً أن تفتح المجال أمام التنمية المستدامة للموارد التي تزخر بها مناطق القطب الشمالي، والقيام بالمسح الضروري لقاع البحر لتسوية النزاعات الحدودية، وتطوير ممرات مائية مختصرة تقود إلى مياه القطب المتجمد، ووضع معايير للإبحار، فضلاً عن حماية السكان الأصليين الذين يعيشون في المناطق المجاورة للقطب الشمالي.
وفي حال لم تقبل الدول المعنية بمثل هذه “الاتفاقية الشاملة”، فإنه بالإمكان العودة إلى القانون البحري للأمم المتحدة الذي يُعد السلطة المشتركة المفروض بها منع تطور النزاعات بين دول القطب إلى صراع قطبي عنيف. ويتيح هذا القانون المجال أمام سلسلة من الطرق القانونية، بما في ذلك التحكيم، والتقدم إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، حيث يمكن للدول تسوية ادعاءاتها المتنافسة. ولا تزال هذه الآليات تتطور من خلال استخدامها في قضايا حول العالم في مناطق تتدرج من خليج غينيا الغني بالنفط في غرب أفريقيا إلى مناطق الأسماك الوفيرة حول بربادوس، وترينيداد وتوباغو في البحر الكاريبي.
لكن حتى لو حُلّت قضية النزاع حول القطب وموارده في النهاية، فإن هذا الأمر لا يعني أن الحظ ابتسم كلياً للدول المتنافسة وعلى نحو تختفي معه كل المعوقات أمامها لاستثمار المنطقة، إذ أن هذا سيدشن البداية الحقيقية في مشوار المتاعب القطبي. وتشير المعطيات إلى أن ثمة مشكلات تقنية كثيرة تعترض عمليات التنقيب عن النفط والغاز واستثمارهما في تلك المجاهل. ويأتي على رأس هذه المشكلات التكلفة الباهظة والصعوبة البالغة التي تكتنف عمليات التنقيب والحفر وحاجتها إلى وسائل تكنولوجية متطورة للغاية نظراً لطبيعة منطقة القطب الجغرافية والمناخية. وإذا كان التنقيب والحفر عملية صعبة ومعقدة، فإن ضخ النفط والغاز بعد استخراجه من الأعماق الباردة سيكون، والحالة هذه، أصعب بكثير. ولا بد من القول أن طبقات الجليد والثلج في القطب الشمالي لا يمكن دحرها بالتكنولوجيات المتوافرة. ولا يمكن للدول الراغبة في استغلاله اقتصادياً الاعتماد على كاسحات الجليد فحسب، بل يتعيّن عليها إزالة الجليد باستمرار كي لا تؤذي حركته منصّات الاستخراج. ومما لا شك فيه أن هذه العملية تتطلب أموالاً طائلة، لاسيما في فصل الشتاء. وأيضاً هناك مشكلة أخرى تتمثل في كيفية نقل هذا الإنتاج إلى الأسواق العالمية، خاصة أن الناقلات لا تستطيع الإبحار في المياه المتجمدة، وأيضاً، فإن الأنابيب تتجمّد من شدّة البرد.
ومهما يكن من أمر، تبقى الحقيقة الأكيدة هنا أن الصراع حول موارد القطب الشمالي سيستمر ما دامت كل الإغراءات، آنفة الذكر، موجودة فيه، ومادامت الأمور تدور حول قضايا تتجاوز تماماً الحاجات المحلية والمصالح القومية. ويشير المتشائمون، في هذا السياق، إلى النزعة القتالية لدى كل من روسيا وكندا في الأمور المتعلقة بالحدود، وكذلك إلى الرفض المستمر من جانب الولايات المتحدة للمصادقة على القانون البحري الدولي، على الرغم من أن الرئيس السابق، جورج دبليو بوش، حثّ الكونغرس على إقراره.
غير أن الحقيقة الأكثر رسوخاً تظل كامنة – للأسف- في نبوءة مايكل كلير، التي أشرنا إليها في بداية مقالنا هذا، والمتعلقة بمستقبل الصراعات العالمية في كوكبنا المضطرب. إن الحروب القادمة، كما حروب العقد الأول من القرن الحالي، ستتمحور حول الموارد ومن أجل السيطرة عليها، وإذا ما اندلعت حربٌ على موارد القطب الشمالي، في يومٍ من الأيام، فليتأكد الجميع أنها لن تكون الأخيرة!
© منبر الحرية، 8 فبراير 2009.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

فعلتها إسرائيلُ مجددا ورفضت الانصياعَ لآخر قرار رقم 1860 الصادر عن مجلس الأمن، القاضي بوقف العمليات الحربيّةِ فورا، والذي يُفترضُ أنه كان “ملزما” بطبيعته. وهاهي علامات الاستفهام تتزايد معدلاتها يوما بعد يوم حول مدى فعالية وجدية الامتثال للقانون الدوليّ في عالم اليوم، وإلى متى يحولُ التحيّز الأمريكيّ المطلق لصالح إسرائيل دون تقديم المسئولين الإسرائيليين عن جرائم الحرب والإبادة التي يقومون بها ضد الشعب الفلسطينيّ الأعزل للمحاكمة الدوليّة؟! وإلى متى أيضا ستظل الدول الكبرى تستخدم “المعايير المزدوجة” في تقييم الصراعات المشتعلة في الشرق الأوسط حاليا ومستقبليا؟!.
وإذا كان معلوما أنّ الحرب بحدّ ذاتها هي جريمة عدوان، وفقا لتعريف الأمم المتحدة، وأن استهداف المدنيين والمرافق غير العسكرية هو أمر تحرمه مواثيق جنيف الأربعة أيضا، فضلا عن استخدام أسلحة محرمة دوليا أو لا تزال خاضعة بدورها للتجارب، إلا أنه على الرغم من انتهاك إسرائيل كافة المواثيق الدولية هذه إبان عدوانها الغاشم على لبنان لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورا مهما في تعطيل مهام عمل مجلس الأمن خلال حرب تموز 2006 حيث حالت دون اتباع المجلس تقليدا دبلوماسيا راسخا بأن يصدر قرارا بوقف الحرب أولا قبل أن ينظر في إدعاءات أطرافها المختلفة.
وبطبيعة الحال كان موقف إدارة بوش مفهوما تماما تبعا لسياق ما سماه بالحرب على الإرهاب وتشكل الشرق الأوسط الجديد ونكاية في حزب الله أملا في أن يتم القضاء عليه نهائيا. لكن الغريب في الأمر أنه ما إن أثبتت المقاومة اللبنانية صمودها المذهل في وجه العدوان منتصرة عليه نهاية الأمر حتى هرولت الدول الكبرى الداعمة للكيان الصهيونيّ بزعامة الولايات المتحدة لإنهاء حالة الحرب بين الطرفين ووقف القتال.
غير أن الطريقة ذاتها التي تم بها إنهاء القتال وما تضمنته من شروط على الجانبين لم تأخذ في الحسبان لا فطرة العدالة ولا القانون الدوليّ ولا حتى حسابات الربح والخسارة، وإنما على العكس تماما منح القانون رقم 1701 إسرائيل (وهي المعتدية على لبنان) أكثر مما تأمَلْـهُ لقاء عدوانها هذا، على عكس ما تملية الاعتبارات القانونية الدولية التي تعاقب على جريمتي العدوان واستهداف المدنيين والأفراد العزل بالملاحقة والمحاكمة قضائيا.
ليس غريبا إذاً، والحالة هذه، ألا تجد إدارة بوش، اللامأسوف على رحيلها، حرجا في تجاهل حكم محكمة العدل الدولية المتعلق بجدار الفصل العنصري الإسرائيليّ، بل إنّها دفعت إسرائيل دفعا لتجاهله أيضا! كما لو أن أمن إسرائيل مقدم لديها على حساب سلام المنطقة بل والعالم أجمع. وفي السياق ذاته، لم تنجح الدعوة لعقد اجتماع للدول الموقعة على اتفاقيات جنيف الرابعة كذلك للنظر في خروقات إسرائيل لهذه الاتفاقية بفضل انحياز بعض الدول الأوربية للجانب الإسرائيلي.
وبطبيعة الحال، تكمن الخطورة هاهنا في إمكانية عدم امتثال دول أخرى على غرار إسرائيل، خاصة تلك التي تنتشر بها النزعات المسلحة والحركات والانفصالية، والبحث عن التمتع بالحصانة نفسها التي تمتلكها إسرائيل اليوم مما يعني ببساطة شديدة سقوط خطاب القانون الدولي في الحضيض ومن ثم انحدار البشرية في مهوى سحيق من شريعة الغاب.
أما على الجانب العربي فتتفاوت المواقف في الحكم على، وتقييم، مثل هذا الانحياز. فمن جهة، تتذرع الحكومات والأنظمة العربية بقوة التحالف الغربيّ الإسرائيليّ الذي يحول دون تقديم المسئولين الإسرائيليين للمحاكمة الدولية. ومن جهة ثانية، تواصل الجماهير والشعوب العربية الإسلامية تظاهراتها وإداناتها ضد التحيّز الأمريكيّ الصارخ بحق القضية الفلسطينية. ومن جهة ثالثة، هناك إلى جانب الإدانة المتواصلة من قبل الإسلاميين للإدارة الأمريكية نلاحظ إنكارا ضمنيا، وصريحا في بعض الحالات، بشرعية القانون الدوليّ استنادا إلى عدم فعاليته الحالية.
أما على صعيد موقف الإدارة الأمريكيّة الحاليّة برئاسة أوباما، فيبدو أن المؤشرات تدل على استمرار هذا الانحياز حتى وإن بدا بصورة أقل حدة عما كانت عليه الإدارة السابقة. ومما يؤكد ذلك أنه في الوقت الذي خرج علينا أوباما بتصريحات يدين فيها التفجيرات التي وقعت بمنطقة مومباي قبل فترة، التزم على العكس من ذلك صمتا مريبا إزاء محرقة غزة الحالية بحجة أن لأمريكا رئيس واحد ولا يود مشاركته المسئولية مما خيب الآمال المعقودة عليه، بحسب الحسابات العاطفية لا السياسية، من جانب المسلمين الذين تعالت أصواتهم على امتداد العالمين العربي والإسلامي متساءلة عن موقفه من الحرب الدائرة، مثلما تعالت من قبل مهللة لفوزه في الانتخابات الرئاسية!.
ومن ثم يبدو أن التعويل المفرط على أوباما ليس مجديا بحال من الأحوال ويكفي النظر إلى مسيرة حملته الانتخابية والتي تجاهل فيها تماما الاتصال بالجاليات الإسلامية (تقدر بحوالي 7 ملايين نسمة) خشية أن يستغل ماكين شيئا كهذا ضده بموازاة الحديث عن خلفيته الإسلامية مفضلا خسارة مليون صوت انتخابيّ على الدخول في مغامرة كتلك، ومعلنا لاحقا (من قلب مستوطنة سيدروت) أن أمن إسرائيل قضية مقدسة مُطالبا ببقاء القدس عاصمة موحدة (أبدية) لها!.
ومما يزيد الأمور تعقيدا حالة الانقسام العربي حاليا بحيث لا يمكن على الأقل تكوين جبهة موحدة تعمل على توظيف آليات القانون الدولي في خدمة قضية فلسطين المركزية. ويبدو أنه في ضوء المتاح حاليا ليس أمام الدول العربية والإسلامية سوى تجميد عضويتها في الأمم المتحدة احتجاجا على عدم إلزامية قراراتها بالنسبة لإسرائيل في مقابل التزامهم ببنود القوانين الصادرة عنها.
لكن المشكلة أعمق من ذلك بكثير لأن كافة المؤسسات الدولية التي تعمل على تطبيق القانون الدولي بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة خاصة ما يتعلق بمنح حق الفيتو للدول الكبرى وما يترتب على ذلك انعدام المساواة بين الدول الأعضاء.
© منبر الحرية، 7 فبراير 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

فيما العرب غائبون ومهمشون إلى درجة العجز عن القيام بأي دور استراتيجي في منطقةٍ هي أصلاً منطقتهم، ويفترض بها أن تكون المسرح الأساسي لكل تحركاتهم السياسية، ومجال نفوذ حيوي يسمح لهم بحرية الحركة والمناورة؛ تتولى قوى إقليمية ودولية أخرى القيام بهذه المهمة، وهي التي تشكل التفاعلات وترسم الخريطة السياسية في المنطقة العربية، وتفرض الحلول والتسويات على أهلها.
بالأمس القريب كنا نتابع – في مشهد لا يتكرر كثيراً في التاريخ – كيف أن دولتين غير عربيتين (أميركا وإيران) تجلسان على طاولة مباحثات واحدة، وبند النقاش الأول على الطاولة هو تقرير مصير ومستقبل بلد عربي اسمه العراق، والآن ها هي تركيا، القوة الإقليمية الأخرى المجاورة للعرب، تدخل بقوة إلى دهاليز الأزمات الشرق أوسطية، وذلك في محاولة لاستعادة دور تخلت عنه كرهاً أو طوعية منذ أكثر من ثمانية عقود مضت.
تركيا في الوقت الراهن تعمل على ملء ما تبقى من فراغ قوة استراتيجي خلفته استقالة العرب الجماعية عن تأدية واجبهم وحقهم الطبيعي في ممارسة دور سياسي، إيجابي وبناء، يُراعي بالدرجة الأولى مصالحهم، وينصرف فيما بعد إلى تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة ككل.
التباس الموقع والهوية
على الرغم من أن تركيا تتمتع بموقع جغرافي هام واستراتيجي على المستويين الدولي والإقليمي، وذلك بحكم إشرافها وتحكمها المباشر على أهم الممرات والمضايق الدولية في البوسفور والدردنيل، وإطلالتها الفريدة على البحر الأسود والبلقان والقوقاز، وامتدادها الواسع على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وكذلك تماسّها المباشر بالوطن العربي عبر حدودها البرية مع العراق وسوريا، إلا أن تركيا – ويا للمفارقة – لا تقع ضمن أي فئة جغرافية أو لغوية واضحة المعالم. وبنظرة سريعة إلى خريطة تركيا نجد أنها تقع في آسيا، ولكن القسم الأكثر شهرة وعاصمتها التجارية يقعان في القسم الأوربي. وهي أيضا دولة متوسطية، غير أن طول سواحلها على البحر الأسود ربما يقارب مثيله على البحر الأبيض المتوسط. ثم أن الشعور بالارتباك بالنسبة لتركيا لا ينحصر في موقعها الجغرافي، وعلاقاتها الدولية، بل يتعداهما ليصيب قلب الهوية التركية التي تتجاذبها من طرف علمانية “كمالية” متشددة، ومن طرفٍ آخر إرثٌ إسلامي عميق يضرب بجذوره إلى عهد الإمبراطورية العثمانية العتيدة.
والواقع أن كل هذه التناقضات جعلت تركيا تشعر وكأنها خارج إطار تكتل طبيعي لدول تجمعها روابط ومصالح مشتركة، وذلك ما زاد من حالة الغموض والالتباس إزاء موقع البلاد ودورها المستقبلي.
إعادة التموضع
بفعل الأحداث والتطورات السياسية التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وفي إطار الحرب على ما يسمى بالإرهاب، وما نتج عنها من تغير حاد في مشهد التفاعلات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط تحديداً، وجدت الحكومة التركية الجديدة – التي تشكلت في العام 2002 بقيادة حزب العدالة والتنمية – نفسها أمام تحديات حقيقية، وأمام اختبار حقيقي لموقعها ودورها في المنطقة، خصوصاً وان احتلال العراق من قبل أميركا خلق واقعاً جديداً على حدودها الجنوبية الشرقية، متمثلاً في إحياء حلم وتطلعات الأكراد بإقامة دولة كردية شمال العراق، وما يترتب على ذلك من خطورة بالنسبة لتنامي النزعة الانفصالية لأكراد تركيا. ومن هذا المنطلق، حرصت تركيا على توطيد علاقتها بكلاً من سوريا وإيران اللتين تشاطرانها الموقف المعارض للقيام دولة كردية مستقلة في المنطقة. وحيال ماتقدم، بدا وكأن تركيا في ظل حكومة ذات توجه إسلامي تنتهز الفرصة لتعيد رسم وصياغة توجهات السياسة الخارجية، بل أكثر من ذلك تعيد تموضعها الجغرافي والسياسي باتجاه ما يمكن تسميته بعمقها الحضاري والتاريخي في الشرق الأوسط.
إن تركيا في المرحلة الراهنة تصوغ سياسة خارجية تختلف كلياً عن السياسة التقليدية التي مارستها سابقاً؛ فتركيا بزعامة التيار الإسلامي تبدو فاعلة دبلوماسياً واستراتيجياً عبر التحول الناشط لإعادة التمركز بعد تراجع دورها كقاعدة غربية متقدمة في الحرب الباردة في مواجهة المعسكر الشرقي والاتحاد السوفيتي آنذاك. ومن الواضح أن تركيا اليوم ترمي بكل ثقلها الاقتصادي والسياسي لممارسة ولعب دور قوي ومؤثر في الشرق الأوسط، وتقديم نموذج لمشروع دولة إسلامية مدنية حديثة يمكن الإقتداء بها في المنطقة.
موجبات التحول
تدرك تركيا تمام الإدراك أنه كلما زاد تأثيرها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط التي تعد بؤرة ساخنة للصراعات والنزاعات الإقليمية والدولية، كلما عززت مكانتها في النظام العالمي الجديد طور التشكل. في السنوات القليلة الماضية، وبالرغم من الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي أجرتها حكومة رجب طيب أردوغان مسايرةً للشروط الأوربية من أجل الانتساب على عضوية الاتحاد الأوربي، إلا أن أوربا بدت وكأنها تماطل تركيا في المفاوضات التي من شأنها أن تعطي تركيا – في نهاية المطاف – بطاقة انتساب كاملة لهذا التجمع الأوربي الضخم. ومما عزز شعور الأتراك بعدم رغبة الأوربيين في انضمامهم، وأصابهم بالإحباط واليأس هو قبول أعضاء جدد من دول أوربا الشرقية في الاتحاد الأوربي، واستمرار التعنت تجاه الطلب التركي القديم للانضمام إليه.
والحال إن مماطلة أوربا لتركيا في مسألة الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوربي جعل القادة الأتراك يفقدون شيئاً فشيئاً الأمل في الدخول إلى النادي الأوربي، ولكنها في نفس الوقت دفعت تركيا إلى الاعتماد على ذاتها ومواردها الخاصة بدرجة أكبر؛ فتركيا اليوم هي أكبر اقتصاديات الشرق الأوسط، وبحجم يفوق الاقتصاد السعودي النفطي، وهي الدولة رقم 17 في العالم من حيث كبر حجم الاقتصاد. فضلاً عن ذلك، تحاول تركيا عبر تزايد انغماسها في أزمات المنطقة وقضاياها أن توصل رسالة إلى الأوربيين والأميركيين على حدٍ سواء، بأنها قادرة على ممارسة دور سياسي واقتصادي قوي ومستقل في المنطقة. وبالتالي فعلى الغرب أن يعلم أنه لا يمكن استبعاد تركيا من أي معادلة أو تسوية تخص الشرق الأوسط؛ فتركيا إن لم تكن قادرة وحدها على تكريس ورسم تفاعلات سياسية من نوعٍ جديدٍ في المنطقة، ولكنها على الأقل قادرة على عرقلة أي ترتيبات أو مشاريع غربية خاصة في الشرق الأوسط تتم بمعزل عنها.
ملء الفراغ
ثمة عامل آخر يدفع تركيا إلى التحرك صوب الشرق الأوسط والمنطقة العربية تحديداً وهو محاولة ملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة الذي أشرنا إليه آنفاً؛ فالمتغيرات الإقليمية الراهنة التي يعيشها النظام العربي الرسمي من انقسام حاد في المواقف والرؤى، وهشاشة التحالفات العربية – العربية، وانكشاف النظام الرسمي العربي أمام التدخلات الخارجية، وعجزه عن التعامل بحيادية مع الأزمات الداخلية وخصوصاً مع الأزمة الفلسطينية؛ كل ذلك أعطى تركيا، التي تتمتع بعلاقات جيدة مع جميع الأطراف العربية وأيضا مع إسرائيل وأميركا، أعطاها دفعة قوية للتغلغل في الشرق الأوسط والانغماس في قضاياه المصيرية، ورسم استراتيجية مختلفة تجاه العالم العربي على خلاف سياساتها القديمة أثناء الحرب الباردة، وذلك من خلال مد الجسور مع العالم العربي ومحاولة تقريب وجهات النظر بين الأطراف الإقليمية المتنازعة. وفي هذا الإطار، سعت تركيا مؤخراً إلى إحياء مفاوضات السلام بين سوريا وإسرائيل، كما حاولت ردم هوة الخلاف المحتدم على الساحة الفلسطينية بين حركتي “فتح” و”حماس”، وهي تقف الآن على حياد كامل فيما يخص الانقسام العربي وسياسة المحاور التي تزداد اتساعاً مع مرور الوقت.
إذاً من الواضح أن تركيا تمارس دورها كقوة إقليمية كبرى في المنطقة، ولديها مصالح سياسية واقتصادية واسعة تريد تحقيقها ومن ثمّ الحفاظ عليها، وذلك من خلال نسج شبكة من العلاقات والتحالفات الدولية والإقليمية. وعلى هذا الأساس، يجب النظر إلى تركيا التي تعيد رسم توجهاتها الخارجية، وترسيخ نفوذها في المنطقة لا من خلال كونها عضواً في محاور وأحلاف مع دول أخرى فقط، ولكن من خلال تعزيز موقعها كقطبٍ إقليمي مستقل ومؤثر، ويحتفظ لنفسه بمسافة واحدة من الجميع وفي الوقت نفسه يتواصل مع الجميع.
والحقيقة أن مواقف تركيا الأخيرة إزاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وإيقافها جهود الوساطة بين سوريا وإسرائيل إلى أجلٍ غير مُسمّى؛ كلها أمور تؤكد أن تركيا دولة ذات سيادة تحترم نفسها، وهي بهذه المواقف القوية تعطي دروساً سياسية ودبلوماسية للنظم العربية في كيفية إدارة علاقاتها وتحالفاتها مع الغرب. فعلاقات تركيا القوية بإسرائيل وعضويتها في حلف الناتو الغربي لم يمنعانها من اتخاذ مواقف مغايرة عن الأطراف التي تتحالف معها. إن تركيا تستمد قوتها اليوم من قدراتها الذاتية ومن الشرعية الشعبية لحكومتها التي وصلت إلى السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وذلك على العكس مما يجري في منطقتنا العربية، وهي بذلك تصنع لها مكاناً وموقعاً متميزاً في الشرق الأوسط دفع العرب المأزومين داخلياً إلى الاستعانة بها، ومحاولة تصدير أزماتهم الداخلية إليها، لكي تساهم في حلّها بعد أن عجزوا مجتمعين عن ذلك.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 30 يناير 2009

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

إن الانتقاد الأساسي الذي يمكن لقادة دول شرق آسيا أن يوجهوه للسياسة الخارجية للإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن هو أن واشنطن ركزت خلال الثمان سنوات الأخيرة على مشاكل الشرق الأوسط الكبير، تاركة الصين ومعظم دول شرق آسيا على هامش الأجندة الأمريكية.
فتحركات كاتبة الدولة في الخارجية كوندوليزا رايس إلى جنوب آسيا (من اجل محاولة تهدئة التوترات الهندية الباكستانية التي أعقبت الهجمات الإرهابية)، وإلى الشرق الأوسط، أخذت حيزا هاما من تعليقات أكبر الجرائد الأمريكية. و بالمقابل فوسائل الإعلام ذاتها لم تعط صدى كبيرا للقاءات التي أجراها في بكين وزير المالية هنري بولسن في إطار الحوار الاقتصادي الاستراتيجي الحالي.
و في نفس الإطار، و بعد أن قام الرئيس المنتخب باراك أوباما بالكشف عن تركيبة فريقه المكلف بالأمن الوطني، ظلت نقاشات الخبراء في واشنطن مقتصرة على معرفة مدى تأثير اختيار هيلاري كلينتون كاتبة الدولة في للخارجية وروبرت كيتز مسؤولا عن الدفاع على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.  وهنا أيضا، ظلت الصين و شرق آسيا غائبتين بشكل كبير عن التحليلات.
في السنة الماضية، و خلال مناقشات السياسة الخارجية إبان الحملة الانتخابية الرئاسية كانت الإشارة إلى الصين مرتبطة أساسا بالنقد الموجه لسياستها التجارية، ومطالبات التحذير من صعودها و ما يشكله من تهديد جديد للمصالح الجيو- اقتصادية الأمريكية.
لا شك أن أوباما يحتاج ضمن إدارته لأشخاص أكفاء من أجل مواجهة تحديات الشرق الأوسط بنجاح. ولكن عليه وفريقه المكلف بالسياسة الخارجية أن يعرفوا أن المشاكل الجيو- استراتيجية  والجيو- اقتصادية الكبرى التي ستواجهها الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة – بما في ذلك السياسة المتعلقة بالطاقة والتغير المناخي و الانتشار النووي و الأزمة الاقتصادية العامة الحالية – تستلزم تعاونا مع بكين.
و قد عبّر السيد بولسن، خلال اللقاءات التي أجراها مع المسؤولين في بكين، عن انشغاله من التخفيض من قيمة اليوان الذي اريد لع ان يعطي نفسا جديدا للاقتصاد الصيني. إنه تخفيض قد يؤدي إلى التصعيد من حدة الركود الأمريكي، و ذلك بإبقاء قيمة الصادرات الصينية منخفضة نسبيا، و إبقاء قيمة الواردات الصينية  القادمة من الولايات المتحدة مرتفعة نسبيا، مما قد يؤثر سلبا على الصادرات الأمريكية. في الماضي، هدّد المشرعون الأمريكيون بمعاقبة الصين إذا ما رفضت تغيير لسياساتها الخاصة بمعدل الصرف، لكن، في الوقت الراهن، يبقى احتمال مجازفة الكونغرس بحرب تجارية ضعيفا، و ذلك باعتبار أن المجهود الأمريكي للخروج من الركود عن طريق النفقات الضخمة، يرتبط حاليا برغبة الصينيين في الاستمرار في تمويل العجز الأمريكي.
هذه المفارقة تسلط الضوء على الحاجة إلى وضع خطة بعيدة المدى، يكون الهدف منها دفع العلاقة الصينية الأمريكية نحو اتجاه يشجع الصين على قبول لعب دور ريادي في المنظمات الاقتصادية العالمية مثل صندوق النقد الدولي. خلال الحرب الباردة، كان السؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهن حلفاء الولايات المتحدة وخصومها بعد انتخاب رئيس جديد، هو: كيف سيتصرف إزاء موسكو؟ أما اليوم وفي المستقبل، فعلى أصدقاء أمريكا وخصومها أن يهتموا أكثر بالطريقة التي سيتعامل بها ساكن البيت الأبيض الجديد مع بكين.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 26 يناير 2009

نبيل علي صالح16 نوفمبر، 20100

بالفعل، يستحق الشعب الأميركي كل التهنئة على ما أنجزه من تغيير سياسي وانتقال ديمقراطي هادئ للسلطة، قلّ نظيره حتى في العالم الغربي الذي يتباهى بأبهى صور الديمقراطية والحرية.. ومرةً أخرى أثبت الأميركيون أنهم أمة حرة قادرة على التمييز وحسن الاختيار المسؤول، وذلك بقطع النظر عن لوبيات الضغط الإعلامي والسياسي، ومراكز القوى الاقتصادية والعسكرية، ومؤسسات التمويل والدعم المالي التي سيكثر الحديث عنها في الأيام المقبلة خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي حيث العقل المريض بالأوهام والترهات والأساطير، وحيث الانتشار الواسع لنظرية المؤامرة التي تريحنا عن ممارسة التفكير والتحليل، وتشل العقل عن تقبل التطور والتغير، وحيث الوجود العريض لأساطين التخطيط والتفكير المؤامراتي الاستراتيجي مما لا نجد لهم نظيراً في العالم كله..
أجل لقد قال الأميركيون كلمتهم الهادرة، وصرخوا بأعلى أصواتهم عبر صناديق الاقتراع الخشبية والإلكترونية: إنه زمن التغيير المنشود، تغيير وجه أميركا الداخلي والخارجي.. هذا الوجه الذي تشوهت معالمه وملامحه في السنوات الماضية نتيجة القرارات الخاطئة التي اتخذتها الإدارة الجمهورية البوشية المغادرة ذات النزعة الرسولية والمسحة التطهرية، والتي ظنت – في وقت من الأوقات-  أن التغيير والإصلاح يمكن أن يحدث في أي مجتمع عن طريق الفرض “بالريموت كونترول”، أي بمجرد اتخاذ قرار التغيير من القيادات العليا.
طبعاً الكلام سيكثر والتحليلات ستزداد، وسيسيل حبرٌ غزير – من الآن وحتى ما بعد انتقال السلطة للإدارة الجديدة- للحديث عن هذا الانتصار المدوي الذي حققته أمريكا أولاً والسناتور أوباما ثانياً، ولكن “السؤال-الأسئلة” الذي نجد أنفسنا – نحن العرب- ضرورةً ملحةً في طرحه بهذه المناسبة هو:
-أين هو دور وموقع العرب من خارطة التغيير العالمية، وقانون التغير هو الثابت الوحيد في هذا العالم؟!!..
-وما هو موقف شعوب المنطقة العربية من هذا الحدث الكوني، وهم يرون ويتابعون بأم أعينهم مشهد التغيير السلمي الديمقراطي (وليس العسكري أو الديني) الذي حدث هناك تحت ضغط وتأثير وعي وقدرة وإرادة وحيوية المجتمع الأمريكي والناخب الأمريكي وليس بقوة الثورات والهيجانات الانقلابية العاصفة التي حدثت هنا وهناك في أكثر من مكان من منطقتنا والتي دفع سكانها كثيراً من الدماء والدموع ثمناً لها؟!!..
ألا يسأل أبناء عروبتنا أنفسهم، وهم يتحسرون ويتألمون: لماذا نحن لا نساهم في صنع قرار بلداننا ومستقبل أجيالنا، ليكون لنا مسؤولية تطويرها والانتفاع بمواردها وطاقاتها الهائلة؟.. ولماذا لا يكون لنا صوت جرئ واضح وصريح في كل ما يجري عندنا؟!!
ثم هل نحن حالة خاصة من الأمم أو شعب مختلف عن باقي شعوب الأرض؟
أسئلة وإشكاليات كثيرة لا تنتهي تبقى حاضرة في الذهن، ويمكن طرحها باستمرار بعد كل تغيير أو تحول سياسي أو فكري ما يمكن أن يحصل في أي مجتمع من المجتمعات الغربية المتحضرة.
وبالمحصلة يمكنني القول هنا أن النسبة الغالبة من أفراد مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي يغلب عليها التفكير التقليدي والقناعات المذهبية و الفلسفية التي تحدد للفرد المؤمن بها مختلف مسارات العمل والحركة والالتزام الروحي والعملي في الحياة، وتجعله يشعر على الدوام بأنه ليس بحاجة إلا لهذا النوع من الأفكار الغيبية الكفيلة بتحقيق حلمه و بلوغ السعادة الأبدية. أقول: ربما تحسد تلك النسبة الأكبر من أبناء مجتمعاتنا في قرارة نفسها شعوب أمريكا على حيويتها وتجددها وقدرتها الفعالة على إحداث التغيير الذي تنشده تحقيقاً لمصالحها الوطنية العليا. وتلك النسبة ترغب في حدوث مثل هذه التغييرات المفصلية في مجتمعاتنا، ولكن من داخل شريعتها وقوانينها وأعرافها، أو ما تسميه نخبتها الفكرية والسياسية (من داخل نسيجنا وسياقنا الحضاري العربي والإسلامي!!).
من هنا جديرٌ بنا أن لا نكتفي نحن في عالمنا العربي بالإعجاب أو الاندهاش عند بداية أي حدث سياسي أو غير سياسي مما يتحرك به الواقع الغربي، بكل تطوراته وتغيراته الدائمة على أكثر من صعيد، بل ينبغي التأكيد على أن الأولوية التي تحظى باهتمامنا جميعاً –حيث أن التغيير السياسي لا بد وأن يسبقه تحول وتجديد ثقافي معرفي بامتياز- هي أن نعمل على تأسيس وبناء ثقافة عربية إسلامية مختلفة تماماً عما نعيشه اليوم من حالة “اهتراء ثقافي ومعرفي” تفتقد فيه الثقافة العربية المعاصرة –كامتداد لثقافة الأمس في اليوم- قيم العقلانية والموضوعية والوعي الجمالي. فنحن بحاجة ماسة للتغيير السياسي والاجتماعي، ولكننا بحاجة أكثر قبل ذلك للبدء الجدي بإحداث تغييرات فكرية مطلوبة في عقول الناس وطريقة وعيها للحياة والفكر والعمل والممارسة… أي أننا بحاجة لثقافة تبني العقل –عند الفرد والجماعة – على حجج وأسس منطقية إقناعية (إذا صح التعبير)، ثقافة تتمثل (وتستوعب وتمارس) خطاب المحاكمة العقلية والعلمية الذي لا تزال تفصلنا عنه مسافات زمنية هائلة (هل يعقل أن تكون فتوى رجل الدين عندنا أهم وأعلى شأناً من، ومقدَمة على، رأي علمي قاطع أو حقيقة علمية).
ونحن عندما نستخدم هنا مصطلح العقلانية (الذي لا نعني به الطريقة العقلية التي تقف في مقابل الطريقة التجريبية، بل نعني به حصراً أن تلتقي العقلانية مع التجريبية، لأن العقل يستنطق التجربة ويقتحم عناصرها الداخلية من أجل أن يخرج منها بفكرة أو نظرية عامة)، فإننا نريد به الطريقة الموضوعية في التفكير والوعي الثقافي، التي تعمل على أساس دراسة وتحليل أية قضية أو فكرة (أو أي واقع) من خلال عناصرها الذاتية، وخصائصها الموضوعية في ما يحيط بها من أجواء، وما يتحرك في آفاقها من ظروف. وعلى هذا الأساس تقف العقلانية في مواجهة الانفعالية، أو الحماسية، أو العاطفية التي ترتكز –في مواجهة القضايا القديمة والمستجدة، والتعامل مع الواقع– على العنصر الشعوري الطارئ.
وهذه هي – للأسف- الثقافة السائدة حالياً، أعني بها ثقافة التدين والتشنج والتعصب وثقافة “الانفجار الاجتماعي” التي حكمت كثيراً من مناهج التفكير عند الأقدمين، ولا تزال تهيمن على مساحات واسعة من ذهنيتنا المعاصرة، ومفرداتنا الفكرية والعملية.
إنّ كل ذلك يفرض تجديداً في بنية هذه الثقافة، وبحثاً علمياً عن معالجات وحلول فورية متنوعة من أجل أن تعيش (تلك الثقافة) في داخل عصرها لتفهم أدواته وعلاقاته ومفاتيحه، ولتواكبه بكل أحداثه ومستجداته وتعقيداته وتشابكاته، ولا تكتفي بتبني خيار الهروب إلى الأمام واتخاذ موقف الانغلاق والرفض لمنطق التطور والنقد.
إن المطلوب –في هذا السياق– أن نعمل على تحليل ودراسة قضايا وإشكاليات ثقافتنا وأفكارنا (التي طالها اليأس والخراب وباتت تشكل عبئاً حقيقياً على أصحابها وعلى العالم) بكثير من المسؤولية والوعي والاتزان العلمي والموضوعي، والإيمان بأن الثقافة التاريخية القديمة لا يمكن أن تعيش لتؤثر في هذا العصر وفي العصور اللاحقة. لأن التاريخ الماضي، زمن مضى ولن يعود، وقد كانت له أفكاره ورموزه وشخوصه ومواقعه وأحداثه وتطوراته التي لا يبقى منها إلا الأثر والدرس والعبرة. وإذا أردنا أن نجعل لثقافتنا التاريخية الإسلامية مجالاً معيناً من الحركة والامتداد والتأثير في ساحة الحياة المعاصرة، فيجب علينا أنْ نعرّي تاريخنا من كل ألوان الوهم والدعاية والزهو الفارغ والاستغراق في الخيالات والأحلام الوردية، وضرورة ملاحظته كمادة قابلة للدراسة والتنقيب والنقد بطريقة منهجية علمية واضحة ومحددة وصريحة ليس فيها لف أو دوران. وهو ما يعني أن نقف أمام تاريخنا وجهاً لوجه لنحلله في بنية عناصره ومعطياته وآثاره، وننفذ بعمق إلى داخل جذوره. لأن ذلك يفتح لنا المجال من أجل الوقوف أمام الفكر التاريخي والمشكلة التاريخية كما هي في واقعنا الحالي، على اعتبار أن التاريخ لم يعد –من خلال هذه النظرة– مجرد تسجيل حرفي، وسرد قصصي لأحداث أو قضايا من الماضي، بل من الممكن أن يكون له دور ما للعبرة والتحليل والدرس الموضوعي.
وهذه المحاولة الفكرية المنهجية تعني –فيما تعنيه- أننا نريد من مجتمعاتنا الراهنة أن تملك القدرة على الخروج من دهاليز وأنفاق التاريخ الماضي، وأن تعمل على اجتراح “معجزة” بناء وصياغة تاريخ جديد متطور وفاعل، من خلال مواقع الحاضر بالانخراط في عالم اليوم والمستقبل.. تاريخ العقل والوعي والانفتاح الديني والثقافي.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 19 ديسمبر 2008.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

عندما وصل الحزب اليوناني المحافظ الديمقراطي الجديد إلى سدة السلطة في آذار (مارس) عام 2004، وعد بثلاثة أمور: “إعادة اختراع” الدولة، والقضاء على الفساد، وإطلاق إصلاح تعليمي مُلحّ. وبعد مرور أربع سنوات، بقي الوضع كما هو عليه: فالدولة ما تزال أداة لمنح الهبات والعطايا، والفساد ما زال متفشيا في القطاع الحكومي العام، بينما باءت جميع محاولات إصلاح التعليم بالفشل الذريع.
لقد مهدت هذه الأمور للاضطرابات التي التهمت اليونان منذ أيام،  فتلاشت الصورة الجميلة لليونان بوصفها ارض الشواطئ المشمسة والناس الودودين، لتتكشف صورة بلد مزقته الصراعات الاجتماعية، واستهلكته الكراهية والعنف البليد.
كان السبب الظاهري المعلن وراء الاضطرابات هو مقتل شاب يبلغ من العمر خمسة عشر عاما على يد رجل شرطة – تحت ظروف لا تزال غامضة لحد الآن— قرب منطقة اكساركيا في أثينا، وهي معقل لليساريين والفوضويين المحترفين. ألقي القبض على اثنين من الضباط وأتهموا بقتل الشاب. إن التدريب الضعيف، والافتقار إلى الدافعية، والرواتب المنخفضة أنتجت جهاز شرطة غير كفء وسيء الصيت يميل منتسبوه إلى ارتكاب مثل هذه الحوادث المأساوية. ومن هذا المنظور، فان الشرطة تشترك مع القطاع العام في المسؤولية عن حالة التذمر والقلق في اليونان. ولكن الفرق الوحيد هو إنها مرخصة بحمل السلاح.
لقد أدت الوفاة إلى قيام الطلبة، وبشكل فوري، بمظاهرات جماهيرية سلمية في الغالب، في جميع أرجاء اليونان، مظاهرات تعبر عن غضبهم لمقتل زميلهم، كما تنم عن سخطهم  على نظام تعليمي المفرط في المركزية والذي يحث على الحفظ والاستظهار، ويخنق الابتكار والإبداع.
ولكن سرعان ما تحولت الاحتجاجات إلى اضطرابات عنيفة. فقامت مجاميع من الفوضويين المتنكرين بطقوس عربيدة من الحرق والنهب والتخريب في أثينا، وثيسالونيكي وغيرهما من المدن الكبرى في اليونان.
ولكن الغريب في أحداث اليونان – على عكس الاضطرابات التي حصلت في ضواحي باريس على سبيل المثال قبل سنوات قليلة – هو الانسحاب التام للحكومة وقوات الأمن من مشهد الاضطرابات. فتُرك المجتمع المدني لوحده، المجتمع الذي لم يكن مسلحا ليصد عن ممتلكاته الهجمات العنيفة التي شنتها حشود المفترسين الكواسر. وكانت ليلة الثلاثاء أسوأ ليالي الاضطرابات، فقد هوجم أكثر من 400 دكانا في أثينا، بعضها أحرق بالكامل، بينما نهب البعض الآخر وتعرض لتخريب كبير. كما حدثت أحداث مشابهة في سائر المدن الكبرى في اليونان.
حدث كل هذا بينما كانت قوات الأمن واقفة تتفرج على فصول المأساة. إذ كانوا يتبعون الأوامر الواضحة من السياسيين في إتخاذ “وضع دفاعي” — وهو ما كان يعني بالنتيجة أن لا يحاولوا منع طقوس التدمير.
كل من كان يراقب هذا المشهد العبثي له الحق لو استنتج أن هناك صفقة سرية عُقدت ما بين الحكومة والمضطربين مفادها: ندعك تحرق وتنهب كما يشتهي قلبك ودعنا ننعم بالمسؤولية و ندعي القدرة على تسيير شؤون البلاد .
لقد بررت الحكومة سلبيتها بالزعم أن أية محاولة لإيقاف التخريب قد تؤدي إلى حدوث خسائر بشرية. وفي نفس الوقت، ومن أجل تهدئة أصحاب المحلات المنهوبة الغاصبين، الذين كانوا يشاهدون بأم أعينهم آمالهم في موسم مربح في عطلة أعياد الميلاد وهي تتلاشى وتذهب أدراج الرياح، وعدت الحكومة باستخدام أموال دافعي الضرائب لتعويضهم عن الأضرار التي تسبب فيها المضطربون.
قال انتونيس باباينيديس، رئيس التحرير السابق في صحيفة إلفثيروس تيبوس المحافظية اليومية: “إن ما نشهده اليوم هو تنازل الدولة اليونانية التام عن المسؤولية. وقد حدث هذا في كل من قضية إطلاق النار على الشاب من قبل شرطي عديم الأهلية، و قضية الاضطرابات التي تلتها، على حد سواء.”
إن سلبية الحكومة في خضم هذا الانحلال أو الانهيار الذي أصاب النظام والقانون لا تدل سوى على إدارة سيئة للازمات، أو انعدام كبير في الكفاءة – رغم أن لكلا العاملين باع طويل في تفسير تلك السلبية، ولكن تدل على أمر أعمق، فشل الحكومة المحافظة في فرض النظام و الاستقرار إنما يدل على هزيمتها في المعركة الفكرية و القدرة على تأطير الشباب.
كان هذا التنازل عن المسؤولية نتيجة جزئية لتخلي  الحزب الديمقراطي الجديد عن قيم الحرية، والتي يعتبر حجر الزاوية فيها سيادة القانون واحترام الملكية الخاصة. ففي قيادة رئيس الوزراء كوستاس كارامينليس، قام الحزب بتصفية جميع أصوات الليبرالية الكلاسيكية من صفوف قيادته، ورفض على نحو واضح القصص المبنية على القيم، مفضلا عليها فلسفة براغماتية غير معروفة. ولكن هذه الأخيرة أثبتت عدم تكافؤها ومضاهاتها للهجوم الإيديولوجي اليساري، الذي انتهى به المطاف وهو يحتكر سوق الأفكار في الجامعات وسائر المؤسسات التعليمية الأخرى في البلد.
لقد وصل التخبط الإيديولوجي لدى الحكومة إلى حد انه ليلة التدمير الجسيم، كان النقد الوحيد الذي تمكن وزير الداخلية بروكوبس بافالوبولوس من إطلاقه ضد المجرمين اللصوص هو أنهم كانوا يتبعون “مصالحهم الشخصية.” ولا شك أن آدم سميث قد تقلب في قبره لهذا التصريح!
والأسوأ من ذلك كان تصريح أدلى به باناغيوتيس ستاثيس، الناطق الرسمي باسم الشرطة الوطنية، وهو يفسر سلبية السلطات الحكومية: “العنف لا يمكن أن يجابه بالعنف.” وبهذه العبارة، ساوى بشكل فاعل بين العنف الذي تمارسه السلطات لحماية النظام الاجتماعي بالعنف الذي يمارسه هؤلاء الذين يريدون تدمير هذا النظام.
كتب سينيكا – كاتب المسرح الروماني العظيم- إن “سقوط روما قد حدث عندما توقفت فلسفة روما البراغماتية عن كونها براغماتية.” ولسوء الحظ، فان المحافظين في اليونان لا يقرأون  سينيكا – بل إنهم لا يقرأون الكثير غيره أيضا…
© معهد كيتو، منبر الحرية، 17 ديسمبر 2008.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20101

[3] في الكفاح ضد القرصنة البحرية،  يجب التركيز دوماً على الاستخدام الأمثل لسلاح المعلومات، وتنسيق جهود المؤسسات الأمنية المعنية بشؤون الأمن البحري وتطوير قدرتها على العمل معاً.
بما أن معظم الهجمات التي قام بها القراصنة الصوماليون تم التخطيط لها على أساس معلومات تم جمعها مسبقاً عن السفن والناقلات المستهدفة (إذ يستعملون لهذا الغرض نظام تحديد المواقع العالمي والهواتف التي تعمل بالأقمار الاصطناعية، ولديهم شبكة نشطة من الجواسيس في موانئ مجاورة مثل دبي وجيبوتي وعدن لرصد ضحاياهم)، فإنه لا مناص للدول المعنية بمحاربتهم من استخدام سلاح المعلومات نفسه لهذا الغرض. ولأن البيئة البحرية لا تزال أقل مناطق العالم انضباطاً من الناحية الأمنية في الوقت الراهن، فإن الوعي بالمجال البحري يُعد ذا أهمية كبيرة من أجل التنبوء بالوقت والمكان المحتملين لتنفيذ هجمات القرصنة والإرهابيين، وهذا يتطلب الاستعانة ببيانات المراقبة والمعلومات الاستخباراتية، وتوفير هذه المعلومات للأطراف التي تحتاج إليها.
ودول إقليم البحر الأحمر، كبقية دول العالم التي تواجه تهديد القرصنة البحرية والإرهاب البحري، ينبغي أن تولي هذا الجانب اهتماماً متزايداً؛ فتبادل المعلومات يلعب دوراً جوهرياً في تحسين الأمن والسلامة البحرية. ومن هنا تبرز الحاجة، ليس إلى إنشاء بعض المراكز الإقليمية لمكافحة القرصنة البحرية كما فعلت دولة كاليمن وحسب، بل كذلك إلى تكوين خلية (أو خلايا مشتركة بالأحرى) لإدارة الأزمات المتعلقة بالأمن البحري، بالتوازي مع إقامة مركز عمليات مشترك يجمع بين المعلومات الاستخباراتية وبيانات المراقبة، ويتولى عملية تخطيط وتنفيذ التدريبات والمناورات والتخطيط للعمليات، وهذا الأمر يستلزم بدوره تعاوناً وثيقاً وتنسيقاً نشطاً بين المؤسسات والهيئات المعنية داخل كل دولة على حده (خفر السواحل والقوات البحرية بصفة خاصة) وهو الأمر الذي قد يتطور خلال فترة وجيزة إلى أنشطة تتم على مستوى دول الإقليم والقوى العالمية الكبرى المهتمة بأمن الملاحة البحرية في هذه المنطقة.
على أن حاجة حكومات دول الإقليم المتضررة الذاتية إلى جهود قوات البحرية وخفر السواحل معاً وفي نفس الوقت، تقتضي منها القيام بدراسة السُّبل المُثلى لتنفيذ العمليات المشتركة بين الجانبين. وأول خطوة يمكن اتخاذها في هذا الإطار هي توفير المعدات الأساسية والتواصل بين الطرفين ثم تقديم الدعم اللوجيستي والتدريب المشترك. ومن بين الخيارات المتاحة عند وجود كلا الجهتين في المكان نفسه، انتداب ضباط بحرية رفيعي المستوى لقيادة قوات خفر السواحل. فعلى سبيل المثال، يتولى ضابط بحرية هندي برتبة لواء قيادة حرس السواحل الهندية بينما يتولى ضابط بحرية أسترالي برتبة فريق قيادة قوات حماية الحدود الأسترالية. ويتم الاستعانة بكبار الضباط للاستفادة من خبرتهم الواسعة وقدرتهم على إيجاد تواصل فعال بين المؤسستين الأمنيتين.
وإذا كان التعاون بين القوات البحرية وخفر السواحل بات ضرورياً في هذه المرحلة، وبما أن قوة خفر السواحل تستخدم كثيراً من مهارات قوات البحرية، فلا بد من وضع آلية خاصة لإقامة تدريب مشترك متى أمكن. ولا شك في أن التدريبات والمناورات وتبادل المواقع والمسئوليات أمرٌ مهمٌ للغاية؛ إذ تسهم جميعها في الارتقاء بالمهارات الفردية ثم المهارات الجماعية داخل السفينة وبين السفن الأخرى، وقبل هذا كله ينبغي على الجهتين إقامة نوع من الاتصال، بناء على تنسيقٍ مُسبق عالي المستوى بين المؤسسات الأمنية الكبرى كوزارة الداخلية والدفاع وأجهزة الاستخبارات القومية، مع التأكيد على فهم كل منهما للطرف الآخر واستيعاب مبادئه وإجراءات التشغيل الخاص به.

[4] ضرورة إدماج الإدارة الأمريكية وإقناعها ، بوضوح ودون مواربة، بأن مواجهة القراصنة الصوماليين ليست شأناً إقليمياً فقط بل يقع في صميم مسئوليات الولايات المتحدة الأمنية العالمية، وحربها الكونية ضد الإرهاب.
تكمن إحدى المفارقات المثيرة للانتباه في قضية القرصنة البحرية على امتداد السواحل الصومالية في الدور الأميركي غير المباشر الذي ساهم في مفاقمة هذه الظاهرة الإجرامية إلى الحد الذي شكلت معه مصدر قلق عالمي جدّي ومتعاظم. وإذا استخدمنا تعبير مجلة نيوزويك الأميركية فإن “هوس واشنطن بالإرهاب كان نعمة بالنسبة إلى قراصنة المنطقة”، إذ أن حرب الولايات المتحدة على الإرهاب في المنطقة أدت إلى عواقب غير مقصودة؛ فخلال سيطرة المحاكم الإسلامية على الأوضاع في مقديشو وأجزاء واسعة من الصومال غابت القرصنة بصورة شبه كلية في منطقة القرن الأفريقي، ولم يشهد صيف العام 2006 أي عمليات قرصنة ضد السفن، لكن إدارة بوش بدعمها التدخل العسكري الإثيوبي في الصومال نهاية العام ذاته والذي قوّض حكم الإسلاميين ونفوذهم في البلاد، دفعت الصومال – وعن غير قصد، على الأرجح – إلى الغرق في الفوضى من جديد.
وقد استغلت عصابات القرصنة هذه الفرصة أحسن استغلال، وبعد فترة من غيابها القسري عن المشهد الصومالي إثر هزيمتها على يد المحاكم الإسلامية عادت مجدداً إلى واجهة الأحداث، وبدعم من بعض زعماء الحرب الصوماليين المرتبطين بالحكومة الانتقالية، ولم تمضِ سوى أشهرٍ قليلة حتى أخذت عجلة القرصنة في الدوران من جديد ولكن بزخمٍ غير مسبوق هذه المرة. ففضلاً عن تقويض التجارة وتهديد خطوط الملاحة البحرية الدولية، أخذ القراصنة أيضاً بتهديد شحنات المساعدة الضرورية لإعالة ما يزيد على ثلث الشعب الصومالي (نحو 2.6 مليون شخص) يعيشون على شفير المجاعة.
والحال أن تغيّر المشهد الإستراتيجي والأمني في الصومال تحت وطأة التدخل الأميركي المنسجم مع إلتزام واشنطن المعلن بمحاربة ما تسميه “التطرف الإسلامي”، كان باهظ الثمن هذه المرة وبدأت فواتيره تظهر تباعاً. وفي حين شرعت العديد من دول المنطقة في الدَّفع من خلال تحملها عبء مواجهة القرصنة البحرية المزدهرة في مياه المنطقة، الأمر الذي أثقل كاهلها بعبءٍ أمني آخر يضاف إلى قائمة أعبائها الكثيرة، ناهيك عن تأثرها المباشر والسريع بالتداعيات السلبية لظاهرة القرصنة على الصعيد الاقتصادي، والتي تجلت بعض مظاهرها مؤخراً في زيادة رسوم التأمين على النقل البحري عبر خليج عدن بنسبة عشرة أضعاف، وتصاعد احتمال توقف الملاحة عبر باب المندب وقناة السويس وتحول مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح مرة أخرى؛ فإن الولايات المتحدة في المقابل، وبعكس قوى دولية أخرى كفرنسا التي تمكّنت مؤخراً (تحديداً في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2008) من استصدار القرار 1838 من مجلس الأمن الدولي، والذي يُشرِّع – في سابقة “تاريخية” هي الأولى من نوعها وبموجب الفصل السابع – استخدام القوة بهدف مكافحة القرصنة في الصومال؛ لم تُبدِ (أي الولايات المتحدة) حتى الآن تقديراً ملائماً وكافياً لجهة تعاظم تهديد القرصنة البحرية في منطقة القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر، رغم أنها لاعب رئيسي في المنطقة ويعتد بدورها الأمني كثيراً.
ويبقى الرهان في سبيل تحفيز الدور الأميركي المنتظر واستنهاضه، وهو ما ينبغي أن يركز عليه صانعو السياسات في المنطقة ويعملوا على إثارته في حواراتهم المختلفة مع الأميركيين، يبقى كامناً في حضور العامل الإرهابي في الصورة، وبعبارة أخرى أكثر صراحة فإن الطريقة الوحيدة لجذب اهتمام واشنطن هي إظهار أن هناك صلة ما بين القراصنة الأعداء والإرهاب الكوني.
وتنبع أهمية هذا الرابط من حساسية العامل الإرهابي ودوره المفصلي في توجيه سياسة أميركا الخارجية وتوجهاتها الأمنية الراهنة على المستوى العالمي. ومع أن هذا الرابط لم يفلح في استثارة الإدارة الأميركية في أوقات سابقة بحيث جعلها تنظر إلى القرصنة البحرية على أنها أولوية، رغم حاجة عالم الشحن بالسفن وقتذاك أيضاً إلى الحماية، لكن الوضع تغير بدءاً من شهر أيلول/ سبتمبر 2005 عندما أصدرت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش وثيقة أمنية إستراتيجية بعنوان “الإستراتيجية القومية لأمن الملاحة البحرية”. وتشدد هذه الوثيقة على أن حماية البحار مهمة حساسة تواجهها الولايات المتحدة كجزءٍ من حربها على المتشددين الإسلاميين في أرجاء العالم لمنعهم من استخدامها كمسرح للهجمات، أو كوسيلة لنقل الأفراد والموارد، وخصوصاً من تنظيم “القاعدة”.
وتحتوي الوثيقة على عدد من البنود والالتزامات التي من شأنها تعزيز خطوات التعامل مع الأخطار التي تواجهها الملاحة البحرية، ويهم دول الإقليم منها البند المتعلق بـ “عرض توفير عمليات التدريب في مجال أمن الموانئ والملاحة البحرية للدول المعنية، وإعطاء أولوية لبرامج الدعم الأمني بهدف تقديم المساعدة في ما يخص أمن الموانئ ونطاق الملاحة البحرية”، وكذلك البند الذي تؤكد فيه الولايات المتحدة على “تشجيع جميع الدول على زيادة نطاق الوعي بتعزيز قدراتها في مجال الملاحة البحرية، وهي القدرات التي يمكن في المقابل التشارك بها في المناطق المهمة ذات الحساسية العالية”.
والحال أن هذه الوثيقة تتيح لهذه الدول، وبعضها كاليمن وجيبوتي وعمان والسعودية حليف رئيسي في الحرب على الإرهاب، طلب عون مباشر من الولايات المتحدة يساعدها في الحد من خطر القرصنة والسطو المسلح على السفن، وذلك من خلال تقديم المزيد من الدعم لقوات خفر السواحل التابعة لها، وتوفير عمليات التدريب لعناصرها بما من شأنه رفع مستواهم المهاري والتقني وتطوير قدرتهم على مواجهة التهديدات المحتملة. وبالمثل، مساندة – لا عرقلة – أي توجهات ترمي إلى إطلاق حوار إقليمي يهدف إلى تطوير نظام أمني بحري جماعي يشمل جميع القضايا والهواجس الأمنية المشتركة، بما فيها قضية القرصنة البحرية.
على أن استمرار حالة التراخي الأميركية تجاه قضية أمنية مستجدة بالنسبة لها، كقضية تفاقم القرصنة البحرية قبالة السواحل الصومالية، سيظل كعب أخيل الجهود الإقليمية والدولية التي ترمي لبناء إستراتيجية شاملة هدفها الحدّ نهائياً من خطر القرصنة في المنطقة واحتواء تداعياتها وأضرارها الأمنية كما الاقتصادية. وطالما استمر الشعور في واشنطن بأن هذه قضية هامشية، لا توازي في أهميتها وحجمها المعضلات الأمنية التي تواجهها الإدارة في العراق وأفغانستان أو الأزمة المالية المحتدمة التي زعزعت الاقتصاد الأميركي بشدة وألقت بظلالها على الاقتصاديات العالمية كافة، فإن العمل على تغيير هذه القناعة سيكون ضرورياً، والنقطة الجوهرية التي يجب التركيز عليها في هذا السياق، والتي قد تثير حماسة واشنطن وتوليها اهتماماً مضاعفاً، هي تذكير الأخيرة على الدوام بأن أيٍّ من أشكال التراخي في مواجهة القرصنة في القرن الأفريقي والبحر الأحمر من شأنه عرقلة الجهود الأميركية والدولية الخاصة بمكافحة الإرهاب خصوصاً مع ظهور بوادر تغيّر في اتجاهات القرصنة على المدى القريب والمتوسط؛ فإذا كان القراصنة الحاليين لا يطالبون إلا بفدية مالية، لكن المطالب قد تتغير إذا دخل أفراد من شبكة إرهابية، كالقاعدة أو مجموعات موالية لها، هذه الحلبة؛ إذ قد يحاولون إغراق سفينة كبيرة عند مدخل قناة السويس، كما أن حدوث كارثة بيئية ضخمة، نتيجة قيام القراصنة بإتلاف إحدى ناقلات النفط التي تمر عبر خليج عدن، يظل احتمالاً قائماً كذلك.
© معهد كيتو، مشروع منبر الحرية، 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

القراصنة قادمون”! صرخة دوّت مؤخراً وأخذت تترد بقوة، مُكتسبةً طابعاً طناناً، ليس فقط في وسائل الإعلام والأقنية الإخبارية المختلفة حول العالم، وإنما تكاد، بالنظر إلى مضامينها الأمنية والإستراتيجية المهمة، تقضّ مضاجع صُنّاع السياسات ومسئولي الأمن في منطقة القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر.
فعلى امتداد السواحل الصومالية في المحيط الهندي وخليج عدن، أخذت موجة متزايدة ومتسارعة من أعمال وأنشطة القرصنة في تهديد خطوط الملاحة العالمية وسلامة الأمن البحري بالمنطقة على نحوٍ غير مسبوق، وبانتهاء شهر تشرين الأول/ أكتوبر الفائت تم تسجيل أكثر من 80 هجوماً تعرضت له السفن التجارية وسفن الاصطياد وناقلات النفط الأجنبية، العابرة لخطوط الملاحة الدولية في المحيط الهندي وخليج عدن والبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب، على أيدي القراصنة الصوماليين، الأمر الذي حدا بالمكتب البحري الدولي (IMB) إلى تصنيف هذه المياه بأنها “أخطر منطقة شحن بحرية” في العالم، مُتخطية بذلك كل من إندونيسيا ونيجيريا، اللتين كانتا في الصدارة.
وفي ضوء إدراك دول المنطقة المتزايد بخطورة هذه الظاهرة الإجرامية، اتخذت بعضها وفي مقدمتها اليمن، التي تطل على خليج عدن وبحر العرب، العديد من الاجراءات والتدابير العاجلة للحدّ من أنشطة القرصنة في خليج عدن وباب المندب. فبدأت البحرية اليمنية بتكثيف وجودها ودورياتها الأمنية في المياه الإقليمية، ونشرت مصلحة خفر السواحل نحو ألف جندي وعدداً من الزوارق الحربية المجهزة في خليج عدن وباب المندب، وفي اتجاه موازٍ بدأت في إجراء عمليات تنسيق مع القوات المشتركة للقرن الأفريقي وماليزيا واليابان بهدف إنشاء مركز إقليمي لمكافحة القرصنة، وتعزيز جهود حماية الطريق الملاحي الدولي المار عبر خليج عدن.
على أن الصحوة المتأخرة هذه، في النتيجة، قد لا تُجدي نفعاً مع “شياطين البحر” الجُدد من الصوماليين، وبرغم أهميتها فإن تأثيرها سيظل محدوداًً. ويزداد الأمر تعقيداً إذا علمنا أن هذه العصابات تقوم بأعمال القرصنة وهي تتمتع بحصانة ولا تخشى الملاحقة؛ فالصومال تملك أطول ساحل في أفريقيا، وعلى مسافة قريبة من أهم خطوط الملاحة البحرية، ولكنها تفتقد لسلاح البحرية أو خفر السواحل، كما أن الحكومة الصومالية الانتقالية تزداد ضعفاً يوماً بعد يوم، وهي غير قادرة على تحمل هذه الأعباء.
وفي ضوء المعطيات المذكورة، أصبح التفكير بإستراتيجية أكثر شمولاً وفعاليةً لمكافحة القرصنة البحرية، تشترك دول الإقليم المشاطئة لخليج عدن والقرن الأفريقي في صياغتها مع المجتمع الدولي، أمراً ملحّاً وذا أهمية كبرى.
[1] ضرورة الاستمرار في التشديد على ضرورة حلّ المشكلة الصومالية حلاً جذرياً، وعدم التواني في الانخراط في أي جهود إقليمية أو دولية تهدف إلى بلورة مثل هذا الحل.
إن إحدى الحقائق التي لا يمكن تجاوزها في أي إستراتيجية إقليمية أو دولية تهدف إلى إنهاء خطر القرصنة قبالة السواحل الصومالية، أن هذه الظاهرة تبقى، وستستمر – إن قُيّض لها الاستمرار -، واحدة من النتائج المباشرة لانهيار الدولة الصومالية وإحدى تجلياتها الرئيسية. وتجاوز هذه الحقيقة الجوهرية لا يعد انتكاسة في التفكير الإستراتيجي وحسب بل وفي التدبير السياسي والأمني أيضاً.
لقد نشطت عمليات القرصنة البحرية بخليج عدن والبحر العربي والمحيط الهندي في الأساس بسبب القلاقل الداخلية التي تشهدها الصومال‏، حيث تطل السواحل الصومالية التى يبلغ طولها 3700 كيلومتر وهى واحدة من أطول السواحل فى العالم، على ممرات مائية إستراتيجية تربط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي‏، مما جعل السفن التجارية وسفن الصيد التي تمرّ بها على مدى السنوات الأخيرة عُرضة لهجمات القراصنة، وبدلاً من أن تكون سواحل الصومال بمثابة وسيلة مضمونة للحصول على مساعدات دولية وإغاثية في بلدٍ دمرته تماماً الحرب الأهلية التي اندلعت عقب سقوط نظام الرئيس المخلوع محمد سياد بري سنة 1991، فإن المساعدات الغذائية الضرورية تكاد تتوقف تحت تأثير الضربات المتوالية للقراصنة، الأمر الذي فاقم من حدة الأزمة الإنسانية الخطيرة في هذا البلد المنكوب.
وبطبيعة الحال، فإن الأمور لن تتحسن ما لم يحصل تغيير نحو الأفضل في الصومال نفسها، وهذا الأمر لن يتأتى إلا من خلال تسوية سياسية شاملة تُنهي الحرب الأهلية المستمرة في هذا البلد. ومن المتوقع أن تركز الأمم المتحدة بصورة أكثر فاعلية في الأيام المقبلة على تحقيق المصالحة الصومالية لمواجهة القرصنة البحرية التي تستفيد من غياب حكومة مركزية قوية هناك‏.‏ وإذا كانت بعض دول الإقليم كاليمن وجيبوتي ومصر قد حرصت على تأييد مساعٍ كهذه، من منطلق إدراكها أن الحل الجذري لظاهرة القراصنة الصوماليين، يكمُن في تدخلٍ آخر للمجتمع الدولي ما انفكت هذه الدول وغيرها تدعو إليه “للأخذ بيد الحكومة الصومالية الانتقالية من أجل بناء الدولة الصومالية، وحتى لا يكون الصومال وكراً أو محطة أخرى مثل أفغانستان لتصدير الإرهاب”؛ فإنه يجب عليها، والحالة هذه، الاستمرار في التشديد على ضرورة حلّ المشكلة الصومالية حلاً جذرياً ومتوازناً يرضي القوى المحلية الرئيسية، في جميع المحافل الدولية بما فيها تلك المخصصة لمناقشة التحديات الأمنية الراهنة وطبيعتها المتغيرة، والانخراط في أي جهود إقليمية أو دولية تهدف إلى بلورة مثل هذا الحل الذي بات تحقيقه اليوم أكثر ضرورة وحيوية من أي وقتٍ مضى.

[2]  ضرورة الدعوة إلى (والمساهمة في) تأسيس نظام أمني بحري جماعي في منطقتي القرن الأفريقي والبحر الأحمر، يبدأ بقضية القرصنة البحرية ولا يقف عندها بل يشمل مختلف القضايا والهواجس الأمنية المشتركة.
لقد ظلت قضية الأمن في منطقة جنوب البحر الأحمر وتأمين المياه المشاطئة للساحل الأفريقي هاجساً للعديد من دول المنطقة طوال السنوات الماضية، خاصة بعد دخول مُعطى الإرهاب في المعادلة الأمنية الإقليمية، واستمرار دوامة العنف في منطقة القرن الأفريقي، ومحدودية قدرات كثير من دول المنطقة على تأمين شريطها الساحلي، إلا أنه، وعلى الرغم من ذلك، لم تتمكن هذه الدول حتى اليوم من بلورة صيغة مؤسسية مناسبة للتعاون الأمني فيما بينها تؤدي في النهاية إلى تأسيس نظام أمني بحري جماعي بينها.
على أن مشكلة تفاقم عمليات القرصنة البحرية في خليج عدن وباب المندب والمحيط الهندي أظهرت، وبكل وضوح، حاجة الدول المُشاطِئة الشديدة والمتزايدة (بما فيها الدول المطلة على البحر الأحمر) إلى تأسيس نظام للتعاون الأمني البحري الجماعي في المنطقة. وإذا كان من المهم اليوم أن تركز هذه البلدان على تطوير ترتيب جماعي للتعاون في مجموعة من المشروعات والقضايا الأمنية البحرية ومكافحة الإرهاب الإقليمي، بحيث لا يقتصر على قضية أمنية بعينها (كقضية القرصنة)، وإنما تنطلق منها وتؤسس عليها.
وهذه الخطوة الأوسع، متى تتحقق، ستُشكل نقطة البداية الصحيحة لبلورة إجراءات لبناء الثقة بين دول المنطقة تعود بالنفع أيضاً حتى على أطراف دولية عديدة، نظراً إلى الأهمية الأمنية والاقتصادية التي تتمتع بها هذه المنطقة الإستراتيجية من العالم. ولئن دأب بعض المحللين على التشكيك في جدوى إجراءات بناء الثقة كتدبيرٍ مُستدام أو فعّال بدعوى أنها مجرد أداة لإدارة الأزمات وليس لحلّها، إلا أنها أثبتت نجاحها في الغالب كأداة عملية مهمة لتطوير التعاون الأمني البحري بين الدول. فتطبيق إجراءات بناء الثقة في مجال التعاون البحري كوسيلة لحل الخلافات والنزاعات ومنع الحوادث البحرية ذات التداعيات الخطيرة، فضلاً عن معالجة الهواجس الأمنية المتعلقة بعمليات البحث والإنقاذ وحماية البيئة البحرية ومراقبة صيد الأسماك بطريقة غير مشروعة، أثمر بالفعل منافع جمّة على نطاق واسع.
والحقيقة أن الحاجة لتطوير نظام أمني بحري جماعي في منطقتي القرن الأفريقي والبحر الأحمر (اللتين تشكلان في الواقع منطقة أمنية عضوية واحدة)، تجد مسوغاتها من خلال ثلاثة أسباب رئيسية:
أ. الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة.
ب. عدم استقرار المنطقة وانكشافها المتواصل إستراتيجيا وأمنياً.
ج. غياب أيٍّ من أنواع الحوار أو المبادرات الإقليمية الفاعلة في مجال الأمن البحري.
وعلى الرغم من أن التنفيذ الناجح والامتثال المنظم للتدابير الخاصة بتعزيز الأمن البحري ظل مُكلفاً لغالبية دول العالم، وذلك بسبب ضعف العامل الدولي المشترك الخاص بجمع وتقييم وتبادل المعلومات على نحو مبكر، ناهيك عن غياب مستويات التنسيق الضرورية المرتبطة بتزويد السفن العالمية بالمعلومات المتعلقة بالوضع الأمني، وذلك وفقاً لاتفاقية “سلامة الأرواح في البحار” (SOLAS) و”المدونة الدولية لأمن السفن والمرافئ” (ISPS)، فإن على دول المنطقة، لاسيما تلك المتضررة من تفاقم مشكلة القرصنة في الصومال، استغلال الظروف القائمة وحالة الهلع الإقليمي والدولي من خطر القرصنة وتهديدها المتفاقم لخطوط الملاحة البحرية الدولية قبالة السواحل الصومالية، ومن ثمّ العمل بشكل دءوب على تحفيز جميع دول الإقليم، ودفعها باتجاه إقامة نظام إقليمي شامل للتعاون البحري يبدأ بقضية القرصنة البحرية ولا يقف عندها بل يشمل مختلف القضايا والهواجس الأمنية المشتركة.
علاوة على ذلك، يمكن لمثل هذا النظام الأمني الإقليمي – لحظة تبلوره – تبني معايير حلف الناتو الخاصة بمراقبة قوات البحرية لخطوط الملاحة/ وتعاون البحرية وتوجيه حركة الملاحة حيث تتوافر المفاهيم والأساليب الإدارية الملائمة والتدريبات بالفعل. والمعروف أن هناك منظمتان دوليتان تعملان في مجال حماية حركة الملاحة البحرية وتعرفان باسم “مجموعات العمل البحرية” وهما الناتو ومنظمة المحيط الهادئ والهندي اللتان تحرصان على إطلاع أعضاء كل مجموعة على رؤية المجموعة الأخرى إزاء حماية حركة التجارة؛ وذلك من أجل بلورة مفاهيم إستراتيجية مشتركة من الناحية الإستراتيجية والعملياتية واختبار علاقات الاتصال بين الطرفين بشكل سنوي. ويمكن استخدام أي من أسلوب الناتو أو منظمة المحيط الهادئ كآلية إدارية لتطبيق هذه المعايير على أرض الواقع. بينما يمكن وضع إطار عمل ينظم التدريبات الخاصة بتولي المناصب القيادية بهدف اختبار المهارات الإدارية ووضع السيناريوهات المحتملة لتعاون البحرية وتوجيه حركة الملاحة في المنطقة.
وعلى أية حال، يظل تعبير دول الإقليم المنزعجة من هجمات القراصنة الصوماليين عن إيمانها بأهمية تأسيس نظام إقليمي شامل للتعاون البحري، وأنه سيمثل خطوة مهمة نحو تطوير إجراءات فعّالة لبناء الثقة بين دول المنطقة تعود بالنفع عليها جميعاً خصوصاً في أوقات الأزمات، يظل حاسماً في إضفاء المصداقية والجدية اللازمتين على هذه الدعوة أمام دول المنطقة الأخرى التي لا تزال مترددة في حسم موقفها إزاء التطورات الأمنية الأخيرة قبالة السواحل الصومالية. إن على دول المنطقة التفكير من اليوم وصاعداً، وانطلاقاً من أهمية التعاون في قضية تفاقم القرصنة البحرية في مياهها، بأن مثل هذا النظام سيُمثل أرضية صلبة لتعزيز الثقة المتبادلة وتعميق إدارك دول الإقليم كافة للهواجس والضرورات الأمنية المشتركة، مما قد يُمهِّد السبيل أيضاً لمزيد من التعاون في مجالي الدفاع والقضايا البحرية… ( الجزء الأول… يتبع).
© معهد كيتو، مشروع منبر الحرية، 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018