شؤون سياسية

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

تتبارى الأنظمة الدكتاتورية وخاصة  التي وصلت الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية، في بداية عهدها في الترويج والتطبيل، أن أولى مهامها مكافحة الفساد والتوزيع العادل للثروة، وعادة ما تقوم تلك الأنظمة بحملات محدودة النطاق فتطيح ببعض الرؤوس التي لا تتناسب مع الوضعية الجديدة وغالبا وما تكون تلك الرؤوس المطاح بها، من الرموز القديمة “الحرس القديم” التي زكمت رائحة فسادها الأنوف فيعطي خبر محاكمتها ارتياح ما في أوساط العامة التي تستبشر خيرا متوهمة أن عهدا جديدا قد بدأ.
ولكن نظرة متفحصة لطبيعة تلك الأنظمة تبين أن الأمر أعقد من ذلك بكثير لأن العقد المضمر القائم بين السلطات المستبدة والفساد يكاد يكون عقدا أبديا بحيث أن زوال أحدهما يعني زوال الآخر بالضرورة، لأن الفساد يعطي النظام المعني ورقته القوية في اللعب بضمائر الناس وإفسادها، وفي تقديم المزايا الخاصة للرؤوس التي تشكل مواقعها خطرا قد يهدد النظام،حيث يعطي النظام تلك الرؤوس مزايا استثنائية الأمر الذي يجعلها تستميت وتستشرس في الدفاع عن الوضع القائم لأنها بذلك تدافع عن امتيازاتها ومصالحها . وبالمقابل يعمل النظام على ديمومة واستمرارية الفساد بحيث يترك الأبواب  أمامه مفتوحة ومشرعة باتجاه الإفساد المتعمد، بحيث “يجعل الجميع مدانين تحت الطلب “، وفق تعبير المفكر طيب تيزيني وفق توصيفه للدولة الأمنية، حيث تستخدم السلطة الفساد بكافة أشكاله (فساد مالي وسياسي وأمني وجنسي ..) من أجل ترسيخ سيطرتها و قمع معارضيها وتفتيت كل تجمع مدني حر وإفقار الحياة السياسية عن طريق شراء ضمائر المثقفين والسياسيين  وخاصة الضباط ذوو المواقع الحساسة حيث يتم التغاضي عن كل فسادهم وجبيهم اللا مشروع للأموال والسيارات والشقق، مقابل ولاءهم الكامل .وبذلك يصبحون جزءا من بنية النظام نفسها، وكذلك الأمر بالنسبة للمواطنين الذين يصبح جل همهم الوصول لمنصب مهما كان صغيرا يستطيعون من خلاله تحسين أوضاعهم، الأمر الذي يعني أن هذه السلطات لا تستطيع محاربة الفساد ولا تريد ذلك أصلا لأن هذا يعني حفر قبرها وإقصاءها من موقع الحكم، لأن تقليص حجم الفساد يعني توزيع عادل بشكل ما للثروة، ولجم يد السلطة عن شفط أموال الناس واستخدامها بما يديم سيطرتها.
إن شعار محاربة الفساد في النظم الشمولية ونظم الاستبداد هو مجرد شعار طالما أن بنية هذا النظام ستبقى محاصرة بمنظومة قوانين الطوارئ وحالات الاستثناء وغياب الحرية وعدم وجود قانون عصري للأحزاب، ذلك لأن الاستثناء والفساد مترادفان أيضا لا يستمر أحدهما دون الأخر، عندما تستثنى الغالبية من ميزات معينة تمنح لأقلية معينة نتيجة قرابتها السياسية أو العائلية من السلطة، الأمر الذي يعني أن محاربة الفساد لا يمكن أن تكون جدية دون إلغاء قوانين الطوارئ وحالات الاستثناء التي تمنح النظام شرعيته المفقودة شعبيا.
غالبا ما يطرح أفراد السلطة – خاصة في العالم الثالث- الواصلين حديثا إليها شعار مكافحة الفساد، – وبعضهم يكون صادقا – فيبدأ بحملات  إصلاحية محدودة هنا وهناك لمحاولة تصويب الوضع القائم قليلا و ليعطي النظام الجديد نفسه شيئا من الشرعية ولكن حتى هذا الإصلاح الجزئي قد يقوم بتعميق الفساد أكثر مما يحده لأنه ينطلق في محاربة الفساد من زاوية ضيقة لا ترى الجذر الحقيقي للفساد وهو طبيعة النظام وآلية عمله المفرخة للفساد بكافة أشكاله، فتعمل هذه الإصلاحات على خلخلة البنية الراكدة لنظام لا يحتمل الخلخلة أساسا، الأمر الذي يوضح لنا تراجع أغلب هذه النظم عن شعاراتها في مكافحة الفساد لأنها تستشعر مدى خطر هذا الأمر على بنية النظام المتعيشة على الفساد، فيغدو إصلاحها بعد ذلك هو مجرد استبدال أشخاص أتخموا من النهب و – وغالبا ما يتم نقلهم لأماكن دنيا – بأشخاص جدد جيوبهم مجهزة لتعبّأ.
إن شعار محاربة الفساد لا يمكن أن يطرح بعيدا عن منظومة كاملة من الإجراءات أهمها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لأن محاربة الفساد تـأتي  ضمن هذه المنظومة ولا يمكن لها أن تنجح خارجها حيث أن حالات الاستثناء واليد المطلقة للسلطة و تغييب القضاء ( وهي الركائز الأساسية لتغلغل الفساد وترسخه) لا يمكن أن تبتر إلا من خلال الديمقراطية التي تعطي الجميع حقوقا متساوية وتحد من تدخل السلطة وتُخضع الجميع لمبدأ القضاء، وهذا الأمر يستحيل تحققه في نظم استبدادية تسعى للسيطرة أكثر مما تسعى إلى  تحقيق مطالب مجتمعاتها وترسيخ قيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

يتناول عدد من مثقفي منطقتنا مسألة المساهمة العربية في هذا العصر من تاريخ البشرية باعتبارها مشكلة حين يشددون وبقلق على غياب العرب وذلك من منطلق ضعف الأداء في الحاضر أو تقلصه إلى درجة انتفاء دور العرب على الساحة العالمية. ومع أن هذا الرأي لا يعاني من صعوبة الارتكاز على أسس قوامها الأمثلة والمفاهيم والأسئلة، إلا أن طرح المشكلة هذه، في كثير من الحالات، يتسم بشيء من الابتعاد عن التعاطي العقلاني معها حين يميل المثقف إلى رؤيتها بمعزل عن صيرورة سياسية اجتماعية تاريخية من جهة، وحين يتضمن تقييمه، بشكل غير مباشر، ما فيه تنكّر لمساهمة الفرد العربي ما لم يكن الأخير يقطن جغرافياً، ويعمل، في المنطقة العربية من جهة أخرى.
من الواضح أن النقطة المحورية للكثير من المدققين في واقع ما يقدمه العرب للعالم اليوم هي مقارنة حاضر العرب بماضيهم وما كان له من أثر، مباشر أو غير مباشر، على العلوم والفلسفة في عصر لاحق. أي استذكار العصر “الذهبي” للعرب في الفترة الممتدة مابين القرن الثامن والثالث عشر الميلادي وما زخم به ذلك العصر من إنتاج في مجالات العلوم عامة: في الكيمياء والطب والبصريات والفلك وغيرها إضافة إلى الفن والفلسفة مقابل عقم إنتاجهم في هذا العصر.  بيد أن استحضار هذه الحقيقة قد يلعب دوراً سلبياً فيما لو كان يرمي بالمطلق إلى صدم الحاضر بالماضي، وما لم نستحضر، بنفس الوقت، ونؤكد على ما تعلمه قراءة التاريخ من أن أياً من الشعوب لم يكن لينتج بشكل فاعل ومؤثر في مسيرة البشرية وتطورها لولا توفر مجمل شروط ذاتية وموضوعية مهدت، أو سمحت، بحينها بارتقاء هذه المجموعة البشرية أو تلك إلى  ما كانت عليه يوماً من تقدم ونهضة وحضارة (مع التذكير بأن طبيعة الشروط تتغير أيضاً تلاؤماً مع متطلبات زمنها).  يضاف إلى ذلك حقيقة تاريخية لا يمكن تجاهلها وهي أنه في ذروة عطاءات العرب في الفترة آنفة الذكر لم يكن كل من أبدع وابتكر وأنتج شيئاً في ذلك الحين قد ولد عربياً أو في المنطقة العربية لكنه عاش وكتب وقدم اكتشافاته باللغة العربية. إذ كانت الأخيرة حينها لغة النخبة السياسية، ومع ذلك فقد كانت مساهمات هؤلاء المبدعين تنسب للعرب؛ الأمر الذي يقودنا إلى أن نسحب ذلك على واقع اليوم بإضاءة هذا الجانب فيما يخص مساهمات الأفراد العرب ممن يعيشون خارج المنطقة العربية (لأسباب متعددة في طليعتها انعدام الديمقراطية في المجتمعات العربية عامة). إذ يُنسب إنتاجهم في المجتمعات المتقدمة صناعياً والمتطورة ثقافياً وحضارياً بالتحديد إليها فهي من توفر لهم الشروط اللازمة لعملهم. وإذا ما أضفنا أيضاً ما نقله العرب تاريخياً من الشعوب والحضارات أخرى عبر الترجمات فإن ذلك يدفعنا إلى تذكر حقيقة أن الفترة المتميزة بتاريخ العرب كانت عهد اتصالات وتبادل بين الثقافات وانفتاح واستعارات في كلا الاتجاهين.
حينما نستعرض ما هي عليه البشرية جمعاء من إنجازات في كافة المجالات العلمية والمعرفية وما هو بتناول الجميع في وقتنا الحالي، لا نمتلك إلا أن نبوّب لحقيقة أن ما ينتج عبر التاريخ، من قبل هذا أو ذاك ـ وحيثما كان ـ يصبح ملكاً للجميع وليس وقفاً أو حكراً لفئة ما أو لشعب محدد دون غيره. مما يعيد إلى الأذهان مشهداً وصفه مراقب غربي بالمحيّر حين نظر إليه للوهلة الأولى لا بتفكير “من يساهم بماذا” بل من زاوية الربح والخسارة للشعوب. ففي مشهد تتداخل تداعيات مدلولاته، حيث يتجمع عدد من الأفراد العرب حول جهاز تليفزيون ياباني الصنع ويراقبون فيلماً أمريكياً، تعذر على ذلك المراقب الغربي الجواب عن سؤال من يغزو من فيما يراه!؟ أهي التكنولوجيا اليابانية المتطورة في جهاز التليفزيون التي تغزو العرب؟ أم أن الثقافة الأمريكية في المادة المقدمة تليفزيونياً هي التي تغزو العرب!؟  أم العكس تماماً؟ أي أن العرب هم من يغزون اليابانيين بحصولهم على التكنولوجيا اليابانية الحديثة بمقابل مالي زهيد مقارنة بالجهد البشري الياباني (والعالمي) في المجال التقني والذي وصل إلى ما وصل عليه من تقدم. كما ويغزون الأمريكيين بإطلاعهم على المنتج الثقافي الأمريكي والذي يعبر عن فكر متطور يأتيهم عبر ذلك الجهاز الصغير وتفصل بينهم وبين أمريكا مسافات كبيرة!؟ وتداخلت الأسئلة في رأسه أكثر حينما تذكر أن التليفزيون ليس اختراعاً يابانياً في الأساس وأدرك صعوبة الجواب عن سؤال يحدد بدقة “من يغزو من!؟” في المشهد الذي رآه خصوصاً عندما فكر بما كان من أثر لما قدمه العرب تاريخياً للبشرية وفي أكثر من مجال، وسرعان ما تخلى عن النظر للموضوع من باب الغزو أو قياسه بأية مقاييس أخرى غير تلك التي تُرجع تاريخ وحياة البشرية جمعاء على مر العصور إلى مساهمات وأخذ وعطاء بين شعوب الأرض في كافة المجالات، وأن ما تنتجه فئة من الناس في مكان ما هو ربح للبشرية في أماكن أخرى.
باختصار شديد، يخرج طرح مشكلة المساهمة العربية عن إطار التوصيف البنّاء فيما لو ترافق ذلك بخطاب يمجد بماض غني ويتحسر على حاضر عقيم، إذا جاز التعبير. ولن يكون له من الأثر إلاّ ما فيه المزيد من الشعور بالعجز والتصدع النفسي الفردي والجمعي يتمخض عنه حيناً نزعة إلى الانعزال، وربما يلعب ذلك دوراً هدّاماً فيما لو تم التعرض للمسألة بإلقاء اللوم على “الآخر” النشط الفاعل والبارز بدلاً من تشخيصها بشكل دقيق يعزي قصور أو اضمحلال ما تنتجه الكتلة البشرية في المنطقة العربية إلى صعوبات داخلية شتى في طليعتها ـ كما نوهنا أعلاه ـ غياب الديمقراطية في الدول العربية والقيود السياسية والاجتماعية عموماً، إضافة إلى انعدام عامل الأمن الأهلي في بعض منها، ما يغيّب الكوادر عن بلداننا ويجفف أدمغتها.

© معهد كيتو، مشروع منبر الحرية ، 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

تقع إيران حاليا في قلب الحدث السياسي بسبب الشكوك المتزايدة حول نزاهة الانتخابات الأخيرة و بسبب برنامجها النووي. و يجدر التذكير  في هذا الصدد أن هذا الغليان السياسي الذي يشهده الشارع الإيراني يجد جذورا له في المحنة الاقتصادية الحقيقية التي يعيشها المجتمع الإيراني. فإذا سلطنا الضوء على المعطيات الكََمية للاقتصاد الإيراني نصل إلى خلاصة مفادها أن 85 % من البنية الإنتاجية الإيرانية مملوكة من قبل النظام الحاكم. و على غرار الاقتصاديات الموجهة، فالقرارات لا تصدر بدون موافقة “السلطات المعنية” الشيء الذي يضعف الحريات الاقتصادية و يشجع اقتصاد الريع. ففي إيران، قام النظام الحاكم القائم على ولاية الفقيه بتفويض إدارة شؤون البلاد الاقتصادية للحرس الثوري (الباسداران) مقابل توفير الحماية للنظام. مما أدى إلى سيطرة الباسداران بقيادة الجنرال سفافي على جزء كبير من الاقتصاد الإيراني وما نتج عنه من تضييق على حرية ممارسة التجارة و عرقل نمو و تطور البلاد بشكل واضح.

تعتبر تركيبة نظام الحكم في إيران تركيبة معقدة. إذ أن الجمهورية الإيرانية الإسلامية تقوم، كما ينص الدستور الذي وضع بعد الثورة الإسلامية سنة 1979 و عدل سنة 1989 بعد وفاة أية الله الخميني، تقوم على ركيزتين أساسيتين :  الإسلام من جهة و النظام الجمهوري من جهة أخرى. فشرعية السلطة مزدوجة وهي تُستمد من الإرادة الإلهية (مادة 2) من جهة و من إرادة الشعب (مادة 1 و مادة 6) من جهة أخرى.

كما أن الدستور يولي أيضا أهمية خاصة لمؤسسة ولاية الفقيه. فالمرشد الأعلى للثورة يعتبر العمود الفقري للنظام الإيراني. فهو يشرف على السلطات الثلاث: التنفيذية و التشريعية و القضائية، و يحافظ على حسن سير المؤسسات، و يضع الخطوط العريضة لتوجهات البلاد السياسية و الاقتصادية و الأخلاقية. وتوزيع الريع من قبل الدولة والذي يشكل أداة لدعم الاقتصاد الفارسي، لا يستفيد منه إلا الأشخاص الذين يؤمنون بمبادئ الثورة.

و يعتبر جهاز الحرس الثوري الإيراني، الباسداران، الذي أسسه الإمام الخميني في بداية الثورة في إيران، من اقرب الأجهزة من المرشد الأعلى للثورة. فحتى نهاية الحرب ضد العراق كان الباسداران يُعتبر جيش تحرير. بعد ذلك قاموا بتنظيم أنفسهم و أصبحوا تنظيما عسكريا و استخباراتيا حقيقيا، لا يتوانى عن التدخل في الشؤون المدنية، كالتصنت على المكالمات الهاتفية و التجسس على المعارضة الموالية للغرب، وذلك من أجل حماية مبادئ الثورة. و بعد دلك تحول حوالي اثنا عشر ألفا من عناصر الباسداران إلى التجارة مستفيدين من السلطة المطلقة التي يتمتعون بها. فالرئيس الإيراني الحالي، السيد أحمدي نجاد، وعدد من وزرائه ينتمون إلى الباسداران. و من البديهي أن يصبح من السهل حصول التجار المنتمين إلى الباسداران، على مشاريع الدولة الكبيرة كمشروع تطوير حقل بارس الجنوبي للغاز المقدر ب 1.56 مليار يورو (حوالي 2.10 مليار دولار).

إن الاقتصاد الإيراني الحالي يعيش على الإعانات المالية الضخمة التي يقدمها النظام الحاكم. فرجل الأعمال الذي ينجح في إيران هو الذي يتلقى دعم الدولة.  نحن أمام نظام مبني على الفساد، والبحث عن المكاسب المالية. اقتصاد غير قابل للتطور في ظل هذه الظروف. فككل مجموعة ضغط، حول الباسداران دعمهم للثورة إلى امتيازات. إذ عُهد إليهم الأمن الداخلي و الخارجي و جميع الصناعات العسكرية و النفطية و الزراعية فأصبحوا يسيطرون على الاقتصاد بدون أي منافس. وشكل الباسداران في العديد من القطاعات التي يسيطرون عليها اتحادات احتكارية، فأصبحوا بذلك المُسيرين الجدد للاقتصاد الإيراني على حساب حرية ممارسة التجارة و ديناميكية السوق.

و يعتبر الاقتصاد الإيراني في الوقت الحالي فريسة للتخلف. فالناتج المحلي الإجمالي الإيراني يقارب ال196.3 مليار دولار. و الدخل الوطني الإجمالي (بمقياس القوة الشرائية للعام 2005) وصل إلى 545 مليار دولار، أي ما يقارب ال8050 دولار للفرد الواحد. أما بالنسبة لمؤشر التنمية البشرية، فتحتل إيران المركز ال 96 بين دول العام بمعدل 0.746. كما أن التضخم الذي تصل نسبته إلى 15% سنويا يعرقل بدوره مشاريع الفاعلين الاقتصاديين. يضاف إلى ذلك نسبة بطالة مرتفعة تطال 20 مليون نسمة من سكان إيران الذين يصل عددهم إلى 70 مليون نسمة. كما أن سوق العمل حاليا مشبع ولا يمكنه أن يحتوي ال 800.000 شابا الوافدين إليه سنويا.

يعتمد الاقتصاد الإيراني بشكل أساسي على الصادرات النفطية. فالذهب الأسود يشكل 85% من إجمالي الصادرات. صحيح أن العائدات النفطية ارتفعت من 32 مليار سنة 2004 إلى ال50 مليار سنة 2006 . إلا أن غياب التنوع في نشاطات التصدير يضر بالاقتصاد لأنه يقوم على التخصص في قطاعات أولية غير متطورة و غير قادرة على مواجهة المنافسة. كما أن الضعف التكنولوجي للاقتصاد الإيراني يفرض عليه التموين من الخارج خاصة وأن ذوي الكفاءات يهاجرون إلى الغرب مما يزيد من حدة ظاهرة ضعف التنوع الاقتصادي.

إن الاقتصاد الفارسي يعيش حالة من الازدواجية لأن الاقتصاد المقنن يصطدم مع اقتصاد السوق السوداء الذي يتمثل بالتجار الصغار الأحرار.  فالسوق السوداء أو الاقتصاد الموازي يشكل ما بين %20 و%30 من الاقتصاد الحقيقي في إيران. هذه الازدواجية تعكس الشغف بالتجارة المعروف عند الإيرانيين. شغف يتم اضعافه وإهماله من قبل الباسداران، الساعد السياسي والاقتصادي للمرشد الأعلى وأصحاب القرار الجدد في إدارة الاقتصاد الإيراني.

© منبر الحرية، 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

إن صح ما ذهبنا إليه في مقالة سابقة، من أن “الصيغة اللبنانية” قد تكون مستقبل كيانات المنطقة المشرقية والنموذج الذي تسير نحو احتذائه، نظرا إلى افتقار تلك الكيانات إلى مقومات الوجود والاندماج الوطنيين، تستعيض عنهما بتعايش، وإن من طبيعة نزاعية كملمح له أساسي وفارق، داخل كيان يتعذر تفكيكه أو إعادة النظر فيه، بالرغم من أنه مصطنع واضطراري، تضمنه (التعايش) قوى خارجية حليفة لكل فئة من الفئات “المحلية” أو الأهلية أو راعية لكل منها، بحيث يبقى مآل مثل تلك الكيانات مشروطا، على نحو لا فكاك منه، بمساومات بين داخل (أو دواخل) وبين خارج (أو خوارج إن جاز هذا الجمع)، تفضي إلى السلام إن استتبت وإلى الاقتتال إن انخرمت.

غير أن القول بذلك، وما قد يُستخلص منه من توقعات، لا يعدو أن يكون استجلاءً لمبدأ عام (أو أن ذلك ما يأمله) وتوصيفا لمنحى، وهو لذلك يظل منقوصا لأنه يُغفل التاريخ، وذلك ما يتعين تداركه. إذ أن بين “الصيغة اللبنانية” الأولى، والتي يبدو أنها استوت، بقوّة الأشياء، أصلا، وبين تلك التي قد تحاكيها مستقبلا، فارقا هو المتمثل في المدى الزمني، وهذا لم يكن تعاقبا خاما للأيام وللسنين، بل كان تاريخا، حافلا، بصفته تلك، بتحولات كبرى، بعضها عاصف، شهدتها المنطقة.

والفارق الذي نعنيه ونراه أساسيا، اعتبارا لتلك التحولات ولما انجرّ عنها، أن “الصيغة اللبنانية” قامت مساومة بين خارج، هو الغرب، وبين “داخل”، هو المجال العربي، السوري (بمعنى الشّامي)، في طور أوّل ارتبط بالحقبة الاستعمارية، ثم المصري (في العهد الناصري)، في طور لاحق ملازم لفترة الحرب الباردة والاستقطاب الثنائي، وهكذا دواليك، في حين أنه من المرجح لكل مساومة كيانية من ذلك القبيل تنشأ مستقبلا أن تقوم، حصرا، بين خارج وخارج. ذلك أنه لم يبق من طرف إقليمي، منتمٍ إلى المجال العربي، دولةً قطباً أو حالة سياسية ضاغطة تعتمل “جماهيريا”، قادر على أن يستوي شريكا فاعلا، إن بالمبادرة وإن بالضغط، ضالعا في توزيع النفوذ على صعيد المنطقة.

الموضوع اللبناني نفسه أضحى يعكس تلك الحالة المستجدة ويشهد عليها، فإذا كان الداخل العربي قد تمثل، طوال العقود الأخيرة، في سوريا، فإن هذه الأخيرة قد آلت في بلاد الأرز إلى انكفائها المعلوم، سحبت قواتها من ذلك البلد انصياعا لقرار أممي، ثم تمادت في الانكفاء حتى بلغت الإقرار بما امتنعت عن الإقرار به منذ أن انبعثت إلى الوجود “دولة” حديثة، أي حتى قبل أن يحكمها ثوريون قوميون وحدويون، نعني الاعتراف باستقلال لبنان وتبادل السفراء معه على ما هو سار معمول به بين دول يُفترض فيهما أنها متكافئة سيادةً.

غير أن اللافت في الأمر هذا، وما يقع منه في صلب موضوعنا، أن الانكفاء السوري ذاك، لم يتحقق فقط لصالح لبنان، ولكن كذلك، لصالح قوة خارجية، هي إيران التي انفردت بالتأثير واستأثرت بالفعل في المجال اللبناني عبر “حزب الله”، ذلك الذي اجترح، بوصفه المعبّر عن مصالح ومطامح فئة والناهض بتمثيلها، جديدا غير مسبوق في سياسات الطوائف، إذ هو ما عاد يكتفي بتحسين وتقوية موقع من يمثلهم في الدولة التي يُفترض أن تظل المرجعية المسلّم بها، بل استوى قوة محاذية لهذه الأخيرة، تنازعها صلاحياتها وتستحوذ على بعض منها شأن صلاحية إعلان الحرب أو الجنوح إلى السلام، ولا تتردد عن الاستظهار بولائها لسيادة أجنبية من خلال الجهر بالأخذ بمبدأ “ولاية الفقيه” وبالانضواء تحته… قد يعود ذلك إلى أن انعدام القطب الإقليمي الداخلي، الموازي والموازن، يفضي إلى مثل ذلك الاجتراء ويزيّنه لدى من يُقدم عليه.

مثل ذلك ما يبدو أنه ينتظر العراق أيضا، إذا ما قيض له أن ينبعث كيانا من جديد وأن يستعيد دولته، إذ لن تكون هذه الأخيرة، على الأرجح، وقد تبلورت الطوائف والمذاهب والأعراق وسواها من أشكال الانتماءات الأولية كائناتٍ وذوات سياسية، وتواجهت على نحو دموي كان له الأثر الأفعل في فرزها وإقامة “الحدود” بينها، غير نتاج مساومة، تتولى أطراف خارجية، ليس بينها طرف عربي، هي إيران والولايات المتحدة وربما تركيا، زمام رعايتها ودور الضامن لإرسائها أو المبادر إلى إجهاضها، إن دعاه اعتبارٌ إلى ذلك… وقس على ذلك حال كل كيان من كيانات المنطقة يصيبه تفكك، غير مستبعد البتة، يعيده إلى عناصره الأولى.

ذلك أن المنطقة تلك تواجه من جرّاء كل ذلك تحديين في آن، ناجمين عن الإخفاق في إنشاء الدول، أولهما أن تعميم “الصيغة اللبنانية” سيفضي، إن تحقق، إلى استفحال ظاهرة الكيانات التي لا داخل لها، طالما أن مقوماتها، في التئام فئاتها كما في تنازعها، ستتمثل حتما في استدخال القوى الخارجية، والثاني أن الأمر ذاك، معطوفا على انعدام قوة أو قوى إقليمية عربية توازن، وإن بالحد الأدنى، الأقطاب الإقليمية أو الدولية الفاعلة في المنطقة من شأنه أن يجعل هذه الأخيرة، برمتها، بلا داخل، بحيث أنها ستكون، مجرد موضوع أو مادة أولية لصيغٍ مساوماتية تخصها أو تخص كلا من كياناتها، ما يحيلها إلى مجرد مجال مفتوح، منفعل غير فاعل، لصراع الإمبراطوريات الصغرى والكبرى، المجاورة أو البعيدة، القائمة أو الصاعدة.

ولكن ذلك يطرح سؤالا آخر، ليس هذا مضمار الخوض فيه، هو لماذا أخفقت كيانات المنطقة في أن تستوي أوطانا ودولا مندمجة، ولماذا فشل أكبرها، لثقل سكاني يتمتع به، أو لوزن نفطي أو لإشعاع ديني يحوز عليهما، أو لسوى ذلك من الأسباب الموضوعية للقوة، في أن يكون القطب الوازن المنشود، في أن يبلغ، من زاوية النظر تلك، ما بلغته إيران أو ما كان في متناول تركيا.

فهل أن للفوات وللتخلف العربيين خصوصية قصرنا حتى اللحظة في النفاذ إلى كنهها؟

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 25 أيلول 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لا يبدو التحول الذي طرأ على استراتيجية تنظيم “القاعدة” في اليمن في الآونة الأخيرة، والمتمثل في تغيير زاوية التصويب من استهداف المصالح الغربية في البلاد إلى ضرب المؤسسات الحكومية اليمنية وأجهزة الأمن الداخلي، أمراً مستغرباً أو خارجاً عن المألوف وإن بدا للبعض كذلك؛ وكل متابع لتوجهات هذا التنظيم داخل اليمن وفي معظم الدول العربية والإسلامية لا يحتاج لكثير من الجهد حتى يلاحظ علامات ذلك التحول ومؤشراته التي ظهرت في وقت مبكر، لاسيما بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، وتكوّن جبهة جديدة أعادت لهذا التنظيم الإرهابي الهُلامي بعضاً من حيويته التي فقد جزءاً كبيراً منها خلال الفترة التالية لأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، بفعل توالي الضغط العالمي والضربات القاسية التي لحقت بالتنظيم في قواعده وامتداداته كافة من قبل الكثير من حكومات ودول العالم.

واليمن لم تخرج عن نطاق هذا التحول في استراتيجية “القاعدة” بل كانت في قلبه تماماً؛ فقد وجد التنظيم في هذا البلد الفقير الذي تتجذر فيه الروح القبلية والدينية المحافظة بقوة، بيئة ملائمة قابلة للاستغلال الفكري والتنظيمي وإمكانية إدارة حملة منظمة وطويلة الأمد للتعبئة الإيديولوجية والحشد العقائدي، وتالياً استقطاب كثير من الشباب الذين يشكلون الفئة الأكبر بين فئات سكان البلاد التي تنوء بحمل ديمغرافي ثقيل ومتسارع على نحوٍ يبدو وكأنه غير قابل للكبح أو الاحتواء.

والحقيقة أن أهمية اليمن راسخة في “تفكير” القاعدة منذ زمن ليس بالقصير، ورغم أن البعض يربط ذلك بأصول “أسامة بن لادن” الحضرمية، إلا أن هذه تبقى مسألة رمزية فحسب؛ فالتيار السلفي-الجهادي، بمختلف تلاوينه عموماً وتنظيم “القاعدة” بوجه خاص، يمتلك رؤية جيوبوليتيكية خاصة لليمن لعل أفضل من عبّر عنها، عمر عبدالحكيم المعروف بـ”أبي مصعب السوري”، وهو واحد من أهم منظري التيار، والمعتقل في باكستان حالياً. فقد كتب السوري في عام 1999 مؤلفاً صغيراً بعنوان “مسؤولية أهل اليمن تجاه مقدسات المسلمين وثرواتهم” أبرز فيه تلك الرؤية، فأشار إلى أن العامل الديمغرافي في اليمن، والمرتبط بالشكيمة اليمنية والفقر، في آن معاً، إضافة إلى العامل الجغرافي المرتبط بما تتميز به اليمن من طبيعة جبلية حصينة “تجعل منها القلعة الطبيعية المنيعة لكافة أهل الجزيرة، بل لكافة الشرق الأوسط، فهي المعقل الذي يمكن أن يأوي إليه أهلها ومجاهدوها”، فضلاً عن امتلاكها حدوداً مفتوحة “تزيد على أربعة آلاف كم”، وسواحل بحرية “تزيد على ثلاثة آلاف كم”، وتتحكم بواحد من أهم البوابات البحرية وهو مضيق باب المندب. وأيضاً عامل انتشار السلاح “نظراً للتقاليد القبلية”، إضافة إلى العامل الديني المرتبط بعدد من الأحاديث و”البشائر” المرتبطة باليمن، تمثل كلها، بنظر “السوري” و”القاعدة” عوامل أساسية، لتكون اليمن “منطلقاً” وقاعدة للجهاد “لتطهير المقدسات واسترجاع الثروات المنهوبة من أهل الجزيرة والمسلمين”. وبالتالي فإن “المطلوب تشكيل قوة إسلامية من أهل اليمن وشبابه ومجاهديه ومن لحق بهم من أهل الجزيرة وشباب الإسلام، تتمركز في اليمن… كقاعدة انطلاق، والتوجه لضرب الأعداء في الجزيرة عامة… فميدان الغنيمة كما هو ميدان الجهاد، كامل الجزيرة: أموال المرتدين من الأمراء والملوك والسلاطين والحكومات العميلة… وأموال الصليبيين والنصارى من الشركات الاستعمارية التي تشرف إما على نهب الثروات وإما على بيع منتوجات المحتلين، وهذه اليمن تشرف على واحد من أهم مضائق العالم وسفن وناقلات نفط الكفار تعبر كل يوم بالمئات بالرزق والمال”.

ومع أهمية الرؤية النظرية هذه التي بلورت المكانة الخاصة لليمن في عقول وقلوب منتسبي التيار الجهادي–السلفي، إلا أن السياق السياسي المحلي في هذا البلد خلال العقدين الأخيرين قد أضفى عليها أهمية مضاعفة وأبعاداً أكثر عملية. والعارفون بكواليس اللعبة السياسية اليمنية منذ مطلع تسعينيات القرن الفائت حتى اليوم يدركون تماماً الكيفية التي أُدير—ولا يزال يُدار—بها ملف الجماعات الجهادية-السلفية، لاسيما المقاتلين العائدين من أفغانستان، اليمنيين منهم وغير اليمنيين، وطبيعة التجاذبات والصراعات التي أُقحِم هذا الملف في إطارها، بغرض توظيف المنتمين إلى التيار الجهادي-السلفي بمختلف تشكيلاتهم، بما فيهم المنتمين إلى تنظيم “القاعدة”، واستغلالهم سياسياً من أجل دعم المواقف والمطامح السياسية لدى بعض اللاعبين الكبار في الساحة اليمنية.

وإذا كان هذا الأمر قد طرأ عليه نوع من التحوّل بعد بروز العديد من المتغيرات في الداخل كما في الخارج، وفي مقدمتها تداعيات الهجوم على المدمرة الأميركية (يو إس إس كول) في تشرين الأول/أكتوبر 2000 والهجمات الانتحارية في واشنطن ونيويورك في أيلول/سبتمبر 2001، وما خلّفته هذه المتغيرات من ضغوط هائلة على الحكومة اليمنية بحيث أصبح لا مناص لها من الانخراط في “الحرب العالمية على الإرهاب”، لكن هذا، في المحصلة، لم يمنع جهات يمنية معينة ومعروفة، ووفقاً لحسابات محلية صرفة، من المُضي في التكتيكات القديمة ذاتها المتعلقة بملف الجماعات الجهادية في اليمن، واللعب بأوتار التناقضات الكثيرة التي تتخلل هذا الملف الشائك. وكان من الطبيعي، والحالة هذه، أن تتعزز الرؤية الجيوبوليتيكية الخاصة التي تحملها الجماعات الجهادية، وعلى رأسها تنظيم “القاعدة”، تجاه اليمن بوصفها “حاضنة” مثالية للعمل الحركي والتعبوي تُشابه في أوجهٍ عديدة “الحاضنة الأم”، أي أفغانستان، وتقع على مرمى حجر من غايتها الأسمى “بلاد الحرمين”، أي العربية السعودية.

ويُثبِت رصد نشاط القاعدة في اليمن بوجهه القديم الذي تم احتواؤه (في ظل الجيل الأول) أو الجديد الحالي المستعصي على السلطات اليمنية (في ظل الجيل الثاني)، أنه لا يخرج عن سياق جَعْلها—أي اليمن—منطلقاً “للجهاد” في الجزيرة العربية، وهو ما حدث حين كان أغلب السلاح بيد “جهاديي” السعودية يأتي من اليمن، ومما يدلل على ذلك، أيضاً، أن اليمن والسعودية وقعتا اتفاقية للتعاون الأمني عام 2004، ومنذ ذلك الحين، تبادل البلدان تَسَلُّم (وتسليم) العشرات من المطلوبين والملاحقين أمنياً.

والظاهر أن هذا الأمر أخذ في الآونة الأخيرة زخماً أكبر في ظل الحديث عن بوادر “تحالف” وربما “اندماج” بدأت علاماته (بل وآثاره) في الظهور والتبلور بين فرعي تنظيم القاعدة اليمني والسعودي، واللّذين—على ما يبدو—يتوخيان الاستفادة من ذلك في تعزيز قوتيهما بالنظر إلى حاجة الفرع اليمني للقاعدة لاكتساب المزيد من الخبرة والدعم المالي، في مقابل رغبة الفرع السعودي في الحصول على ملاذٍ آمن يسمح بإعادة بناء بنيته المدمرة بفعل الإجراءات التي اتخذتها السعودية ضده ونتج عنها قتل واعتقال معظم أعضاء فرع تنظيم القاعدة في المملكة.

لقد أضحى من الجلي أن تنظيم القاعدة بفروعه كافة، والذي اضطر تحت تأثير الضربات التي تعرض لها في إطار ما يسمى “الحرب على الإرهاب” للعمل بشكل لا مركزي والاعتماد على الخلايا المحلية، بدأ يعيد تنظيم نفسه في سياق هذه اللامركزية، ولكن عبر سياسة تسعى إلى توحيد تلك الخلايا قدر الإمكان وفقاً للمنطقة الجغرافية، سعياً للتغلب على التشتت الذي تفرضه اللامركزية. ومن هنا بدأت “القاعدة” تعمل على تنشيط خلاياها في كل من أفغانستان، والعراق، وشمال أفريقيا، وآسيا الوسطى، واليمن، والصومال.

ومع اتساع نطاق ظاهرة “إعادة التوحد اللامركزي” لهذا التنظيم، فإنه من المتوقع أن تصبح “القاعدة” مصدراً رئيسياً للأخبار في مناطق متنوعة من العالم تحت إمرة هذه القيادات الجديدة، ولكن الخطورة تكمن في أن هذا الجيل الجديد من القيادات يعد من ذوي الخبرات المشتركة سواء في أفغانستان أو العراق أو غيرهما، مما يعني أن درجة التنسيق فيما بينها ستكون عالية، وبالتالي فإن “القاعدة” لن تعود للاعتماد على الخلايا المحلية، كما فعلت منذ هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001، بل سيكون لها قرار “شبه مركزي”، وستعمد إلى تنفيذ عمليات تتميز بالنوعية العالية والتأثير.

ومع أن عملية توحيد الجبهات التي يسعى إليها تنظيم “القاعدة” الآن، من خلال هذا الجيل الجديد من القيادات، تبدو مؤثرة في البنية الهيراركية للتنظيم، إلا أن خطورتها تكمن في تأثيرها في أسلوب العمليات التي سيتبعها التنظيم في المراحل القادمة؛ إذ يتوقع أن تكون من حيث الأهداف أو التكتيك المتبع في تنفيذها مؤثرة وذات صخب إعلامي كبير (وهو ما بدا واضحاً في عمليات “قاعدة اليمن” وعمليات “قاعدة المغرب الإسلامي” في الجزائر مؤخراً). ورغم سعي “القاعدة” إلى تجاوز حالة التشتت واللامركزية التي عانت منها في السابق وجعلت الخلايا المحلية تلعب دوراً سلبياً في الدعاية للتنظيم، نتيجة غياب القرار المركزي، فإن هذه “الخلايا المحلية” ستظل تؤدي دوراً مهماً في إظهار التنظيم كقوة متغولة تصعب هزيمتها، كما أن تلك الخلايا ستحافظ على لعب دور أساسي في تجنيد أعضاء جدد، بالإضافة إلى إثارتها القلاقل من حين لآخر، بينما تتفرغ “القاعدة الأم” لتنفيذ أهدافها الاستراتيجية الكبرى.

وفي اليمن يبدو النهج “القاعدي” الجديد، بكل مساوئه وتناقضاته، واضحاً، على أن إحدى الدلالات المهمة الخاصة للتحول الاستراتيجي في تكتيكات تنظيم “القاعدة” في اليمن من ضرب الأهداف والمصالح الغربية في البلاد إلى استهداف بُنى السلطة والحكومة ذاتها والأجهزة الأمنية الداخلية على نحو سافر كما بدا ذلك في العمليات الأخيرة، وبوجه خاص عملية سيئون الانتحارية أواخر شهر تموز/يوليو الماضي، تكمُن في محاولة عناصر التنظيم وقيادته الجديدة استغلال المناخ المحتقن الذي يطبع البيئة السياسية والاجتماعية والأمنية في بعض المناطق اليمنية، وعلى نحو خاص المناطق الجنوبية في البلاد التي يسودها نوع من التململ الشعبي والشعور بالسخط على خلفية سوء إدارة السلطات للكثير من الملفات الحيوية العالقة في هذه المناطق منذ ما يقارب العقد ونصف، أي منذ نهاية الحرب الأهلية القصيرة في صيف 1994.

والملاحظ، في هذا السياق، أن وتيرة الأعمال الإرهابية التي تطال بعض المناطق اليمنية الجنوبية قد أخذت في التزايد على نحو ملحوظ، وهذا يشير إلى حدوث نوع من “التمدد الاستراتيجي” لتنظيم “القاعدة” في جنوبي اليمن، وينبئ ذلك عن تمكن التنظيم في السنوات القليلة الماضية من الحصول على ملاذات/بيوت آمنة ومساعدات لوجستية تتضمن أموالاً وأسلحة وأدوات اتصال وبنية إعلامية متطورة نسبياً من الناحية التقنية، بالإضافة، وهذا هو الأهم، إلى عناصر وخلايا بشرية تتشكل منها شبكات التنظيم العنقودية المُستحدثة وتدعمها (بعض هؤلاء مقاتلون عادوا من العراق واستقروا في مناطقهم الأصلية كأبين وتعز ولحج أو في مناطق أخرى، كما يوجد مقاتلون آخرون من غير اليمنيين وبشكل خاص من السعوديين، الذين انتقلوا—في معظمهم—إلى اليمن على إثر توثيق كُلٍّ من فرعي “القاعدة” اليمني والسعودي عُرى التحالف بينهما خلال الأشهر الأخيرة الماضية)، الأمر الذي يجعل مهمة قوات الأمن اليمنية في محاربة التنظيم وخلاياه، النشطة منها والنائمة، صعبة بمكان وفي غاية التعقيد.

كما أن هذا التحول التكتيكي الذي طرأ على استراتيجية “القاعدة” يأخذ زخمه أيضاً من الطابع الدولي الفاقع الذي يمتاز به ملف الإرهاب المفتوح على مصراعيه في اليمن في الفترة الأخيرة، وهو الملف الذي “فشلت” حكومة صنعاء، بحسب التقديرات الأميركية المعنية مباشرة بقضية الإرهاب في الأراضي اليمنية، في إدارته بالشكل الكافي والحاسم، حتى يُمكن اقناع من ينبغي اقناعهم في واشنطن بأن ثمة انجازٌ ما قد تحقق في الحرب التي تشنها اليمن على الإرهاب. ويبدو أن الأميركيين قد أصيبوا بخيبة أمل كبيرة جراء الطريقة التي تدير بها السلطات اليمنية ملف الإرهاب والحرب عليه، وبدا ذلك واضحاً في تعليقاتهم وتقريراتهم الحكومية والصحفية على حد سواء، والتي تواترت في الآونة الأخيرة بصورة تثير الانتباه والقلق معاً والناضحة بكثير من النقد للحكومة اليمنية، مُتهمة إياها تارة بـ”التقصير” و”عدم الجدية” في مكافحة الإرهاب، أو بـ”التساهل” مع أخطر الإرهابيين والمطلوبين و”توفير الحماية لهم” تارة أخرى.

والواقع أن هذا المناخ الضاغط سلاح ذو حدين بطبيعته؛ فهو يدفع الحكومة اليمنية إلى محاولة “تبييض” سجلها في مكافحة الإرهاب بمختلف الأساليب والطرق، لكن هذا الأمر قد يتم على نحو تغلبه العجلة والتصرفات غير المدروسة في إدارة هذا الملف البالغ الحساسية، وربما يتطور الأمر إلى نوع من التطرف غير المحسوب في اتخاذ المواقف والسياسات بحيث ينقض بعضها بعضاً، وفي نهاية المطاف تدفع صانعي القرار الأمني كما السياسي إلى الإنزواء في زاوية حرجة وضيقة؛ فيضيع بذلك الكثير من الجهد في الداخل ودعم الحلفاء وثقتهم في الخارج، وفي الطريق نفسه تُهدر كثير من الدماء وتبدأ من ثمّ حلقة مُفرغة وشريرة من الانتقامات والثارات التي قد تضعضع الأمن في البلد، وتنعكس بالضرورة سَلباً على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأحوال المجتمعية المتأزمة أصلاً، وهو أمرٌ بات من غير الإمكان تقبّله، ناهيك عن تحمّله أو ضبط عواقبه الوخيمة إن حدث.

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 16 أيلول 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

هل تكون الصيغة اللبنانية الصيغة المستقبلية للبلدان المشرقية، والأفق الذي تشخص نحوه كيانات تلك المنطقة، إن لم يمسسها تحوير يعيد تركيب مكوناتها على نحو ونسق غير ذينك اللذين عهدتهما منذ أن فُصلت عن المجال العثماني في أعقاب الحرب الكونية الكبرى، ثم منذ أن استوت دولا مستقلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية؟

قد يبدو هذا السؤال غريبا، إن لم نقل مريبا، إذ يلوح كالزاعم إضفاء صفة النموذج على ما درجت نخب المنطقة، وتلك اللبنانية منها في المقام الأول، على حسبانه أنموذجا-مضادا، عنوان حرج وهشاشة، مبعث انشقاق أهلي مطّرد متجدد، ينفجر نزاعات على نحو دوري، نشازا مضنيا لأهله ولجواره، وذلك قياسا إلى ما يُتوهّم “قاعدة” مستتبّة أو ما يقوم مقامها، هي المتمثلة في الدولة المركزية، المتجانسة صلدةً والمنسجمة هيئةً مُحكمةً، قد يُبلغ في تبجيلها مبلغ الانسحار بمقترفي الانقلابات العسكرية بُناة أنصبة الاستبداد.

وراء ذلك، بطبيعة الحال، مسبقات هي من صلب الإيديولوجيا العربية، بالمعنى الأوسع وغير الحصري لهذه العبارة، أفكارا مبثوثة تشكل “المادة الأوّلية” للوعي السياسي لدى النخب والجمهور، سواء تبلورت في تيارات بعينها، وطنية أو قومية أو إسلامية، أم لم تتبلور، قوامها (نعني تلك المسبقات) ثنائيات راسخة مطلقة التنافر: وحدةٌ تناصب التعددَ العداء نقيضا مبرما، اندماجٌ يقابله، مقابلة الضد للضد، تجزيء وتفتيت… وقس على ذلك.

غير أن ما يعنينا هنا ليس الدخول في مفاضلة بين “النموذجين”، إذ ليس فيهما ما يدعو إلى المفاضلة. الصيغة اللبنانية معلومة عاهاتها، لا تنفك بادية للعيان منذ أكثر من ثلاثة عقود، إن نحن توقفنا عند التاريخ القريب والراهن، عسرا في تحقيق التئام ذلك الكيان ومكوناته حول ترتيب تأخذ به وتطمئن إليه، فإذا هي أزمة دائمة تراوح بين تعايش بين تلك المكوّنات لا مناص منه وبين قصور ملازم عن بلوغه. أما الصيغة المركزية فهي ليست أفضل حالا، إذ هي قد تفلح في إحلال الاستقرار، ولكن إلى حين وبثمن باهظ، أساسه الاستبداد ووسائله القسر والإرغام، قاسٍ مولّد للضغائن، وهي لذلك لا تلغي أسباب التفكك بل تؤجله، وهي إذ تفعل، متوخية تلك الوسائل، إنما ترسي الاحتقان وتغذيه.

لذلك، ليس في أخذنا بتلك الفرضية التي انطلقنا منها سؤالا حول ما إذا كانت الصيغة اللبنانية أفقا تشخص نحوه كيانات المنطقة، مستقبلا لها محتملا، لا ينم عن تبجيل لتلك الصيغة أو عن تفضيل، إنما هو يحاول استقراء الواقع القائم وممكناته.

إن كان من سمة فارقة للصيغة اللبنانية، فهي تسليمها بالفشل في استخلاص وحدة الكيان ودولته من مقومات فيهما داخلية، صير إلى التعويض عنها بعوامل (قوى) خارجية، ذات نفوذ إقليمي أو دولي، ترسي فيما بينها مساومة يكون نتاجها، في الحالة التي تعنينا، لبنان. مشكلة تلك الصيغة أنها، من جراء ذلك وبفعل افتقارها إلى مقومات التماسك الداخلية، هشة بطبيعتها، متحوّلة لا تثبت على حال، بفعل ما يطرأ على تلك القوى الخارجية، المؤثرة والضامنة للتوازن، من تقلب على صعيد النفوذ وعلى ميزان القوة بينها. ليس في القول بذلك من جديد، بل هو من البدائه البالغة مبلغ الابتذال.

لذلك، إن كان من عنصر جدّة في هذا الطرح، فهو ذلك الذي يتوقع لبقية كيانات المنطقة المشرقية أو لبعضها، مآلا كذلك اللبناني، يجد في تنامي الهويات العضوية، الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية وفي نزوع الكيانات إلى التفكك، أماراتٍ ترجّحه. ربما مثّل العراق، ذلك الذي جاء الغزو الأمريكي قبل سنوات خمس ليودي بالنظام الذي كان يحكمه فأودى بدولته، مثالا ذا دلالة على كيان قام، حتى احتلاله، على مركزية قسرية شديدة القسرية، كانت قد تأزمت وفقدت مقوّمات الاستمرار حتى قبل ذلك الغزو ربما، فانطلقت قوى الانتماء العضوي من عقالها، وبرزت إلى الواجهة الطوائف والقوميات والمذاهب، تشخص بأبصارها نحو خارج ما تنشد الدعم، على أساسٍ مذهبي أو طائفي، أو على أساس مجرد التحالف.

ما هو في حكم اليقين أو يكاد، أن بروز تلك القوى مبرم لا رجعة فيه وأنها ستظل، في المدى المنظور، فاعلة تحظى بالتأثير، حتى إذا ما استعادت بلاد الرافدين تماسكاً، فإنه سيكون خلاصة مساومات بينها على تعايش لا مناص منه، على شكلٍ قد يكون فيدراليا أو على أي شكل سواه يُصار إلى توخيه، سيكون، على أية حال، بحاجة هو بدوره، وعلى نحو تأسيسي، إلى ضمانة خارجية (إيرانية وأمريكية وربما تركيّة أو سواها) بحيث يكون التوازن الداخلي جزءا من توازن إقليمي، أي، بمعنى آخر، خلوصا إلى ما يمثل لب ما يُعرف بالصيغة اللبنانية.

وذلك ما قد يكون أيضا مآل سوريا، إن اعترى تماسكها (وهو أمني في المقام الأول) اضطراب، وجدّ من العوامل الداخلية أو الخارجية ما يفضي إلى انهيار نظامها.

فالصيغة اللبنانية هي، على علاّتها، ما يتبقى متاحا، حيث ما وُجد كيان متعدد المكوّنات، يتعذر القفز من فوقه، مجالا اضطراريا للتعايش من ناحية، ولا يمتلك مقوّمات تماسكه الداخلي من وجه آخر، يستقيها من بيئته الاستراتيجية، ازدواجية ولاء، استقواء بخارج كاسر على داخل غير مطمئِنٍ، بحيث لا يتيسر الانتماء إلى الوطن إلا بالانتقاص منه، شرطا لذلك الانتماء شارطا.

كل ذلك لأن الصيغ “المركزية”، فشلت، منذ أن بعثت إلى الوجود مع استقلال دول المنطقة، في اجتراح وطنيات ناجزة، بحيث يمكن القول أنه إذا ما كان لمقولة “الدول الفاشلة”، تلك التي ترددها أوساط أمريكية بعينها، من جدوى تفسيرية في ما يخص تلك المنطقة، فهي تلك المتمثلة في أنها قد تمثل تشخيصا لا يخلو من دقة لذلك الوضع.

بل أن الفشل ذاك قد يكون أشمل من أن يتوقف عند حال تلك الكيانات وأبعد مدى، وقوامه أنه ليس بين تلك القوى الخارجية الراعية للتوازنات الداخلية لتلك الكيانات قوة تتأتى من المجال العربي. وذلك ما سيكون موضوع تناول مستقل.

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 17 تموز 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

في فجر يوم 23/1/2007 فجّر مسلحون فلسطينيون الجدار الحدودي الفاصل بين مصر والأراضي الفلسطينية في قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) منذ منتصف حزيران (يونيو) الماضي، وقد جاءت هذه الخطوة التي لم تكن مفاجئة لبعض الأطراف بعد ما يزيد عن ستة أشهر من الحصار الإسرائيلي الخانق على قطاع غزة والذي تزايدت حدته في الأيام التي سبقت فتح الحدود، عندما قررت إسرائيل تقليص إمدادات الوقود والكهرباء إلى قطاع غزة، مما أدى لغرقه في ظلام دامس لعدة أيام. وقد أدى تفجير الحدود إلى فتح مجموعة ثغرات كبيرة في الشريط الحدودي ساعدت في دخول الآلاف من الفلسطينيين للأراضي المصريّة. وخلال الفترة التي امتدت إلى ما يزيد عن عشرة أيام منذ فتح الحدود، تحوّلت المنطقة الضيقة الممتدة على طول الحدود بين الطرفين إلى منطقة تجارة حرة تجري فيها مبادلات تجارية متفاوتة في الحجم ونوعية السلع المتبادلة، أما المناطق المصرية الصحراوية المحاذية للحدود وصولا لمدينة العريش القريبة، فقد تحولت إلى سوق يرتاده الآلاف من الفلسطينيين الذين يعانون نقصا كبيرا في المواد الأساسية بسبب الحصار حيث قدر عدد الفلسطينيين الذي تجولوا في الأراضي المصرية بحوالي  700.000.
الحركة التجارية النشطة التي شهدتها الأيام التي أعقبت تدمير الحدود، عكست مجموعة مهمة من المؤشرات:

  • غزة-مصر: تجارة في اتجاه واحد: فقد لوحظ أن الاندفاع البشري الفلسطيني داخل الأراضي المصرية لم يرافقه دخول مصريين بهذا العدد إلى داخل الأراضي الفلسطينية. وبطبيعة الحال، فقد انعكس هذا الأمر على اتجاه التجارة وطلب السلع، إذ كانت الحاجة لدى الفلسطينيين أكبر لدخول الحدود وشراء السلع المختلفة بسبب أشهر الحصار الطويلة التي ساهمت في تخفيض المتوفر من المواد الأساسية في الأسواق الفلسطينية. وأمكن خلال أسبوعي التبادل التجاري بين الطرفين رصد ما يلي:

أولا: حجم التبادلات: قدرت مصادر رسمية مصرية مجموع ما أنفقه الفلسطينيون خلال العشرة أيام بحوالي 250 مليون دولار. لكن يمكن القول أن الرقم الحقيقي هو ضعف الرقم المذكور إذا ما أخذنا بالاعتبار أن كثيرا من المعاملات لم يجرِ تسجيلها بنكيا، وأن غياب الرقابة—بسبب عدم مجيء فتح الحدود في ظرف طبيعي—أدى لنشوء سوق سوداء انتشرت فيها مبيعات الممنوعات المختلفة والتي يصعب تقدير قيمتها.
ثانيا: اتجاهات الإنفاق وطبيعة السلع: تَركّز الإنفاق الفلسطيني على السلع الاستهلاكية التي افتقدها السوق الفلسطيني بسبب الحصار، فيما ركّزت صفقات التجار الفلسطينيين على سلع الوقود والاسمنت والمواشي. وبالإضافة إلى ذلك، فقد جرى شراء سلع بدافع إشباع بعض الحاجات الكمالية وذلك بسبب انخفاض أسعارها في السوق المصري، على الرغم من محدودية فرص استخدامها بشكل جيد (يمكن أخذ مستويات الطلب الكبيرة على الدراجات النارية والحوادث الكثيرة التي وقعت على طرق غزة بسببها كمثال).
ثالثا: خروج العملة الصعبة: يعاني قطاع غزة بالأساس نقصا حادا في الدولار بسبب قرار الحكومة الإسرائيلية في التاسع عشر من أيلول (سبتمبر) 2007 باعتبار قطاع غزة كيانا معاديا والذي امتنعت بموجبه البنوك الإسرائيلية عن التعامل مباشرة مع  بنوك غزة، وقد أدى اجتياح الحدود إلى استنزاف المزيد من الاحتياطات النقدية سواء تلك المتواجدة لدى البنوك أو لدى الأفراد لتغطية الطلب المتزايد على السلع المصرية، وتجلت تلك الزيادة في الطلب على الودائع البنكية في زيادة واضحة في عمليات الاقتراض بين المواطنين العاديين.
رابعا: مستوى النشاط الاقتصادي: على الرغم من أن تدمير الحدود ساهم في تنشيط الحركة التجارية داخل قطاع غزة، وأدى لإيجاد فرص عمل لبعض المتعطلين الذين جلبوا بعض السلع للاتجار بها داخل السوق الفلسطيني، إلا أن هذا الأمر اقتصر على فئة صغيرة، بالإضافة إلى محدودية آثاره التي لم تستمر بسبب إغلاق الحدود، وقد امتد الأمر ليشمل التجار الغزيين الذين يجدون صعوبة الآن في تصريف المنتجات التي اشتروها، بسبب ارتفاع أسعارها من المصدر وعدم قدرة الفلسطينيين على شرائها بسبب استنفاذ مواردهم المالية، بسبب الحصار الطويل والشلل الذي أصاب الاقتصاد الغزي نتيجة لذلك.
خامسا: أفق العلاقة لاحقا: من المتوقع إذا تم إعادة فتح الحدود بذات الطريقة في المدى القريب أن يتقلص الطلب الفلسطيني على المشتريات المصرية لمجموعة من الأسباب، منها إشباع الحاجات الفلسطينية من بعض السلع؛ وضبط أنماط الاستهلاك حتى تتلاءم مع الإمكانات المادية المتاحة فلسطينيا؛ وتفضيل السلع المباعة داخل السوق الفلسطيني بسبب ارتفاع الجودة وعدم وجود فارق كبير في الأسعار (وهو ما لوحظ بعد فتح الحدود بعدة أيام حيث كانت بعض السلع المباعة في السوق الفلسطيني أرخص)؛ وانتشار عمليات الغش ورفع الأسعار.

  • قوة شرائية فلسطينية أكبر: عكست الحركة التجارية الأخيرة أيضا أن الفلسطينيين يتمتعون عموما بمستويات دخول أعلى، وأنهم يحظون بقوة شرائية أفضل إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الشيكل يشهد ارتفاعات كبيرة في قيمته مقابل الدولار، وقد استطاع المراقب أن يلمس الدهشة المصرية من حجم الطلب الفلسطيني الكبير داخل الأسواق المصرية، ويمكن في هذا الإطار تسجيل عدة ملاحظات:

1. إن القوة الشرائية لمواطني غزة تبدو قوية عند مقارنتها بالحالة المصرية، وذلك بسبب حجم الهوّة بين مستويات الأسعار في الاقتصادين المصري والفلسطيني، تحديدا فيما يخص السلع الأساسية. لكن على الصعيد الفلسطيني الداخلي، يبرز بوضوح ضعف القوة الشرائية لدى المواطن الفلسطيني بسبب ارتفاع الأسعار، وتفشي البطالة والفقر، وغياب فرص الاستثمار.
2. إن الدخل المتولد للفلسطينيين ناجم عن نشاط ريعي كـ أجور\مساعدات (سواء نقدية أو إغاثية). كنا أن هناك انفصالا بين الدخل والإنتاج الفلسطينيين، وغالبية الدخل يوجه لأغراض استهلاكية؛ لا يعاد حقنها في بنية الاقتصاد لأغراض الاستثمار.
3. استطاع المصريون أن يعرضوا بضاعتهم في السوق الفلسطيني، لكن هذا لم يحدث مع الفلسطينيين الذين لم ينجحوا في استغلال فتح الحدود للترويج لبعض بضائعهم، وذلك بسبب التشابه الكبير بين مخرجات الإنتاج لدى الطرفين، وفي الحالة المذكورة، كانت الأسعار والحاجة هما الفاصل، فرجحت كفة البضائع المصرية أمام السوق الفلسطيني المتعطش بسبب الحصار.

  • تعزيز الفصل القائم بين الضفّة وغزّة: من المعروف أن دائرة الجمارك الإسرائيلية اتخذت في يوم 21/6/2007 قرارا بإلغاء الكود الجمركي الذي يحمل الرقم (1) الخاص بقطاع غزّة والمنصوص عليه في بروتوكول باريس الاقتصادي، وقد أدى هذا القرار إلى منع القطاع الخاص من المتاجرة مع إسرائيل والعالم الخارجي، وأدى إلى قطع الصلات مع الضفة الغربية، لأن القرار في جوهره يعني إخراج غزّة من دائرة الغلاف الجمركي التي تجمعها مع الضفة، والتي على أساسها كانت تتم المبادلات الخارجية بين الطرفين. فبالرغم من أن فتح الحدود بين مصر وقطاع غزة قد ساهم في تخفيف آثار الحصار المفروض على قطاع غزة منذ ستة شهور، إلا أنه كشف في ذات الوقت عن الخطورة الكامنة في الذهاب بعيدا في مشروع الربط الاقتصادي مع مصر بدون أن يكون هذا الأمر مُتَضمَّنا في إطار مشروع متكامل—سياسيا واقتصاديا—يكون نقطة ارتكازه الأولى التخلص من التبعية الاقتصادية لإسرائيل، والثانية تحقيق ربط فعال بين اقتصادي الضفة وغزّة بحيث يعمل الاقتصاد الفلسطيني كوحدة واحدة متسقة مع ذاتها، وضرورة اندماج الاقتصاد الفلسطيني مع اقتصاد العالم العربي، وبالتالي الاقتصاد العالمي في إطار مشروع سياسي اقتصادي كامل. تكمن خطورة هذا السيناريو فيما يلي:

1. كشف اجتياح حدود مصر مع قطاع غزة عن أن الفلسطينيين ينفقون دخولهم على السلع الاستهلاكية، وأن الفتح الأخير أحدث رواجا أكبر في السوق المصري عنه في السوق الفلسطيني، وذلك بسبب انهيار القاعدة الإنتاجية في قطاع غزة. وفي مثل هكذا حالة، يكون الدخل الفلسطيني فيها مُتحققا من أنشطة ريعية لا إنتاجية، ومُنفقا على سلع ليست منتجة محليا، مما يؤدي إلى إحداث اغتراب لعدم وجود دورة دخل متكاملة، وهو ما من شأنه تعزيز أزمة الهوية الوطنية بسبب غياب عملية الإنتاج الوطني.
2. إن ربط اقتصاد غزة بمصر واقتصاد الضفة الغربية بالأردن سيؤدي إلى ضياع وحدة المشروع السياسي الفلسطيني وإنهاء الوحدة الاقتصادية المتكاملة بينهما، وهما الهدفان المركزيان في سياسة إسرائيل منذ الاحتلال الثاني عام 1967.
إن مأسسة العلاقة الاقتصادية بين غزة ومصر من جهة، والضفة الغربية والأردن من جهة ثانية، إذا تمت بشكل اعتباطي غير مدروس وقبل تحقق الاستقلال بالمعنى السياسي والاقتصادي، من شأنها أن تعيد طرح مشاريع الوصاية والإلحاق التي جرى طرحها في أعقاب نكبة فلسطين في العام 48 لسكان قطاع غزة والضفة الغربية، مع العلم بأن الصلات العائلية والثقافية والجغرافية القائمة بين فلسطين\مصر والأردن سيكون من شأنها تسهيل هذا الإلحاق. لذا يجب على الحركة الوطنية الفلسطينية تجاوز هذه المعضلة وتحجيم آثارها من خلال طرح بديل سياسي متكامل يتمثل في دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة. يأتي بعدها التكامل الاقتصادي الطبيعي مع الدول العربية المجاورة وخاصة جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 17 شباط 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

من المتعارف عليه ان القانون الذي يلف العالم من القطب الى القطب بات ممزوجاً بالروح الامريكية تحت راية مناهضة الارهاب من خلال نشر الديمقراطية الامريكية، وما تنطوي عليه من خصائص يجري تعميمها على شكل افكار يتم تصديرها لحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية. ومِن حلفائها حول العالم، حلفاؤها الجدليون في لبنان الذين باتت اتجاهاتهم السياسية علنية بالنسبة للارتباط بالسياسة الامريكية، من خلال مواقفهم الصريحة العلنية او من خلال الدعم الامريكي المباشر، عبر السفير الامريكي وتصريحاته العلنية، وذلك لمواجهة ما يسمى بالحلف الايراني-السوري بشكل اساسي مع جدلية اساسية بالنسبة لمواجهة الارهاب القاعدي الذي له خصوصياته في لبنان تميزه عن باقي منابت ومنابع هذا الفكر العقيم.
وفي التعمق بحلفاء الولايات المتحدة الامريكية في لبنان، نجد ان بورصة الانتقالات منه واليه تحركت صعودا وهبوطا بشكل كبير في الفترة الماضية بسبب التغييرات الاقليمية المتلاحقة التي فرضت واقعا تحالفيا على الارض لم يكن اللبنانيون انفسهم، بل حتى اهل القرار، أن يروه يوما في بلدهم.
وهنا لا بد من التساؤل عما اذا كان الواقع الذي فرض نفسه حاليا في لبنان سيتغير بعد فرز آخر ورقة من اوراق الناخبين الامريكيين، ولا شك ان هذا السؤال يدور بخلد الجميع (في لبنان—وفي اروقة الرئيس بوش داخل البيت الابيض)، الذين يعملون ما بوسعهم لاقفال الملفات العالقة، خصوصا ملف الرئاسة اللبنانية وسلاح حزب الله (المسمى سلاح المقاومة).
وهذا خير دليل على فشل تطبيق الديمقراطية الامريكية على الواقع اللبناني، فلبنان وبفضل التيارات الطائفية والمذهبية—وليس السياسية—يبدو عصيا امام التجربات الديمقراطية المتنوعة، ويخطئ جدا من يظن ويعتبر انه يوجد في لبنان احزاب سياسية بعيدة عن التبعية والطائفية، وهذا امر ليس بجديد، بل متوغل في القدم منذ عشرات العقود، على رغم محاولات البعض الظهور بثوب سياسي صرف.
فالديمقراطية الامريكية التي يجري تصديرها حاليا، اتت من مجموعة ولايات تحكمها التبعية لواشنطن عاصمة القرار الامريكي من خلال العمل السياسي الصرف والتنافس الطبيعي بين حزبين رئيسيين، وإن تدخلت في بعض الاحيان الطائفية والعرقية في تحالفات الاحزاب، وهذا امر مستحيل التطبيق في لبنان، البلد الطائفي الصرف.
فبالنظر الى حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في لبنان، نرى الاحزاب او المجموعات الطائفية الاساسية كالتالي:

  • تيار المستقبل: الذي انشأه رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري بدعم امريكي-سعودي (والذي قضى بتفجير لا يزال قيد التحقق من هوية المنفذين) لإدخال الطائفة السنية في لبنان في قلب المعادلة السياسية بعد ان خرجوا منها خلال الحرب الطائفية، والقضاء على بعض الاحزاب البيروتية التي كان لها شأن خلال التواجد الفلسطيني الفعلي في لبنان—وقت كانت بيروت عاصمة قرار فلسطين—وقد اكمل ابنه النائب سعد الدين رفيق الحريري طريق ابيه من خلال تزعمه التيار المذكور، واستطاع من خلال الدعم الامريكي المتواصل أن يحشد باقي الاحزاب تحت لوائه لينجح باخراج القوات السورية من لبنان.
  • الحزب التقدمي الاشتراكي: انشأه النائب والسياسي والمفكر اللبناني الراحل كمال جنبلاط على ان يكون جامعا للطوائف اللبنانية، إلا ان اغتياله وانتماءه بالاصل الى الطائفة الدرزية حوّل الحزب الذي انشأه الى حزب طائفي درزي غاص في متاهات الحروب الطائفية، وهذا على رغم سعي رئيسه النائب وليد كمال جنبلاط بالظهور بغير ثوبه الاساسي الذي فرض عليه من قبل طائفته.
  • حزب الكتائب اللبنانية: تأسس على يد النائب الراحل بيار الجميّل ليكون الخط الدفاعي والهجومي في آن للطائفة المارونية في لبنان. خاض الحزب حروباً طائفية عدة لفرض وجوده، وكان من اوائل الاحزاب التي خاضت الحرب الاهلية اللبنانية. سلطة الحزب الحالية بيد رئيس الجمهورية السابق أمين الجميّل (أعادها بعد جهد جهيد من رفاق السلاح) والذي تحالف مع اعداء الامس ليجدد حضور الموارنة على الساحة اللبنانية.
  • القوات اللبنانية: تعتبر التيار العسكري-السياسي الخارج من لدن حزب الكتائب. قائدها وزعيمها سمير جعجع الذي امضى قرابة 11سنة في سجون وزارة الدفاع اللبنانية لرفضه الدخول في الامر الواقع السوري بعد اتفاق الطائف.

فبالنظر الى هذه القائمة المختصرة التي تضم بمجملها مجموعة من المعارضين لسوريا، بالاضافة الى رجال أعمال ومصرفيين وسياسيين لا مساحة كافية لذكرهم الآن، نجد ان الحضور الشيعي خارج المعادلة، وهذا ما حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها جاهدين معالجته من خلال محاولات عديدة لاعلاء شأن بعض السياسيين ورجال الاعمال الشيعة او من خلال محاولات فاشلة لخرق صفوف حزب الله وترسانته الشعبية.
وهنا نجد السبب الاساسي لعدم جدوى تطبيق الديمقراطية الامريكية في لبنان، باعتبار ان الشيعة دأبوا منذ اطلاق حركة أمل على يد السيد موسى الصدر (والذي تُتهم ليبيا بخطفه واخفائه)، على نشر نظرية الظلم الواقع على الطائفة الشيعية، وضرورة فرض الوجود الشيعي على الارض من خلال عوامل عدة جرى تطبيقها فعليا، منها التكاثر السكاني لفرض الاكثرية السكانية، وضخ الاموال، وتغيير مستواهم المعيشي من خلال الدعوة الى الهجرة خلال السبعينات والثمانينات الى افريقيا من قبل حركة امل، وبعدها ضخ الاموال الايرانية على يد حزب الله، حيث جرى ضخها بطرق عدة، منها ما هو مباشر ومنها ما هو غير مباشر، من خلال نظام الحرس الثوري بتأسيس الشركات الصغيرة والمتاجرة بأي شيء حتى الممنوعات في سبيل الحصول على الاموال ونقلها الى لبنان تحت ستارة فتاوٍ متعددة، بالاضافة الى الدور الاساسي للمصارف الايرانية التي وضعت على القائمة السوداء الامريكية في الفترة الاخيرة، ومن ضمنها طبعاً بنك صادرات إيران الواسع الانتشار في لبنان بين صفوف الطائفة الشيعية.
وهنا، نجد ان تصدير الافكار الشيعية التوسعية تفوق بالاساس على نظرية تصدير الثورة في ايران، بل إن فكرة تصدير الفكر الشيعي انطلقت بالاساس من لبنان، كما شكلت حاجزا منيعا امام تصدير الديمقراطية الامريكية الى لبنان باعتبار ان النفوذ الشيعي اقفل مناطق لبنانية عدة مثل الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، بالاضافة الى التغلغل في باقي المناطق من خلال نظرية الحرمان الشيعي وضخ الاموال.
مع الاشارة هنا الى ان الولايات المتحدة كانت قد حاولت خلال سبعينات القرن الماضي التدخل بالقرار الشيعي من خلال رئيس مجلس النواب الحالي ورئيس حركة امل الشيعية نبيه بري الذي قضى سنوات من عمره الاولى في امريكا ولا تزال عائلته الاولى هناك، الا ان الواقع على الارض ومعاداة الشيعة للفلسطينيين ومن ثم تحالفهم مع سوريا افشل هذا المخطط، الذي لو كتب النجاح له لتغيَّر الواقع الحالي، وتم تطبيق ليس فقط الديمقراطية بل كل الافكار التي تم تصديرها امريكياً.
وهذا هو الفخ الذي وقع فيه حلفاء امريكا في لبنان بمعاداة الطائفة الشيعية وقد نتج عنه انقساما سياسيا وشعبيا خطيرا كرس واقعا جديدا وغريبا عن لبنان، فبات السنة والموارنة في مواجهة مع الطائفة الشيعية—شاء اهل القرار الاعتراف بهذا ام أبوا—وهذا ما ادخل لبنان في دوامة لن يخرج منها ابدا.
فالناظر الى طيات التاريخ اللبناني لقرون عدة خلت يجد ان الانقسامات المذهبية والطائفية هي نفسها لم تتغير، بل اتت بعباءات مختلفة، وكل الحلول والاتفاقات والاتفاقيات الداخلية والدولية كانت وقتية لم تستمر لاكثر من اربعة عقود متواصلة، وكل فترة من الزمن تعود المشكلة نفسها برداء مختلف واسماء مختلفة وبحجج واسباب متغايرة.
فليس من الممكن لبنانياً ان تفرض جهة ما رأيها على الجهة الاخرى، او بصريح الكلام رأي طائفة على طائفة اخرى مهما كانت الظروف والاسباب، الا من خلال حروب داخلية مرحلية بات التاريخ اللبناني خير دليل على عقمها، وان ظل الاصرار الامريكي والايراني-السوري بتطبيق الحروب السياسية على الاراضي اللبنانية فستكون النتيجة التقسيم الذي هرب منه اللبنانيون مرات ومرات، علما ان بعض حلفاء الولايات المتحدة، ووليد جنبلاط تحديدا قد طرح هذا الاتجاه خلال اجتماعات “لوزان” منذ عقدين كحل لبناني قائم على الكونفدرالية للخروج النهائي من الازمات المتلاحقة.
الا ان الواقع الحالي مشابه الى حد بعيد للكونفدرالية المشابهة لتقسيم الولايات المتحدة، فكل “طائفة” اغلقت حدودها ولكل منها مواردها وسياستها ورجالاتها ويبدو انه الحل الانسب للوصول الى الهدوء اللبناني.
وتجدر الاشارة الى أن الولايات المتحدة والحلف الايراني-السوري ليسوا الوحيدين الذين يريدون قطعة من الكعكة اللبنانية، فتنبغي الاشارة الى النفوذ الفرنسي الذي يدفع بالبعض من جماعة 14 آذار الى لعب دور مزودج فرنسي-أمريكي، والدور الاردني والسعودي والقطري، وطبعاً الاسرائيلي، بالاضافة للافكار الشيوعية والتقدمية وغيرها… مما جعل الديمقراطية الامريكية تشكل امرا يستحيل تطبيقه لبنانياً.
كما إن الامر الخطير المعرقل للتحالفات الامريكية في لبنان هو الطائفة السنية التي، وإن اظهر تيار المستقبل إحكامه السيطرة عليها، فإن تيارات عدة تؤثر بقرارها، خصوصا سُنة الشمال ومنطقة الضنية بالاضافة الى جمعية المشاريع الاسلامية او الاحباش، والاخطر توغل الفكر القاعدي والاصولي الذي أنتج مجموعة “فتح الإسلام” التي أنهكت وتنهك الشرعية اللبنانية الى الآن، خصوصاً وأن خيوط الجرائم التي ارتكبوها، وآخرها كان اغتيال مدير العمليات في الجيش اللبناني دلت الى منطقة اقليم الخروب السنية التي تعتبر خط الدفاع البحري لمنطقة جنبلاط، مما يضع علامات الاستفهام الكبيرة جدا حول العمق الحقيقي للافكار الامريكية في لبنان.
وبالعودة الى الديمقراطية الأمريكية المصدرة الى خارج حدود الولايات المتحدة، فان الزمن وحده كفيل بوضعها على الميزان الاممي العالمي لمعرفة مدى ملاءمتها لقياس الشعوب التي يتم التصدير اليها، خصوصا الى شعوب ما يسمى بالعالم الثالث، ومدى تقبلها من قبل الشعوب مع الاشارة طبعا الى الفكر الماركسي العالمي الذي بقي ردهاً من الزمن قبلة للشعوب الفقيرة، الى ان سقط عرشه من جراء تغلغل الافكار التحررية الحديثة التي اوصلت الشعب الروسي الى مكانته الحالية من جديد.
لكن يبقى السؤال: أين موقع الشعوب العربية، ومن ضمنها لبنان، من هذه الافكار، ومدى تقبلهم للجديد والمتحرر والمخالف للافكار القاعدية التي تشق طريقها بواسطة تخدير العقول والمال؟
وللكلام تتمة…
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 14 شباط 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

أتظن أن العالم يتطور نحو الأفضل أم يزداد سوءا؟ على الرغم من شعور التشاؤم اللامتناهي بعدم تطورالأوضاع الذي يثيره العديد من الإعلاميين والسياسيين، فإن الدليل الموضوعي هو أن العالم، بأي مقياس تقريبا، كان مكانا أفضل لمعظم سكانه العام الماضي.

صحيح أن الثري يزداد ثراءا، ولكن الفقير يزداد ثراءا أيضا بشكل كبير، بحيث أن عدد الفقراء يقل بشكل ملحوظ عاما بعد عام، كما أن مزيدا من الناس يعيشون في دول حرة أكثر من أي وقت مضى. ومن الجيد أن نذكّر أنفسنا، برغم عدم رضانا عن قادتنا السياسيين، أن الأمور تتحسن. ويمكن رؤية ذلك من خلال الجدول التالي:

ولا يحصل النمو الاقتصادي، والأهم من ذلك النمو الاقتصادي للفرد، في كل مكان تقريبا فحسب، وإنما يزداد معدل النمو أيضا. فبمعدل نمو يبلغ 2% سنويا، يحتاج الدخل إلى 35 عاما ليتضاعف، ولكن بمعدل 5% سنويا، يحتاج الدخل إلى 15 عاما فقط ليتضاعف. حتى أن هنالك أملا ونموا في أوروبا “القديمة” بوجود القيادتين الجديدتين في فرنسا وألمانيا.

إن طول العمر (وهو تمثيل جيد للتطورات الحاصلة في قطاع الرعاية الصحية وتراجع الفقر)، ونسبة سكان العالم الذين يعانون من سوء التغذية، ونسبة سكان العالم الأميين تتحسن في كل مكان تقريبا بشكل سنوي. وفي الوقت الراهن، ثمة نمو اقتصادي كبير في كل دولة على وجه الأرض باستثناء بعض الدول الصغيرة التي يسود فيها الاستبداد.

ومنذ زمن الثورات السياسية الاقتصادية في عهد ريغان/ثاتشر وانهيار الشيوعية/الاشتراكية، بدأ الناس يتوقعون ارتفاع دخولهم بشكل سنوي. إلا أن هذا الوضع المريح كان مجرد نموذج في الربع الأخير من القرن. فحتى قبل بضعة مئات من السنين، إلى أن جاءت الثورة الصناعية، بالكاد ارتفع الدخل الحقيقي للفرد الواحد.

نعم ثمة مشاكل؛ فالناس في دارفور يُجوعون حتى الموت ويُقتلون، والناس في كوريا الشمالية وكوبا وزيمبابوي وفنزويللا يعانون من حكام مستبدين، وبالطبع يتواصل القتل في العراق وأفغانستان. ولكن برغم مأساة هذه الأوضاع، فإن إجمالي عدد ضحايا العنف الناتج عن الدول والإرهاب يُقاس الآن سنويا بالآلاف وليس بالملايين وهو ما يُعطي طابعا مميزا للقرن العشرين.

لطالما وقف المتشائمون في صفنا، وسيكونون يوما ما على حق—العالم سينتهي! ولكن برغم مبالغة الإعلام والمدونات الالكترونية، فإن الرهان الأضمن هو أن الأمور سوف تتطور للأفضل بالنسبة لكم ولعائلاتكم وليس للأسوأ. إلا أن هنالك ثلاثة مخاطر تهدد سعادة ورفاهية الناس في المستقبل: الإرهاب، والمناصرة اللاعقلانية للبيئة العالمية، والكونغرس الأمريكي.

إن استطاع الإرهابيون تدمير عدد من منشآت النفط الكبيرة أو أجزاء كبيرة أخرى من الاقتصاد العالمي، فسوف يعاني الكثير. وسيكون الرد المناسب، من وجهة نظر اقتصادية، معالجة الحادث كما لو كان كارثة طبيعية مثل تسونامي الذي حصل في المحيط الهندي. وهذا يعني تقديم الإغاثة والمعونات الإنسانية والانتقال إلى التنظيف وإعادة الإعمار ومن ثم المضي قدما في الحياة. والخطر الحقيقي يكمن في مبالغة الحكومات في ردة فعلها بفرض الرقابة على الأسعار ورفع الضرائب وتدمير الحريات المدنية وهو ما يؤدي إلى تحويل حادث يمكن التعامل معه إلى كارثة عالمية حقيقية.

والخطر الكبير الثاني هو فرض الحكومات أنظمة رقابة بيئية من دون إجراء التحليلات المناسبة للكلفة والمنفعة. وقد حول عدد كبير من مناصري البيئة والمتحمسين لظاهرة الاحتباس الحراري العالمي قضيتهم من علم إلى مذهب ديني، وهو ما يستغله السياسيون المتشائمون لأهدافهم الخاصة المتعلقة بالسلطة. فيمكن للأنظمة الحمقاء أن تتسبب بارتفاع كبير في البطالة والصعوبات الاقتصادية.

أما الخطر الكبير الثالث والأخير فهو الكونغرس الأمريكي، الذي له يد كبيرة في الجهل الاقتصادي عن طريق اقتراح الفكرة الهدامة والحمقاء تلو الأخرى. فعلى سبيل المثال، قام أربعة من أكبر مؤيدي حماية الإنتاج الوطني في الكونغرس الأمريكي، الجمهوريان السيناتور تشارلز غراسلي من أيوا والسيناتور ليندسي غراهام من جنوب كارولاينا، والديمقراطيان السيناتور ماكس بوكاس من مونتانا والسيناتور تشارلز شومر من نيويورك، باقتراح تشريع من شأنه فعليا أن يجعل الحكومة الأمريكية تفرض أسعار صرف وفق أهوائهم.

ويبدو أن هؤلاء الأربعة، وكثيرا من زملائهم، مصممون، من خلال دعمهم للمعونات الزراعية وفرض قيود على التجارة، على تقليص الدخول الحقيقية للبشرية. فعدد كبير من أعضاء الكونغرس يريدون زيادة الضرائب وتضييق الخناق على الشركات المحلية والدولية—وجميعها وصفات لكارثة اقتصادية.

سوف يستمر التحسن الاقتصادي والإنساني بسبب رغبة معظم الناس في التطور بشكل كبير، وهو ما ثبت حتى الآن، ولحسن الحظ أنه قوة أقوى من الطبقة السياسية المتعطشة للسلطة والإرهابيين والمناصرين للبيئة الذين سيدمرون حرياتنا ورفاهيتنا الاقتصادية.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 18 كانون الأول 2007.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

في الرابع من تشرين أول 1957، تغير التاريخ عندما أطلق الاتحاد السوفييتي بنجاح المركبة الفضائية سبوتنيك 1. لقد كانت أول مركبة فضائية يشهدها العالم في حجم كرة السلة، وبلغ وزنها 183 رطلاً فقط، واستغرق دورانها حول الأرض حوالي 98 دقيقة.
لقد شكل ذلك الإطلاق فاتحة تطورات جديدة في المجالات السياسية والعسكرية والتكنولوجية والعلمية. وبينما كان إطلاق مركبة سبوتنيك إشارة إطلاق لسباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فقد كان كذلك إشارة إيقاظ على الجبهة التعليمية الأمريكية. لقد أصبح واضحاً بأن الولايات المتحدة لم تكن في وضع تنافسي مريح فيما يتعلق بالعلوم والتكنولوجيا. لم تكن المعاهد الأمريكية تُخرِّجُ عدداً كافياً من الخريجين المؤهلين في الرياضيات والعلوم.
إطلاق مركبة سبوتنيك 1 غيرت النظرة إلى التعليم في الولايات المتحدة. أصبح هنالك إدراك مفاجئ بالحاجة إلى معالجة الثغرات الأكاديمية في الرياضيات والعلوم. وقد صب صانعو السياسة والكلّيات والمؤسسات موارد كبيرة لإصلاح ذلك الوضع. وفي غضون عقد من الزمان لم تنجح الولايات المتحدة فقط في إنزال أول رجل على القمر بل نجحت أيضاً في إصلاح النظام التعليمي إصلاحاً جذرياً.
وفي غضون ذلك ما زال العالم العربي يتطلع إلى تحدٍّ على شكل تحدي سبوتنيك فيما يتعلق بشؤونه.
ما زالت شعوب العالم العربي تكافح فيما يتّصل بأنظمتها التعليمية—وهي دون شك إحدى الأسباب الرئيسية من وراء تقدم العالم العربي الاقتصادي البطيء. فعلى جميع المستويات أداء الطلبة العرب هو أداء ضعيف. العلوم والرياضيات ما زلت ضعيفة. ويكتشف الطلبة بأنهم متأخرون وراء معظم بلدان العالم. في بعض الحالات، انعدام الموارد للتعليم هي السبب في ذلك التأخُّر. ومع ذلك، وحتى عندما تكون الموارد المخصصة للتعليم كبيرة، فإن النتائج ليست مشجعة. وعلى ما يبدو فإن هنالك ما يشبه الجدار الذي يفصل بين أنظمة التعليم العربية وبين سائر العالم. إصلاح الأنظمة التعليمية العربية هي أولوية ملحة.
مسألتان رئيسيتان اثنتان ما زالتا تنالان من الأنظمة التعليمية في العالم العربي: مناهج جامدة بالية؛ وأساتذة تعوزهم الحوافز. ففي معظم البلدان العربية، فإن فرص التوظيف في قطاع التعليم ليست قائمة على أسس الكفاءة. الأساتذة نادراً ما يُعتبرون مسؤولين عن الأداء السيء لتلاميذهم، والذي هو سيء بوجه عام. التعليم في معظم الحالات هو، ويا للأسى، الملاذ الأخير للحصول على وظيفة. إن من الصعب معالجة الإصلاح التعليمي عندما يكون 50% من القوة العاملة في هذا القطاع مهمشة في بعض البلدان العربية. ويمكن للبلدان العربية أن تُضيف مخزوناً جديداً من الأساتذة الأكفاء والمتحفزين إذا تمت إزالة العوائق الثقافية والمؤسسية أمام اشتراك المرأة في سوق العمل.
في عام 2003، جرت دراسة تحت عنوان “توجهات دولية في دراسة الرياضيات والعلوم” تم من خلالها تجربة كفاءات طلاب الصف الثامن في 45 بلداً. الشعوب العربية—بما في ذلك بعض البلدان الغنية المُنتجة للنفط—كانت من بين أواخر درجات التحصيل في الدراسة. وقد عَزَت سوزان ميير من جامعة شيكاغو العلامات المتدنية إلى توقعات الأساتذة قائلةً: “إن إحدى الطرق لرفع نتائج الاختبارات هو رفع التوقعات فيما يمكن للطلبة تحقيقه”.
إذا لم يتغير هذا التوجه الثقافي، فليس بالإمكان إحراز أي تقدم. يُضاف إلى ذلك أن التعليم الابتدائي والثانوي الضعيف هو السبب وراء ضحالة التفكير التحليلي لطلاب الجامعات العربية. ففي كل عام يجد مئات الآلاف من خريجي الجامعات أنفسهم دون مهارات تؤهلهم للحصول على وظائف. كما إن بطالتهم تُساهم في القلق الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي في الشارع العربي.
في السنوات الأخيرة، بدأت كثير من الشعوب العربية في الاستثمار بسخاء وكثافة في التعليم العالي بحيث جذبت وأقامت شراكات مع بعض من أشهر جامعات العالم. هذه خطوة في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك فإن المثالب الجوهرية في التعليم ما زالت قائمة. الطلبة ما زالوا غير متحفزين نحو العلوم والرياضيات. والنقائص في العلوم والرياضيات على مستويات التعليم العالي تعود إلى رداءة مستويات التعليم في المراحل التكوينية الأولى.
إصلاح التعليم في العالم العربي يتطلب الرؤى والقيادة. يجب أن يتفهم واضعو السياسة العربية بأنه من أجل الاندماج بنجاح في الاقتصاد العالمي يجب القيام بإصلاح شامل لجميع أوجه نظام التعليم العربية. هنالك حاجة ملحة عاجلة للشك في الوضع القائم والمطالبة بتغييرات فورية. إصلاح المناهج من أجل التأكيد على العلوم والرياضيات هو خطوة أولى، وكفاءة الأساتذة ومساءلتهم هي في نفس الدرجة من الأهمية، فأطفال العالم العربي يستحقون ما هو أفضل.
إن الدراسة المذكورة أعلاه هي واحدة من دراسات عديدة مماثلة توصلت إلى نتائج مماثلة يجب أن تكون ناقوس الخطر لقادة العالم العربي. يجب أن تكون “السبوتنيك العربي”. وبينما قد يُقلل البعض أو ينالون من أهمية تلك الدراسات، فالحقيقة هي أن النظم التعليمية في العالم العربي قد كان أداؤها مُخجلاً. لقد كانت ردة فعل الأمريكيين لمركبة سبوتنيك سريعة، ويجب على العرب أن يكون لهم ردة فعل على التحدي الذي يواجهونه.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 29 آب 2007.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018