معوقات التقدّم العربي

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

سبق في المقالة الأولى أن طرحنا دور الحركة الإنسية وفكر الأنوار في ترسيخ الحداثة الفكرية الأوربية، وهي حداثة لم يعرف عالمنا العربي للأسف مثيلا لها، إذ ظل الفكر العربي جامدا، واستمرت بنيته مقيدة على المستوى الفردي ومحجورا عليها على المستوى الجماعي وبالتالي كان الجمود مركبا.
وسنخصص هذه المقالة للحداثة السياسية، من خلال طرح سؤال بسيط :  كيف حققت أوربا حداثتها السياسية بينما عجز عالمنا العربي عن ذلك .
لقد سعت الدول الأوربية إلى وضع أسس الميثاق السياسي والدولة الأمة بهدف خلق حداثة سياسية تواكب الحداثة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تشهدها خلال 15 و16، وعملت هذه الدول على إدماج الشعور القومي للفرد في إطار محكم، وضمان المجتمع المتماسك الذي حاولت هذه الدول فيما بعد ترسيخه في إطار سياسة جهوية تراعي الاختلاف. لقد بدأت الدولة الفيودالية تحتضر وفي مقابل ذلك كانت الدولة الأمة تخطو خطواتها الأولى، فقد رسمت لنفسها حدودا أكثر مثانة قامت على التأطير السياسي والتنظيمين العسكري والجبائي.
وساهم فكر الأنوار في هذا التطور ،إذ انتقد فلاسفة الأنوار الأنظمة الاستبدادية ووضعوا تصورا جديدا لمفهوم الشعب وحاولوا ضبط طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. ولعب فكرهم دورا كبيرا في اندلاع الثورة الفرنسية التي شكلت إحدى مظاهر ترسيخ الحداثة السياسية، وامتد تأثيرها إلى باقي الدول الأوربية رغم معارضة القوى المحافظة لمبادئها.
وشكل القرن 19 بدوره مرحلة جديدة في التطور السياسي نحو ترسيخ الديمقراطية كسلوك يحافظ على وحدة الدولة وكيانها، ورغم التأخر في المجال كالاعتراف الكامل بحقوق الفرد السياسية وإقرار نظام الاقتراع العام المباشر، فإن التطور السياسي كان متواصلا وثابتا في طريق بناء الدولة الحديثة التي ركزت على التوفيق بين الدولة كنظام سياسي والأفراد كمجموعة تشترك في خصائص ثقافية مكتسبة .
تمكنت أوربا تدريجيا من وضع حد لعصر كانت فيه السلطة في يد النبلاء والأقليات الأتوقراطية، وبناء أسس المجتمعات السياسية العصرية القائمة على الديمقراطية كنظام ضامن لحقوق الأفراد.وكان لابد أن تطرح بعض المشاكل أمام تطور الدولة الأمة ووحدتها ،ومن أهم هذه المشاكل قضية الأقليات (كألمان سويسرا وبلونيا وشرق فرنسا…) .هذه الأقليات أصبحت اليوم تدين بالولاء السياسي لدولهم بحكم الدولة الموحدة الضامنة لحقوقهم وبالولاء الثقافي لدولهم الأصلية، لقد حاولت الدول الأوربية من خلال التأكيد على مبادئ الديمقراطية ( خاصة الحرية ) التوفيق بين الشعور السياسي والشعور الثقافي، وبالتالي ضمان الوحدة والاستقرار.
إن سعي أوربا إلى بناء المجتمعات السياسية الحديثة كان لابد أن يفرز بدوره تطورات جديدة ( الدولة الأمة الحديثة خرجت من رحم الدولة الفيودالية ). هذه التطورات سيتم استغلالها لتحقيق المزيد من قوة الدولة. في هذا الإطار جاءت الوحدة الأوربية التي حررت الفرد من ضغط الشعور بالولاء للدولة الواحدة وفتحت أمامه مجالا أوسع للولاء المزدوج، وهو ولاء لا يشكل تناقضا بل تكاملا بين الشعور الوطني الخاص نحو الدولة الأمة وشعور عام نحو الإتحاد الذي هو عضو فيه. إن تطور أوربا في إطار الوحدة قد يتجه بدوره تدريجيا نحو عصر ما بعد الدولة الأمة ،عصر الاندماج السياسي الكامل في إطار دولة سياسية واحدة ذات حدود موحدة و جهاز سياسي واحد، لكن ذات تنوع ثقافي وبشري، عندها يمكن الحديث عن أفول الدولة الأمة.
وكما في المقالة السابقة نطرح سؤالا مهما:  هل مجتمعاتنا العربية تمكنت من بناء الدولة السياسية الحديثة؟
إن عالمنا العربي لم يدخل بعد مرحلة الدولة الحديثة، شأنه شأن العديد من الدول الأخرى. فإلى غاية القرن 19 و 20 حيث خضع العالم العربي للحركة الاستعمارية، كانت أنظمة الحكم أقرب إلى نظام الدولة القبيلة، وظلت السلطة المطلقة في يد الأمير أو السلطان أو الشيخ، وشكل الصراع حول الحكم قاعدة، ونادرا ما كان انتقال الحكم يتم بسلاسة، وكان الصراع في الغالب يستند على الدعم القبلي ،وشكلت القوة الوسيلة الوحيدة لشرعية الحكم. إن مجتمعاتنا العربية لم تعرف ثورة فكرية أو صناعية كما حدث في أوربا، وبالتالي فالوضع السياسي ظل راكدا، وكانت “الدول” تسير كما تسير الإقطاعيات، والحاكم ظل الله في الأرض يعطي بأمره ويمنع بأمره، وقنعت الشعوب بذلك واعتبرته قدرا مفروضا. ورغم بعض المحاولات التي ظهرت في عالمنا العربي للخروج من هذا الواقع السياسي الجامد، كما حصل في مصر مع محمد  علي فإن السيطرة الاستعمارية أجهضت هذه المحاولة.
لقد ظل المجتمع العربي يعيش دائما تخلفا سياسيا في كل مراحله ، والحاكم لا يستند إلى الشرعية بل إلى القوة وتوظيف الدين. وحتى عندما حصلت الدول العربية على استقلالها بدأت الطبقة الحاكمة في بناء جهاز سلطوي للتحكم في المجتمع عوض بناء جهاز سياسي حديث، يستند على مبادئ الديمقراطية كأساس ومنطلق ويهدف إلى تحقيق المجتمع السياسي الحديث.
إن المجتمعات العربية لا زالت خارج الدولة الحديثة وإن كل مظاهر الديمقراطية ليست سوى مساحيق كاذبة تخفي الحقيقة المؤلمة، حقيقة الدولة القبلية التي تدبر أمورنا وحقيقة الدولة الحديثة التي نفتقدها، والتي نتوهم وجودها. إن هذا الواقع لن يؤدي إلا إلى تغيير عن طريق العنف واغتصاب السلطة، ويعاد إنتاج نفس شكل السلطة في مظهر مغاير. إن تحقيق الدولة الأمة الموحدة ليس حتمية تاريخية بل إرادة شعبية تنمو بشكل طبيعي وتختم، وبالتالي أصبح تحقيق الدولة الأمة مطلبا ضروريا في عالمنا العربي الذي يعاني من هشاشة مكوناته البشرية، هذه المكونات التي تتوزع ما بين ما هو إثني، طائفي وقبلي .
ونتساءل في الأخير عن الواقع الذي نعيشه اليوم : هل أشكال السلط في العالم العربي شرعية ؟ هل مؤسساتنا المنتخبة لها القدرة على المراقبة والمحاسبة ؟ هذه المؤسسات كيف تم انتخابها ؟ والشعوب هل  هي قادرة  على مراقبة ممثليها ؟ كيف يمكن أن نضع أسس الدولة الأمة الموحدة : هل على الإسلام كمرجعية ضرورية أم نقوم بنقل النموذج الغربي؟
© منبر الحرية،  19مارس/آذار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

شكلت الحركة الإنسية إحدى أبرز مظاهر النهضةا/الحداثة الأوربية إلى جانب الإصلاح الديني. فقد جاء الفكر الإنسي كرد فعل ضد التصورات السائدة، هذه التصورات لم تكن لتخرج عن الإطار الذي حددته الكنيسة. لقد كانت الكنيسة هي مالكة الحقيقة المطلقة ـ أو هكذا كانت تعتقد بحسن نية أو سوءها ـ وحال انغلاق الكنيسة ورفضها للحقيقة التي يؤمن بها الآخر دون الانتباه للتحولات التي عرفها الاقتصاد والمجتمع. وهي تحولات لابد أن تؤثر في وعي وشعور الإنسان الأوروبي .
لم تستطع الكنيسة أن تبدي مرونة أكبر، وتساير هذا التحول وبالتالي امتصاص نزعات الرفض التي بدأت تنبثق وتنمو تدريجيا. لقد أدى تشدد الكنيسة وجمودها ورغبتها في الحفاظ على الواقع السائد إلى تزايد حدة الرأي الأخر، ومحاولة فرض وجهة نظره واحترامها .
كان على الإنسيين أن يغيروا مفاهيم كثيرة ظلت راسخة لعقود طويلة، وظلت جزءا من الإيمان الحقيقي كفكرة الشقاء والخطيئة وإشاعة مفاهيم جديدة كالسمو والكمال والتفاؤل، وكان عليهم تغيير النظرة إلى العالم وتوسيع مصادر الإلهام وتجديد البيداغوجية ونقد التقاليد والمؤسسات. وقد تجلى ذلك بوضوح في عدة مجالات أبرزها الفن ( خاصة الرسم والنحت)، من خلال أنسنة المواضيع والخروج من تحت جناح الكنيسة إلى مجال أرحب وأوسع، مجال ينطلق من حرية الإنسان ومسؤوليته وكونه أفضل المخلوقات. فالحرية والسعادة والجمال واحترام الذات هي القيم الكبرى للأخلاق الفردية التي تصب في الأخلاق الجماعية المؤسسة على التسامح والسلم. شكل هذا التحول الفكري إحدى أهم عوامل بداية انهيار دعائم الكنيسة التي ظلت رغم ذلك تدافع عن ماض لم يعد قائما وتصورات أثبتت الاكتشافات العلمية عدم صحتها.
جاءت نظرية كوبرنيك حول الكون كضربة موجعة للكنيسة القائلة بمركزية الأرض في المجموعة الشمسية ـ واعتبار هذا جزءا من الإيمان ـ لقد أثبت كوبرنيك العكس وبالتالي كان لابد للإنسان الأوربي أن يطرح سؤالا جوهريا وبديهيا : هل تملك الكنيسة الحقيقة ؟ وإذا كانت لا تملكها فمن يملكها إذا ؟
وكان الجواب بسيطا : لا أحد يملكها، العقل والعلم وحدهما قادران على البحث عنها واكتشافها.
هكذا انطلقت الثورة على الكنيسة، والتي لم تعد قادرة على الوقوف أمام هذا السيل الجارف المتمثل في رغبة الإنسان الأوروبي في البحث عن الحقيقة بنفسه عوض أخذها من رجال الدين.
من هذا المنطلق بدأ الوعي الأوربي يتشكل تدريجيا خلال القرنين 15 و16 معتمدا على مبدأي العقل والعلم، وبدأت أسس البحث العلمي تتضح. وإذ ا كان الفكر الديني السائد لم يقدم لهؤلاء الإنسيين أدوات  ومناهج البحث، فكان من الضروري البحث عنها في التراث القديم خاصة الروماني والإغريقي.
مع القرنين 17 و18 بدأت مرحلة جديدة، صحيح أنها كانت امتدادا للفكر الإنسي إلا أنها متميزة وذات خصوصيات، ونعني بذلك فكر الأنوار. وإذا كان الفكر الإنسي انطلق من إيطاليا وغلب عليه الطابع العلمي والفني فإن فكر الأنوار انبثق من فرنسا وإنجلترا وطبع بطابع فلسفي واضح. لقد حاول فلاسفة الأنوار التجرد من كل الخلفيات ووضع المجتمع بأكمله موضع نقد ودراسة، رغم ارتباطهم بطبقات اجتماعية مختلفة ( فولتير بالبورجوازية، مونتسكيو بالنبلاء، روسو بالفئة الشعبية ).
لقد حاول هؤلاء الفلاسفة إعادة النظر في دلالات المفاهيم الرائجة كالسعادة والفضيلة والحرية والشعب ..، ورغم الانتقادات التي يمكن أن توجه لهم، خاصة مواقفهم السياسية إلا أن فكرهم وكما عبر عن ذلك  إمانويل كانط ” خروج الإنسان من حالة القصور العقلي التي هو مسؤول عنها وحالة القصور العقلي هي العجز عن توظيف العقل دون توجيه من الآخر، فلتكن لك الشجاعة لاستعمال عقلك. هذا هو شعار الأنوار”.
لقد اعتبر الإنسيون والمتنورون سلسلة متواصلة من البحث عن أساليب تحرير الإنسان من القيود التي تعيق استعمال ملكاته وقدراته العقلية وتقديس العلم باعتباره الأداة القادرة على اكتشاف قوانين الطبيعة .
وهكذا لم يكن القرن 19 سواء حقلا لتطبيق المفاهيم الجديدة والتي أصبحت أكثر رسوخا، وتراجع الفكر الديني إلى الخلف وسلم بأهمية العلم وحاول مسايرته والاستفادة منه. ولم يكن القرن 20 إلا استمرارا لترسيخ الحداثة والدفاع عنها والإيمان بأهمية الإنسان وحرية توظيف قدراته العقلية دون قيود.
والسؤال المطروح :أين نحن في عالمنا العربي من هذه التحولات ؟ لماذا  لم نستطع خلق حداثة عربية والعمل على ترسيخها ؟
إذا شكل القرن 15 بداية دخول أوربا عصر الحداثة، فإنه في العالم العربي كان بداية للتراجع وسيادة التقليد. وحتى التطور الذي عرفه العثمانيون والسعديون في بلاد المغرب كان يطغى عليه الطابع العسكري التوسعي، وبالتالي ما لبثت هذه الدول أن تراجعت بسرعة أمام تطور أوربا الفكري، الاقتصادي والاجتماعي…، لقد ساد الجمود الفكري ولم يستطع عقل الإنسان العربي الرازخ تحت وطأة الإقطاع والاستبداد أن يحقق ثورة فكرية شبيهة بحركة الإنسيين. ورغم أن المجتمع العربي لم يعان من سيطرة جهاز ديني كما حدث في أوربا، إلا أن عدم القدرة على تحرير العقل من جموده ظل هو السمة الغالبة على بنية العقل العربي. ولم يشهد عالمنا العربي أي رجة أو ثورة قادرة على خلخلة وتفكيك مكوناته ومساعدته على الانطلاق والتحرر، هكذا ظل الفكر التقليدي هو السائد، فكر قنع بواقعه واعتبره قدرا لا يمكن تغييره إلا بمعجزة سماوية. وحتى عندما انتبه مفكرونا لهذا الواقع وامنوا بإمكانية تغييره خلال القرن 19، كان قد فات الأوان، واختلت موازين القوى وأصبحت أوربا قوة استعمارية سيطرت على العالم العربي وكرست الجمود والتقليد بالتواطؤ مع الفئات المحافظة الحاكمة .
إن واقع القطبية الواحدة الذي نعيشه، ومن أبرز معالمه ظاهرة العولمة جعل الانطلاق نحو حداثة عربية أكثر صعوبة. كيف نحقق ثورتنا الفكرية؟ كيف نحقق حركتنا الإنسية وعصر أنوارنا؟ هل ننطلق من مرجعيتنا الدينية الإسلامية واعتبار الإسلام هو الحل؟ أم من مرجعية أوربية من خلال تبني قيمها، هل يلزمنا قرون عديدة لتحقيق هذه الحداثة، أم يمكن فعل ذلك في زمن أقصر؟
إن الحداثة العربية بخصوصياتها أصبحت أمرا ضروريا، ألم تحقق اليابان ذلك في وقت أقل؟، ألا تسير الصين في الطريق نفسه؟. كل شيء ممكن، يجب فقط رفع الوصاية الفكرية عن الشعوب وترك التاريخ يقوم بعمله.
© منبر الحرية، 18 مارس/آذار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

كلما لاح في الأفق حل لمشكلة أو قضية رئيسية في منطقتنا، عادت الأوضاع وأكدت أن منطقتنا لن تكون من المناطق التي تنعم بالاستقرار السياسي والإنساني في السنوات العشر القادمة. فهناك عدة متغيرات وتناقضات ستكون لب التأثير والتغير في منطقة الشرق الأوسط. أحد أهم هذه المتغيرات ستقع على جبهة الصراع العربي الإسرائيلي والآن الإيراني الإسرائيلي بكل أبعاده الإنسانية والحقوقية والأمنية.
إن مسيرة السلام العربية الإسرائيلية التي أوحت بآفاق حل سلمي للقضية الفلسطينية وصلت لطريق مسدود حتى الآن، وهي تكاد تصل للحظة خاصة في حجم انسدادها. فهناك في الأفق مخاض فلسطيني جديد في ظل أحاديث عديدة عن حرب إقليمية جديدة قد تبدأها إسرائيل مع إيران أو مع حزب الله. ستترك هذه الاحتمالات عند وقوعها اكبر الأثر والتأثير على منطقتنا.  إن الأبعاد الإستراتيجية لوقوع  مواجهات بين إسرائيل من جهة و إيران وسوريا وحزب الله وحماس من جهة أخرى ستكون كبيرة. ستعيد أحداث كهذه، خاصة إذا ما تبلورت بين الفلسطينيين انتفاضة جديدة ، الصراع العربي الإسرائيلي إلى أساسياته الأولى.
لكن اليمين الإسرائيلي من جهة أخرى في ورطة كبيرة، إذ يعيش مع وهم الاستمرار في فكرة صهيونية تأخذ الأرض من أصحابها، فإسرائيل مستمرة في تهويد القدس، وفي اخذ أراضي جديدة ومنازل جديدة من الفلسطينيين. وبينما ينفي نتنياهو عن الفلسطينيين حق العودة إلى أراضي اخرجوا منها بالقوة منذ سنوات ومنذ عقود، إلا انه يسمح لحكومته بأخذ أراض ومنازل عربية جديدة بالقوة.  بين منطق الحقوق الفلسطيني ومنطق الاستيلاء الإسرائيلي تتشكل مواجهات المرحلة القادمة.   لقد دفع  اليمين الإسرائيلي بالفلسطينيين للحائط، وهذا يعني حتمية الانفجار الذي نرى بدايات له في أحداث القدس وبلعين ومناطق أخرى في الضفة الغربية وغزة. الواضح في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أن انسداد السبل واستمرار الاحتلال والاستيطان يدفع نحو المواجهة. الأوضاع اليوم تسير بقوة نحو هذا الاحتمال.
وفي ظل تراكم عناصر الانفجار يزداد الموقف الأمريكي ضعفا. فهناك عوامل كونية وإقليمية وأمريكية واقتصادية وسياسية تساهم في التراجع الأمريكي الذي نشهده كونيا وإقليميا. إن الوعد الأمريكي الذي تبلور مع انتخاب الرئيس أوباما تراجع بصورة كبيرة وترك وراءه خيبة أمل تبدو الآن اكبر من تلك التي حملها الناس تجاه إدارة بوش.   فالإدارة الأمريكية تقود قوة أمريكية عالمية في طريقها للانسحاب من نقاط ساخنة في منطقتنا، وفي طريقها لمزيد من التنافس والتدافع الهادئ مع دول مثل الصين وروسيا. وبنفس الوقت الذي تشعر الولايات المتحدة بعدم مقدرتها التحكم بمفاتيح العالم واضطراباته، فهي أيضا تخضع للمنطق اليميني الإسرائيلي في تفسيرها لأوضاع المنطقة.  فمن خلال الكونغرس الأمريكي ودور القوى المؤيدة لإسرائيل فيه، يبدو أن إدارة أوباما ستكون غير قادرة على التحرك باستقلالية.  وهذا بطبيعة الحال يجعل القوة الأمريكية في معادلة صعبة مما يساهم في الجمود وفي آفاق الانفجار .
وبينما يخيم شبح حرب إقليمية على المنطقة إلا أن الأوضاع الاقتصادية في المنطقة لم تتحسن هي الأخرى مما قد يجعل آثار أي حرب إقليمية اكبر من سابقاتها.  ففي دول شتى في العالم العربي تواجه فئات شعبية الكثير من الضغط الاقتصادي والشعور بالغبن أمام الدولة والتعسف في القوانين وسواد الفساد.  لهذا فإن وقعت حرب إقليمية ستجد لها صدى داخلي في دول عربية عديدة وسيكون هذا مسمار جديد في واقع النظام العربي الرسمي كما عرفناه طوال العقود السابقة. الأوضاع الداخلية تتداخل، والمنطقة العربية تعيش وضعا معقدا في ظل آفاق الحرب والانتفاضة الجديدة.
إن منطقتنا تمر كل عدة سنوات بأزمة كبيرة. منذ عام كانت حرب غزة، وقبل ذلك حرب جنوب لبنان بين إسرائيل وحزب الله، وقبل ذلك حروب العراق وأفغانستان المستمرة ليومنا هذا،  وقبل ذلك الانتفاضة الفلسطينية، وقبل ذلك الحادي عشر من سبتمبر وقبل ذلك الغزو العراقي للكويت. في المدى المنظور تزداد احتمالات وقوع مفاجئة كبيرة تعيد ترتيب الأوراق واصطفاف القوى. ليس واضحا شكل النتيجة ومداها ولكن الواضح أن منطقتنا لن تستقر أو تهدأ في ظل استيلاء إسرائيل على أراضي عربية وفلسطينية وفي ظل سياسة تهجير واقتلاع وفي ظل ضعف عام في الوضع العربي أمام صراع القوى: إسرائيل وإيران وتركيا وقوى سياسية وشعبية في جنوب لبنان والأراضي المحتلة.
© منبر الحرية، 09 مارس/آذار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

أكد تقرير صدر في 3 مارس 2010 عن مؤسسة “البيت الحر” أن حقوق المرأة حققت بعض التقدم في خمسة عشر دولة من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وخاصة في كل من دول الكويت والجزائر والأردن، في حين عرفت تراجعا ملحوظا في كل من العراق واليمن والأراضي الفلسطينية وأيضا السعودية.
وتبقى المرأة في تونس هي الأكثر تمتعا بالحريات والحقوق مقارنة مع باقي دول العالم العربي والدول الإسلامية، وتليها كل من دول المغرب والجزائر وأيضا لبنان.
وتعد سنة 2009 سنة متميزة بالنسبة للمرأة الكويتية، حيث استطاعت خلالها أن تحصل على بعض الحقوق السياسية التي مكنتها لأول مرة من خوض غمار السياسة، وهو ما نتج عنه فوز 4 نساء بمقاعد في البرلمان.
وضعية لا تعرفها باقي دول الخليج وخاصة بدول الإمارات العربية المتحدة وقطر وسلطة عمان. فرغم محاولات الإصلاح (المتواضعة) لمنظومة وحقوق المرأة في هذه البلدان، إلا أن التمييز النوعي لازال يلقي بظلاله على كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يجعل مسألة تحسين وضعية المرأة مطلبا ملحا وخاصة في السعودية التي لا تتوفر داخلها المرأة على أبسط حقوق مثيلاتها بالعالم العربي كالحق في السياقة مثلا.
وفي الجزائر والتي كان للمرأة دائما دور فعال في تاريخها منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا، لم يعط قانون الأسرة لسنة 1984 المرأة الحقوق المرجوة، حيث جعل من المرأة مجرد حارسة للنسب والتقاليد وليس فردا له استقلاليته. وبقي الوضع كذلك إلى غاية 2005، حيث أدخلت تغييرات إيجابية على قانون الأسرة خاصة فيما يتعلق بالطلاق والمسكن وتقليص دور ولي المرأة إلى دور رمزي، كما أصبح بإمكان المرأة منح أبنائها من زوج أجنبي جنسيتها الجزائرية.
واستمر التطور الايجابي بعد هذا التاريخ خاصة مع التعديل الدستوري لسنة 2008، والذي اقر بالدور السياسي للمرأة الجزائرية، غير أنه لازالت هناك سمات داخل المجتمع الجزائري تعارض تحرير المرأة، ولا تزال هناك انقسامات واضحة بين العلمانيين وبين الداعيين لحياة أكثر تدينا، وهو ما يشكل عائقا أمام مزيد من التطور في مستوى حقوق المرأة الجزائرية.
وتعرف مصر بدورها سيادة النزعة المحافظة والتي قوضت قدرة المرأة على ترجمة  حقوقها القانونية إلى حقائق معاشة، ومع ذلك فقد استطاعت تحقيق قفزات كبيرة خلال العقد الماضي، وشهد تشريع الأحوال الشخصية إصلاحات مهمة لاسيما في ما يتعلق بعناصره الإجرائية، حيث أزيلت الموانع القانونية التي كانت تحول دون منح المرأة إمكانية مساوية للرجل في اللجوء إلى القضاء، كما تمت الاستجابة سنة 2004 لأحد المطالب الرئيسة للحركة المطالبة بالدفاع عن حقوق المرأة تم بموجبها إعطاء المرأة الحق في منح أبنائها من زوج أجنبي الجنسية المصرية، كما حصلت على مكاسب كبيرة خلال سنة 2008 أبرزها السماح للمجلس الأعلى بالقضاء بتعيين امرأة قاضية، والمساواة بين الجنسين في تحديد السن الأدنى للزواج في 18 سنة، وتجريم ختان الإناث.
و رغم هذه الإصلاحات فإن التمييز بين الجنسين لازال منتشرا، ولازال قانون العقوبات يقر عقوبات مخففة على الرجال في جرائم الشرف، ويميز في عقوبة جريمة الزنا حسب الجنس، كما لا تتمتع المرأة في مصر بحق مساوي في الإرث لحقوق الرجل، وعلى المستوى السياسي لا تزال المرأة المصرية ممثلة تمثيلا ناقصا، في ظل ظروف سياسية تعرف هيمنة الحزب. كما يعوق حق المرأة في المشاركة في الانتخابات اعتمادها على الرجل اقتصاديا واجتماعيا، استمرار تفشي العقلية الذكورية والثقافة الأبوية التي لا تثق بالقدرات القيادية للمرأة.
أما في إيران فقد عرفت حقوق المرأة تغيرات عديدة بتغير التاريخ السياسي للدولة منذ الثورة الإسلامية لأية الله الخميني، ومع أن المرأة شاركت بقوة خلال هذه الثورة إلا أن ذلك انعكس سلبا على حقوقها وحرياتها الشخصية، حيث ألغيت الإصلاحات التقدمية القليلة التي أنجزت في عهد الشاه، ولم تظهر ملامح التغيير إلا في عهد الرئيس علي اكبر هاشمي رفسنجاني بتعيينه لمستشارة للرئيس لقضايا المرأة، وستتزايد المشاركة الاجتماعية والسياسية للمرأة مع الرئيس محمد خاتمي، خاصة بعد تخفيف القيود على الحريات الشخصية، غير أن انتخاب محمود نجاد أعلن عن عودة المتشددين للسلطة سنة 2005، وتأثر الوضع العام للمرأة نتيجة لعودة القيود السياسية والاجتماعية على لباس المرأة وحرية التجمع والعمل الثقافي والإبداعي، مع أن المرأة ستظهر بشكل قوي في الاحتجاجات ضد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث ستظهر النساء  بأعداد كبيرة خلال المظاهرات، وهو ما يبرز بشكل مثير الصدام في مجتمع يتغير وحكومة تقمع ولا تعترف للمرأة بالأهلية الكاملة.
وغير بعيد عن إيران فالعراق عرفت منذ مطلع القرن الماضي الدفاع عن حقوق المرأة ومنح حزب البعث الحاكم حقوقا واسعة للنساء، ومنع التمييز القائم على أساس النوع، وحصلت المرأة العراقية على حق التصويت لأول مرة سنة 1980 في عهد صدام حسين، وكان للحروب التي ستعرفها المنطقة الأثر الكبير على بنية المجتمع العراقي حيث أدى نقص نسبة الذكور الذين قضوا في الحروب إلى أن أصبحت المرأة أكثر انفتاحا على مجال الشغل وشغلت مناصب عدة، غير أن التعديلات التي أدخلت على الدستور العراقي أضرت بوضعية المرأة حيث منحت حقوقا واسعة للرجل كالتخفيف من عقوبة جرائم الشرف. وبعد الغزو العراقي وبينما كان مجلس الحكم العراقي يضع مسودة الدستور طالب المدافعون عن حقوق المرأة بحصة مهمة في البرلمان بلغت نسبة 40 % ، ولكنهم لم يحصلوا إلا على 25%، غير أن وضع حقوق المرأة في العراق في ظل الظروف الأمنية والسياسية الغير المستقرة يبقى في غير صالح المرأة التي لم تتمكن من المطالبة بحقوقها كمثيلتها في دول العالم العربي والاسلامي.
واستطاعت المرأة بالأردن ما بين سنوات 2004 و2009 أن تحقق مكاسب هامة، ومن أبرزها نشر اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والتي منحتها قوة قانونية، كما اتخذت الحكومة الأردنية خطوات هامة لمعالجة العنف الأسري، ومع أن المرأة الأردنية تتمتع اليوم بحقوق قانونية مهمة، إلا أنها مازالت تعاني من وجود بعض التشريعات التمييزية مثل قانون الجنسية الذي يمنعها من منح أبنائها وزوجها جنسيتها، كما منعت المعيقات القانونية والاجتماعية المرأة من تحصيل حقوقها في مجال التوظيف والتملك العقاري، وتحقيق الاستقلال المالي. أما على المستوى السياسي فيلاحظ أن المرأة الأردنية استطاعت خلال السنوات الخمس الأخيرة أن تتقلد مناصب حكومية عالية ، ومع ذلك فالمرأة الأردنية مازالت مطالبة بالدفاع أكثر عن حقوقها في ظل مجتمع ذكوري يؤمن بجرائم الشرف وبعدم أهلية المرأة.
وفي اصغر البلدان العربية لبنان، نجد أن حركة حقوق المرأة نشأت  منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومع توالي الأحداث التاريخية بعد استقلال لبنان، استطاعت المرأة أن تقوم بدور اجتماعي مهم خلال فترة الحروب، واستطاعت أن تحصل على بعض الحقوق خاصة بعد أن صادق لبنان سنة 1997 على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، غير أن التقدم في قضايا المرأة ظل في حده الأدنى، وبقيت معظم السياسات والقوانين اللبنانية تمييزية، فالمرأة اللبنانية لا تستطيع إعطاء جنسيتها لزوجها وأبنائها، كما أن هناك تمييز في عقوبة جرائم الشرف والزنا، ولقد سعت مجموعة من المطالبات بحقوق المرأة إلى الضغط على الحكومة من اجل إدخال تعديلات على قانون العقوبات ، غير أن عدم الاستقرار السياسي بالمنطقة حال دون تحقيق هذه الأمور إلى يومنا هذا.
ويرتبط وضع المرأة بالمناخ السياسي والاقتصادي  بليبيا التي عاشت عزلة نسبية خلال فترة الثمانينات والتسعينات، بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها بعد قضية لوكربي، ومع أن الكتاب الأخضر يمنح للقذافي القيادة الكاملة لجهاز الدولة، إلا أنه عمل في مسعاه لإصلاح المجتمع على تعزيز وضعية المرأة، وتشجيعها على المشاركة في مشروع الجماهيرية، وحث المرأة على الدخول إلى ميادين العمل والتعليم، وباتت المرأة في ليبيا أكثر قدرة على المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد، غير أن جهود الرئيس الليبي ستصطدم مع تقاليد المجتمع المحافظ للغاية والذي عارض ما أسماه بالقيم الليبرالية. كما ستصطدم جهود النساء مع الدستور الذي يجرم تكوين منظمات وجمعيات أيا كان نوعها، وهو ما جعل من تعزيز حقوق المرأة يبقى متواضعا بليبيا.
وتعود جذور الحركة النسائية بالمغرب إلى سنة 1946، عندما تقدمت جمعية أخوات الصفا بمجموعة من المطالب، كإلغاء تعدد الزوجات وإعطاء حقوق سياسية للمرأة مساوية للرجل، وقد ألهمت هذه المطالب العديد من ناشطات ما بعد الاستقلال، غير أن وضعية المرأة ستعرف ركودا استمر إلى غاية 2004، والتي تم خلالها الاعتماد النهائي لمدونة الأسرة التي أعطت حقوقا واسعة للمرأة المغربية، كالحق في تقرير مصيرها في الولاية وحق طلب الطلاق، واستمرت مكاسب المرأة المغربية بعد ذلك، حيث تقلدت أعلى المناصب السياسية في الحكومة الأخيرة التي عرفت تعيين خمس وزيرات في قطاعات مختلفة، و مع أن هذه التحولات اصطدمت ببعض الفئات داخل المجتمع كالمناطق الريفية، إلا أن تحالف جمعيات حقوق المرأة والحكومة تمكن من تحسين حقوق النساء بالرغم من أن المساواة الحقيقية لا تزال بعيدة المنال.
ولسوريا أيضا تاريخ طويل نسبيا لتحرر المرأة، ابتدأ مع سنوات  الكفاح من أجل الاستقلال، غير أن تولي حزب البعث للسلطة مع انقلاب عام 1963، وفرض حالة الطوارئ، قاد إلى فرض قيود شديدة على حرية التعبير وتكوين جمعيات، ومع أن حزب البعث بذل بعض الجهود على مستوى تحسين حقوق المرأة، إلا أن هذه الإصلاحات كانت محدودة للغاية، حيث أن تمثيل المرأة في القضاء مثلا يبقى ضعيفا، وعلى غرار سابقتها من الدول العربية فإن القيم الأبوية والنظام السياسي التسلطي الذي لا يسمح بإنشاء جمعيات ومنظمات وقف أمام عدم تحسن وضعية المرأة السورية، واستمرت الانتهاكات الأسرية والاجتماعية ضدها.
وحسب تقرير فريدم هاوس دائما فإن الدول التي سجلت أكبر نسبة تراجع على مستوى حقوق المرأة أي العراق واليمن وفلسطين، هي دول تعيش أوضاع أمنية غير مستقرة، وخاصة الحروب وعدم الاستقرار الأمني، وهو ما أدى إلى تصاعد مستوى العنف ضد النساء، وجعل من الصعب تحسن وضعية المرأة في ظل هذه الظروف.
وبالمقابل فحتى الدول التي عرفت تقدما وإصلاحات ملموسة لتعزيز مكانة المرأة داخل المجتمع، لازالت في حاجة إلى مزيد من العمل والجهد لتحصيل مكاسب أكبر على غرار مثيلاتها بالدول المتقدمة.
© منبر الحرية، 08 مارس/آذار 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

تبدو قضية الحرية قضية محورية في رحلة الفكر العربي، وخاصة مع حالة التخلف المزمن في المجتمعات العربية, ونبدأ في القرن التاسع عشر، فنتيجة لنمو القوة الأوروبية وازدياد أثرها، اضطرت الدولة العثمانية أن تبذل عدة محاولات لتصلح نفسها من الداخل حتى تستطيع أن تقاوم الخطر الأوروبى الذي يهدد كيانها، وقد أدت هذه الحالة إلى اهتمام جديد بالأفكار والنظريات التي تكمن في المجتمعات الأوروبية، وكانت في نظر المجتمعات العربية سر قوة أوروبا، ولذلك حاولت هذه المجتمعات أن تقتبسها وتخضعها لظروفها. واتجه الفكر العربي المستيقظ إزاء ذلك اتجاهين: اتجاه مرتبط بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا. وهذا الاتجاه  كان يهدف إلى تعريف جديد لمبادئ الإسلام الاجتماعية. أما الاتجاه الثاني فكان يرمى إلى فصل الدين عن السياسة وخلق مجتمع مدني مماثل للمجتمعات الأوروبية، ولا أثر للإسلام فيه إلا بوصفه عقيدة دينية .
وهذين الاتجاهين مع أنهما يبدوان متعاكسين إلا أنهما كثيرا ما تلاقيا في أذهان المفكرين العرب ومصلحيهم. بدليل أن القوميات العربية والمصرية في القرن العشرين تكونت من هذين العنصرين. و قد آلت هذه القوميات التي تبلورت في النصف الأول  من القرن العشرين إلى النظريات السائدة في العالم العربي إلى الآن.
وكانت الحملة الفرنسية على مصر  عام 1789 هي الاتصال  الأول بين الأوروبيين وشعوب الدولة العثمانية نتيجة للحملة الفرنسية من جهة، ومن جهة أخرى لإنشاء مدارس عسكرية في الدولة العثمانية وولاياتها مستعينة بالأساتذة الأوروبيين، ومن الضروري بيان  مواجهة  الجيل الأول من المفكرين العرب لمشكلة تأثير أوروبا في النظم الفكرية والاجتماعية للمجتمعات الإسلامية. ويمكن أن نختار من هذا  الجيل ثلاث شخصيات بارزة هي: رفاعة الطهطاوي في مصر وخير الدين باشا حسيب  في تونس  وبطرس البستاني في لبنان . وكل هؤلاء كانوا ينتمون  إلى هؤلاء المفكرين الذين  بدأت فكرة الإصلاح تشغل أذهانهم في منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن هذه الفكرة كانت تثير التساؤل عن ماهية المجتمع الصالح، والناموس الذي يجب إتباعه في الإصلاح المنشود، وهل يمكن استخلاصه من الشريعة الإسلامية أو يجب أن يستمد من تعاليم أوروبا وتطبيقاتها، وهل هناك تناقض بين هذه الشريعة وتلك التعاليم، وإذا كان هناك تناقض فما هو الواجب إتباعه حيال هذا ؟
ففي كتابات الطهطاوي نجد أفكارا جديدة بالنسبة للعصر  -آنذاك-، ثم أصبحت مألوفة للأجيال التالية. من هذه الأفكار انه يوجد في داخل الأمة الإسلامية مجتمعات قومية يدين لها رعاياها بالولاء، ومنها أن الغرض من الحكم  هو خير الإنسان في الدنيا والآخرة، وان خيره في الدنيا يتطلب خلق حضارة مدنية، وان هذه الحضارة متبلورة في أوروبا الحديثة وفرنسا بصفة خاصة، وأن سر القوة والعظمة في أوروبا هو تنميتها لأنواع الفنون والعلوم .
ومع أن المسلمين كانوا قد عالجوا هذه العلوم والفنون إلا أنهم أهملوها تحت سيطرة المماليك والأتراك، وبذلك تأخروا، غير أن الفرصة لا تزال سانحة أمامهم إذا اقتبسوا علوم أوروبا وانتفعوا بثمارها. وكان رفاعة الطهطاوي ( 1801-1873 ) هو الذي نوه قبل غيره بفكرة الحرية، ووحد بينها وبين مفهوم”  العدل والإنصاف ” في التراث الإسلامي، ثم اعتبرها شرطا لتقدم الأمة وتمدنها. وبذلك خلق الطهطاوى مشكلة التوفيق بين القوانين الشرعية المنزلة وبين القوانين الوضعية والقواعد المنطقية التي تستند إليها الحضارة الحديثة، وكيف نجمع بين الولاء للأمة الإسلامية عامة والمجتمعات القومية الخاصة في داخلها .
وقد سيطرت هذه الحيرة أيضا على خير الدين باشا في تونس، ففي كتابه “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ” تونس 1284-1285ه” ينظر إلى تقدم أوروبا، ويؤكد أن سره لا يكمن في كونه مسيحيا، إذ المسيحية  هي دين يرمى إلى السعادة في الآخرة لا في الدنيا،  فلا خوف على المسلمين أن يتأثروا بالديانة المسيحية إذا اعتنقوا الحضارة الأوروبية .
ويرى خير الدين باشا أن أركان الحضارة الأوروبية هي مسئولية الوزارة أمام الأمة، ووجود نظام نيابي، وحرية الصحافة، وهذه الأركان الثلاثة لها صدى في صميم النظم الإسلامية، فليس النواب سوى العلماء والأعيان، أي أهل الحل والعقد في الدولة الإسلامية. وليس الوزير المسؤول إلا الوزير الصالح في الإسلام، الذي يبذل النصيحة من غير خوف ولا تحيز. وما الحكم النيابي وحرية الصحافة إلا نظام يقابل مبدأ الشورى في الإسلام. فاعتناق النظم الأوروبية، في نظره تنفيذ لروح الشريعة الإسلامية وأغراضها. ويبرر آراءه هذه بالاستناد إلى مبدأ “المصلحة لابن قيم الجوزية “. و هكذا يقرن خير الدين التونسي (1825-1889 ) الحرية بجملة من الحقوق المتعلقة بها، فينوه بالحرية الشخصية وبالحرية السياسية ومشاركة الرعايا في إدارة شئون الدولة وكذلك بحرية “المطبعة ” أي حرية الرأي والكتابة والنشر التي تعدل عنده المبدأ الإسلامي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويبدو من كل هذا أن المشكلة الأولى التي واجهها الطهطاوي وخير الدين  حسيب هي تبرير إدخال المسلمين في العالم الحديث مع احتفاظهم بمبادئهم الإسلامية.
وبعد ذلك الرعيل الأول وقناعتهم الكاملة بالحرية كسبيل للتقدم جاء رائدان للفكرة العربية هما: السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ومثلا بذلك رحلة جديدة نحو الحرية في العالمين العربي والإسلامي.
© منبر الحرية، 01 مارس/آذار 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

عند مراجعة  عدد من كتب التراث تطالع الباحث باستمرار أحاديث وسير وروايات غير قليلة تتناول أهمية النقد وضرورة حساب الذات والنفس قبل حساب الواقع والحياة.. وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر من تلك الأحاديث: “ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم.. “.
إنَّ دراسة هذا النص تجعلنا نلقي الضوء على نظرة بعض رموز الإسلاميين المنفتحين والمتنورين لقضية المحاسبة والنقد الفكري، وذلك من خلال التأكيد على ضرورة تعميق الروح النقدية في مفاصل اجتماعنا السياسي والمدني الحالي، وإعلاء كلمة العقل، وترسيخ مبدأ العقلانية الواقعية، والعمل على إيجاد تربته المناسبة. وذلك من أجل الكشف عن حقيقة أزمات الواقع المعاصر الذي نحياه ونعايشه بإيجابياته وسلبياته، وتحليل ظروفه وأحواله المختلفة، وأخذ العبر والدروس منه، بحيث يقودنا ذلك إلى ضرورة تجديد الروح الإسلامية والعقل الإسلامي، والانفتاح على العالم والحياة، واعتماد مبدأ الاجتهاد والتجديد والروح العلمية المجردة، والرؤية الموضوعية للذات والإنسان وللعالم بشكل دائم.
وقد يظن البعض أن هذا الحديث محصور بالجانب العاطفي الوجداني (النفسي) من حياة الإنسان، لأنه يحضه على ضرورة التزام النقد والمحاسبة على صعيده الذاتي فقط، ولكن المسألة هنا هي أنَّ ذاتية الإنسان غير منفصلة بالمطلق عن خارجيته، إذ إننا نجد أن حركة الإنسان وفعالياته ونشاطاته مرهونة ومعلولة بمعظمها لطبيعة تصوره ومفهومه عن الحياة والوجود كله، مما يعني أن وعي الإنسان وإدراكه لواقعه الخارجي هو -في الإجمال- وعيٌ لذاته، وإدراكٌ لمفاهيمه ولأفكاره وتكيفٌ مع الواقع الخارجي.. وإلا فإنه سيصبح عاجزاً تماماً عن السير من حالة إلى أخرى أكثر تطوراً وكمالاً في حركة الحياة.. وربما يكون مصيره الانقراض الوجودي –إذا جاز التعبير- عندما يعجز عن تلبية احتياجات التطور الكوني والوجودي المستمر والمتواصل.
من هنا بالذات كان اهتمام وتركيز الإسلام –كدين مدرحي (مادي، روحي)- منصباً على فكرة التربية، أي الحض على ممارسة الفرد لمختلف أساليب وطرائق الإعداد الروحي والبناء الأخلاقي المتين، وتوعيته على حقائق الحياة والوجود، كجزء أساسي من مسيرته التكاملية نحو تمثل قيم العدل والتوازن والمساواة في السياسة والاجتماع والاقتصاد و.. الخ.
وقد استفاض العلماء والمفكرون في الشرح والحديث عن أهمية بناء النفس وتنمية الروح (والأخلاق المعنوية الذاتية) كمقدمة وأساس لبناء وتنمية الواقع الخارجي، ليكون بالتالي تغيير ما بالنفس هو الأساس لتغيير ما بالواقع.
ومن هنا جاء تركيز الإسلام على ضرورة تعميق منهج وخط الإعداد الروحي عند الإنسان المسلم (الجهاد الأكبر) ليكون ذلك مقدمة لازمة حيوية لتغيير الحياة والواقع في الاتجاه الذي يحقق كرامة الإنسان وعدالة الحياة والوجود.
ولعل من أبرز تجليات هذا التوجه في طبيعة العمل التغييري الخارجي هو في سلوك وممارسة حق النقد والرفض والمعارضة العلنية والتدخل، والأمر بالمعروف (والمعروف هنا يشتمل على كل معاني الخير والنفع العام)، ومعارضة السلطة الظالمة، ومواجهة السلطان الجائر والفاسد.
وهذه من الواجبات الأساسية التي يجب –على المثقفين ودعاة الدين المنفتحين- العمل على تعزيزها وتركيزها في واقع الأمة من أجل فصم عرى مشروع الدولة الشمولية وسلطتها المستقلة والمنفصلة عن المجتمع والأمة. ونعني بالدولة “الشمولية” هنا، الدولة المشخصنة التي تقوم على نفي حرية الفرد، ومصادرة وجود الناس، ورهن إرادتهم لها، وإلغاء أي دور لأفراد المجتمع في تداول السلطة، وعدم اعتبار الأمة مصدراً للحكم والسلطة، مما يفقد هذه السلطة شرعية الوجود في الوجدان المجتمعي الشعبي.
إن السلطة القائمة (أية سلطة) لا تصبح شرعية في وجودها وعملها (وتحظى برضا الأمة والشعب) إلا عندما تقوم على احترام حق المجتمع في معارضة توجهاتها المختلفة، ونقد سياساتها العملية، بحيث يكون هذا الحق سلطة قانونية موازية لسلطة الدولة نفسها.
ويبدو لنا أنَّ سيطرة العقلية القبلية على قطاعات واسعة من أجهزة الحكم السياسي العربي والإسلامي بكل أجوائه وامتداداته، تشكل إحدى أهم المسببات الرئيسية لأزمات واقعنا المتلاحقة التي تكبله وتمنعه من الانطلاق نحو مواقع العمل والإنتاج، وترهن وجوده لصالح نزعات طغيانية ذاتية ليس لأصحابها من هم سوى تكريس مصالحهم وأهوائهم، على حساب الدولة والأمة كله.
وقد أدى استمرار وجود ظاهرة الاستبداد والطغيان في عالمنا العربي والإسلامي، إلى بناء حداثة عربية مشوهة ورثة، قامت على شراء منتجات الغرب من دون أن يعي ويستوعب ويتمثل أصحابها ودعاتها معنى الثقافة والفلسفة التي أنتجتها وأبدعتها، فكانت النتيجة أننا نعايش حالياً ازدواجية وتناقضات فكرية وعملية صارخة إزاء فكرة الحداثة والتنوير والتنمية وكل ما يتصل بها من مفردات وصيغ ونتاجات فكرية ومادية.
ولذلك ليس هناك من أمل للخروج من هذه الأزمة العميقة (وحداثتها المزيفة الكسيحة) إلا بتوجيه سهام النقد الموضوعي إلى الجذور النفسية والفكرية التي أنتجت وولدت هذه الحداثة، وتهيئة شروط جديدة لتجاوزها، والخروج من أخطارها العقيمة.
وحتى تسترجع مجتمعاتنا صدقيتها الداخلية والخارجية –على صعيد بناء وجودها العملي الفاعل والمؤثر- ليس لها من سبيل سوى ارتفاع نخبها الفكرية والسياسية إلى مستوى المرحلة والتحديات الكونية الهائلة، واستعادتها لمعاني المسؤولية الوطنية، وإظهار قدرتها على إحداث تغيير حقيقي جذري في أساليب الحكم والإدارة وفي نوعية السياسات والاستراتيجيات (التي سبق أن رسمت في ظروف ومواقع وأدوار مختلفة كلياً عن الراهن والتي قادتنا جميعاً إلى حالة انسداد الآفاق، وتفجر الأزمات) والعودة إلى اعتماد طريق الإدارة الحديثة القائمة على معايير الكفاءة والنزاهة والقانون والنقد الموضوعي وتكافؤ الفرص، بدل معايير الزبونية والمحسوبية والعلاقات ما قبل وطنية.
© منبر الحرية، 24 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

انصبت معظم كتابات المثقفين العلمانيين والإسلاميين التنويريين العرب, في العقد الأخير من القرن المنصرم وما مضى من هذا القرن, على ضرورة إصلاح النظام الرسمي العربي, بما من شأنه النهوض بالمجتمعات العربية أفراداً وجماعات, اعتقاداً منهم بإمكان إصلاح النظام العربي من داخله.
وثمة فئة من المثقفين العرب, قد تكون نسبتها قليلة غير أنها شكلت تياراً وإن كان حضوره ما يزال خجولاً, لا تؤمن بإمكان أي إصلاح في هكذا أنظمة, وبالرغم من قناعتها تلك ترفض رفضاً قاطعاً تدخل الخارج (الغرب تحديداً) في قضاياها الداخلية, لاعتقادها بأن أي تدخل خارجي في قضايا الداخل سيترك آثاراً كارثية في بنية المجتمع العربي سيكون من الصعب عليه الشفاء منها.
ويوجد صنف آخر من المثقفين, ونسبته تكاد تكون نادرة (ندرت نسبتها كثيراً بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين). وهذا الصنف النادر لا يؤمن بإمكان إصلاح النظام العربي ويطلب في الوقت نفسه, سرّاً وعلانية, تدخل الخارج. وفي الحالات كافة نجد أن الأصوات المنتمية إلى هذا الصنف خفتت جداً.
وأياً يكن الأمر, دعونا نتأمل وجهة النظر الثانية التي سقناها في مطلع مقالنا, والكائنة بعدم الإيمان بإمكان الإصلاح من الداخل, لنجد أنها تنطوي هي الأخرى على صوابية وواقعية شأنها شأن وجهة نظر المفكر العروي. إذ ينطلق أصحاب هذا التيار من عدة مسلمات هي صحيحة في مجملها, منها على سبيل المثال لا الحصر, أن الإصلاح ينطوي آلياً على نشر ثقافة ديمقراطية, وهذا غير متوفر حالياً في البنية التحتية العربية, ولا يبدو أن ثمة مصلحة للبنية الفوقية(الأنظمة) بوجود “آفة” الديمقراطية ونشرها في مجتمعاتها الديمقراطية بما فيها من ثقافة قبول للآخر المختلف لوناً وعرقاً وجنساً وديناً.. الخ, وبما فيها من تداول سلمي للسلطة, وبما فيها من انتصار لمفهوم المواطن المصونة كرامته وحقوقه بموجب قانون وضعي (لا الهي أو سماوي) يتفق عليه الجميع ويقف على مسافة واحدة من الجميع, ويكون فوق الجميع. وهذا كله ليس فقط غير متوفر في الشارع العربي, بل لا مصلحة للأنظمة العربية في توفره أو إيجاده ولا حتى تسهيل الفرص لإيجاده! هذا من جانب. ومن جانب آخر, لا نكون قد فضحنا سرّاً إذا ما قلنا إن الأنظمة العربية تنظر إلى السلطة باعتبارها غنيمة وليس باعتبارها مسؤولية أخلاقية واجتماعية ووطنية!.
النظرة القاصرة للأنظمة العربية إلى مفهوم السلطة باعتبارها امتيازاً ومكسباً(غنيمة) لا أكثر, يقابله تراثياً قول الفقيه الإسلامي ابن تيمية: “الطاعة لذي الغلبة”, ومعلوم أن الغلبة في المجتمع العربي هي للأنظمة كونها تملك مصادر القوة التي لا توفر استخدامها لسحق المجتمع إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك, أي إذا ما بدر أي تهديد لهذا النظام أو ذاك من داخل المجتمع.
وحقيقة ثمة مفارقات عدة في النظام العربي لا بأس من ذكر بعضها هنا, فمثلاً, يوجد وزارات للعدل وأخرى للدفاع, بيد أن لا عمل حقيقي لديها, فالجيوش العربية موجهة لقمع الداخل أكثر مما هي منوطة بحماية الأوطان, ووزارات الدفاع العربية شاركت في حروب عربية- عربية أضعاف ما ساهمت بحروب عربية- إسرائيلية!. ولا وجود  لفصل بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية, بهذا المعنى أن السلطة القضائية هي عبارة عن أداة مطواعة بيد السلطة التنفيذية! وفي ختام الأمر, السلطات الثلاث هي بيد الحاكم الفرد الذي يجمع السلطات كافة, ويتجاوز دساتيرها وقوانينها إذا ما تطلب الأمر, وليس بإمكان أحد مساءلته أو محاسبته!.
ما سبق ذكره, يعرفه جيداً أصحاب التيار اليائس من الإصلاح, أو ليس الإصلاح -أي إصلاح- هو الضد الطبيعي لهكذا أنظمة؟ ومع ذلك هو تيار يرفض تدخل الخارج, لمعرفته المسبقة بأن ضريبة ذلك التدخل ستكون باهظة, هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى لقناعتهم الراسخة بأن الخارج ليس صادقاً في مزاعمه, وما يبحث عنه هو ديمومة مصالحه فقط, ووجود هكذا أنظمة(أو ما هو أكثر سوءاً منها) هو ما يناسبه. لذا فإن أصحاب هذا التيار يراهنون على سقوط النظام العربي الرسمي بفعل عوامل الاهتراء الذاتي, الناجمة عن حالة الخواء التي “ينعمُ” بالعيش فيها.
وإذا كان من الصحيح بمكان القول إن النظام العربي يعيش حالة خواء واهتراء حقيقيين لا مجازيين, غير انه من الصحيح القول أيضاً إن الحالة ذاتها تعيشها البنية التحتية للمجتمع العربي برمته, ومن هنا كان يأس عبد الله العروي, وإعلانه خروج العرب من التاريخ.
انطلاقاً مما سبق, قد تبدو الصورة شديدة السواد, وهي كذلك فعلاً. إذاً, ما العمل؟ يقيناً, قبل الشروع في الجواب عن السؤال, يتوجب علينا البحث في أسباب حالة الاهتراء في البنيتين(الفوقية والتحتية) العربيتين, وهذا ما لا يتسع له هذا المقال.
تجدر الإشارة, إلى أن بعض النظم العربية, ومن بعد أن وجد أن ضريبة إلغاء المجتمع واستفحال الفساد بكل معانيه في مفاصل النظام وبنية المجتمع كانت باهظة, وهذا كله من شأنه أن يهدد استمرارية هكذا أنظمة, فقد بادر إلى رفع شعار الإصلاح بما من شأنه امتصاص بعض نقمة الداخل, وبما يوفر له استمرارية البقاء, لكن إطلاقاً ليس انطلاقاً بما من شأنه النهوض بهذا الواقع المتردي.
© منبر الحرية، 22 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لكل إنسان الحق في حرية التفكير والتعبير ، وله الحق في العيش بكرامة واحترام، لا يكمم فمه، ولا توضع أمامه القيود والعراقيل لكبح طاقاته أو الحد من أنشطته وتحركاته ، لا يظلم ولا يُظلم ، لا يسفه ولا يُسفه ، لا يعتدي ولا يعتدى عليه ، هذا ما جاءت به الشرائع السماوية واتفقت عليه جملة وتفصيلا ، وهذا ما أقرته القوانين الأرضية والمواثيق الدولية ، وهذا ما حثت على تطبيقه اتفاقيات ومعاهدات تاريخية  ودعت إلى الالتزام به منظمات وهيآت وجمعيات دولية وقطرية .
لكن وفي شيء قد يسمى عبثا بالوطن ، وفي بلد يرقص مسؤولوه على أنشودة ” منبت الأحرار ، مشرق الأنوار ” ، لا يمكن لأي باحث عن الحرية في معانيها النبيلة وغاياتها السامية إلا أن يقف مصدوما من هول ما سيرى ويسمع في دولة يدعي الممسكون بزمام قراراتها بأنها دولة حق وقانون ، ولا يمكن لهذا الباحث في نهاية المطاف إلا أن يصلي صلاة الجنازة ويقيم حدادا دائما  على حرية تم تنكيس أعلامها ومحو ما تبقى لها من آثار جميلة من قبل حماة ودعاة العهد الجديد.
قد يختلف معنا في هذا الطرح ثلة من المتفائلين بمسيرة مغرب ما بعد الحسن الثاني ، وقد لا يتفق وإيانا كثير من الساسة حول هذه النظرة الخاصة بالحرية في مملكة محمد السادس ، وقد نوصف بأننا عدميون من أتباع التشاؤم الهدام ، وقد ننعت بأننا متسرعون في إصدار الأحكام ، وقد نتهم بأننا نطلق الكلام على عواهنه دون الإتيان بأدلة وحجج تزكي وجوب الحداد في وطننا . لكن من ينظر بحياد في واقعنا المعاش سيجد لا محالة أن الحرية في هذا البلد أضحت معجزة من المعجزات لا يتمتع بها إلا من أوتي جوامع القربى وروابط الصلة بمحيط ومراكز صنع القرار ، وتقييم أبسط لمظاهر وصور الحريات بصفة عامة خلال عشرية العهد الجديد يزكي هذا الأمر ، فإذا أخذنا حرية التعبير ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ و تأملنا في كيفية تعامل السلطات معها في هذا العهد لما كفتنا في رصد وتعداد الخروقات المسجلة بهذا الخصوص كتب ومجلدات ، ذلك أن المنظرين لهذا العهد عمدوا وبعقلية ناسخة للماضي إلى تكميم الأفواه المعارضة لهم بأساليب وحشية ، فطوروا لهذا الغرض آليات سنوات الرصاص ،واستغلوا في هذا التطوير مؤسسات وسلطات قمعية حولت كل مواطن يعبر عما يعتريه ويخالجه بطريقة من الطرق التعبيرية السلمية، والتي لا تتوافق ومشاريعهم الذاتية إلى متهم يبحث لنفسه عن براءة مفقودة لا تمنح له إلا بعد التوقيع على جملة محاضر تلزمه بعدم التفكير في التعبير وتجبره على عدم التعبير عن التفكير . وهكذا سمعنا طيلة عشر سنوات عن مواطنين يختطفون آناء الليل وأطراف النهار ويعذبون في مخافر ومعتقلات لأنهم حاولوا التغريد خارج سرب ” المنظرين ” وبحثوا بحق عن حرية حقيقية تخول لهم العيش بكرامة وتبعدهم عن وطن تمتهن فيه الآدمية وتبخس على أراضيه كل الحقوق ، ولا زلنا لحدود اليوم نسمع عن صحفيين ومدونين ومفكرين وباحثين ونشطاء حقوقيين وسياسيين يلقون خلف قضبان سجون احتقارية بتهم لا يستسيغها عقل ولا يقبلها حر حتى يكونوا عبرة لغيرهم ممن سولت لهم أنفسهم الاستعانة بالألسنة والأقلام وأدوات التكنولوجيا الحديثة، للتعبير عن ذاتهم ومجتمعهم وإيصال أصواتهم إلى أبعد الحدود . والنتيجة بطبيعة الحال استمرار للماضي الأسود فينا ، وإتلاف لما تبقى من حروف الديمقراطية ، وتوزيع للحرية على حسب المقاسات ، وزرع للخطوط الحمراء على كل الجهات ، وتربص دائم بكل من يجعل من اللاءات سلاحا له في المناسبات النضالية والمواسم الاحتجاجية .
حين تمسي الحرية في الوطن مكرمة ويصبح التمتع بها معجزة ، وحين يكون القمع سنة ومنهاجا ، وحين يصبح التعبير عن الرأي جرما عظيما يذيق صاحبه سوء العذاب ، لا يمكن لهذا الوطن إلا أن يكون مقبرة للأحياء . وحين تغلق مقرات الصحف والجرائد ويرابط على أبوابها عسكر مدجج بالسلاح لمجرد أن صحفييها حرروا تحقيقات أو تقارير تنتقد الوضع السوداوي القاتم أو نشروا على صفحاتهم رسوما كاريكاتيرية ساخرة أو آراء لاذعة تكشف بجرأة عن المستور وتفضح المخفي، فلا يمكن لوطن كهذا أن يعيش فيه المواطن إلا غريبا وبائسا ومتشائما . وحين تحجب المواقع والمدونات الالكترونية وتصادر حواسيب أربابها وأصحابها قبل أن تتحول إلى صكوك اتهامات غريبة تجرجرهم في محاكم تدينهم دون النظر في ملفاتهم لمجرد إيمانهم بالحرية وتصديقهم لشعارات رفعها ويرفعها منظرو العهد الجديد ، فلا يمكن لوطن هذه أحواله إلا أن يتشح مواطنوه بالسواد ويعلنون الحداد على الحرية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .
حين تقول منظمة هيومن رايتس ووتش  بأن الحكومة المغربية ” تلجا إلى تشريعات قمعية وبمساعدة قضاء مجامل لعقاب وسجن المعارضين …، وكل ذلك من أجل حراسة الخطوط الحمراء التي تحرم انتقاد المؤسسة الملكية ” … وحين تقول منظمة العفو الدولية بأن طي صفحة الماضي بالمغرب سيبقى ” مجرد تمرين في العلاقات العامة لا غرض له سوى تحسين صورة المغرب ” وسيظل ” مجرد وعد ضائع ”  ، … وحين نقرأ ما تبقى من التقارير الدولية والتي تصنفنا مع الدول التي ينعدم فيها السلم ، أو تخندقنا مع البلدان التي تتفنن في انتهاك حقوق الإنسان أو تجعلنا في أسفل سافلين مع الأوطان التي لم تستطع الرقي عن خانة التخلف والتقهقر .
حين نسمع ونقرأ كل ذلك ونقارنه بما تجود به علينا الحكومة والسلطات بهذا البلد من بيانات رسمية منفوخة بالأكاذيب ، ومواقف مماطلة ومحملة بأرقام ثقيلة على ميزان وميزانية الإنجازات ، وتصريحات مفرطة في تضخيم التبريرات والتسويفات ، لا يمكننا إلا أن نتساءل بغصة أمام هذه التناقضات والمفارقات عن الوقت الذي سينتهي فيه هذا النفاق السياسي .
إن قمع الحريات وتكميم الأفواه ووأد الأصوات المعارضة وغير ذلك من الأساليب الرجعية المتبعة حاليا والمنبوذة على مر التاريخ ، لا يمكن أن يساهم في بناء حاضر آمن أو مطمئن ، وإن فسح المجال للغيورين على هذا الوطن ومواطنيه ، وتمكينهم من الإدلاء بدلائهم في مختلف القضايا والشؤون دون تضييق عليهم أو تحقير لآرائهم وأفكارهم  لهو السبيل الأنجع والأنجح لمواجهة ما يعترض هذا البلد من عوائق وحواجز تحول دون تقدمه وتقف في سكة مزاحمته لدول وبلدان استطاعت باحترامها لآدمية الإنسان وبتحقيقها لحقوقه وبتعظيمها لقيم الحرية و مرتكزاتها أن تحرر شعوبها من أزمات الداخل وتربصات الخارج.
© منبر الحرية، 19 فبراير/شباط 2010

عزيز مشواط18 نوفمبر، 20101

بادرني صديقي ونحن نهم بالخروج من إحدى الندوات الفكرية : لماذا يحتكر الغرب الفلسفة والعلم ونكتفي نحن منذ أزيد من مائة سنة بطرح الأسئلة المكرورة ذاتها : قضايا المرأة، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفصل الدين عن الدولة؟ ومضى صديقي في طرح السؤال: لماذا ندور في الحلقة المفرغة ذاتها و لماذا لم نستطع أن نحول كل الكلام الجميل عن الحرية والتقدم والحداثة إلى حقيقة؟
المنهج والظلمة
وفيما يشبه اليقين التام الذي لا يدخله الشك لا من داخله ولا من باطنه أسترسل صاحبي بوثوق عقائدي بالغ: إن السبب في ذلك هو ابتعادنا عن تعاليم ديننا الحنيف. كانت المحاضرة التي حركت هذه البركة الآسنة من الأسئلة تدور حول فلسفة ديكارت، وتأثيرها على المنتوج الفلسفي الغربي. سؤال المحاضرة الرئيسي انصب حول إمكانية استعادة روح المنهج الديكارتي بعد كل النقد الذي تعرض له بفعل موضات الحداثة وما بعد الحداثة.
حاولت جاهدا أن أتجاوز الإجابات التبريرية، لأني أعرف، على رأي حسن حنفي، أن الفلسفة ٍ تموت حين تصبح وظيفتها هي تبرير المعطيات سواء كانت دينية أو سياسية، والدفاع عنها دون أن تقوم بوظيفتها في التحليل والفهم، ثم النقد. وهنا عدت لصديقي قائلا بأن أبسط أبجديات الدرس الفلسفي الأول قالت لنا “إن طريقة وضع السؤال أهم من الإجابة عن السؤال”. وليس السؤال في الأصل سوى  ذلك البحث الدؤوب عن المنهج لأن التاريخ يعلمنا أن العقل يدخل في االظلمة عندما يغيب المنهج، ويتحول إلى معارف موروثة يتراكم بعضها فوق بعض دون طريقة للوصول إليها.
وجدت نفسي، مرغما على الخوض في وظيفة الفلسفة فقلت لصديقي المتحمس لأفكاره أن مواقفه تحكمها بنية ذهنية لم تستطع الانفكاك من تمجيد الماضي والعداء لكل جديد ومتجدد. ولأن قدر العقل عبر التاريخ أن يخضع باستمرار، ثراءا أو ضعفا، لوضعية الفلسفة ومكانتها، فإننا يمكن أن  نقول أن الفلسفة مرت بظروف صعبة عبر تاريخها بل إنها ماتت مرتين: الأولى في العصر الوسيط الأوروبي عندما تحولت إلى مجرد معارف موسوعية مخزنة في خزائن النخبة. وماتت مرة ثانية في تراثنا القديم، عندما صارت مجرد موسوعات ضخمة يغيب عنها المنهج. الفارق ما بين الحالتين نهوض الفلسفة الأوروبية من سباتها واستنهاضها لهمم العقل منذ ديكارت، واستمرار الفلسفة والعقل العربيين في الاستقالة منذ قرون عديدة.
العقل المستقيل…الحاجة إلى ديكارت.
ضرب صديقي يده كفا بكف وكأنه وجد السر المكنون متهما إياي بالتنقيص من قيمة التراث الفلسفي العربي الإسلامي، أما التهمة الجاهزة فهي “الارتماء في أحضان الغرب”. لا يهم كثيرا العودة هذه المرة للحديث عن نظرية المؤامرة وأصولها في الذهنية العربية، لكن ما يهم حقيقة أن الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط سرعان ما عادت إليها روحها المبادرة مع عصر النهضة ورواد الفلسفة الحديثة وخاصة مع روني ديكارت، في حين طال أمد حالة الصقيع في المنهج والرؤية بالنسبة لحالتنا، لأن العقل العربي الذي نجهد أنفسنا في البحث عن علاته صار خاضعا بفعل شروط موضوعية ما، إلى ما سماه الدكتور محمد عابد الجابري بالعقل المستقيل الذي مازال يخيم بظلاله على كثير من أنماط فكرنا ومسلكياتنا.
لقد افتقد العقل العربي المنهج فافتقد البوصلة التي توجهه نحو مسيرة التقدم الإنساني. فكيف يمكننا تحويل المنهج الديكارتي إلى أداة رئيسية للتغيير؟ وكيف يمكننا، انطلاقا من ذلك، إعادة صياغة النظام المعرفي للمجتمع بشكل يتجاوز المناهج الحالية؟ وكيف بالإمكان تحويل الشك إلى ممارسة نقدية بما ينسجم والرغبة في تأسيس نظام جديد للتفكير؟ هذان هما السؤالان الكبيران اللذان يجب أن تنبني عليهما كل قراءة جديدة للفكر العربي الإسلامي.
وبهذا المعنى أزعم أن العودة إلى روح الكوجيطو الديكارتي ما تزال تتوفر على شرعية عربية قوية. تنبع هذه الشرعية من  أن “أنا أفكر إذن أنا موجود” التي خلص إليها رائد الفلسفة الحديثة روني ديكارت في القرن السادس عشر، لم تتجسد كحقيقة في الواقع العربي رغم كل المحاولات الحثيثة التي قام بها رواد النهضة.
إن روح الفلسفة الديكارتية لا تزال غائبة عن الفكر العربي الإسلامي. إن جوهرها يتمثل في ربط الوجود بالفكر، إذ “متى انقطعت عن التفكير انقطعت عن الوجود” يقول ديكارت. لكن غالبا ما نتعاطى مع هذه المقولة الشهيرة بالكوجيطو بنوع من الاختزالية والسطحية تفرغها من دلالاتها المعرفية وعمقها المنهجي، رغم أن المقولة شكلت ثورة إنسانية شاملة بكل المقاييس.
سلطة العقل …سلطة الخرافة.
فعلا أسس ديكارت من خلال هذه الخلاصة وغيرها من تأملاته الفلسفية الأسس الصلبة لما ستعرفه الإنسانية من تحولات فكرية وسياسية وثقافية. كلمتان أساسيتان يقوم عليهما الكوجيطو الديكارتي…إنهما الأنا والفكر (العقل)…فتصبح الأنا المفكرة هي الحجر الأساس في هذه المقولة. إن حقيقة الذات المفكرة هي الحقيقة الوحيدة التي لم يستطع الشك أن يتسرب إليها بعد أن شك ديكارت في كل شئ.
صحيح أن الشك الديكارتي شك منهجي، وصحيح أيضا أنه شك قصدي، وصحيح أيضا أن نتيجته معروفة سلفا. لكن رغم الانتقادات الموجهة إليه يبقى  لحظة مفصلية في تاريخ الإنسانية ككل والغرب خصوصا. إن أهمية هذه اللحظة نابعة من استتباعاتها، ذلك أنها ستعمد إلى تأسيس الوجود الإنساني انطلاقا من “الأنا المفكرة” في استقلال عن أي تبعية، إذ لم يعد الوجود الإنساني تابعا لا لله ولا للكنيسة ولا لأي سلطة أخرى غير سلطة العقل.
ما يهمني كثيرا، هو تلك القدرة التي استطاع بواستطها الشك الديكارتي على تنحية العقل القروسطي. وبالمقابل ساعد ديكارت العقل الإنساني على الوصول إلى أقصى طاقاته لتقبل العلم واستخراج منطقه العام، فارتفع منسوب العقلنة والتنظيم في كل ما يحيط بالإنسان.
ديكارت…تمارين شاقة للعقل.
نعم لقد ربط ديكارت الوجود بالفكر واعتبره الشرط الوحيد لإنسانية الإنسان. إنها نقلة نوعية لعدة أسباب. أبرزها أن الشك الذي اعتمده ديكارت..كان هدفه الأول القضاء على كل تبعية، والبحث عن استقلالية الإنسان، عن سلطة الكنيسة أولا، وكل ما يتعلق بالميتافيزيقا والكهنوت، والأسطورة…لقد رفع ديكارت من خلال مقولته الشهيرة بالكوجيطو “أنا أفكر إذن أنا موجود” من شأن العقل والمواطن الحر في مقابل القدرة الإلهية ورجالات الدين.
لكن ومع ذلك، لا يجب  نسيان ربط أهمية الشك الديكارتي ودوره التاريخيّ بسياق تحوّل مجتمعيّ أوربي وعالميّ.  وبالتالي لا يمكن الانطلاق من فهم سبب التخلف أو التقدم للعقل أو لدولة ما أو لاتجاهات فكرية ما، من بنية العقل فقط، مع أهمية ذلك.
إن الوقوف عند هذه الملاحظة يحفظنا من الانزلاق عند مناقشة العقل العربي الذي لم يستطع حتى الآن التخلص من عباءة الرؤية الدينية، وتحديداً ما أسس له الغزالي. وابن تيمية، وصولاً إلى ابن حنبل، وبعدهما بمئات السنين محمد بن عبد الوهاب وانتهاء بفكر القاعدة وطالبان.
في ظل سيطرة هذه النظم المعرفية على عقل العرب في كل العالم العربي والإسلامي، بفعل مساهمتها في تشكيل الواقع الراهن منذ أربعينات القرن الماضي على أقل تقدير، فإن تفعيل الشك  الديكارتي إزاء هذه الحتميات تمرين عقلي شاق وصعب لتجدر المسلمات والبديهيات والأفكار القبلية. هنا نتسائل هل نستطيع كعرب تفعيل هذا الكوجيطو بكل ما نرزح تحته من تراكمات قهرية تعمل على تحويل كل خرافة أو أسطورة إلى حقيقة مقدسة تنتهك كل مجالات الوجود سواء الفردي أم الاجتماعي بكل ما نتمسك به من أوهام نعبدها وندافع عنها وننافح عن شرعنة وجودها واستمراريتها؟
بمعنى آخر هل نحن مؤهلون لولادة عقلانية جديدة؟هذا في نظري هو رهاننا أثناء مساءلة الطرح الديكارتي.
تشخيص العطب…
عودة إلى العقل المستقيل الذي تحدث عنه الدكتور محمد عابد الجابري، يمكن أن نسجل ذلك الهوس المنتشر بين مجموعة من أدعياء الثقافة العربية. أقول أدعياء لأنهم يتصيدون فرص الهجوم على كل فكر غربي بغض النظر عن وجاهته أو قيمته. لكن وبفعل الافتقاد إلى الإبداع يعمدون إلى اتباع أحدث الصيحات الانتقادية الصادرة من الغرب نفسه. فبخصوص ديكارت لن نعدم كتابات عربية تصرح جهرا بأن ديكارت تجاوزته النظريات الفلسفية المعاصرة وصار جزءا من الماضي..ولن نعدم أيضا كتابات تستعير كل العتاد النظري الغربي لتثبت تحول العقل الغربي إلى أداة مدمرة للإنسانية..يستشهدون بما أفرزه هذا العقل من تقدم أدى إلى كوارث إنسانية وإلى قيام حربين عالميتين وإلى صناعة القنبلة النووية وتدمير هيروشيما وناكازاكي وغيرها من الحجاج…
ليس هناك اختلاف على هذا التشخيص الإنساني لوضعية عقل يشتغل بمنطقه الخاص، لكن المسخرة تصير من طبيعة متضخمة حينما نتخذ هذه الذرائع لرفض كل ماهو عقلاني وغربي …باعتباره عنوان الفشل..ومن ثمة فإن الرجوع إلى قيمنا الدينية وإلى منهجنا في الاتباع كفيل، حسب هؤلاء الأدعياء، بتخليص الإنسانية من كل “أمراضها”..ليست هذه المنهجية العرجاء سوى دليل آخر على العجز عن الابتكار، خاصة وأن كل الانتقادات التي يتم استجلابها صاغها باستمرار العقل الغربي. إنه عقل قادر في كل مرة على إعادة النظر في نفسه وإعادة النظر في مسلماته. وكانت ولاتزال إحدى نقاط قوته الأساسية محاولة تجاوزه لكل الحتميات التي تأسس عليها. إن الفكر الديكارتي المقدس للعقل والمؤمن بإمكانيات العقل المطلقة لم يلبث أن تعرض لمجموعة من الهزات، بدأت من كانط الذي حصر حدود المعرفة العقلية في المعرفة العلمية وصولا إلى كل موجات الحداثة وما بعد الحداثة التي طالبت بعقل جديد متوائم مع التطورات الإنسانية وآمالها، وفيه يتصالح الإنسان مع الطبيعة، ولا يصير مسخرا لها فقط وإنما جزءا منها، لأنها جزء منه، كما يعلن في غير ما مرة المفكر الفرنسي إدغار موران..
يمكن أن نفهم هذه الانتقادات الغربية للعقل الغربي باعتبارها دينامية داخلية ودليل حيوية، أما أن يتم التعامل معها بانتقائية لاستعمالها كتهمة لمواجهة الآخر والطعن فيه والتنقيص من قيمته بل وإقصائه، فالأمر لا يعدو أن يكون محاولة انتقائية وتلفيقية تثبت العجز عن الإبداع، وتنتظر إنتاجات الآخر الفلسفية والنظرية والتعامل معها بانتقائية للتعويض، مما يثبت بالمنطق النفسي عجزا معرفيا وحضاريا صارخا…وعوض البحث عن السبل الكفيلة بإعادة تشغيل هذا العقل في انسجام مع المعطيات الإنسانية الجديدة والتركيز على روح الإبداع يتم التنحي جانبا والتقوقع بعيدا عن كل القيم الإنسانية..أما السلاح الأمضى في ذلك فهو الإتباع وتلك الذهنية التي لا تؤمن سوى بـ”لا وجود لأفضل مما كان”.
© منبر الحرية، 17 فبراير/شباط 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

فقد العربُ في الفترات التاريخية الأخيرة –وبالتحديد منذ بداية عهد السيطرة الغربية/العربية على بلادهم- السيطرةَ على وجودهم، وتحكم الآخرون بمصائرهم وثرواتهم، مما أدى إلى تعميق إحساسهم بالمذلة والخسارة، وفَشَلهم في تسيير شؤون مجتمعاتهم، وفقدانهم لإرادة التأثير النوعي الفاعل –أو على الأقل التبادل الندي- مع الآخرين.
وقد ساهم هذا الانكشاف الخطير في الممارسة العملية لمنعكسات المفاهيم والأفكار التي اعتقد بها العرب، ساهم في تحويل كثير من عناصر ثقافتهم الدينية –بمختلف مفرداتها وعناوينها- إلى مجرد حالة تقليدية جامدة يلفها رداء التقديس التاريخي المزيف، وتضج برواسب التخلف والتحجر والسكون، ولا توحي بأي معنى من معاني الحيوية والتفاعلية والتبادلية والتأثير العملي في واقع الحياة والعصر. وكان أعظم ما توصلوا إليه من التزام هو أن يبقوا محافظين على ممارسة شعائرهم الدينية وطقوسهم التقليدية من دون أن يكون لها أية صلة –مباشرة أو غير مباشرة– بقضايا الحياة المصيرية التي ترتبط مباشرة بوجودهم وتطورهم ونهوضهم الحضاري المنشود كالحرية والاستقلال والعدل والتنمية والوحدة.. الخ..
هذا وقد حاول العرب إقامة تجارب وتجليات عملية لقضايا الحق والعدل والحرية والوحدة في بلدانهم، ولكن محاولتهم تلك لم تنجح عموماً بالرغم مما وفروه لها من قاعدة نظرية واسعة الطيف والامتداد.. فمثلاً على صعيد الوحدة، قدم لنا التاريخ العربي الحديث نماذج عديدة لتجارب وحدوية فاشلة تتأكد من خلالها حقيقة أن الوحدة لا تعني التوحد القسري القائم على نفي كل أشكال التعدد الطبيعية والتاريخية المتوفرة في المجتمعات العربية والإسلامية. لذلك فقد استخدمت هذه المدارس كل ترسانتها وإمكاناتها النظرية والعملية في سبيل محاربة تلك الحقائق وإقصائها من الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي.
ولكن وبعد حدوث تطورات عديدة شهدها العالم عموماً وجدنا بأن كل الوسائل والأساليب المستخدمة من قبل تلك المدارس لتذويب هذه الحقائق ونفيها من الخريطة العربية باءت بالفشل والإخفاق، ولم تستطع هذه المدارس أن تحقق مفهومها للوحدة القائم على القسر والنفي والإلغاء، بل أوجدت أثراً عكسياً في الواقع العربي، حيث ازدادت الكيانات الصغيرة التي تعمل على الحفاظ على هويتها الخاصة وعوامل تميزها أو اختلافها التاريخي أو الطبيعي.
وبهذا نستطيع أن نقول، بأن الوحدة والتكاملية لا تعني التطابق التام في وجهات النظر ومشروعات العمل أو أولوياته أو في طرق التفكير والتخطيط..، وإنما تعني ابتداءًا احترام الحقائق والوقائع التاريخية والطبيعية، والعمل بشكل وحدوي على ضوء تلك الحقائق والوقائع، وعدم نفي الخصوصيات وإقصاء حالات التنوع على الأصعدة التاريخية والثقافية والسياسية.
فالالتزام السياسي بمفهوم الوحدة، لا يقضي بأن يكون الجميع محل اتفاق حول كل المسائل. لهذا فإن الإصرار على صهر التكوينات والتعدديات والمذاهب في بوتقة أو مذهب واحد، هو بحد ذاته إصرار على زيادة وتوسيع رقعة وجغرافية الانقسام والتفكك العربي، لأن في هذا الإصرار دعوة إلى عدم التعاون والتآلف فيما بينهم، ومحاولة لوضع المسائل الثانوية (الفرعية) مكان المسائل الجوهرية.
من هنا لابد من القول والتأكيد على أن البذرة والنواة الأولى اللازمة لتشكيل وصياغة مشروع التكامل العربي، هي في تعميق جميع القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية، وفسح المجال لجميع المؤسسات والأطر، التي تأخذ على عاتقها نشر قيم احترام التعدد والتنوع ونسبية الحقيقة وإشاعة الانفتاح والتسامح. لأنه في مثل هذه الأجواء، تتبلور قيم التكامل الحقيقية وسبلها الحضارية. وبدون هذا العمل سيبقى شعار التكامل والتوحد العربي خال من أي مضامين عملية، ويبدو أشبه ما يكون بالطبل الأجوف، ضوضاء وصخب من دون فعل حقيقي.. صراخ يثير خوف الآخرين، ويزيد من هواجسهم الأمنية والسياسية، ولكن بدون أن يتحول هذا الشعار إلى حقائق ووقائع تملأ كل أوطان العرب وبلدانهم.
ومن المعروف لنا جميعاً –في التاريخ السياسي العربي- أن العرب حاولوا مد جسور التقارب بين مختلف مذاهبهم وتياراتهم الفكرية والدينية كخطوة أولى على طريق الوحدة الكبرى، ولكن كانت هناك ثمة عوامل داخلية ذاتية، حالت دون نجاح محاولات التقريب المتعاقبة، وسوف تقف موانع وعوائق دون إدراك المراد ما لم تعالَج، وأهمها:
1. سيادة عقلية الاستبداد والسيطرة وكاريزما القيادة المعصومة على مناهج وثقافات العرب بصورة عامة.
2. تغييب إرادة العمل السياسي الجماعية، وتكريس عقلية وإرادة العمل الفردي المشخصن الذي يختصر ويختزل الأمة كلها في شخصية الحاكم الفرد.
3. عدم وجود قاعدة فكرية ومفاهيمية واضحة لدى كل الفرقاء تؤسس لإرادة الاجتماع، وهو ما يتجلى لنا أكثر من خلال غياب الإرادة القانونية والتشريعية، حيث أن كل فرقة (دينية أم سياسية) تتغنى بأمجادها وثقافاتها الخاصة، وتدعي لنفسها النجاة والخلاص الفردي لا الجماعي.
من هنا اعتقادنا ورؤيتنا أن الدعوة إلى المشروع العربي التكاملي في ظل واقعنا المأزوم الراهن، والذي تتزايد وتائر الحديث عنها في أوقات المحن والقلق السلبي، كما هو حاصل حالياً في حروبنا وغزواتنا الصغيرة والكبيرة هنا وهناك من عالمنا العربي، لا بد وأن تأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
أولاً: الحاجة الماسة إلى إعادة صياغة وبناء وإنتاج الشخصية العربية المتوازنة، بحيث يشعر العرب –في هذا العالم المفكك والمضطرب– بالصفة العملية الواقعية في كل مواقع وجودهم وانتماءاتهم باعتبار أنهم يمثلون حضارة إنسانية مميزة في أفكارها ومفاهيمها وانفتاحها على باقي الأمم والحضارات، مما يفرض عليهم العمل على تحقيق التكامل السياسي والاقتصادي، من خلال التأكيد على عناصر هذا التكامل الفكري والمنهجي في كل الواقع العربي بما يضمن تحريك وتوجيه مشاعر العرب باتجاه تكاملهم وتوحدهم أعلى المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية ضمن دائرة التنوع الحضاري..
ثانياً- السعي الدؤوب باتجاه صنع وإنتاج القوة على المستوى الفكري والسياسي من خلال إعداد خطط عملية خاصة بتنمية الطاقات الكثيرة المتنوعة الموجودة في عالمنا العربي في داخل الأرض وخارجها، وتحويلها إلى عنصر مساهم –بكل قدراته– في بناء الذات العربية، وصنع قوتها الحضارية على أساس التكامل والتوازن والوعي للواقع.
وهناك نقطة مهمة لا بد من طرحها دائماً وهي أن سنة الله في خلقه لا تعني ثبات الأحوال، وبقاء المواقع على ما هي عليه. فالوجود متحرك من واقع إلى آخر، ولا يهدأ على حال من الأحوال، والمتغير هو الثابت الكوني الوحيد.
ويبدو لنا أن هذا الأمر يشكل القاعدة الأساسية في تكوين وبناء الحركية التاريخية القادرة على تحديد أهداف –وبلورة استراتيجيات- الدخول إلى أجواء التنافس أو التفاهم مع الأطراف الدولية الأخرى. أي المنافسة على القدرة والمبادرة والفعل، وبالتالي انتزاع اعتراف الآخرين بقدرة العرب على النهوض والارتقاء والمنافسة الندية.
ثالثاً- ضرورة أن يتحمل المثقف العربي المسلم مسؤولياته الفكرية النقدية كاملة، ويراجع تعبيراته ومشاريعه والتزاماته، في أن يبتعد قليلاً عن أجواء السجال والميدان السياسي اليومي للحدث فقط، فيما تكمن الأزمة –جوهرياً– في كيان الأمة الثقافي والمعرفي بامتياز. وهذا الأمر يحتم على المثقف العضوي النقدي أن يحول عمله وإنتاجه إلى قرار وسلوك وعمل وأخلاقيات تعامل في ممارسته لسلوكية الحوار الشامل والسجال النقدي الموضوعي في جدية طرحه لأسئلة النهضة والتقدم.
© منبر الحرية، 30 يناير/كانون الثاني2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018