الاقتصاد الدولي

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

إنني أسوق السيارة خارج أديس أبابا، إثيوبيا، متوجهاً إلى الريف. صفوف لا نهاية لها من النساء والبنات يمشين في اتجاه معاكس نحو المدينة. أعمارهن تتراوح بين 9 إلى 59 عاماً. كل واحدة منهن محنية إلى حوالي الضعف، تحت وطأة حمولة من الحطب. الحِملُ الثقيل يدفع بهن إلى الأمام كأنهن يمشين خبباً. أفكر في عبيد يسيرهنَّ دفعاً من قِبل مُشرف على العبيد لا يُرى. إنهن يحملن الحطب من أميال بعيدة خارج أديس أبابا، حيث تتواجد أحراج شجر الكليبتس، على امتداد الأراضي الجرداء المجردة التي تحيط بالمدينة. إنهن يجلبن الحطب إلى سوق المدينة المركزي لبيع الحمل مقابل دولارين. هذه هي نهاية دخل كل منهن لذلك اليوم، ذلك أن نقل الحطب إلى أديس أبابا والعودة مشياً يستغرق يوماً كاملاً.
وقد وجدت في وقت لاحق أنَّ الـ بي. بي. سي. البريطانية للأخبار قد أذاعت قصة حول إحدى الحاطبات. أماريتش، عمرها 10 سنوات استيقظت في الساعة الثالثة فجراً لجمع عروف وأوراق الكليبتس، ثم شرعت في مشيتها الطويلة والمؤلمة نحو المدينة. أماريتش، الذي يعني اسمها “الجميلة”، هي أصغر أطفال العائلة الأربعة في العائلة. وقد قالت: “لا أود أن أحمل الحطب طوال حياتي. ولكن في هذه اللحظة، ليس لدي أي خيار لأننا على هذه الدرجة الكبيرة من الفقر. جميعنا نحن الأطفال نحمل الحطب لمساعدة أبَنا وأُمنا على شراء الطعام لنا. إنني أُفضل لو كنت قادرة على الذهاب إلى المدرسة، وأن لا أقلق حول كيفية جمع النقود.”
المأساتان

أدلى وزير المالية البريطانية جوردن براون مؤخراً بخطاب عاطفي حول مأساة الفقر المدقع الذي يعاني منه بلايين البشر، بما في ذلك ملايين الأطفال الذين يموتون من أمراض يمكن تجنبها بسهولة. وقد دعا إلى مضاعفة المساعدات الخارجية، برنامج مارشال لفقراء العالم. وقد أعطى الأمل بتوضيحه لسهولة كيفية عمل الخير. الدواء الذي يحول دون نصف الوفيات الناجمة عن الملاريا يبلغ سعره 12 سنتاً فقط للجرعة. ناموسية سرير تحول دون أن يصاب الطفل بالملاريا ثمنها أربعة دولارات فقط. الحيلولة دون وفاة 5 ملايين طفل على امتداد السنوات العشر القادمة يُكلَّف مجرد 3 دولارات لكل أم جديدة. برنامج لإدخال أماريتش للمدرسة يكلف القليل.
ولكن جوردن براون كان صامتاً حول المأساة الأخرى لفقراء العالم. إن هذه المأساة تتمثل في أن الغرب قد سبق وأنفق 2.3 تريليون دولاراً على المساعدات الخارجية، على امتداد العقود الخمسة الماضية، ومع ذلك فقد فشل في إعطاء الأدوية ذات سعر 12 سنتاً للأطفال لمنع أكثر من نصف وفيات الملاريا. لقد صرف الغرب 2.3 تريليون دولاراً، ومع ذلك لم يستطع توفير شبكات ناموس للعائلات الفقيرة. أنفق الغرب 2.3 تريليون دولاراً، ومع ذلك لم يوفر 3 دولارات لكل أم جديدة للحيلولة دون وفاة 5 ملايين طفل. أنفق الغرب 2.3 تريليون دولاراً، وما زالت أماريتش تحمل الحطب. إنها لمأساة أن يكون ذلك الكم الكبير من الرحمة والتعاطف لم يجلب تلك النتائج للعائلات المحتاجة.
جهود الغرب لمساعدة الآخرين كانت حتى أقل نجاحاً في تحقيق أهداف مثل تسريع النمو الاقتصادي، تغييرات في سياسات الحكومات الاقتصادية لتحفيز الأسواق، أو دعم قيام حكومات أمينة وديمقراطية. والدلائل على ذلك صارخة: 568 بليون دولاراً أنفقت على المساعدات لإفريقيا، ومع ذلك فإن البلد الأفريقي في المتوسط ليس أكثر رخاءً مما كان عليه قبل أربعين عاماً. عشرات من قروض “التصحيحات الهيكلية” (وهي مساعدات قروض مرتبطة بشروط الإصلاح) قُدِّمت لإفريقيا، والاتحاد السوفييتي السابق، وأمريكا اللاتينية ليتبين بعدها فشل سياسة الإصلاح والنمو الاقتصادي سواء بسواء. الدلائل تشير إلى أن المساعدات تؤدي إلى حكومات أقل ديمقراطية وأقل أمانة، لا أكثر. ومع ذلك، ومع عدم استفادتنا من هذه التجربة، ما زلنا نرى سخافات من أمثال المخططات عالية الطموح التي وضعها جفري ساكس والأمم المتحدة لتنفيذ 449 تدخلاً منفصلاً لتحقيق 54 هدفاً منفصلاً بحلول سنة 2015 (أهداف التنمية الألفية)، يصاحبها توسلات عاجلة لمضاعفة المساعدات المالية.
التنمية الاقتصادية تحصل، ليس من خلال المساعدات، ولكن من خلال الجهود الوطنية المحلية لرجال الأعمال وللمصلحين الاقتصاديين والسياسيين. وبينما كان الغرب يعصر تفكيره بشأن بضع عشرات بليون دولاراً للمساعدات، رفع مواطنو الهند والصين دخولهم بمقدار 715 بليون دولاراً نتيجة جهودهم الذاتية في اقتصاديات السوق. وعندما تدرك وكالات التنمية بأن المساعدات لا تستطيع تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية العامة، فإنها تبدأ في التركيز على إصلاح نظام فشل في توفير أدوية ثمنها 12 سنتاً لضحايا الملاريا.
الإستجابة والمساءلة
العنصران الرئيسيان الضروريان لإنجاح المساعدات، والذي كان غيابهما قاتلاً في إفشال فاعلية المساعدات في الماضي، هما الاستجابة في معرفة التقبل أو الرفض، والمساءلة. ضروريات الأغنياء تُلبّى من خلال الاستجابة والمساءلة. المستهلكون يقولون للشركة الصانعة “هذا المنتج جدير بسعره”، عن طريق شراء السلعة، أو يقررون بأن السلعة المذكورة لا قيمة لها ويعيدونها إلى المخزن. أصحاب حق التصويت يقولون لممثليهم المنتخبين بأن “هذه الخدمات العامة سيئة،” ويحاول السياسيون إصلاح المشكلة.
بطبيعة الحال، الاستجابة أو عدمها يكون لها مفعولها إذا كان هنالك من يسمع. الشركات التي تسعى لتحقيق الربح تنتج سلعة ترى أن عليها طلب كبير؛ ولكنها تتحمل المسؤولية إزاء السلعة المنتجة—إذا أدت السلعة إلى تسميم إنسان ما فإنها تصبح تحت المساءلة، أو على الأقل، فإنها تخرج من السوق. الممثلون المنتخبون يتحملون المسؤولية لنوعية الخدمة العامة. فإذا حدث خطأ ما، فإنهم يدفعون ثمناً سياسياً، ربما بخسارة مركزهم. وإذا كانت الخدمة ناجحة، فإنهم يحصدون الثمن سياسياً.
وكالات التنمية يمكن إخضاعها للمساءلة لمهام محددة، بدلاً من الحوافز الضعيفة التي تتأتى عن المسؤولية المشتركة لجميع تلك الوكالات والحكومات التي تتلقى المساعدات بالنسبة لتلك الأهداف العريضة، والتي تعتمد على عوامل كثيرة بجانب جهود وكالة التنمية. أمثلة على الأخير تشمل أهدافاً لا يمكن تحديدها أو المساءلة بشأنها، مثل الحملة الرائجة لتحقيق أهداف التنمية الألفية للأمم المتحدة، أو أهداف التنمية الاقتصادية الطموحة، وإصلاح الحكومات، والديمقراطية للبلدان الفقيرة التي ذكرت أعلاه. فإذا كانت البيروقراطية تشترك في المسؤولية مع وكالات أخرى لتحقيق أهداف عامة مختلفة كثيرة، والتي تعتمد بدورها على اعتبارات كثيرة، فإنها لا تكون مسؤولة أمام المستفيدين المستهدفين—أي الفقراء. لا يوجد موظف تنمية مسؤول شخصياً عن إنجاح أية مهمة في نظام المساعدات القائم. وفي غياب المساءلة، فإن الحافز لاكتشاف ما هو فعال يظل ضعيفاً. المساءلة الحقيقية تعني أن تتحمل وكالة التنمية المسؤولية عن مهمة محددة يمكن مراقبة تنفيذها لمساعدة الفقراء، وهذا بدوره يعتمد اعتماداً تاماً تقريباً على أداء الوكالة. عندها، فإن تقييماً مستقلاً حول أداء الوكالة للمهمة الملقاة على عاتقها سوف يخلق حافزاً قوياً لحسن الأداء.
ومع أن التقييم قد تم على المساعدات الخارجية منذ زمن طويل، فإنه كثيراً ما يكون تقييماً ذاتياً، مستخدماً تقارير من الأشخاص ذاتهم الذين يتولون تنفيذ المشروع. إن تلامذتي في جامعة نيويورك لن يدرسوا دراسة شاقة جداً إذا أعطيتهم الحق في إعطاء علاماتهم لأنفسهم.
البنك الدولي يحاول بعض الشيء تحقيق استقلال لدائرة تقييم عملياته، والتي تقدم تقاريرها مباشرة إلى مجلس إدارة البنك، وليس إلى رئيس البنك. ولكن موظفي البنك يتنقلون ذهاباً وإياباً بين دائرة التقييم وبقية أقسام البنك—وتقييم سلبي من شأنه أن يضر بسجلهم الوظيفي. إن تقييم دائرة التقييم نظري وليس موضوعي، والوسائل غير الواضحة تؤدي إلى تقييمات غير مترابطة، مثل ذلك التقييم الذي يصف الوضع في مالي:
“يتوجب أن نسأل كيف يمكن للنتائج التي في معظمها إيجابية أن تتلاءم مع نتائج التنمية الضعيفة والتي لوحظت فيما يتعلق بالفترة ذاتها (1985-1995)، وآراء السكان المحليين السلبية تجاهها.”
وحتى عندما تشير التقييمات الداخلية إلى الفشل، فهل تحمّلُ وكالات التنمية أي إنسان المسؤولية عن ذلك، أو تفضي إلى أي تغيير في ممارسات الوكالة العملية؟ من الصعب العثور على ذلك من مراجعة صفحة تقييم البنك الدولي على الإنترنت. لقد أوضحت دائرة التقييم في عام 2004 كيف أن ثماني “تقييمات مؤثرة” أثَّرت على ممارسات المقترضين في 32 طريقة مختلفة، ولكنها لم تذكر سوى حالتين أثرتا على السلوك داخل البنك الدولي نفسه (أحدهما أدّى إلى الأسوأ).
التقدم إلى الأمام
التقدم إلى الأمام محفوف بالمصاعب السياسية—تقييم علمي مستقل حقاً لجهود مساعدات محددة. ليس تقييمات كاسحة لبرنامج تطوير شامل على امتداد الأمة، بل تقييماً محدداً ومتواصلاً لأعمال تستطيع وكالات التنمية الاستفادة منها. الضغط السياسي الخارجي على وكالات التنمية هو وحده القادر على خلق الدوافع لإجراء تلك التقييمات. وفي دراسة للتقييم أجراها البنك الدولي عام 2000، بدأت الدراسة بالاعتراف بأنه “رغم صرف بلايين الدولارات على مساعدات التنمية كل عام، فما زال لا يعرف سوى القليل عن الأثر الفعلي لتلك المشروعات على الفقراء.”
الحل واضح بقدر ما هو مكروه—إقامة مجموعة مستقلة حقاً من ذوي الاختصاص في التقييم، والذين لا يعانون من تضارب المصالح مع البنك الدولي أو غيره من البنوك العالمية متعددة الجنسيات. بطبيعة الحال، لا بد من أن يكون هنالك دوافع لعمل شيء في ضوء النتائج—تخصيص الأموال لبنوك التنمية متعددة الجنسيات، زيادةً أو تخفيضاً في ضوء سجلها في العمل كما يصنفه المُقَيِّمون المستقلون. كما يتوجب الإشادة ببنوك التنمية الدولية إذا ما أوقفت تمويل مشاريع فاشلة، أو إصلاحها إذا كانت قابلة للإصلاح. كما يتوجب عقاب الفشل في اتخاذ إجراءات تصحيحية للمشروعات الفاشلة.
النجاح من خلال التقييم
في عام 1997، قدم مساعد وزير المالية المكسيكي، سانتياجو ليفي، وهو اقتصادي مرموق، برنامجاً مبتكراً لتمكين الفقراء من مساعدة أنفسهم. وقد نص البرنامج الذي حمل اسم بروجريساعلى تقديم منح نقدية للأمهات إذا أبقين أطفالهن في المدارس، واشتركن في برامج التعليم الصحي، وجلبن الأطفال إلى المراكز الصحية لتناول الأغذية الإضافية والرضوخ للفحوصات الدورية. وحيث أن موازنة المكسيك الفيدرالية لم تكن لديها المال الكافي للوصول إلى كل مواطن، فقد منح ليفي الأموال الشحيحة المتاحة بطريقة تضمن التمكن من إخضاعها للتقييم العلمي. وقد اختار البرنامج مائتين وثلاث وخمسين قرية بطريق القرعة لتلقي المساعدة، مع اختيار مائتين وثلاث وخمسين قرية أخرى (لم تعطى لها المساعدات) لإجراء عملية مقارنة. وقد تم جمع المعلومات عن جميع القرى الـ506، قبل وبعد الشروع في تنفيذ البرنامج. وقد منحت حكومة المكسيك مهمة تقييم البرنامج إلى المؤسسة الدولية لأبحاث سياسة الأغذية، والتي أجرت دراسات أكاديمية لنتائج البرنامج.
وقد أيدت الدراسة الأكاديمية فاعلية البرنامج. فقد تبين بأن الأطفال الذين تلقوا برنامج بروجريسا قد قلت إصابتهم بالمرض بنسبة 23%، وزاد طولهم بمقدار 1-4%، وانخفض فقر الدم لديهم بنسبة 18%. وقل عدد أيام التعرض للمرض لدى الشباب بنسبة 19%. وقد تحققت زيادة 3.4% في الالتحاق لجميع الطلاب في صفوف الأول إلى الثامن؛ وكانت الزيادة أكثر من غيرها بين البنات اللواتي أتممن الصف السادس، وبنسبة 14.8%.
وفي المسار نفسه، لاحظ الناس في قرية صغيرة اسمها بونافيستا أن البرنامج قد أحدث تغييراً. قالت أمٌ إنها تستطيع أن تطعم أطفالها اللحمة مرتين في الأسبوع، تدعيماً لأكل التورتلا، وذلك بفضل المساعدة التي تلقتها من برنامج بروجريسا. ولاحظ أستاذ اسمه ساندياجو دياز بأن الدوام في المدرسة التي تضم غرفتين قد ارتفع. وأضاف إلى ذلك قائلاً: “إنه بسبب التغذية الأفضل أصبح الأطفال أكثر قدرة على التركيز لمدد أطول. ولمعرفتهم بأن الفوائد التي تحصل عليها والدتهم تعتمد على وجودهم في المدرسة، فقد أبدى الأطفال رغبة أكبر في التعلم.”
وحيث أن البرنامج قد حقق نجاحاً واضحاً وموثقاً، فقد استمر العمل به على الرغم من رفض الناخبين للحزب الحاكم على مدى زمن طويل في ثورة المكسيك الديمقراطية عام 2000. وبحلول ذلك التاريخ، كان برنامج بروجريسا يصل إلى 15% من عائلات المكسيك، وبلغت موازنته 800 مليون دولار. وقد توسعت الحكومة الجديدة في تطبيقه بحيث أصبح يشمل الفقراء في المدن. وقد بدأ تنفيذ برامج مماثلة في البلدان المجاورة، بدعم من البنك الدولي.
الدرس الذي يمكن أن يتعلمه دعاة إصلاح المساعدات هو: الجمع بين حرية الاختيار والتقييم العلمي يمكن أن يبني التأييد لبرنامج مساعدات من خلال التوسع سريعاً في برامج ثبت نجاحها. إن النقد (المال) للتعليم وللتغذية يمكن التوسع به مع تعديلات محلية مناسبة، لعدد أكبر من البلدان، وعلى نطاق أوسع كثيراً مما هو عليه الآن. برنامج مثل هذا في إثيوبيا يمكن أن يُخلّص أماريتش وغيرها من الفتيات القاطنات في ضواحي أديس أبابا من عبودية حمل الحطب والالتحاق بالمدارس حيث يكتسبن المهارات التي تمكنهن من الخروج من دائرة الفقر.
هل جاء الوقت؟
لقد حان الوقت لوضع حد لمأساة فقراء العالم الثانية، والذي سوف يساعد على وضع حد للمأساة الأولى: أن يصبح في مقدور الفقراء وضع مراجعة لعاملين يخضعون للمساءلة، حول ما يعرفون وما الذي يريدونه أكثر من غيره، ويحتاجون إليه. إن الأحلام المثالية الكبيرة حول إنهاء الفقر في العالم مثل برنامج التنمية الألفية النابع من الأمم المتحدة لا يضع أحداً في موضع المساءلة. ألا نستطيع أن نضع العاملين في برامج العون في موقع المساءلة، حيث يقوموا بإيصال أدوية ثمنها 12 سنتاً للأطفال، للحيلولة دون وفاتهم بالملاريا، وتزويد شبكات منع الناموس لأسر الفقراء بكلفة 4 دولارات لمنع الملاريا، وإعطاء 3 دولارات لكل أم جديدة للحيلولة دون وفيات الولادة، وضمان دخول أماريتش إلى المدرسة؟
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 نيسان 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

تحتل الحرية الاقتصادية مكانة خاصة بين الحريات –من اقتصادية، وسياسية، ومدنية– والتي يقدرها المجتمع الحر ويتمسك بها. وهي لا تُشكّل غاية في ذاتها وحسب؛ بل إنها تؤمن السند والدعم للحريات الأخرى. وعندما لا يكون الخيار الشخصي والتبادل الطوعي وحماية الملكية الفردية مؤمنةً، يصبح من الصعب أن نتصور كيف يمكن ممارسة الحرية السياسية أو الحريات المدنية بشكل ذي مغزى.
في العام 1962، قال ميلتون فريدمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، ما يلي:
“للتاريخ رأي واحد في ما يتعلق بالعلاقة بين الحرية السياسية والسوق الحرة. وأنا لا أعرف أي مثال في أي زمان أو مكان لمجتمع تميز بحيّز كبير من الحرية السياسية، ولم يعتمد أيضاً نظاماً مشابهاً للسوق الحرة لتنظيم الجزء الأكبر من نشاطه الاقتصادي.”
ويدعم انهيار التخطيط المركزي في بلدان العالم الثالث، وحتى انهيار الاشتراكية نفسها، خلال السنوات العشرين الأخيرة نظرية فريدمان على ما يبدو. وقد ترافق ازدياد الحرية الاقتصادية مع ازدياد الحرية السياسية والمدنية حول العالم، كما كانت للحريتين أهميتهما في الوقت الذي ابتعدت فيه الدول عن الأنظمة السلطوية وفتحت أسواقها.
الحرية الاقتصادية
إن الحرية الاقتصادية هدف مرغوب لذاته لأنها توسع عادةً تشكيلة الخيارات المتاحة للفرد كمستهلك وكمنتج أيضاً. غير أن الدور الأكبر الذي تلعبه الحرية الاقتصادية في المجتمع كثيراً ما لا يعطى كامل قدره من الأهمية، حتى من قبل الذين يؤمنون بالتعددية السياسية وحقوق الإنسان وحرية التجمّع والدين والتعبير.
إلا أن اعتماد نظام اللامركزية في صنع القرار الاقتصادي يدعم المجتمع المدني عن طريق خلق الحيز الذي يمكن أن تتواجد فيها المنظمات من جميع الأنواع دون الاعتماد على الدولة. والدولة التي توجد لديها حرية اقتصادية هي دولة يستطيع فيها القطاع الخاص تمويل مؤسسات المجتمع المدني. وبالتالي فإن احتمال قيام كنائس، وأحزاب سياسية معارضة، وتشكيلة منوعة من شركات الأعمال ووسائل الإعلام المستقلة فعلاً، يكون أكبر في البلدان التي لا تكون السلطة الاقتصادية فيها محصورة في أيدي البيروقراطيين أو السياسيين.
وينطوي تحرير الاقتصاد، بطبيعته، على فقدان السيطرة السياسية التامة على المواطنين. وهذا أمر بدأت الحكومات السلطوية في شتى أنحاء العالم باكتشافه في عهد العولمة الحالي. وقد انهارت الدكتاتوريات مفسحة المجال للديمقراطيات في بلدان بدأت بتحرير أسواقها في مطلع الستينات والسبعينات من القرن الماضي، من بينها كوريا الجنوبية وتايوان وتشيلي وإندونيسيا. ومع انتخاب الرئيس فسنته فوكس العام 2000، ساعد تحرير السوق المكسيكية في التسعينات من القرن الماضي في وضع حد لأكثر من 70 عاماً من حكم الحزب الواحد، الحزب الثوري المؤسساتي، الذي وصفه مرة الكاتب البيروفي ماريو فارغاس لوسا بأنه “الدكتاتورية التامة”.
وتُتيح الحرية الاقتصادية وجود مصادر مستقلة للثروة لموازنة قوة السلطة السياسية ولمعاضدة المجتمع التعدّدي. ذلك أنه عندما تمتلك الدولة المصارف وشركات الائتمان والاتصالات السلكية واللاسلكية أو طباعة الصحف، أو تمارس سيطرة مفرطة غير مناسبة عليها، فإنها لا تصبح مسيطرة على النشاط الاقتصادي وحسب بل وعلى حرية التعبير أيضاً. وقد احتاج العالم فترة طويلة قبل أن يدرك الكاتب هيلير بيلوك والذي أصاب الحقيقة لدى قوله في مطلع القرن العشرين “إن السيطرة على إنتاج الثروة هو سيطرة على الحياة البشرية نفسها.”
وهكذا، فإن المعضلة التي يواجهها الحزب الشيوعي الصيني حالياً معضلة مألوفة. ذلك أنه يتعين على الصين، للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، أن تواصل التحرير الاقتصادي الذي دعم عقدين من معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة. ولكن الإصلاحات المتجهة نحو اعتماد اقتصاد السوق الحرة أعطت مئات الملايين من الصينيين استقلالية أكبر عن الدولة، وخلقت طبقة متوسطة ناشئة تطالب أكثر فأكثر بالحرية السياسية وبأن تكون ممثلة في الحكومة. وهكذا فإن الحزب يريد الاحتفاظ بالسلطة السياسية، لكن تحرير الاقتصاد يقوّض هذا الهدف، في حين أن التوقف عن تحرير الاقتصاد سوف يقلص النمو ويسبب عدم الاستقرار.
وكما هو الحال في الصين وعدد آخر لا يحصى من البلدان، تشجع الحرية الاقتصادية التعددية السياسية عن طريق تعزيز النمو الذي يُنتج بدوره طبقة متوسطة ومواطنين أقل اعتماداً على الدولة. وتدعم الإثباتات التجريبية وجود هذه العلاقة.
وأكثر الدراسات التجريبية شمولاًً حول العلاقة بين المؤسسات والسياسات الاقتصادية في بلد ما وبين مستوى ازدهاره هو تقرير معهد فريزر الكندي “الحرية الاقتصادية في العالم”. ويتفحص التقرير 38 عنصراً أساسياً من عناصر الحرية الاقتصادية، بدءاً بحجم الحكومة وسيادة القانون حتى السياسة النقدية والتجارية، في 127 بلداً عبر فترة زمنية تمتد إلى أكثر من 30 سنة. وقد بيّنت الدراسة وجود علاقة وثيقة بين الحرية الاقتصادية والرخاء الاقتصادي. فمتوسط دخل الفرد في البلدان ذات الاقتصاد الأكثر حرية يبلغ 25 ألفاً و62 دولاراً، مقارنة بمعدل دخل فردي يبلغ 2409 دولارات في أقل البلدان حرية اقتصادية. كما وجدت الدراسة أن الاقتصادات الحرة تنمو بسرعة أكبر من سرعة نمو الاقتصادات الأقل حرية. فقد بلغ معدل النمو للفرد الواحد خلال السنوات العشر الأخيرة 2.5 بالمئة في أكثر البلدان حرية في حين كان 0.6 في أقلها حرية.

وتوصلت دراسة فريزر أيضاً إلى أن هناك صلة وثيقة بين الحرية الاقتصادية وتقليص مستوى الفقر ومؤشرات التقدم الأخرى. وهناك ترابط عكسي بين مؤشر الفقر في العالم الذي تصدره الأمم المتحدة ومؤشر فريزر للحرية الاقتصادية. فمستوى دخل أفقر 10 بالمئة من السكان في أكثر البلدان حرية اقتصادية هو 6451 دولاراً في حين أنه 1185 دولاراً في أقل البلدان حرية. وعلاوة على ذلك، فإن عمر المواطن في الدول المصنفة ضمن أعلى 20% من بلدان العالم من حيث الحرية الاقتصادية يميل لأن يكون حوالي 25 سنة أطول من عمر المواطن من شعوب الدول التي تصنف ضمن أدنى 20% من البلدان من حيث الحرية الاقتصادية. كما أنه يتم الربط أيضاً بين معدل وفيات الأطفال الأقل، ومعدلات الأمية الأقل، والفساد الأقل، والقدرة على الحصول على مياه الشفة النقية، وازدياد الحرية الاقتصادية. ومؤشر الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية يرتبط إيجابياً بالحرية الاقتصادية الأوسع. ومن الأمور المهمة أنه يوجد ترابط إيجابي أيضاً بينها وبين مؤشر فريدوم هاوس (دار الحرية) للحريات السياسية والمدنية: فالبلدان التي تتمتع بحرية اقتصادية أكبر تميل لأن تكون متمتعة أيضاً بقدر أكبر من الحريات الأخرى كذلك.
والواقع هو أن النمو الذاتي الاستدامة ما فتئ يتوقف، منذ زمن طويل، على وجود بيئة تشجع المشاريع الحرة وحماية المُلكية الخاصة. وقد تحققت نجاة الغرب من الفقر الشامل في القرن التاسع عشر في بيئة كهذه، استهلت بدورها حقبة النمو الاقتصادي الحديث. وحتى قبل ذلك، قاد بروز طبقة تجار من المزارعين في إنجلترا إلى تمثيلها في البرلمان، حيث نجحت في القرن السابع عشر في الحدّ من مصادرات التاج البريطاني الاعتباطية للثروة -أي باختصار، ساعد نشوء المزارعين التجار في إقامة المَلَكية الدستورية. فقد عززت القيود الموثوقة التي فُرضت على سلطة الحكومة حقوق المُلكية وسيادة القانون، وهما عاملان رئيسيان في بلوغ بريطانيا العظمى مرتبة القوة الاقتصادية والسياسية المتفوقة في العالم. ومع نمو ثروة بريطانيا العظمى، أصبحت، بالطبع، دولة ديمقراطية.
وتدعم الأدلة الأكثر حداثة المفهوم القائل إن النمو ومستويات الدخل الأعلى تقود أو، على الأقل، تساعد في تعزيز وتثبيت الديمقراطية. وقد درس عالما السياسة آدم برجيفورسكي وفرناندو ليمونغي أوضاع 135 بلداً في الفترة الممتدة بين عامي 1950 و1990 ووجدا أن “دخل الفرد يُشكّل أداة تكهن صالحة باستقرار الديمقراطيات”. فقد وجدا، مثلاً، أنه في البلدان التي كان دخل الفرد فيها أدنى من 1000 دولاراً (حسب تماثل القوة الشرائية للدولار لعام 1985)، كان متوسط المدة المتوقعة لاستمرار الديمقراطيات ثماني سنوات. (“تماثل القوة الشرائية” نظرية تقول إن سعر صرف العملات يكون في حالة توازن عندما تكون قدرتها الشرائية هي نفسها في كل واحد من أي بلدين). وعندما تراوح الدخل الفردي ما بين 1001 و2000 دولاراً، أصبح احتمال بقاء الديمقراطيات 18 عاماً. أما الديمقراطيات في البلدان التي يزيد فيها دخل الفرد عن 6055 دولاراً، فبالإمكان توقع استمرارها إلى الأبد.
وفي حين تُنتج الحرية الاقتصادية النمو لكنها لا تقود دائماً إلى الديمقراطية. فهونغ كونغ وسنغافورة، وهما من أكثر الاقتصادات حرية في العالم، مثالان بارزان على ذلك. كما أن الثروة ليست دائماً ناتجاً تسفر عنه الحرية الاقتصادية، وهو أمر تثبت صحته بعض البلدان الغنية بمواردها وذات الدخل المرتفع نسبياً، لكن حيث تظل الدولة متحكمة جداً بالاقتصاد؛ وكما هو متوقع، تكون الحريات المدنية والسياسية مقيدة بشدة أيضاً في تلك البلدان. غير أن الدور المحوري للحرية الاقتصادية في الأنظمة الديمقراطية يبقى واضحاً. فبإمكانها أن تكون قوة هائلة في تشجيع الديمقراطية، كما أن قدراً جيداً من الحرية الاقتصادية يبقى ضرورياً لتعزيز وتثبيت الحرية السياسية.
الديمقراطية الليبرالية وسيادة القانون
الديمقراطية ليست رديفاً للحرية. فكما رأينا، إن الديمقراطية التي لا ترافقها الحريات الأخرى قلّما تنجح في الحدّ من السلطة الاعتباطية للسلطات السياسية، وإن كانت هذه الأخيرة منتخبة. ولهذا، يُخصّص حالياً جهد كبير لتعزيز سيادة القانون، وهي عنصر محوري لكل من الديمقراطية الليبرالية والحرية الاقتصادية.
من البديهي أن سيادة القانون ضرورية لديمقراطية تعمل بشكل ناجح. والواقع الذي يزداد تقديره هو أن سيادة القانون ضرورية أيضاً للتنمية الاقتصادية. وقد توصل تقرير الحرية الاقتصادية في العالم، مثلاً، إلى أن ما من بلد يتسّم بسيادة قانون ضعيفة يمكنه المحافظة على معدل نمو ثابت قوي (أكثر من 1.1 بالمئة) عندما يزيد فيه متوسط دخل الفرد عن 3400 دولاراً. وبعبارة أخرى، عندما يبلغ اقتصاد ما مستوى معيناً من النمو، تصبح التحسينات في سيادة القانون ضرورية لاستدامة النمو.
وقد لا يكون من الممكن تشجيع سيادة القانون بصورة مباشرة، بخلاف ما هو ممكن في تخفيض التعرفة الجمركية أو في الخصخصة. وقد تتحقق سيادة القانون مع، أو في نفس الوقت تقريباً، الذي يتم فيه تحقيق غيره من الأمور بشكل صحيح.
إنني أتقدم باقتراح متواضع. بدلاً من التركيز على تشجيع سيادة القانون مباشرة، دعونا نخلق أولاً البيئة التي يمكن لسيادة القانون النشوء والتطور فيها. وهذا يعني، من بين إجراءات أخرى، تشجيع إصلاحات السوق أو الحرية الاقتصادية. وبالنسبة للعديد من البلدان الفقيرة، يشمل ذلك الحد من حجم الحكومة. فالبلدان التي يسود فيها اليوم حكم قانون قوي أرست أولاً هذه المؤسسة (أي سيادة القانون) ثم قامت في وقت لاحق فقط بزيادة حجم حكوماتها.
والمؤسف هو أن عدداً كبيراً جداً من البلدان الفقيرة تحاول اليوم تكرار هذه العملية بشكل معكوس. ففي بلدان مختلفة مثل البرازيل وسلوفاكيا وجمهورية الكونغو وروسيا، مثلاً، يتعدى الإنفاق الحكومي كنسبة من إجمالي الناتج القومي ما بين 30 و40 بالمئة. ومن المحتم أن تفشل محاولات تشجيع سيادة القانون حيث لا يزال حجم الحكومات كبيراً، أو أنها ستكون صعبة للغاية. والواقع هو أنه رغم أن التوجه خلال السنوات العشرين الأخيرة كان باتجاه ازدياد الحرية الاقتصادية والسياسية في العالم، غير أنه لا يزال أمام معظم البلدان شوط طويل عليها أن تقطعه على درب الحرية الاقتصادية. وفي حين أن روسيا قد تكون تخلت عن الاشتراكية إلا أنها تأتي في المرتبة 115 بين 127 بلداً على مؤشر الحرية الاقتصادية في العالم.
وعلاوة على ذلك، يشير الكاتب فريد زكريا إلى أن أغلبية الديمقراطيات الفقيرة في العالم هي ديمقراطيات غير ليبرالية، أي أن الأنظمة السياسية فيها هي أنظمة لا توجد فيها أي حريات أخرى غير حرية اختيار من يَحكُم. وهو يشير إلى أن التقليد الدستوري الليبرالي في الغرب تطور أولاً، ومن ثم تطور لاحقاً الانتقال إلى الديمقراطية. ففي سنة 1800، على سبيل المثال، صوّت فقط 2 بالمئة من المواطنين في بريطانيا العظمى التي ربما كانت أكثر مجتمعات العالم ليبرالية آنذاك. ولاحظ زكريا أيضاً أنه في الدول غير الغربية التي انتقلت أخيراً إلى الديمقراطية الليبرالية، مثل كوريا الجنوبية وتايوان، تحققت الرأسمالية وسيادة القانون أولاً أيضاً. ولعل هذا النمط يفسر سبب مواجهة مناطق مثل أمريكا اللاتينية، التي أقامت الديمقراطية أولاً ثم بدأت بتحرير الاقتصاد، فترة صعبة بشكل خاص في تشجيع الحرية الاقتصادية أو النمو.
واليوم، تحاول بلدان في أوروبا الشرقية والوسطى وفي أمريكا اللاتينية وفي أمكنة أخرى، بدرجات متفاوتة من النجاح، تحقيق الديمقراطية والحرية الاقتصادية في آن واحد. وفي بعض الحالات، حصل تراجع في الحرية الاقتصادية، أو أنها لم تعد أولوية، الأمر الذي لا يبشر بالخير بالنسبة للديمقراطية. وفي حالات أخرى، مثل إستونيا، ازدادت الحرية الاقتصادية باطراد معززة بالتالي الديمقراطية. ويجب علينا نحن المؤمنون بالرأسمالية الديمقراطية أن نبقي في أذهاننا دوماً، سواء كنا نعيش في ديمقراطيات غنية أو فقيرة، أو في دول ذات أنظمة استبدادية، الدور المحوري الذي تلعبه الحرية الاقتصادية في بلوغ مجتمع حر.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 18 آذار 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

“الصناعيون يُغيِّرون أماكنهم تدريجياً، تاركين تلك البلدان والأقاليم التي تم لهم إثراؤها، وطائرين إلى غيرها، حيث يجتذبهم رخص المواد والعمالة؛ حتى إذا تم لهم إثراء هؤلاء أيضاً، فإنهم يُنفَونَ مرة أخرى للأسباب ذاتها.” ديفيد هيوم، حول المال، مقالات، ص 283-284.


رسالتي اليوم متفائلة حول التبادل والأسواق، واللتين بدونهما لا يمكن الانغماس في تخصص المعرفة والمهمات. هذا التخصص هو السر وراء خلق جميع أشكال الثروة. لا يوجد أي مصدر آخر للتحسين البشري المستدام، وهذا هو جوهر العولمة.
دعوني أبدأ بعرض ما أود تغطيته في حديثي هذا المساء:
 سوف أبحث تحدياً اجتماعياً وسياسياً نواجهه في العالم الحديث: العيش في عالمين اثنين مختلفين من التبادل في آن معاً، عوالم التبادل الشخصي وغير الشخصي وسوف أبحث بإيجاز العلاقة بين العالمين.
 سوف ابحث أسواق السلع والخدمات، كنظام موسع للتعاون غير الشخصي، محققة أهدافاً لم تكن جزءً من تفكير أيٍّ كان.
 سوف أشمل بعض المراجع لتجارب مختبرية.
 عندما أتحدث عن أعمال أسواق السلع والخدمات، سوف أركز على أهمية التنوع.
 بعدها، سوف أميّزُ بين رأس المال أو (الأسهم) من أسواق السلع والخدمات، وسوف أبحث لماذا أهمية التمييز بينهما.
 وفي هذا الإطار، سوف أتحدث عن المبادرات وعن “فقاعات” الأسواق المالية.
 وضع كل ما تقدم كأساس، سوف ينقلنا إلى العولمة، كاستمرار للهجرة منذ القدم، والتوسع الاقتصادي وتحسين الإنسان.
 سوف أبحث دور التكنولوجيا، والمنافسة في السياسات الوطنية، وكذلك ارتباط التنمية الاقتصادية بالحرية، ولكن ذلك لا يعني أننا نعرف كيف نجعل الحرية أو التنمية الاقتصادية حقيقة قائمة، من الرأس إلى أسفل.
 ونقطتان أخريان أخيرتان سوف تعالجان قضايا استنزاف العقول وتصدير وسائل الإنتاج، وأهمية كل منهما في التنمية الاقتصادية والعولمة.
إننا جميعنا نعمل معاً وفي آن واحد، في أكثر من عالم تبادل واحد. تلك العوالم تتقاطع، حيث نعيش أولاً في عالم من التبادل الفردي—محاباة تجارية وصداقات، وبناء سُمْعات مبنية على الثقة والوثوق في مجموعات صغيرة، وعائلات ومجتمعات، وثانياً، في عالم من التبادل غير الشخصي، من خلال الأسواق، حيث الاتصالات والتعاون انبثقا تدريجياً في تجارة بين غرباء، تفصل بينهما مسافات طويلة.
أكثر الخصائص تأكيداً في الطبيعة البشرية هو نزوعنا الاجتماعي. إنها قدرة مخلوقاتنا على التبادل الاجتماعي الفردي، والتي أتاحت، أول ما أتاحت، التخصص المهني والإنتاج فوق مجرد الحد الأدنى للبقاء. يعود التبادل في جذوره إلى التعامل المتبادل والمشاركة في أنظمة وسلوكيات العائلة، والعائلة الممتدة والقبيلة. هذا التبادل الفردي سمح بالتخصص في المهام ما بين الصيد، وجمع وتصنيع الأدوات، والتي وضعت الأساس لإنتاجية أعلى ورخاء أعمّ، والذي بدوره مكّن الناس القدامى من الهجرة إلى شتى أنحاء المعمورة.
وهكذا، فقد مكّن التخصص، مدعوماً بالتبادل الفردي، العولمة من البدء في مراحل مبكرة، قبل وقت طويل من نشوء الأسواق.
إنني ورفقائي في التأليف قد درسنا أنماط التبادل والشروط التجارية ذات الأفضلية، كما تبدو في لعبة شخصين اثنين، بين أشخاص غير معروفين، وكثيرون منهم يعتمدون على الثقة والمصداقية لتحقيق مكاسب من التبادل—نتائج تعاونية تزيد من الفوائد المشتركة. كثيرون يتجنبون اختيار نتائج تعطيهم أنفسهم ولكن دون إعطاء شيء بالمقابل لأمثالهم في الطرف الآخر. جميعنا قد مرَّ بتجارب عائلية وبين جماعات صغيرة، ندرك منها بأن الأنظمة التي تحكم المشاركة والمبادلة تمتد عميقاً في عقولنا وهواجسنا. لفظ “أنا مدين لك بواحدة” هو سمة إنسانية عالمية تملأ كثيراً من اللغات، والتي يعترف فيها الناس طوعاً بمديونيتهم لقاء تلقي عطية أو تمييز ما.
وفي تمديد التبادل إلى الأسواق مع غرباء، واستخدام المال، فإن تلك العلاقة تُستبدل بتعاملات غير شخصية. ففي التبادل الفردي، كثيراً ما نتعلم بأن عمل الخير للآخرين، يأتي من الرغبة في فعل ذلك، بينما في الأسواق، تختفي تلك النظرة، حيث يعمل كل واحد إلى تحقيق مصلحته.
عندما يأتي الأشخاص أنفسهم الذين يتعاونون عن وعي في علاقاتهم الأولية بين شخصين، إلى المختبر للتبادل التجاري في الأسواق التجريبية التي تضم جماعات أكبر، ماذا يفعلون؟ إنهم يحاولون تعظيم مكتسباتهم الخاصة إلى أقصى الحدود، ولكنهم، من خلال سلوكهم هذا، ودون أن يكونوا قد تعمّدوا ذلك، يعظمون المكاسب المشتركة للجماعة كلها. ولكن تلك الأسواق، تتلقى الدعم من أنظمة خارجية ملزمة تتوخى حماية الملكية، وهذه تمنع الأخذ دون العطاء.
وهكذا، ومن الناحية الفعلية، فإن النوعين من التبادل هما متطابقان: عليك أن تعطي من أجل أن تأخذ. في المبادلات الشخصية، فإن العادات التي تحكم العطاء والأخذ تأتي نتيجة القبول الطوعي المشترك للفرقاء؛ أما في مبادلات السوق غير الفردية (حقوق الملكية)، فإن الأنظمة مدوّنة في الإطار المؤسسي الحاكم.
أسواق السلع والخدمات هي أسس خلق الثروة على امتداد العالم، والمدى الذي يوجدون فيه، يقرر مدى التخصص في المعلومات وأداء المهمات في معظم أسواق التجزئة للسلع والخدمات، يتحمل المنتجون نفقات متكررة يمكن التنبؤ بها نسبياً، ويواجه المستهلكون قيماً متكررة مقابلة مقابل استهلاكهم. وبيد أن النفقات والقيم هي في مكنوناتها شخصية، وبالتالي فإن مثل تلك المعلومات تتبعثر. السيطرة والرقابة على الاقتصاديات الموجهة فشلت، لأن مثل تلك المعلومات لا يمكن إعطاؤها لأي عقل بمفرده، أو لأي عدد من اللجان المُخطِّطة.
لقد اكتشفنا في مختبرات تجريبية موجهة، بأن تلك المعلومات السوقية المتكررة، فعالة إلى درجة لا تُصدَّقْ، ومثل تلك النتائج قد أعيد التثبت منها مئات المرات. يضاف إلى ذلك، أن الأشخاص ذوي العلاقة في تلك التجارب، ليسوا على وعي بأهداف الجماعة التي تبغي تحقيق الحد الأقصى من الكسب. كل واحد، في سعيه لتحقيق مكاسبه الشخصية، ضمن نظام حقوق الملكية، يحقق فوائد قصوى للجماعة، دون أن تكون جزءً من أهدافه ومقاصده.
عندما تُستخدَم في تجارب تدريسية، فإن المُستخلَصات من معلومات أو نتائج في نهاية تجربة تسويقية، تكتشف انطباعين عن الأفراد:
1- الناس ينفون أن أي نمط من الأنماط يمكنه التنبؤ بأسعار التبادل التجاري النهائية وحجم التبادل. ومع ذلك، فإن تلك النتائج توازي جداول العرض والطلب التي تتضمن القيم والأكلاف الموزعة فردياً بين جميع المشاركين. فعالية السوق لا تتطلب أعداداً كبيرة، ومعلومات كاملة، وفهماً اقتصادياً أو فذلكة خاصة؛ وهذه حقيقة لا يجب أن تصيبنا بالدهشة كثيراً، ذلك أن الناس كانوا يتاجرون في الأسواق، قبل زمن طويل من وجود أي عالم اقتصاد لدراستهم.
2- الناس في تجارب السوق يعتقدون أيضاً بأنه كان يتوجب عليهم كسب مزيد من الربح لأنفسهم، ومع ذلك، فقد كانوا في واقع الأمر، في حالة توازن، وأن كل واحد منهم كان يبذل أقصى ما عنده من جهد، في ضوء السلوك المقيد الذي يبذله جميع المشتركين الآخرين.
إن السمة المميزة لأسواق السلع والخدمات هي التنوع: تنوع الأذواق، والمهارات الإنسانية والمعلومات، والمصادر الطبيعية، والتربة والطقس. بدءً ذي بدء، كان التنوع ممكناً ويُشجّعُ عليه، من خلال المشاركة المتبادلة في قيم العائلة، والعائلة الواسعة والقبيلة. وهكذا، في مجتمعات الصيد والجمع قبل قيام الدولة، كانت النسوة والأطفال يجمعون الفاكهة والجوز والحدبة والقمح؛ الرجال كانوا يصيدون؛ وكبار السن كانوا يقدمون النصح في عملية الصيد، ويبتدعون أدوات الصيد، ويشاركون في جميع الصيد.
الناس الأوائل، قبل زمن طويل من نشوء الدول–القومية، كانوا يتبادلون الأدوات والأسلحة والسلع العامة مثل الرموز، والعادات، والصور الزخرفية الرأسية، والحقوق الآمنة للوصول إلى طرق التجارة ومناطق الصيد. وفي أزمان كثيرة، وأماكن كثيرة في أزمان ما قبل التاريخ كان التبادل يمنح للغرباء، من خلال المقايضة، وفي نهاية الأمر، استخدام المال السلعي.
وفي الحقيقة، فإن الإنسان الأول قد هيأ المسرح لتوسع هائل في الثروة والحياة الأفضل، كلما اكتشفت قبيلة بأنه كان أفضل لها أن تتبادل التجارة مع جيرانها القبليين، من قتلهم. إذا قتلتهم فإنهم لن يستطيعوا إنتاج أي شيء وتبادلها معك في الغد، كما أنك لن تستطيع الاستفادة من مهاراتهم الفردية، ومعلوماتهم، وفنونهم، وثقافتهم، وخبرتهم.
كذلك، إذا تركتهم يعيشون، ثم تسرق منهم، فإنهم يصبحون أقل رغبة بكثير في إنتاج المزيد لك، مما لو تبادلت التجارة معهم اليوم. التنوع يحتاج إلى الحرية، لأن الحرية هي التي تسمح لكل إنسان بأن يكون مختلفاً بالشكل الذي يقدر عليه والذي يرغبه. الأسواق بدورها، تدعم التسامح المتأتي عن الحرية.
التنوع في غياب حرية التبادل يؤدي إلى الفقر: لا يستطيع أي إنسان، مهما كانت مؤهلاته عالية في مهارة واحدة، أو مصدر ثروة وحيدة، أن يثري دون التبادل التجاري. روبنسن كروزو كان يملك جزيرة، ولكنه مع ذلك كان فقيراً.
نحن في حاجة إلى الآخرين، وإلى التنوع الذي يجلبونه إلى المائدة، إذا أردنا أن نعيش فوق مجرد الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة. من خلال السوق، نحن نعتمد على الآخرين، والذين لا نعرفهم أو نتعرف عليهم أو نفهمهم. نحن لا نعرف كيف، وبأية وسائل يساهم الآخرون برخائنا، ونساهم نحن في رخائهم. هكذا هي الحلقات الطويلة غير المرئية للاعتماد المتبادل من خلال الأسواق التي تضبطها الأسعار. إن رخاء كل واحد منا يعتمد جوهرياً على المعرفة والمهارات التي يملكها الآخرون، والذين نتاجر معهم من خلال الأسواق.
بدون الأسواق، سنكون حتماً فقراء، تعساء، غليظين وجهلة؛ فإذا كان البعض أقل فقراً، فقد يكون ذلك نتيجة للغزو، أو السرقة، أو الأخذ دون عطاء مقابل، والذي يمكن أن يستمر فقط، ما دام أن هناك آخرين يغزون.
الأسواق تتطلب تنفيذاً مشتركاً لأنظمة التبادل الاجتماعي والاقتصادي وقد عبّر عن ذلك أفضل تعبير ديفيد هيوم، قبل أكثر من 250 سنة، عندما قال إن هنالك ثلاثة قوانين للطبيعة البشرية:
1) حق التملك
2) نقل التملك بالقبول
3) تنفيذ الوعود
هذه هي الأسس الجوهرية للنظام، مع أو دون قانون رسمي مكتوب، التي تجعل ممكناً وجود الأسواق والرخاء.
هيوم يتحدث عن قانون موجود أو سائر نحوه، وليس قانوناً وضعياً أو مشرعاً. مانحو القانون الأوائل، لم يصنعوا القانون الذي أرادوا إعطاءه؛ إنهم درسوا التقاليد الاجتماعية، والقيم والأنظمة غير الرسمية وأبدوها بصفتها تشاريع من الله، أو، قوانين طبيعية.
قوانين الطبيعة في مفهوم هيوم مستقاة من التعاليم اليهودية القديمة: لا تسرق؛ لا تطمع في ممتلكات جارك؛ لا ترتكب شهادة زور. بيد أن هذه التعاليم نفسها، ظهرت في أديان أخرى، على امتداد العالم.
 لعبة السرقة تستهلك الثروة دون تشجيع إعادة إنتاجها، بينما لعبة التجارة تُديمُ وتُنمي الوفرة.
 الطمع في ممتلكات الآخرين يستدعي إعادة توزيع غاصبة، لمكتسبات التخصص والتجارة، وبالتالي تهديد النوازع التي تدعو إلى إنتاج حصاد الغد، تماماً مثله مثل السرقة.
 شهادة الزور تنال من المجموعة، ومصداقية الإدارة، وثقة المستثمر، والربحية الطويلة الأجل، والمبادلات الاجتماعية الفردية، التي تثري المشاعر الإنسانية أكثر من غيرها. إدارة المؤسسات الكبرى، تدفع ثمناً باهظاً إذا ما لجأت إلى تزوير الحقيقة. وعندما تفقد الإدارة المصداقية مع حاملي الأسهم، فإن السوق المالي لا يغفر، كما تبين من قضية شركة “إنرون”، التي هوت قيمة أسهمها عندما فقدت الإدارة ثقة المستثمرين فيها.
هذا يوصلني إلى موضوع رأس المال، أو الأسواق المالية، والتي هي في طبيعتها أكثر بعداً بكثير عن اليقين والتأكد، من أسواق السلع والخدمات؛ ذلك لأنه يتوجب على الأسواق المالية، أن تتنبأ وتستبق المبادرات والاختراعات الجديدة—بضائع وخدمات المستقبل. ففي الوقت الذي تدخل فيه المبادرات الجديدة، تكون حظوظها في النجاح أبعد ما يكون عن التنبؤ.
فإذا كان للمعرفة والتكنولوجيا أن تعطي سلعاً وخدمات جديدة، فإنها تحتاج إلى رؤوس أموال. أسواق المال تسمح لمستخدمي ومقدمي رأس المال أن يكونوا مُميّزين ومتخصصين؛ لا يطلب من المدخرين أن يكونوا رجال أعمال مبادرين، يُنمون ثروة جديدة من استثماراتهم الرأسمالية، وكلاهما يستفيد من تبادل الاستثمار بحصة من الربح، وكلاهما كذلك، يتحملان أخطار الخسارة.
الأسواق المالية، أكثر تقلباً وأقل تنبؤاً بكثير من أسواق السلع والخدمات القائمة، حيث أن مهمتها هي التنبؤ بسلع وخدمات مستقبلية. فقاعات وانهيارات الأسواق المالية ليست جديدة. لماذا؟ انتعاشات الأسواق المالية العظمى تشعلها وتدفعها التكنولوجيا الجديدة.
وعلى سبيل المثال، فقد ساعدت القاطرات التي تعمل بالبخار في القرن التاسع عشر السفن أن تحلَّ مكان المحركات المربعة الزوايا، كما حلّت تلك المحركات محل الخيول في تسيير السكك الحديدية، ومكان العربات التي تسيرها الخيول. لقد تجاوز التوسع في بناء السكك الحديدية في القرن التاسع عشر الشحن البحري بين الأقاليم.
الربحية تحولت إلى خسائر، وإفلاسات واندماجات. ولكن نتيجة لذلك التوسع في القرن التاسع عشر، خُلقت قيمة اقتصادية ظلّت قائمة تخدم الاقتصاد بمجموعه. في بدايات القرن العشرين نشأت تكنولوجيات جديدة عديدة. الهاتف، الكهرباء، البترول، والسيارات—هذه جميعها أحدثت موجة مستدامة من الاستثمار والتنمية. كان هنالك توسع مبالغ فيه استجابة للربحية العالية، تبعها هبوط في معدلات الربح، وخسائر وإفلاسات واندماجات؛ ولكن كانت قد نشأت في غضون ذلك قيمة بعيدة المدى ولم تحدث أية خسارة للاقتصاد. الإفلاس نمطياً، يسمح بموجودات وأصول المدراء الفاشلين—البشرية والمادية—بأن تحوّلَ إلى مدراء قادرين على إجراء محاولة جديدة لإنجاح المشروع المتعثر.
قبل قرن من الزمان، كان هنالك مئات من الشركات الصغيرة التي أقامها مبادرون من رجال الأعمال، على أمل النجاح في صناعة السيارات. ثلث تلك السيارات كانت كهربائية ومعظم السيارات الأخرى كانت تجري التجارب على محركات تعمل بالبخار. وفي النهاية كلاهما فشل: التي تحركها الكهرباء فشلت في قطع مسافات طويلة بل كان مداها صغيراً جداً، بينما كان تشغيل محركات البخار وتسخينها يستغرق وقتاً طويلاً. وكسب السباق محركات البنزين التي جمعها هنري فورد مع خطوط الإنتاج الواسع، بحيث تمكَّن من إنتاج سيارات قليلة الثمن. ورغم ذلك، فإن السيارات الكهربائية لم تصل إلى ذروتها سوى في عام 1912. وبحلول العشرينات، كان فورد قد أنتج حوالي نصف السيارات التي أنتجت حتى ذلك الحين. لم يكن بوسع أحد أن يتكهن سلفاً بمن سوف يكسب الرهان.
في بلدتي ويكيتا، كان يتواجد 15 منتجاً للطائرات عام 1929: ترافيل إير، ستيرمان، سيسنا، يونايتد، ليرد، سويفت، لارك، نول، برادلي، يانكرز، ويكيتا، واتكنز، موني، سوليفان وبَكلي. إثنان منهما كانا أسماء شركات جديدة في عام 1927: سيسنا وسيترمان. وبعد عقد من الزمان اشترت بوينغ شركة ستيرمان الناجحة، والوحيدين الذين ظلوا في ميدان الطيران العام كانا سيسنا وبيتش، اللتين جعلتا من ويكيتا المركز الوطني لهذه الصناعة الجديدة. ومع أنهما كانتا جديدتين مبتدئتين، فإن انهيار السوق المالية الكبير، لم يحل دون نجاحهما.
عقد التسعينات شهد حجماً غير مسبوق في ميدان طرح الشركات للاكتتاب العام. إنني متأكد بأن تاريخ ذلك العقد سوف يسجل عدداً غير مسبوق من نسب الفشل، ولكن كذلك، وإن لم يكن مرئياً إلا قليلاً، زيادة غير مسبوقة في القيمة الاقتصادية طويلة المدى للاقتصاد. تلك الفقاقيع والانهيارات كانت نتيجة لتكنولوجيات جديدة في حقول الإلكترونيات، والاتصالات، والكومبيوتر، والبيولوجيا وصناعات الأدوية. القيمة المستدامة التي تم تحقيقها، تظهر جلياً من خلال إحصائيات الدخل القومي في مرحلة ما بعد تلك الانهيارات: إزداد الإنتاج مع زيادة طفيفة بالعمالة. ونحن نستمر في كسب أكبر لجهد أقل.
إنه لأمر مؤلم لأولئك الذين يجازفون في تكنولوجيا جديدة ويخسرون: بيد أن الفوائد التي تكسبها صناعات أخرى، والمعرفة والاندماجات التي تتبع ذلك، تتيح للقلة الناجحة بتكوين ثروات جديدة طائلة للاقتصاد. هذا هو جوهر النمو، والتقدم، وفي نهاية الأمر، تخفيض الفقر. ولهذا السبب نرى بأن كل واحد تقريباً، هو أكثر ثراءً من آبائه وأجداده.
كيف يمكن إزالة الألم الفردي، وتحقيق النمو بعيد المدى، بوصفة سحرية تتجنب بأن يكون ضررها أكبر من نفعها؟ نحن لا نعرف. في هذا الموضوع، كما في مواضيع كثيرة أخرى، هنالك نوعان من الناس: أولئك الذين يعرفون بأنهم لا يعرفون، وأولئك الذين لا يعرفون. فإذا قال لك أحد بأنه يستطيع أن يتكهن حول من سيكون الرابح في اكتشاف سلعة جديدة ومن سيكون الخاسر، ضع يديك في جيوبك وامسك نفسك.
هذه هي القضية: إذا حدَّدت قرارات الناس في اتخاذ استثمارات مغامرة، في محاولة لحمايتهم من إيذاء أنفسهم، إلى أي مدى سيؤدي ذلك إلى تقليص قدرتنا على تحقيق إنجازات تكنولوجية رئيسية؟ إن الأمل الذي يساور الأفراد في تحقيق مكاسب كبيرة، هو الذي يدفع بإجراء مئات من التجارب، في بيئة من عدم اليقين الشديد، حول أية تجربة، وأي مزيج من الإدارة والتكنولوجيا سوف يكتب له النجاح. إن نجاح الكثيرين، قد يكون جزءً حيوياً من الثمن الذي يدفع لانتقاء القلة من الناجحين. بعد موجة من المبادرات الجديدة، وبعد عدد من الفقاقيع، سوف يعرف المدراء كثيراً حول ما لم ينجح، وحتى قليلاً، حول ما يكون قد نجح.
عملية الاكتشاف هذه أصبحت عالمية بشكل متزايد
العولمة هي كلمة جديدة لعملية كانت على امتداد الزمن، وكانت تتمثل بالهجرة وتوسيع الأسواق اللذين بدأنا بهما جميعنا، عندما كان أجدادنا المشتركون يخرجون من أفريقيا قبل حوالي 50000 عام مضى، ليستقروا في آسيا وأستراليا، 40 إلى 50000 سنة مضت، وأوروبا قبل 40000 سنة، وسيبيريا والقطب الشمالي قبل حوالي 20000 سنة. وممر بيرينج إلى أمريكا الشمالية 13 إلى 15000 سنة، والأمريكيتين بعد ذلك بزمن قليل، ونيوزيلندا ومدغشقر، قبل 1000 عام فقط. لقد استوطن أجدادنا كل قارة ما عدا القطب الشمالي، وجميع الجزر الرئيسية قبل 500 عام من اكتشاف الدولاب الرباعي في السفن الشراعية.
أول تجارة بعيدة المدى بين أوروبا والشرق الأدنى أتاح الهرب من النهايات الميتة المغلقة، ومن القرون الوسطى التي كان يعتصرها الفقر. وقد أدى ذلك إلى اكتشافات جديدة، قامت بها الشركات المساهمة والدول–القومية.
وقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى أن تتخصص كل منطقة، في إنتاج سلع زراعية وصناعية مختلفة، بناءً على الميزة النسبية التي يتمتع بها كل إقليم. وقد تطورت المزارع التي كانت تكاد تكفي للحد الأدنى من العيش، بحيث أصبحت مزارع كبيرة تربي المواشي، وتنتج على نطاق واسع الحنطة والقمح والشعير والأرز، وقامت مزارع تربية الدواجن ومزارع إنتاج الحليب.
في زماننا هذا، انبثقت الثورة العالمية الخضراء من أصناف البذور المحسنة الجديدة التي طوَّرها نورمان بورلوج، الذي نال جائزة نوبل عام 1970. لقد أنقذ نورمان بورلوج حياة أعداد أكبر من الناس ممن أنقذها أي إنسان آخر في الوجود. فقد أدت اختراعاته إلى مضاعفة إنتاج الحنطة والذرة والأرز، مرتين إلى ثلاث مرات، ومكَّنت المكسيك والهند والباكستان والصين من إطعام شعوبها التي ازدادت أعدادها زيادة كبيرة، بزيادة 1% فقط من رقعة أراضي العالم المزروعة. لقد كانت تنبؤات الفزع التي أطلقت في عقد الستينات، والتي تحدثت عن وفاة أعداد ضخمة من الناس جوعاً، في غير محلها؛ واليوم، تبشر الهندسة الوراثية، بسبل واعدة من شأنها ابتكار أساليب أكثر نجاعة وتقدماً في إنتاج الأطعمة، من أراضي أقل، ومياه أقل، وسماد أقل، وتربة أقل انجرافاً. أصبح بالإمكان جني الأكثر من الأقل، وفي بيئة تتفوق تفوقاً هائلاً على سابقتها.
إن آخر مُحرِّك عظيم في العولمة، يتمثل في المبادرات في عمل الحواسب والكومبيوترات، والاتصالات، واساليب الانتقال اللوجستية. هذه الميادين الثلاثة تخدم مبادلات الإنترنت.
لقد جلبت سرعة التغييرات العالمية، عالماً جديداً من التنافس بين الأمم. الجموح في الموازنات والسياسات المالية من قبل الحكومات الوطنية، تثبِّطُ همم المستثمرين، بينما تشجع المواطنين المحليين على السعي للاستفادة من فرص الاستثمار الأجنبية، الأكثر استقراراً. التنمية الاقتصادية، مرتبطة بالأنظمة الاقتصادية والسياسية الحرة، والتي تترعرع في ظل حكم القانون في الأنظمة القائمة على الملكية الفردية. لقد فشلت الأنظمة الشمولية المركزية في تحقيق الأهداف المرجوَّة في كل مكان. إن حقائق التاريخ والاقتصاد تشكل إنذاراً نهائياً، وقد أقدمت بعض البلدان على إصلاح نظمها وتحرير اقتصادها وتحسين أدائها.
ولكن هنالك عالم من الفرق بين القول بأن التنمية والنظم الحرة مرتبطتين أو متوازيتين، وبين اعتماد الوسائل الكفيلة بتحقيق التنمية الاقتصادية. لا أحد يعرف كيف يخطط مركزياً للانتقال من اقتصاد رديء الأداء إلى اقتصاد جيد الأداء.
ومع ذلك، هنالك أمثلة كثيرة من نيوزيلندا، وليختنشتاين، وإيرلندا، والصين التي قامت فيها حكوماتها بإزالة القيود على النشاط الاقتصادي، ورأت نمواً باهراً بمجرد ترك المجال أمام شعوبها لتحقيق تقدمها الاقتصادي.
وقد أجرت دائرة الإدارة والموازنة في الكونغرس دراسة مقارنة للعبء الذي تمثله قيود الأنظمة في 130 بلداً؛ وقد توصلت إلى نتيجة، بأن البلدان العشرة الأقل عبءً تنظيمياً هي هونج كونج، وسنغافورة، والولايات المتحدة، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، وكندا، وسويسرا، وإيرلندا، وأستراليا، وهولندا. هذه هي البلدان التي تظهر في أعلى قوائم الاقتصاد الحر. وكثير منها على رأس قوائم البلدان الأعلى دخلاً لأفرادها. ومن بين الـ20 بلداً على رأس جدول البلدان الأكثر حرية، 11 بلداً منها بين أعلى 20 بلداً في الإنتاج القومي العام؛ و13، من الأكثر حرية بين الـ20، هي كذلك على رأس جدول العشرين بلداً من حيث المبادرات الجديدة. (انظر مجلة الإيكونومست، العالم في أرقام، 2005).
وقد تحولت الصين كثيراً في اتجاه حرية الاقتصاد. وقبل عام ونيِّف، أدخلت الصين تعديلات على دستورها، يسمح للناس بالتملك، وشراء وبيع الممتلكات الخاصة. لماذا؟ كانت خطوة تستهدف السيطرة على الفساد المستشري في الحكومة، والذي يقف عائقاً أمام التنمية الاقتصادية. وقد نشرت النيويورك تايمز، بقلم جوزف كان، مقالاً بتاريخ 23 كانون أول، 2003، ص 1 جاء فيه:
“أقدمت هيئة الصين التشريعية على تغيير الدستور من أجل المحافظة على حقوق الملكية الخاصة، وهي المرة الأولى التي يقدم فيها الحزب الشيوعي رسمياً على حماية الثروة الخاصة منذ السيطرة على الحكم قبل خمس وخمسين سنة. التغيير يسجل نصراً لطبقة رجال الأعمال المبادرين، الذين أمضوا 10 سنوات وهم يحاججون بأن الدستور الماركسي يتحيز ضدهم، ويعطي المجال للشرطة والمحاكم بمصادرة أملاكهم بموجب أوامر الحزب… الفساد مستشري في الصين. السلطات المحلية والوطنية كثيراً ما تصادر أراضي وأموال الناس الذين تعتبرهم خطرين أو عاصين، بزعم أنهم قد فقدوا حقوقهم بسبب مخالفتهم لقانون أو نظام في أثناء جمعهم لثروتهم”.
بالاعتراف بحقوق التملك، تحاول الحكومة المركزية سحب البساط من تحت أقدام منبع القوة الذي يغذي الفساد، على أيدي رجال السلطة المحليين، والذين تصعب مراقبتهم والسيطرة عليهم من قبل السلطة المركزية. وكما أرى الموضوع، فإن التغيير الدستوري هو وسيلة عملية للسيطرة على التدخل السياسي في عملية التنمية الاقتصادية؛ إنها ليست وليدة نزوع سياسي نحو الحرية، بيد أن الضرورة قد تفتح الطريق أمام مزيد من الحرية.
قبل فترة وجيزة، قمت أنا وزوجتي كانداس بزيارة المجمع الضخم زي-بارك، وهو مجمع للأبحاث والتنمية في مدينة بكين، على مساحة 343 فداناً. يحتوي زي-بارك على معظم الشركات المتخصصة في التكنولوجيا العالية في العالم، بما في ذلك 276 من بين أكبر 500 شركة في العالم بموجب مجلة فورتشين. إنهم يستثمرون في المنشآت الموجودة هناك، على أسس سهلة من الاستئجار من الحكومة الصينية ولمدة 50 عاماً. الاستئجار طويل المدى هو وسيلة الالتفاف القانونية على القيود التي تحيط بالتملك.
إيرلندا تدلل على مبدأ أنه ليس ضرورياً أن تكون بلداً كبيراً لكي تُنمّي الثروة لشعبك، بل بمجرد تغيير السياسات الحكومية. كانت إيرلندا في الماضي—إذا قيس ذلك بحجم سكانها—مُصدِّراً كبيراً للناس. لقد كان ذلك، وكما قال جيه. بي. ليمان معلقاً في بروجيكت سينديكيت بتاريخ تشرين الثاني 2002: “لحسن حظ أمريكا وبريطانيا العظيم، ذلك لأن كلاً منهما استقبل أعداداً كبيرة من العقول الإيرلندية اللامعة التي هربت من الحياة الفكرية الخانقة في بلدها. ومع ذلك ومن فقر العالم الثالث حتى مجرد عقدين اثنين، تجاوزت إيرلندا سيدها الاستعماري القديم، في الإنتاج القومي العام للفرد. لقد أصبحت إيرلندا لاعباً أوروبياً مهماً، يدعم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بما في ذلك رأس المال المغامر، ويُنمّون الخدمات المالية وتكنولوجيا المعلومات والتي أدت إلى هجرة عقول معاكسة قوية لصالح إيرلندا. ووفق إحصاءات البنك الدولي، قفزت نسبة نمو الناتج القومي العام من 3.2% في عقد الثمانينات إلى 7.8% في عقد التسعينات من القرن الماضي. كانت إيرلندا في الآونة الأخيرة ثامن أعلى إنتاج للفرد، بينما كانت المملكة المتحدة الخامسة عشرة والولايات المتحدة الرابعة.
كلما أسافر أواجه قصصاً أكثر فأكثر تدلل على هجرة عقول معاكسة لصالح الصين وغيرها، على امتداد العقدين الماضيين، حيث يعود الشباب إلى بلدانهم الأصلية بسبب وجود فرص جديدة وَفَّرها التوسع في حرية الاقتصاد في بلدانهم. هؤلاء الناس هم أمثلة على مبدأ “أستطيع أن أفعل” مبنية على قاعدة من المعرفة والمبادرة؛ وقد أصبحوا يكوِّنون الثروة لأوطانهم الأصلية ويُحسّنون مستويات المعيشة فيها، وللولايات المتحدة، وغيرها من البلدان على امتداد العالم. قصصهم تُدِللُ على حتمية هجرة العقول التي تتأتى عن السياسات الاقتصادية السيئة، ولكنها تدلل كذلك كيف أنه يمكن تغيير تلك السياسات، من أجل توفير فرص اقتصادية قادرة على عكس هجرة العقول.
ريشارد لي كان تلميذاً لدي يدرس لشهادة الدكتوراة، وقد أتم كتابة أطروحته في الاقتصاد التجريبي في جامعة أريزونا عام 1991. عمل أستاذاً مساعداً لفترة في جامعة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة، ثم ترك منصبه للبدء بإنشاء شركة له إسمها الآن أمزينو إنترناشونال. إنه يقسم وقته بين مكاتبه في أمزينو في لوس أنجلوس وبين شنغهاي. شركته تصنع و/أو تُجمّع منتوجات طبية في الصين لتوزيعها في الولايات المتحدة وفي أكثر من ثلاثين بلداً آخر. معظم منتوجاتهم تصمم وتجرب وتطور في الولايات المتحدة وهذا هو النهج المتَّبع على امتداد الصناعة، حيث يتم التطوير هنا والإنتاج يوكل إلى الخارج؛ هذا هو السبب الذي جعل الولايات المتحدة الأولى في العالم بالنسبة لجدول المبادرة على مستوى العالم. ريتشارد لي هو مثال على مواطن صيني، جاء إلى الولايات المتحدة عبر هونج كونج. لقد تعلم ونال خبرته في الولايات المتحدة، ولكن، ونظراً للتحول الذي جرى نحو حرية اقتصادية هناك، عاد إلى الصين ليربط عمله مع الصين، وهو يعمل على تحقيق الثروة في البلدين.
جنيفر بان كانت مضيفتنا في زيارة لمجمع زي-بارك في بكين. كانت تتكلم الإنجليزية بطلاقة، وكانت دقيقة التعبير، واسعة الاطلاع في حقل الكومبيوتر وتكنولوجيا البرمجة. ومن قبيل الفضول استفسرت كانداس عن خلفيتها. لقد كانت شاهدة تملكها الرعب في المجزرة التي ارتكبت في ميدان تيننمن في بكين، وقررت ترك البلاد، وهي تظن بأنها لن تعود إليها أبداً؛ ولكنها عادت بالفعل نظراً للتغيير الذي طرأ على سياسة الحكومة الصينية، وبحثها هي نفسها عن تحقيق طموحاتها. وكما أوضحت لي في رسالة بالبريد الإلكتروني مؤخراً، وأنا أنقل بعض ما ذكرت بموافقتها:
“لقد شهدت أحداث ميدان تيننمن عندما كنت في الصفوف الثانوية. وقد ذهبت في العام التالي إلى جامعة بكين حيث أرسلت فوراً إلى مركز تدريب عسكري “لغسل الدماغ”، لفترة سنة. وبعد أن تخرجت من جامعة بكين، ذهبت إلى الولايات المتحدة للانغماس في “الروح الأمريكية”. ولفترة ثماني سنوات، درست وعملت واكتسبت لنفسي حياة مريحة. ولكن شيئاً ما كان ناقصاً—تحقيق الذات بإحداث فرق أساسي بين حالتين، والقبول بتحمل المغامرة. كان الفراغ أكبر من أن يملأه شراء منزل أكبر أو سيارة أجمل. لذا، فقد وضعت نفسي على طائرة عائدة إلى الصين، لملاحقة “الروح الأمريكية” مرة أخرى. إنني أحب أن أقدم الدروس التي تعلمتها للآخرين، إذا كان بإمكانهم الاستفادة منها. ففي رأيي، هذه هي الوسيلة التي تمكن الإنسان من التقدم، نحن نتعلم من تجاربنا، وكذلك من تجارب الآخرين”.
ريتشارد وجينفر هما مثلان على مبدأ “أستطيع الإنجاز المستند إلى المعرفة وروح المبادرة”. إنهم يخلقون الثروة والحياة الأفضل للصين، وللولايات المتحدة، ولبلدان كثيرة أخرى.
الارتباط الفردي والشخصي بالموطن الأصلي، وبالمؤسسات الثقافية في عالم التبادل الشخصي والاجتماعي، سوف يقود الناس في حالات كثيرة إلى العودة إلى جذورهم وإثراء مجتمعاتهم المحلية والوطنية. وهذه القصص، هي جزء من توجه طويل الأمد لاستخراج الإنتاج والخدمات في الخارج.
جزء من شريان حياة التغيير، والنمو وتحسين الأوضاع الاقتصادية، هو السماح لوظائف الأمس بالذهاب إلى طريق تكنولوجيا الأمس. فإذا مُنعت الشركات المحلية من إيلاء إنتاجها إلى شركات خارجية، فإن ذلك لن يمنع منافسيهم الأجانب من إنتاج الشيء ذاته، وتخفيض الأكلاف واستخدام الوفورات لتخفيض الأسعار ورفع سوية تكنولوجيتهم، وتكون النتيجة أنك توقع الشركات الوطنية بالإفلاس.
أحد أحسن الأمثلة على الإنتاج في الخارج كان ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما نقلت صناعة النسيج في ولاية نيو إنجلند مصانعها إلى الجنوب، استجابة لأجور أدنى—وكالعادة، أدى ذلك إلى رفع مستوى الأجور في الجنوب، وفي النهاية انتقلت تلك الصناعة إلى مصادر أجور أكثر تدنياً في آسيا. بيد أن صناعة النسيج في نيو إنجلند، استبدلت بصناعة الإلكترونيات العالية والمعلومات وتكنولوجيا علم البيولوجيا. لقد ربحت ولاية نيو إنجلند أرباحاً طائلة صافية، على الرغم من فقدانها لصناعة كانت في وقت ما مهمة. وفي عام 1965، حاز وارن بافت على واحدة من تلك المصانع النسيجية المتداعية في ولاية مساتشوستس، كان اسم المصنع بيركشير هثوي، واستخدم تدفق المال الكبير المتأتي للمصنع، وإن كان بوتيرة أقل كمنصة انطلاق لإعادة استثمار التدفقات المالية للشركة، في مجموعة المبادرات الاقتصادية الناجحة. بعد أربعين عاماً من ذلك، أصبح لشركته رأسمال سوقي يقدر بـ(113) مليار دولار. نفس النقلة تجري الآن مع مجموعتي كي مارت وسيرز ريبوك. ليس هنالك شيء يُخلّدُ إلى الأبد، حيث تتأخر شركات قديمة وتحول مواردها إلى نشاطات اقتصادية جديدة.
وقد نشر المركز الوطني للأبحاث الاقتصادية دراسة جديدة حول الاستثمارات المحلية والخارجية التي تقوم بها الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات. إنها شركات تستثمر استثمارات ضخمة في الخارج، ولكنها تستثمر أكثر من ذلك محلياً. لكل دولار يصرف على رأس مال يستثمر في الخارج، تصرف تلك الشركات 3.5 دولاراً على رؤوس أموال محلية. هذه الحقيقة تدعم دعماً قوياً الفكرة القائلة بأن هنالك علاقة متممة بين الاستثمارات الخارجية والداخلية. هذه العلاقات المتممة بعضها بعضاً، آخذة في النمو يوماً بعد يوم مع العولمة، ويستدل عليها في العلائق بين الاقتصادين الصيني والأمريكي.
ما دام أن الولايات المتحدة تظل الأولى في جدول الابتكارات العالمية، فإنني أعتقد بأنه لا شيء تخشاه من توجيه الإنتاج إلى الخارج، وسوف نخسر الكثير إذا نجح سياسيونا في معارضته. ووفق إحصائيات مؤسسة الاقتصاد الدولي، كان هنالك أكثر من 115000 وظيفة ذات مردود أعلى في قطاع برمجيات الكومبيوتر، أنشئت ما بين 1999-2003، بينما تم الاستغناء عن 70000 وظيفة في الفترة ذاتها. ومثل ذلك في قطاع الخدمات حيث توفرت 12 مليون وظيفة جديدة، بينما تم الاستغناء عن 10 ملايين وظيفة. هذه الحالة من التغيرات التكنولوجية السريعة، واستبدال وظائف قديمة بوظائف جديدة، هو ما تقوم عليه التنمية.
وقد قدرت شركة مكنزي أنه، مقابل كل دولار تنقله الشركات الأمريكية لينتج في الهند، فإن 1.14 دولاراً يتحقق لصالح الولايات المتحدة. نصف هذه الفائدة تعود إلى المستثمرين والعملاء، ومعظم المتبقي يصرف على الوظائف الجديدة التي تكون قد استحدثت. وعلى النقيض من ذلك في ألمانيا، حيث العائد من الفائدة هو مجرد 80%. ويعود السبب في ذلك إلى أن نسبة إعادة التوظيف للعمالة المستبدلة، هي أقل كثيراً، كما توجد أنظمة كثيرة تعرقل العمل. (الإيكونومست، 13 تشرين الثاني 2004).
الخلاصة
أسواق السلع والخدمات هي أسس تكوين الثروة. حقيقة أن الأسواق المالية تخدم من حيث أنها توفر رأس المال لتمويل سلع استهلاكية جديدة، يفسر لماذا هي في طبيعتها غير مستقرة أو مؤكدة، ولا يمكن التنبؤ بها، وبمعرفتنا لسلوكيات المستثمرين، لماذا يقعون ضحية الفقاقيع والانهيار.
أسواق المال العالمية أكثر تعتيماً من أسواق السلع والخدمات، لأن على أسواق المال التكهن بالنسبة للابتكارات والمبادرات—لأنها السلع الجديدة والخدمات المستقبلية. وبإيلاء الإنتاج إلى بلدان خارجية، فإن الولايات المتحدة توفر المال الذي يصبح متاحاً للاستثمار في تكنولوجيا جديدة، ووظائف جديدة، كما أنها تظل في وضع تنافسي في الأسواق العالمية.
إننا لا نعرف ما فيه الكفاية عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، بحيث نستطيع إدارتها، حتى نتمكن من جني فوائدها دون آلام مراحلها الانتقالية.
العولمة ليست جديدة. إنها كلمة حديثة لوصف حركة إنسانية موغلة في القدم—إنها كلمة تعبّر عن سعي الجنس البشري لتحقيق حياة أفضل، عن طريق المبادلات، والتوسع العالمي في تخصص الموارد؛ إنها كلمة تنُمّ عن السِّلم. إنها حكمة نطق بها عالم الاقتصاد الفرنسي العظيم باستيا: “إذا لم تعبر البضائع الحدود، فسوف يعبرها الجنود…”
مؤسسة التعليم الاقتصادي، 17 أيلول 2005.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 4 آذار 2006.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

إن فشل الأشكال المختلفة من الدولانية في العالم الثالث، وإفلاس الشيوعية في الاتحاد السوفييتي السابق والصين، والبطالة المرتفعة الطويلة الأمد، والركود النسبي في دول أوروبا الغربية ذات الأنظمة الاقتصادية المعقدة أجبر على إعادة النظر في نموذج التنمية بما يتوافق مع مصلحة السوق والمُلكيّة الخاصة -وباختصار دولة مُقيِّدة بشكل أكثر. ولكن المعركة حول الأفكار والسياسات مستمرة ولم تنتهِ بعد. وفي الحقيقة إنها لن تنتهي أبداً حيث أن قوى الدولانية تجتمع من جديد بدلاً من أن تستسلم. لهذا فإنه من المهم تحليل ما هي السياسات الناجحة وتلك التي تفشل للحصول على تقارب ثابت ودائم لإخراج الدول الفقيرة من فقرها.
إن الشيوعية -وهي شكل متطرف من الدولانية– ذهبت إلى أبعد حد في قمع الأسواق وتجريم الأعمال الحرة. لقد كانت تكاليف الفرصة البديلة لهذه الحماقة المنظمة ضخمة: ففي بولندا على سبيل المثال؛ انخفض دخل الفرد النسبي من حوالي 100% منه في إسبانيا في عام 1950 إلى 40% فقط عام 1990. ومع انهيار النظام الشيوعي بدأت تجربة طبيعية كبيرة، فمن خلال النظر إلى نتائجها ينصدم المرء بالتفاوتات الهائلة بين دول الاتحاد السوفييتي السابق:
 في عام 2004 ارتفع الناتج الإجمالي المحلي مقارنة مع عام 1989 بنسبة 42% في بولندا، و26% في سلوفينيا، و20% في سلوفاكيا وهنغاريا، وعلى النقيض من ذلك فقد انخفض بنسبة 57% في مولدوفا، و45% في أوكرانيا، ولو شملنا اقتصاد الظل في الحسابات فإن الاختلافات في الناتج سوف تكون أقل لكنها تبقى كبيرة.
 إن جميع الأنظمة الاقتصادية الانتقالية قد حققت تقدماً كبيراً في تخفيض التضخم المالي، وبشكل أفضل فقد ترافق أداء النمو طويل الأمد يداً بيد مع الانخفاض في التضخم، وهذا يؤكد على أنه في الدول التي ترث تضخماً مالياً كبيراً، فإن مقاومة التضخم بنجاح يفضي إلى نمو اقتصادي طويل الأمد.
 إن الاستثمار الأجنبي المباشر يأتي عادة بعد نجاح اقتصادي سابق، ويعزز النجاح الاقتصادي المستقبلي، فما بين الأعوام 1989-2003 استقطبت جمهورية التشيك 3700 دولاراً لكل فرد من الاستثمار الأجنبي المباشر، و3400 دولاراً في هنغاريا، و1000-2400 دولاراً في دول البلطيق الثلاث، و1300 دولاراً في بولندا. إن تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر لكل فرد في أوكرانيا ومولدوفا كان فقط 128 و210 دولاراً على التوالي.
إن البلدان ذات المردود الاقتصادي الأفضل تميل كذلك إلى تحقيق نتائج غير اقتصادية أفضل. وعلى سبيل المثال؛ ما بين الأعوام 1989-2001 ارتفعت كفاءة الطاقة (الناتج الإجمالي المحلي لكل كغم مما يقابله من النفط) -وهو مؤشر هام للتأثير البيئي- من 2.5 إلى 3.9 في بولندا، ومن 1.5 (1992) إلى 1.6 فقط في روسيا، بينما انخفضت في أوكرانيا من 1.6 في عام 1992 إلى 1.4 في عام 2001. لقد ارتفع متوسط العمر المتوقع في بلدان وسط وشرق أوروبا بينما انخفض في معظم الدول خارج اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، وعلى سبيل المثال؛ ارتفع في بولندا من 71 إلى 74 عاماً خلال السنوات 1990-2002 بينما انخفض من 70 إلى 68 عاماً في أوكرانيا . إن هناك اتجاهات مشابهة في معدل وفيات الأطفال؛ فما بين الأعوام 1990-2002 انخفض معدل وفيات الأطفال لكل 1000 مولود حيّ من 16 إلى 8 في بولندا، ولكن فقط من 18 إلى 16 في أوكرانيا، ومن 21 إلى 18 في روسيا.
كيف نفسر هذه الاختلافات الكبيرة؟ إذا تحدثنا بلغة النمو في الناتج الاجمالي المحلي فمن المغري أن نطّلع على الاختلافات في الظروف الأوليّة؛ فمثلاً كانت دول البلطيق –إستونيا ولاتفيا وليتوانيا- أكثر اعتماداً على صادراتها إلى نادي الاتحاد التجاري السوفيتي القديم، المعروف اختصاراً بالكوميكون (30%-40% من الناتج الإجمالي المحلي) من الدول الشيوعية في وسط وشرق أوروبا (4%-15% من الناتج الإجمالي المحلي). وعقب انهيار الاتحاد السوفيتي، فإنه يمكننا أن نجادل بأن دول البلطيق قد تعرضت إلى انخفاض أكبر كثيراً في الناتج الإجمالي المحلي.
إن مثل تلك الاختلافات في الظروف الأولية تستطيع أن تفسّر فقط جزءاً من التباين وفقط خلال الأعوام الأولى؛ فعلى الرغم من الصدمات الأولية الهائلة التي تعرضت لها دول البلطيق، إلا أنها أنجزت على المدى البعيد بشكل أفضل، لنقُل، من رومانيا، التي كانت نسبياً أقل اعتماداً على التجارة مع الكوميكون.
إن الاختلافات في النمو الطويل الأمد ناتجة بشكل كبير عن إصلاحات أكثر شمولية موجَّهة نحو السوق وعن استقرار أكثر نجاحاً في الاقتصاد الكلي، ويدعم هذا الاستنتاج دراسات تجريبية مهمة وجادة.
إن الدول التي تُدرِك الإصلاحات تميل إلى إدراك النمو كذلك. خُذ أرمينيا على سبيل المثال؛ التي استطاعت توسعة مجالها في الحرية الاقتصادية وعملت على تقليل نسبة الضرائب للناتج المحلي الإجمالي إلى معدلات منخفضة، أثناء تقوية النظام المالي لديها، ولقد نما ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 70% منذ عام 1996، وقد يكون هذا مؤشراً آخر على أن نموذج الضرائب المنخفضة هو أكثر تحفيزاً للنمو الإقتصادي السريع ممّا هو عليه في الأنظمة التي تقوم بإعادة توزيع واسع لإيرادات الخزينة كما في نماذج دول شرق أوروبا الكبرى.
إن أفضل النتائج الاقتصادية تكون عادة مترافقة مع أفضل النتائج غير الاقتصادية لأن بعض الإصلاحات تكون حاسمة لكلتيهما، فعلى سبيل المثال؛ رفعت الإصلاحات الموجهة نحو السوق مجمل الكفاءة الاقتصادية بشكل كبير، حيث قام كلاهما بتعزيز النمو الاقتصادي والتقليل من التلوث البيئي. إن استحداث سيادة القانون كان مهماً للتنمية بعيدة الأمد ولفرض التشريعات البيئية كذلك، فالتحرر الاقتصادي لم يؤدي إلى تحفيز النمو فقط بل جعل الغذاء الصحي أكثر توفراً وأرخص نسبياً.
إن دول ما بعد الشيوعية التي توجهت بشكل أكبر نحو اقتصاد السوق حققت نتائج اقتصادية -وغير اقتصادية- أفضل من تلك التي لم تنفذ أو نفذت إصلاحات موجهة نحو السوق بشكل أقل. كيف يمكن مقارنة هذا الاستنتاج الأساسي مع تلك التجربة في الدول التي يتواجد فيها قطاع كبير من المشاريع المملوكة للدولة، وأنظمة تحد من التنافس، ومعوّقات لدخول السوق، وقيود على الاستيراد، وأسواق عمل غير مرنة، وحماية ضعيفة لحقوق المُلكيّة الخاصة، وعدم تحمل المسؤولية المالية، وخلافه؟ إن هذه المظاهر في التراكيب المختلفة هي من مواصفات الأنظمة الدولانية التي تقوم فيها الأنظمة السياسية وبيروقراطية الدولة بخنق حرية السوق، وتتصف كذلك بحكومات فاشلة تكون فيها وبشكل ظاهري منظمات الدولة في الحقيقة أدوات للنهب الخاص.
إن قراءتي في الدراسات التجريبية تقترح ثلاثة دروس واسعة:
أولاً: لم تحقق أية دولة فقيرة تقارباً اقتصادياً دائماً تحت أي من الأنظمة الدولانية أو ذات الحكومات الفاشلة، مما يتضمن أن التغيير المؤسسي الذي يُحدِث مثل تلك الأنظمة يحول دون تحقيق التقارب الدائم. والأنظمة التي تقمع وتحد بشدة وتشوه تنافس السوق المشروع تسبب فشلاً اقتصادياً.
ثانياً: إن الحالات الناجحة ذات التقارب الاقتصادي المستمر حدثت تقريباً تحت أنظمة تتمتّع بأسواق حرّة (كنظام الولايات المتحدة الذي كان يحاول اللحاق بالنظام البريطاني في القرن التاسع عشر) أو أثناء وبعد التحول إلى مثل تلك الأنظمة (كنمور آسيا منذ عام 1960 أو بعض الأنظمة الاقتصادية في الفترة اللاحقة للشيوعية بعد عام 1990) مما يوحي أن التسارع في النمو لا يحتاج إلى الانتظار إلى حين قيام مؤسسات “جيدة”، بل من الممكن أن يتسارع النمو خلال عملية الإصلاح بشرط أن تقوم الإصلاحات بتحسين المؤسسات من أجل النشاطات الإنتاجية، وهذا بسبب أن الإصلاحات تزيد الإيراد والإنتاجية في القطاعات التي تم قمعها سابقاً (كالزراعة في الصين أو كقطاع الخدمات في النظام السوفييتي) أو بسبب أن البنية التحفيزية السابقة شجعت على التبذير الجماعي (الاشتراكية المهيمنة).
إن آثاراً مثل تلك التحولات تميل إلى الإضمحلال بعد مدة معينة، عندها سوف تعتمد خطى النمو المستقبلي غالباً على قوة الحوافز الدائمة للعمل والابتكار -والتي بدورها تعتمد على مدى تقدم الدولة نحو كونها دولة مقيّدة، لذلك فإن مدى الاصلاحات الموَجَّهة نحو السوق التي بدأت تحت إمّا نظام دولاني أو نظام لحكومة فاشلة يعتبر أمراً هاماً بالنسبة للنمو قصير أو طويل الأمد.
إن بعض الأنظمة الاقتصادية خصوصاً النمور الآسيوية المسماة “بمعجزات النمو” قد سببت الكثير من الجدل، علماً أنه لا يوجد نقص في التفسيرات التي تعزو نموها السريع والاستثنائي إلى بعض المداخلات الحكومية الخاصة (كالأرصدة الموجهة والعلاقات الوثيقة بين الحكومة والأعمال التجارية)، ونظرة دقيقة لتجربتهم توحي بتفسير آخر:
لفترة ما اختلفت “الأنظمة الاقتصادية المعجزة” في مدى تدخل الحكومة فيها؛ (من عدم تدخل فعلي في هونغ كونغ إلى بعض التدخلات في معظم الدول الأخرى)، ولكنها جميعاً اشتركت في أمر واحد: حدوث أعداد كبيرة من إصلاحات السوق والتي -بالإضافة إلى ظروفها الأولية- ضمنت درجة أكبر من الحرية الاقتصادية أكثر منها في الدول النامية الأخرى. لقد اتجهت تدخلات الحكومة إلى إعاقة النمو طويل الأمد بدلاً من تعزيزه؛ أنظر إلى حركة تحفيز الصناعة الثقيلة التي قادتها الحكومة في كوريا الجنوبية في السبعينات من القرن الماضي والتي ساهمت في نمو دينها الخارجي وحوّلت الاستثمار عن المزيد من الصناعات الموجهة نحو التصدير. نتيجة لذلك انخفض نمو الانتاج المحلي الاجمالي لكوريا الجنوبية بشكل حاد في بداية عقد الثمانينات من تلك الفترة، مما حث على التغيير في السياسة الاقتصادية إلى تدخل أقل من قبل الحكومة.
إن السمات العامة “للدول المعجزة” تشمل معدلات منخفضة لنسبة الضرائب إلى الناتج الإجمالي المحلي بسبب قلة برامج دول الرفاه الشاملة. وهذا يزيد من عرض العمالة ويشجّع على الادّخارات الفردية. إن قادة النمو في عالم ما بعد الشيوعية الذين حققوا معدلات منخفضة لنسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي يجب العمل على تشجيعهم للمحافظة على تلك النسب. إن دولة الرفاه الواسعة في الخدمات العامة تمنع الأشكال التطوعية من التضامن البشري ومن الممكن، خصوصاً في الأنظمة الاقتصادية الأفقر، أن تعيق النمو الاقتصادي، وهذا تحذير لتلك الأنظمة الاقتصادية الأفقر التي لها الآن معدلات عالية من نسبة الإنفاق العام إلى نسبة الناتج المحلي الإجمالي أكثر مما كان لدى السويد أو ألمانيا أو فرنسا عندما كانت تتمتّع بدخل فردي مشابه.
ثالثاً: بينما نشأت جميع حالات التقارب الاقتصادي الدائم تحت أنظمة أسواق حرّة، أو خلال وبعد التحول إلى تلك الأنظمة، إلاّ أنه ليست جميع الإصلاحات الموجهة نحو السوق قد أدت إلى تقارب اقتصادي مستمر. إنه يتم الإعلان عن الإصلاحات بشكل متكرر لكنها لا تنفذ، أو قد يتم تنفيذها في البداية ثم بعد ذلك يتم إبطالها أو تعديلها بشكل جذري، وفي مثل تلك الحالات يكون نقد إصلاحات السوق في غير محله.
قد تفشل الإصلاحات الموجهة نحو السوق إذا كانت غير مكتملة بشكل حاسم، وكمثال على ذلك إدخال نظام ثابت لأسعار الصرف من دون انضباط في الجهاز المالي. إن الانهيار الاقتصادي السابق في الأرجنتين ينبهنا على أن السياسات المالية غير المسؤولة قد تضعف نتائج إصلاحات سوق جادة. وقد تفشل الإصلاحات الموجهة نحو السوق كذلك في إحداث تقارب اقتصادي دائم إذا كانت بعض عناصرها الأساسية منظمة بشكل سيء، كخطأ في حساب المعدل الابتدائي لمستوى تثبيت أسعار الصرف أو كبنية تحفيزية سيئة في قانون الإفلاس.
لا تخول أي من هذه المشاكل البحث عن “حل ثالث” كطريقة مثلى لضمان تقارب النظام الاقتصادي بشكل دائم، إنها مجرّد عقبات يجب التغلب عليها على الطريق لتحقيق اقتصاد سوق متكامل.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 3 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

في تسعينات القرن الماضي، ظهر إجماع جديد بخصوص أنظمة سعر الصرف بحيث بات على الحكومات أن تختار بين أسعار الصرف المرنة وأسعار الصرف الثابتة. فالأسعار الثابتة القابلة للتعديل، مثل تلك الخاصة بنظام (بريتون وودز) ونظام النقد الأوروبي قبل عام 1993، لم تعد فاعلة بسبب ضعفها في مواجهة هجمات المضاربين.
وبدلاً من صفة “المعوّمة” للأسعار سأستخدم صفة “المرنة” لأن مراقبين كثراً غير مقتنعين بالكامل بأن الأسواق أذكى من الحكومات، ولا يستثنون دور التدخل الرسمي في التأثير في الأسعار التي يحددها السوق.
ويبدو أن الإجماع يلمح أيضاً إلى أن الأسعار الثابتة فاعلة ومعقولة في الوقت نفسه، لكن لدي تحفظات على هذا الرأي. فبالنسبة الى كل الاقتصادات تقريباً، ما عدا البلدان الأصغر الملحقة اقتصادياً ببلدان أكبر والتي قد تفضل تبني عملات هذه البلدان، تكون الأسعار المرنة أكثر ملاءمة.
لقد قُدمت حجج كثيرة مؤيدة لتثبيت أسعار الصرف. وكل تلك الحجج سليمة نوعاً ما، لكنها غير جذابة، جملةً وتفصيلاً.
تُطرح الحجة الأولى غالباً على شكل اعتراض على الأسعار المرنة لكنها تُطبق أيضاً على الأسعار الثابتة القابلة للتعديل. ويلعب عدم الاستقرار الناتج من التغيرات في سعر الصرف دور ضريبة على التجارة، وبشكل أكثر أهمية، كضريبة على الاستثمار في قطاعات السلع المتاجر بها.
وعلى رغم إمكان الوقاية من خطر سعر الصرف باستعمال المشتقات المالية، تصعب الوقاية من الخطر ما لم يُعرف حجم تعرّض الاستثمار للعملة الأجنبية. وعلى أي حال، لا يؤثر تغيّر سعر الصرف فقط في قيم العملة المحلية في الدفعات المستقبلية للعملات الأجنبية، وإنما يؤثر أيضاً في قيم العملة الأجنبية من طريق التأثير في حجم التدفقات التجارية المستقبلية وقيمها.
وترى الحجة الثانية المؤيدة للأسعار الثابتة أن تغيرات سعر الصرف تسبب ضغوطاً وقائية ويمكنها بالتالي أن تمنع تحقيق المكاسب من التداولات. وظهرت هذه الحجة دورياً في سياقات مختلفة جداً. فانخفاض قوة العملة البرازيلية عام 1999، دفع الأرجنتين إلى أن تنصب حواجز تجارية وتهدد بوقف تحرير التجارة.
هذه الحجة، كالأولى، لا يمكن أن تُرفَض رفضاً قاطعاً. لكن على رغم ذلك، من الواجب ملاحظة أن تثبيت سعر الصرف يحرم الحكومة من أداتين ثمينتين جداً: سعر الصرف الاسمي والسياسة النقدية. ويمكن لذلك أن يُغري بتبني سياسات تجارية حمائية لتحمل صدمات خفض الناتج.
وتتناول الحجة الأخيرة للأسعار الثابتة تأثير نظام سعر الصرف في نوعية السياسة النقدية. ولهذه الحجة روايات عدة. تقول الرواية الأولى إن سعر الصرف الثابت يحيّد الصدمات النقدية، بما في ذلك تلك الناتجة عن عجز المصرف المركزي. كذلك فإن بلداً ذا سعر صرف ثابت سـ”يستورد” أو “يصدر” النقد آلياً حينما يبرز تغيّر في الطلب أو العرض وبذلك يمنع الصدمة النقدية من التأثير في الاقتصاد الحقيقي.
وتستند الرواية الثانية، بالطريقة نفسها، إلى افتراض أن بعض المصارف المركزية أقل أهلية وصدقية من غيرها. لذلك يمكنها استيراد صدقية من نظرائها الأكثر أهلية من طريق تثبيت سعر الصرف وهكذا تلزم أنفسها بوضوح بمحاكاة السياسة النقدية للمصارف المركزية الأكثر أهلية.
لقد اتبعت هذه الإستراتيجية بلدان أوروبية عدة ثبتت عملاتها الوطنية على أساس المارك الألماني لاستيراد الصدقية من الـ”بوندسبنك”. لكن هل نجحت في ذلك؟ من الصعب الحكم، فقد هبطت نسب التضخم بحدة في أوروبا في الثمانينات وماثلت المستويات الألمانية المنخفضة في آخر التسعينات. لكن نسب التضخم هبطت بحدة في البلدان الأخرى أيضاً، بما في ذلك في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وترتبط الرواية الثالثة بالثانية مباشرة. فهي ترى أن تثبيت سعر الصرف يمكن أن يُستعمل لتحقيق سقوط سريع وكبير في التضخم عندما تعاني البلاد بشكل مزمن من التضخم العالي جداً وحتى المفرط. بكلمة أخرى، يعتبر تثبيت سعر الصرف، كما في السابق، طريقةً لشراء الصدقية.
وهذا النوع من “العلاج بالصدمة” حقق نتائج إيجابية في بلدان كثيرة، بما في ذلك بوليفيا وبولندا والأرجنتين والبرازيل. لكن في معظم الحالات لم يتوقف التضخم فوراً. فأسعار السلع المتاجر بها استقرت بسرعة، لكن أسعار السلع غير المتاجر بها استمرت في الارتفاع، بالترافق مع متوسطات الأجور. وارتفعت الأسعار ببطء أكثر من ذي قبل، لكن بمقدار يكفي ليسبب ارتفاعاً كبيراً في قيمة سعر الصرف الحقيقي وتدهوراً في ميزان الحساب الجاري، فكان ضرورياً خفض قيمة العملة المحلية. لذلك فإن أولئك الذين يواصلون التوصية بهذا النوع من العلاج بالصدمة يسارعون أيضاً إلى التحذير من أن الحكومات التي تتبناها يجب أيضاً أن تبتكر “استراتيجية خروج”، أي طريقة لتعزيز مرونة سعر صرف العملة قبل حدوث ارتفاع جوهري في قيمتها الحقيقية.
مباشرة بعد اتفاق اللوفر عام 1987، تبنت البلدان الصناعية الرئيسة أنظمة شبيهة إلى حد كبير بنظام النقد الأوروبي المؤسس عام 1993. وكان يجب أن أتذكر ما كتبته في وقت سابق، عام 1973، أثناء مشاورات (لجنة العشرين) التي كانت تحاول أن تصمم “نظام أسعار الصرف المستقرة لكن القابلة للتعديل”. قلت إن ذلك كان تناقضاً لفظياً، فالاستقرار غير متوافق مع قابلية التعديل!

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018