شؤون سياسية

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

(الجزء الأول)
الديمقراطية في اصطلاحها العام ليست وليدة اليوم، إذ لها نسب فكري- نظري يمتد لأكثر من ألفين وخمسمائة عام، وقد اتخذت دلالات متنوعة تبعاً للسياقات التاريخية التي ظهرت فيها. وهي لم تزل إلى وقتنا الراهن موضع سجال مستمر، وقابلة للابتكار بصورة دائمة، بسبب زخمها السياسي الذي لا يستنفذ، وأيضاً بسبب النزوع المتنامي واللانهائي إلى المساواة لدى البشر. إن مسيرة الديمقراطية تتقدم من خلال التناقض بين مظهريها، بصفتها مثلاً أعلى وأيضاً كونها حقيقة واقعة. وقضيتها هي ليست الواقعية فحسب، وإنما أيضاً ما ينبغي أن يكون عليه عالم المساواة مستقبلاً. فهي لا تركن إلى ما هو قائم أصلاً، ولا تمنح موافقتها الدائمة لأي واقع قائم يفترض أنه الأمثل، أو ينبغي الاعتراف به على أنه الواقع الأكثر كمالاً. وبهذا أثبتت لحدّ الآن تفوقها وامتيازها بقدرتها على التغلب على تناقضاتها، و على تخطيمثالبها السياسية أكثر من أي نظام سياسي آخر. وبرهنت على أنها الشكل الأسمى لأيّ تنظيمسياسي/ مدني يعدّ  الإنسان مبدأ له، وسعادة الأكثرية غايته الرئيسة.
لقد حققت الديمقراطية في النصف الثاني من القرن العشرين حضوراً طاغياً، وفرضت ذاتها في كل مكان بصفتها الشكل السياسي الأكثر حداثة لحكم المجتمعات ولتنظيم الحياة في عصرنا. وواقع الحال أنه ليس ثمة مبدأ مركزي وحيد يختزل فيه تعريف الديمقراطية، كما ليس هنالك ديمقراطية منجزة تماماً يمكن عدّها النموذج الأشمل والأكمل لشكل الحكم أو لممارسته. ويشير الباحثون إلى أنماط رئيسة تحققت تاريخياً في دول مثل المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا. وهي على التوالي،الديمقراطية الليبرالية، والديمقراطية الدستورية- المساواتية، والديمقراطية التمثيلية أو التنازعية.
ويمكن الملاحظة أن الأخيرة، وهي الأحدث لجهة تحققها التاريخي، تقوم على الإقرار بتعددية المصالح الاجتماعية والتوفيق بينها وبين المساواة القانونية للجميع. وتمكّن الفرد من المشاركة في الحكم، ومن الإسهام في تقرير خياراته السياسية عبر ضمان حقوقه الأساسية. بهذا المعنى فإن هذا المفهوم الأخير للديمقراطية لا يقوم على إخضاع السلطة لحرية طبيعية مفترضة أصلاً في الإنسان فحسب، أو تقييدها، وإنما أيضاً لاستخدام السلطة كوسيلة لخلق حرية جديدة وحقيقية. وهذا هو أحد أوجه الاختلاف بينها وبين الليبرالية. وينوّه آلان تورين بهذا الخصوص إلى أنه ليست ثمة ديمقراطية ليست ليبرالية، وإن كانت هنالك ليبراليات ليست ديمقراطية. ذلك أن الليبرالية تضحي بكل شيء في سبيل بعد واحد من أبعاد الديمقراطية، إنه تحديد السلطة.
الديمقراطية، إذن، لا تعني اليوم إزالة العوائق المادية والمعنوية أمام الأفراد وتحريرهم من القيود فقط، وإنما تعدّهم أيضاً ليكونوا صانعي تاريخهم، فاعلين ومساهمين في تقرير خياراتهم السياسية وإبداعها. والحال أنه ليس ثمة ديمقراطية دون حرية الاختيار، ودون تعددية سياسية تنافسية، ودون انفتاح وتواصل سياسيّ حرّ بين المختلفين. وتنبع الصفة التمثيلية للديمقراطية من هذا الواقع، واقع التعددية والتنوع في الرؤى السياسية والأفكار والمصالح وتنازعها. فلا يمكن تخيل الحاجة إلى ديمقراطية بوجود مجتمع متجانس ومتماه مع نفسه، دون تمايز أو اختلاف. وعليه فإن هذه الصفة التمثيلية تعكس اختلاف الذوات السياسية الفاعلة وتنوع العلاقات الاجتماعية التي تؤسس لأدوارهم. وبناءا عليه نستنتج أن السلطة المنتخبة، ذات الصفة التمثيلية، لن تكون ديمقراطية حتى ولو استحوذت على أغلبية الأصوات، مالم تكن تعددية في الوقت نفسه. ولا تعدو صفتها التمثيلية تلك أن تكون إلا شكلية ومجردة، ما لم تستغرق في ذاتها طيفاً واسعاً ومتنوعاً من الآراء والاتجاهات السياسية القائمة والمصالح الفعلية للبشر.
إن العديد من الأنظمة والشعوب صارت تأخذ اليوم مُثل التعددية  والديمقراطية السياسية على محملالجدّ، وباتت تراهن من خلالها على حياة  سياسية- إنسانية أرقى بكثير مما لو احتكر فرد أو حزب أو عرقأو طبقة الحياة في نفسه. وهذه النظرة أو الأسلوب غدا علامة صحيحة على تقدم المجتمعات سياسياً.فالحياة السياسية الأرقى هي تلك التي تنطوي على المقدار الأوسع من الحرية، وتضمن أكبر تنوع محتمل وتقر به. وكلما كان النظام السياسي ديمقراطياً وإنسانياً أكثر، عنى ذلك أن الذوات السياسية الفاعلة، التي تساهم في إنجاز القرار السياسي، سواء عبر المساهمة المباشرة أم غير المباشرة، على اختلافها هي الأكثر عدداً.
الأطروحة الشهيرة التي هيمنت على النظم السياسية في العالم العربي ودول العالم الثالث، ومنظومةالدول الاشتراكية في القرن العشرين على اختلاف أنماطها، كانت تقول: إن المصلحة الوطنية  الحقيقيةوسلامة النظام سياسياً واجتماعياً، تكمن في التماه بين الدولة والمجتمع وحزب وحيد يمنح نفسه احتكارالشرعية السياسية  والقانونية، وينطق باسم المجتمع وشرعيته، بعد أن استعار صوته ولغته. وقد شخصعالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون خمسة عناصر رئيسة مشتركة بين هذه الأنظمة:
1-                  احتكار النشاط السياسي ليقتصر على حزب واحد.
2-                   تحرك ذلك الحزب بفعل أيديولوجية تغدو الحقيقة الرسمية للدولة.
3-                  تمنح الدولة نفسها احتكار وسائل القوة  والإقناع.
4-                  معظم النشاطات الاقتصادية والمهنية مندمجة بالدولة وخاضعة للحقيقة الرسمية.
5-                  الخطيئة الاقتصادية أو المهنية تغدو خطيئة أيديولوجية، وعليه فينبغي أن تعاقب بإرهابأيديولوجي  وبوليسي في آن معاً.
وواقع الحال أن هذه النظم عمدت انطلاقا من هذه القناعة الأيديولوجية إلى تقويض الحياة السياسيةالحزبية داخلياً. وقلًصت الحراك الاجتماعي المدني إلى أدنى حدّ له، وحالت دون نشوء فاعلين سياسيين،وقضت على كل أشكال المشاركة أو المساهمة  السياسية.
إن أحد أبرز معايير ضعف هذه الدول ومجتمعاتها، كما كان يشير علماء الاجتماع السياسي، تتمثّل فيهبوط المساهمة السياسية، أو ما كان يسمونه بأزمة المشاركة السياسية. وقد عدّ في الوقت ذاته سبباًفي إحساس العديد من الأفراد في تلك المجتمعات أنهم هامشيون ومنبوذون في دول ومجتمعات لايشعرون بأنهم يساهمون فيها . كل ذلك دفعهم إلى الشعور المضاد للانتماء أي العزلة والاغترابالاجتماعي ومن ثم إلى التطرف السياسي وإلى الفوضى والعنف. وهنا تكمن إحدى البؤر المولّدة للعنفوالتطرف الأصولي، كما نلاحظ، في عالمنا.
© منبر الحرية ،يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

اعتمدت معظم الأحزاب والتنظيمات اليسارية وخاصة الأحزاب التي اتبعت النهج “اللينيني” في الحياة الداخلية للأحزاب، ومن ثم الأحزاب القومية مبدأ “المركزية الديمقراطية” كنظام تدير وفقه تنظيماتها السياسية من الداخل. و”المركزية الديمقراطية” مبدأ قام لينين بوضعه خلال مراحل التطور التي مرت بها الحركة البلشفية التي نشأت في بدايات القرن الماضي وتم اعتماده كمبدأ في إدارة الحزب الشيوعي الروسي وتبنته لاحقاً مختلف الأحزاب العالمية التي دارت في فلك اليسار الماركسي اللينيني.
فقبل ثورة عام 1905 كان لينين يرفض تطعيم تنظيمه الثوري بأدنى فكرة ديمقراطية وكان يرى في الميل نحو تطبيق القواعد الديمقراطية ميولاً “طوبويا، بل ومسخرة أيضاً” فالمركزية المطلقة هي الفكرة الوحيدة التي ائتمن لينين إليها حزبه في تلك المرحلة.
ولم يتخلَ لينين تماماً عن فكرة المركزية، رغم ما أنتجته من أزمات داخل التنظيم، ليضطر لاحقاً لإخضاع مركزيته لبعض الأسس الديمقراطية وفي مقدمتها المبدأ الانتخابي الذي بدأ العمل به بعد عام 1905، ولم تغدُ العملية برمتها فيما بعد أكثر من كونها محاولة توفيقية لا تخلو من القسر، بين المركزية والديمقراطية، فبينما كانت المركزية تمثل الأساس في التنظيم اللينيني وتقع على عاتقها وحدها مسؤولية الأخطاء التنظيمية الناجمة نتيجة الحراك المستمر، فقد نجح لينين بذكاء في تبرير المركزية بإسنادها إلى الديمقراطية وجعل الديمقراطية أساساً نظريا، وعروة عملية شديدة التقييد، ارتكز إليها في إعادة إنتاجه للمركزية مجدداً ليصطلح فيما بعد صفة “المركزية الديمقراطية”.
إن الدكتاتورية، كمثال، خاصية ملازمة لأية ثورة حقيقية وإن لم توصف بها، كذلك الأمر بالنسبة للمركزية التي لا يمكن للثورة التخلي عنها وهذا ما يفسر لنا وصف لينين للديمقراطية بالـ”الطوبوية والمسخرة” لكن التحرج في موقف الثوار الشيوعيين، وهم يواجهون الامتدادات الديمقراطية للّيبراليات القومية الغربية في تلك المرحلة، تجلى من خلال المخارج التنظيرية الخالصة التي لجؤوا إليها.
فالحديث عن ديكتاتورية البروليتاريا ورفع شعار “دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية”! الذي اعتبره تروتسكي في كتابه الثورة الدائمة ذا معنى “رجعي”، كذلك وبالقدر ذاته مصطلح “المركزية الديمقراطية”، ومحاولة إضفاء الصفة الديمقراطية على كل فعل تنتجه الثورة، إنما يخلق لدي شعوراً بأن المسألة لا ترقى لأبعد من كونها محاولات جاهدة لاغتصاب “الديمقراطية” وليّ عنقها.
ولا تزال معظم الأحزاب السياسية في العالم الثالث والمجتمعات المتخلفة تعتمد “المركزية الديمقراطية” منهجاً وأسلوباً في إدارة تنظيماتها من الداخل، رغم أن معظمها لا يصرح بذلك علناً، ولا تكف عن زعم الديمقراطية في كل مناسبة ومن خلال الشعارات التي يتم إطلاقها.
من هنا فإن “المشتكين من نقص الديمقراطية” حسب تعبير تروتسكي، داخل هذه التنظيمات، يتزايدون ويرون في مرتكزات المركزية الديمقراطية داخل التنظيم مجرد قواعد قانونية تسهل عملية الاستبداد من قبل القادة والمسؤولين، وكون “من المتعذر تقديم صيغة واضحة عن المركزية الديمقراطية تزيل نهائياً كافة أشكال سوء الفهم والتأويل الخاطئ” باعتراف من تروتسكي، فمن الطبيعي أن يغدو توضيح وتحديد اعتراضات المشتكين من نقص الديمقراطية في ظل مبدأ المركزية الديمقراطية، أمراً صعباً أيضاً.
لكن أكثر ما هو واضح في كافة الأدبيات اليسارية، التي تحاول شرح وتحديد أسس المركزية الديمقراطية هما مرتكزان اثنان:
أولاً: كل هيئة حزبية تتخذ قراراتها بالتصويت وتخضع الأقلية لرأي الأكثرية.
ثانياً: وحدة الإرادة والعمل وخضوع الأقلية للأكثرية بحيث يمنع منعا باتاً أي تكتل داخل الحزب.
ويكشف هذا اللجوء إلى تسطيح فكرة التصويت وتلخيص نتائجها المتعلقة بالعمل التنظيمي، بخضوع طرف لآخر، جانباً مهماً من الاستبداد الذي يتم تبريره بالاتكاء إلى عملية تصويت قد لا تتكرر إلا مرة كل أربع سنوات في أحسن الأحوال، وأن يكفي تحقيق نسبة 50+1 لإخضاع نسبة 49% من الأعضاء الحزبيين واعتبارهم أقلية!.
والقضية ليست قضية استياء من انكشاف كون هؤلاء المشتكين “مجرد أقلية صغيرة” وبالتالي “ليس في الأمر انتهاكٌ للديمقراطية”، في محاولة تروتسكية لمعالجة المسألة، فالمشكلة تبدأ حين يتم التعامل مع ما نسبته 49% من القواعد الحزبية كمتلقين سلبيين تتاح لهم فرصة التعبير عن رأيهم مرة واحدة كل أربع سنوات من خلال المؤتمر العام أو الكونفرانسات المحلية، وليس أمامهم سوى الخضوع والتنازل التام والكامل عن حريتهم في التفكير والتعبير عن الرأي طالما أنهم قبلوا التأطر في إطار الحزب، عملاً بمبدأ “حرية المناقشة ووحدة العمل” هذا المبدأ الذي لا يتحقق شطره الأول إلا مرة واحدة كما سبق الذكر أو في نطاق ضيق من خلال الخلية الحزبية.
بينما يحق لهذه (الأقلية) الحزبية أياً كان حجمها في ظل الأنظمة الديمقراطية والليبرالية أن تمارس نشاطها بانضباط داخل التنظيم منطلقة من وجهة نظرها الخاصة لتروج لأفكارها، ساعية نحو تحقيق الأكثرية داخل الحزب، مع التزامها الطوعي والأدبي إن صح التعبير خارج إطار الحزب بما تم إقراراه في المؤتمر العام.
فالعلاقة بين المركزية والديمقراطية داخل الحزب لا تغدُ متكافئة، إذ ترجح كفة الديمقراطية مرة واحدة خلال السنين الفاصلة بين مؤتمر وآخر، وغالباً ما تكون ديمقراطية شكلية يتم إعدادها بوسائل غير سليمة بتخطيط من قبل المركز الأوحد الذي يقود الحزب بناءً على ما تمنحه إياه المركزية من صلاحيات تخوله بشكل مطلق ممارسة كافة الإجراءات التي من شأنها أن تسهل له تمرير مشاريعه أياً كانت، ومن ممارسات هذه الأحزاب الماركسية والقومية أنها تستسهل عملية طرد الأعضاء الحزبيين كممارسة داخلية حيث لا تكون حاكمة، وأنها تعتقل وتعدم معارضيها حيث تحكم، (إنها دون شك حالة طوارئ بالمعنى السياسي معلنة داخل الحزب)، ولم يتوان لينين في تعريف المركزية ودون تردد على أنها “حالة طوارئ ضد المصادر الكثيرة للتذبذبات السياسية” داخل الحزب.
إنه من الطبيعي، أمر نشوء تيارات وأجنحة داخل التنظيم الواحد، ومن الطبيعي أن تتنافس هذه الأجنحة داخل بيتها الحزبي بشكل ديمقراطي يتيح الفرصة أمام كل طرف ليحاول إقناع اكبر قدر من أعضاء الحزب بأطروحاته حول المسائل المختلفة، وهذا إن تحقق، فإنه أولاً يمكن القواعد الحزبية من المشاركة الفاعلة والتأثير المباشر في تحديد الخط السياسي للحزب من جهة وفي إعادة التأسيس المستمرة والمتجددة لأسلوب العمل السياسي والتنظيمي الذي يتطلب تغييراً مستمراً وفق المستجدات والمعطيات المحيطة بالحزب ودائرة نشاطه، ثانياً فإن هذا النهج ينقذ القرار السياسي من احتمالات احتكاره من قبل المركز، وثالثاً فمن شأن هذه العملية طرد ما بات يعرف بالسباتية في التنظيم من خلال تحريض القواعد بشكل مستمر للتدخل وفق آليات ديمقراطية في مختلف القضايا والقرارات.
كذلك فإن المركزية “الديمقراطية”، سبب أساسي في الانشقاقات التي تتعرض لها الأحزاب، حيث يمنع الظهور الطبيعي للأجنحة داخل الجسد الحزبي مما يؤدي إلى التصدعات التنظيمية، والحلول المبدئية تتلخص في توسيع الحياة الديمقراطية في مقابل المركزية الصارمة وإعطاء الدوائر الحزبية في مختلف المناطق مزيداً من الصلاحيات التنظيمية، وتقليص الفترة الفاصلة بين المؤتمرات العامة إلى سنتين كأقصى حد، ويفضل اعتماد مبدأ أغلبية الثلثين في عملية التصويت، والتأكيد على مبدأ التداول في قيادة الحزب، وكشف مداولات الحزب الداخلية أمام وسائل الإعلام أو إشراك أطراف أخرى حيادية، سياسية وثقافية، حسب ما تتيحه الظروف المحيطة، كي لا تتحول العملية إلى عملية انتظار صعود الدخان الأبيض أو الأسود كما هو معمول في كنيسة السيستين في الفاتيكان والتي تحيط عملية انتخاب البابا من بين 115 كاردينالاً بسرية وتكتم شديدين لكن ما ليس سراً أن العملية لا تتم إلا بموافقة غالبية الثلثين.
إن قبول هذه الإجراءات وحده سيضمن لأي حزب تطوره وتفاعله مع مراحل النضال الذي يبرر وجوده، وهذا وحده سيساعد الحزب في مواجهة التناقضات الداخلية والحؤول دون تحولها إلى أزمات وتعينه في نفس الوقت في التغلب على العقبات الخارجية التي تواجهه.
© منبر الحرية ، 24 ماي /أيار2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

تتّصل الوقائع والحوادث الإيرانيّة المُندلِعَة منذ شهور غداة انتخابات رئاسيّة، مشكوكٌ في نزاهتها إلى حدّ بعيد، بالعديد من العوامل “الداخليّة” بصورة رئيسيّة، ما برحت مفاعيلها تشكّل وقود المعركة الانتخابيّة والسياسيّة المُحتدَمة، فيما بدا من اللحظات الأولى أنّها لن تتوقّف عند حدود العمليّة الانتخابيّة وحسب. وهذا ما حصل في الواقع حيث مدى التفاعل الاجتماعيّ والسياسيّ الذي تولّد من جرّاء المنافسة الانتخابيّة شكّل ثورة في حدّ ذاتها و نواة  لتحوّلات مستقبليّة عميقة، سوف ترسم مستقبل النظام السياسيّ وصورة “الجمهورية الإسلاميّة” في طور مغاير وحقبة متمايزة عمّا عاشتها طيلة ثلاثة عقود.
لقد كانت الأسئلة تتكرّر حول مدى قابليّة الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، للشروع في إصلاحاتٍ سياسيّة وقانونيّة وثقافيّة واقتصاديّة بعد عقودٍ من حكمٍ “دينيّ” متزمّت، فجاءت الأحداث الإيرانيّة الرّاهنة لتمتحن الجدل السياسيّ الداخليّ والصراع بين السلطة السياسيّة- الدينيّة النافذة من جهة وقوى المجتمَعين الأهليّ والمدنيّ اللذين يختزنا بؤراً حيويّة نابضة وروحٍ احتجاجيّة عاليّة، لم تفلح التسلّطيّة السياسيّة- الأمنيّة المدجّجة بسطوة دينيّة هائلة في القضاء عليها و محوها وتدميرها نهائيّاً (كما في نموذج التسلّطيّة العربيّة “العلمانيّة” مثلاً)، وسلّطت أشعةً كاشفة على قوّة كلا القطبَين، كما على البؤرة الحسّاسة في نظام الجمهورية الإسلاميّة؛ الأكثر حَسْماً في تصريف الشؤون الداخليّة والخارجيّة، أي دائرة التقاطع بين الدينيّ والمجتمعيّ والسياسيّ.
أوّل العوامل، كما أشير مِراراً، هو وَهَن الثورة التي قام على أساسها مُجمل النظام السياسيّ الذي بنيت عليه أركان الجمهورية الإسلامية في إيران بعد ثورة العام1979 الشعبيّة التي قادها الإمام الخميني؛ الفقيه ورجل الدين المثير الذي استطاع تكييف مبادئ عقيدية (ولاية الفقيه) – لا تحوز إجماعاً كبيراً في المجمّع الفقهيّ الشيعيّ ذاته – تُجيز لرجال الدين لعب دور سياسيّ مباشر وأساسيّ في حكم الجمهوريّة الإسلاميّة بصفته واجباً شرعيّاً لقيادة الأمّة حتّى ظهور الإمام (المهدي) “الغائب” المنتظر، وإعمال “ولاية الفقيه” وما يتفرّع منها في سبيل تثبيت حكم دينيّ لنظام سياسيّ هجين متنافر في بنيانه (ثيوقراطي – جمهوريّ)، الغلبةُ فيه للمكوّن الإكليروسيّ المُهيمِن في المجال الوطنيّ العامّ.
وبفعل التقادم التاريخيّ ومنطق الأشياء وَهَنت الثورة وضعفت جاذبيتها المعنويّة لأجيال ما بعد الثورة (وهم الجيل الثالث والرابع الآن)، فبرزت الاحتياجات الواقعيّة والحياتيّة الملموسة للمجتمع المدنيّ الإيرانيّ ؛ لا سيما الفئات المدينيّة ومجتمع البازار وأصحاب الكفاءات العلميّة والأكاديميّة وطلبة الجامعات (في العاصمة طهران والمدن الكبيرة خصوصاً)؛ الجمهور الأكثر تواصلاً مع العالم الخارجيّ والمنخرِط في شبكات التواصل العولميّ الإعلاميّة والثقافيّة( جماعات حقوق الإنسان- طلبة الجامعات-جمعيات نسويّة- منظمات مدنيّة متنوّعة…) تلك المحرومة من الحراك والنشاط الطبيعيّ والمدنيّ بسبب القوانين الجائرة والبيروقراطية المقيمَة والتسلّط السّياسيّ- الدينيّ الضاغط. ومن جهة أخرى تزايدَ التهميش الاقتصاديّ والاجتماعيّ بحقّ قطاعاتٍ واسعة من سكان الأرياف وأطراف المدن؛ لكن بنفس الوقت خيبة أملها في إجراء إصلاحاتٍ اقتصاديّة لصالحها كما وُعدت مراراً في العهد الإصلاحيّ، سنوات حكم الرئيس الأسبق محمد خاتمي الثمانيّة(1997 – 2005) الذي مهدّ بفشله في الإيفاء بوعوده المقطوعة لتنصيب أحمدي نجاد من بعده؛ الذي استغلّ مجمل الظروف الإقليميّة ،  وطبيعة الاقتصاد الريعيّ المموّل من عائدات النفط الكبيرة المُستعمَلة كرشوة وهِبَات لقطاعات اجتماعيّة واسعة من الفقراء و”المُستَضعَفِين” و”المحرومين” وعناصر الجيش والشرطة والحرس الثوريّ؛ التي مكنّت الرئيس أحمدي نجاد من استمالتها إلى جانبه كقوّة انتخابيّة أساسيّة (وهي ظاهرة كانت ملحوظة في بلدان أخرى مشابهة، حيثما أُتيحَ للسلطة المركزيّة تأطير المجتمع المحكوم وفق أواليات الاقتصاد الأوامري command economy فتحوز – أي السلطة- تبعاً ولاءً سياسيّاً قويّاً حتّى نفاذ القدرة الأبويّة تلك أو نفوق الموارد الطبيعيّة وتضعضع الدور الأبويّ للدولة، وهو ما بدأ في الواقع وغدا من الصعوبة الفائقة هيكلة المجتمع وفق تلك الآليات الآفِلة، غير المتاحة على نطاق واسع في النطاق الاقتصادي العالمي المعولَم). وهو قد زَعم تمثيلها “الطبقيّ” في الانتخابات الأخيرة، عن طريق استنهاض خطاب شعبويّ تعبويّ واستنفار الغرائز والشعارات الدينيّة فيما يتعلّق بموقفها العصابيّ من (الغرب الكافر) وقوى (الاستكبار العالمي) وإنكار المحرقة اليهوديّة من خلال نظرة دينيّة اصطراعيّة مع العالم بغية خلق إجماع قوميّ والحفاظ على ثوابت (الثورة الإسلاميّة) التي تخدم في نهاية المطاف تثبيت طبقة الحكم في طهران المتمحورة حول سلطة رجال الدين أساساً و تثبيت السّلطة حول المقدّس في الداخل، مع إظهار ملامح قويّة لقوميّة إيرانيّة؛ يشكّل التديّن الشيعيّ عنصراً مندمجاً في تكوينها، وهي لا تخفي طموحاتها الإقليميّة الواسعة ، المشروعة منها وغير المشروعة.
غير أنّ الشعارات الهادرة لا تقوى على التصدّي العمليّ للمشكلات الحقيقيّة وتقديم حلول واقعيّة لها وهي إنْ فعلت فإلى حينٍ، فالوقائع عنيدة في كلّ مكان. وبالفعل فإنّ جملة إشارات كانت تشير إلى تململ الداخل الإيرانيّ وتذمّره من الأوضاع الداخليّة المتدهورة والسياسات الخارجيّة الانعزاليّة والصداميّة مع الغرب والجوار الإقليميّ التي دفعت بهما القيادتان الدينيّة والسياسيّة البلاد إلى حدود متوتّرة. كما كان مأمولاً من قبل مراقبين كثيرين ألاّ تتكرّر مفاجئة انتخابات العام 2005 التي أوصلت محمود أحمدي نجاد، عمدة بلدية طهران القادم من صفوف الحرس الثوريّ ( الجهاز العسكريّ والأمنيّ الذي يتمتّع بنفوذ ماليّ واقتصاديّ وسياسيّ في البلاد)، إلى سدّة الرئاسة بتزكية ودعم فائقَين من قبل مرشد الثورة الإسلاميّة الإمام الخامنئي الذي يواصل اليوم السياسة ذاتها أي  دعمه لنجادي في مواجهة منافسيه الآخرين الأمتَنْ صِلة بالثورة الإسلاميّة والمؤسّسة الدينيّة في إيران التي يترأّسها الخامنئي بالمقارنة مع أحمدي نجاد ، ابن السلك الديبلوماسيّ والأمنيّ. مع ملاحظة أن كِلا الرجلين يتشاركان ،على الأقل، في تحدّرهما من المنبت الاجتماعيّ والاقتصاديّ الواحد والتوافق في التوجّه السياسيّ، فضلاً عن خضوع ” التلميذ الصغير” لسلطة الإمام الدينيّة.
لكن من غير الواقعيّ تماماً قصر وهن الثورة على سنّي حكم نجادي. فالواقع أن الثورة ولدَت وشاخَت بسرعة قصوى ونالَ منها ما نالَ الثورات الشعبيّة (الحقيقيّة، لا المدعاة مثل الانقلابات الشلليّة العربيّة) في أمكنة أخرى في زمن قصير للغاية. فانكفأت الرغبة الثوريّة الشعبويّة باكراً إلى تثبيت سلطة ضيّقة تحصّنت بالمزيد من التشدّد حيال “الشعب” الذي أنجبها(الثورة – السلطة). لكن لن يسهل عزل “الشعب” عن الحياة العامة نظراً للحركيّة السياسيّة العالية في المجتمع الإيرانيّ الذي لم يَغْب عنه الصراع السياسيّ والاجتماعيّ؛ وهو اليوم خميرة الاحتجاجات الإيرانيّة المتمادية بصورٍ شتّى. وهذا الصراع الدائر بقوّة في ثنايا المجتمع الناجم عن توازن القوى الاجتماعيّة الجديد وانشقاق النظام، لن يُحسم لصالح تعزيز سلطويّة النظام السياسيّ والإيديولوجيّ وتمكينه لفترة طويلة على ما قد تشير معطيات الداخل الإيرانيّ راهناً نتيجة الإفراط في استعمال القوّة والقمع وإرهاب المحتجّين والمعارضين. بل يمكن المجادلة في أنّ الشعب الإيرانيّ يخوض معركة بناء الديمقراطيّة (“من الداخل”)، وأنّ إيران صارت على سكّة الانتقال الديمقراطيّ ( في شروطه الإيرانيّة “الخاصّة”) العسير كنتيجة مُحْتملة راجِحة وحصيلة موضوعيّة للمخاض الطويل في البنى السياسيّة والاجتماعيّة لمجتمعٍ حيّ وإرثٍ من الخبرة المكرّسة في ممارسة السياسة والانخراط العميق في الشّأن العام لدى الجمهور الإيرانيّ ( ” الإرث ما قبل السلطويّ ” في لغة دارسِيْ نماذج الانتقالات من الحكم السلطويّ)، سليل أوّل ” ثورة دستوريّة ” في المنطقة، والممانِع للاستبداد والتسلّط ” إلى الأبد”، أيّاً كان مصدره “دينيّاً” أم “علمانيّاً”…
© منبر الحرية ، 20 ماي /أيار2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

يعود ظهور وسائل الإعلام في إيران  بدايات القرن التاسع عشر، وكان أولها ظهوراً الصحافة، حيث أنشئت في إيران أول مطبعة عام 1819 في مدينة تبريز إبان الحرب الثانية مع روسيا وكان أول إنتاجها “رسالة جهادية” التي كتبها ميرزا عيسى قائمقام فراهاني. أما أول صحيفة أو “روزنامة”، وتعني بالفارسية المعاصرة صحيفة أو رسالة اليوم، فقد أصدرها ميرزا صالح الشيرازي عام 1837، وفي عام 1851 صدرت أول صحيفة أسبوعية وكانت باللغة الفارسية مثل صحيفة الشيرازي. وأصدرت وزارة الإعلام في ذلك الوقت جريدة يومية في صفحة واحدة وكانت تعنى بالأبناء والأحداث اليومية ثم تطورت الصحافة كثيراً في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وتنوعت إصداراتها، وظهرت المجلات والصحف المتخصصة في شؤون الطب والهندسة والعمارة وغيرها.
ومرت الصحافة الإيرانية منذ نشوئها بالمراحل الست التالية: مرحلة دعم الدولة والمرحلة الدستورية ومرحلة رضا خان ومرحلة الفوضوية ومرحلة الصمت في العهد البهلوي الثاني ومرحلة ولاية الفقيه.
ومن المفارقات أنه قبل شهر من انتصار الثورة ألغى شهبور بختيار، آخر رئيس وزراء في حكومة الشاه الرقابة على وسائل الإعلام في إيران. ورغم أن الصحف استقبلت الخميني – الذي كان تحدث في خطاب له عام 1963 بصراحة ضد حرية الصحافة، لكنه عشية انتصار الثورة عام 1979 بدا “مؤيدا لحرية الرأي”التي استقبلته لدى عودته  البلاد بأكبر مانشيتاتها، وبعبارات الترحيب والمديح «للملك الذي دخل بخروج الشيطان»، وبعد أقل من ستة أشهر من قيام الثورة، قام متظاهرون بإحراق مبنى صحيفة «آيندكان»، ومن ثم الهجوم على مبنى مجلة «أُميد إيران» التي تجرّأ رئيس تحريرها ونشر صورة الدكتور شابور بختيار آخر رئيس وزراء في عهد الشاه على غلافها. ونشبت في يوليو (تموز) 1979، معركة دامية بين مسلحي «حزب الله» وفدائيي الإمام وحرس الثورة مع الطلبة والنساء والمثقفين المدافعين عن الصحف المستقلة.
وبموجب قرار أصدرته وزارة الإرشاد (تعادل وزارة الثقافة) في اليوم التالي للمعركة، تم توقيف أربع صحف وخمسين مجلة وصحيفة أسبوعية بأمر الإمام الخميني.
وكانت صحيفة«آيندكان» الصباحية، أكثر شجاعة من صحيفتي «اطلاعات» و«كيهان» في انتقاد رجال الدين وفكرة إقامة نظام ديني في إيران. كما تحولت مجلة «أُميد إيران»الأسبوعية، الواسعة الانتشار،  منبر للشخصيات والتنظيمات المطالبة بقيام نظام علماني في البلاد.
و أصدر مجلس قيادة الثورة قانوناً جديداً للصحافة، وفرض هذا القانون بعض القيود على وسائل الإعلام. ولم تتمكن الحكومة المؤقتة برئاسة رئيس الوزراء الليبرإلى مهدي بارزكان، التي لم توافق مطلقاً على هذه القيود الواسعة على حرية الصحافة ، سوى من إبداء معارضة بسيطة على هذا الإجراء. وفي عام 1981 فقط تم منع 175 صحيفة ومجلة.
وتم خلال الفترة من 1979  1984 مثلاً إعدام نحو 44 صحافياً إيرانياً إضافة  مئات المفكرين وفق تقديرات منظمات حقوق الإنسان.  وفي نهاية الحرب عام 1988 لم يبلغ عدد الصحف والمجلات الصادرة في إيران أكثر من 121 صحيفة ومجلة.
وازداد عدد الصحف والمجلات تحت حكم الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رافسنجاني مجدداً. وكان الرئيس التالي خاتمي حينها مسؤولاً عن وسائل الإعلام بحكم منصبه كوزير للثقافة. وخلال فترة حكم رفسنجاني تم أيضاً تأسيس إصدار الصحيفتين الكبيرتين “هامشاري” و”إيران” بمبادرة من قبل ما يسمون بالتكنوقراط.
وابتداء من العام 1989 أتاح التعديل الدستوري إدخال مادة تنص على أن “حرية التعبير والرأي ونشر الأفكار مضمونة، إذا لم يتم المساس بالمبادئ الإسلامية ومصالح البلاد” وحدوث تراجع في نفوذ الراديكإلىين. وظهور بوادر انفتاح ثقافي وإعلامي وفني، لذا صدر عدد كبير من المجلات الثقافية والاجتماعية والسياسية، كما عادت ظاهرة مجلات الكاريكاتير السياسي الساخرة ذات الحرية شبه المطلقة، ومنها مجلة “كل آفا”. وأيضاً صدرت مجلات ثقافية انفتاحية نسبياً مثل: مجلة “كيان” التي أصدرها محمود شمس، ودعت  إعادة الاعتبار  مهدي بازركان أول رئيس حكومة في الجمهورية الإسلامية كما صدرت مجلات وصحف معارضة للأيديولوجية الدينية الإسلامية مثل مجلة “عالم الكلمة”. ويضاف إلى ذلك الصحف والمجلات المعبرة عن تيارات وأجنحة النظام السياسي الإسلامي الإيراني، مثل صحيفة “سلام” التي تنتقد السياسة الإيرانية الخارجية، وصحيفة “جهان إسلام” اللتان تعبران عن التيار الراديكإلى. في حين عبرت صحيفة “رسالة” المسائية وصحيفة “جمهوري إسلامي” عن تيار المحافظين القريبين من مؤسسة البازار. أما تيار المعتدلين سياسياً وثقافياً فعبرت عنهم صحف: “طهران تايمز” و”كيهان” و”اطلاعات”.
ومن أغسطس (آب) 1979، وحتى انتخاب محمد خاتمي في مايو (أيار) 1997، كانت الصحف القليلة التي واصلت صدورها: «كيهان»، «اطلاعات»، و«جمهوري إسلامي»، وبعض الصحف والمجلات المهنية والدينية ذات توزيع محدود جداً، وكانت تشبه نشرات حكومية بلا طعم، بحيث لم تكن «كيهان» تختلف عن «اطلاعات» وهما تشبهان «جمهوري إسلامي». ورغم أن ظهور صحيفة «سلام» اليسارية الدينية التوجه أواخر عهد الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، أثار اهتمام بعض التيارات السياسية، غير أن توزيع الصحيفة لم يرتق  أكثر من ثلاثين ألف نسخة يومياً، علماً أن صحيفة «اطلاعات» في الفترة القصيرة التي كان الدكتور بختيار يتولى فيها رئاسة الوزراء، قد تجاوز توزيعها مليون نسخة في اليوم، بينما كان توزيع «كيهان» أيضاً بحدود المليون. أما توزيع كافة الصحف الصادرة في طهران عشية انتخاب خاتمي، كان أقل من مائتي ألف نسخة.
ولعبت صحيفة “سلام” دوراً لا يستهان به في دعم الإصلاحيين، في انتخابات الرئاسة عام 1997 مما أدى في النهاية إلى خروج خاتمي فائزاً فيها.  وبعد وصول محمد خاتمي  الحكم عام 1997، عين الليبرإلى آية الله مهاجراني وزيراً للثقافة في حكومته. ومنح مهاجراني بسخاء تراخيص لصدور صحف ومجلات جديدة، الأمر الذي مثل ربيعاً ثانياً للحرية بالنسبة للصحافة في تاريخ الجمهورية الإسلامية.
و كان ظهور صحيفة «جامعة» بشكلها المختلف عن شكل الصحف الرسمية الصادرة آنذاك، منعطفا في تاريخ الصحافة الإيرانية بحيث حققت الصحيفة نجاحا ليس فقط في مجال انتشارها ومقدار توزيعها فحسب، بل في استقطاب عدد من أبرز الكتاب والصحافيين، غير أن السلطة العليا والتيارات المحافظة التي كان فوز خاتمي بمثابة كابوس لها، أبدت استياءها ورفضها لأسلوب صحيفة «جامعة» وتوجهات كتابها بعد صدور بضعة أعداد من الصحيفة. ورغم أن خاتمي ظل مدافعا عن «جامعة» والعاملين فيها غير أن المرشد الأعلى لإيران آية الله علي خامنئي أمر بتوقيفها بعد ستة أشهر من صدورها عبر أمر أصدره القاضي سعيد مرتضوي النائب العام لطهران والذي كلفه خامنئي بمراقبة الصحف ودور النشر. لكن صحيفة «جامعة» عادت تحت اسم «توس» وهي صحيفة محلية كانت تصدر في خراسان وحينما تم توقيف «توس»، صدرت صحيفة «نشاط» ومن بعدها «صبح آزاديفان» التي جرى توقيفها.
وخلال الفترة نفسها صدرت صحف إصلاحية أخرى، أبرزها «صبح امروز» لمستشار خاتمي سعيد حجاريان، و«مشاركته» لشقيق خاتمي الدكتور محمد رضا خاتمي نائب رئيس البرلمان السابق، و«خرداد» و«فتح» لوزير داخلية خاتمي الإصلاحي عبد الله نوري الذي دخل السجن لمدة خمس سنوات بعد توقيف صحيفتيه، وصحيفة «بهار» و«آريا».
وكان لتزامن عملية إطلاق الحريات الصحافية وانتخاب نقابة للصحافيين الإيرانيين مع اندلاع الجدال داخل النظام السياسي الإيراني حول مبدأ “ولاية الفقيه” انعكاسه الواضح في الواقع الصحافي-إذ- اهتمت الصحف القديمة والجديدة والمعتدلة والمحافظة في هذا النقاش، وفي نقاشات أخرى تهم الشارع الإيراني وتتعلق بموضوعات اجتماعية واقتصادية وسياسية. وتجاوب الرئيس خاتمي مع متغيرات المشهد الثقافي الإيراني. إذ أنه رداً على اعتداء أنصار حزب الله على مقر صحيفة “إيران الغد” المعارضة بسبب نشر مقالة تنتقد فيها ظاهرة الدعوة  إقامة الصلاة في البلاد، وانتقاد عمل منظمة إقامة الصلاة الدينية الرسمية، أمر الرئيس خاتمي بالاعتقال الفوري لمنفذي هذا الاعتداء الذي باركته صحيفة “شلمجة” الناطقة باسم أنصار حزب الله الإيراني.
كما انتقدت صحيفة “إيران نيوز” ممارسات عناصر الباسيج “المتطوعون” الذين أقدموا على منع حفلة لموسيقى إيرانية تقليدية في مدينة آراك على الرغم من أن فرقة “شكواك” التي شاركت في هذه الحفلة حصلت على ترخيص من السلطات. وبالمقابل وجهت صحيفة “شلمجة” رسالة تطالبه فيها بتطبيق القانون وعددت مظاهر الفساد في المطبوعات الجديدة ولا سيما تلك المتخصصة في السينما والرياضة.
و جعلت الصحف الإصلاحية والمجلات التي انتهجت الخطاب الإصلاحي والليبرالي إيران أكثر الدول في المنطقة نشاطا وحرية في مجال الإعلام في السنوات الأولى لرئاسة خاتمي، غير أن الوضع تغير بسرعة بعد أن اتهم آية الله خامنئي الصحف الإصلاحية بأنها تحولت  قاعدة العدو (أي أميركا)، بحيث أصدر القاضي سعيد مرتضوي قرارا بإيقاف 18 صحيفة يومية و90 مجلة أسبوعية وشهرية دفعة واحدة، مما يعني أن أكثر من عشرين ألفا من الكتاب والصحافيين والفنيين قد وجدوا أنفسهم بلا عمل، فيما انتهى أمر بعضهم مثل أكبر كنجي وعماد الدين باقي وشمس الواعظين  السجن.
وحتى عام 2000 أمر المحافظون بمنع أكثر من 80 صحيفة ومجلة، لكن العاملين في هذه الصحف تمكنوا من مزاولة نشاطهم الصحفي في الصحف الصادرة حديثاً. وفي بداية فترة رئاسة خاتمي لم يتجرأ المحافظون على منع أي صحيفة من دون أمر قضائي. وفي الأعوام اللاحقة أصبح المحافظون أكثر عدوانية وباتوا في وضع يمكنهم من منع الصحف غير المرغوب فيها حتى قبل صدورها. وتجاه ذلك لم يرغب أو يتمكن رئيس الدولة الإصلاحي خاتمي من فعل أي شيء يُذكر.
وسبق لوزير الثقافة والإرشاد الإسلامي السابق-رئيس مجلس الشورى الحالي- علي لاريجاني أن لخص المنجزات الثقافية في عهد الثورة الإسلامية. وتحديداً منذ العام 1979 وحتى 1993، بقوله: “هناك 600 صحيفة تصدر في إيران، وهذا يساوي ضعفي الرقم الذي كان يصدر قبل الثورة، وكثير منها متخصصة وبعضها عامة. ومنها ما يتخصص بطرح آراء المفكرين، وهناك صحف تصدر بلغات أجنبية (…)، وقبل الثورة كنا نطبع بين ألفين وثلاثة آلاف عنوان كتاب في السنة. والآن 1993 نطبع بين 8 و10 آلاف عنوان و60 مليون نسخة”. ولجهة الدقة صدرت في عهد الثورة الإسلامية 420 مطبوعة بينما كان عددها في عهد الشاه 150 مطبوعة.
ومع تولي أحمدي نجاد لرئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ساءت أحوال الصحافة في إيران بشكل واضح، فينما كانت وزارة الثقافة ما تزال تدعم الصحافة خلال رئاسة خاتمي، تغيرت هذه الوزارة خلال حكم أحمدي نجاد لتتحول  جهاز لمراقبة الصحافة النقدية. وفي السياق نفسه تم منع مجلة “بازتاب” الإلىكترونية المقربة من المحافظين. و أيضا منع صحيفة كارغوزاران المقربة من تيار رفسنجاني، بسبب نشرها بياناً لإحدى الروابط الطلابية، اتهمت فيه حركة حماس الفلسطينية باستخدام المدنيين في قطاع غزة كدروع بشرية.
وازدادت أوضاع الصحافة في إيران تدهورا خلال وبعد الأحداث التي شهدتها إيران بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في حزيران –يونيو2009، من خلال اعتقال عدد من الصحافيين وإغلاق بعض الصحف الإصلاحية، إضافة إلى هجرة عدد من الصحافيين. وفي الوقت نفسه تعمقت أزمة سميت أزمة الهوية الصحافية وأزمة أخرى في المهنية، بمعنى أن الوسط الصحافي الإيراني لم يستقر حتى الآن علی تعريف واضح لمهنة الصحافة، وهوية واضحة للأداء الصحافي.
وتم إرجاع الأزمة المهنية، وأزمة الهوية  محاولة الجيل الجديد من الصحافيين استغلال العمل الصحافي من أجل غايات سياسية محددة.
وبرر الأكاديمي والصحافي مهرداد خليلي لجوء بعض الصحافيين الشباب إلى خارج إيران بوقوعهم بين نارين، فهم لا يستطيعون من جهة تحمل الضغوط المالية والضغوط السياسية لمؤسساتهم الصحافية، ومن جهة أخری لا يمكنهم نسيان أجواء الانفتاح التي عاشوها لمدة قصيرة أيام الرئيس السابق محمد خاتمي. وبذلك، فإن مثل هؤلاء الصحافيين سيتجهون نحو أي باب يُفتح أمامهم، إحساساً منهم بأنهم ينتقلون إلى الصحافة المهنية.
ورغم القيود نشأ بعد بدء عملية الإصلاح في عام 1997 وعي ذاتي جديد بين الصحفيين المستقلين عن الحكومة الإيرانية. وبات من الصعب اليوم السيطرة على جيل جديد من الصحفيين في إيران، ومن أسباب ذلك استخدام هؤلاء للإنترنت بشكل أكبر، بعد أن باتت الصحف الورقية  في إيران في قبضة المحافظين.
لكن السلطات شددت الرقابة على الانترنت من خلال قائمة طويلة من “المخالفات” التي تعرض مرتكبيها للعقوبات. إذ تحظر القائمة التي وضعتها “هيئة خبراء” المواقع التي تحتوي على مواد “مخالفة للقيم الاجتماعية” أو “مخالفة للقيم الدينية” أو تنطوي على تهديد “للأمن والسلام الاجتماعي”, أو تلك “المعادية لمسؤولين حكوميين أو هيئات حكومية” أو التي “تسمح بارتكاب مخالفة” عبر التحايل على الحظر واختراق حجب المواقع. ويمنع النشر على الانترنت للمواضيع المنافية “للقيم الدينية”, أو التي “تتعرض للإسلام والأديان المعترف بها, والأنبياء والأولياء”, أو التي تنطوي على “دعاية للفرق المعادية للإسلام”, أو “شتم الإمام الخميني وكذلك المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي”.
وفي وقت يطالب حسن اختري، رئيس اتحاد الصحافيين المسلمين السلطات القضائية بتعاط أفضل مع الصحافيين من خلال وضع آليات  جديدة لتقليل الخسائر التي تواجه الصحافة والصحافيين، فإنه يعتقد بضرورة عدم وجود صحافي معتقل بسبب عمله الـصحافي أو على خلفية التعبير عن الرأي.
واعتبر اختري أن “إغلاق الصحافة في إيران لا يتم أيضاً بسبب كتابة مقال أو تعبير عن الرأي، وإنما لأسباب أمنية تتعلق بالتحريض أو الاتصال بجهات أجنبية محظورة، وأن بعض الصحافيين أو الصحافة عموماً فقدوا مهمتهم الحرفية وعملوا كأحزاب سياسية، وهذا ما أوقع هذه الصحافة في محاذير قانونية لا يرتضيها الجميع”.
ويعتقد كثيرون من المهتمين بالشأن الصحافي في إيران أن «المحكمة الخاصة بالصحافة» كانت تميل في حالات كثيرة إلى مصلحة الصحافيين أو الصحافة عندما تمثل أمام المحكمة، لكن المشكلة التي تقف أمام الصحافة المختلفة، هي أن المحكمة تقرر بداية وقف إصدار الصحيفة، ومن ثم اللجوء إلى إجراءات تقديم هذه الصحيفة أو تلك للمحاكمة. واللافت أن المحكمة أصدرت في حالات كثيرة الحكم ببراءة الصحيفة المعنية، لكن بعد بضعة أشهر من الإغلاق.
يشير واقع الصحافة الإيرانية في عهد ولاية الفقيه  صلته الوثيقة بواقع   النظام السياسي في إيران وأزمته الناتجة من حيث الجوهر من الإشكاليات   التي يطرحها تكريس مبدأ ولاية الفقيه وهي إشكاليات تقيد الحرية على أنواعها وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير وتاليا حرية الكلمة والصحافة والصحفيين.
© منبر الحرية ، 11 ماي /أيار2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

مع مضى شهرا حوليا كاملا مؤثرا بكل الحسابات في بلد  كالعراق ، ما تزال السجالات والتراشق السياسي الناري الذي يتصاعد مستعرا ، وينخفض متراجعا ، تبعا لمؤشرات الغزل والاحتدام السياسيين . فيما المشاورات المتباطئة لا تشير إلى تقدم جدي ملموس. على الطريق مشروع تشكيل الحكومة الجديدة . المباحثات ، والمشاورات ، والجولات المكوكية تجرى بحذر على نار هادئة إلى ما شاء الله دون النظر إلى الاستحقاقات الانتخابية ومتطلبات المرحلة ، التي تبدو هي الأحرج في الروزنامة السياسة العراقية الجديدة لما بعد نيسان  2003. فالجدل الببيزنطي حول أولوية القائمة أو الكتلة في مسألة التكليف بالتشكيل الحكومي اخذ حيزا غير منطقي وغير مبرر ، إذ اتسعت ضروب الاجتهادات السياسية المفضية إلى تخريجات سياسية مغلفة بغايات سياسية طامحة للسلطة وركوب  موجتها  عبر المنصب الأثيري ( رئيس الوزراء ) ، وطرح إشكال سيناريوهات، وعلى طريقة كل الطرق تؤدي إلى روما  دون النظر في تبعات هذه المواقف وتداعياتها ، فالغريب أن تحصر أية جهة سياسية كل برامجها ، وطموحها ، واستراتجياتها المستقبلية بشخص تريد له أن يكون رئيس الوزراء، فهي بهذا تنظر إلى مشكلات البلاد الكبرى من خلال مشكلتها أو عقدتها هذه وهي مجازفة لا تستحق هذا القدر من المغامرة لتنافيها مع النسق ا لسياسي الجديد الذي لا تقبله التجربة الوليدة لأنها تتناقض  مع جوهرها وخطاها .
وبالجملة فقد أضاف هذا التعصب الحزبي والجهوي عنصرا آخر في العقدة التي تشد إليها بممارسات كهذه المزيد من التعقيدات وسباق ضياع الوقت ، فصفقة تصفير الزمن لأجل كسب المزيد من الوقت الضائع المهدور هي الأكثر توصيفا للحالة السياسية- الاجتماعية في العراق اليوم، ومن هنا بدأ تأخر البلاد واشتداد حالة التخلف والفقر الضاربة أطنابها عمقا في التربة العراقية حتى لتخال أن الحديث عن دولة العراق الذي يملك ثاني مخزون احتياطي عالمي من النفط في المنطقة ، حديثا عن دولة قابعة على أطراف القرن الإفريقي وتعيش في فقر مدقع. إن تجربة الديمقراطية العراقية ما زالت تحبوا وسط زوابع من فلسفات وايديولوحيات ومخلفات فكرية وعقدية بالية ومع حالة كهذه يمكن أن يتحول فيه الحبو إلى كبوة ما لم يتم تأطير الحالة بمحددات ومؤشرات دقيقة وواضحة ،  تدفع بالتخريجات السياسية المتحذلكة بعيدا من أجل سلامة النمو الديمقراطي من جهة وعدم إفساح المجال لخمائر المخلفات الفكرية من النمو الفوضوي بمواجهة المد الديمقراطي، ومن هنا ضرورة وضع المحددات وآليات تشكيل الحكومة وفق منظومة قانونية ، شفافة ، واضحة بعيده عن الشد والجذب وأشكال المهاترات و السجالات السياسية واللجوء إلى التصريحات النارية المنافية مع تطلعات بلد وشعب يعاني الأمرين من آثار جروح خطيرة ونكبات إنسانية ومجتمعية على كل صعد . مع التأكيد على ضرورة التجديد، وبخاصة منصب رئيس الوزراء تحديدا لامتلاك العراق إرثا تاريخيا سيئا في مجال الزعامة  والحكم . ومن شـأن احتكار المنصب السلطوي لفترات متعاقبة تجديد أشكال الدكتاتورية ، ونشؤ لعبة جديدة لا طاقة للبلاد بحملها فالفواتير الماضية باهظة، وهي رهن التسديد بكفالة الدول الراعية للتجربة إلى جانب الركض المتهافت في أرجاء المسرح الدولي طلبا لإطفاء ديون سابقة ترتبت  بسبب سياسات عدوانية ، وعنصرية وليس من المنطقي التفريط بمستقبل البلاد ونهضتها لأجل طموحات شخصوية سلطوية تحت أية ذريعة ،  ومهما قيل عن مسألة تمثيل الشعب والغزل على هذا المنوال . ففي عراق اليوم يتسابق أكثر من ثلاثمائة حزب ، وحركة ، وكيان سياسي رئيسي ، و ثانوي ويتحدث الجميع بلغة تمثيل الشعب . ومهما كان حجم قاعدة الدعم الشعبي فليس بمقدور أي جهة الادعاء بأنها الممثل الأوحد . على أن مسار التجربة الديمقراطية ، وظهور حكومات مرحلة ما بعد الدكتاتورية لم تنجح في إعادة الروح إلى مفاصل البلاد الممزقة وبناها التحتية المدمرة وإطلاق شيء من الراحة،  في مجال إنعاش الاقتصاد الوطني وتحسين الحالة المعاشية للشعب الذي يرزح تحت خط الفقر بمؤشرات المنظمة الدولية وبشهادة الواقع العياني العراقي ، وهو واحد من أهم أسباب تباطآ دينامية التجربة الديمقراطية ،وفشل البرامج الحكومية  التي تعاني تشكيلاتها الوزارية من انفصام في الشخصية من ناحية الولاءات والتوجيه ، وعدم الانطلاق من أرضية مؤسساتها بحاجاتها واحتياجها ، وتسيير الأمور بمناهج حديثه لعدم كفاءة العديد من الوزراء من جهة وانعدام المرجعية الموحدة ، فالوزراء تعود مرجعيتهم  إلى كتلهم السياسية الواقفة خلفهم ومنها يستمدون الحركة والتوجيه ، ولما كان السباق يقتضي بالعرف السياسي المعمول ، الجري لتحقيق اكبر قدر من المصلحة الفئوية أو الجهوية ، وتحصينها ، فقد ضاع الخيط والعصفور في المعادلة. إن نهضة المجتمع تنطلق من تلاحم ووحدة المجتمع والدولة في مهمة بذل إخلاص الجهود من اجل تعويض الوقت الضائع وإيجاد لغة المصلحة الواحدة ، قولا وفعلا من اجل اختزال الزمن . إن امتلاك القوى السياسية لنظرات عابرة لمحيطها ، و محدداتها ، وتوجهاتها الجهوية ، الفئوية الضيقة وباتساع حركة المجتمع من شانه خلق الاستقرار السياسي المنشود واللحاق بالآخرين دولا ومجتمعات ، ويبدو أن هنالك ما تزال مصالح بإبقاء البلاد رهينة هذه الأوضاع المزرية . في المجال التراشق السياسي واتهام القوائم والكتل لبعضها بعودة البعث أحيانا كما في الحالة السنية والارتماء في الحضن الإيراني كما في الحالة الشيعية، فان العراق بحاجة إلى رئيس وزراء مستورد على طريقة الملك فيصل لدى تشكل دولة العراق في أب عام    1921. إن محاولة التمسك بأهداب السلطة والدخول في صراعات من اجلها من شأنه إصابة  العملية السياسية بمقتل ، من خلال تجميد مبدأ التدوال السلمي للسلطة مع ما تحمله من ترسيخ للديمقراطية في العمق ، والتي تحمي الدولة المجتمع من مخاطر الانزلاق إلى العنف من جهة وإعطاء مساحة المنافسة الحيوية المطلوبة من جهة أخرى . في السباق السياسي وحيث لابد من ظهور آليات مبدعة وبرامج قابلة للتحقيق من اجل امتلاك زمام المبادرة في أي عملية انتخابيه قادمة .
في الانتخابات المنصرمة وبعد الاتفاق السياسي بين القوى السياسية الوطنية التي وجدت ضرورة لاستبدال رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري بأحد الشخصيات من كتلته وهي الفرصة التي أظهرت المالكي إلى المواجهة ، ترى ماذا كان سيترتب لو أن الجعفري تمسك بأهداب السلطة ؟ وما هي فاتورة الحساب بالنسبة لكيانه السياسي وتداعيات ذلك على الساحة السياسية ؟. إن مسالة الاستبدال وإعطاء الآخرين الفرص تعكس الروحي الحقيقية للسلوك الديمقراطي ، فالديمقراطية ليست شعارات بلهاء وحفنة كلمات قابلة للمزايدة ، وإنما هي وحدة السلوك والممارسة والتعود على قبول النتائج كما هي تصب مصلحة الكيان السياسي نفسه ، من خلال تبنيه قدرا من المرونة يتطلبها المناخ السياسي الديمقراطي ، ومحاولة ترسيخ هذا التقليد السياسي كإحدى ثوابت العهد الجديد . نأمل أن تنتهي السجالات قريبا ، وان تكون الروح الوطنية سابقة للعواطف والرغبات ، وان يكون السلم السلطوي طريقا لخدمة الناس وليس دالة لخلق نزعات فردية كلفت أثمانا باهظة وخاصة في الحالة العراقية التي أصبحت دراما إنسانية معاصرة .
© منبر الحرية ،24أبريل /نيسان2010

فاروق حجّي مصطفى15 نوفمبر، 20100

ما ميّز الانتخابات النيابية العراقية هذه المرة هو أنها حاولت أن تعطي صورة نموذجية ليس في المضمون إنما في الشكل. على الأقل هكذا أرادت النخبة السياسية العراقية أن تظهرها لمتابع المشهد السياسي العراقي، وحاولت هذه النخبة أن تظهر أنها تجاوزت النمط الطائفي والفئوي الذي يرد لبول بريمر الحاكم الأمريكي السابق في العراق بأنه مؤسسها لدرجة انه صار شماعة تعلق النخبة السياسية في العراق أخطائها عليه وهي لا تعترف أصلا بأن أساس نشأة المكونات السياسية العراقية مبنية بالأصل على العصبوية والفئوية، فالأكراد لهم أحزابهم الخاصة بهم والشيعة كذلك الأمر، وإبان الحكم السابق كانت هذه الأطراف تلجأ، كلما دب خلاف فيما بينهم، إلى الجهة المتقاطعة مع طروحاته، فالشيعة لجؤوا إلى إيران ومارسوا حياتهم السياسية والدينية في إطار المؤسسات الإيرانية، والأكراد كانت وجهتهم الغرب أو سورية، وحده كان الحزب الشيوعي العراقي العتيق على مسافة واحدة من كل الأطراف، ومع مرور الزمن أراد الكل أن يضمحل هذا الحزب وان يمحى من الخارطة السياسية لعراق ما بعد صدام حسين، لكن ما زال هذا الحزب صامدا في وجه الفئوية، وبقي يناضل حتى الآن، وكمثال على انزياح هذا الحزب في زاوية محاصرة هو ما رأيناه  في الانتخابات النيابية الأخيرة  إذ لم نر أي طرف كبير تحالف معه لكي يبقى على رأس القائمة.
وقد تكررت هذه الحالة من المحاصرة مع “حركة التغيير الكردستاني” التي تأسست منذ فترة ليست ببعيدة ( ما قبل الانتخابات البرلمانية الكردية) إذ هوجمت هذه الحركة مع مرشحيها طيلة فترة الانتخابات وما قبلها والكل كان ينظر إليها بارتياب على أنها طرف يعمل خارج السرب وان تصرفاتها ستكون سببا لتشرذم الحالة الكردية. وبالرغم من ذلك استطاعت هذه الحركة تحقيق مكاسب لا بأس بها، إذ أن عدد المقاعد التي حصلت عليها مقبولة مقارنة مع وجودها على الساحة.
إذا، المسألة السياسية في العراق لا تنحصر بحجم ما يوضع من قوانين إنما أساس المسألة تكمن في أن التفاف الشارع العراقي ميال نحو الطائفية والفئوية، وهكذا يراد له، ولعل ما شاهدناه من نتائج للانتخابات يثبت كم أن للطائفية والعرقية والفئوية من تأثير وفعالية في سير اتجاه الناخب العراقي . فنوري المالكي، رئيس الحكومة تقدم في الشارع الشيعي ومن بعده يأتي المجلس الأعلى الإسلامي وإبراهيم الجعفري، والتحالف الكردستاني تقدم في الشارع الكردي ولم يتقدم مثلا في أي مدينة ذات تنوع قومي ومذهبي، وإياد علاوي بحكم برنامجه و تحالفه مع السنة تقدم في الشارع السني وفي بعض المناطق الشيعية و لو أردنا أن نحسب هذه الأمور فقط في بغداد العاصمة وقارناها بخارطة العراق السياسي فنرى أن الشيعة تزاحم العلمانيين وغيرهم لذا نرى أن المالكي قاتل لكي يكون في المرتبة الأولى في بغداد كون الشيعة أغلبية فيها.
وفي أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق نرى تقدم الحزب الديمقراطي الكردستاني على بقية الأحزاب في التحالف الكردستاني لماذا؟ لأن جماعة الديمقراطي الكردستاني هم أكثر من أي طرف كردي يعزف على وتر قومي، وهو الوريث الشرعي لأغلب الثورات القومية الكردية هذا فضلا عن أن الاستحواذ على منصب رئاسة إقليم كردستان صار اقرب إليهم من وجهة نظرهم، لذا نرى أن غالبية المكونات السياسية صارت متمسكة بلبننة العراق وصار امرأ اعتياديا موضوع المحاصصة الطائفية. وطرح السنة (غالبيتهم)وفور انتهاء الانتخابات على لسان نائب رئيس العراق طارق الهاشمي بأن” العراق بلد عربي ينبغي أن يكون رئيسه عربي” ورد الأكراد “عظمنا ليس هشاً ليكسره الآخرون”.وصارت المناسبة ليكشف المستور وليبرهن على أن العراق ما زال يترنح تحت وطأة صياغات وسياقات الطائفية وان التحالفات وتلون القوائم لا يعني بالضرورة بان زمن الطائفية قد ولى. والحق أن إصرار الكردي على منصب الرئاسة دفع بالمراقب أن يكتشف حجم الشوفينية في بواطن المكونات العراقية، وان العصبوية والفئوية والطائفية مازال ملاذا لغالبية القوى السياسية الخائفة من المستقبل. بيد أن الهاجس الوحيد لدى القوى والأطراف السياسية في العراق هو أن تخسر مستقبلها لذلك نراها تلوذ بالعصبيات (الطائفية أو العرقية أو الفئوية). لذا فان ظاهرة الانزلاق نحو ابن الملة (وسنصرّ قولها بأنها ) من مخلفات بريمر. والمفارقة أن بريمر رحل عن العراق منذ فترة طويلة لكن لا يريد العراقيون الخروج من مأزقه (بريمر). بدا أن العراقيون لا يريدون الخروج لو أرادو لكان خرجوا فور خروج بريمر من العراق على الأقل كانوا توحدوا وأنتجوا نوعا من المصالحات وأعادوا العراقيين المنفيين (العراقيين الذين يعيشون في الخارج يصلح تعداده لبناء دولة بحد ذاتها)، إنما هم يصممون على عزف نفس اللحن الذي وضعه مايسترو العراق نفسه دون غيره. تحت هذه القبة يحاول كل طرف أن يعزز ثقله وقوته ولولاه ربما لم نرَ أيا من هؤلاء المايستروات على خشبة المسرح السياسي العراقي. إذاً المعضلة مرتبطة بشكل وثيق بالذهنية العراقية.
ولا يبدو أن الأمل قريب في تجاوز الحرفية المتبعة تجاه مشروع الدولة الوطنية المنفتحة على جميع مكوناتها المجتمعية. فما زال العقل المهيمن هو عقل عصبوي همه الرئيس استغلال مكونه ليعبر عليه جسرا ليصل بكل طرف سياسي أو شخص سياسي إلى مناله دون الأخذ في عين الاعتبار أن هذا يتم على حساب بناء الدولة الوطنية الحقة في بلاد الرافدين والذي لم ينم يوما على فراش من حرير، والسؤال، هل حقاً صار العراقيين على سكة الدولة الوطنية والتي تأخذ العلمانية روحا والانفتاح على الجميع سلوكاً؟ أم أن الطائفية هي العنوان الخفي لمجمل تفاصيل اللعبة السياسية في العراق؟
© منبر الحرية، 18 أبريل /نيسان 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

اتفق العديد من المفكرين والباحثين الليبراليين على أن  الدكتاتورية أصبحت  فيما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ملمحا بارزا في العديد من دول العالم الثالث حديثة الاستقلال، والتي غلب على أشكال الحكم في معظمها الطابع العسكري، كما أن الدول ذات أنظمة الحكم الشيوعية والاشتراكية اعتبرت دكتاتوريات أيضا من وجهة نظرهم وكان السبب الرئيسي في توصيفهم هذا هو غياب الاستقرار السياسي عن الكثير من هذه الدول وشيوع الانقلابات العسكرية والاضطرابات السياسية فيها، فضلا عن ظهور مشكلات عديدة تتعلق بمسألة الخلافة على السلطة.
الشعب الكردي والموزع الآن بين أربع دول (تركيا، إيران، العراق وسوريا) تصنف جميعها ضمن خانة دول العالم الثالث (النامي)، ومن سمات الحكم السياسي في هذه الدول إن “استثنينا الحالة السياسية الجديدة المفروضة في العراق” أنها تأخذ طابعا منافيا للمبادئ والقيم الديمقراطية.
فتركيا وبالرغم من تعدديتها السياسية إلا أن هيمنة عقلية “الجندرمة الأتاتوركية” والمنافية للقيم الديمقراطية بالفطرة العسكرية، تبقى صاحبة الكلمة الفصل في القرارات المصيرية للحياة السياسية التركية.
وكذلك إيران ومن وراء عمامات الملالي لم تنجح في إخفاء الميول القومية “الفارسية”، وجسدته فيما عرف بقومنة الدين، وسورية محكومة بالفكر القومي المطلق متمثلاً بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، منذ قرابة نصف قرن من الزمن.
لذلك فكل المظالم والإجراءات والقوانين الاستثنائية التي تطبق بحق الكرد في هذه الدول يجب أن لا تكون موضع استغراب، فالإرث الديكتاتوري العسكري التفردي إضافة إلى الأفكار القومية والدينية المتعصبة للسلطات الحاكمة في هذه الدول تفرض حتمية هذه الإجراءات القمعية.
الكرد، وفي نضالهم التاريخي للوقوف في وجه هذه المظالم،  أسسوا تنظيمات سياسية في أماكن تواجدهم واضعين على عاتقها مهمة رئيسية في الدفاع عن وجود الشعب الكردي على أرضه التاريخية والمطالبة بحقوقه السياسية والثقافية والاجتماعية المشروعة، واستطاعت هذه الحركات وبالرغم من كل الإجراءات القاسية التي ارتكبتها السلطات بحق مؤسسيها وناشطيها أن تنال الدعم والتأييد من قبل فئة كبيرة من أبناء الشعب الكردي حتى أن البعض منها حقق الكثير من الآمال والطموحات الكردية ولعل مكاسب الأحزاب الكردستانية في العراق خير مثال على ذلك.
لاشك بأن الظلم والاضطهاد الذي تمارسه السلطات الحاكمة بحقنا كأقليات عرقية قد انعكس علينا سلبا ومن مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكن الاستفهامات المطروحة هي: هل هذه الإجراءات كافية لتبرير فشل بعض قياداتنا الكردية في التأسيس لفكر ديمقراطي حر في مؤسساتهم الحزبية؟  أيكفي أن نطالب السلطات الحاكمة  بحقوقنا الديمقراطية دون أن نسعى نحن إلى نشر وتبني هذه الثقافة ذاتياً؟ هل ما تعيشه القيادات الكردية هو ضرب من ضروب التماهي بالمتسلط كما يصفها الأستاذ مصطفى الحجازي في كتابه (سيكولوجية الإنسان المقهور)؟
على صعيد الساحة الكردية في سوريا شغلت هذه الأسئلة مؤخراً حيزاً واسعاً للنقاش من قبل المثقفين والسياسيين الكرد، فالتنظيمات الكردية التي تعارض أساساً النظام السوري حول تصرفاته اللاديمقراطية ،  تواجه اليوم معارضة حقيقية من قبل كوادرها الحزبية بسبب ما تعيشه بعض تلك الأحزاب من هيمنة فردية من قبل بعض القيادات على القرار السياسي والتنظيمي في إطار التجاهل التام لمبادئ وأسس الديمقراطية في الإدارة وآلية اتخاذ القرار السياسي، ما أنتج مؤخراً حالات إصلاحية لم يعتدها الشارع الكردي في سوريا كالحركة الإصلاحية التي يقودها السياسي الكردي فيصل يوسف  في وجه مايسميها بالتصرفات الديكتاتورية المتفردة  لزعيم أحد أقدم الأحزاب الكردية في سوريا الأستاذ حميد درويش والذي يترأس الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي منذ نصف قرن من الزمن، فالشعارات الإعلامية المميزة  والتي يطلقها قياديوا هذه الحركة كنعم للإصلاح والشفافية ، لا للفساد والتوريث ،  حركة كفاية الكردية، تلاقي صدى واسعا وقبولا لدى العديد من المثقفين السوريين، لدرجة أن البعض منهم بات يسميها “بالبيروسترويكا الكردية”  .
الحالة التفاعلية بين الجماهير الكردية من جهة والمطالبين بالإصلاح والديمقراطية في التنظيمات الكردية في سوريا  من جهة أخرى تدل على أهمية ترسيخ المبادئ الديمقراطية داخل الأحزاب الكردية، فالخوف من تحول قيادة  هذه الأحزاب مستقبلا إلى طغاة أصبح هاجساً لدى الكثيرين، وقد لا تشكل الحالة الكردية استثناءا في هذا المجال، فالعديد من الشعوب المضطهدة في العالم وفي نضالها للتخلص من الظلم والطغيان  قدمت الكثير من التضحيات، لكن ونتيجة إهمالها للكثير من الجوانب المتعلقة بالأسس والمبادئ الديمقراطية في حركاتها النضالية لم تنتج إلا طغاة جبابرة أشد بطشاً وقسوة من حكامها الأوليين والتجارب العربية حافلة في هذا المجال.
كما وأصبح حلم توريث حالة التجبر من قبل الحاكمين فرضية ممكنة من جديد، في الوقت الذي زادت فيه جرأة حركتنا الكردية للتصدي لحركات المطالبة بالديمقراطية، والعمل على تفريغ الحركة من الفكر الديمقراطي وزرع التناقضات والالتباسات ومحاولة تسميم العلاقات  التي ورثتها من حكامها، كمن يقول الإصلاح والشفافية زائلة، والديمقراطية أعمى لا تبصر. بمعنى آخر “ديكوراً ديمقراطياً” من أجل تطبيع حالة الدكتاتورية وتوريثها كردياً.
© منبر الحرية،12 أبريل /نيسان 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

التاريخ ليس نصا مفتوحا يمكن قراءته وفق ما يرسمه إلهام نبي، أو قلم مبدع، أو عقل مفكر، أو نتيجة صراع بين طبقات اجتماعية محسوبة ومحسومة النتائج، بل التاريخ هو خلق مستمر دون توقف، تتنوع سبله، ويعج بالتناقضات، والمعارج والمنعطفات، لا يمكن لأحد التنبؤ بمساره، ولا الإحاطة بمآله الأخير، أو على أي شاطئ  يكون  رسوّه الأخير، وإن حاول بعضهم التكهن أو التنبؤ على بعض معالم مطاف رحلة التاريخ التي لا تنتهي..
ففي الشعوب البدائية تبين أن المساواة كانت محققة بين بني البشر، فلا استغلال ولا استرقاق.. يقول أحد السفسطائيين في القرن الخامس قبل الميلاد : (لقد أعطى الله كل إنسان حريته، والطبيعة لم تجعل من إنسان عبدا) هذا الاكتشاف من قبل علماء الاجتماع، أي تساوي بني البشر في المنطلق، دفع بعضهم لينشدوا اليوم مساواة حقيقية، في ركب التطور الحضاري والتكنولوجي المحققين؛ وما نشاهده اليوم من ظلم واستعباد وإذلال وقهر وإفقار من قبل الأشرار في العالم، ليست بسبب الطبيعة، أو أنها هي التي أكسبت الأشرار هذا الحق، إنما المؤسسات القائمة اليوم هي التي جعلتهم أشرارا بتعبير هولباخ…
كثيرا ما يوهم الواقع الزمني عبر التاريخ، حيث تخلّف العلاقات الاجتماعية، وضعف مستوى الإنتاج، يوهم حتى المفكرين، للخروج بأفكار خاطئة، فعلاقات الإنتاج غير الناضجة، تخرج بأفكار غير ناضجة كما يرى إنجلز،  لهذا جاءت أحكام كثير من المفكرين خاطئة تفتقر إلى نضج فكري، فهذا أفلاطون يرى أن الناس مكونون (من أنفس ذهبية وفضية وحديدية)، فينبغي حسب الاعتقاد السائد آنذاك من أن الأنفس الذهبية هي التي ينبغي أن تحكم الآخرين، هكذا كان الفرز بين المخلوقات البشرية دون مساواة، أما أرسطو رغم تقدمه على أفلاطون في هذا الجانب، حيث جاء تأكيده على حرية الفرد، وحريته في قراراته الخاصة لتحقيق سعادته، لكنه يعود ليقول أن بعض الناس :(مخلوقون لكي يحكموا) من قبل آخرين أي لم يكن بمقدور هؤلاء العلماء أن يساووا بين الناس، هكذا كان الفكر السائد، فالعلاقات الاجتماعية المتخلفة ألهمت هؤلاء بمثل هذا التفكير غير الناضج، لأن التفكير السائد هو تفكير الطبقة السائدة، ولم يكن ممكنا تجاوز هذا الإطار الفكري في ذاك الماضي السحيق.
لقد حلّ القرن الثامن عشر قرن الثورات البرجوازية في كل من إنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا، عندها قام الناس يطالبون بحقوقهم، ومن بينهم النساء، فقد كتبت إحداهن منكرة ومستغربة قائلة : (عندما يكافح الرجال من أجل حريتهم، أليس من الغرابة والظلم قمع حرية النساء.؟) وقد نهضت الرائدات منهن خلال المطالبة بحقوقهن، فرحن يناصرن حقوق الزنوج الأمريكيين من أصل أفريقي، ورفضن مبدأ الاسترقاق، وطالبن بإلغاء العبودية، واعتبار مالك العبيد (سارق بشر).
وقبل ذلك التاريخ، أكدت الكنيسة المسيحية في الغرب على كرامة الفرد وعلاقته الخاصة بالإله، كما حذّر بابا إحدى الكنائس حذّر الصليبيين من التعدي على حقوق المسلمين واليهود، ثم قام بعضهم بشجب استرقاق الهنود الحمر، فشاعت عبارة: (كل هندي هو إنسان) فله بالتالي إرادة حرة، وهو حر يتحكم بتصرفاته كونه سيد نفسه، وهذا القول دليل على الشك السائد في إنسانية الفرد من الهنود الحمر، والتفهم والتقبل لأسباب استرقاقه، على الأقل عند الطبقات العليا.
لقد وقع حيف كبير على كثير من بني البشر عبر التاريخ، ولحق بهم ظلم لا يطاق، والفروق الطبقية، أو المراتبية في المجتمع كانت تقسّم البشر إلى مراتب وطبقات، تذلّ على أثر هذا التقسيم الشرائح الدنيا، وفق أنماط متعددة من التعامل تناسب كل مرحلة، فقد ظل حق التصويت في الغرب قاصرا على الطبقات العليا، ففي إنجلترا مثلا بقي سريان هذا الحق العلوي حتى عام 1832 حينها سمح للطبقات الوسطى من الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، أما العمال فقد أجازوا لهم بالتصويت في نهاية القرن التاسع عشر، والنساء فقد جاء السماح لهن في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1920 وفي بريطانيا عام 1928، كما ترافقت مع دعوة الحرية، دعوة نصرة الفقير في المجتمع الطبقي، وبأن له الحق أن يحيا حياة مريحة، شأنه شأن الغني الموسر، لا أن يرمى بسهام الإهمال أو الحطّ من قدره كإنسان، وكان آدم سميث صاحب كتاب ثروة الأمم، يرى أن الثروة الحقيقية ليس في تكديس الدولة من مال وكنوز، بل بما توفره من سلع استهلاكية، متيسرة لكل المستهلكين دون استثناء القدرة على شرائها واقتنائها واستهلاكها، فقد دافع جان جاك روسو عن العدالة الاجتماعية، وضرورة الاعتدال في توزيع الثروات بحيث (لا يكون أي مواطن من الغنى بحيث يستطيع شراء مواطن آخر، وان لا يبلغ أي مواطن من الفقر  يضطره إلى أن يبيع نفسه).
كان أول اختراق لليبرالية في خلايا الواقع المتشكل من القهر والهيمنة هو دعوة جون لوك إلى التسامح الديني، جاءت الدعوة بوجوب حلّ الفرد من التزاماته الدينية تجاه الدولة، ودعا إلى ترك الخيار له فيما يعتقد أو لا يعتقد، وممارسة الطقوس الدينية بالشكل الذي يشاء، دون قسر أو تدخل من قبل الدولة. لقد دعا لوك هذا في القرن السابع عشر إلى التسامح الديني كما أسلفنا، فرأى ( حرية الضمير هي حق طبيعي لكل إنسان) وربما الدعوة إلى التسامح الديني يعود إلى القرن السادس عشر، عندما نادى مارتن لوثر بالحرية الدينية وبالتسامح الديني، وشاعت دعوة (كل حر في دينه) ومنهم من يقول أن الحركة الليبرالية ربما جاءت من هنا.
انتشرت مفاهيم الليبرالية كإيديولوجية للمستقبل من الدعوة إلى الحقوق الفردية، والملكية الخاصة، وبالأسواق الحرة، وحرية الفرد في حق العبادة والتجارة والتعبير والتنقل ..إلخ  كان (توكفيل) يرى الترابط بين الفرد والمجتمع في علاقة اتساق، وليسا في تعارض كما يتوهم بعضهم، ومن هنا جاءت الدعوة لمزيد من الحرية الفردية ضد جبروت السلطة، ومن نافل القول التذكير هنا برؤية ماركس في الحرية، لأن الاشتراكية والماركسية تتضمنان الليبرالية والديمقراطية، والماركسية بالأساس جاءت من رحم الليبرالية، يرى ماركس من أن الحرية شمولية متعددة الجوانب :(حرية التجارة، حرية التملك، حرية الضمير، حرية الصحافة، حرية القضاء، هذه كلها أنواع لأصل واحد، متشابه، هو الحرية)، والحرية الفردية، ضمن ما تعنيه، الموضوعية في الفهم، والوعي بحرية الآخرين في إطار يدركه الفرد الحر ولا يتجاوزه، لأن الحرية ضرورة وليست تعسفا فرديا.
كما هو شائع ومتداول عن الحركة الليبرالية، من أنها تجمع بين الحرية الاقتصادية، والحريات المدنية، وربما افترقت جناحاها في بعض المواقف السياسية، فقد وجدنا كيف أن أنصار الحرية الاقتصادية يؤيدون الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، والمحافظين في بريطانيا، وأنصار الحريات المدنية، يؤيدون الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، وحزب العمال في بريطانيا، وهذا ما يؤكد من أن الليبرالية أكثر من تيار، وبالتالي فمجال تكيّفه مع المستجدات أكثر حصولا وتحققا لما تتسم الليبرالية من واقعية في صوغ الشعارات المرحلية، فتكتب لها دفعة أخرى جديدة من حياة واستمرارية، ويندار إليها الناس في نضالهم الدائب والمتواصل بثقة وتفاؤل من أجل مزيد من الحرية.
إن ما تحقق اليوم من حريات فردية أو حريات اقتصادية جاءت نتيجة مكابدة طويلة وكفاح مديد، عانى خلالها الإنسان قرونا من الظلم والإقصاء والتهميش ولا يزال رغم ما تحقق، ولن يقف الإنسان عند حدود ما أنجز، فلسوف ينشد عالما جديدا أكثر حرية وتقدما ووفرة،عالما خاليا من الظلم والفقر والطغيان..! والباحث الحصيف سوف يدرك هذه الحقيقة من خلال متابعاته واستعراضه لتاريخ كثير من الأمم والتبدلات التي طرأت على طبيعة كثير من الحكومات خلال رحلاتها السياسية والتاريخية..!
© منبر الحرية،10 أبريل /نيسان 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

ربما بات من غير المجدي أن يُطالَب المثقف بدور تاريخي، وأن يكون رسولا للحقيقة، ليس لان شريحة المثقفين أثبتت أنها عاجزة عن التغيير في مجتمعاتها، وأنها ليست النخبة الطليعية التي تقود المجتمع، والحديث هنا عن مجتمعات الشرق الأوسط، بل لان التاريخ لم يعد حاضنا للحقيقة، فليس ثمة تاريخ واحد، وبذا فالحقائق متعددة ولم تعد هنالك حقيقة واحدة مطلقة..
لكن المفارقة أن المثقف هو من يكتب التاريخ، هو من يريد أن يقول هنا الحقيقة فقط، لكن أي تاريخ وأية حقيقة، أنهما المرتبطان بالسلطة، أيا كانت سياسية، دينية، .. الخ. فهي من تملي عليه كيفية صياغة الأحداث وتوجيه حركتها، كما أن ما يخلفه التاريخ من ماض يقوم المثقف بتأويله وإعادة صياغته وكتابته، أنه يصنع التاريخ ويؤله لصالح السلطة التي يرتبط بها، لصالح الجماعة التي يمثلها، وما لا يستطيع المثقف أن يصنعه من التاريخ يستطيع تأويله، الصناعة للحاضر، والتأويل للماضي.
علاقة وظيفية بين المثقف والتاريخ، كتابة وتأويلا، وليس دورا تاريخيا يضعه في إطار الفعل الرمزي المنتظَر، الفعل الذي يُنتظَر من الأبطال والقادة والعظماء، لكن إذا لم يعد مطلوبا من المثقف أن يكون له دور تاريخي، أفلا ينبغي على الأقل أن يكون له حس تاريخي، أي أن تكون له القدرة على فهم التاريخ وطبيعته وحركته، قدرة تزوده بأدوات التحرر من أغلال السلطة التي يرتبط بها، وتمنحه دورا جديدا لكينونته كمثقف يمتهن التفكير الحر وسيلة لإعادة ترتيب العلاقات بين الأشياء.
لكن كيف نطور حسنا التاريخي؟ إنه يعتمد على:
–    كيف نقرأ التاريخ؟
–    كيف نفهم حركته؟
–    كيف نفهم شروطه الاجتماعية والاقتصادية؟
–    كيف نتجرد من مقدساتنا التي توجه وتؤول قراءاتنا للتاريخ؟
المثقف العراقي منذ نشوء العراق الحديث، أسهمت السلطة والسياسة في تكوينه، كيف يستطيع الآن بعد التغيير، أن يعيد صياغة رؤاه الثقافية وعلاقته مع السلطة؟ كيف يمكنه أن يقرأ تاريخه بعيدا عن هيمنة السلطة وتجاذبات الصراع السياسي..
ربما يلقي اتجاه “التاريخانية الجديدة” ضوءا كاشفا ومرشدا، على اقل تقدير، يسهم في تحديث رؤانا عن التاريخ، حين يركز على طبيعة الصراعات الأيديولوجية والقوى السياسية التي تهيمن على حقبة تاريخية، وتتحكم بالنتاج الثقافي، وحين تعد التاريخ شكلا من أشكال التمثيل الأدبي الذي يعتمد السرد وسيلة لإيصال الحقائق التي يريد تثبيتها، حقائق تصوغها بلاغة السرد، وحبكة الأيديولوجيا.
© منبر الحرية 03 أبريل /نيسان 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

اعتمد الفكر السياسي العربي على الرابطة القومية و الانتماء الديني  أساسا لتقوم عليها غالبية الدول العربية, وإذا تتبعنا جذور الرابطة القومية سنجد لها امتداداتها القبلية والعشائرية , التي تحيل الدولة إلى ملكية خاصة لقومية واحدة أو عشيرة واحدة وفي بعض البلدان لعائلة واحدة , ومن جهة أخرى فان الانتماء الديني يأخذ جذوره من الانتماءات المذهبية والطائفية , فيتم بها  احتكار الدولة لأتباع  ديانة أو مذهب معين , لنقف على نماذج متنوعة ومتعددة لدول الأقليات أو دول الاكثريات, أما دولة المواطنة دولة الكل وليس الجزء فلا وجود لها , وهذا جلي في ديباجة دساتير الدول العربية , التي تنص على تعريف هوية الدولة على أنها دولة عربية أي مخصصة لقومية واحدة هي القومية العربية , وأنها دولة إسلامية وهي بذلك تكون دولة المسلمين وحدهم , ومع أن الدساتير على عيوبها لا قيمة واقعية لها, حيث نادرا ما يتم العمل بها, وكثيرا ما يتم خرقها من قبل واضعيها, فإنها تعطي مشروعية مزيفة لهذا الشكل المتخلف من أشكال الدول التي ثبت أن هياكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لم تكن مناسبة لبناء الدولة الحديثة في المرحلة السابقة، بقدر ما هي غير قادرة على الاستجابة لمتطلبات المرحلة الجديدة التي تشهد تبدلات في المفاهيم وتعطيها مضامين جديدة تساعد النماذج الأخرى من الدول الأكثر تقدما على التأقلم مع المناخات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة التي أخذت تسود العالم , حتى تكون قادرة ليس على مواجهة التحديات بل السيطرة عليها والاستفادة منها في تحقيق مصالحها الوطنية بدفع قوى التطور نحو مزيدا من الإنتاجية المادية والمعنوية الرفيعة .
إن الانتماء العرقي و الديني ليس هو النموذج الأفضل لبناء الدول, لأنه لا توجد امة نقية الدماء ولا يوجد مجتمع من ديانة واحدة, بفعل حركات الهجرة الطوعية والإجبارية للبشر التي تغير باستمرار خرائط ديموغرافيات الكرة الأرضية.
كان أعداد المهاجرين حول العالم 190 مليوناً لعام 2005، وفقاً لإحصاءات المنظمة العالمية للهجرة، والصورة الدينامكية العالمية متغيرة باستمرار, أما بالنسبة للبلدان العربية فانه بنتيجة عملية انتقال السكان في الحقبة الإسلامية بموجات هجرة كبيرة أدت إلى تغيير التركيبة العرقية والدينية للسكان لتفقد المجتمعات المحلية هويتها الأحادية , وتتحول إلى مجتمعات متنوعة الأديان والأعراق , فصار العنصر العربي أكثرية  و تحول السكان الأصليين إلى اثنية, وفق هذه المعطيات تشكلت اللوحة الديموغرافية في المجتمعات العربية الراهنة, حيث التنوع العرقي والديني والثقافي .
ومع انتشار الفكر القومي في العصر الحديث وتنامي حركة الشعوب من اجل الحرية وحق تقرير المصير, فإن حركة القومية العربية واجهت المسالة القومية, ولسوء الحظ فان التيار الغالب الذي حمل الفكر القومي العربي قد تأثر بالإيديولوجية الألمانية القائمة على التعصب العرقي والتي تدعوا إلى بناء الدولة على أسس رابطة الدم , وحين استلم هؤلاء السلطة اخذوا بمبادئ النظرية العرقية كعقيدة رسمية لدولهم وطريقة لمعالجة هذه المسالة,  لتصبغ مجتمعاتها بالصبغة العروبية- الإسلامية  وترفض كليا وجود قوميات أخرى في دولها وتهمش الأديان الأخرى لصالح الدين الرسمي, ولم تتوقف هذه السياسة على حدود الإقصاء والتهميش ,بل تطورت إلى إيديولوجيات شوفينية تحاول صهر الاثنيات الأخرى في البوتقة العربية, وحين رفضت هذه الاثنيات تطبيق سياسة التعريب عليها, لجأت النخب العربية الحاكمة إلى ممارسة سياسة الاضطهاد القومي في إجراءات تمييزية في بعض الدول وأساليب العنف في دول أخرى , مما أدى إلى ظهور مسالة الاثنيات والأقليات في هذه البلدان لتفجر حروب أهلية وصراعات دامية, تكلف الدولة خسائر بشرية ومادية باهظة وتنشط عوامل تعطيل مشاريع التنمية فيها وتهدد السلم الأهلي , وتقود إلى مآسي إنسانية و كوارث , حيث جرائم الإبادة الجماعية والتصفية على الهوية العرقية والدينية .
وهذا يدل على أن نموذج الدولة العرقية لا يناسب تكوين مجتمعات المنطقة القائمة على التنوع, وقد بات مطلوبا من النخب الحاكمة والسياسية والفكرية البحث عن وسائل لعصرنة الدولة وتحديثها وإعادة النظر في أسس بنائها وصولا إلى وضع تعريف جديد لها يراعي مسالة التنوع القومي والديني لسكانها , من خلال الأخذ بتجارب ناجحة لبناء الدول على أسس جديدة يمكن الاستفادة منها في عصرنة الدول العربية دون المساس بسلامتها ووحدة أراضيها ,إذ كثيرا ما تتذرع الحكومات القائمة بالحرص على سلامة الدولة لتتهرب من استحقاقات التغيير لتحافظ على الشكل القديم للدولة القومية .
هناك تجارب ناجحة وراقية, تستند على نظريات أخرى غير النظرية العرقية في وضع أسس الدولة, كنظرية المصالح الاقتصادية والإرادة المشتركة , التي تقدم مفاهيم جديدة عن الأمة والشعب والدولة ,حيث تكون رابطة الانتماء إلى الأرض هي الرابطة المشتركة بين جميع سكانها بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم , إنها رابطة المواطنة التي يضمنها دستور حر وديمقراطي يحدد حقوق وواجبات المواطن دون تمييز ليحقق العدل والمساواة ما يضمن لكل المكونات الاجتماعية في الدولة أن تعبر عن هويتها القومية والدينية بحرية تامة , ليتحقق ذاك الانسجام الخلاق بين موزاييك مجتمع متعدد الأعراق والأديان , ويصبح التنوع عامل قوة واستقرار وتطور للمجتمع والدولة , فالتجربة السويسرية حققت نجاحا مذهلا في التعايش بين الأعراق ما سمح لها أن تكون في مصاف الدول المزدهرة حضاريا لتؤكد أن التنوع ثراء وغنى وليس نقمة , وفي الولايات المتحدة الأمريكية نجد النموذج الأرقى لدولة المواطنة لأنها بموجب الدستور قامت على أساس الانتماء إلى أرض الولايات المتحدة الأمريكية وليس على أساس الانتماء إلى عرق محدد أو ديانة معينة , وهذا ما ساعد على التفاعل بين سكان الولايات المتحدة التي تضم مجتمعا هو الأكثر تنوعاً اثنيا و دينياً في العالم ومع ذلك فان هذه الدولة تحافظ على وحدتها وتماسكها وليس هذا فحسب بل أصبحت أعظم قوة عالمية , و مرد ذلك أنها إلى جانب الثقافة الانكليزية السائدة سمحت بازدهار الثقافات الفرعية والمحلية لشعبها المتعدد الأعراق فإلى جانب العنصر الأوروبي والسكان الأصليين توجد العناصر الأفريقية والآسيوية والاقيانوسية. هؤلاء المهاجرين الذين يفدون إلى الولايات المتحدة يحافظون على روابط قوية مع أوطانهم الأصلية، عن طريق السفر، والبريد الإلكتروني، والهواتف الخلوية، و الفضائيات ولكن ليس هناك ما يخيف أميركا من هذه الناحية  فقد آمن مواطنوها الأوروبيين  المهاجرون الأوائل كما المهاجرين الجدد بهذا التنوع ولا تنظر الإدارة الأمريكية إلى هذا التنوع كمصدر خطر للصراعات العرقية بل وجدت فيه أسلوب ثري للتفاعل بين الشعوب و تمازج الحضارات , فإذا بالنموذج الأمريكي شكل مذهل وفريد من بين أشكال الدول الحديثة , حيث نجح الآباء المؤسسون  في خلق مجتمع متجانس فقد تضمنت الكلمات الأولى من الدستور الأمريكي عبارة ،، نحن شعب الولايات المتحدة ،، ليعطي فضاء رحب لمعنى الشعب متجاوزا المفهوم القومي أو العرقي لمصطلح الأمة أو الشعب إلى مفهوم المواطنة فكل من يسكن ارض الولايات المتحدة هو من شعب أمريكا مهما كان انتمائه العرقي أو الديني ، فالجميع  جماعة أهلية منضوية تحت التنظيم الواحد والمصالح المشتركة التي يجد كل أمريكي انه جزء منها كون هذا التنظيم الاجتماعي – السياسي الراقي يوفر حقوق متساوية للجميع .
فما الذي يمنع الحكومات العربية من الاستفادة منها لتعيد صياغة دساتيرها حتى تؤسس دولة الجماعة الأهلية والمواطنة, وليست دولة العرق أو المذهب ,حيث لم يعد مقبولا إقامة  دين أو قومية للدولة، بل يجب التركيز على  منح الحريات العامة للاثنيات مع الحرية الدينية، ففي ذلك يكون الاتجاه نحو المسار الصحيح للدخول إلى العصر الجديد, هذا هو التحدي الحضاري الذي يواجه الحكومات العربية إن كانت قادرة على وضع مبادئ جديدة  تضمن حقوق الاثنيات العرقية وتحافظ على الحريات الدينية للأقليات حتى تفسح المجال أمام هذا التنوع الثري ليعطي ثماره ، بخلق مجتمع تعددي لا تكون فيه هذه التعددية مجرد أمر نتحمله ونتعايش معه فحسب، بل تصبح هي ذاتها مصدر قوة المجتمع نفسه. ولكي تتحقق هذه الخطوة، يجب تغيير الأفكار المسبقة التي تصور الأقلية العرقية أو الدينية خطرا على امن دولة الأكثرية , من الضروري التخلص من هذه القناعات القديمة وإيجاد ثقافة عصرية تسمح لأبناء المجتمع الواحد بالتعرف على بعضهم بعضا حتى يعبّر فيها كل مكون اجتماعي عن شخصيته ويعرض مساهمته ورغبته بالمشاركة في  تأسيس دولة المواطنة كإطار جامع لمصالح كافة الشعب .
إن فكرة القومية ليست مقدسا ثابتا لا تقبل المساس بها . وإذا كانت بعض النخب العربية تعتقد أن إيديولوجيتها القومية هي الحقيقة المطلقة فهي مخطئة , فالفكر متحرك وليس ساكن، متبدل وليس جامد، والنظريات العلمية قابلة للتعديل كلما اكتشفت حقائق جديدة حول ظاهرة اجتماعية أو طبيعية , والمجتمع البشري حقل حيوي و مثير لدراسة ديناميكية التاريخ  فالشعوب تتطور وكذلك معتقداتها لذلك لا بد من التخلي عن التعصب القومي والديني حتى تستطيع الأغلبية فهم الأقلية على أساس أنها جزء أصيل من مكونات المجتمع وليس شيء طارئ يجب تصفيته, لقد بات على منظري الفكر القومي إعادة التفكير في مجموعة مفاهيمهم الشمولية حول الحياة والعالم ضمن سياق الواقع الديموغرافي و الديني المتعدد والمتنوع في مجتمعاتهم  حتى تعرف كيف تستطيع من هذه الكثرة أن تصيغ دولة واحدة .
إن التنوع سمة من سمات الدول العربية وفي العصر الجديد حيث تنتشر قيم الحرية والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان بات من الضروري إلقاء نظرة أكثر عقلانية على الأعراق والأديان والثقافات والفنون الموجودة في هذه البلدان , حيث لم تعد سياسة الإنكار والتجاهل مجدية لان مثل هذه المواقف لا تحل المشكلة بل تزيد من تفاقمها, وترفع كلفة معالجتها خاصة أن المحاولات السابقة في حل هذه القضايا بوسائل العنف قد باءت بالفشل وعادت بسوء العاقبة على رؤوس أصحابها، ففي وسط مثل هذا التنوع الهائل ليس هناك من حلول غير الاعتراف بالأمر الواقع , وذلك بإعلان المساواة بين سكان الدولة وضمان الحريات العامة والدينية , وهذا يعني تغيير الدستور وإعادة صياغة تعريف للدولة , فهل النخب الحاكمة مستعدة لمثل هذه الخطوة, أم أنها مصرة في المحافظة على الشكل القديم للدولة القومية – الدينية التي تضمن لها استمرار سلطتها والحفاظ على مصالحها تحت شعار الوصاية على القومية وعلى المذهب.
© منبر الحرية، 07 مارس/آذار 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018