شؤون سياسية

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

في عام 1766 أعلن جون آدمز أن أمريكا “هي أمة قوانين وليست حكم رجال.” السياسيون من جميع المنطلقات قد استخدموا هذا التعبير منذ ذلك الحين، لادعاء موقف أخلاقي مرتفع. مثل هذا الاتفاق النادر بين الأطياف السياسية، حتى وإن كان خطابياً، هو إشارة إلى قوة فكرة حكم القانون.
ماذا يعني وجود حكم القانون؟ إن اعتراض آدم على حكم الرجال بدلاً من حكم القانون، يعطي جزءاً من الجواب. “أمة من الرجال” ستكون حكومة تحكمها الأهواء ورغبات الحكام، لا تردعهم أية قيود في فرض ما يرون على من يخضع لحكمهم. فالنزاعات تقرر وفق أفضليات الحكام، وليس وفق المبادئ، بحيث يترك الأفراد تحت رحمة الحاكم، ولا من يحميهم منه. “أمة القانون”، من الناحية الأخرى، تستبدل التفضيل بالمبدأ، في إصدار الأحكام.
انظر إلى سؤال بسيط حول ما إذا كان يتوجب على جون تسديد قرض إلى ماري. في أمة يحكمها الرجال وليس القانون، فإن حقيقة القرض تصبح غير ذات موضوع؛ الذي يَهُم هو ما إذا كان راعي جون أهم وأعلى من راعي ماري. أما في أمة يحكمها القانون، من الناحية الأخرى، فإذا استطاعت ماري أن تثبت بأن جون قد اقترض المال منها ولم يسدده، فإن مبادئ قانون العقود، يوجب على جون إعادة القرض الذي أخذه، بغض النظر عما إذا كان مع جون أصدقاء أقوى من أصدقاء ماري.
وبعبارات أخرى، فإن المجتمعات، بدون حكم القانون، تكون في عيش الطبيعة البدائية التي وصفها هوبز، والتي لا يمكن الهرب منها إلا من خلال تدخل الحاكم السلطوي. مثل هذا الهرب إنما يُشترى بالتنازل عن الحرية للحاكم المطلق، والقبول بأوامره، على حساب تجنب خسائر أكبر، في حرب الجميع ضد الجميع. في مجتمع يحكمه القانون من الناحية الأخرى، فإن الأفراد لن يخافوا جيرانهم، لأن النزاعات سوف تقرر من خلال تطبيق المبادئ، المعروفة سلفاً. لا يكون لأولئك الأفراد أي سبب للخضوع لسلطة الحاكم المطلق (ما نعرفه عن مجموعات متعددة من “المجتمعات البدائية”، يبين بأن حكم القانون كان منتشراً أكثر كثيراً مما كان يظن فيما مضى. بروس بنسون، في كتابه: فعل القانون، على سبيل المثال، يوثق لوجود حكم القانون، في عدد من المجتمعات ما قبل العصر الحديث).
ففي مجتمع يخضع لحكم القانون، علينا أن نتوقع ملاحظة أمرين رئيسيين. أولا، أن المبادئ التي سوف تحل بموجبها النزاعات، هي معروفة سلفاً. جون يعرف قبل أن يقترض المال من ماري، بأن التعهد بتسديد القرض هو أمر يخضع للتنفيذ. ثانياً، إن نتائج تطبيق تلك المبادئ لأي نزاع، لا يتوقف على من هي أطراف النزاع. الناس الأقوياء يخضعون لنفس القوانين التي يخضع لها الضعفاء، وكذلك الأغنياء يخضعون لنفس الأحكام التي يخضع لها الفقراء.
هذه ضرورة، ولكنها ليست شرطاً كافياً لحكم القانون. وبينما نحن، في بعض الأحيان، نأخذ مضامين حكم القانون كأمور مُسلَّم بها في يومنا هذا، فقد كانت هذه القوانين مغيبة، في ظل الحكام المستبدين. وعلى سبيل المثال، كان الإمبراطور الروماني كليجولا يأمر بأن تكتب أوامره بأحرف صغيرة، وأن تعلق عالياً بحيث لا يمكن لأحد قراءتها، للتأكد من أن المواطنين لا يمكنهم أن يعرفوا ما إذا كانوا قد خالفوا القانون أم لا.
تلك الشروط كافية، لاستبعاد الحكم الاستبدادي مثل حكم كليجولا، ولكنها ليست كافية لإيصالنا إلى المجتمع الحر. علينا أن نقيّد مضامين القوانين لسببين: أولاً، حتى يكون هنالك حكم القانون، يتوجب أن يكون جون وماري مُؤمنين بدرجة كافية بحقوق ملكيتهما، بحيث استطاعا جمع ثروات كافية لجعل الصفقة بينهما ممكنة. ثانياً، علينا أن نكون قادرين على إبعاد نظم استبدادية، مثل الفاشية والشيوعية، التي تستبد بالناس بقوانين توضع بموجب “إجراءات مناسبة”، وكذلك مجرد قوانين عشوائية مثل قوانين كليجولا.
النظام الألماني النازي مثلاً، كان له قوانين كثيرة معروفة ومفهومة ومعها أحكام تطبيقية مناسبة. قوانين نورنبرغ سيئة السمعة، على سبيل المثال، حرّمت الزواج بين “المواطنين الألمان، والأجناس القريبة منها،” مع اليهود. القانون كان معروفاً ومفهوماً من قبل الناس، وكان يُطبق بالتساوي. وكما هو الحال في معظم الدكتاتوريات، بطبيعة الحال، كان تطبيق القانون في بعض الأحيان يوقف عشوائياً—بيد أن اعتراضنا الرئيس على النظام النازي كمخالف لحكم القانون، ليس بسبب أن تلك القوانين الكريهة، لم تكن تُطبقُ بشكل صحيح. بعض القيود على مضامين ما يستطيع واضعو القانون عمله، يبدو ضرورياً.
بطبيعة الحال، فإن قوانين نورنبرغ، بُنيت على أساس التمييز بين من هم ألمان، أو من ذوي دماء قريبة منهم، وبين اليهود، وهو تمييز ندرك في يومنا هذا أنه غير قانوني على الإطلاق. ألمانيا، لم تكن وحدها قد وضعت مثل ذلك التمييز: فكثير كان يتوقف على التمييز الدقيق في درجة “الدم الإفريقي” بموجب القوانين التي كانت سائدة في فترة ما قبل الحرب الأهلية، وقوانين الفصل العنصري الأمريكية، وقوانين سخيفة مماثلة مستمرة حتى اليوم في الولايات المتحدة (حول سكان هاواي الأصليين، ووضع الأمريكيين الهنود)، وفي نيوزيلندا، حول وضع (الموري الأصليين). إن تلك القوانين موجودة في التمييز على أسس غير الأسس العرقية—قوانين التمييز في العمل، والتي يتوقف التعامل بموجبها على كونهم من أصحاب الأعمال الصغار أم الكبار، أصحاب العمل أو الموظفين لديه، الأصحاء أو ذوي الإعاقات البدنية، وهذه مجرد أمثلة قليلة منتقاة. وفي الحقيقة، فإن أحد القضايا الجوهرية في النظام القانوني السائد اليوم، هي أن حقوقنا كثيراً ما تعتمد على كيفية التصنيف الذي وضعنا فيه القانون، وهو موضوع سوف نعود إليه في سياق هذا البحث.
لذا، فإن معاملة الأفراد، تعاملاً مختلفاً، ليس مجرد إرث من الماضي الاستبدادي، بل هو مسألة حقيقية في النظام القانوني المعمول به في يومنا هذا.
وضع ضوابط للمضامين
إن وضع ضوابط لمضامين القوانين يتطلب أن نتولى تقييد السلطات التي نملك وضعها. أية نظرية معقولة لحكم القانون يجب أن تستطيع التفريق بين نظام القانون النازي وبين النظم القانونية في المجتمعات الحرة. وفي الحقيقة، فإن ذلك هو الحد الأدنى من المتطلبات. هنالك حالات أقرب كثيراً، حيث نريد من نظريتنا بأن تبذل جهداً أكبر كثيراً لرسم المفارقات بينها. لذا، فإننا نحتاج لإضافة بعض من القيود ذوات المضامين إلى الشروط الأولية التي ذكرناها. وهنا تبرز بعض القضايا المُحيّرة.
إن فكرة أن حكم القانون يتطلب قيوداً على صلاحيات واضعي القوانين، هو بعيد جداً عن القبول على مستوى العالم. وعلى سبيل المثال، فإن هانز كيلسن، أحد أعظم علماء القانون في القرن العشرين، لا يقبل بها. كيلسن (الذي اضطر إلى الهرب من ألمانيا عندما جاء هتلر إلى الحكم)، اعتقد بأن القوانين النازية العرقية تستجيب لتحديد القانون، بسبب أنه قد وصف القانون، في ضوء قدرة الدولة على دعم أوامرها، بالتهديد باستخدام القوة، ولم يفرض قيوداً حسية على مضامين القوانين. إن نظرياته ما زالت تُدرَّس في كل أنحاء العالم، وبالأخص في البلدان التي تطبق القوانين المدنية. ومن المعجبين بنظريته ريتشارد بوزنر، أحد أكثر الشخصيات نفوذاً في المؤسسات القانونية الأمريكية اليوم (لحسن الحظ، ونظراً لمركزه، فإن فقه القانون لدى بوزنر هو أفضل كثيراً من فقه كيلسن)!
ولدينا أيضاً مسألة أين نجد القيود التي نود فرضها. في كتابه: موجز لتاريخ الزمن، يذكر العالم الشهير ستيفن هوكنج قصة عن عالم، والذي بعد أن ألقى محاضرة عن تكوين النظام الشمسي والمجرات، جاءت نحوه سيدة مسنة صغيرة الحجم. قالت له إن حديثه لا يسوى شيئاً لأن كل واحد يعرف بأن الأرض مسطحة، وتحقق توازنها باستنادها إلى ظهر سلحفاة عملاقة. وقد أجاب العالم بسؤالها: وعلى ماذا تستند السلحفاة! وقد أجابت “أنت ذكي جداً أيها الشاب اليافع، ذكي جداً. إنها سلاحف على طول الخط.” لسوء الحظ فإن المحاولات الكثيرة التي تبذل لإيجاد القيود المحسوسة على النظام القانوني، تتمحور حول وضع منطلقاتنا على أعداد غفيرة من “السلاحف” التي تزداد باستمرار. وكما لاحظ فريدرك هايكبتفهم في عام 1973، فإن المشكلة تكمن في أن النظام القانوني “يرفض الاعتراف بجبرية أية أنظمة للسلوك ما لم تكن مُسوغاتها قابلة للتبرير العقلي، أو، أن تكون واضحة ومُبينة لكل شخص،” وهي مشكلة ظلت تتردد وبلا توقف منذ القرن التاسع عشر (القانون، التشريع، والحرية، المجلد 1، ص. 25؛ [أرقام الصفحات التالية هي من هذا الكتاب]). ومثلما أن التخطيط الاقتصادي المركزي قد تطفل على النظام العفوي لاقتصاد السوق، على امتداد القرن العشرين، كذلك، فإن التخطيط القانوني المركزي، قد أزاح أكثر فأكثر من النظام العفوي للقانون القائم على العرف والعادة غير المكتوبة. ونتيجة لذلك، فإنها “سلاحف” على طول المدى لمعظم أصحاب النظريات القانونية الحديثة. وفي سعيهم لفرض أنظمتهم القانونية المعقدة والمخططة والعقلانية على مجتمعاتهم، فإنهم يُكدِّسون “سلحفاة فوق سلحفاة،” في محاولتهم إيجاد مصدر مقبول لاستنباط القوانين التي يكتبونها.
المصادر الخارجية للقيود

أحد المصادر الممكنة لإيجاد قيود حِسِّيةٍ، هي في التطلع خارج النظام القانوني، لمجموعة من المبادئ التي تُرشد القانون. هنالك تنوعات لا متناهية كمصادر ممكنة: حركة المساواة بين الجنسين، الماركسية، الفاشية، القانون الإلهي، أو أية أيديولوجية تكون رائجة في زمن ما. إنها جميعها تعاني من مشكلة السلحفاة، بطبيعة الحال، ذلك لأنها بكل بساطة تكون قد استبدلت مسألة تبرير موضوع مساواة الجنسين، والماركسية وغيرهما، في السعي لإيجاد مبررات لتقييد النظم القانونية. أتباع تلك النظريات المختلفة على امتداد العالم يدركون الحقيقة الجوهرية لآرائهم الخاصة تلك، بيد أن إقناع البقية منا كان ينتهي عموماً باستخدام سلطة الدولة لفرض الخضوع للقانون. طبعاً، السلحفاة التالية هي مسألة كيفية فض النزاعات وباستخدام أية نظرية. لأولئك الذين يُعرّفون القانون فقط كأمر من الحاكم صاحب الأمر، فإن هذه لا تُشكل مشكلة له. إن صاحب الأيديولوجية التي يستخدمها من يملك مَدَافع أكثر يأمرنا بما يجب أن نفعل، ويجب أن نكون شاكرين إذا لم يكن أصحاب السلطة تلك من الخمير الحمر أو طالبان.
إنني لا أعني بهذا أن لا تلعب معتقداتي الدينية أو الفلسفية أي دور رئيسي في تكوين سلوكي، مثلما تفعل قناعاتك في تكوين سلوكك. القضية هي ما إذا كانت معتقداتي تتاح لها الفرصة للتأثير في سلوكك. والعكس بالعكس.
إن سجلات المجتمعات التي تطلّعت خارج الأنظمة القانونية، إلى النظم الدينية والسياسية وغيرها من النظم الأخلاقية، كأسس للتقيد بالقانون، هي ليست ليبرالية، كما أنها لم تكن تجارب سعيدة. الاتحاد السوفييتي، وماستشوستس الدينية المتزمتة، ونظام طالبان في أفغانستان، هي مجرد أمثلة قليلة على مجتمعات فاشلة اعتمدت على منظومات خارجية من المعتقدات، كمصدر للتشريع في نظامها القانوني. ولسوء الحظ، فإنها أيضاً مجتمعات أكثر شهرة بسبب محاكماتها التمثيلية المضحكة (السياسية والدينية)، أو لعمليات القتل الجماعي منها لاقتصاديات مزدهرة أو حريات. الدرس المستفاد هو أنه إذا أردنا أن يكون لنا مجتمع يكون فيه الناس أحراراً باعتناق آراء متباينة، حول القضايا الدينية والأخلاقية، فإننا لا نستطيع الاعتماد على مثل تلك المصادر لتقييد السلطة، بدون إشعال فتيل النزاع، حول أي من الأديان أو النظم الأخلاقية يتوجب الاعتماد عليها.
مصدر ممكن آخر للقيود، هو في اختصار المواضيع التي يمكن وضع القوانين بشأنها. النزاعات حول أخلاقيات السلوك المتفق عليه بين الراشدين، على سبيل المثال، يمكن تركه لمنبر الوعظ، أو إلى أجهزة تبريد المياه، إذا لم تكن الولاية مفوضة بإصدار تشريعات بشأنها. الدستور الأمريكي، يأخذ هذا المنحى عن طريق تحديد دقيق للمواضيع التي تملك السلطات الفيدرالية حق التشريع بشأنها. وبمثل ذلك التقييد، كان أمل واضعي الدستور تقييد الحكومة المركزية ضمن مساحة ضيقة نسبياً. لسوء الحظ، فإن هذه الاستراتيجية تبين أنها غير كافية للحد من توسع سلطات الحكومة المركزية. وما أن استقرت الحكومة الفيدرالية في السلطة، حتى غدت لوبياً دائماً لتوسيع سلطاتها نفسها، وعلى مر الزمن، قليلاً قليلاً، تمزقت القيود التي كان الدستور قد فرضها. وعلى سبيل المثال، سمحت المحكمة العليا بتوسيع متزايد لسلطات الكونغرس، بموجب الفقرة الخاصة بالتجارة التي ورد ذكرها في الدستور (المادة 1، القسم 8، البند 3)، وفي نهاية الأمر، الأخذ برأي قانوني صدر عام 1942 في قضية ويكارد/فيلبورن ومفاده أن الكونغرس يستطيع الاعتماد على السلطات التي تنظم التجارة بين الولايات، لمعاقبة مزارع قمح، زرع قمحاً على أرضه، ولأغراض استهلاكه (مع الأسى، فقد تبنت المحاكم سنة 2005 مرة أخرى هذا التوجه، في قضية غونزاليس/ريك، عندما تمسكت بالقوانين الفيدرالية التي تمنع الاستخدامات الطبية للماريوانا).
ومع أن المحاكم حاولت في الآونة الأخيرة إعادة بعث فكرة الصلاحيات المتعددة، كقيد فعال على الحكومة الفدرالية، فإن مدى قوتها اليوم يصيب بالصدمة بكل تأكيد حتى أولئك الأكثر حماساً لتوسيع السلطات الفيدرالية، بين مؤسسي الدستور. ومع أن فرض أعداد كبيرة من القيود على سلطات الدولة، من خلال دستور مكتوب، هو أمر جدير بالمتابعة، يجب الاعتراف بأن مثل تلك القيود معرضة للزوال تحت الضغوط المتواصلة من قبل الحكومات، وجماعات المصالح الخاصة.
الحل من وجهة نظر هايك

أين إذن نستطيع أن نجد مصدر تقييد من شأنه تحديد سلطات الدولة، ويمكننا من العيش تحت حكم القانون، وليس حكم الأشخاص؟ لقد كتب هايك مطولاً حول القانون، مطبقاً آراء المدرسة النمساوية للاقتصاد في دراسة المؤسسات القانونية في كتابه: دستور الحرية (1960)، وملف من ثلاثة مجلدات بعنوان: القانون، التشريع، والحرية (1973، 1976، و1979)، وعلى الرغم من وجود بعض التناقضات والثغرات في تحليلاته، فقد قدم هايك، على الأقل، حلاً جزئياً لمسألة تأمين حكم القانون، بحيث استجاب بوضوح لكيفية تقييد التشريعات القانونية على أساس دائم، وإيجاد مصادر قبول متبادل لما يقيد القانون.
في قلب نظرية هايك حول القانون، هو التفريق بين القانون والتشريع: القانون هو نظام عفوي انبثق إلى حد كبير من العادات والأعراف؛ أما التشريع فهو نظام مخطط، ابتدعته مؤسسات الإنسان مثل المؤسسات التشريعية. التمييز يبدو مغايراً لما هو متعارف عليه. نحن نتحدث كثيراً عن “قوانين” أصدرها الكونغرس أو مجالس التشريع في الولايات. قليل من التشريعات التي صدرت حديثاً تقارب توصيف هايك للقانون (لقد كان هايك يعترف بالحاجة إلى قوانين هيكلية لتنظيم الدولة، وإجراءات لتخفيض الكلفة التي تعطي أنظمة واضحة حول الإجراءات الرسمية الواجب اتخاذها لإبرام عقد ملزم). وبتقديم هذا التمييز، أرشدنا هايك نحو حل لمسألة تقييد السلطات التشريعية. وبسبب أنه ينبثق من الأعراف، وأنه نتيجة لعملية لامركزية لحل النزاعات، فإن قانون هايك، ليس معرضاً أو مكشوفاً أمام ضغوط أصحاب المصالح الخاصة، التي تؤثر سلباً على العمليات التشريعية (هايك لم يستبعد كلياً الهيئات التشريعية من المساهمة في الصياغة. فقد سمح بالتدخل لإنقاذ النظام القانوني من نظريات “الطرق المسدودة” [ص. 155]، على الرغم من أنه لم يُفصح كلياً عن كيفية التفريق بين حل الطريق المسدود وبين تشريعات مصالح الجماعات الخاصة).
فوفق نظام هايك القانوني “يتولى القاضي خدمة، أو يحاول المحافظة على، أو تحسين، نظام عامل لم يصممه أحد؛ نظام صمم نفسه بنفسه، دون معرفة، وفي كثير الأحيان ضد رغبات السلطة، والذي يمتد إلى ما هو أبعد من أي تنظيم أقامه أحد ما، والذي لا يستند إلى أفراد ينفذون إرادة أي كان، بل على توقعاتهم بأن تصبح معدلة توافقياً” (ص. 18-19). ومن الأمور الأساسية هنا “فإن المسألة بالنسبة للقاضي لا يمكن أن تكون ما إذا كان الفعل الذي تم عمله حصيفاً من وجهة نظر أعلى، أو أنه قدم خدمة نتيجة محددة تريدها السلطة، بل فقط ما إذا كان الفعل مدار النزاع متوافقا أم لا مع القوانين المرعية” (ص. 87). ونتيجة لحصر صياغة القانون ضمن إطار حل النزاعات، فإن الأنظمة القانونية في نظام هايك تُركز على أن “تجعل ممكناً، في كل لحظة، تأكيد الحدود بين الصلاحيات المحمية لكل منها” (ص. 157).
كانت وجهة نظر هايك هي أن الأنظمة القانونية يجب أن تستجيب لمبدأ العمومية؛ أي أن تكون عامة، وغير عشوائية، وأن تطبق بالتساوي على الجميع. الأنظمة القانونية التي انبثقت عن أحكام العرف والعادة، والتي تقبع جذورها في العادات، تستجيب لهذه المقاييس؛ معظم القوانين التي تصيغها الهيئات التشريعية لا تستجيب لها. مبدأ هايك في العمومية يحل مسألة القيود، دون الاستناد إلى نظرية السلحفاة. إننا نتفادى معاملة قوانين نورنبرغ النازية كأطر صحيحة، ذلك لأن قانوناً يُميّز بين أولئك الذين هم من دم ألماني أو قريب منه، وبين اليهود، يطعن في مبدأ التعميم بسبب استناده إلى التمييز. كما نتجنب مسألة التشريع القائم على أساس المصالح الخاصة بنفس المنطلق: المصالح الخاصة لا يمكن أن تكون “خاصة”، إذا لم تستطع تمييز نفسها عن الآخرين. ونتيجة لذلك، فإنهم لا يستطيعون مصادرة أملاكنا لصالحهم.
ما هي أنماط القوانين التي تستجيب لمقاييس هايك الخاصة بالعمومية؟ الأنظمة التي تسمح للأفراد بعمل وصيانة الاتفاقيات الخاصة، وتحل النزاعات، وتنظم تعاملاتها، هي مما يستجيب بنجاح لمقاييس هايك. أساسيات الملكية وقوانين الجزاء والعقود هي أيضاً تتفق مع مقاييسه. ولكن ما هي القوانين التي تفشل في تلبية تلك المقاييس؟ ليس كثيراً من الإدارة العصرية في ظل دولة الرفاه. ومن بين تلك التي ستفشل:
 قوانين البيئة التي تفرض معاملات مختلفة لمصالح مختلفة (مثل التمييز بين النقطة وغير النقطة في المصادر، بموجب قانون المياه النظيفة، والذي يعامل أولئك الذين ينبعث من حقولهم التلوث الناتج عن الأسمدة معاملة تختلف بشكل راديكالي عن نفس التلوث الذي يصدر عن مصنع).
 قوانين العمل والعمالة التي تعامل أصحاب العمل والعمال معاملات متفاوتة.
 القوانين التنظيمية التي تَحُدّ من حرية الفرد في اختيار نوع عمله.
وفي الحقيقة، جميع القوانين التي تأخذ حقوق الملكية من شخص ما، وتعطيها بشكل غير مباشر لشخص آخر (ما يسمى بالعطاء التنظيمي) لا تتلاقى مع مقاييس هايك (هايك أدخل بعض الغموض حول هذه النقطة في المجلد الثالث من مؤلفه: القانون، والتشريع والحرية، عندما أوضح أنه ربما يصح وجود استثناءات للمبادئ المذكورة في الكتاب بالنسبة للتوظيف، وحماية البيئة وعدد غير قليل من المناحي الأخرى. وهذه هي من المناسبات النادرة التي أشعر بارتياح عندما أقول بأنه كان على خطأ).
لماذا نحتاج إلى حكم القانون (وليس لأي شيء آخر)؟
ولكن هذا لن يتركنا عاجزين. وكما كتب ريتشارد إبستين ببلاغة، فإن الأنظمة البسيطة يمكن أن تكون في منتهى الفعالية في حل قضايا عالم معقد (أنظمة بسيطة لعالم معقد، 1997). إن مبادئ قوانين الجزاء، والملكية والعقود، هي كافية لتمكين قوى السوق من ابتداع حلول للمشاكل التي تؤرق المشرّعين الذين يحاولون كتابة أنظمة واسعة شاملة، في الوقت الذي يتفادون فيه قضايا مصالح الجماعات الخاصة الكامنة في أعمال الحكومة. وفي الحقيقة، فإن هذه المجموعة الصغيرة نسبياً من القوانين هي كل ما نحتاج إليه، لنفس الأسباب التي تجعلنا في غير حاجة لمساعدة الحكومة في أعمال السوق. نظرية هايك القانونية متجذرة في نظرياته الاقتصادية، وبالأخص، فهمه للدور الحساس الذي تلعبه المعلومات المتباعدة.
وكما بيَّن هايك في بحثه عام 1945 بعنوان: “إستخدام المعرفة في المجتمع،” والذي يحاول تحديد قضايا معينة في السوق، عن طريق تغيير الأسعار بقرارات حكومية، والتي تلحق الضرر بقدرة السوق على التوفيق بين الحاجات والموارد المتنوعة لملايين الأفراد، كذلك فإنه يشرح كيف أن محاولات تسوية قضايا قانونية، من خلال تشريعات تفيد مصالح الجماعات الخاصة، تلحق الضرر أيضاً بالقدرة على وضع القوانين. وفي اللحظة التي تتجاوز فيها المحاكم مجرد تطبيق توقعات الفرقاء بموجب القانون، في محاولة لتحقيق نتائج معينة في التوزيع، فإن قدرة النظام القانوني على التوفيق بين أعمال الأفراد، في تحقيق أهدافهم المتنوعة، سوف يُلحَق بها الضرر.
وعندما لا يعود الناس يعتمدون على تنفيذ اتفاقياتهم بإرادتهم الطوعية، فإن الناس يتجهون بأنظارهم إلى صاحب السلطة المطلقة لنيل الحماية، بحيث يتنافسون على الاعتراف بمركزهم كمستحق للاعتراف، ونيل المعاملة الخاصة التي يسبغها عليهم مثل ذلك الاعتراف. والنتيجة هي دورة لا نهاية لها، من أعمال اللوبي، تنتج عنها أعداد متزايدة من القوانين التي تعطي معاملة مميزة للزبائن من الأقوياء.
إننا نستطيع رؤية هذه الديناميكية في القوائم المتصاعدة لطبقات العاملين الذين تحميهم قوانين العمل. إن القائمة للأسس الممنوعة لقرارات التوظيف قد اتسعت في بعض التشريعات الأمريكية، بحيث أصبحت تشمل التوجهات الجنسية، والمظهر، والوزن والتدخين. بمثل هذه القائمة الواسعة من الأسس المانعة للتمييز، فإن أصحاب العمل لا يعودون قادرين على التوظيف والاستغناء عن العاملين. ولتفادي قضايا أمام المحاكم، فإن أصحاب العمل يجدون أنفسهم مضطرين للإنفاق في برامج باهظة الكلفة للتدليل على انصياعهم لتلك التشريعات ونشر الإعلانات لتجنب أي مظهر من مظاهر عدم اللياقة.
لماذا لا يهتم أي أحد آخر

هل الليبراليون الكلاسيكيون هم وحدهم المهتمون بحكم القانون؟ هذا يبدو أكثر فأكثر بأنه الواقع. إن إدارة محافظة بالاسم في واشنطن لهي أكثر اهتماماً بالنتائج منها بالمبادئ، بحيث تتخلى عن الفيدرالية كلما ترى فرصة مناسبة لفرض نتيجة تريدها على مستوى الوطن. بعض التشريعات التي تخدم الفئات الخاصة هي من الأمور المتوقعة من أي سياسي، كثمن للعمل السياسي (التعرفة على الفولاذ عام 2000، هي مثال واضح على ذلك)، بيد أن التخلي الواسع عن المبدأ في حقول متباعدة واسعة كتشريعات البيئة وإصلاح قوانين الجزاء، تبين افتقاد الالتزام بحكم القانون. وفي الوقت ذاته، فإن المعارضة الليبرالية إسما تبلور تحديات للمرشحين للمناصب القضائية، ليس في ضوء كفاءاتهم، بل بناءً على ما إذا كانوا في صميم التوجه السياسي العام—أو بكلمات أخرى، ما إذا كان المرشحون سوف يتخذون المواقف السياسية “الصحيحة” عندما يعتلون كرسي القضاء. وقد علق أنتونين سكاليا، عضو المحكمة العليا مؤخراً قائلاً، إن النقاشات الحادة التي تجري من خلال الموافقة على تعيين القضاة تدل على أن المحاكم لم تعد تتمحور حول تغيير القوانين الموضوعة، وإنما حول اتخاذ القرارات السياسية:
“عندما نختار محامياً، عندما تختار أناساً لقراءة نص وإعطائه المعنى الصحيح الذي قُصد عند إقراره، نعم، فإن أهم شيء يجب عمله هو استدعاء محام جيد. ولكن من الناحية الأخرى، إذا كنا نختار أناساً على استعداد للتخلي عن ضمائرهم، والخوض في صياغة دستور جديد، يشتمل على مجموعة كبيرة من القيم الجديدة لحكم مجتمعنا، عندها، لا يتوجب النظر في اختيار محام جيد. يجب أن ننظر إلى أناس يتفقون معنا—الأغلبية… ولهذا السبب فإنك تسمع في أحاديث الناس حول هذا الموضوع كلمة معتدل، وأنهم يرغبون في تعيين قاضٍ معتدل. ما هو التفسير المعتدل للنص؟ منتصف الطريق بين ما يعني النص فعلاً، وما تود أنت أن يكون التفسير عليه؟ لا يوجد هنالك ما يُسمى بالتفسير المعتدل للنص. هل تطلب من محام أن يصيغ لك عقداً معتدلاً؟ الطريقة الوحيدة التي يكون فيها لتلك الكلمة أي معنى هي إذا كنت تفتش عن شخص لكتابة القانون، أو كتابة دستور، بدلاً من تفسيره.”
لقد استحوذت السياسية على نظام القانون الأمريكي، وهي نتيجة لا مفر منها، بسبب النشاط القضائي الذي انبثق عن فترة الـ”نيو ديل”، ورضوخ المحاكم إلى السلطات التشريعية والتنفيذية. ونتيجة لذلك، فإن جماعات المصالح من لوبيات أصحاب الأعمال، إلى جماعات “المصلحة العامة،” أصبحوا ينظرون إلى المحاكم كمجرد ميدان آخر لنيل معاملة خاصة. كثيرون هم الذين يستفيدون من هذا الوضع: المحامون، واللوبيات، والمشرعون، وأصحاب المصالح الخاصة أنفسهم. إنهم لا يرون مصلحة في التخلي عن هذا الميدان المربح، عن طريق إعادة تطبيق حكم القانون.
إن إعادة حكم القانون سوف يكون طريقاً شاقاً وطويلاً، بيد أن بلورة الفوائد سوف تساعد في خلق الأجواء التي يمكن من خلالها، جعل ذلك ممكناً. الآراء تؤدي إلى نتائج—وحول هذا الموضوع، فإن الليبراليين الكلاسيكيين يملكون الآراء الأفضل.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 20 آذار 2007.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

الديمقراطية والحرية يعتبرهما المنظّرون السياسيون مفهومين خلافيين، أو، كما قد يقول المنظّر القانوني رونالد دوركين “إننا جميعاً نشترك في فهم الديمقراطية والحرية، ونتحدث عنهما بطريقة ذات معنى، ولكن، لدى الناس غالباً مفاهيم مختلفة جداً لمدلولات الحرية والديمقراطية، فإذا لم يكن لدينا وضوح حول المفاهيم التي نستشهد بها سيكون هناك تشويش بدلاً من حوار حقيقي.” هذه مسألة تم إغفالها في صوغ السياسة الأمريكية الخارجية وتنفيذها، هي التي تعاني من سلبيات عدة بينها الافتقار إلى وضوح المفاهيم.
الديمقراطية المرغوبة، الديمقراطية المستقرة والقابلة للدوام تتطلب حكومة محدودة. مؤيدو الجمع بين الديمقراطية والحرية يرفضون التركيز الأحادي على السيادة الشعبية التي تشكل جزءاً مهماً من خطاب الديمقراطية الحديثة. المطلوب هو ليبرالية دستورية، نظامٌ يتضمن بصورة أساسية مكوِّناً ديمقراطياً—كما شهدنا للتو في الانتخابات الأمريكية الأخيرة عندما صرفت إرادة الجماهير حزباً ووضعت حزباً آخر لإدارة الكونغرس. بيد أن نظاماً كهذا يحتاج إلى قيود واضحة ومحددة حول هيمنة الخيار العام. يجب أن تكون السلطات الديمقراطية محدودة، وإلا فلن تدوم الديمقراطية، فالديمقراطيات المستقرة والدائمة تحتاج ليس فقط الى إطار حكومي محدود بل تحتاج أيضاً إلى فصل السلطات، خصوصاً في ما يتعلق بسلطة قضائية مستقلة تستطيع إرغام الحكومة على الالتزام بالقوانين.
خلافاً لما يفترض مهندسو المحافظين الجدد في مسألة السياسة الخارجية الأمريكية، فإن حكومة ديمقراطية محدودة دستورياً ليست هي التوازن الطبيعي الذي تلجأ إليه المجتمعات الإنسانية عند إزالة عائق صغير. ما شهدناه هو سياسة أمريكية استندت إلى أساس من الفهم الساذج للتطورات القانونية والاجتماعية والسياسية بصورة تثير الدهشة. قال لنا المحافظون الجدد إن كل ما تحتاجه هو التخلص من ديكتاتور يقف عائقاً أمام حركة شعب نحو التوازن الطبيعي. وعلى نحو يثير الدهشة، كانت المسألة هيمنة شخص الديكتاتور على السلطة. إذاً، تخلص منه وقم بإجراء انتخابات و… مرحى! ديمقراطية في العراق!
علاوة على ذلك، لا ينبغي التقليل من شأن المقومات التقليدية للديمقراطية، إذ كان لتركز التفكير الأحادي على الانتخابات في تكوين العملية الديمقراطية، أو حتى في تعريفها، عواقب سلبية على الترويج لديمقراطية ليبرالية أصيلة، لأنه تم إهمال كل من الأسس الأخلاقية للديمقراطية الليبرالية والتفاعلات التاريخية التي تنحو باتجاه إنتاجها. العراق—مرة ثانية—يوفر لنا دليلاً واضحاً: جورج دبليو. بوش استهان، ليس فقط بصعوبة إيجاد ديمقراطية ليبرالية فعلاً بل أيضاً بالنسيج الاجتماعي للعراق والقوى التي توجد عقبات أمام التنمية الاجتماعية والاقتصادية—وحتى أمام إيجاد إجماع سياسي. القول الجوهري هو أن القادة الأمريكيين كانوا سذّجاً بصورة تثير الدهشة حول ظروف إيجاد ديمقراطية ليبرالية دستورية.
والمحاولات لتصدير أو ترويج الديمقراطية باستخدام القوة العسكرية لها آثار سلبية، الأمر الذي إن تجاهلناه قد يسبب لأمريكا الأخطار. لقد شهدنا تحولاً نحو ذهنية عسكرية ولكنها نوع من ذهنية غير منطقية تنزع إلى الحرب. الحرب على الإرهاب هي حرب ذات مفهوم خاطئ، لأن الإرهاب ليس دولة أو جيشاً بل هو تكتيك. في وسعك شن حرب على منظمة مثل “القاعدة” أو على دولة أجنبية مثل الرايخ الثالث أو الاتحاد السوفييتي، لكن شن حرب على تكتيك يتطلب التزاماً مفتوح الأجل. ليس في وسعك، في حرب كهذه، أن تعرف ما إذا كنت قد انتصرت، ولن تعرف ما إذا كانت الحرب قد انتهت، ولن تعرف ما إذا كنت قد أحرزت تقدماً. الحرب على تنظيم القاعدة كانت مبررة، لكن حرباً من دون تركيز على “الإرهاب” ثبت أنها خطأ جوهري. لقد قادتنا إلى هجوم غبي على صدام حسين وأدت إلى تآكل خطير في حرياتنا المدنية كأمريكيين، وأكثرها مدعاة للرعب تعليق إجراءات التقاضي القانونية، وهي أهم ضمان لحرياتنا ولسيادة القانون، بل هي في رأيي حق قانوني أهم من الانتخابات والحملات السياسية. لقد ألقت إدارة بوش هذا المبدأ القانوني الأنغلوساكسوني المحترم منذ عهود طويلة في سلة النفايات.
ورأينا، منذ أن بدأت هذه الحرب، تضخم السلطات الحكومية تحت إدارة وكونغرس أنفقا أموالاً بسرعة لم تشهدها إدارة أخرى خلال الأعوام الخمسين الماضية، وإنشاء أجهزة بيروقراطية جديدة ضخمة ليست سوى وسائل لإفساد مواطنينا ونظامنا السياسي، بما هي وسائل سياسية لمنح وعطايا في سائر أنحاء البلاد. شهدنا زيادات هائلة في المنح الحكومية والتدخل في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. كل هذا تم تبريره بحجة الحرب على الإرهاب وحملة ترويج الديمقراطية في الخارج. لقد ألحقنا ضرراً شديداً بنظامنا الدستوري باسم ترويجه في الخارج.
وقبل أن أختتم، أود الاستشهاد باقتباس من ويليام كريستول، محرر “الويكلي ستاندرد” الذي كان المؤيد المتحمس لغزو العراق. هذا الاقتباس من افتتاحية كتبها في شهر كانون الأول 2003، والتي تشكل تأييداً مدوياً لسياسة بوش الخارجية. يقول: “لقد أوضح بوش تماماً أن الاستراتيجية الوحيدة للخروج من العراق هي استراتيجية النصر، حيث تعريف النصر بأنه الديمقراطية.” إنني أتساءل عما إذا كان السيد كريستول قادراً على ترديد هذه الكلمات اليوم!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 8 آذار 2007.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

يقبع طالب كلية مطرود في سجن مصري، وهو عبد الكريم نبيل سليمان، منتظراً إصدار الحكم بتاريخ 22 شباط. فما هي “جريمته” المزعومة؟ إنها التعبير عن رأيه الشخصي في مدونة على الإنترنت. وما هو الخطأ الذي ارتكبه؟ كانت لديه الشجاعة للقيام بذلك مستخدماً اسمه الشخصي.
ارتكبت السلطات المصرية خطأً أكبر عند مقاضاة عبد الكريم. إن الأمر سيكون مضراً لمصر إذا تمت إدانته، والحكم عليه بالسجن. ولهذا السبب يناشد الأصدقاء المخلصون لمصر الحكومة بتصويب هذا الخطأ، وإسقاط التهم الموجهة ضده. إنه العمل الصحيح الذي ينبغي عليها القيام به، والأفضل كذلك فيما يتعلق بصورة مصر في العالم المعاصر. لقد اجتذبت القضية فعلياً اهتمام الصحف في شتى أرجاء العالم، فضلاً عن منظمة هيومان رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، ومراسلون بلا حدود، ومنظمات أخرى. ونشرت شبكات المدونات غير الرسمية الخبر. وبتاريخ 15 شباط، اجتمع المدونون والناشطون في مجال حقوق الإنسان في كل من باريس، ولندن، ونيويورك، وواشنطن، وأوتاوا، وروما، وبوخارست، لمناشدة السلطات المصرية احترام حرية التعبير. ونحن نوافق على ذلك.
وعبد الكريم هو طالب يبلغ من العمر 22 عاماً، تم طرده من جامعة الأزهر لإبدائه انتقاداً حاداً في وقت سابق، وذلك على مدونته، إزاء المنهاج الصارم للجامعة، ولتطرفها الديني. وتم توجيه أمر له، من أجل المثول أمام المدعي العام بتاريخ 7 تشرين الثاني 2006، بتهمة “نشر معلومات تخل بالنظام العام”، “والتحريض على كره المسلمين”، و”إهانة الرئيس”. وتم احتجازه خلال فترة التحقيق في القضية، وتجديد الاحتجاز أربع مرات. ولم يسمح له بالتواصل المنتظم مع المحامين أو أفراد العائلة.
انتقد عبد الكريم السلطات المصرية لإخفاقها في حماية حقوق كل من الأقليات الدينية والنساء. وعبر بمصطلحات قوية عن وجهات نظره حول التطرف الديني. وهو أول مدون مصري تتم مقاضاته بسبب محتوى ملاحظاته. وما يدعو إلى الدهشة أن الشكوى القانونية جاءت أصلاً من الجامعة التي طردته، والتي كانت فيما مضى مركزاً عظيماً للتعليم في العالم العربي، وتقلص دورها الآن إلى الإبلاغ عن الطلبة المنشقين عن عقيدتهم.
التقى أحد كاتبي المقال (توم بالمر) بعبد الكريم في مؤتمر للمدونين في الشرق الأوسط عام 2006. وما أذهله أن عبد الكريم كان شخصاً هادئاً وخجولاً، ولكنه ملتزم إزاء حقوق المرأة والأقليات. وبقيا على اتصال عبر المحادثة بواسطة موقع غوغل للمحادثة، حذر توم خلالها عبد الكريم لكي يكون حذراً ويفكر بالأخطار المحتملة. إنها النصيحة التي غالباً ما يقدمها الأشخاص الأكبر سناً إلى الشباب. وكان جواب عبد الكريم انه لم يكن خائفاً من التعبير عن وجهات نظره. وخلال مؤتمر عقد في تبليسي، جورجيا، وذلك في شهر تشرين الأول، اتصل عبد الكريم بتوم عبر بريد غوغل، وأخبره أنه تلقى أمراً بالمثول أمام المدعي العام في اليوم التالي. وبواسطة عدد قليل من الرسائل النصية والإلكترونية التي تم إرسالها لاحقاً، وبواسطة عدد من الأصدقاء في منظمات مثل دعم تحالف الأيدي عبر الشرق الأوسط، والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، تم تعيين محام له. وتم نشر الخبر عندما تم احتجازه، وتنظيم احتجاجات صغيرة مميزة أمام السفارات المصرية. وبدون أن تدعمه أية حركة منظمة، انتشرت قضية عبد الكريم في شتى أرجاء العالم. وعلم الكاتب الآخر للمقال (رجا كمال) عن قضية عبد الكريم من خلال شبكة الكتاب العرب. وبصفته موظف جامعة رسمي، صدمه أن تقوم جامعة بتسليم طالب لديها إلى السلطات لكي تقاضيه بسبب وجهات نظره. علاوة على ذلك، وبصفته عربي، فهو قلق إزاء مستقبل التعليم والعلوم في مجتمعات يتم فيها معاقبة وجهات النظر المعارضة، بدلاً من مناقشتها. وقام كل من الكاتبين بالاتصال بالسلطات المصرية لمناشدتها تصويب خطأ واضح، وإطلاق سراح عبد الكريم.
تعتبر مصر من البلدان التي وقعت على المعاهدة الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، والتي تضمن “حرية البحث، وتلقي، ونقل المعلومات والأفكار من كافة الأنواع، بغض النظر عن الحدود، إما شفوياً، أو كتابةً، أو طباعةً، أو على شكل لوحة فنية، أو بواسطة أية وسيلة إعلامية أخرى”. أما الاستثناءات المسموحة فهي ضيقة النطاق، وتقتضي إثبات “الضرورة” قبل فرض القيود؛ وإيداع الآراء على مدونة شخصية لأي طالب لا يتأهل إلى كونه تهديدا للأمن القومي، أو لسمعة الرئيس، أو النظام العام. ليس عبد الكريم من يشكل خطراً على مصر، بل مقاضاته بحد ذاتها.
وسواء كنا نتفق أم لا مع الآراء التي عبر عنها عبد الكريم، فإن تلك مسألة غير مهمة. إنما ما يهم هو المبدأ: كون الناس أحراراً في التعبير عن آرائهم الشخصية دون خوف من السجن أو القتل. إن الكتابة في المدونات يجب ألا تكون جريمة.
© معهد كيتو،منبر الحرية، 21 شباط 2007.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

نعمت العديد من الدول العربية تاريخياً بالنفط والغاز الطبيعي اللذان أصبحا المحرك الأساسي للتغيرات الاقتصادية التي حصلت خلال القرن الماضي. هذه هي الأخبار الحسنة، أما الأخبار السيئة فهي أن النفط والغاز الطبيعي هما الأساس الاقتصادي للعالم العربي، وما فشل العالم العربي في تحقيقه هو التنوع الاقتصادي.
إذا كان لنا أن نستثني النفط والغاز من مختلف الاقتصادات العربية لثلاثمائة مليون شخص الذين نسميهم العالم العربي، فإن مجموع الناتج القومي الإجمالي لهم سيكون أقل من ذلك لفنلندا ذات العدد السكاني الذي يتجاوز الخمسة ملايين بقليل. لقد فشل العالم العربي (باستثناء جيوب معزولة قليلة) فشلاً ذريعاً باللحاق بالنهضة الاقتصادية في معظم أنحاء العالم الأخرى. العالم العربي يكافح الآن لكي يلحق ببقية العالم، وينبغي أن تكون نقطة البداية بالنسبة له هي إصلاح النظام التعليمي.
كان أداء التعليم العالي في العالم العربي قاصراً وأنتج خريجين يواجهون صعوبات في الاندماج ومواكبة الاقتصاد الذي يزداد عولمة (عالمية). وفي دراسة أجرتها مؤخراً المجموعة الدولية للخبراء المصنِّفينومعهد سياسات التعليم العالي في واشنطن تبين أن هناك جامعة عربية واحدة فقط تقع في ذيل 3000 جامعة عالمية. نقيضاً لذلك هناك جامعات إسرائيلية تقع ضمن أعلى 200 جامعة في القائمة.
يبدو أن الحمض النووي للجامعات العربية ضعيف التكوين، ويبدو أن هناك حائطاً فعلياً بين الجامعات والعالم الحقيقي. ثقافة الجامعة لا تشجع على الفردية والأفكار الجديدة، والمناهج جامدة ومحمية. هناك حاجة ماسة لإصلاح النظام.
الالتحاق بالجامعة، كما تبين لي في زيارتي للعديد من الجامعات العربية، يُنظر إليه كحق وليس امتيازاً، وبعض الدول العربية تدفع رواتب شهرية لكل الطلاب الملتحقين بجامعات الدولة المعفاة من الرسوم—بغض النظر عن احتياجاتهم المالية أو تخصصاتهم أو أدائهم الأكاديمي. هناك ضعف في مستوى تدريس العلوم الطبيعية والرياضيات بالمقاييس الدولية، ومعظم الجامعات العربية تدرس طلابها ماذا يفكرون بدلاً من كيف يفكرون، وما لم تتغير هذه الذهنية فلن يظهر أمل كبير في الأفق.
الدكتور هشام غصيب هو رئيس جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا في الأردن، وهو من أنصار التغيير في الجامعات العربية، وقد قال في مقابلة أجريت معه مؤخراً بأن تركيز المجتمع ينبغي أن يكون على تشجيع التفكير الحر، في حين أن النظام الحالي يعمل على تخريج طلاب “خاضعين لجميع قوى المجتمع”.
إضافة لذلك فالكثير من الخريجين محدودي التركيز في دراساتهم وليس لديهم فرص تذكر لاستخدام تعليمهم الجامعي في مهنهم المستقبلية. هناك، على سبيل المثال، عشرات الآلاف من الخريجين في العالم العربي يتخصصون كل عام في الشريعة الإسلامية (القانون الإسلامي) أو اللغة العربية. الأغلبية الساحقة من هؤلاء لن يجدوا وظائف، ويعملون بجزء من طاقتهم أو وقتهم في القطاع العام المترهل فيسهمون بذلك في أعمال حكومات منتفخة وفاقدة الكفاءة أصلاً. زيادة على ذلك فإن خريج كلية لا يجد عملاً هو شخص تعيس ومحبط ومؤهل لأن يصبح مرشحاً للتجنيد للعمل في سبيل قضايا أصولية.
يجب على مؤسسات التعليم العالي أن تنظر إلى احتياجات القطاع الخاص وتحدد الطلب المستقبلي في سوق العمل وتعديل المناهج وفقاً لذلك. ويجب على الجامعات تقليص حجم برامج الدراسة أو تحديد الالتحاق بالبرامج التي لا يحتمل أن تحقق فائدة اقتصادية للمجتمع.
إن قيمة الجامعات الجيدة لا تقدر بثمن لأي مجتمع، وقد استفاد لبنان من وجود الجامعة الأمريكية في بيروت، وهي الجامعة التي أنشأها مبشرون عام 1866 كجامعة خاصة غير طائفية ومتخصصة في الفنون الحرة فأصبحت منارة تغيير في لبنان وسائر أنحاء الشرق الأوسط، وقد ظل الالتزام بتفكير ناقد وتعليم ناجع في مجال الفنون الحرة، ولا زال، في صميم رسالتها. بيد أن الجامعة الأمريكية في بيروت، وللأسف، هي مجرد واحدة من الاستثناءات القليلة في العالم العربي.
يجب على البلدان العربية إدماج التعليم العالي في تخطيطها الاستراتيجي، ويجب أن تكون هناك شراكة بين القطاع الخاص والقائمين على النظام التعليمي. يتعين على الجامعات العربية التركيز على التخصصات الموجهة للسوق. هناك ميل لدى الحكومات العربية لإدارة الجامعات، وربما كان إعطاء الحرية للقطاع الخاص لإنشاء جامعات وكليات خاصة هو خطوة في الاتجاه الصحيح.
يجب أن تخدم الجامعات الاقتصاد الوطني وتقوم بتدريب قادة المستقبل الذين سيقومون بتحويل المنطقة لتنويع اقتصادياتها ومساعدتها في اللحاق اقتصادياً ببقية العالم. حتى الآن لا زال الأداء تعيساً، وهناك حاجة ماسة للإصلاح، فالنفط لن يبقى إلى ما لا نهاية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 11 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

يقول ديفيد كاميرون (زعيم حزب المحافظين البريطاني): “آن الأوان لنعترف بأنه هناك أمور كثيرة أخرى للحياة غير المال، وآن الأوان للتركيز على الرفاه العام (والتي يعني بها السعادة) بدلا من التركيز على الناتج المحلي الإجمالي فحسب.” مع تصديق وتأييد كاميرون، أصبحت سياسات السعادة رسميا مسألة متعددة الحزبية، ولم تعد ملكا لنظير حزب العمل ريتشارد لايارد والاشتراكيين الديمقراطيين الآخرين. ولماذا لا يكون الأمر هكذا؟ بالتأكيد لا أحد يُجادل في أنه هناك أمور كثيرة هامة للحياة عدا عن المال، أو للسياسة عدا عن حجم الاقتصاد. مع ذلك، فإن مقارنة كاميرون تعني أن زيادة الرفاه العام قد تأتي على حساب نمو الناتج المحلي الإجمالي وتحرير الاقتصاد. علاوة على ذلك، إذا كنت حقا تُقرّ بالاهتمام بالسعادة، فيجب عندئذ أن تعني أيضا بالحرية الاقتصادية والنمو الاقتصادي. فإن سعادتنا تتوقف عليهما أكثر من أي شيء آخر تقريبا.
يُجرى في الغالب ما يُسمى بـ”أبحاث السعادة” مع المسوحات التي تسأل الناس ببساطة عن درجة سعادتهم، وتُربط هذه الإجابات بأخرى تتعلق بالدخل ووضع الأسرة والوظائف وأمور أخرى عديدة. وجاءت معظم النتائج التي تم تسجيلها من هذه المسوحات كالآتي: بالرغم من أن متوسط الدخل الحقيقي قد ازداد إلى أكثر من الضعف في البلدان المتقدمة منذ منتصف القرن، فإن متوسط الشعور بالسعادة لم يتزحزح ولم يتغير. ومع ذلك، وبالرغم من ثبات اتجاه السعادة خلال العقود، فإن الأغنياء هم الأكثر احتمالا من غيرهم في وصف أنفسهم بـ”سعيدين جدا” في أي وقت، الأمر الذي حمل عددا من الباحثين على الاستنتاج أن الناس يضعون قدرا كبيرا من الاهتمام بمركزهم النسبي في سُلّم الدخل يتجاوز اهتمامهم بالمستوى المطلق لثروتهم. وبما أن قوانين الرياضيات الجامدة تضمن أنه من غير الممكن ضغط أكثر من 20% من السكان ضمن الخُمس الأعلى لتوزيع الدخل—مهما كان حجم الاقتصاد كبيرا—فإن ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأن حجم الاقتصاد والنمو الاقتصادي لا يهمان.
إن هذا النوع من التفكير تحديدا يدفع الاقتصاديين مثل آندرو أوزوالد من جامعة وارويك لكتابة مقالات بعنوان “كان الهيبّيون مُحقين بشأن السعادة”، والتي تُناقش أن “الأعمال الإحصائية الجديدة التي قام بها علماء النفس والاقتصاد” أثبتت أنه “حين تمتلىء مستودعات دولة ما بالطعام، فلا داعي لأن تصبح تلك الدولة أكثر ثراء”.
هل هذا حقا ما تُبيّنه الأعمال الإحصائية الجديدة؟ أظهرت دراسة حديثة حول السعادة الذاتية لحوالي 400000 شخص من دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية قام بها كل من رافائيل دي تيلا من جامعة هارفارد وروبرت ماكولوش من كلية إمبيريال أنه في حين لا يوجد تأثير إيجابي ضخم لأي متغير واحد على متوسط السعادة على مر الزمن، فإنه لا يوجد لأي منها تأثير أكبر من تأثير الناتج المحلي الإجمالي للشخص، باستثناء متوسط العمر المتوقع. وإذا لم يؤدِّ الثراء إلى زيادة السعادة، فعندها، وبالاستناد على الإحصاءات، لن يؤدي خفض البطالة أو زيادة المنافع الاجتماعية، أو أي أمر آخر، إلى زيادة السعادة أيضا.
بينت دراسة أخرى أكثر شمولا أجريت في عام 2006 من قبل كل من تومي أوفاسكا من جامعة ريجينا وريو تاكاشيما من جامعة غرب فيرجينيا ونُشرت في مجلة الاقتصاد الاجتماعي أن للناتج المحلي الإجمالي للفرد تأثيرا إيجابيا متواضعا نسبيا على السعادة، بينما نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي هو إلى حدّ ما هدية أكبر. لقد بيّن تاكاشيما وأوفاسكا بطريقة مدهشة أن الحرية الاقتصادية—وهي مقياس للاختيار الشخصي وحرية التنافس وحماية الملكية الخاصة وعناصرها الأساسية—تتفوق على جميع المتغيرات الأخرى. ومن جهة أخرى، ووفقا لأوفاسكا وتاكاشيما، فإن حجم الحكومة يرتبط سلبيا بالسعادة. وفي كل يوم، يزداد تشابه السياسة المبنية على السعادة مع السياسة المبنية على مبادىء وأسلوب ثاتشر.
إن الواقع المتعلق بعدم ارتفاع متوسط السعادة الذاتية مع ارتفاع متوسط الدخل لا يعني أنه لا فائدة من التحول إلى الثراء. إذ يعتبر وجود معدل نمو ثابت أمرا ضروريا للإبقاء على السعادة وأشياء أخرى جيدة ضمن مستوى عالٍ مستقر. (تصور هرّة مقيدة على مقصلة ومربوطة بدراجة وأنه يتوجب أن تدار دوّاسة الدراجة بسرعة كبيرة جدا لكي تبقى شفرة المقصلة عالية. الإبطاء يؤدي إلى قتل الهرة.)
في كتاب النتائج الأخلاقية للنمو الاقتصادي، قال عالم الاقتصاد من جامعة هارفارد، بنجامين فريدمان، أن النمو الاقتصادي المطّرد “يعزز فرصا أكبر واحتمالا للتنوع وقابلية للتحرك الاجتماعي والتزاما بالإنصاف وإخلاصا للديمقراطية”، وهذه قائمة أشك في أن يعارضها أي شخص يعمل في السياسة.
يجادل فريدمان بأنه عندما تتوسع الكعكة الاقتصادية ويشعر معظمنا بأننا أغنى مما كنا عليه في الماضي، عندئذ نولي اهتماما أقل لمُجاراة جيراننا ونكون أقل غيرة من موضعنا في التسلسل الهرمي الاقتصادي ونصبح رحبي الصدر نسبيا نحو القادمين الجدد في الاقتصاد، مثل المهاجرين. ولكن عندما يُشعرنا التباطؤ الاقتصادي بأننا قد توقفنا مكاننا، فمن المحتمل عندئذ أن نشعر بتهديد أولئك الصاعدين السلم الاقتصادي من الأسفل، فنغلق الباب بعنف ونوصده بالمزلاج. ويُعتبر الركود الاقتصادي وصفة للخوف من الأجانب وعدم الاستقرار السياسي ومبادىء الشعبية المتعصبة الكريهة، والتي أشك في أنها وصفة للسعادة. وبالتالي، فإن ثراء أمة ما له مغزى ومعنى.
المشكلة في أبحاث السعادة هي أنها في كثير من الأحيان مرآة: ننظر إلى البيانات فنرى انعكاسا لأيدولوجيتنا ومذهبنا الفكري. لا يخرج أحد من أدب السعادة وقد تحول سياسيا. سيجد الباحث الهادىء وغير المتحيز أن البيانات المتوفرة عن السعادة تُعطي قليلا جدا، وفي نفس الوقت، تعطي الكثير لبناء سياسات محددة على نحو مفيد. وسيجد الباحث في الأغلب أن ديمقراطيات السوق الحرة هي المكان الذي تنتعش فيه السعادة إلى حد بعيد. ولكننا عرفنا مسبقا أننا نريد إحدى هذه الديمقراطيات. وبالفعل لدينا واحدة منها. ومع ذلك، فإن بيانات السعادة لا تُخبرنا إذا كان ينبغي أن نُفضِّل نوع الليبرالية الديمقراطية السويدية أم الأمريكية، وهذا هو الجدل الرئيسي.
ربما أصابنا التعب من محاولة برهنة سياساتنا المفضلة على أسس من الحرية والمساواة والتفوق والكفاءة والعدالة، تلك الاعتبارات التي أدت بنا إلى قناعاتنا هذه في المقام الأول، ونرى أننا بحاجة إلى شيء مثل “السعادة المحلية الإجمالية” لإنعاش سياساتنا. ولكن ماذا يعني إعلان الولاء للسعادة المحلية الإجمالية عمليا عندما تكون بيانات السعادة المتوفرة رديئة وغير ملائمة لتحديد كيفية إصلاح نظام الرعاية الصحية، أو هل يجب أن نذهب لنحارب في العراق، أو لزيادة منافع دولة الرفاه الاجتماعي؟ لا شيء يذكر.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 6 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

يقول ليو تولستوي: “الملك هو عبد مملوك للتاريخ.”
أعلن الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، خلال حديثه أمام جمهور من المناصرين الموالين له في ولاية باريناس وهي ولاية مسقط رأسه في فنزويلا، في اليوم الثاني من شهر تشرين الأول، بان ثورته البوليفارية تقترب من نهاية سن مراهقتها.
وقال شافيز محذرا: “عليكم أن تقوموا بشد الأحزمة لأنكم على وشك أن تواجهوا وابل دفق أحمر اللون ونحن ندخل حقبة جديدة من الثورة…”
وفي اليوم الثالث من شهر كانون الأول سوف يتوجه الفنزويليون نحو صناديق الانتخابات لاختيار رئيسهم القادم، مع انه منذ هذه اللحظة، والتي هي قبل اقل من شهرين من أول تصويت يتم إدلائه في الانتخابات، تبدو إعادة انتخاب شافيز أمرا محتما. فاستطلاعات الرأي تقوم بإظهار الرئيس الفنزويلي على أن له الصدارة المهيمنة على مانويل روزاليس مرشح المعارضة، مع أن شافيز يقوم ببذل المزيد من الوقت في الأشهر الأخيرة في سبيل تسيير بعثات دبلوماسية خارج البلاد ومن بعدها يقوم بالحملة الانتخابية في الداخل.
عند انتخابه أول مرة في العام 1998، أظهر شافيز انحرافا جذريا عن المؤسسة السياسية القائمة في بلاده، فقد كانت فنزويلا، ومنذ أعوام الستينيات من القرن الماضي تحكم من قبل حزبين سياسيين رئيسيين قاما بالتعاون فيما بينهما بمحاولة نظامية تهدف إلى عدم تشجيع بروز أحزاب ثالثة. ووعد شافيز لدى اعتلائه سدة الرئاسة، الذي كان مستبعدا، بأنه سوف يعمل على تغيير النظام السياسي في فنزويلا بحيث ينهي الحكم السياسي الاوليغاركي الراسخ في البلاد وانه سوف يحكم باسم الفقراء والمهملين.
وقد وعد بان يقوم بالثورة، وبعد مضي 7 سنوات في منصبه، يقول مناصروه بأنه وفى بالوعد.
ولكن الحقيقة هي أن الثورة تعتبر أمرا معقدا وكذلك الحال بالنسبة للعملية السياسية التي تجري حاليا في فنزويلا. فبينما قام شافيز وبشكل مؤكد بإنهاء نظام حكم نخبة سياسية حكمت البلاد في السابق فان هناك الكثير من السياسة المحلية التي تنتهجها حكومته يبدو وكأنه دون نتاج تخطيط جذري وتجديدي لا يقل عن الحالة الأسوأ التي يكرر فيها التاريخ نفسه.
وفي كتابها البارع المسمى مفارقات الوفرة، قامت تيري لين كارل أخصائية العلوم السياسية في جامعة ستانفورد بدراسة تأثيرات الازدهار النفطي في أعوام السبعينيات من القرن الماضي على الدول المصدرة للنفط في جميع أنحاء العالم. ومن خلال إبدائها اهتمام خاص نحو فنزويلا، بل وأيضا بتناولها للاستراتيجيات التنموية للأمم الأخرى كإيران والجزائر، لاحظت لين كارل بأنه حتى وإن كانت هذه الدول متلقية لتحويلات ثروة ذات أرقام قياسية ضخمة لم تنشأ عن حروب، فان هذه الدول، في عقود السنوات اللاحقة، ما زالت مبتلية بالفقر وبالبنية التحتية البالية.
وفي النهاية، استنتجت لين كارل بان اعتماد الدول البترولية كفنزويلا على تصدير فردي قد أحدث تأثيرا وقام بصياغة نواحي عديدة في الدول بدءا من نوع نظام الحكم وانتهاء بمسار السياسة العامة، وانه في أحيان كثيرة عمل على إنهاك هذه الدول بوسائل تدميرية. وخلال أعوام السبعينيات من القرن الماضي حيث كانت فنزويلا مغمورة بالأموال النفطية، قام الرئيس كارلوس اندريه بيريز عندئذ بإشغال بلاده في برنامج شعبي طموح تم به تأميم الصناعة النفطية وإدانة وسطاء المال الدوليين والعولمة على انهم “عمال تطهير عرقي مأجورين لصالح النهج الشمولي.” وعندما قارب الازدهار النفطي في أعوام السبعينيات من القرن الماضي على الانتهاء، فان برامج الرفاه الاجتماعي الجماعية التي قام اندريه بيريز بتنفيذها قد ثبت بأنها غير منيعة بدرجة كبيرة وشهدت فنزويلا عقدين من الركود الاقتصادي والإحباط السياسي انتهت بانتخاب شافيز في العام 1998 رئيسا لها.
وفي مقابلة جرت حديثا مع لين كارل أبلغتني بقولها: “بكل تأكيد، إن ذلك كله سوف يحدث مرة ثانية، أليس كذلك؟ فالطريقة التي يتم بها بدء الأعمال في فنزويلا والطريقة التي يتم بها بدء الأعمال في معظم الدول النفطية هي أن الإيرادات النفطية تذهب بشكل مباشر إلى الفرع التنفيذي، وبهذا الشكل سوف تقع تحت سلطة الرئيس.”
وعندما يكون سعر النفط مرتفعا يستطيع زعماء الدول النفطية أن ينفقوا بكل حرية وبلا رقيب. فالعملية بكاملها تسهم في مركزية السلطة وفي تقويض المؤسسات الليبرالية التي تعتبر ضرورية بالنسبة للديمقراطية المرسخة. وفي الأوقات التي تكون بها أسعار النفط عالية بأرقام فلكية، يمكن للرئيس أن يمارس السلطة دون أن يقوم ببناء اجماع فيما بين لاعبين عديدين في الدولة.
ويقول فرانسيسكو رودريغز الذي ترأس مكتب المشورة الاقتصادية والمالية للجمعية الوطنية الفنزويلية من العام 2000 إلى العام 2004 والذي يقوم في الوقت الحالي بالتدريس في جامعة وسليان في ميدلتاون بولاية كينيتيكت، بان “ازدهار الدولة النفطية يعمل على تشجيع نهج الشعبية والمركزية نظرا لحصول الدولة على مزيد من الموارد ومزيد من السلطة، وتعتبر أسعار النفط المرتفعة شرطا مسبقا من شروط إمكانية تحقيق نهج الشعبية في الدولة النفطية وانه في ظل الأسعار المنخفضة سيكون من الصعب جدا إمكانية الحصول على الشعبية. أما الشيء الذي يقوم به الازدهار النفطي فهو الوصول إلى درجة بحيث لا تكون الدولة بحاجة إلى مجموعات أخرى. وعند قدوم شافيز إلى السلطة حيث توجب عليه أن يقوم بالتفاوض لان سعر النفط كان منخفضا، جاء متحدثا باعتباره سياسي معتدل إلى حد كبير جدا. فالدولة، عندما تنفذ مواردها، سوف تكون بحاجة إلى القطاع الخاص والى تلك المصادر البديلة للموارد التي توحي بأنها لا تستطيع أن تتخذ موقفا معارضا.”
والدول النفطية تناور من خلال قواعد مختلفة عن بقية دول العالم. ففي حين تبدو، حسب الرأي الخارجي، العملية السياسية الفنزويلية وكأنها منقطعة انقطاعا جذريا عن الماضي فان حقيقة الأمر هي عدم وجود شيء ثوري في تمويل برامج الرفاه الاجتماعي الجماعية من خلال الإيرادات النفطية. وبالنسبة لحالة الدولة النفطية، عندما يكون الكثير جدا مما تكون الدولة قادرة عليه معتمدا على سعر السوق المتواصل لأية سلعة منفردة، فان الحكومات لا تحدد الفرص المناسبة، بل الفرص هي التي تحدد الحكومة.
وعندما قامت لين كارل بالذهاب إلى فنزويلا أول مرة في أعوام السبعينيات من القرن الماضي، زارت المرحوم خوان بابلو بيريز ألفونسو، ذلك المحامي الفنزويلي الذي يتم ذكره في معظم الأحيان بكونه “مهندس منظمة الاوبك للدول المصدرة للنفط.” وفي وسط ازدهار النفط في أعوام السبعينيات من القرن الماضي عندما كانت الأموال النفطية تصب داخل البلاد وكانت الحكومات الفنزويلية تفاخر بأنها على وشك تحقيق تنمية حقيقية مستدامة في البلاد قام بيريز ألفونسو بتحذيرها بقوله بان الفرص الجيدة سوف لن تدوم.
وقد تنبأ قائلا: “سوف ترون، النفط سوف يجلب لنا الدمار، بعد عشر سنوات من الآن، بعد عشرين سنة من الآن.”
بالتنسيق مع مجلة ريزن أونلاين.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 17 تشرين الأول 2006.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

ازداد الإنفاق الحكومي في الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 45% في السنوات الخمس الماضية؛ فقد عانت الحكومة من عجز في موازنتها في ثلاثة وثلاثين سنة من السنوات السبعة والثلاثين الماضية؛ فكانت كلف برامج البالغين تنتفخ وتفرض أعباء كبيرة على كاهل الأجيال القادمة من العمال الشباب.
من الواضح ان صانعي السياسة يعجزون عن إدارة “حكومة حكيمة مقتصدة،” كما نصح توماس جيفرسون في خطابه التنصيبي الافتتاحي. المشكلة الرئيسة هي أن قواعد الموازنة الفيدرالية قد تكدست لصالح توسع البرامج المستمر. ان أدوية الرعاية الصحية الباهظة والانفجار في الإنفاق الحكومي توضحان كيف ان انعدام السيطرات البنيوية يقود إلى زحف غير منتظم للإنفاق، والإنفاق والإنفاق.
تتم إدامة بعض الانضباطية، على مستوى الولاية، من خلال السيطرات الموازناتية المكثفة. فعلى سبيل المثال، ان لدى كل ولاية (ما عدا فيرمونت) متطلبا تشريعيا او دستوريا للقيام بموازنة موازنتها المالية. بالإضافة إلى ذلك، ان لدى قرابة العشرين ولاية نوعاً من الحد النهائي للايرادات او الإنفاق. فقد حدد دستور كولورادو نمو إيرادات الولاية عند حاصل جمع نمو السكان زائدا التضخم. أما الإيرادات الزائدة فوق الحد المقرر فتسترد إلى دافعي الضرائب. ان هذا النوع من الحد الأعلى في الموازنة هو ما تحتاجه واشنطن بالتحديد.
نادرا ما جرّب الكونغرس الحدود العليا في الموازنات. ان قانون غرام-رودمان-هولنغز لعام 1985 قد فرض سلسلة من الحدود والأهداف لانخفاض العجز على مدى خمس سنوات. فاذا لم تتم تغطية هدف العجز في عام معين، يقوم الرئيس بصورة أوتوماتيكية بقطع الإنفاق او منعه عن مجموعة واسعة من البرامج. استبدل الكونغرس قانون غرام-رودمان-هولنغز بقانون تفعيل الموازنة لعام 1990، والذي فرض حدا سنويا أعلى على حرية التصرف بالإنفاق، وجعل من الأكثر صعوبة توسيع برامج الحكومة.
أما إصلاحات الموازنة المالية الأكثر وضوحا فقد أخفقت في المرور. فقد اقترح مجلس الشيوخ عام 1982 تعديلا لموازنة الموازنة المالية في الدستور، وصوّت لصالحه 69 ضد 31، ولكن التعديل اخفق في الحصول على موافقة الثلثين في المجلس. اما في عام 1995 فقد اقترح المجلس تعديلا لموازنة الموازنة المالية بأغلبية 300 صوت ضد 132، ولكنه فشل بفارق صوت واحد في مجلس الشيوخ.
يسعى اصلاحيو اليوم نحو طرق تشريعية، وليس دستورية، للسيطرة على الموازنة المالية، والتركيز على سيطرة الإنفاق، وليس تقليل العجز، بسبب الإدراك بان العجز هو منتج عرضي لمشكلة الإنفاق المفرط.
يقوم النائبان جون كامبل (نائب عن ولاية كاليفورنيا)، وتود اكين (نائب عن ولاية ميزوري) بتقديم مشاريع قوانين لتضع حدا تشريعيا أعلى على النمو السنوي في إجمالي الإنفاق الفيدرالي. وستغطي هذه السيطرة ليس فقط حرية التصرف في الإنفاق في ظل قانون تفعيل الموازنة، بل برامج الحكومة أيضا. سيكون هذا مفهوما لان البرامج هي التي تدفع الحكومة صوب الأزمة المالية.
في ظل سيطرة الحد الأعلى، سيجري تحديد نمو الإنفاق مقارنة بنمو مؤشر مثل الناتج المحلي الإجمالي او الدخل الشخصي. من الخيارات الأخرى في قياس الحد الأعلى هو مجموع نمو السكان زائدا التضخم. على سبيل المثال، إذا تنامى السكان بنسبة 1% والتضخم بنسبة 3%، فان الإنفاق الفيدرالي يمكن إن ينمو إلى 4% كحد أعلى. ان سيطرة الحد الأعلى ستضمن أن الحكومة لا تستهلك حصة زائدة من الاقتصاد، مثلما ستفعل في ظل السياسات العامة المعتادة في واشنطن. إذا ما انتهت السنة المالية ولم يتم ضبط السيطرة، سيكون لزاما على الرئيس قطع الإنفاق الشامل، بواسطة النسبة المئوية المطلوبة لكي تسد حاجات الحد الأعلى. تمتلك قوانين غرام-رودمان-هولنغز، وقانون تفعيل الموازنة، آليات للحجز او المصادرة، ولكنها لا تغطي سوى أجزاء من الموازنة.
لن تحلّ سيطرة الحد الأعلى للإنفاق مشكلاتنا المالية. ولكنها ستوفر حماية ضد سيناريو الحال الأسوأ للمزيد من الإنفاق الذي يحدد الرئيس بوش حجمه، ولكن ذلك لن يضمن قيام الكونغرس بإتباع خطة إصلاح مرتقبة، مثل الخطة الجديدة من لجنة دراسة المجلس الجمهوري.
من المساوئ الأخرى للحد الأعلى للموازنة هي انه إذا ما قرر صانعو السياسة أنهم لا يريدون الالتزام بها، فإنهم يستطيعون إلغاءها. إذا ما كانت هناك سيطرة للحد الأعلى، فان المحافظين داخل الكونغرس وخارجه سيتوجب عليهم الدفاع عن رمز بارز من التقيّد المالي. وبمرور الوقت، سيسهم الوعي الشعبي والعرف الموازناتي في دعم تفعيل السيطرة.
يحتاج المحافظون إلى أفكار إصلاح جديدة ليلتفوا حولها. عند الذهاب إلى انتخابات عام 2006 والانتخابات الرئاسية الأولية لعام 2008، سيدّعي كل مرشح ان يكون مسؤولا ماليا، وسيعبر عن اهتمامات ومخاوف جدية حول الإنفاق المفرط والعجز. وسيكذب معظم المرشحين، أيضا.
ان وضع سقف للإنفاق، والذي هو اختبار فاصل لكافة المعتقدات المتعلقة بالموازنة المالية لكل مرشح، لهو فكرة إصلاح جديدة سيبدأ الكونغرس بالجدل حوله مباشرة. هل يجب استمرار موازنة الحكومة في النمو بسرعة تفوق سرعة نمو موازنة العائلة المتوسطة؟ ام على صانعي السياسة ان يقوموا ببعض المبادلات ويقطعوا برامج الأسبقيات المتأخرة؟ إذا كان القادة الجمهوريون يعتقدون بالخيار الثاني، فعليهم اعتناق سيطرة شاملة للحد الأعلى على الإنفاق الفيدرالي. ان القيام بهذا الشيء سيوقظ أيضا الدعم والتأييد من القاعدة المحافظة ذات التشكيك المتزايد.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 6 أيلول 2006.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

أود التحدث عن الأفكار الرئيسية في كتابي وعنوانه: مستقبل الحرية: الديموقراطية غير الليبرالية في الوطن والخارج، وأحاول تطبيقها على الولاية الواحدة والخمسين. ربما لم تدركوا بعد أن لدينا ولاية واحدة وخمسين، ولكنه حقاً لدينا، وهي تدعى العراق. وقد حصلنا عليها على أساس مبدأ العلاقات الدولية المتغطرسة الذي أسماه توماس فريدمان مبدأ حظيرة الفخار: “إن تكسرها، تشتريها”. الآن وقد امتلكناها، علينا أن نحسب كم ستكلفنا وكيف سنصلحها. وينطوي هذا على ضرورة أن نعرف جزءاً من العالم لم نكن نألفه من قبل ولم نتعرف عليه كما يجب. يعرّف آمبروز بيرس الحرب في كتابه الرائع:قاموس الشيطان، على أنها طريقة الله لتلقين الولايات المتحدة درساً في الجغرافيا. شرعنا الآن في أجندة طموحة جداً في العراق. ولكن جلب الديمقراطية للعراق أمر صعب. وأعتقد أنه سيكون صعباً بسبب شيء تجسده الفكرة الرئيسية فعلاً في كتابي -فما نريد جلبه إلى العراق ليس الديموقراطية فحسب، بل الديموقراطية الليبرالية. في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية كانت هناك حركة كبيرة صوب الديمقراطية في معظم أرجاء العالم، لكن العديد من الحكومات التي تشكلت في تلك العملية لا تبدو، ولا تشعر، ولا تفوح منها رائحة الديمقراطية.
لديكم، مثلاً، حكومة هوغو شافيز في فنزويلا التي كانت في الأساس حكومة دكتاتورية منتخبة. ولديكم حكومة في روسيا يديرها فلاديمير بوتين. قام بوتين، الذي تم انتخابه بحرية ونزاهة، بعزل نصف حكام الأقاليم وتعيين حكاماً أعلى مرتبة بدلاً منهم، وطرد ثلث أعضاء البرلمان الروسي (الدوما)، وأرعب الإعلام الروسي وهو الذي كان يوماً إعلاماً حراً ونابضاً بالحياة، وأرغمه على السكوت التام، وما زال يواصل حرباً على الشيشان قام بخلالها الجيش الروسي بقتل قرابة 100 ألف شيشاني معظمهم من المدنيين. أهذه حقاً ديمقراطية؟
الليبرالية إزاء الديمقراطية

يتألف النموذج الغربي للحكومة، الذي نعتز به، من عرفين مختلفين بعض الشيء، أصفهما في كتابي: العرف الليبرالي الدستوري، والعرف الديمقراطي. ويتمكرز العرف الديمقراطي على المشاركة العامة في الحكومة—أي على الانتخابات أساساً. وأفضل تعريف للديمقراطية هو أنها شكل من أشكال الحكومة يتم فيه اختيار نظام الحكم بانتخابات حرة ونزيهة.
من ناحية أخرى، فإن الليبرالية الدستورية لا تتمكرز على عملية اختيار الحكومات بل على أهداف الحكومة. والهدف في العرف الليبرالي الدستوري هو الحفاظ على الحرية الفردية، ذلك العرف الذي بدأ مع ماجنا كارتا (الميثاق الأعظم)، بل حتى قبل ذاك التاريخ، يكون منصبّاً على القيود المفروضة على السلطة الحكومية. ومن الناحية التاريخية، استوجب الأمر تطوير الحصون والمتاريس لحماية حقوق وحريات الأفراد من السلطة التعسفية—من قبل الدولة أو الكنيسة أو المجتمع.
كثيراُ ما نرجح أن هذين العرفين متشابهان نوعاًً ما، وكثيراً ما ينظر إليهما على أنهما شيء واحد، لأنهما قد اندمجا معاً في العالم الغربي. ولكنهما في الواقع مختلفان تماماً كما أنهما انبثقا في مفاصل تاريخية مختلفة تماماً.
بزوغ الحرية الغربية

أستهل كتابي بالرجوع إلى عام 324 بعد الميلاد لأن ذلك—في اعتقادي—هو تاريخ بدايات الحرية الغربية، كان قسطنطين حينذاك قد قرر أن يحوّل عاصمته من روما إلى بيزنطة. لقد كان قراراً في غاية الأهمية لأنه اصطحب معه كل بلاطه وحاشيته باستثناء شخص واحد وهو أسقف روما. وبفعله هذا بدأ قسطنطين عملية فصل الكنيسة عن الدولة. وللمفارقة أصبحت الكنيسة أول وأكبر محك أو رقيب على سلطة الدولة في العالم الغربي. وقد كانت بحق المرة الأولى في التاريخ الإنساني التي تستطيع فيها مؤسسة مستقلة عن السلطة الحكومية أن تدقق وتراقب عمل وسلطة الحكومة.
ثم تلتها سلسلة متعاقبة كاملة من المؤسسات والتقاليد المشابهة في العالم الغربي، وظهور الأرستقراطيات الإقطاعية التي راقبت وضبطت سلطة الحكومة أيضاً. ولم تكن ترمي في أغلب الأحيان هذه الرقابات إلى حماية حرية الفرد. كانت الماجنا كارتا، مثلاً، عبارة عن ميثاق خاص لحماية امتيازات البارونات. كانت وثيقة تقول للملك: “لا يمكنك التعدي على حقوق البارونات.” ولكنها، بهذا الفعل، حدّت من السلطة الملكية المطلقة. ثم تلاها أيضاً بروز الرأسمالية التي كانت على الأرجح المحك أو الرقيب الأشمل على سلطة الدولة لأنها أنتجت طبقة كاملة من الناس، وهي الطبقة البرجوازية، التي استقت قوتها من المجتمع وليس من الدولة. وقد أثمر ذلك عن مجتمع مدني مستقل، وهو اصطلاح يشير في أصوله إلى رجال أعمال القطاع الخاص. وفي الواقع كان القاضي النزيه (غير المنحاز)، وليس الاستفتاء العام، هو رمز الحكومة الغربية.
ولقد استغرق ذلك مئات السنين إلى أن وصلنا إلى الديمقراطية. ومن المهم جداً أن نتذكر أن بريطانيا عندما اعتُبرت المجتمع الحر الدستوري الأكثر ليبرالية في العالم عام 1800—بعد أن تغنى بمديحها مونتسكيو (الشاعر الفرنسي)—لم يصوت حينها سوى 2% من البريطانيين. وكي لا نعتبر أنفسنا مختلفين في هذا الخصوص، في انتخابات عام 1824، لم يصوت سوى 5% من الأمريكيين. ولكن أمريكا حرصت بقوة على أن يسود حكم القانون وعلى احترام وحماية حقوق المُلكية وحقوق أخرى. قاد عرف القانون إلى الديمقراطية ومن ثم تداخلت مع الديمقراطية لتفرز الديمقراطية الليبرالية.
الاستبدادية المنتخبة في أوروبا

انحرف هذان التقليدان حتى في التاريخ الغربي. يتبادر إلى أذهان الناس أحياناً أن أدولف هتلر جاء إلى السلطة في ألمانيا بانقلاب سري معين، ولكن هذا ليس صحيح على الإطلاق. إذ أنه جاء إلى سدة الحكم عقب الانتخابات الشهيرة والتي تم التلاعب فيها في تشرين الثاني عام 1933. ولكن كانت هناك ثلاثة انتخابات قبل ذاك فاز فيها الحزب النازي بأغلبية الأصوات. ظهرت النازية والفاشية والقومية الشعبية في أوروبا على أعقاب حركات شعبية حقيقية وغالباً عن طريق الانتخابات.
إننا لا نحاول أن نجلب إلى العراق المشاركة الشعبية—عملية اختيار الحكومة—فحسب، بل نحاول أن نجلب تقليداً طويلاً متكاملاً من الأعراف الدستورية والليبرالية الغربية. يستطيع أي فرد كان أن يجري انتخابات، ولكن من الصعب جداً أن يخلق حكم القانون، وأسس حقوق المُلكية، وسلطة حكومية استجابية وشفافة ونظيفة. سيكون هذا صعباً لأن العراق يواجه في طريقه عقبتين أو ثلاثاً.
لعنة النفط
أولاً مشكلة النفط. أسميها مشكلة مع أن الكثيرين في الحكومة الأمريكية يعتبرونها حلاً. قبيل الحرب كنا نقرأ تصريحاً بعد الآخر لمسؤولي الحكومة وهم يمجّدون فضائل النفط—موضحين كيف أن النفط يعني تنمية الاقتصاد العراقي، ويدفع تكلفة جهود إعادة الإعمار، وكيف أنه سيضع البلد على طريق سلس نحو الحداثة.
هناك مشكلة واحدة فقط في هذه النظرية. من بين جميع البلدان النفطية في العالم، تعد النرويج دولة الاقتصاد الرأسمالي العامل الوحيد، ذات نظام حكم لبيرالي ديمقراطي. وكانت النرويج قد حصلت على ديمقراطيتها قبل اكتشاف النفط بوقت طويل. وفي كتابي، وصفت الدول ذات الحصول السهل على واردات النفط “بدول صندوق الائتمان.” مثل هذه الدول لا تتكبد عناء تحديث مجتمعاتها، وتحديث قوانينها، وبناء اقتصاد السوق. فباستثناء النفط، تساوي الصادرات التجارية لكل العالم العربي الذي يبلغ عدد سكانه 290 مليون نسمة، صادرات فنلندا التجارية بسكانها الأحد عشر مليوناً. والسبب يكمن في أن المنطقة يمكنها الحصول بسهولة على دخل لا يتطلب كداً أو جهداً.
أمة مقسمة

هذه المشكلة ليست اقتصادية فحسب، بل إنها سياسية أيضاً، لأن الحكومة عندما لا تحتاج إلى أن تجبي الضرائب من شعبها، فإنها لا تحتاج أن تعطيه شيئاً بالمقابل. أما نحن فقد تعلمنا ذلك بالطريق الأصعب. لقد اندلعت الثورة الأمريكية لأن الأمريكيين شعروا بأنهم يدفعون الضرائب من دون أن يكون لهم تمثيل يذكر في البرلمان البريطاني. أما العائلة المالكة السعودية فقد عقدت صفقة مختلفة مع شعبها. فهي تقول: “لن نفرض عليكم الضرائب ولن نمثلكم.” وهذا الأمر، بمعنى ما، عكس شعار الثورة الأمريكية القائل: “لا ضرائب، لا تمثيل.” ويؤثر هذا الاختلال الوظيفي السياسي على جميع المجتمعات الغنية بالنفط.
والمشكلة الجسيمة الأخرى هي أن العراق ممزق بالاختلافات. فشعبه شيعة وسنة وأكراد وتركمان، وفئات أخرى. ولأجل معرفة ما الذي يمكن أن ينجم عن هذه الاختلافات، إرجعوا إلى تاريخ أوروبا وأنظروا كم كان من السهل على أصحاب الخطب الدهماء أن يحشدوا الناس على أساس المناشدات الوطنية الفجة. قبل عشر سنوات فقط، شاهدنا وضعاً مشابهاً في يوغوسلافيا السابقة، البلد حكمه قادة دكتاتوريون شموليون لعقود من الزمن. تقوّض نظام الحكم السابق وإنهار، ومن الفراغ راح الجميع يندفعون صوب الانتقال السريع للديمقراطية. غير أنه كان على القادة السياسيين الصرب والكروات أن يقوموا بحملات للحصول على الأصوات. لم تكن مناشداتهم الشعبية جداً، والمؤثرة جداً متعلقة بالإصلاح التعليمي أو السياسة الضريبية، بل كانت مناشدات فجة للعِرق، أو الدين، أو الطائفة، أو المجموعة الإثنية. خرجت دائرة القومية الصربية والقومية الكرواتية عن نطاق السيطرة. فكانت النتيجة تصفية عرقية، وبالتالي الشروع في الإبادة الجماعية.
لا يجب أن يحدث هذا بالضبط في العراق، ولكن العراق يمتلك حقاً ثقافة سياسية ما زالت فتية وغضة جداً، إذ لم تكن السياسة أو الأحزاب السياسية مسموحاً بها من قبل. فأخذ الناس يتحركون ويتعبأون على أساس الراديكالية الشيعية، أو الأصولية الإسلامية، أو القومية الكردية. وربما يواجه الليبراليون العلمانيون صعوبة بالغة في حشد الجماهير وفي المناشدة لأجل الأصوات.
تاريخ من القمع

أما المشكلة الأخيرة فهي أن العراق بلد شرق أوسطي. وأعني بهذا أنه، كسائر بلدان الشرق الأوسط، اتبع نمطاً معيناً في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. كان نظام حكم علماني ذا توجهات غربية تحول فيما بعد إلى نظام استبداد. فرجال الشرق الأوسط من الصداميين والناصريين والأسديين يرتدون جميعاً البذلات، وجميعهم محدثون على الطراز الغربي. وعندما تنظر إليهم شعوبهم لا ترى سوى الطغيان والقمع.
كان هؤلاء الحكام يزجون في السجن أي فرد يلمح، ولو بإشارة، بمعارضةٍ سياسيةٍ أو يحاول تأسيس حزب سياسي—أو حتى نادي روتاري. قال لي صديق مصري مؤخراً: “لو جلس أربعة أشخاص في مقهى في مصر وتحدثوا عن السياسة، لَزُجوا جميعاً في السجن.” المكان الوحيد الذي لم يمنعه أحد في الشرق الأوسط هو الجامع. لذا فإن كل الاستياء والتطرف يعد وينظم في الجامع، وأصبح الدين لغة المعارضة السياسية في الشرق الأوسط. لم يسمح صدام حسين بوجود الأحزاب، ليبرالية كانت أم محافظة، ديمقراطية أم جمهورية. ولكن مثل كل قائد في الشرق الأوسط، لم يتجرأ على إغلاق الجوامع، ولم يخذل شيوخ القبائل. وهكذا، عندما انهار نظام الحكم، بقيت المساجد والقبائل قائمة فاعلة.
الحرية قبل الديمقراطية

إذا ما نظرتَ إلى الحالات الناجحة لدى البلدان غير الغربية التي قامت بتحولات نحو الديمقراطية الليبرالية الأصيلة، تجد أن جميعها تقريباً متمركزة في شرق آسيا أو مستعمرات سابقة للامبراطورية البريطانية. وإن جميعها اتبع نمطاً متبايناً عن النمط الغربي—أي حكم القانون والرأسمالية أولاً، ومن ثم الانتخابات والديمقراطية. ومن الأمور التابعة، في الحال المثالي، هو أن تُعدَّ مؤسسات الحرية في المكان المناسب قبل إرساء دعائم الديمقراطية. إذا أجريت الانتخابات أملاً بأن الدستورية ستبزغ فيما بعد، فإن ذلك قد لا يتحقق.
في إفريقيا، قام اثنان وأربعون بلداً من أصل ثمانية وأربعين بإجراء الانتخابات، وانتجوا حكومات كانت في الأغلب غير ليبرالية تماماً. ولكن في بلدان مثل كوريا الجنوبية، وتايوان، وماليزيا، وتايلاند، حيث أقاموا حكم القانون، وطبقة تجارية وأخرى وسطى مستقلة، ومن ثم الديموقراطية، تحقق لدينا شيئاً بالغ الأهمية. الديمقراطية هي العمل الشاق والجاد. إنها تستحق كثيراً أن نسعى إلى نشرها، ولكنها تحتاج إلى عملية من إشاعة روح التحضر والتحرر أكبر مما يتصور الناس.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 2 كانون الثاني 2006.

عزيز مشواط10 نوفمبر، 20100

في المستقبل القريب سيصبح عاديا أن نقرأ على منتوجات من قبيل دمى الأطفال العبارات التالية” تم تصميمها في الولايات المتحدة الأمريكية، وتم نسج شعرها في اليابان، وبفرنسا وقع إخراج ملابسها فنيا، أما حاسوبها الناطق فقد برمج في الهند، في حين أن صباغتها، المستخلصة من البترول السعودي، مصنوعة في التايوان، قبل أن يتم تجميعها النهائي بالصين”.
هكذا تصف الكاتبة الأمريكية “سوزان برغر” في كتابها Made in Monde  الأثر “السحري” لمفعول العولمة في تشتيت جغرافية التصنيع العالمية، بعد أن صار الإنتاج الإنساني، بمختلف تجلياته الثقافية والمادية، عابرا للقارات وللحدود. تنبع أهمية استحضار مقولة “برغر” من قيمة الكتاب الذي شارك فيه خبراء أمضوا أكثر من خمس سنوات في دراسة أثر العولمة على مناطق مختلفة من العالم.
لا أدري إن كانت “سوزان برغر” وهي تقوم بسرد الجنسيات المشاركة في إحدى عمليات الإنتاج المستقبلي، قد عمدت بوعي أو بدون وعي إلى حضور العرب فقط كمشاركين بالمادة الأولية، من خلال البترول السعودي. لكن لا يهم وعي “برغر” بالمسألة أم لا، مادام الواقع يثبت أن العالم العربي لا يزال مستهلكا بالدرجة الأولى، ولا تتعدى مشاركته في العملية الإنتاجية تزويد العالم بالمواد الأولية والخامة الطبيعية(البترول، الفوسفاط، الحديد…). أما المشاركة في الإنتاج والإبداع الإنسانيين فتبقى شبه منعدمة، إذ أشار أكثر من تقرير إلى انخفاض مستوى المشاركة العربية في الاختراع والإبداع إلى مستويات قريبة من المنعدمة.
ولم يكن تقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجي التابع للأهرام (2008) بعيدا عن هذا التوصيف، حين أشار في إحدى فقراته إلى أن “العرب دخلوا القرن الواحد والعشرين بدون رؤية واضحة”. فـ”بعد أكثر من خمسين سنة على محاولات اللحاق بركب الحضارة الإنسانية لا تزال معظمها تقبع في المؤخرة، ليس فقط وراء البلدان الغربية بل وراء عدد من دول شرق آسيا” يقول أحمد ولد عبد الله الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لغرب إفريقيا في تقديمه لكتاب بعنوان “التحديث الإسلام والديمقراطية”.
بالتأكيد، هناك إجماع عام على حقيقة اتساع الهوة بين الدول العربية والدول الغربية. ففي منتصف السبعينيات، يقول تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003، كان المستوى الاقتصادي والمعيشي لكوريا الجنوبية موازياً لحال دول عربية كمصر والمغرب، غير أن الهوة اليوم بين هذه البلدان وكوريا صارت ضخمة إلى درجة تستحيل معها كل المقارنات.
لقد فشل العالم العربي في التموقع الصحيح خلال العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين بفعل أسباب عديدة. أولها استمرار مقاربة المستجدات الإنسانية بمنطق إما أسود وإما أبيض. وتعود هذه الرؤية المستحكمة في الذهنية العربية إلى الثنائية التي تشكل صلب العقل العربي والمتمثلة في حلال /الحرام ومقدس /المدنس.
أما السبب الثاني والذي لا يقل تأثيرا عن الأول ويرتبط به ارتباطا عضويا، فيعود إلى استمرار حضور التقسيم الفقهي للعالم والقائم على تقسيمه إلى دار حرب ودار سلم مما يجعل من فرص الاستفادة من التقدم الإنساني شبه منعدمة. يساهم هذا التقسيم في تكريس العداء لكل ما هو حداثي بحجة انتمائه إلى الغرب. فلا تزال آثار العداء الناجم عن التجربة الاستعمارية، وحالة ما بعد الاستعمار ماثلة في المخيال الاجتماعي العربي.
يتفق الجميع إذن، على اتساع الهوة بين الدول المتقدمة والعالم العربي الإسلامي اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. بفعل فشل استراتيجيات التنمية بكل أبعادها. غير أن الأزمة تصبح أعمق بفعل التوتر المستمر بين إكراهات الحفاظ على النظام السائد، الذي تتقاطع فيه مصالح مجموعة من القوى السياسية والدينية والنخب المستفيدة، والحرية التي تفرضها هجرة الأفكار والمنتوجات العابرة للحدود بفعل العولمة.
يتولد عن التخوف من التغيير وفقدان مصالح الجهات الدينية والسياسية والاقتصادية المستفيدة من الانغلاق، عداء مستحكم لكل جديد. هذا العداء غالبا ما تستثمره مجموعات مذهبية متطرفة في العالم العربي الإسلامي فتنتج  خطابا إسلامويا، يساهم بهذا القدر أو ذاك، في الحيلولة دون إمكانية استفادة المجتمعات العربية من الفرص الهائلة التي تقدمها العولمة للتحديث والعقلنة والتنمية.
وهكذا، تركز الخطابات الإسلاموية في نقدها للعولمة على أبعاد أخلاقية صرفة. فيتم  تفسير العولمة بطريقة تجعلها انحلالا أخلاقيا ميئوسا منه، يهدد الهوية بالتشتت. وتصبح العولمة بهذا المنظور “رجس من عمل الكفار” الراغبين في السيطرة على العالم. ينتج عن هذا الوضع استثمار القوى الحضارية الصاعدة كل إمكانيات العولمة من أجل فرض نفسها كفاعل اقتصادي وسياسي وككيان حضاري بالمنطقة، فيما يظل العالم العربي يقدم رجلا ويؤخر أخرى بل غائبا على كافة الجبهات.
وضعية التردد أمام العولمة، والعجز عن الانخراط في التنمية والإنتاج الإنساني، حذا بالبعض إلى اتهام الإسلام كدين بالمسؤولية عن هذه الأوضاع. لابد هنا من التنويه إلى ضرورة التفريق بين الإسلام كدين والخطابات الناتجة عن الإسلام كثقافة بمعناها الأنتروبوبوجي. يمكننا هذا الحذر من تفادي كل انزلاق نحو اتهام الإسلام/ الدين بالمسؤولية عن تقهقر العرب والمسلمين. بمعنى آخر إذا كان واقع حال العالم العربي الإسلامي مترديا، وتقبع جل دوله في مؤخرة الترتيب العالمي، فإن ذلك لا يعود بالضرورة إلى نقائص فطرية، بل يعود إلى القبضة الخانقة للذهنية المتشددة، التي عملت وتعمل جاهدة على تشويه الطبيعة الأصلية للإسلام.
إن العرب والمسلمين في حاجة لنبذ الفهم المتشدد للدين وتفادي القراءات الحرفية التي تمنعهم من الاستفادة من المنتوج الإنساني، لأن الترياق الضروري للعالم العربي الإسلامي للخروج من حالة التشرذم واللاتنمية يتمثل في استثمار كافة الإمكانيات التي تتيحها العولمة. ورغم أن الكثيرين ينظرون إلى مفعول العولمة باعتباره قد قلص من خيارات البشر في التصرف بحرية، وحكم عليهم بإتباع نموذج أحادي في التطوير، إلا أن العولمة، إلى جانب ما يمكن أن تشكله من صعوبات، توفر فرصا استثنائية للنجاح والاستفادة من المنتوج الإنساني بكل حرية.
إن الحيز الذي تتركه العولمة للاختيار والفعل الحر يفوق كثيرا ما تقترحه التصورات السائدة حول العولمة، غير أن استثمار هذه الوعود الكثيرة والفرص الهائلة، التي تقدمها العولمة يقتضي أولا الاعتراف بوجود هذه الإمكانيات، والتراجع عن تلك الفكرة التي تعتبر العولمة إقصاء وتدميرا لحرية الاختيار.
إن العولمة ليست فعلا طارئا على البشرية، بل تمتد جذورها العميقة إلى تأملات الفلاسفة اليونان حيث نجد زينون الرواقي يقول « إن الناس يجب أن لا يتفرقوا في مدن وشعوب لكل منها قوانينها الخاصة، لأن كل الناس مواطنون، ولأن لهم حياة واحدة ونظاماً واحداً للأشياء، كما هو حال القطيع الموحد في ظل قاعدة قانون مشترك»
إن الرغبة في التوحيد الذي تخلقه العولمة كما أشار إلى ذلك زينون الرواقي منذ ما قبل الميلاد، هي نفس الفكرة التي عبر عنها أنطوني جيدنز، في كتابه “بعيداً عن اليسار واليمين  مستقبل السياسيات الراديكالية” الذي ترجمه شوقي جلال، حين يقول “إن  العولمة تتعلق في حقيقتها بالتحول في الزمان والمكان، ويمكن تحديد معناها بأنها العمل أو التأثير عن بعد، ولشيوعها علاقة بالكثافة المتزايدة في السنوات الأخيرة لوسائل الاتصال الفوري وحركة الانتقال الجماعية الواسعة على نطاق الكوكب… وتأثير العولمة مَسَّ أيضاً أساليب الحياة المحلية بل والشخصية… بل يمكن الحديث عن نشوء نظام اجتماعي جديد –ما بعد تقليدي”
يعتقد أصحاب النظرة التبسيطية أن نشوء ما يسميه جيدنز بنظام اجتماعي ما بعد تقليدي، الذي تفرضه العولمة مضر، خاصة وأنه يمس أساليب الحياة. إلا أن سنة التطور تفيد أن المنافسة لا بد وأن تطور الأنساق الضعيفة لتصير أكثر تنافسية. لكن بعيدا عن هذه النزعة التشاؤمية، فإن الأنساق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية مطالبة في ظل العولمة بتقوية وجودها . وليست المنافسة التي تفرضها العولمة، سوى حافز على التطوير.
على عكس كل توقعات المتفائلين والمتشائمين بشأن تأثير العولمة، هناك سيناريوهات كثيرة متعددة وناجحة سواء في الدول المتقدمة أو تلك السائرة في طريق النمو. ففي العالم نماذج متعددة للاستجابة للعولمة كأرقى مراحل الحداثة فالنموذج الياباني والنموذج الصيني والنموذج الماليزي والنموذج الكوري الجنوبي، مؤشرات تثبت اختلاف المجتمعات في تعاطيها مع المنتوج الغربي.
إن دراسة هذه النماذج بعمق وبعيدا عن تضخيم الذات أو تقزيمها، مركزي في مسيرة البحث عن أسباب غياب العرب عن المساهمة في الحضارة الإنسانية الراهنة. يقتضي الأمر أيضا، كما يشير إلى ذلك الدكتور إبراهيم أبراش في مقالة عميقة حول العرب وتحديات العولمة، تعاملا عقلانيا وموضوعيا مع موضوع العولمة وغيرها من النظم الفكرية والاقتصادية المستوردة. يجب أن نتوقف عن تضخيم الذات بطريقة غير موضوعية وغير عقلانية. أما نقطة الانطلاق حسب “أبراش” فهو “الإقرار بأننا كمجتمعات عربية وإسلامية توقفنا عن المساهمة الحضارية منذ القرن الخامس عشر (سواء كانت الأسباب داخلية كخضوعنا لنظم استبدادية متسلطة أو خارجية كالاستعمار)، وإن غالبية مشتملات الحضارة الحديثة هي نتاج الآخر، العالم الغربي والمسيحي، والقول بأننا كنا أصحاب حضارة أو ساهمنا في وضع أسس الحضارة الإنسانية لا يفيد في شيء ما دمنا اليوم نعتمد في معيشتنا على منتجات الآخر الثقافية والاقتصادية والعلمية، وهذا القول لا يعني التقليل من شأن السلف الصالح، فهو سلف أولاً وكان صالحاً آنذاك ثانياً”.
© منبر الحرية،20 تموز/يوليو  2010

peshwazarabic8 نوفمبر، 20100

إن الهبوط العالمي في البورصة الصيف الماضي قد قضى على تريليونات من الدولارات. وقد كان أصحاب الأسهم الأغنياء الأكثر تأثراً، لذا انخفض عدم التكافؤ العالمي في الدخل بشكل كبير.

ومع هذا فإن فقراء العالم لا يحتفلون!

ولمَ لا؟ لقد أقلقت التباينات المرتفعة في الدخول المحللين عبر العالم لسنوات عديدة. وتنشر صحيفة نيويورك تايمز افتتاحيات تعبّر عن قلق عظيم من نتائج مكتب إحصاء السكان الأمريكي بأن أجور الأغنياء في أمريكا ترتفع بشكل أسرع من أجور الفقراء.

ويخاف السياسيون الآسيويون من أن النمو السريع والتفاوتات المتزايدة في الدخول سوف تجعل التوترات الاجتماعية أكثر سوءً. ففي الهند، يبقى 300 مليون شخص فقراء حتى مع دخول عدد من الأشخاص في قائمة مجلة فوربز لأصحاب المليارات العالميين.

وتجد دراسة حديثة لبنك التنمية الآسيوي بعنوان “عدم التكافؤ في آسيا”، أن نيبال والصين قد شهدتا أعظم ارتفاع في حالات عدم التكافؤ في القارة. ويقول إفزال علي، كبير اقتصاديي البنك، إن التفاوتات المتزايدة في آسيا قد تؤدي إلى خلل في التماسك الاجتماعي وإشعال شرارة الحرب الأهلية.

إن الهبوط في البورصة يقدم تجربة طبيعية لاختبار هذه الدراسة. وبحلول منتصف شهر آب، خسر أغنى خمسة هنود بمجملهم أكثر من 10 مليار دولار. وبلغ مجموع خسائر جميع المساهمين الهنود 52 مليار دولار، وهو ما يساوي تقريبا الناتج المحلي الإجمالي لبنغلادش. ولم يكن بإمكان حتى أكثر الضرائب “دراكونية” أن تقلص الثروة بهذه الدرجة.

ولكن هل يحتفل الهنود الفقراء؟ هل خفّف انخفاض معدل التفاوتات في الدخول من التوترات الاجتماعية وليّن الماويين الهنود أو جعل المسلحين في كشمير أقل تسلحا ورغبة في القتال؟

وقد قلص الهبوط في وول ستريت حالات التفاوتات في الدخول بين الولايات المتحدة وإفريقيا. فهل أصبح الإفريقيون أكثر سعادة أو أقل ميلا للنزاع المدني؟

وحتى افتراض هذا سيكون أمرا سخيفا. إلا أن المفهوم يتضمن تحليلا أكبر.

يعتقد كثير من المحللين أن المجتمع يصبح أسعد عندما تنخفض التفاوتات في الدخول ويصبح أقل سعادة عندما ترتفع هذه التفاوتات. لكن الحقيقة أكثر تعقيدا. ففي أوقات الركود الاقتصادي، تنخفض الأرباح بشكل أسرع من الأجور، لذا تتحسن التفاوتات في الدخل. لكن الفقراء لا يستمتعون بفترات الركود لأنهم لا يريدون أن يفقدوا وظائفهم. فهم يفضلون ازدهارا اقتصاديا عندما ترتفع الأرباح بشكل أسرع من الأجور على الرغم من أن التفاواتات في الدخل تزداد أيضا.

وفي الهند، تعتبر الولايات مثل بيهار وأوريسا فقيرة جدا بينما تعد ماهاراشترا وغوا ولايتين غنيتين. ولكن بينما يغتاظ الاقتصاديون من تفاوت الدخول، فإن فقراء بيهار وأوريسا لا يفعلون. فهم يعرفون أن آلامهم لا يسببها الأغنياء في الولايات الأخرى بل مالكو الأراضي المحليون والعصابات الإجرامية والسياسيون. ويقلق الفقراء من التفاوت في الدخول عندما تبقيهم الطبقات المحلية المسيطرة في الأسفل. ولكنهم لا يرغبون في إفقار الصناعيين في الولايات الغنية، بل يريدون فقط أن يصبحوا هم أنفسهم أغنياء. فأسواق البورصة تجذب الوظائف والاستثمار، لذا يرحب الفقراء بها.

إن جل ما يريده الفقراء هو فرصة للارتقاء. ويستطيع كثير من الهنود المدنيين الحصول على التعليم والكهرباء والاتصالات وقد جنوا مكاسب كبيرة. ولكن مئات الملايين يفنون حياتهم في القرى من دون مدارس محترمة أو مراكز صحية أو طرق أو كهرباء أو هواتف. ولا يمكنهم الوصول بسهولة إلى المحاكم أو الحكم الجيد.

ويصل معدل التغييبية 25% بالنسبة للمعلمين في الهند، والنسبة أعلى بالنسبة لموظفي الصحة. كما تعد النسبة الأعلى في المناطق القروية النائية: فلا يرغب أي معلم يعيش في المدينة بأن يوظف هناك. وتصل الأمية إلى 65%، ونصف أولئك الذين ينهون تعليمهم المدرسي يُعدون أميين فعليا. كما أن أربعة من كل خمسة أطفال يعانون من فقر الدم، هذا بالإضافة إلى انعدام الكهرباء أو وجودها بشكل متقطع بحيث أن أكشاك الإنترنت القروية تستمد الطاقة من ألواح الطاقة الشمسية.

وبعد عقود من الاستقلالية ومليارات الدولارات من الدعم الأجنبي، يبقى التكافؤ في الفرص حلما في معظم الدول النامية. ويكمن الخطأ في الحكومات ووكالات التنمية ولا يرتبط كثيرا بنشوء الطبقة الصناعية وشركات برامج الحاسوب.

إن دراسة بنك التنمية الآسيوي محقة تماما في استنتاج أن الحكومات الآسيوية يجب أن تفعل المزيد لتحسن تكافؤ الفرص. حيث أن الحرمان الفظيع من الوصول إلى المنشآت الأساسية على مستوى القرى يؤسس عدم تكافئ في الفرص ويحول دون ارتقاء الفقراء. وفي المناطق الحضرية، ازدادت الفرص على مر العقود وتحسن التطور الاجتماعي والدخل. ولكن التسهيلات في القرى—وبعض الأحياء الفقيرة في المدن—مثيرة للشفقة بحيث أصبحت هذه الأماكن أشراك للفقراء.

وإنني أشعر بغضب شديد لأن 300 مليون هندي يبقون فقراء. كما أشعر بغضب، ليس لأن بعض الهنود قد أصبحوا من أصحاب المليارات بل لأن كثيرا آخرين لم يصبحوا كذلك. ومثل الناس في أنحاء العالم، فإنني وأبناء بلدي لا نريد رؤية زوال الثروة. فما نريده هو فقط أن نصبح أنفسنا أغنى.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 31 تشرين الأول 2007.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018