شؤون سياسية

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

بداية علينا أن نعلم أن الأخلاق نتاج اجتماعي، تنبثق عن المجتمع، فتتمظهر على شكل قواعد وضوابط كرادع أدبي، يتعين على الفرد التقيد بها استجابة منه لمتطلبات هذا المجتمع..ومن خلال هذا التقديم، أو التعريف، بوسعنا أن نقول، أن الأخلاق كخصلة، ليست هبة من أحد، ولم يجد بها عقل مفكر، وليست مغروسة في الإنسان منذ الولادة، وغالبا ما، لا تملك الطابع المادي الرادع، فضلا من أنها ليست شيئا ثابتا، فهي كما قلنا صناعة اجتماعية، فبتغير المجتمع لا بد أن تتغير الأخلاق، أو تختلف نظرة المجتمع في مقاربة الأخلاق بالتعريف…
باعتقادي ــ وهنا غاية المقال ــ أن الاعتماد على الجانب الأخلاقي وحده في اختيارنا للمسؤول الحزبي، أو الوظيفي غير كاف، بل أتجرأ وأقول بأنه حتى غير مجد..
إن الدراسات العلمية، أوضحت لنا من أن الإنسان بشكله المكوّن أو المتبلور، ليس إلا مجموعة من العلاقات الاجتماعية، وبتغير تلك العلاقات لا بد للإنسان نفسه أن يتغير.
لا أعتقد أن الأخلاق ضابط وضامن لسلوك الفرد، ويمكن بالتالي الاكتفاء بها والركون إليها، في اختيارنا أو خياراتنا، وهذا لا ينفي أبدا الوازع الأدبي الذي تملكه الأخلاق في الإنسان، وبما له من سلطة، لكن السلطة تبقى  أدبية اجتماعية..
لا بد إذن من ضوابط تتحكم بكل هؤلاء، ويمتثل لها الجميع بلا استثناء، وهذه الضوابط تملك من القوة المادية ما تتيح لها فرض قوانينها على الجميع ، بحيث يمتثل لها الجميع دون استثناء..
الإنسان كثيرا ما تحركه غرائزه باتجاه فرض هيمنته على الآخر، سواء أكان هذا الآخر حزبا سياسيا أو قطاعا اجتماعيا، فإذا لم تكن هناك من قوة رادعة له، فهو لن يرتدع أخلاقيا، ولن يتورع عن الإيغال في الخطيئة، هذا، إذا لم يلجمه ضابط مادي رادع له..
يحضرني هنا قول المرأة المسلمة التي نادت بوجه الخليفة الراشدي أبي بكر الصديق : (والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا) ردا على قول الخليفة، بعد أن ولي أمر المسلمين..ــ إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.ـ ، أي أن لديها من القوة ما تمكنها الجهر بهكذا قول، وبمثل هذا العنفوان، الذي تجسد بقوة مادية رادعة، ومثل هذه القوة الرادعة تمكّن الرعية من أن تجعل أولي الأمر من أن يستقيموا مختارين أو مرغمين، أي لن نسمح لأولي الأمر، ولن ندعهم أن يتصرفوا على هواهم وكما يحلو لهم، بل سنكون لهم بالمرصاد، وسنحاسبهم، ولن ننظم العلاقة على التواكل، أو على الثقة فقط..
أما المثالية في التناول، فغير محبّذ وغير مجد البتة، كقولنا، فلان جيد، فليته شغل الموقع الفلاني، بديلا عن الفلان السيء..مثل هذا التفكير يفتقد للحجة والإقناع، وهو ضرب من التواكل، وفرط  من الثقة غير جائز، ولا يستند على أساس علمي، فلا بد إذن من ضوابط تقوّم العلاقات، عملا بقول الرسول الكريم في وجيز عبارته، عندما توجه إلى الأعرابي الذي أراد أن يدع راحلته تسرح دون ربط أو قيد، مستغنيا عن ذلك بالتوكل على الله، عندها قال له الرسول : أعقلها وتوكل على الله..
أبدا لا يجوز التناسي من أن الموقع السياسي قد يغرينا، ويدفعنا بالتالي  باتجاه الأنانية والذاتية المفرطة، أعرف أن قائدا حزبيا ظل في أمانة الحزب نحو ستة عقود, أي من المهد إلى اللحد، وهو في عجز صحي، بسبب كبر سنه وشيخوخته،.. آخر قال لمنافسه المحاور، هذا الكرسي لي، ولن أتخلى عنه، فإن استطعت فانتزعه مني، فإذن، أين فاعلية المبادئ والقيم والأخلاق والنظام الداخلي، كل هذه العناصر يفصلها بنو البشر على مقاسهم، وكثير منها يبقى حبرا على ورق، لا يترجم على صعيد الواقع، إلا إذا ما مالت كف من يتشبث بتلك المبادئ، وبالتالي يخلق عبر هذا الصراع ما يشبه التوازن في المصالح، ومن ثم التهادن، والتوافق على صيغ أخرى، يرتضي بها الأفرقاء  المتخاصمون، وفق المعادلة الجديدة، التي تفرزها موازين القوى..
ربما أحدنا يثير تساؤلات مشروعة، من أن هناك أناسا يلتزمون بالقواعد الأخلاقية دون ضغط أو إكراه.. أقول نعم، لكنهم قلة ولكل قاعدة استثناءات، فضلا من أنه رأي لا يمكن أن يسود ولا أن يعتد به، بل أكثر من ذلك فقد تجد عالما ثوريا، ينحدر من طبقة ثرية، وفي انعطافات تاريخية (يخون) طبقته.. مثل هؤلاء، ربما يراقبون حركة التاريخ، ويدركون مساره، ثم يناصرون المآل المفضي إليه السيرورة التاريخية، عندما يقرؤون حلول أوان أفول الطبقة المسيطرة، لتفسح الطريق أمام طبقة جديدة واعدة، فيناصرها الثوري بالتالي بفكره..
في الأيديولوجية الألمانية يقول ماركس وإنجلز : (إن تبدل الشخص نفسه، يترافق في النشاط الثوري مع تحول الظروف) أي إن تغير الظروف ينجم عنه تبدل الشخص نفسه…

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

مرت ذكرى تحرير و استقلال الكويت بهدوء. إذ غادر البلاد عشرات الألوف من الناس في حالة تبدو طبيعية تجاه السفر وتغير الأجواء، لكن بنفس الوقت تشير هذه الهجرة الجماعية والمؤقتة إلى حاجة الناس للتغير في ظل قوانين المنع التي تسود البلاد، فبالرغم من تزامن الإجازة مع هلا فبراير الخاص بالتسوق والترويح، إلا أن ذلك لم يغير شيئا. فحتى الآن لم تتحول البلاد لمركز مالي وتجاري أو سياحي جاذب، إذ لازال الاهتمام منصبا على طرق السيطرة على المجتمع والشباب من خلال القوانين. لهذا تأتي الاحتفالات بلا احتفال وتتحول البلاد إلى معسكر عمل بالنسبة لأغلبية كبيرة من السكان.   أما الذين بقوا في الكويت فانتشروا بين راحة مطلوبة وبين شارع الخليج الذي تم قلبه رأسا على عقب من قبل شباب يبحث عن المعنى. مرت هذه الذكرى والكويت  تعيش أزمة صاخبة في يوم وأخرى هادئة في يوم آخر. مواضيع الأزمات كثيرة بعضها ذو قيمة وبعضها خال من أي قيمة. تغادر الناس في الإجازة ثم ستعود لتجد أن شيئا لم يتغير: نائب يهدد وآخر يهدأ وثالث يحاسب ووزير يدافع، ومدير يستقبل.
تتصل بي رويتر متسائلة عن الاستجواب الجديد لوزير الإعلام. بدأت ساخرا أو مازحا: “هذه هدية العيد الوطني. يجب أن نضمن طريقة لقراءة الصحف في العيد خاصة للذين غادروا الكويت. “ وبطبيعة الحال يتحول كل استجواب لكرة ثلج، ثم ما يلبث وان ينتهي بنفس الغموض الذي بدأ به. لكن السـؤال: ماذا كانت النتيجة؟ وهل أدى هذا إلى تحقيق مطالب البلاد وتصورات التقدم؟
صديقي د. محمد رميحي كتب في احد الأيام في زمن بداياته الفكرية ( منذ عقود طوال) كتاب عنوانه: ”الخليج ليس نفطا“، وذلك عندما أطلق صرخته بأن الخليج يتكون من مجتمعات وحراك وأفراد وشعوب تبحث عن تنمية .  لهذا في ذكرى استقلال الكويت تبقى الأحلام محدودة واستغلال الموارد ضعيف بينما الاعتماد على النفط وصرف أمواله في التوظيف العشوائي هو الأساس.
في الكويت عدة قوى لكل منها دور، وهذه القوى إن بقيت في صراع سوف تبقى الكويت في فراغ وجمود وتآكل.  القوة الأولى هي التيار الإسلامي بكل تصوراته وتناقضاته في الجانب السني والجانب الشيعي. فهذا التيار يمثل شيئا أساسيا في الشارع والمجتمع وهو يحمل هموم وموضوعات تميل للمحافظة في جانب وتميل في جانب آخر إلى إقصاء الآخرين ورفض التعامل معهم. يجب التحاور مع هذا التيار للوصول لنتائج حول استقرار الكويت. أما التيار الآخر فهو تيار الليبراليين الذي يمثل إلى حد قوى فاعلة في القطاع الخاص والإعلام وبين الكتاب والمؤلفين والمسرحيين والمفكرين وفي كافة ثنايا المجتمع ولكنها غير منظمة نسبة للتيار الإسلامي.  هذا التيار الليبرالي الوسطي العريض الذي يؤمن بالحريات الاجتماعية والشخصية وبمساواة الناس وحقوق المرأة هو الآخر يمثل رؤية ولديه تصورات منسجم بعضها مع العولمة والتطورات العالمية في حقوق الإنسان  والتنمية. بلا حوار مع هذا التيار وبلا الاستفادة في قدراته وبلا جلبه إلى طاولة الاتفاق لن يكون هناك استقرار أو تنمية في الكويت. أما التيار الثالث فهو تيار شعبي وطني يبحث عن المطالب الشعبية على أرضية نقابية ومطلبية وهو الأخر تيار كبير في الساحة يضم ضمن أجنحته قوى عديدة تتلاقي والتيار الإسلامي في موضوعات شتى. هذا التيار مكون أساسي في الساحة ويجب محاورته. أما التيار الرابع فيمثل السلطة الرسمية بما فيها من رموز للعائلة السياسية الأهم في الكويت: عائلة الصباح. هذا التيار بكل توجهاته وتناقضاته وامتداداته السياسية والعائلية يمثل رمزا أساسيا للبلاد ولجذورها ولدورها.   بلا تفاهم حقيقي وصادق مع هذا التيار لن تستقر الكويت.
تيارات أربع أساسية في الكويت ولكن هذا لا يكفي لاختزال الكويت في ذكرى الاستقلال. ففي كل تيار تناقضات وتقاطعات واصطفافات طائفية وقبيلة تتطلب هي الأخرى حوارات واتفاقات.  هذه قضايا تتطلب حوارا صادقا. بلا هذا ستبقى الدعوة للوحدة الوطنية خالية من المتابعة. في ذكرى الاستقلال والتحرير يجب التفكير بهذه المسائل وإعادة النظر قبل فوات الأوان. ويجب أن يكون السؤال الأساسي: كيف تتفق هذه التيارات على رؤية للكويت، ولكن كيف يكون محور الرؤية المواطن والمواطنة بصفته فردا حرا لديه مصالح واحتياجات قبل أن يكون مرتبطا أو متعاطفا مع هذا التيار أو ذاك؟.
المصدر: الاوان
© منبر الحرية، 02مارس/آذار 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

يمثل وصول البرادعي الى مصر نقطة مضيئة في واقع صعب شديد التناقضات. لكن قد تكون عودة البرادعي مجرد مؤشر الى عودة الروح الى مصر.  البرادعي شخصية دولية و مصرية، وهو يمثل اقلية صغيرة من العرب ممن فازوا بجائزة نوبل، ولكن الاهم الان انه يفكر بتحويل مصر الى بلد مدني حديث منتج يعتمد دولة القانون.  فهل ينجح البرادعي في ان يكون رئيس لجمهورية مصر، فيفتح مسمات التحديث والتجديد والبدء ببناء دولة مدنية تحرك مصر نحو مرحلة جديدة من التطوير والاصلاح؟  هل ينجح البرادعي في استعادة روح مصر بما فيها دور مصر الاقليمي؟
تواجه البرادعي معوقات عديدة في الوصول لموقع الرئيس. فهو يواجه دستورا يمنعه بالاساس الترشح لموقع الرئاسة، فشروط الترشح للرئاسة تتطلب عضوية قيادية في احد احزاب مصر لمدة عام او الحصول على تأييد ٢٥٠ عضو منتخب في مجلس الشعب والشورى. الشروط الراهنة صعبة وتتطلب تعديلا.  لكن المشكلة الثانية مرتبطة بمدى رغبة الرئيس مبارك البقاء في الرئاسة لمدة اضافية مما يدفعه للترشح مجددا. هذا يمثل ايضا تحديا امام البرادعي.
و يواجه البرادعي الحزب الوطني الديمقراطي وهو حزب السلطة الذي يتمتع بالكثير من الامتيازات والقدرة على التحكم بالاوضاع. ويواجه البرادعي ايضا سلطة الجيش والامن والتي هي حتى الان سلطة اساسية في حكم مصر. فمصر لم تعرف حكما وطنيا محليا الا مع الضباط الاحرار والجيش عام ١٩٥٢ . ولكن منذ ذلك التاريخ لم يحكمها احد من خارج المؤسسة العسكرية. لهذا فالبرادعي ان نجح في الوصول الى سدة الرئاسة سيكون اول رئيس مصري مدني في تاريخ مصر.  والواضح ان المؤسسة العسكرية المصرية قد خاضت نقاشات عدة حول المستقبل، وانها تميل الي البقاء خارج السلطة واللعبة السياسية المباشرة. لكن ذلك سيكون ضمن حدود.
مهمة البرادعي قد تكون مستحيلة، ولكن اليست المهام المستحيلة هي التي تتحقق في بعض الاحيان فتختصر لشعوب وامم الكثير من المعاناة؟ الم يكن توجه اوباما لرئاسة الولايات المتحدة امر مستحيل في بداية سعيه؟ لماذا لا يكون توجه البرادعي لرئاسة مصر هو الاخر تحقيق لفكرة جاء دورها ولمهمة طال انتظارها في مصر؟
البرادعي الذي عاش خارج مصر سنوات وعقود قد يكون الانسب لمصر، فمصر بحاجة لمن عاش التجربة العالمية من اوسع ابوابها وتعامل مع ازماتها ويمكنه النظر الى مصر بأعين جديدة وبتوقعات مختلفة. لنتذكر ان البرادعي رجل ازمات صعبة، وهذا ما تحتاجه مصر المكونة اليوم من اكثر من ٨٠ مليون مواطن خاصة وهي تواجه اكبر الازمات امامها  ملايين المصريين العاطلين عن العمل وملايين الشبان والشابات الباحثين عن العمل.
الذين يعرفون مصر في الخمسينات او السبعينات يعرفون جيدا ان مصر لعبت دورا كبيرا في قيادة الفكر والغناء والفن والادب والسياسة والابداع. ولكن بسبب ازمات كثيرة فقدت مصر ما كان يميزها، واصبحت تبدو طاقة معطلة تعمل بربع قدراتها. مصر اكثر الدول العربية ثباتا من حيث التاريخ وقوة الدولة وموقعها. من مصر انطلقت حركة التنوير العربية القديمة ( ومن لبنان ايضا)  ومنها انطلق تيار الاخوان المسلمين، ومنها انطلقت القومية العربية الحديثة. موقع مصر بحكم التاريخ، والحجم، وعدد السكان والمساحة والمكانة يبقى اساسيا في التركيبة العربية. لهذا فصلاح مصر سوف يعني صلاح العرب بنفس الوقت.
قد نجد الكثير من الاعذار لتراجع مصر، فنحن نعرف ان السادات حاول ان يسير في طريق الانفتاح والاصلاح الاقتصادي، لكنه لم ينجح في الاصلاح السياسي، كما ان السادات بعقده سلام مع أسرائل خفف على مصر الكثير من الاعباء الاقتصادية، لكن ذلك ادخل مصر في نفق اخر في العلاقة مع الولايات المتحدة واسرائيل والمنظومة العربية. ان مقتل السادات ادخل مصر في مأزق امني طويل الامد، فمنذ ذلك الوقت ومصر تعاني من حكم الطوارئ ومن قضايا امنية . وهذا بطبيعة الحال ابعدها عن طريق الابداع والاصلاح الذي يتطلب استقرارا، وانفتاحا، وتنوعا، وسعيا للتجديد.
الواضح ان طريقة مصر تختلف عن بقية العرب. المصريين اكثر العرب استعدادا للاصلاح، واقل العرب سعيا للعنف والثورة. رغم بعض مظاهر الغضب والعنف الا ان تاريخ مصر يؤكد تفضيل المصريين للتغير الهادئ على الصاخب وللاصلاح المرحلي على الثورة الكبرى. المناخ المصري يختلف عن العراقي والايراني والليبي. في مصر وقع اول انقلاب بلا سفك دماء عام ١٩٥٢، وفي مصر يعود البرادعي باستقبال كبير. الفرص امام مصر كبيرة، فهل يتم اقتناصها؟
المصدر: الأوان.
© منبر الحرية، 22 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20102

لا تزال المعارضة الإيرانية مستمرة للنظام الإيراني منذ انتخابات حزيران 2009. ولا تزال الأزمة تراوح مكانها برغم كل المحاولات التي بذلت، وذلك دلالة واضحة على عمق الانقسام الذي تعيشه إيران فهي أسوأ أزمة تشهدها منذ الثورة، فهي تكشف عن عمق التوترات والأمراض التي تنخر في النظام الإيراني، وتطلعنا على حجم التحديات المستقبلية، فالمجتمع كائن عضوي تكشف حالة المرض عن مدى كفاءة الأعضاء التي تكون بدنه وأحشاءه معا. ومن المعروف أن النظام السياسي يبقى مستقرا طالما كان موفيا بمطالب أعضاء النظام في مختلف النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ولاستجلاء حقيقة المعارضة الإيرانية، يتعين وضعها في سياقها التاريخي، وبالتحديد منذ الثورة الإيرانية. هذا التاريخ يكشف عن تركيبة النظام وبنية المجتمع، ومستقبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فالأحداث السياسية التاريخية هي التي تشكل خبرة الإنسان السياسية وتبقى مختزنة في الوعي السياسي للأمة وخزان وقودها، وتمد المجتمع السياسي بقوة دفع لا يستطيع إيقافها أي نظام مهما أوتي من قوة.
إن القراءة المتأنية لتاريخ المعارضة تساعد على الخروج بتعميمات نستطيع من خلالها فهم ما يجري في إيران في هذه الأثناء. هذه القراءة تؤكد أن المعارضة في تزايد مستمر، فضلا عن تزايد جرأتها ومطالبها. وعليه، لا نبالغ إن قلنا: إن مستقبل النظام مرهون بمدى استجابته للتحديات والآمال التي تكشف عنها ليس فقط الاحتجاجات الحالية، بل ما يكشف عنها تاريخ المعارضة منذ الثورة الإيرانية إلى الآن. فالنظام الإيراني يشهد بين الحين والآخر  حالة مزمنة  من التوترات شديد الحدة بما يشبه “الأزمة الممتدة”، وخصوصا الصراعات الحادة  بين التيارات السياسية داخل الجهاز الحكومي أو بين الأخير والقوى المحيطة بالنظام. ولكن هذه التوترات لم تصل إلى درجة تهديد النظام وتقويض بنيانه، قد تصل إيران إلى هذه الحالة، أي إلى أزمة حادة وبنيوية يصعب حلها في ظل النظام القائم إن لم يقم الجهاز الحكومي بتغذية راجعة يتفادى من خلالها الوقوع في أزمة مستقبلية قد تكون أشد حدة وقد تعرض بنيان النظام إلى خطر ماحق. فضلا عن ذلك إن هذه القراءة تكشف عن ثوابت المعارضة الإيرانية، ومدى استجابة النظام لهذه الثوابت، وردود فعله تجاهها؛ لاعتقادنا أن هذا محدد رئيس لاستشراف مستقبل النظام الإيراني.
وجدير بالملاحظة أن المعارضة السياسية مسألة ضرورية ولازمة لأي نظام سياسي. وفي النظام السياسي الإيراني، فإن الحاجة إلى المعارضة تعتبر ضرورة مضاعفة عن مثيلاتها في النظم السياسية الأخرى، ليس فحسب لأنها تكشف عن مثالب النظام واحتياجات البناء الاجتماعي، بل لأنها تهز استقرار النزعة المحافظة للنظام الإيراني.
وبعد مسح لأشكال المعارضة الإيرانية منذ الثورة إلي الآن ومطالبها وردود فعل السلطة تجاهها،  نعرض بعض الخلاصات التالية:
أولا:  في إيران أكثر من شكل واحد للمعارضة. والمفارقة رغم تنوعها الشديد إلا أن فاعليتها محدودة. ويمكن تصنيف المعارضة إلى ثلاثة أصناف:
1-  معارضة داخل الجهاز الحكومي
2-  المعارضة الدينية
3-  المعارضة المسلحة .
تشكل المعارضة داخل الجهاز الحكومي مجموعة من التيارات السياسية شديدة التباين تعمل من داخل النظام، تعارض بعضها بعضا، وتعتبر ولاية الفقيه مقولة دستورية ملزمة. وتحكمها تباينات عميقة تتعلق بالحقوق المدنية، وسيادة القانون، والمجتمع المدني، والفصل بين السلطات الثلاثة، وحدود سلطات الدولة. فهناك التيار اليميني التقليدي، وتيار اليسار الإسلامي، والتيار الليبرالي، وتيار معتدل  يغلب عليه الطابع الإداري والتكنوقراطي.
ولكل تيار قاعدة اجتماعية تناصره، وامتداد خارج مؤسسات الدولة، وصحف ناطقة باسمه. خلاصة ذلك أن هناك تنوعا شديدا في التيارات السياسية داخل الجهاز الحكومي بين يمين ويسار، متطرف ومعتدل، إصلاحي ومحافظ. يعكس هذا التباين التنوع في فئات وطبقات المجتمع الإيراني. وهكذا نجد أن لكل قاعدة اجتماعية ممثلين حكوميين. وهذه حقيقة في غاية الأهمية، فالتنوع السياسي- الاجتماعي والإيديولوجي، هو في الحقيقة ممثل بتيارات سياسية داخل الجهاز الحكومي. أهمية ذلك تكمن في أنه يحول دون وصول التناقضات السياسية والاجتماعية إلى ذروتها.
وبفضل وجود هذه التيارات في قلب النظام السياسي أمكن لصانع القرار مراعاة مصالح متعددة ومتنوعة. وهو متغير مهم يفسر لنا قدرة النظام الإيراني على الاستمرارية والبقاء في ظل ظروف إقليمية ودولية شديدة التعقيد، فضلا عن وضع داخلي ملتهب. وهذا ما يجعل النظام قادرا على تفادي أزماته ومعالجتها، دون حدوث ثورة أو تغيير انقلابي، كما يحدث في الأنظمة السياسية العالمثالثية. فقد أثبتت إيران قدرا عاليا على مواجهة التحديات والتصدي للأزمات الداخلية والخارجية. ولذلك فإن القوى المؤثرة في مصير النظام هي قوى “داخلية”- كما يقول الباحث الإيراني سعيد برزن-  أي داخل الجهاز الحكومي، وليس للقوى التي تتخندق خارج النظام سوى تأثير قليل جدا قد يصل إلى درجة الصفر. وبالتالي فإن التغيير ينتج ليس نتيجة صراع بين قوى النظام الداخلية والقوى المحيطة به، بل إن المنافسة بين تيارات النظام الداخلية هي التي قادت إلى التغيير. فـ “كلما ابتعدنا عن مركز النظام شاهدنا انخفاض مستوى التأثير لدى القوى السياسية”. خلاصة القول، لقد كان تحرك الفكر والسياسة من داخل الجهاز الحكومي نفسه. فالتيارات التي تشكل جسم النظام هي التي حملت لواء التغيير، أما القوى المحيطة بالنظام لم تستطع التأثير في هذا التحول التاريخي بشيء يذكر. وعليه فحتى تؤثر المعارضة في النظام يتعين عليها جذب التيارات الممثلة داخل الجهاز الحكومي لصالحها، فإن إحداث التغيير لن يكون بدون مساندة ومساعدة هذه التيارات السياسة.
أما المعارضة الدينية، فهي تنتقد النظام على أساس ديني، وتعارض أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة للنظام. وتلعب دورا مؤثرا داخل النخبة السياسية الحاكمة خصوصا عندما يكون الصراع بين التيارات السياسية على أشده، فقد ينتهي الأمر بأن ترجح المعارضة الدينية كفة الإصلاحيين. وتتنوع مواقف المعارضة تجاه ولاية الفقيه. ثمة من يرفضها بالمطلق، ويعتبرها ” شرك بالله وفرعونية”. وثمة من لا يرفضها وإنما يرفض ولاية المرشد الحالي على خامنئي؛ لافتقاده المؤهلات الدينية الكافية لتولي الزعامة الدينية. هذه المعارضة تطالب بإحلال شخص أكثر كفاءة من خامنئي. وثمة من يطالب باستبدال قيادة الفرد الواحد وإبدالها بقيادة  جماعية من خلال مجلس فقهاء يتكون من فقهاء حاصلين على أعلى درجات العلم الديني لضمان الطابع الإسلامي للدولة. وثمة من يطالب بولاية محدودة تتمتع بصلاحيات سياسة محدودة؛ لتقييد سلطان ولاية الفقيه. وثمة من يطالب بانتخابه مباشرة من الشعب، أي ولاية الأمة.  وثمة من يرفض ولاية الفقيه جملة وتفصيلا، ويرون أن مبدأ ولاية الفقيه استباقا لفكرة المهدي المنتظر، ويشككون في شرعية أي حاكم قبل عودة الأمام الثاني عشر، هذا التيار يدعو إلى انسحاب علماء الدين من السياسة. وأخيرا من المعارضة الدينية من يطالب بتحويل ولاية الفقيه إلى ولاية شرفية فقط أي لا تتمتع بأي صلاحيات سياسية.
يتضح مما سبق أن المعارضة الدينية عبارة عن خليط غير متجانس، وتتشكل من جماعات تترابط برابط هش وضعيف، وتفتقر إلى التنظيم. وهذه نقطة ضعف قاتلة، تفقدها القدرة على التأثير في النظام. وعليه فهي لا تشكل تهديدا له، بل يسهل على النظام اختراقها وتفتيتها وإضعافها. ومرد ذلك ليس لضعف في تكوين علماء الدين المعارضين، بحكم ثقافتهم وتكوينهم العقلي والديني، بل في تفكيرهم المثالي، وبالتحديد رفضهم الانجرار وراء المناورات السياسية وألاعيبها، ويفضلون البقاء بعيدا عن ألاعيب السياسة والاكتفاء بدور المرشد والموجه والتعبير عن المبادئ الروحية السامية. وبالتالي فهم لا يصلحون لإدارة أجهزة الدولة.
لذلك تستغل النخبة الحاكمة والمؤيدة لـ “خامنئي” نقطة الضعف هذه جيدا.  ونقطة الضعف الثانية، تتمثل في أن الصراعات الدينية بين علماء الدين الشيعة سواء أكانت فيما بينهم أو بينهم وخصمهم “خامنئي”، نقول إن هذه الصراعات تكون غالبا وراء الكواليس ونادرا ما تتسرب أخبارها إلى الخارج، لذلك فهي بمثابة “حرب باردة” وصامته وبخاصة بين رجال الدين وخامنئي. وبالرغم من حدة الاختلافات بين المعسكرين والعداء بين الجانبين إلا أن بين المعسكرين اتصالات كثيرة وروابط متشعبة، ومتشابكين عبر الزيجات والروابط الأسرية والتجارب المشتركة التي جمعت بينهم خلال سنوات الدراسة ومعارضتهم للشاه. المهم هنا أن بقاء هذه الصراعات وراء الكواليس يجعل الرأي العام الإيراني غير مطلع عليها، وهذا خسارة سياسية لهؤلاء غير الممثلين داخل جهاز الدولة، وبالتالي لا يتم توظيفه سياسيا لصالح التيارات المعتدلة، وهذا يعد مكسبا للنظام ونخبته الحاكمة وخصوصا تيار اليمين المؤيد لـ”خامنئي”.
أما بخصوص تعامل النخبة الحاكمة مع المعارضة الدينية، فكان ولا يزال تعاملا سلبيا إما بالترهيب والإقصاء، أو بالسجن والإقامة الجبرية، أو من خلال الإهمال والرفض والعزل.
وبخصوص المعارضة المسلحة، فهي تمثل جماعات وأحزاب إيرانية يعيش معظمها في المنفى. تكرس نفسها لمقاومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالسلاح، وتصارع الأخيرة على  الدولة وعلى الإستراتيجية العليا للدولة الإيرانية. وتهدف إلى الإطاحة بالنظام أو انتزاع حكم ذاتي للأقليات العرقية أو الدينية. ومن هذه المعارضة “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و” المعارضة السنية المسلحة” و”منظمة مجاهدي خلق” . هذه المعارضة لا تمثل أي تهديد حقيقي للنظام، دع عنك عن إطاحته. ولا تمتلك أي فرصة للاستيلاء على السلطة. وترفض الأغلبية العظمى من الإيرانيين، في داخل البلاد وخارجها، “منظمة مجاهدي خلق” وتحتقرها أغلبية الإيرانيين، وكانت دائما غريبة على جو “الحوزة” “ولها أراء غير تقليدية عن الإسلام”. وبالتالي فالمعارضة المسلحة ليس لها تأثير، وهي أيضا مفتتة وليس بينها رابط مشترك أو أهداف جامعة متفق عليها توحدهم في مناوئة النظام، فضلا عن مشاكل بنيوية تعتورها. وعليه، فهي عاجزة عن التأثير في مجريات الأمور في إيران، لا يمكن التعويل عليها لإحداث اختراق في بنية النظام.
ثانيا: تشكل المعارضة الإيرانية موقفا حرجا للجمهورية الإسلامية التي تتجاذبها القوى المعارضة. فلا تزال القضايا التي تثار متعلقة بمسألة ولاية الفقيه المطلقة التي تشكل الركيزة الرئيسية للحكم في إيران. المشكلة التي مابرحت تهيمن على النظام منذ الثورة إلى الآن هي كيف يمكن الجمع بين الدولة الدينية والمدنية في وقت واحد؟، حيث يؤخذ على النظام بأنه أخفق في تحقيق المصالحة بين المذهب الشيعي والعصر، وأخفق في تحقيق التوفيق بين الإيمان والحرية، دع عنك الاستجابة لطموح الأجيال الشابة. فالدستور مثلا يحاول أن يجمع بين المتناقضات، فيقر الحريات المدنية ويضيق في آخر كل مادة فيها هذه الحريات “ما لم يخل بالقواعد الإسلامية والحقوق العامة” أو “بشرط أن لا تناقض أسس الاستقلال والحرية والوحدة الوطنية والقيم الإسلامية”. أو “بشرط أن لا تكون مخلة بالأسس الإسلامية”. ومن المعروف أن الأسس والقواعد الإسلامية التي يشترطها الدستور لممارسة الحريات، هي مبادئ عامة ومجردة يستطيع كل تيار سياسي تفسيرها حسب معتقداته ومبادئه؛ لأنها غامضة وتحتاج إلى تفسير وثمة تفسيرات عديدة لهذه المبادئ، وكل التيارات تستطيع تفسيرها لصالحها.
فمثلا يعتبر تيار اليمين التقليدي أن كل نقض موجه للنظام أضحى نقدا موجها للإسلام نفسه. ناهيك أن النظام يلقي بتهمة “الحرابة” على من يخالفه، وقد أعدم الكثير بسبب هذه التهمة.
هذه التحفظات حاصرت حريات الصحافة، والاجتماع، ومكنت السلطات من الالتفاف عليها؛ لعجز النظام عن إيجاد التوازن بين “ولاية الفقيه” وبين ولاية الشعب، بين المدني والديني. وهذا يعد من المطالب الأساسية التي تكشف عنها المعارضة، بل ومن ثوابتها. ولا غرو أن الحركة الخضراء يعتبر جزء كبير من همها متعلق بالحريات، ويكشف عن ذلك المبادرة التي قدمها الزعيم الإصلاحي مير حسين موسوس التي تطالب بوضع حدود للسلطة، وأن تعمل في إطار القانون، وإعداد قانون للانتخابات يضمن منافسة نزيهة وعادلة، والإفراج عن جميع السجناء، وضمان حريات الصحافة والتعبير، والسماح للصحف الموقوفة بالعودة مجددا، والاعتراف بحق الشعب بالتجمعات القانونية، والسماح للأحزاب بالعمل وفق القانون. وعليه يرتكز تاريخ المعارضة الإيرانية على مسألتي في غاية الأهمية وهما: الحريات المدنية، وحدود سلطة الدولة وسياستها الخارجية، وتأخذ المعارضة على النظام أنه مفرط في سياسته الخارجية، وهذا الإفراط هو الذي يجلب المواجع داخليا؛ لأنها تبدد أموال الشعب.
ثالثا: ما برح ميزان القوى يميل لصالح النظام الحاكم وبخاصة لصالح تيار اليمين التقليدي المساند للمرشد والمدافع عن ولاية الفقيه. فالتيارات السياسية التي تشكل الجهاز السلطوي جميعها رغم اختلاف التوجهات السياسية، لا يمكنها تجاوز الأسس الدينية والسياسية والمبادئ العامة التي يقوم عليها النظام. فـ”مير حسين موسوي” زعيم الحركة الخضراء مؤمنا بكل أسس الثورة والمبادئ العامة التي أرستها. ورفسنجاني وخاتمي وكروبي يعتبرون أنفسهم أبناء النظام، ويرتبط بعضهم بالنخبة الحاكمة وبعلاقة مصاهرة ونسب وتجمعهم تجارب وآلام مشتركة. وهذا ينبئ بقدرة النظام على معالجة هذه الأزمة، فثمة ما يشي بذلك وخصوصا أن الحركة الخضراء بدأت تضعف وتتراجع وهناك انحسار ملموس في حجمها. بيد أن المستقبل لا ينبئ بذلك؛ لأن  تاريخ المعارضة يشير بتزايدها وتزايد جرأة مطالبها، فلأول مرة نشاهد هجوما على المرشد، وصورة تحرق وتمزق وهتافات تنادي “بموت الدكتاتور”. ولأول مرة نرى حدة التنافس والاختلاف بين المحافظين والإصلاحيين فضلا عن حدة الانقسام في النخبة السياسية والدينية. ولأول مرة نرى المرشد يعلن بوضح انحيازه لتيار بعينه، والخروج عن دوره المتعارف عليه وهو الحياد والمحافظة على التوازن داخل الجمهورية الإسلامية. ولأول مرة نجد هذا التدخل العسكري الواسع والعنيف في التصدي للمعارضة بهذا الشكل وما صاحبه من إعدام وسجن للخصوم. وعليه لا غرو أن البعض يصفها بالأزمة الأكبر والأخطر منذ الثورة إلى الآن، والأكثر كشفا لطابع النظام، الذي يكشف عن عمق الانقسام في المجتمع الإيراني. لذا فقد تفتح فصلا جديدا في تاريخ إيران تشكل هذه المعارضة مقدمته.
رابعا: إن التأثير السياسي للمعارضة الدينية التقليدية الرافضة لولاية الفقيه جملة وتفصيلا، يكاد يكون تأثيرا معدوما. فولاية الفقيه تمثل اجتهادا متطورا في الفقه الشيعي، فلا يعقل مطالبة المعارضة الدينية التقليدية تعليق قضية الحكم بحجة انتظار المهدي المنتظر. أما المعارضة الدينية الفاعلة والمؤثرة تنقسم إلى قسمين : الأول، أنصار ولاية الفقيه المطلقة. والثاني، أنصار الولاية المحدودة للفقيه.  والمعلومات تشير إلى أن التوجه الشعبي يسير نحو تأييد الخيار الثاني، فضلا عن أن هناك طائفة من النخبة تؤيد هذا الخيار وتدعم باتجاهه.  وجدير بالذكر أن انقسام المرجعيات بعد انقسام الزعامات يعني أن إيران دخلت المرحلة الأخطر، بعد أن نالت حدة الانقسام ولاية علي خامنئي وهزت مرجعيته وشرعيته.
خامسا: إن تزايد المعارضة وتصاعد وتيرة الأزمة  أو خبوها في المستقبل، يتوقف على انفتاح النظام على مطالب  المعارضة واحتياجاتها وأن تستثمر السلطة الحاكمة المطالب والاحتياجات وتستدخلها جميعها في نظامها وفي مشروعها، والقدرة على هضمها في بنية قرارات النظام السلطوية، لأن تسكين الأزمة ليس علاجا ناجعا. فثمة مرحلة جديدة من التحديات لم يألفها النظام، وهو مقبل عليها قسرا إذا استمرت استجابته بهذه النمطية.
نعم لدى النظام الحالي من القوة ما يمكنه من مواجهة المعارضة الحالية، ولكن العبرة بقدرة النظام على المحافظة على استمراريته وثباته وقوته، كيف يتم ذلك؟ هذا متوقف على التعامل البرجماتي مع الاحتياجات والمطالب التي تمظهرت. ولا ينفع النظام تهميش هذه المطالب بحجة أن الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بإيران غير مواتية، بسبب المخاطر والتهديدات التي تواجهها، وبخاصة ارتفاع وتيرة المواجهة مع الغرب بسبب أزمة الملف النووي الإيراني. ولا ينفعه اعتبار المعارضة صنيعة أجنبية ومدعومة من أمريكا والغرب. فاستمرار ذلك يعني أن  النظام  لا تزال استجابته للمعارضة استجابة لا تنم عن الفهم الكامل للحق في الاختلاف؛ لعدم إضفائه عليها أية مشروعية بل يعتبرها نشازا. ولا ينظر لهذه الاحتياجات بأنها تشكل لائحة مطالب ضرورية وتقريرا كاملا يكشف عن تحولات اجتماعية في شرائح المجتمع الإيراني، وتكشف عن فصل جديد ينتظر إيران، ومن مصلحة النظام التصالح مع مطالب واحتياجات المعارضة. ويتحتم التعامل معها من خلال إيجاد صيغة توفيقية تضمن احتياجاتها وتستوعب مطالبها بدلا من شيطنتها؛ لأن استمرارها ورد فعل الأجهزة السلطوية المسلحة تجاهها يعني تشويه صورة إيران ونموذجها وصدقيه نظامها الأخلاقي. لاسيما أن الفكر الإسلامي المنفتح يؤكد على وجود مفهوم المعارضة في الإسلام. فلا ينفع القمع لأن العوامل البنيوية ترجح كفة المطالب الشعبية الحيوية والثابتة. واستمرار القمع سيقود إلى إضعاف النظام في المستقبل، وبخاصة أن إيران مقبلة على تحديات مستقبلية من قبيل نمو تعدادها السكاني، فلا تزال إيران من أعلى المعدلات في العالم. ونظرا لوجود عدد كبير للغاية من الشباب فإن النظام يواجه تحديا يتمثل في مواجهة القلق المحتمل والتوقعات التي فشلت والتي تطالب بها المعارضة. ناهيك أن النظام الإيراني لا يعمل طبقا للظروف التي نمت فيها الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات، عندما كان بمقدورها الانعزال، فاليوم يعيش النظام في عصر العولمة والانفتاح والعالم السريع والسهل والمنفتح، لذا فان عصر الثورة قد ولى. وعليه يتعين على النظام أن يبدأ بتنفيذ سلسلة من الإصلاحات تدريجيا إذا أراد أن يحافظ على وضعه، بدلا من تآكل النظام من الداخل والتحطم على صخور الواقع.
© منبر الحرية، 15 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

إن سير العملية السياسية بهذا الشكل المهادن والبطيء، لا يتناسب مع ما يمر به العراق من تحديات جمة من جهة وحاجات ورغبات وأماني الشعب العراقي من جهة أخرى.
فالبلاد  ما تزال معطلة، فالوضع الاقتصادي المتسم بالكساد والركود يحتاج إلى آلية فعالة كي تجري الدماء في عروقه مجدداً من اجل أن تنهض البلاد من جديد، ومن الغريب أنه في لجة تداخل هذين المنطقتين وأشكال الصراعات الطافية على السطح، فإن الخطابات السياسية وتصريحات البعض مازالت في غفوة غافية فما مشروع سياسي أو موقف معين إلا ونجد أشكالا من التباري السياسي والتصريحات العنترية، ويا ليت لو هناك مثل هذه الهمة في مجال العمل وتقديم الخدمات للشعب العراقي المبتلى والمنكود.
إن المسؤولين مدعوون إلى اختيار مفردات دقيقة للتعبير، وإلا فإن التهريج يزيد من عمق الفوضى ويغلي البركان ويزيد الأمور اهتياجاً. إن الفهم السطحي للأمور والمفاهيم واختزال زمنها التاريخي ومحتواها الاجتماعي الغني واقتصار كل ذلك على التصريح أمر يدل على أن تلك التصريحات إنما تخرج من مشاعر عاطفية تهدف إلى تثوير الجموع لا إلى حكمة وفلسفة نابعتين من الحياة وتجاربها وربما المشروع الأمريكي الأخير الخاص بتقسيم العراق إلى ثلاث فدراليات نموذجاً لذلك. من المحزن أن يفكر الآخرون بالنيابة عنك كي يحلو لك مشكلاتك.
ودعنا من الحديث عن الاستعمار ودائرته فقد ولى عهد الاستعمار في عالم يشهد النهضة في شتى أرجاء المعمورة، بفضل الثورة الفكرية والمعلوماتية المنتشرة والمتيسرة ما عدا هذه المنطقة التي تأبى الاستفاقة من نومها والاطلاع على العالم من حولها. وهذا الاضطراب الفكري والرئوي يعكس استبطان المراكمات السابقة على أكثر من صعيد، ورسوخها في أذهان العامة أمر طبيعي نظراً لإشاعة التعمية والتجهيل لكن إشاعتها في أذهان بعض النخب أمر تعيس، ويشير إلى عودة قهقرية إلى الوراء باتجاهات شمولية ارتبط بها تاريخ حافل بالمآسي على صعيد العراق والعالم, وحيث أن الدول الشمولية ومفاهيمها ظلت على الدوام ملطخة بدماء غالبية عظمى من الأبرياء الذين حملوا حباً حقيقياً للعراق وضميراً نقياً لخدمته. وأن اختزال التاريخ الاجتماعي والسياسي لعدد من المفاهيم التي ظهرت واستقرت من التاريخ بناءً على ماضي حافل بالصراعات والمآسي على شكل مفردات وكلمات لهو أمر يبعث على الحزن والسخرية معاً.
إن مثل تلك المقولات تبطن في داخلها هاجس كبير من معاناة البشر على أرجاء المعمورة، وهي تتطلب الدرس والجدية لأن قراءة التاريخ بوعي تعزز التجربة الإنسانية وتمدها بأبعاد تاريخية ومصيرية. ويبدو في الأفق أن عدد النخب العراقية ما تزال أسيرة الأفكار البالية عن الدولة الشمولية وعن فضائلها المفترضة والتي تداعت وانقرضت كلية عن مسرح الأحداث العالمية بعد مجازر ومآسٍ وخراب كبير جلبه هذا النظام على العالم من حولنا.
الدولة الشمولية في العراق عبارة عن تاريخ من المآسي و الآلام، وبحار من الدماء المسكوبة بتواريخ محفورة في الذاكرة العراقية الموشومة بتجارب مريرة تقشعر لها الأبدان، ذلك أن الدولة الشمولية في العراق هي مطية القمع والمصادرة واغتيال أشكال التآلف الاجتماعي واغتيال الفكر والحوار وكل مظاهر التمدن والحضارة. إن التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العراق ووصوله إلى هذه الدرجة التي هي في أواخر إحصائيات الفكر والمرض والجوع على مستوى العالم إنما تكمن خلف الدولة المركزية بلا منازع فهي قد أتاحت لفئات صغيرة ومعزولة من الوصول إلى سدة السلطة ببرامج، ومن ثم الإجهاز على مكوناته وفئاته وبشتى أنواع التفكيك المبتكر والمستورد، وبدلاً من تحقيق البرامج والشعارات صار إلهاء الفئات بالصراعات أحد أساليب تمديد عمر السلطة. إن الدولة الشمولية تمتلك تاريخاً حافلاً بالخزي وجرت على البلاد الويلات والدمار وآن الأوان للمراجعة والاعتبارات.
© منبر الحرية، 16 يناير/كانون الثاني 2010

حواس محمود15 نوفمبر، 20100

نادرا – بل نادرا جدا – ما يشعر المرء، وبخاصة الفرد المبدع بحالة من الراحة النفسية الكاملة، تجاه ما يتم تقديره واحترامه وتشجيعه في الأوساط الاجتماعية المحيطة به، لما يقوم به من دور وإبداع في خدمة مجتمعه والإنسانية جمعاء.
ولعل الأكثر معاناة في هذا الصدد، هو ذو الكفاءة أو صاحب موهبة أومن امتلك طاقة خلاقة، إذ يشعر الإنسان المبدع أنه بالرغم من عطائه الرائع فإنه يهمل ويهمش، ليس هذا فحسب وإنما يتعرض للمضايقة والعرقلة والتشويش عليه وعلى إبداعاته، وفي كثير من الأحيان يحارب- بفتح الراء – ( بالاستناد إلى مقولة مفادها : يكتشف المبدع بتلك العلاقة الدالة وهي تحالف جميع الأغبياء ضده ). إن هذه الظاهرة تندرج ضمن إطار مأزق الفرد في المجتمع.
لقد تناول هذا المأزق عدة كتاب وباحثين مرموقين في العالم العربي، فالشاعر العربي الكبير أدونيس المرشح لجائزة نوبل للآداب يسلط الضوء على هذا المأزق، ويرى ( في محاضرة له بالقاهرة ) أن الفرد في المجتمع العربي المسلم يعاني التهميش الذي تمارسه مؤسسات تمحو الذاتية لصالح مفهوم الأمة أو الجمهور الذي قال بأنه فكرة أيديولوجية.
إن الفرد المسلم-  بحسب أدونيس-، يعيش الآن رهين محبسين: هما التأويل الوحداني والتأويل السلفي للنص الديني، وهذا يؤدي إلى انمحاء وذوبان الفردية في الجماعة – الأمة-، ويشير إلى محاولات في التاريخ العربي لاختراق هذين المحبسين على أيدي بعض الشعراء والمتصوفة، حيث يرى أن التصوف أعمق ثورة في تاريخ الإسلام ، ويضيف  أدونيس بالقول : إن جميع الأحزاب تلغي الهو في سبيل الهم.
ويتناول الباحث الدكتور مصطفى حجازي في كتابه ” الإنسان المهدور” – اصدار2005- تهميش الفرد في المجتمع من خلال البحث في سيكولوجية هدر الطاقات وهدر الإمكانات وانمحاء الفرد ضمن الجماعة – الدين – القومية –  القبيلة- الطائفة-…الخ، ويرى حجازي أنَ ثقافة الولاء للعصبية لا تفعل سوى هدر الطاقات والكفاءات التي طالما اعتبرت ثانوية، تهدر الطاقات الأكثر حيوية وعطاء على مذبح الولاء والتبعية، وبالتالي تهمش فئات كبيرة من ذوي الكفاءات حتى النادرة منها، وتدفع إلى المنفى الداخلي أو الخارجي ما لم تقدم فروض الطاعة والولاء وبراهين التبعية التي لا يداخلها شك، يقرب المولون ولو كانوا من ذوي الكفاءات الرديئة والانجاز المتدني بينما تهدر الطاقات الوطنية الثمينة، ثقافة الولاء هي ثقافة الهدر ذاته، وهذا ما يفسر تعثر التنمية ويعم التخلف، والمبعدون والمنفيون من ذوي الكفاءات يجترون الإحباط والمعاناة ويشتعل في نفوسهم الغضب على واقع الحال.
ويشير إلى أن الإنسان إذا تم الاعتراف به كإنسان وبشكل غير مشروط فإن الآفاق الرحبة تفتح أمامه، ويعيش التوازن النفسي والوفاق مع الذات، ومع العالم ومع الآخرين، وتنمو لديه الثقة بالنفس والنظرة الإيجابية إلى الذات، والدافعية للعمل والإنجاز، وصولا إلى الإبداع.
يشدد الباحث على ثقافة الإنجاز والعمل تبعا لناموسها، وبرأيه في ثقافة الإنجاز التي تشكل قاعدة كل نماء وبناء، لا يرى المرء من مفهوم لذاته أو تصور إلا باعتباره كائنا منجزا يحسن تنمية طاقاته وتوظيفها، كما أن صناعة المستقبل قائمة على الجهد الذاتي والجماعي بما فيه من تجديد وإبداع.
ويؤكد الباحث على ضرورة الاعتراف  بحق الإنسان بالكيان، وصيانة حرمة هذا الإنسان وتأمين الحاجة والخوف كشرط مسبق لبناء الاقتدار الإنساني الذي يشكل نواة أي إنجاز أو إنتاج أو تقدم أو تنمية الإنسان أولا وفي الأساس، والاعتراف بإنسانيته كمنطلق ومآل ووسائل، وكل ما عدا ذلك جهد مهدور وأمل ضائع.
أما الأستاذ حازم صاغية فيحرر في كتابه ” مأزق الفرد في الشرق الأوسط ” – الساقي 2005- عدة مقالات للعديد من الباحثين والكتاب في مجال الفردانية في الشرق الأوسط، وكل يتناول الفردانية في منطقته، أو ما يختص ويهتم به في تلك المنطقة عبر فصول الكتاب.
ويفرد في الكتاب فصلا عن الفردانية في الشرق الأوسط العربي، بالإضافة إلى مقدمة غنية بالأفكار الحيوية والمهمة، إذ ضمت رؤية نقدية واضحة لمكانة الفرد في التاريخ العربي.
يشير الباحث صاغية على أنه في الواقع لقد وجد الأفراد دائما في الشرق الأوسط، كما في غير مكان من كوكبنا،  وهؤلاء الذين تربطهم ألفة ما بالتاريخ والأدب العربيين يعرفون بالشعراء “الصعاليك ” فآراء وأعمال هؤلاء الشعراء كانت مرفوضة في قبائلهم وجماعاتهم، وكان عليهم أن يهجروا منازلهم وأصحابهم ليعيشوا في منافي الأراضي المهجورة في الصحراء، غير أن ما لم ينوجد هو الفردانية لأن هذه لا تظهر  إلا مع الحداثة وبفضلها، لكن مجتمعا ينوجد فيه أفراد من دون التنبؤ بتصرفاتهم أو كطائشين أو في – أحسن الأحوال- كمتطرفين، ويكونون عرضة للتضحية بهم من دون سبب، وفرديتهم المقموعة إنما تجد مخارج قليلة للتعبير عن نفسها فيكون ملاذها الأسهل في بعض الإيماءات الجسدية الشاذة، أو في سلوك هزلي ما أو كما هي حال الصعاليك، في بعض الشعر” الغريب ” سواء في مفرداته أم في محتواه، ولهذا يصعب أن تصدر مواقف متماسكة منطقيا عن هؤلاء الأفراد فهم لا يستطيعون تطوير خطاب فرداني في ما يخص الحياة والموت ، الحب والكره ، السياسة والثقافة.
وهنالك هضم للحقوق الفردية ضمن سياق المطالبة بالحريات سواء للشعوب المنضوية تحت أطر دول معترف بها أو للأقليات المضطهدة، فالتجربة توضح أن هنالك تضحية بالحريات الفردية من أجل الحريات الجماعية، ولقد شهدت الأحزاب العربية والكردية حالات من إهمال الفرد والتضييق على حرياته، بالرغم من شعارات وأهداف هذه الأحزاب بالحرية والديمقراطية والنضال ضد الاضطهاد والدكتاتورية والاستبداد، ومارست هذه الأحزاب أساليبا غريبة بحق الأعضاء الذين قرروا لسبب ما الانفكاك من هذه الأحزاب، من نبذهم وعزلهم واتهامهم وحتى تخوينهم في كثير من الحالات ، هذا ولعل اندفاع الكثير من الأفراد للانخراط في هذه الأحزاب لا يأتي بسبب قناعاتهم بهذه الأحزاب وإنما بغية صنع وجاهات سياسية للحصول على رضى الجماهير وتقديرها مستغلين حالات التخلف الشعبي الواسعة،  ولعل تهميش الفردية يتبدى في المجال الإعلامي والفكري على شاشات الفضائيات الكردية من خلال إظهار شخصيات لا تمتلك الإمكانات الإعلامية والفكرية للدفاع عن الكرد وقضيتهم العادلة، وذلك بسبب انتمائهم الحزبي بينما يتم إهمال وتهميش شخصيات تمتلك تلك الإمكانات وذلك لأنها شخصيات مستقلة غير منتمية لأية أحزاب.
وهذا الإقصاء وهذا التهميش الممارس من قبل الأحزاب بحق أعضائها المستقيلين يقابله في الأنظمة العربية إقصاء وتهميش للخبرات والكفاءات والطاقات العلمية والثقافية والفكرية، وهذا ما يؤدي  في الداخل للاغتراب والتقوقع والانحسار الإبداعي و في الخارج إلى هجرتها والاغتراب الاجتماعي عن البلد الأصلي والتعرض لازدواجية التجنس واللغة والثقافة والتقاليد.
لكن رغم ذلك فإن هذه الطاقات تبدع وتنجز في مجالاتها إنجازات رائعة ما لا يتاح أمامها في بلدانها الأصلية، بسبب توفر المناخات الديمقراطية الكافية وملاقاتها للدعم والتحفيز والمساندة من المؤسسات الحكومية والمدنية في بلدان المهجر، والأمثلة كثيرة وعديدة ابتداء من فاروق الباز رائد الفضاء الأميركي – المصري الأصل- ومرورا بأدونيس الشاعر السوري والمرشح لجائزة نوبل للآداب وانتهاء بأحمد زويل المصري الأصل-  الحائز على جائز نوبل في الكيمياء ،  وغيرهم .
إنَ ما يدعو للألم والأسى حقا أن الفردية في العالم العربي تغيب وتتيه أمام موجات من المغالاة والمتاجرة الشعاراتية والصراخ في الفراغ، بينما الفرد المبدع يبحث عن إنسانية مبدعة متجسدة في الفرد لبناء مجتمعات قوية وسليمة ومعافاة من أمراض سياسية واجتماعية أدت وتؤدي إلى تخلف هذا العالم ( العالم العربي) وتعرقله عن اللحاق بركب الحضارة العالمية.
© منبر الحرية، 10 يناير/كانون الثاني2010

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

في اليوم التالي للانتخابات اللبنانية الاخيرة نشرت صحيفة “السياسية” التي تصدر عن الوكالة الرسمية اليمنية صورة لرجل وعروسه، وهي في ثوب الزفاف، وهما يدليان بصوتهما في مدينة بيروت. وقد حصلت هذه الصورة على اعجاب كثير من القراء، لكن جهات دينية متشددة عبرت عن غضبها، وهددت برفع هذا الأمر إلى القضاء مالم تعتذر الصحيفة، وتعاقب الصحفي الذي قام باختيار الصورة، وقد حصلت هذه الجهات على ما تريده، فقد اعتذرت الصحيفة، وتم ايقاف المسؤول عن ذلك لمدة شهر، ومنعه من الدخول الى مبنى الوكالة اثناء فترة العقوبة. ورغم أنه قد تم التراجع عن هذا القرار إلا أنه يكشف بوضوح مدى تأثير هذه التيارات الدينية، خصوصاً تلك التي لديها موقف معادي من الحرية على من يفترض أنهم طليعة المجتمعات وهم الصحفيون.
كثيرون استغربوا إثارة عاصفة حول صورة عادية بثتها وكالات الانباء ونشرتها صحف عربية مختلفة، خصوصاً وأن صحيفة “السياسية” تعودت نشر صورة كبيرة في الصفحة الأخيرة على غرار صحيفة الحياة اللندنية وصحيفة القدس العربي، وغالباً ما تكون هذه الصور لنساء وهنّ في كامل آناقتهن.
في الحقيقة، إن الاعتراض الذي أبداه المتشددون الدينيون على الصورة لم يكن فقط بسبب ما قيل أن فستان العروسة فاضح!، وإنما لأن الصورة تحرّض على القيام بعمل أكثر فضائحية، وهو الانتخابات، التي تعد بحسب هؤلاء اغتصابا لحق الله في الحكم والتشريع، لذلك وبحسب أهم علمائهم وهو الشيخ محمد الامام في كتابه “تنوير الظلمات لكشف شبهات وملابسات الانتخابات” لا يصح إسلام المرء حتى يكفر بالديمقراطية.
تكمن خطورة هذا الفكر أنه يجعل من الحرية عدواً يجب مواجهته، في حين أن الحرية تعادل الحياة، وهي معنى في غاية الاهمية التفت إليه المفكر الاسلامي الكبير ابن باديس عندما قال “إن حق الانسان في الحرية كحقه في الحياة، فمقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية” .
قبل نحو عامين، أعطاني أحد زملائي مشروع كتاب قام بتأليفه أحد أصدقائه، من أجل أن أطلع عليه وأسعى لنشره في المكان الذي أعمل فيه.
قرأت الكتاب، وصُعقت، فقد كان الكتاب يتحدث عن ما أسماه ألاعيب يهودية، وكان من ضمن هذه الألاعيب، الحرية التي تمثل بحسب وجهة نظره سلاحاً يهودياً لتدمير الإسلام والسيطرة على العالم.
قلت لزميلي: قل لمؤلف الكتاب، لقد بذلت جهداً جيداً، لكن عليك أن تترك هذا الفكر المتشدد الذي يتعامل مع القيم الانسانية مثل: الحرية والمساواة باعتبارهما مؤمرات يهودية، سيكون اليهود في غاية السعادة إذا تم الصاق هذه التهمة بهم! .
في هذا الصدد قد يكون من المناسب التذكير بأن الكتب المعادية للحرية التي تصدر في العالمين العربي والاسلامي أكثر من تلك التي تنادي بها، وهي مسألة محيرة فعلاً، وتحتاج الى نقاش هادئ وعميق، فهذا السبيل الأكثر صواباً لفهم الأسباب الحقيقية التي جعلت الحرية تتحول من مطلب حضاري وإنساني إلى مؤامرة خارجية.
لا يكفي القول، أن الخلط الواضح والمتعمد بين الحرية والانحلال، هو السبب وراء هذا الانقلاب في التفكير الإسلامي على الرغم من أن الحرية هي أحدى المبادئ الأساسية التي دعا إليها الإسلام، ولاتزال مقولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب “متى أستعبدتهم الناس وقد ولادتهم أمهاتهم أحرارا” تملئ المكان.
اليوم يوجد داخل التيار الإسلامي وخارجه من يحاول رد الإعتبار للحرية، لكن هؤلاء يواجهون خصماً لديه إرث من التسلط يستند على قداسة دينية، قادر على تحوير النصوص المقدسة لمصالحه الضيقة، وبسب الأمية العلمية والدينية على حد سواء تزيد قدرة هذا الطرف على التأثير على البسطاء الذين يتعامل معهم بقسوة وتعالٍ.
قبل عدة أشهر، سعى بعض رجال الدين في اليمن إلى تكوين هيئة للدفاع عن الفضيلة، على غرار هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد توقف المشروع مؤقتا، إذ لم تسمح الظروف التي تمر بها البلاد بتمرير هكذا مشروع. ثمة اتجاه لدى هؤلاء للوصاية على الناس الذين غالباً ما يثقون بهم.
في المقابل، هناك من يصمم على التفاؤل، ويعولون على تطور المجتمعات العربية، وعلى رجال الدين البارزين الذين يملكون فكراً متحرراً، واجتهادا مغايراً للسائد، لكن أغلب هؤلاء يريدون الحرية من أجل استخدامها كمطية للوصول إلى التحكم بالسلطة والناس. الداعية الاسلامي الدكتور يوسف القرضاوي أحد هؤلاء الذين يشار إليهم بالبنان عندما يتعلق النقاش بالتجديد الديني، وقد طالب مؤخراً بإطلاق الحريات العامة بين أفراد الشعوب الإسلامية، معتبراً أن ذلك أمرٌ مقدمٌ على تطبيق الشريعة. وهو رأيٌ يشاركه فيه الكثير من المرجعيات الإسلامية المختلفة التي تحاول أعطاء الحرية معايير خاصة جداً تتفق وأفكارهم التقليدية، تحت حجة رفض الأفكار الآتية من الغرب الكافر!، ما يعني أننا قد نحتاج الى زمن طويل حتى نغيّر من أفكارنا تجاه الحرية التي تُعد بحق أهم القيم الإنسانية على الإطلاق.
© منبر الحرية، 20 دجنبر/كانون الأول2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

إن المتابع لردود الفعل العربية على المسائل المتعلقة بالمحاكم الدولية التي فرضت نفسها في السنوات الأخيرة كواقع لا يمكن الهرب منه, من المحكمة الخاصة باغتيال الرئيس  الحريري إلى قرار استدعاء الرئيس السوداني عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور إلى قضية تقرير  غولدستون و ماطرحه من احتمال الوصول إلى المحكمة الجنائية الدولية..نقول إن المتابع لردود العرب سيصاب بالدهشة والذهول للآراء الصادرة عن النخب والأحزاب والسياسيين والمثقفين, خاصة إذا كان المتابع يمتلك أدنى درجة من الذاكرة التي  اختزنت أراء هؤلاء ومدى تناقضها بين محكمة وأخرى!
لنعد إلى الوراء قليلا ونتذكر  السجالات التي جرت حول محكمة الحريري, إذ رأينا أن من كان يعتبر المحكمة مسيسة وخاضعة لألاعيب الدول الكبرى سلفا هو نفسه من هلل لخروج الضباط الأربعة وطالب بحصد النتائج السياسية لذلك, ولنا أن نسأل هنا إن كان الأمر كذلك :لم لا يكون خروج الضباط أنفسهم مسيّسا, وخاضعا لتسيس ما؟ وهل سيقبلون بتسليم أحد رموزهم حال قررت المحكمة ذلك؟ أم وقتها ستعود المحكمة مسيّسة!
من جهة أخرى, بدا وقتها الذين دافعوا عن المحكمة واعتبروها غير مسيّسة, وخاضعة للقانون الدولي, مخذولين وغير مقتنعين بما قرره القاضي بإطلاق سراح الضباط الأربعة, لماذا؟ لأنها لم تلب رغباتهم وطموحاتهم التي كانوا يتمنون, وبدا تبريرهم و حديثهم  أنذاك مفككا وغير مترابط وهم الذين بنوا استنتاجاتهم وحساباتهم على أمور لم تطابق حسابات بيادرهم؟
و في السودان عندما تم تشكيل لجنة للتحقيق في قضايا دارفور وتم استدعاء الرئيس البشير للمثول أمام المحكمة, هاج الفريق نفسه واستنكر معتبرا المحكمة مسيّسة وألعوبة بيد الدول الكبرى! مقابل أطراف أخرى طالبت بمثوله أمام المحكمة وذلك لأسباب سياسية بحتة لا علاقة لمقتضيات العدالة بها.
وأثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة وقتلها المدنيين والأبرياء, ارتفعت الدعوات العربية إلى محاكمة قادة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب, وبالعودة إلى المنادين بضرورة المحكمة, سنجد أن أغلبهم من كان يقول(ومايزال) وبالفم الملآن بأن الحكومة الخاصة بمحاكمة قتلة الحريري مسيّسة!
وهم أنفسهم من سنراهم يشجبون قرار المحكمة الجنائية بمحاكمة البشير بتهمة جرائم الحرب في دارفور؟
وهم أنفسهم من نراهم اليوم يدينون السلطة الفلسطينية (المدانة بكل الأحوال) على تأجيل تقرير غولستون ويطالبون بتحويل القرار إلى مجلس الأمن ومنه إلى المحكمة الدولية!
ليبرز لنا السؤال التالي: لماذا هذا التناقض؟
لماذا نكون مع فكرة المحاكم عندما يكون الحق معنا, ونكون ضدها عندما يكون القاتل منا, أيا كان هذا القاتل؟
ولِم َينقلب الناس عندنا بين ليلة وضحاها؟
وفي الوقت الذي نتهم الغرب (وفي ذلك بعض الصواب) بتسييس المحكمة وحقوق الانسان وحقوق المرأة والديمقراطية, ننسى أننا الأكثر تسييسا للقضايا في العالم, أليس تناقضنا تجاه المحاكم الثلاث المتمثل بتأييد محكمة ورفض أخرى هو التسيس بعينه؟
في الإجابة عن الأسئلة السابقة تبرز مستويات عدة للنظر, منها ما هو داخلي, يتعلق ببينة تفكيرنا وطريقة تحقيق العدالة في بلداننا, ومنها ما هو يتماس مع الخارج الذي علمنا أن القانون يطبق على الضعفاء فقط..
في الشق الداخلي: إن نظرة متفحصة لطبيعة تطبيق القانون في العالم العربي , سترينا أن القانون في العالم العربي مغيّب, وغير موجود, والقضاء يخضع للسلطة السياسية التي تتحكم به من خلال قوانين طوارئ أصبحت تطبق خارج الطوارئ وتستثنى في الطوارئ. وبالنسبة للأحزاب السياسية فنجد أنه رغم ولادتها منذ قرن في العالم العربي, فإنها لم تستطع حتى اللحظة هذه أن ترسخ تقاليد عمل حزبية تجعل من السياسة مجالا للاختلاف ضمن حدود ما هو مسموح به وطنيا وإنسانيا دون إقحامها في مجالات القانون والعدالة , حيث تغدو تلك الأخيرة أسيرة التجاذبات السياسية والاستخدام السياسي من قبل السلطات والنخب على حد سواء, لأن حكم الاستثناء الطويل رسخ تقاليد منافية للعدالة بأن أي شخص _باسم الطوارئ والاستثناء- يمكن له النفاد من براثن العدالة , وأدى هذا إلى قلب الأمور في طريقة تفكير العقل العربي الذي بات يرى الاستثناء حالة دائمة, والطبيعي استثناء,لذا تغدو الازدواجية في التفكير “شيئا طبيعيا” عند العقل العربي, الذي يقبل  العدالة عندما تكون لمصلحته, ويرفضها عندما تكون عليه, تحت اسم “السيادة والحرية وعدم تدخل الآخرين”,  هذه المفاهيم الثلاثة التي ينتهكها عادة أول الرافعين شعاراتها في العالم العربي!
وقراءة سريعة لتاريخ الفكر العربي خلال القرن الماضي, سنجد أن مفاهيم الحرية والديمقراطية والعدالة والقانون, لم يتم الاشتغال عليها فكريا حتى في مرحلة النهضة الأولى التي تم بترها لصالح الأفكار والمفاهيم “الثورية”, التي تم الاشتغال عليها أيضا من نظرة الاستخدام السياسي حزبيا أكثر مما تم الاشتغال عليها فكريا لتتأصل في تربة الوعي العربي القاحلة, الأمر الذي أدى إلى ضحالة مستوى الوعي بهذه القضايا, ومعروف أن من لا يمتلك وعيا بقضية ما, لن يستطيع تطبيقها, ولن يحزن عند انتهاكها من قبل سلطة أو حزب أو شخص لأنه بالأساس لا يدرك أهميتها ولم يذق ثمارها و”فاقد الشيء لا يعطيه”, لذا علينا أن ندرك أن القانون والعدالة هما ثقافة يجب ترسيخهما في وعي الناس قبل أي شيء آخر.
ولكن من جهة أخرى, هناك عامل مساعد لا يمكن إغفاله لترسيخ تلك النظرة العربية تجاه المحاكم الدولية, وهو موضوع استخدام السياسيين الغربيين لموضوع المحاكم كأداة ضغط سياسي, أكثر منه أداة قانونية لتحقيق العدالة المنشودة, وكلنا ندرك المحاكمات الخاصة بقضية لوكربي وكيف رافق تحقيق العدالة (إن كانت حققت) ضغط سياسي, و نعرف كيف انتهت الأمور عندما غيّر الرئيس الليبي من سلوكه ودفع تعويضات لأهالي الضحايا, وندرك كيف خرج المقرحي من سجنه ؟  وكلنا نتساءل لماذا تم تشكيل محكمة للحريري ولم يتم تشكيل محكمة لمعرفة إن كان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات قتل أم لا؟ وكلنا نتساءل لماذا تمت محاكمة صدام في العراق وتحت الاحتلال ولم يحاكم أمام محاكم دولية في الوقت الذي رفضت الدوائر الغربية تشكيل محكمة لبنانية أو عربية لمحاكمة الحريري وسارعت “فورا” لتشكيل محكمة دولية حتى دون التوافق عليها لبنانيا وهو الأمر الذي كاد أن يوصل لبنان إلى حرب أهلية, ونعرف أن الفيتو الأمريكي هو الذي يحمي إسرائيل في مجلس الأمن عند كل مجزرة ترتكبها بحق الفلسطينيين دون أن تحتاج لمحاكمة لإدانتها أصلا لأن الجريمة واضحة والفاعل واضح !!
ولنا هنا أن نسجل أن إسرائيل في الذهنية العربية ارتبطت بالدولة الخارجة عن القانون, والدولة التي لا تخضع لقوانين مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية و وكالة الطاقة الذرية وترفض الانضمام إلى معاهدة الحد من الانتشار النووي, و لذا لا يمكن للعرب أن يقتنعوا “بجدية”  المحاكم الدولية دون محاكمة إسرائيل, التي احتلت وقتلت وشردت(ومازالت), وهذه القضايا يستخدمها السياسيون العرب لتخدير الداخل والشعوب العربية تحت اسم “السيادة وعدم تدخل الآخرين مروّجين أن العدالة تلك مرفقة بالاستخدام السياسي للغرب ليصل إلى مصالحه, وفق مبدأ ” حق يراد به باطل”. وهنا تلتقي المراوغة الغربية مع مراوغة النظم العربية في دك أسس العدالة وتسييسها, ومن هنا يغدو الازدواج في تفكير العقل العربي مبررا وظيفيا (دون أن يبرر إنسانيا وأخلاقيا), ليغدو العقل العربي محاصرا بين مطرقة السلطات الرافعة شعار “السيادة” ومطرقة الدوائر الغربية ومصالحها الرافعة شعار ” العدالة”, في الوقت الذي تنتهكان كلتاهما السيادة والعدالة معا.
© منبر الحرية، 28 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

بات من المؤكد والضروري أن نشر ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف حاجة أساسية وملحة يجب زرعها في نفوس وعقول الجيل النشء، لأنها تساهم بشكل فعال في خلق جيل واع قادر على تحمل أعباء المسؤولية وقيادة المرحلة القادمة بشكل ايجابي وسليم، لأن مثل هذه الثقافة تشكل ترسيخاً قوياً لمعالم الوحدة الوطنية التي ينبغي بناؤها على أساس من الثقة وبعيداً عن الهواجس وحسابات الربح والخسارة.
لأن الثقافة بشكل عام هي ثقافة إنسانية، لذلك لا توجد ثقافة عديمة القيمة كلياً، أو ثقافة كاملة مكملة تحتكر الحقيقة الإنسانية وتختزل ثراء الوجود وتمتلك حق فرض معاييرها وإيديولوجيتها وأجندتها السياسية على الآخرين، بما في ذلك الليبرالية. لذلك نرى بأن السبب الكامن وراء الاستقرار النسبي والغنى الثقافي لمعظم المجتمعات الغربية يعود بالضبط إلى حقيقة أنها لا تعتمد على عقيدة سياسية وحيدة أو وجهة نظر واحدة للعالم.
ولا يتحقق التسامح وقبول الآخر، إلا بالحوار والتواصل، والمشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار، لأن إقامة حوار بناء، وخلق فضاء للنقد والفكر المستقل يسود المجتمع حالة من الاستقرار والسلام والتعايش مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه.
وإن الحوار والتواصل دائماً وأبداً هو الطريق الصحيح لحل كافة القضايا العالقة، وهو  البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، وبالحوار نحافظ على التواصل والمحبة والسلام، ونعمق معاني الديمقراطية والتعاون، ولا يكفي لنجاح الحوار مجرد الدعوة إليه دون اتخاذ خطوات عملية تترجم ما اتفق عليه من قبل الأطراف المتحاورة على أرض الواقع، وتنمي الثقة بين المتحاورين، فإذا لم يطمئن المتحاورين إلى المصداقية في إجراء الحوار، وإذا لم تستبعد العوائق والموانع فيصبح الحوار بدون غاية أو هدف، أو مجرد حوار من أجل الحوار.
إن المجتمع المتجانس ثقافياً يتمتع بقوة مميزة خاصة به، ويخلق مناخاً تشترك فيه الثقافات المختلفة لحوار مثمر يعود بالنفع على الجميع، ويساعد على إقامة حس مجتمعي تكافلي، وبذلك يسهل عملية التواصل الداخلي بين أبناءه، ويغذي ثقافة كثيفة متماسكة ويمدها بأسباب الحياة.
وإن قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضرورة الاقتناع بها، إنما هو إقرار بوجود الاختلاف معها وبوجود هذه الثقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثقافة مبنية على حساب حقوق الآخر أو وجوده، كما ويجب النظر إلى الآخر المختلف من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أي سبب آخر، وطالما أن الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فرد مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكل طبيعي بما تنسجم مع واقعنا ومتطلباته.
وإن التسامح والديمقراطية لهما اتجاهان أي اخذ وعطاء وتفاعل ايجابي مع قيم إنسانية جديدة بعيدة عن روح التعصب والكراهية وشطب الآخر المختلف.
حيث إن غياب الديمقراطية تنعدم إمكانية تكافؤ الفرص في التعبير عن الرأي, وإن غياب العدالة السياسية تنقطع فرص الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع, وإن غياب سلطة القانون يقع الضرر على الجميع بدون استثناء.
في المجتمعات الغربية توجد مئات من المجلات والكتب والجمعيات والهيئات والمواقع التي تمارس النقد المعرفي للدين، ويتقبلها الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي برحابة صدر، دون أن يضيق بها أحد أو يدعو إلى الحد من حريتها، أما في مجتمعاتنا فيواجه النقد المعرفي للدين بالرفض والاستهجان، بل وبالدعوة إلى محاكمة من يمارسه بحجة إهانة (للمشاعر الدينية وللمقدس).. لأننا لم نصل بعد إلى أمر هام وهو أنه في النقد المعرفي لا توجد مقدسات تعلو على النقد.
إن مثل هذه الثقافة مفهومة، لأنها رد الفعل الطبيعي لمن لم يتعلم بعد ثقافة الاختلاف والتعددية الفكرية، ولم يعتد على قبول الآخر المختلف، ولذلك من الطبيعي أن نسمع من يصف النقد المعرفي للإسلام وبنيته الفكرية بأنه إهانة للمقدسات.
ولكن غياب ثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف هو من أكثر عوامل الواقع الذي يعاني منه مجتمعنا في الوقت الحاضر، وهذا يمثل مسؤولية يجب أن يضطلع بها الجميع من قوى سياسية ومنظمات مجتمعية ومؤسسات ثقافية وحتى علماء دين، ولكن بعض ما تم ذكرها هو فاقد لما عليه أن يعطيه للمجتمع، وحيث أن فاقد الشيء لا يعطيه بأي حال من الأحوال.
وإن الاعتراف والإقرار بثقافة التسامح وقبول الآخر والاعتراف به هو أمر جيد ومقبول نظرياً ولكن يجب العمل والنضال من أجل ترسيخ قيمة هذه الثقافة وتطبيقها في الحياة اليومية بشكل يعود بالفائدة على الجميع دون استثناء.
من أجل العمل على نشر هذه الثقافة لا بد من اتخاذ بعض الخطوات العملية في هذا المجال ألا وهي:
– تبني برامج علمية وذلك لتنمية وعي مجتمعي…
– وضع مناهج تعليمية جديدة لإعداد جيل واع قادر على تحمل أعباء المرحلة…
– إيجاد أدوات إعلامية متطورة على جميع الأصعدة…
– نبذ كل أشكال التطرف والتخلف والتشدد في المجتمع عن طريق إقامة دورات تعليمية وندوات تثقيفية…
إن فكرة التسامح وقبول الآخر، واللجوء إلى الحوار وإلغاء فكرة شطب الآخر والثأر وإناطتها بالقانون، يعتمد على استعداد الأطراف التي تريد بناء مستقبلها على أساس تغليب المصلحة العامة على الخلافات الشخصية والمشاعر الدفينة البعيدة عن التعقل والتروي في نتائجها.
وهنا لا بد من الإشادة إلى بعض الشخصيات التاريخية المتسامحة:
– المهاتما غاندي: صاحب سياسة المقاومة السلمية (فلسفة اللاعنف) وتسامحه ومن أقواله:
“أين يتواجد الحب تتواجد الحياة.”
“إن اللاعنف هو القوة العظمى لدى الإنسان. وهو أعظم من ما أبدعه الإنسان من أكثر الأسلحة قدرة على التدمير.”
توفي مقتولاً برصاص شخص هندوسي متعصّب لم ترق له عظمة التسامح الغاندية.
– القائد الكردي مصطفى البرزاني المعروف بتسامحه وتعامله الإنساني مع الأسرى، فعبر ذات مرة بصريح العبارة عن إستراتيجيته العسكرية قائلاً: ( إن عقيدتي هي تحقيق مطالب شعبي وأن أفدي روحي في سبيل قضيتي …. وان حزبنا ليس ضد العرب ولا ضد أي قومية أخرى، ولا نشارك في ثورة من أجل اسم أو شهرة، إن العرب والأكراد أخوة، ولا يجوز التفرقة بين الأخوة، إننا لم نهاجم أحداً بل ندافع عن حقوق شعبنا الكردي).
– بابا الفاتيكان والكاثوليك المسيحيين في العالم يوحنا بولص الثاني:  تعرض لحادثة اغتيال عام 1981 من قبل تركي متعصب يدعى (علي أقجا) فخرج على أثرها بجروح بالغة، وادخل المستشفى واخضع لعمليات جراحية كادت تودي بحياته، لكنه بالرغم من ذلك التقى بقاتله وعفا عنه وأخلى سبيله بكل رحابة صدر !!!
انه لمن الضروري نشر ثقافة الحوار و التعددية مهما كانت الضريبة، وبفضل العولمة والتقنية الحديثة، لا يمكن لأي مجتمع اليوم عزل نفسه عن المؤثرات الخارجية، خصوصاً مع انتقال رأس المال والتكنولوجيا والقوى العاملة والأفكار وما إلى ذلك بحرية عبر الحدود الإقليمية وبالتالي إنتاج صيغ جديدة للتفكير والحياة.
تتكدس في أروقة التاريخ العراقي أفظع صور الاحتراب الداخلي والانقسام الناشئ عن غياب الوعي والرغبة بالانتماء المشترك لدى جميع الأطراف. ولا ريب في أن فرضية التاريخ المشترك والمصير الواحد، تمثّل أكبر إسهام أيديولوجي لتزييف هذا الواقع، وأسوأ استخدام لمطلب التعايش النبيل لأغراض سياسية مُريبة تضاد مستقبل الحياة المشتركة ذاتها، ويُراد به عادة المصادرة على الخيارات الأخرى لتقرير المصير. علاوة على ذلك، فإن هذه الرؤية المسبقة تكرّس أسوأ الأسس لفهم واقع العراقيين ومستقبلهم، وتطيح بكل الطرق المحتملة الأخرى لإدراك الموقف.
© منبر الحرية، 27 أكتوبر/تشرين الأول2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لا نعدو الصواب حين القول، أن السبب الرئيسي في بوار العديد من مشروعات التنمية، وانهيار عالم  السياسة الحضارية، يرجع بالدرجة الأولى إلى غياب الحرية وخضوع الوجودات العربية والإسلامية  إلى تبعيات متعاظمة في الاقتصاد والثقافة.
فالاستعباد والخضوع الأعمى لقوى السيطرة، هو الذي يحول دون الحيوية والفاعلية والانطلاق في رحاب مشروعات التنمية الشاملة.
لذلك فإن تثبيت قواعد الحرية في المحيط المجتمعي، لا يتأتى إلا بتأسيس علاقات ووقائع تكسر حواجز الأثرة ونوازع الأنا  الضيقة وممارسات الشطب والإلغاء والنفي والتكفير والتشريد، وتؤسس لحسن الاستماع وقبول الآخر،واحترام وجوده وفكره وقناعاته.
قال تعالى [ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك بـه شيئا ولا يتـخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ].. (آل عمران آية 64). فالكلمة السواء لا تنجز إلا بعقل حواري يثري مضمون الحرية على المستوى الإنساني والحضاري.  فلا حرية حقيقية بلا حوار بين الأفكار والثقافات والوجودات السياسية والثقافية والحضارية.  وذلك لأن سبيل تعميم قيم الحرية هو الحوار، وبدونه تبقى الحرية شعارا يرفع، دون أن تكــون وقائع الراهن تجسيدا لها ولمثلها العليا.
وتجربة الحوار بين الأفكار والوجودات، هي التي تثري سؤال الحرية في الفكر والواقع، وهي التي تعطي لمضمون الحرية أبعادا تاريخية وآفاقا مستقبلية مشرعة لإبداعات الإنسان ومبادراته في سبيل تجذير مفهوم وتجربة الحرية في الواقع الإسلامي المعاصر.
فالحوار ليس من أجل إلغاء الخصم أو ثنيه عن أفكاره وقناعاته، وإنما من أجل الحرية وأفقها الإنساني والحضاري. والحرية لا تعني بأي شكل من الأشكال تجميد الاختلافات الفكرية والسياسية، وإنما تنظيمها وجعلها تسير في تجاه توافقي ـ بنائي. ويخطأ من يتعامل مع الحرية باعتبارها وسيلة تجميد الخلافات الفكرية والسياسية.
إن الحرية والديمقراطية هي وسيلة الإنسان المتحضر في تعامله مع الاختلافات الفكرية والسياسية. فهي توفر آليات لتنظيم هذه الاختلافات، وتشيع أخلاقيات وآداب عامة، توجه التباينات الفكرية والسياسية نحو البناء والتجديد والعمران.
ولأن الحوار سبيل الحرية ومن أجلها، لذلك ينبغي أن تتركز قيمة الحوار على مفاهيم مجتمعية وسياسية تثري مضمون الحرية، وتحفز القاعدة الاجتماعية على تبني خيار الحرية والديمقراطية على مستوى الأقوال والأفعال، وعلى مستوى المعتقد والسلوك، وذلك من أجل خلق مجتمع الإرادة والاختيار.
فحجر الأساس في الحرية، أنها لا تنجز إلا على أساس قوانين الحوار والاختيار لدى الفرد والجماعة.  والحرية وفق هذا المنظور، هي مفتاح التقدم، وطريق تعبئة الطاقات والإمكانات ومشاركتها جميعا في البناء والعمران.  ” وكان الحوار وسيلة نشر الدعوة، لم تكن هناك وسيلة أخرى غير الحوار والإقناع، لأن الفتوحات لم تستمر أكثر من مئة عام، ولم يتعد تأثيرها إنشاء سلطة سياسية للعرب المسلمين. على كل حال، إن معظم الجماعات الإسلامية غير العربية، انضمت إلى الإسلام بعد توقف الفتوحات. أما على صعيد وحدة الأمة، فقد كان الحوار قاعدة ضرورية  للحفاظ على هذه الوحدة التي استمرت حتى بعد انهيار سلطة الخلافة المركزية وتعدد الدول السلطانية الحاكمة.  أدى الحوار الداخلي بين المسلمين إلى انقسامهم إلى مذاهب ومدارس فكرية. تعددت الأساليب المعتمدة لاستنباط أفكار جديدة واكتشاف حلول للمشاكل المطروحة. وتعددت  العلوم التي استخدمت من أجل تحقيق مستويات أعلى من المعرفة ولم يكن لديهم خوف من الخلافات المذهبية داخل صفوفهم، فكأنهم كانوا يدركون أن الحرية في الحوار والنقاش والتسامح إزاء آراء الآخرين وإزاء الخلافات وتعدد الاجتهادات هي الوسائل التي تضمن وحدة الأمة “.
والحوار الذي لا يستند على قاعدة الحرية، فإنه حوار الطرشان وبعيدا عن المعنى الحقيقي للحوار، الذي يسمح للمتحاورين من الانفتاح على كل الآراء والبوح بكل القناعات والمواقف بدون خوف ووجل. فـ ” الحوار يرتكز على الحرية الفكرية في الساحة الحوارية، لأن الإنسان الذي لا يمتلك حريته في طرح ما يريد من سؤال أو اعتراض أو مناقشة، لا يستطيع الوصول إلى الحق إذا لم يجد الفرصة للإجابة على سؤاله، ومناقشة وجهة نظره. ولذلك فإن الإسلام يتقبل أي سؤال في أي موضوع، ولكنه يضع شرطا مهما، وهو أن يكون المحاور مثقفا بالفكــرة التي يخوض الحوار حولها من موقع المــوقف المضــاد، أو منفتحــا على آفـــاق المعــرفة فيمــا يــريد أن يسأل عنه.
والمحيط الذي يحارب الحوار، هو محيط مستبد وقمعي، حتى لو رفع راية الحرية. لأنه لا يمكننا أن نتصور حرية بلا حوار. فهو قرين الحرية، ووسيلتها في تعميم القيم ونشر القناعات والمبادئ. و ” عملية الحوار تتنافر بطبيعتها مع الإجابات الجامدة، والمسلمات المتحجرة، والأنساق المطلقة، وهيراركية العارفين، وكهنوت الآباء المقدسين، فإن هذه العملية تنفي نقائضها التي تكبح حركتها، وتقاوم ما يحد من قدرتها بما تؤسسه من وعي ضدي، يرفض صفات الإطلاق والتسليم والتقليد، الخنوع والإذعان، وكل ألوان التسلط والإرهاب “.
وفي المقابل نستطيع القول أنه ” بقدر غياب الحرية في المجتمع يغيب الحوار، وتسود لغة الصوت الواحد التي هي المقدمة الطبيعية للغة الإرهاب. وإذا كان الإرهاب إلغاء لوجود الآخر، ونفيا لحضور العقل، أو فعل اختيار المعرفة، فإنه يبدأ من حيث ينقطع الحوار، ومن حيث تشيع مخدرات التسليم والتصديق، ومسكنات الإذعان والاستسلام، ومبررات بطريركية الفكر أو مطريكية الثقافة. إن الإرهاب يتولد من رفض لغة الحوار وشروطه، أي تسلطية الصوت الواحد، من الإيمان بأن ما تقوله وحدك هو الحق، وإن الحق ملك خاص لك، ومن التسليم بأن فردا ما، فكرا ما، زعيما ما، يمتلك ما يجعل منه الأعلى ويهبط بالآخرين إلى الدرك الأدنى، كأننا إزاء مجلى النبي الملهم، أو الصورة البشرية للحقيقة الكلية “.
فالحـوار والتواصل الفكري الدائم، من المداخل الأساسية لتجذير مفهوم الحرية في الواقع المجتمعي.  إذ من خلال هذا الحوار الجاد والمتواصل تتأسس شروط التحول الفكري والاجتماعي. وبالحوار يتم تجديد وتطوير مفهوم الحرية على المستوى النظري والعملي، ويتم اكتشاف آليات جديدة ومبدعة للنهوض بالحرية في الواقع المجتمعي.
ولا يمكن مقاربة مفهوم الحرية في الفكر الإسلامي المعاصر، بمعزل عن مفهوم الاختلاف، وحق الإنسان الطبيعي في هذا الاختلاف.
وجذر حق الاختلاف في المنظور الإسلامي، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل حقائق التشريع ومقاصده البعيدة، وإنما هم يجتهدوا ويستفرغوا جهدهم في سبيل الإدراك والفهم، وعلى قاعدة الاجتهاد بضوابطه الشرعية والعلمية، يتأسس الاختلاف في فهم الأحكام والحقائق الشرعية، ويبقى هذا الحق مكفولا للجميع.
فالاختلاف مظهر طبيعـي في الاجتماع الإنساني وهو الوجه الآخر والنتيجة الحتمية لواقع التعدد. أعني أن التعدد لا بد من أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه.   فالاختلاف من هذه الزاوية، قبل أن يكون حقا، هو أمر واقع ومظهر طبيعي من مظاهر الحياة البشرية والاجتماع البشري وكما تتجلى هذه الظاهرة الطبيعية بين الأفراد تتجلى بين الجماعات أيضا. لذلك فلا مجال لإنكار ظاهرة الاختلاف بما هي وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أو مــن حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة.
ووفق هذا المنظور لا يشكل الاختلاف نقصا أو عيبا بشريا يحول دون إنجاز المفاهيم والتطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان، ويجد منبعه الرئيسي من قيمة الحرية والقدرة على الاختيار.
وسيادة الرأي الواحد،يؤدي إلى التخشب واليباس، وإلى توقف العقل عن التفكير في القضايا الجادة، وضمور حـالات التجديد، والاستسلام لقوالب ونماذج ثقافية وفكرية جاهزة.
والبيئة الاجتماعية التي تقمع الآراء، وتنظر إلى الاختلافات والاجتهادات الثقافية والفكرية نظرة شائنة، هي البيئة التي تزدهر فيها حالات الجمود واللامبالاة، وتعشعش فيها كل الهوامش والطفيليات.
فالعقل قرين الحرية، فلا عقل فعال بدون حرية، و لا حرية مستديمة بدون عقل يمارس التفكير والسؤال والمساءلة، ويتحرك دائما نحو تجديد أفق المعارف والتصورات، وحرية تؤسس للشروط اللازمة لممارسة العقل سلطته ووظيفته الجوهرية.
ومن خلال الصلة الوثيقة بين العقل والحرية، تتجدد أدوات المعرفة، وتتطور أنماط الإنتاج العقلي والمعرفي. ووفق هذا السياق نتمكن من القول، أن الخرافة والتقليد الأعمى للآخرين كلها مضادات للحرية.. بمعنى أن سيادة الخرافة  يعني تراجع مستوى الحرية، كما أن شيوع حالات التقليد الأعمى يعني ضمور مجالات الحرية. فلا يمكن أن تلتقي الحرية مع الخرافة، كما أنه لا يمكن أن تنسجم حالات التقليد الأعمى مع متطلبات الحرية.
والإسلام الذي كفل حق الاختلاف، واعتبره من النواميس الطبيعية، وجعل التسامح والعفو  سبيل التعاطي والتعامل بين المختلفين. فحق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى، وإنما يعني أن تمارس حريتك على صعيد الفكر والرأي والتعبير، وتتعامل مع الآخرين وفق نهج التسامح والعفو. وبهذا لا يخرج الاختلاف عن إطاره المشروع، وفي نفس الوقت يمارس دوره الحضاري في حفز الهمم والبحث عن الحقيقة، والتعاطي مع جميع الآراء والتعـبيرات بعقلية حضارية تنشد استيعاب الآراء، وتستفيد منها جميعا في بناء واقعها ومسارها.
فالاختلاف لا يساوي الرذيلة والإثم والخلل، وإنما هو ناموس كوني وجبلّة إنسانية.  الخلاف والتشرذم والتفرقة، هي التي تساوي الإثم والخلل. وعلى هذا ينبغي أن نجدد رؤيتنا للاختلاف، ونتعامل معه وفق عقلية جديدة، لا ترى فيه إثما ومعصية، وإنما قدرة إنسانية مفتوحة ومتواصلة لإثراء الواقع والحقيقة.
فالاختلاف هو الوجه الآخر لضرورة الاجتهاد وإعمال العقل والفكر، كما أن الخلاف والتشرذم هو الوجه الآخر للخضوع للأهواء والغرائز والنـزعات الشيطانية، التي تتمرد على القيم والأخلاق، وتؤسس لصراعات وفتن دائمة، وتدخل الجميع في أتون النـزاعات التي لا طائل من ورائها.
فالحرية لا تعني الانفلات من الضوابط الأخلاقية والإنسانية، وإنما تعني امتلاك القدرة على التعرف والاختيار وفق لقواعد عقلية. فهي تتجه إلى الكمال وليس إلى التخريب، وإلى الانسجام ونواميس الكون والمجتمع وليس للخروج عنهما.
© منبر الحرية، 20 أكتوبر/تشرين الأول2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018