شؤون سياسية

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

يُنْسَبُ للإمام عليّ أنه قال: “مَنْ مَلَكَ استبد”!، وهو ما أكدهُ ابن خلدون لاحقاً بقولِهِ: “إنَّ المُلْكَ يعْني التغلُب والحُكم بالقهر، فصاحِبُ العصبيّةِ [السُلطة] إذا بلغَ رُتْبَةً طلبَ ما فوقها؛ فإذا بلغَ رُتْبَةَ السُؤْدَدِ والإتباع ووجدَ السبْيلَ إلى التغلُّبِ والقهر لا يَتْرُكهُ لأنه مطلوبٌ للنفس”.
وما نودُ أنْ نؤّكِدَ عليه من خلال هذين الاستشهادين هو أنَّ “السُلطةَ المُطلقة مَفْسَدَةٌ مُطلقة”. وتبعاً لذلك، تتأتى الأهمية القصوى لمبدأ “تدوُال السلطة” في المجتمعات الإنسانيّة لأنَّ الإِبقاءَ على نظامٍ سياسيٍّ مُعين في السلطة لمدة طويلة من شأنِهِ أن يُفرزَ بمرور الوقت كياناتٍ فاسدةٍ تدور في فلكه، أو تتركزُ من حوله مهما بلغت درجة نجاحه ونزاهته.
غيْرَ أنّ أغلبَ الأنظمةِ العربية، والتي عادةً ما تتشدَّقُ بالديمقراطية، دائماً ما “تُباغت” مواطنيها بإجراءِ تعديلاتٍ دُستوريّةٍ تُتيحُ لها البقاءَ في السلطة إلى الأبد!. ولعل آخر هذه الأخبار “المُباغتة” ما حدثَ مؤخراً من إقْرارِ البرلمانِ الجزائريّ تعديلاتٍ دُستوريّةٍ تُتيحُ للرئيس بوتفليقة الترشح لولايةٍ رئاسيّةٍ ثالثة!!.
وفي الواقع، إنَّ ما يجري في الجزائر الآن ليسَ بعيداً عن مُحاولاتِ التوريث التي تتمُ سراً أو علانيّةً في أكثر من مكان (سواء في ليبيا أو في مصر) اقتداءً بسوريّا بشار الأسد. كما أنهُ ليْسَ بعيداً أيضاً عمّا حدث في الماضي من تأبيدِ السُلطة لصالح أنظمةِ الحِزبِ الواحد.
ومما لا شك فيه، أنَّ جانِباً مُهماً من العقدِّ الاجتماعيَّ الذي تكْشِفُ عنهُ “رُوحُ القوانين”، على حد تعبير مونتسكيو، إنَّمَا يظْهَرُ في البنيّةِ العامَّةِ للسُلطةِ السياسيةِ وكيفيةِ توزيعهَا. وتبعاً لذلك، فإنَ أيَةَ تعديلاتٍ دستوريّةٍ ينْبغي أنْ تنْعَكِسَ آثارُها الإيجابيّة بصورةٍ واضحةٍ على النموذج الكُليّ للنظامِ السياسيّ الذي تنقُلنا إليهِ، أوْ لا تنقُلنا إليه.
ومن ثمَّ، إذا ما قُدِّرَ لأيّةِ تعديلاتِ دُستوريّةِ أنْ تتوافقَ مع‏َ رُوحِ القوانين فسيُفْضي ذلكَ حتماً إلى تحقيقِ أمْرينِ رئيسين‏:‏
الأول: إنتاجُ نمطٍ للعلاقة بين الدولةِ والمجتمع يكونُ بديلاً للنمط السائد في العصور الوسطى والقديمة‏.‏
الثاني: بناءُ نظامٍ سياسيٍّ يُتيحُ للمجتمع تحقيقَ أكبر قَدْر مُمكن من الانسجام الحُر‏،‏ وبناءُ التوافُق من خلال نماذجَ وهياكلَ واضحة تُنظِّمُ التفاوُضَ الاجتماعيّ على المستوياتِ كافةً.
أي أنَّ المحكَ الأساسيّ في أيةِ تعْديلاتٍ دُستوريّةٍ إنمَّا يتلخصُ في التساؤلِ حولَ ما إذا كانت تسْعى إلى إعادَّةِ توزيعِ السُلُطاتِ، أمْ تعْزيزِ مَرْكزيتِها؟!.
ولدينَا بالطبعِ أسبابٌ كافيةٌ للتركيز على هذه الناحية. فبالنظر إلى مُجْملِ التعدّيلاتِ التي تمتْ بمصرَ مؤخراً يتَّضِحُ أنَّها في مُحصلتِها النهائيّة لمْ تُحقِق أيَّاً من الأهْدَافِ التي تمَّ تروِّيجُها من أجلِّ تمريرهَا. بل إنَّها، على العكسِ تماماً، أدَّتْ إلى تقْوّيةِ الاختصاصاتِ الكُليّةِ لرئيسِ الجُمهورية‏، وذلك بعدَمِ تصدِّيهَا لهذِهِ المُشكِلة أصْلاً مُكتفيّةً بتركِ الوضعِ على ما هو عليه، فَضْلاً عن أنَّهَا زادتْ من حِدَّةِ الاحتقانِّ السياسيِّ في المُجتمعِ المِصْريّ.
لِنَقْتَرِبَ الآنَ من وضعيَّةٍ مُغايرَةٍ تماماً في النُظُمِّ الدِيمُقراطيةِ الرائِدة. ففي الولايات المتحدة الأمريكيةِ، على سبيل المثال، استطاعَ الرئيسُ بوش كسْرَ ما يُسمى بـ “لعنةِ الرجلِ الأبيض” والبقاءِ حيّاً حتى نهايةِ ولايتهِ الثانيّة. ومع ذلك، يؤكد البعض أنه ليسَ بمقدورِهِ أن يقْهَرَ قاعِدةَ “قَيْدِّ الوُلايتَيّنِ” والتي نبعتْ من العُرفِ الدُستوريِّ الذي وضعَهُ جورج واشنطن، أول رئيس لأمريكا، حينَ رفضَ البقاءَ لفترةٍ ثالثةٍ، بالرُغمِّ من أنَّ “قيْدَ الوُلايتيّنِ” لم يكُن آنذاكَ قاعدةً قانونيّةً منصوصٌ عليها في الدُستورِ الأمريكيّ.
لكن بمرور الوقت تحوّلَ هذا العُرف إلى قاعِدةٍ ثابتةٍ لم يَخْرِقهَا سُوى رئيسٍ أمريكيٍّ واحد، هو روزفلت، الذي بَقِيَ في الحُكمِ لأربعِ وُلاياتٍ متتالية.‏ ومع أنَّ فترةَ حُكْمِهِ الإجماليةَ، كما لاحظ البعض، لم تَزِدْ على اثنتيْ عشرةً سنةً، وعلى الرُغمِ من أنَّها هي التي صنَعتْ أمريكا كقوَةٍ عُظمى بعد تحررهَا من الكسادِ العظيم وفوزها في الحربِ العالميةِ الثانية، لمْ يترددِّ الأمريكيونُ في وضعِ التعديل رقم ‏22‏ من الدُستور عامَ ‏1951‏ والذي نصَ رسمياً على “قيْدِ الوُلايتين” مُحدِدَاً مجموعهمَا بثماني سنوات‏.‏
ولمْ تكَدْ تَمْضِ أربعونَ سنةً على هذا التاريخ، فيما يؤكد د. محمّد السيَّد سعيد، حتى صارَ هذا القَيْدُ أمراً أساسيّاً بالنسبةِ للغالبيةِ العُظمى من الدساتيرِ الديموقراطية التي تأخُذُ بالنظام الرئاسي‏.‏ وفي أوروبا، لا يقْتَصِرُ هذا القيدُ على الدول القليلةِ التي تأخُذُ بالنظامِ الرئاسي، مثل روسيا ورومانيا، وإنما يمْتَدُ كذلكَ إلى الدُولِ التي تأخُذُ بالنظامِ البرلمانيّ كالنمسا، وإيطاليا، وألمانيا…إلخ.‏
أما فرنسا، فتبْقَي بمثابةِ الاستثناءِ الكبير والمُهم حيث لم يأخُذْ دُستورُها بقيدِ الولايتين‏، وإنْ أصبحَ فيما بعْدُ يُجَسِّدُ نوعاً من‏ “العُرْفِ الدُستوري‏”‏ خاصةً بعد أن التزمَ بهِ الرئيسُ الفرنسيُ الوحيد الذي أكْمَلَ وُلايةً ثانيةً مُتصّلَةً منذ عام ‏1945‏، وهو الرئيسُ ميتران‏.
وحقيقةُ القولِ إنَّ لهذا المبدأ علاقةٌ وطيدةٌ بإمكانيّةِ التحُول الديمقراطي من عدمه. فإذا مسحنا تجاربَ التحُول الديموقراطي خلالَ العِشرينَ عاماً الماضية لوجدْنَا أنَّ الدُول التي حققت انتقالاً ديمقراطيّاً قويّاً قد التزمتْ بهذا القيد، أو على الأقل تركتِ النظامَ الرئاسيَ كليّةً إلى النظامِ البرلمَانيّ‏.‏
أما الدُولُ التي لم تحقق انتقالاً ديموقراطياً، كبلادنا العربية، فقد استمر فيها الحُكمُ الرئاسيُ الأبدي حيْثُ يجثُمُ على صُدور الشُعوب العربيَّة حكامٌ جاوزتْ فتراتُ حُكمِهم رُبعَ قرْنٍ منَ الزمان (كصدام، والقذافي، ومبارك، وآخرون)‏.‏ وهو ما يذكرنا بدول آسيا الوسطى التي تولى رؤساؤُها السُلطةَ أثناءَ الحُقْبةِ السوفياتيّة، ولم يترُكْ أحدٌ منهم الحُكم إلا بسببِ الوفاة!!‏.‏ ونتيجةً لذلك، لمْ تشْهَد أيُّ دولةٍ من الدول الستِ انتقالاً ديموقراطياً نتيجةَ عدمِ التزامِ دُستورِ الاستقلالِ بهذا القيد.‏
أما في دُول شرق آسيا، فكانَ الوضعُ مُختلِفاً تماماً حيثُ أسْرَعَ المُجتمعُ بوضعِ “قيد الولايتين” بعد أنْ حقّقَ النضالُ الديموقراطيُ أولَ انتصارٍ لهُ،‏ وتُجسِّدُ كوريا الجنوبيةُ هذهِ الحقيقة بوضوحٍ تام‏.
ومع إقرارنا بأنَّ الديمقراطيةَ لا تعْني فقط مَحْضَ التداوُّلِ على السُلطة، إلا أنَّ فتحَ البابِ على مصراعيهِ أمامَ توّلي السُلطة الرئاسية دونَ قيدٍ زمنيٍ يؤدي ضرورةً إلى زيادةِ رُقْعَةِ الاستبداد حيث يتمكنُ الزعماءُ الأبديونَ من جمعِ السُلطاتِ الكُبرى ومَرْكَزتِهَا بأيديهم للدَّرجةِ التي يُصْبِحُ فيها من الاستحالةِ بمكانٍ استعادّةُ سيادةِ الشعب، أو تحقيقُ أدنى درجَةٍ من التوازُن المطلوب بين السلطات، أو حتى مُجردَ الدِّفاعِ، إذا ما اقتضتِ الحاجَةُ، عن الحُريّاتِ العامّة‏.‏
هَذا بالطبعِ فَضْلاً عن تحويلِ البلاد إلى ضَيْعَاتٍ شخْصيَّةِ لأسر الحُكام، وانعدام تحْقيقِ الحدِّ الأدْنى لقيم العدَّالةِ والحُريَّةِ والمُسَاوَّاة. إضافةً إلى إضْعَافِ قُدرَةِ الهيئاتِ النيابيّةِ، بَلْ والمجتمعِ المدنيِّ والسياسيِّ بأكمَلِهِ، والعجزِ عن مُوازَنةِ سُلُطَاتِ الرئيس التنفيذية الفعلية ممّا يؤدي إلى تَعَطُّلِ آلياتِ الدِّيموقراطية واعتبارِ القفز عليها أمْرَاً مُسْتَثَاغَاً وشَائِعاً لدّرجةِ أنْ تزداد الشُعوبُ المغلوبةُ على أمْرهَا قنَاعَةً، يوْمَاً بعْدَ يوْمٍ ،بأنَّهُ مَا مِنْ أمَل أو حتى فَائِدةٍ في التغيير، وأنَّهُ لَيْسَ في الإمّكَانِ أفْضَلُ ممَّا كان!!.‏
© معهد كيتو، منبر الحرية، 22 يناير 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

كثر ما يثير الانتباه فيما يحصل نتيجة مجزرة غزة وتداعياتها هو حجم وسعة الغضب الشعبي واتساع رقعة التضامن العربية والعالمية التي قلّما نراها محتشدة أو مجتمعة للاعتصام أو الاحتجاج على أوضاع أخرى في العالم العربي لا تقل هولا عما يحصل في غزة.
ولكن من جهة أخرى، إن الأمر نفسه يدعو للرثاء والتعجب إذا ما سألنا عن جدوى هذه التظاهرات والهتافات ونتيجتها، فليس هناك تحرّك شعبي على طول العالم العربي له هدف معين سوى الاحتجاج وإيصال الصوت، حيث يبدو الأمر وكأنه بيان شجب وتنديد ولكن بطريقة شعبية! إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الجماهير وقادة الرأي في العالم العربي دائما يعيّرون السلطات والقمم العربية بأنها تكتفي بالشجب والتنديد.
منذ نكبة فلسطين والجماهير العربية تنزل الشوارع وتتظاهر، وتتوالى المشاهد والمظاهرات مع كل مجزرة و حرب و اعتداء، دون هدف معيّن أو نتيجة تذكر، ودون أن تستطيع تلك الجماهير في أي بلد عربي أن تجعل سلطة ما تتراجع عن قرارها أو تغيّر رأيها، أو تقيل ولو وزيرا !
في مقابل ذلك الكرم الجماهيري الغامر في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية – وهي قضية حق وتستلزم التضامن وحشد الدعم والتأييد – نلاحظ غيابا فاجعا للجماهير عن قضايا أخرى ذات صلة بحياة المواطن المعيشية أو بواقع البلد الداخلي من حقوق إنسان وحريات عامة ومجتمع مدني تضيق رقعته يوما بعد آخر في العالم العربي، وكأن تلك الحرية الفائضة في التعامل مع القضية الفلسطينية تقابلها حرية شبه معدومة أو شحيحة في التعامل مع قضايا الداخل، الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات عن هذا الازدواج والتناقض الفاضح، مما يجعلنا نحاول أن ندقق أكثر في طبيعة تلك التظاهرات العامرة، لندرسها في العمق ونحلل أسباب عدم قدرتها على الفعل وإحداث التغيير المنشود.
مما يمكن ملاحظته حول هذا الأمر، أن السلطات العربية بسماحها لنزول شعوبها إلى الشارع تحقق بشكل جزئي شيئا من أهدافها المتمثلة في تخفيف الاحتقان الشعبي وتوجيهه في اتجاه آخر فهي – باستثناء مصر والسعودية حاليا- تقف في صف جماهيرها ظاهريا ليبدو الأمر وكأن مواقف السلطات متناغمة مع مواقف شعوبها، شرط أن يبقى ذلك ضمن الحد المسموح به سلطويا. إضافة إلى أن هذا الأمر يفرّغ مكبوتات الجماهير ويريحها لأنه ينفّس احتقانها المتراكم، أي أن السلطات تستخدم المأساة الفلسطينية كمنفّس لاحتقان الشعوب خوفا من وصول ذلك الاحتقان إلى نقطة لا يمكن ضبط الأمور بعدها.
إن محاولة فهم لماذا تبدو آليات فعل الجماهير ضعيفة ولا تؤدي أي نتيجة عملية على أرض الواقع، تبدو معقدة ويتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حيث الشائع هنا أن السلطات التي تحكم قبضتها على مجتمعاتها هي السبب الرئيس في ذلك، ولكن هذا جزء من المشكلة، حيث هناك الكثير مما لا يرى حول هذا الأمر، منها : ضعف ثقافة المجتمع المدنية وانتشار الثقافة الطائفية، وضعف بنى وثقافة الأحزاب المعارضة والمؤيدة للسلطات معا، حيث لم تستطع هذه الأحزاب حتى اللحظة بلورة بيان عمل أو آليات فعل توصل إلى نتيجة ما فيما يتعلق على الأقل بفلسطين كقضية جامعة.
تبدو لدينا آليات تفعيل تحركات الجماهير ضعيفة جدا، بسبب عدم وجود ثقافة مدنية ومواطنية تؤمن بأهمية الفرد كسيد لنفسه، فكل البنية الثقافية الموجودة في أغلب الأحزاب العربية تحل الجماعة والطليعة والنخبة والطبقة محل الفرد، ليغدو القرار النهائي بيد هذه “الجماعات” على اختلاف مسمياتها حتى لو تعلّق الأمر بقرار يتعلق بأبسط الأشياء، وهنا نجد هذه الأحزاب غير قادرة على إدارة شؤونها إلا بطريقة رثة، فكيف ستكون قادرة على تفعيل تظاهرات جماهيرها ؟
نستنتج من ذلك أن أحد أسباب عدم قدرة الجماهير على فعل شيء، هو نتاج أزمة الأحزاب السياسية وآليات عملها في العالم العربي، دون أن ننسى النقابات بمختلف أشكالها الملحقة إما بالسلطة أو بالأحزاب المكوّنة لها، وهي في كلتا الحالتين تفقد مسوّغات وجودها، لأن العمل النقابي يستلزم الحرية في القرار والتحرك، وهنا نرى أن السلطات العربية نتاج هذا الوعي المأزوم الذي يقلب المفاهيم رأسا على عقب.
حيث أن الشعب العاجز عن المطالبة بحقوقه الذاتية والمدنية، والعاجز عن التظاهر ضد حكومته لتحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، سيكون عاجزا بالتأكيد عن تحقيق أي شيء يذكر لنصرة فلسطين وأهلها، لأن المواطنين الخائفين هم رعاع ومسجونين لا يمكنهم إعطاء الحرية للآخرين، ببساطة لأنهم لا يعرفونها, وفاقد الشيء لا يعطيه !
ويبدو هذا الأمر نتاج الوعي المأزوم الذي ساد منذ نصف قرن في الوعي العربي من خلال شعار (لا صوت يعلو على صوت المعركة)، حيث كانت تغيّب كل القضايا الداخلية وتقمع باسم القضية الفلسطينية وشعارات التحرير، لنكتشف بعد نصف قرن أن فلسطين ضاعت والداخل العربي ازداد تخلّفا وبعدا عن العصر.
إذا أردنا فعلا التقدم لا بد من قلب المفهوم السائد ليصبح كالتالي : ربح المعركة يبدأ من بناء الداخل العربي، وإعطاء الجماهير العربية حريتها الكاملة وحقها في محاسبة السلطات وسؤالها، كما لا بد من تفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وإطلاق قوانين عصرية للأحزاب، لتغدو الجماهير قادرة على رفع أفعالها إلى ما يليق بمستوى الحدث، بدل تلك الأصوات التي تصم الآذان وترهقها دون أثر يذكر!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 17 يناير 2009.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

الحداثة من المفاهيم التي جرى حولها جدل ولغط كبيران، فإذا كانت الحداثة انبنت بالأساس على المعنى اللغوي، فإنها حملت إيحاءات ومعاني ومضامين جديدة، فغالبية الباحثين يرون أن بواكير الحداثة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر في الغرب وفي حقول الأدب بعد أن قوضت الرومانسية أركان الكلاسيكية، فنشأت الحداثة على أيدي شعراء فرنسا شارل بود لير، ورامبو، ولامارليه. دعا الحداثيون إلى التحرر من الكثير من القيود، والثورة على التقليد والمحاكاة، ورأى بعضهم أن الحداثة جاءت نتيجة تراكمات وإرهاصات للمذاهب والتيارات الأدبية والفكرية السابقة للحداثة…
ولكن هناك من يعود بمصطلح الحداثة إلى القرن الخامس عشر، أي ربما إلى حركة مارتن لوثر الذي قاد الشقاق البروتستانتي ضد الكنيسة والتمرد على سلطتها الروحية، وثمة من يربط الحداثة بديكارت صاحب مذهب الشك في القرن السابع عشر، أي إعمال العقل، وإعادة النظر في كل شيء، ومنهم من يربط المصطلح بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، حيث ميدانه العقل والاستنارة على ضوء العلم والتكنولوجيا، وأخيرا هناك من يربط مفهوم الحداثة بمطالع القرن العشرين. أي في عصر الإذاعة والكهرباء ووسائط النقل السريعة، ووسائل الاتصالات المبتكرة.. كل هذا الاختلاف في تاريخ هذا المصطلح ناجم عن الاختلاف في تحديد غرض ومفهوم الحداثة، واختلاف الرؤية إليها…
وهنا تحدوني مبادرة للقول: إن التحديث أو الحداثة ــ رغم التمايز بينهما كما يرى بعضهم ــ حالة دائمة، وعملية مستمرة، في إعمال الفكر، ومجاوزة الواقع المعيش، والتطلع نحو التجديد، ورفض لكثير من القيم التقليدية السائدة. لكن، قد لا يتجلى تبلورها واضحا كما هي حال الحداثة اليوم، بسبب معاندة الظروف، واندحار المفهوم أمام قوة وهيمنة الفكر السائد. لذلك فالحداثة أو التحديث قد تأخذ فترات من السبات القسري وقد تطول الفترة، لتظهر ثانية ـ ربما ـ أكثر جدة وقوة وغنى، وفي هذا السياق نقول: الم تكن دعوة أبي العلاء المعري، الذي كان يرى أن لا إمام سوى العقل، وقوله: ( فكل عقل نبي ) رفضا للفكر السائد، ودعوة للحداثة، أو بمعنى آخر دعوة لتحديث العقل، فقد تهكم المعرّي من معتقدات وطرائق العبادة لدى الديانتين المسيحية والإسلامية، يقول : ( كلّ يعظم دينه…. ياليت شعري ما الصحيح ) واعتبر الدنيا الثانية، أي الآخرة خرافة، لتأتي بعد ذلك فترة السّبات، والركون إلى الفكر التقليدي السائد، والاكتفاء به، دون حق الاجتهاد، هذا في عهد الإمام الغزالي، الذي رفض إعمال الفكر في هذه المناحي الجدلية، ورأى السلامة في إتباع سنن الأقدمين، والخطر في البحث والتقصي.. وكانت الظروف مؤاتية لرؤيته السلفية، فخمدت جذوة التفكير الحر، وأخلدت إلى كمون أو سبّات كما قلنا قبل قليل ولو إلى حين…
الحداثة بحسب تعبير رولان بارت، طوفان معرفي، وزلزال حضاري عنيف، وانقلاب ثقافي شامل…الحداثة ـ أيضا ـ موقف عام وشامل ومعارض للثقافات التقليدية السائدة.. الحداثة تدعو إلى إعادة النظر في كثير من الأشياء، والتحرر من كل القيود.. الحداثة ثورة على كل ما هو تقليدي في المجتمع.. الحداثة عملية تقدمية، حتى لو كان المخاض عسيرا، فهي تنشد عصرا جديدا يقترن بالتطور والتقدم وتحرر الإنسان.. الحداثة رؤية فلسفية وثقافية جديدة للعالم..الحداثة حالة وعي الواقع وبالتالي نقده.. الحداثة تتكئ على مكونات وعناصر مثل التصنيع، العلمانية، الديمقراطية، عند مطالبتها التوسع في وسائل الإعلام، وفي المشاركة السياسية، وهي كثيرا ما تنتقد الموروث الثقافي الديني بهدف  التغيير نحو الأفضل. الحداثة دعوة لانتصار العقل على النقل، وعرض المنقول من السلف لمنخل العقل مهما كان مصدره، من دون تقديس لأي نص، وتمريره بالتالي كحقيقة منزهة …
يعد الشاعر السوري أدونيس من أبرز رواد الحداثة العرب، كما يعد المنظر الفكري لهذا المصطلح، وأحد الراديكاليين المتحمسين للدفاع والترويج للحداثة فهو يرى أن ولادة الحداثة تاريخيا نتيجة: ( التفاعل والتصادم بين موقفين وعقليتين في مناخ تغير ونشأت ظروف وأوضاع جديدة ) ويرى أيضا من أنه 🙁 لا يمكن أن تنهض الحياة العربية، ويبدع الإنسان العربي، إذا لم تتهدم البنية التقليدية السائدة للفكر، ويتخلص من المبنى الديني التقليدي الاتباعي ) ويقول الدكتور شكري عياد إن الحداثة العربية قد انبثقت نتيجة شعور النخبة العربية المثقفة : ( بسقوط الحلم العربي… وأصبحت الحداثة مخرجا مناسبا من حالة الضياع التي سقط فيها جيل الثورة والأجيال التالية) فضلا عن ذلك فهو يرى أن الحداثة بمدلولها عند العرب والغرب على حد سواء: (تتجه إلى تدمير أعمدة النظام القديم ) ويقول إلياس خوري الكاتب اللبناني في مرحلة سابقة بأن ( الحداثة العربية هي محاولة بحث عن شرعية المستقبل، بعد أن فقد الماضي شرعيته التاريخية في عالم توحده الرأسمالية الغربية بالقوة )…
و أخيرا…من الأهمية بمكان، الإشارة إلى سمات الإنسان الحديث أو الحداثي، فمن أهم تلك السمات، استقلالية الفرد عن الرموز التقليدية، في الأسرة كالأبوين، أو الأخ الكبير حتى، وعن التبعية لزعماء القبيلة، ورجال الدين، وبالتالي يكون ولاؤه للوطن الكبير وحده؛ احترام المواعيد، الإيمان بعلوم الطب كعلاج، بعيدا عن السحر والشعوذة والتمائم، الاهتمام بالتخطيط في حياته، مقـدّر لظروف ضبط الإنجاب، هو أيضا  داع لقراءة العلوم، متابع للأخبار السياسية على صعيد الداخل والعالم، مؤمن بالتغيير وراغب فيه، ومؤمن بقدرة الإنسان الكبيرة على فعل التغيير… هذا بخلاف الإنسان القديم الذي إذا ما عكسنا تلك السمات التي أتينا على تناولها، فهي كثيرا ما توائم نظرته في هذي الحياة، فهو عادة يتميز بالسلبية والإذعان لما هو قائم، غير محبذ للتغيير، وغير مؤمن بقدرة الإنسان على فعل التغيير، هو مؤمن باستمرارية الحالة في الطبيعة والمجتمع دون اعتقاد منه بإمكانية التغيير.! هذه كانت أهم السمات التي خرجت بها جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية إثر بحث ميداني شملت دولا عديدة ومن مختلف القارات…
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 07 يناير 2009.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

ممّا لا شكَ فيهِ أنَّ مبدأ المُساوّاةِ بينَ البشر، على اختلافِ انتماءاتِهمُ العقديّةِ والفكريّةِ والسياسيّةِ، قد تشكّلَ عبْرَ آلافِ السنين بلْ ولا يزَالُ في طورِ التشكُّل حتى الآن. ولعلّ مرورَهُ بتلكَ الحُقبِ الزمنيّةِ المديدةِ قدْ سَاهَمَ بدورهِ في غموضه للدَّرجة التي أصبح فيها من الصعوبة بمكان الوقوفُ على معْنَاهُ وفهمُ طبيعته. وآيةُ ذلكَ، أنَّ ما نَفْهَمْهُ اليومَ من عبارة ” المُساوّاةِ” يختلِفُ اختلافاً كبيراً عمَّا كانت تَعْكِسْهُ من معنىً لأيٍ من مُواطني أثينا إبّانَ عَهْدِ بيركليز، على سبيل المثال.
بل لعلَّنا نُفاجأ إذا مَا علِمنَا أنَّ أرسطُو لم يَجِد أدْنَى غَضاضةً في أنْ يُصرّحَ في كتابِهِ “السيّاسة” بأنَّ الفِطرَة هي التي أرَادتْ أنْ يكُونَ البرابِرة عبيداً لليونان، وأنَّ الآلهةَ قد خلقَتْ نوعينِ منَ البَشرْ: نوعٌ رفيعُ المقامِ زوّدَتهُ بالإرادةِ والعقل، وهم اليونانُ بطبيعةِ الحال، وآخرٌ لمْ تُزوّده إلا بالقوةِ الجُسمانيَّةِ فقط، وهُم غيرُ اليونانيين!.
أمَّا في الجزيرَةِ العربيَّةِ، في حُقبة ما قبلَ الإسلام، فكانتِ الغَلبَةُ هي المِعيّارُ الوحيدُ لتحقيق السِيَّادةِ ومنْ ثَمَّ لتحديدِ مَنْ هُمُ الأحرارُ ومَنْ يكونُ العبيد، ولدرجة أنَّ بعضَ جبابِرةِ العرب كانوا يقيسُونَ عِزَّهُم بإذلالِهم للآخرين!
ومَعَ أنَّ الإسلام أقرَّ المُساواةَ بينَ الناس بعدم تقرير التَّمايُز بينَ البشر لأي سببٍ كان؛ إلا أنَّ الواقِعَ التطبيقيّ لمبادئِه (خاصَةً في المراحِلِ المُتاخِرة) كانَتْ أبعَدَ مَا تكونُ عن ذلك بحيثُ أدَّتْ، فيما أدَّتْ، إلى إحداثِ نوعٍ من العِلاقاتِ غيْر المُتوازنّةِ على مُستوى كُلٍّ مِن: توزيعِ السُلطة، واختزالِ العِلاقاتِ الاجتماعيَّةِ فى نمطٍ ثُنائِيٍّ من السيَّادَةِ والتّبعيَّةِ، ممَّا أدى إلى تهْمِيشِ القُوى الفاعِلة في عمليَّة الإنتاج، والمُشاركةِ السياسيَّة…إلخ.
صحيح أنَّ الإسلام قد بسَطَ لشعوبِ القرنيْنِ السابع والثامن حيَّاةً أكثَرَ مُساوَاةً وحُريَّةً وأمنَّاً من أي عَصْرٍ مَضَى، وأنَّهُ في كثيرٍ منَ الأحْيَانِ حدَثَ التحوُّلُ الإراديُّ من قِبَل شُعوبِ الأرض للإسلام نتيجةً للخدَماتِ الكبرَى التي قدَّمَها المسلمون أنفسهم دينيَّاً وإداريَّاً وتعليميَّا؛ إلا أنَّ الخيّاراتِ التي كانت مُتاحةً لشعوبِ المناطق التي غزتهَا الإمبراطورياتُ الإسلاميَّةُ لم تكُن تَصُّبُ في اتجَاهِ المُساوّاةِ وتحقيقِ الحُريَّةِ الباحدينيَّة، وهي: (الدخول في الإسلام- دفعُ الجِزيّة- القتال).
أضِفْ إلى ذلكَ انتشار الفَهْم المغلوط لدى معظمِّ المُسلمينَ بأنَّ محلّ التفاضُل بالتقوى، كما هو منصوص عليه في الآية الكريمة “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات: آية 13)، في الحيَّاةِ الدُّنيا!. ممَّا يكونُ له أثرٌ سلبيٌ في آلياتِ تطبيقِ القانون على المواطنينَ، أو في إعْمَالِ مبدأ المُواطنةِ الكامِلة والمُساوَّاةِ التامَّةِ بينهم في تولي المناصب والترقي …إلخ. بينمَا المقصودُ بأنَّ محلَ التفاضُل بالتقوى لا يكونُ إلا في الآخرةِ أمامَ الله، وليْسَ في الحيّاةِ الدُّنيَا.
أمّا في أوربا العصور الوسطى، فقد ظلَّ لورداتُ وباروناتُ الأراضي يتمتعونَ حتى القرنِ الرابعِ عشر بـ “حَقِّ الليلّةِ الأولى”!!، أي قضاؤُها مع كلِ عَروسٍ يَعْقِدُ عليها أحدُ “الأقنَان” ممّنْ يقومونَ بزراعةِ الأراضي وتنتقلُ تبعيتُهم معهَا في حالاتِ البيْعِ والشِّرَاء!.
وفيمَا يتعلَّقُ بالمساواةِ في الحقوقِ السياسيّة، فمنَ المعلومِ أنَّ اليونانيينَ قد بَدأوا باستّخدامِ عِبَارة “Demokratia” بحدُّودِ مُنتصفِّ القرنِ الخَامِس قبلَ المِيلادِ للدّلالَةِ على “حُكمِّ الشَّعب”. فهلْ كانَ ذلكَ يعْني اشتراكُ جميعِ طوائِفِ وطبقاتِ الشَّعب في الحُكم؟، “لا” بطبيعة الحال.
أمّا في ظِلِّ شريعَةِ رُومَا التي سادَتْ لفتراتٍ طويلَةٍ منَ التَّاريخ، فكانَ الناسُ يُقسَّمُونَ إلى أحرارَ وغيرِ أحْرَار، والصِنفُ الأول يُقسَّمُ إلى طبقتين: أحرارٌ أُصَلاء هُمُ الرُومَان، وأحْرَارٌ غيْرُ أُصَلاء هُمُ اللاتين. أمَّا غَيْرُ الأحرار فكانوا أنواعاً أربعة: الأرِّقَاءُ، والمُعْتقُّونَ، وأنْصَّافُ الأحْرَار، والأقْنَانُ التَّابِعُونَ للأرض!
وفي كلِّ الأحوال، لم يكُن “الدّيمُوس” يضُمُ إلا عدداً يسيراً منَ السُكان البالغين في أثينا، حتَّى في أوجِ ازدهار الدِّيمُقراطيَّةِ بها.  وواقِعُ الأمر، أنَّهَا لمْ تكُن فريدَّةً في هذا الإطار فعلى الدَّوام هُناكَ من يتمُّ استثناؤهم من العمليَّةِ السياسيَّةِ برمتها.
ويذكُر روبرت دّال في كتابه “Democracy and its Critics” أنَّهُ حتى حلولَ القرنِّ العشرين، عنَّدما حصلتِ النِساءُ أخيراً على حقِّ الانتخاب، كان عددُ الذينَ يتمُ استثناؤهن يزيدُ كثيراً يوماً بعدَ يوم عن عدد المُشاركات.
أمّا على مستوى الفكر العربي المعاصر، فإنّنا نُلاحِظُ ابتداءً من رفاعة الطهطاويّ في كتابه “تخليصُ الإبريز في تلخيصِ باريز” اهتماماً متزايداً بمسألةِ المُساوّاةِ في الإسلام حيث أعلنَ صراحةً أنَّ مفاهيمَ فرنسيَّةً مثلَ الدُّستور والجُمهوريَّة والحريَّة تُرادِفُهَا في المجالِّ الإسلاميّ قيمُ العدلِّ والإنصافِ والشُورَى والمُسَاوَّاة.
وفي السياق ذاته، يكثُرُ الحديثُ اليوم عن مقاصِد الشريعة وتطبيقاتِهَا العملية المتعلقة بمصالحِ العِباد، وعلى رأسها تحقيقُ العدالةِ الاجتماعيَّة والمُسَاوَّاةِ بين الناس. لكن يبقى الخِطابُ العربيُّ في عُمومِهِ، سياسيّاً كانَ أو دينيَّاً، بعيداً كلَّ البُعدِّ عن الاجتهاداتِ العالميّة الخاصّةِ بنظرياتِ المُساوّاةِ والجِدالُ الذي يتسعُ حولَها يوما بعد يوم، مُحْتفِظاً بتحليقهِ في فوضى اليوتُوبيا.
وبحسب مَا يؤكد نُوحُ الهَرْمُوزيُّ في مقالِه “قِراءةُ لنظريَّاتِ المُسَاوَّاة والعدَّالةِ الاجتماعيَّة”، فإنَّهُ بالإمكان حصْرُ أهمُّ هذهِ النظريات إجمالا في مذهبينِ رئيسينِ يتحدَّدانِ وفْقَ رؤيتِهمَا للمعيار الأنسب الخاص بقياسِ العدَّالةِ وهما: مذهبُ العدَّالةِ التوزيعيَّة، ومذهبُ العدالةِ الإجرَّائيّةِ أو التَّاريخيّة.
ففيمَا تعْتَمِدُ المدرسةُ الأولى في قياسِ العدَّالةِ على وضعيَّةِ النتائِج النِهائيَّةِ للأفراد، أي التساؤُل عَمَّن يملُك وليْسَ عن كيفيَّةِ حصولهِ على ما في يده، تأخُذُ مدرسَةُ العدَّالةِ الإجرائيَّةِ مُجْمَلَ الظُروفِ الزمنيَّةِ التي ساهمتْ في الوصولِ إلى تلكَ النتيجة في الاعتبار. وبالتالي، فإنَّها تُولِي اهتماماً بالغاً بآليَّةِ الحُصولِ على الثرواتِ والمُدَّخراتِ والمُمتلكاتِ، وليْسَ فقط بوضعيَّةِ نتائِجهَا النِهَائيَّة.
يترتَّبُ على ذلكَ أيضاً، أنَّهُ فيْمَا تَعْني العدَّالَةُ لدى الفريق الأول المُساوَّاةَ في النتائِج، يَنْحُو الفريقُ الثاني نَحْوَ تحدِّيدِهَا بعدّالةِ القواعِد والإجراءاتِ المؤديَّةِ إلى حيَازَة الثَروة، وبما يَضْمَنُ أخْذَ الفُروقِ الفردِّيةِ بيْنَ المواطنين/المتنافسين في الاعتبار.
وختامَاً يبقى القُولُ، إنَّ ثَمَّةَ هُوَّةً سحيقةً تفصِلُ ما بينَ نظرياتِ المُساوَّاةِ والعدَّالةِ الاجتماعيَّةِ وبينَ تحقُقِهَا على أرضِّ الواقع. وأبسَطُ دليْلٍ على ذلكَ أنَّه رُغْمَ مُرور ستينَ عامَاً على اعتمادِ “الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان”، والذي يَنُصُ في مادتِهِ الأولى على أنَّهُ “يولدُ جميعُ الناسِ أحْرَاراً ومُتساوينَ في الكرَامَةِ والحُقوق”؛ إلا أنَّ اتسَاعَ دائِرةِ الانتهاكاتِ وارتفاعَ وتيرتهَا في مُعظم أرجاءِ العالَم يَجْعَلُ مِنهَا مُجرَد “حِبْر على ورق”، فضْلاً عن اتبّاعِ المَعاييرِ المُزدوجَةِ في تطبيقها من قِبَلِ الدُّولِ العُظمَى، ولعلّ في الانتهاكاتِ الإسرائيليَّة الأخيرة أبلَغُ دليلٍ على ذلِك.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 02 يناير 2009.

عزيز مشواط11 نوفمبر، 20100

لا صوت يعلو من الجهات الأربع لهذا المسمى وطنا عربيا غير صوت الإذعان والخضوع. يقول محترفو الدين “لا تفكروا لأن العقل محدود” و” ارضوا دون أن تفهموا”، ويستلون سيف الفتوى مهددين بقطع رأس كل من تجرأ على استخدام عقله. أما رجل السياسة فلا يتردد في الإعلان عن هدر دم الجميع، إن لم ينظموا إلى حزبه ويبايعوه زعيما واحدا أوحدا. في حين ينفذ العسكر هواياتهم المفضلة ويأمرون “أطيعوا والتزموا بالأوامر”.
رجل الدين المتطرف ورجل السياسة المتزمت والعسكري المتسلط أعداء ثلاثة يقفون بالمرصاد أمام إحداث التغيير المنشود وانبثاق المجتمع الحر. لكن أين باقي القوى الحية في المجتمع وخاصة “قبيلة” المثقفين؟ وهل يلعب المثقف العربي دوره كاملا؟
لست من أصحاب البكاء على الماضي، ولست من الذين يعتبرون أنه ليس بالإمكان أن يكون أفضل مما كان، لكن ينبغي أن نسائل المثقفين رواد ومنتجي الأفكار، عن دورهم في إنجاز مهام التنوير والتحرر. بل هل يوجد لدينا مثقف بالأصل؟ أليس إما متمسحا بأعتاب السلطة الحاكمة وإما منعزلا ومحاصرا في برجه العاجي بعيدا عن قضايا الناس؟
يتحمل المثقف العربي جزءا كبيرا من المسؤولية عن غياب الحرية بفعل عدم قدرته على المشاكسة والنقد، وتمسح أغلب المشتغلين بالثقافة بالبحث عن الامتيازات الصغيرة، أو تطييب خاطر العامة خوفا من تكسير اليقينيات وما يجلبه من غضب.
لن نبالغ إذا اعتبرنا أن لفظ المثقف في عالمنا العربي مجرد وهم أو مجرد مجاز لفظي لايمت للحقيقة بصلة، إذ يعيش بين نارين حين تحرص الدولة على تحويله إلى بوق شرعيتها، وتطلب منه الجماهير مسايرة ميولاتها وعواطفها، وعندما يستسلم لضغوطات أحد الطرفين يفقد صوته أي تأثير ويفقد مكانته الاعتبارية.
المثقفون العرب مصابون بأنفلونزا التملق المزمن، لذلك فهم لا يخرجون عن صنفين : صنف يتملق للسلطة صاحبة “الولائم الكريمة” وصنف متملق لعواطف الجماهير مهما كانت خاطئة ومجانبة للصواب. ومن نجا من هذا التصنيف منعزل في خطابات بعيدة عن قضايا الواقع. في حين تبقى قلة قليلة غير قادرة على تقديم خطابات لا تعتمد على مداهنة هذا الطرف أو ذاك.
لقد فشل “المثقفون” العرب في التعاطي مع المتغيرات والوقائع الجديدة بفعل، إما الوقوف الطويل أمام أبواب السلطة لحراسة شرعيتها، أو نتيجة التحول إلى مجرد حرس للأفكار الميتة المسايرة لعواطف الناس بحثا عن شعبية وهمية. وضعية تحول المثقففين إلى كائنات كاريكاتورية تثير الشفقة، يصدق فيها وصف علي حرب، الذي أطلق عليهم تسمية “أهل الكهف”، نظرا لعجزهم عن التكيف مع المتغيرات الجديدة في عالم متغير.
شهدت أوروبا في القرن الثامن عشر نموذجا للمثقفين الطلائعيين، مثقفون أدانوا الظلم وجلبوا التنوير. دافعوا عن الحرية وواجهوا سلطة رجال الدين. نشروا العلم وواجهوا الاعتقال. لقد أسهموا حقيقة في التحولات الكبيرة التي عاشتها مجتمعاتهم.
نماذج كثيرة لصلابة موقف المثقف شهدها العالم الغربي. ومن غاليلي إلى سارتر، ومن اسبينوزا إلى بييربورديو ومن إيميل زولا إلى ألبر كامو، ظل المثقف صوت من لاصوت لهم رغم الحصار ورغم العنف والتهديد. خاطر المثقف الغربي بحياته لكي يظل ضميرا في كامل اليقظة. وسواء تذكرنا قولة غاليلي الشهيرة “ومع ذلك تدور” وهو يقاد إلى مقصلة الكنيسة أومواقف سارتر المناهضة لمواقف بلاده من حرب الجزائر، فإن المبدأ ذاته ظل منتصبا وهو: استقلالية الموقف.
هل حدث شيء من ذلك في وطننا؟ بالتأكيد لا. لأن مجاملة الحكومات واستدرار عواطف الناس أفقد صوت المثقف مصداقيته… ومع كل ذلك يبقى الرهان ملحا على ولادة جيل جديد قادر على ممارسة دوره الخلاق، لأن حاجتنا اليوم ماسة، إلى مثقف يضطلع بدوره كاملا في النقد البناء، لكي يعلن متى لزم الأمر”ثورته” الهادئة على كل أعداء الحرية، سواء لبسوا معطف الدين أو قبعة سلطة الدولة، أو ركبوا على مشاعر الناس العاطفية والدينية.
إن ممارسة المثقف نقده البناء يعني أن يقول “لا” كلما لزم الأمر.”لا” لكل الذين يصادرون الحرية تحت أي شكل من المبررات، لا لكل الذين يمارسون القمع باسم المصلحة الوطنية، و”لا” لكل الذين يستغلون الدين للحفاظ على امتيازات أنانية، و”لا” لكل المستبدين مهما كانت مبرراتهم دينية أو قومية أو سياسية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 30 ديسمبر 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

تنكشف لك حين تعتلي سدة التدريس في إحدى الجامعات الأميركية، وتكون على اتصال مباشر مع الطلاب، تنكشف على الفور حالة من الرغبة الغريزية المفرطة لدى الطالب الأميركي في تحصيل أسباب المعرفة لتخصصه المختار، واهتمامه بأدق تفاصيله العلمية، ومتابعته الاستقرائية والبحثية والفقهية لكل ما يتعلق بالمادة الدرسية، التي تراه ينكبّ عليها بانحياز الفاتح الغالب.
ففي إحدى قاعات جامعة ميريلاند في العاصمة الأميركية واشنطن حيث أقوم بتدريس مادة اللغة العربية، كنت أتابع على مدار النيف وشهر من تاريخ كتابة هذه السطور، أي منذ بدء الفصل الدراسي الشتوي للعام 2007، أتابع لهفة الطلاب العلمية ـ الذين لم تكن في البدء معرفتهم باللغة العربية لتتعدّى معرفتي أنا باللغة الصينية ـ ، وأحاول سبر تلك الحالة السائدة في قاعة الصف والتي ترسم مسار الطلاب مجتمعين، وبلا استثناء، رغم اختلاف اختصاصاتهم الجامعية، كون اللغة العربية هي مادة من المواد التي اختاروها لتكون مادة مكملة لاختصاصهم الأساسي في الجامعة.
أما القاسم المشترك بينهم فهو ذاك الخط الصارم من الإصرار على تعلم اللغة  الجديدة بكل ما تفرضه عليهم من تحد أبجدي ولفظي ولغوي. كانوا ” يجاهدون” – والجهاد هنا هو جهاد تحصيل العلم – تماما كما أراده الإسلام الحنيف قبل أن يتم اختطافه على أيدي أصحاب الأجندات السياسية والعقد السلطوية، يجاهدون لغزو أرضية لغة الضاد العنيدة، وتلفظ أحرفها الجذلة التي تنفرد بها دون اللغات، حتى أن أحدهم، وهو الطالب الذي كان يلطّف الجو المشدود أثناء تناول المادة بنكاته الطرية، كان كثيرا ما يقول لي إن حرفي الحاء والقاف أصاباه بأشكال البحة والنزلات الصوتية في الحنجرة!
نعم، إنها العقائدية ـ عقائدية المعرفة التي ينفرد بها الطالب الغربي، وأخص هنا الأميركي، حين يختار راغبا، وبمحض إرادته مادته العلمية التي ستكون حجر الأساس لمستقبله المهني! عقائدية المعرفة التي دفعت بالغرب إلى صفوف المقدّمة من الركب الحضاري المعاصر، على نقيض ذلك الضباب الغامض من الغيبيات التي يلف حاضر شعوب بعينها في شرق غارق في أوهامه، شرق بدأ يستدعي أسباب جهالته المذهبية وينبش في رماد عقده التفريقية،  ليقع  خيرة شبابه بيد حفنة من صيادي المنابر ومهووسي الترويج الأصولي والانحراف الطائفي، ويُزجّوا كالأضاحي في طابور التشدد والهذيان الديني التجهيلي والحقن الماضوي العنفي في مداورة  مفضوحة على  تعاليم الإسلام الحنيف ومقايضة سياسية على تعاليمه الأصيلة.
حين كنت أشرح للطلاب الدور اللغوي لتاء التأنيث المربوطة، وكيف تغيّر من معنى المفردة حين إضافتها إليها، ضربت لهم مثالا لمفردتين هما: جامع وجامعة!  ولأني ” لحرمة المكان الأكاديمية” ولـ “مهنية” في تركيبتي الشخصية، أتحاشى أن أخوض في غرفة الصف أي حوار يخرج بنا عن سياق البحث العلمي، ولأني أقرّ أن الوقت الذي يصرفونه معي هو وقت للمعرفة والعلم وليس للتوجيه السياسي والتجييش الغيبي، لهذه الأسباب مجتمعة لم أذهب بهم إلى الفارق الفقهي بين المفردتين كيف اتسعت هوّته في يومنا هذا، وكيف كان الجامع في العهد الإسلامي الأول تماما كالجامعة، بالحكم الوضعي، حيث عرف الجامع في حينها مكانا للعبادة والحوار وتبادل الرأي والمعرفة أيضا، بينما تحوّل اليوم إلى منبر للتهييج الطائفي، والاصطفاف الديني، والتشهير الاجتهادي الذي يتجلى في رشق الفتاوى العجاف باستهتار بليغ بتعاليم بالدين الإسلامي أولا، وبالعقل العربي المغلوب على أمره تاليا. وكلنا شهد تلك الذلة التي تشدّق بها واحد من أصحاب العمامات الجزاف، والتي  أطلق عليها “فتوى إرضاع الكبير”، وما أدراك ما إرضاع الكبير!
نعم، أستعيدها تلك الهوة، وأنا أقرأ أوراق الامتحان النصفي لطلبة لم يمض على ولوجهم باب اللغة العربية الأسابيع الستة، وأجدهم يتعاملون مع هذه اللغة، رغما عن أجنبيتها، بيسر العارف ومرونة المحب. أستعيد تلك الهوة العلمية والثقافية التي تفصل بين هؤلاء الشباب الذين يتعلمون العربية وبين أصحاب اللغة الأصليين وما يعاني شبابهم من تغييب وحجر على المعرفة ابتداء بما يتلقونه من مواد درسية في المناهج التعليمية ” العثمانلية” التي هي أشبه بالكتاتيب المعرفية في أفضل الأحوال، أو أداة لنفخ بوق العصبية وبث الفرقة والعنصرية والفوقية المذهبية، في أسوئها، وصولا بهؤلاء الشباب إلى مطبّ الدعوات الأصولية الموتورة بلهجة العنف الطائفي البغيض؛ والتي مجتمعة تتضافرمع جهود الأنظمة الاستبدادية في كم الأفواه وحجر الحريات وحجب السيالات المعلوماتية وفي مقدمتها شبكة الآنترنت الدولية على حساب ترويج الغيبيات، مذهبية كانت أم سياسية أم اجتماعية، والتي يتناوب على إشاعتها كل من الأنظمة القهرية والجماعات الدينية التكفيرية في حلف شيطاني بينهما غير معلن!
نعم، أشعر بالفخر بإرادة هؤلاء الشباب على لوي ذراع الجهل، وبفخر مواز بقدرة اللغة العربية النافذة على اختراق حاجز الثقافات، اللغة الحيّة التي دوّن بها القرآن العربي والمعلقات الشعرية من قبله. وفي الوقت عينه ينتابني حزن منيع لأن في أرض لغة الضاد جيل من الشباب العربي يُجَرّ قسرا إلى سراديب الغيبيات التي يفرزها ذهن مريض لفئة تمرست في التفريغ الفكري المبرمج والتعتيم الدنيوي الأجوف لصالح كل ما هو غيبي غابر ومقيت، فئة من فصّلوا لغة الله عصا من جهنم يهشّون بها قطيع الواهمين بأن الجواب على أسئلة الهوية والحرية والسيادة يكمن في إلغاء الآخر، ورفضه، وحتى تصفيته، بعيدا عن إعمال الفكر لنبذ الجهل وتحقيق التقارب الإنساني بين الشعوب كافة كما أراد الله لخلقه في ذكره الحكيم: “وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون”، آية 13 من سورة الجاثية.
نعم، أنا على يقين أن هذا الجيل من الشباب العربي سيستعيد عنفوانه المعرفي ويركل أسباب انكفائه ويصنع مصائره بإرادته الخاصة واختياره المحض، ما يلحقه بمسيرة أترابه من شباب العالم ، مسيرة من يكافئونه في القدرات الذهنية  ولكن يتفوقون عليه في إرادة الاختيار!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 25 ديسمبر 2008.

نبيل علي صالح11 نوفمبر، 20100

لا شك أن لإيران موقعاً حيوياً واستراتيجياً في مجمل الخريطة الجغرافية والسياسية للمنطقة العربية والإقليمية المجاورة لها.. وهذا ما يدفعها باستمرار إلى محاولة لعب أدوار متعددة ومتنوعة ومتداخلة وأحياناً متناقضة (كما ظهر في تأييدها للأرمن على حساب شيعة أذربيجان) من حيث المحتوى والهدف والوسائل والأهمية في كل ما يتصل بسياسات وأحداث وتفاعلات المنطقة.. في وقت يتطلع جيران إيران إلى الأهمية الكبرى للأخذ بأسباب الحوار والتفاهم والتكامل بينهم وبين إيران، وخصوصاً منهم تلك الدول العربية المطلة على الخليج العربي.
أما في العصر الحاضر فقد تبوأت إيران هذا الموقع السياسي والديني المتقدم بعد اندلاع الثورة الإسلامية واستلام التيار الإسلامي الشيعي دفة القيادة منذ العام 1979م، من خلال هذا الزخم المعنوي الهائل الذي حظيت به قيادة ونهج قائد الثورة أية الله الخميني، والتفاف الشعوب الإيرانية حوله (على اختلاف مذاهبها واعتقاداتها وتنوعها الحضاري والأقوامي).
وقد حاولت الدول والقوى الكبرى بعد ذلك احتواء وإشغال تلك الثورة الفتية بحرب عبثية طويلة الأمد، ولكن إيران تمكنت في النهاية من الالتفاف على الظروف الدولية المحيطة لتحقق مستوى مهماً من الاستقرار والنمو والانفتاح السياسي عبر بناء شبكة علاقات خارجية وحياة سياسية واقتصادية مقبولة.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لا تزال الأفكار الخاصة بحقوق الإنسان، وتطوراتها المتعددة، تلاقي ضروباً مختلفة من اللامبالاة، أو الفهم المنقوص، أو الوعي المغلوط والمبتسر في قطاعات واسعة من المواطنين في المنطقة العربية، وربما يرجع ذلك إلى أن منظمات حقوق الإنسان، تركز دائماً على الانتهاكات الجسيمة للحقوق السياسية، وهي أمور تهم الصفوة السياسية المعارضة في البلاد، أكثر من القطاعات الشعبية، التي تركز غالب اهتماماتها على أمور الحياة اليومية ومشاكلها وضغوطها المتعددة. وهناك أسباب أخرى تركز على بعض الجوانب الهيكلية التي تواجه دعاوى حقوق الإنسان، وخاصة في ظل المرحلة الراهنة في التطور السياسي في المنطقة العربية، ولاسيما في ظل تفاقم المشكلات الاقتصادية – الاجتماعية وتفجر العنف الاجتماعي والسياسي ذي الأقنعة الدينية، وتبلور اتجاهات سياسية- دينية يطرح بعضها مجموعة من التصورات والمفاهيم التي قد تشكل في نظر دعاة حقوق الإنسان موقفاً مضاداً لهذه الحركة العالمية الإنسانية.
ما هي المصادر التي تقاوم نظام حقوق الإنسان؟ ثمة مصادر متعددة تغذي الوعي والمخيلة الجماعية بتيارات من اللامبالاة، أو الرفض والعداء لفكرة حقوق الإنسان وتطوراتها المتعددة. أول هذه المصادر الربط بين نظام حقوق الإنسان والنموذج الحضاري والثقافي الغربي، واعتبار هذا النظام أجنبياً، ومن ثم يحدث ارتباط ذهني وشعوري ووجداني بين هذا النعت أجنبي- غربي وبين كل المواريث المرتبطة بالصراعات مع الغرب، وتتدفق النعوت السلبية، كالهيمنة والاستعمار والاستغلال والاختلاف الديني والتحلل الأخلاقي، كل هذه الصور السلبية النمطية التي صيغت عن الغرب في علاقته بالعالم العربي.
وتزداد هذه العقبات من مصدر هام، هو طبيعة النظام الثقافي والقيمي الذي تطرحه بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية، وفقاً لتفسيرات متشددة تركز على الجوانب الخاصة بالحاكمية والألوهية والإلهيات على وجه العموم وعلى الشريعة في جوانبها الخاصة بالحدود.
أحد أبرز العقبات إزاء حركة حقوق الإنسان تستمد من طبيعة الممارسة التسلطية السياسية على مدى عقود تاريخية طويلة. مثل هذه الممارسة رسخت في الوعي الجماعي للعرب إحساسا بعدم جدوى الحريات العامة التي تنتهك يومياً، ولاسيما وأن أغلب النظم التسلطية، إن لم يكن كلها، كانت تطرح خطاب الحريات العامة والديمقراطية باعتباره من أهم وعود وأساطير دولة ما بعد الاستقلال، وأن هذه الوعود- الآمال سقطت بالتجربة في مجال الحريات المدنية التي تعرضت لمحن عديدة في ظل حكومات دولة ما بعد الاستقلال الوطني. وثمة مصادر هيكلية ترتبط بالتطور التاريخي لهياكل المجتمعات العربية، وهو أن الفرد ذاته لم يولد ككيان اجتماعي- سياسي فاعل له حرياته، وهوامشه وفكره الحر، وهناك قيود على ميلاد الفرد كفاعل اجتماعي وهي قيود تأتي من نظام القيم والتنشئة الاجتماعية البطريركية-الأبوية ودور الأسرة ودور الأشكال المختلفة من الرقابة السرية التي تمارس باسم الأسرة والدين والسياسة.. الخ، و التي تحدد هيكل المحرمات السائد في المجتمع.لا يمكن أن نكون إزاء مجتمع بالمعنى الدقيق للكلمة، ومجتمع مدني- كما حدث في الغرب- في ظل سيولة اجتماعية، وابتسارات هيكلية للنظام الاجتماعي، إذن لا مجتمع دونما فرد وبلا هيكليات طبقية متبلورة، ولها آلياتها في التضامن، وقواعدها في الصراع والتنافس السياسي- الاجتماعي، وأيضاً آليات للتوازن، وإعادة التوازن الهيكلي. وما يسرى على الفرد والمجتمع يسري أيضاً على مستوى بنية السلطة السياسية، وأيضاً الصفوة الحاكمة. حيث تختلط شخصية من بيدهم زمام السلطة وبين السلطة ذاتها، وبينهم وبين الدولة، ناهيك عن شيوع أنماط الفساد السياسي والهيكلي والوظيفي بين أصحاب السلطة والصفوة السياسية وزبائنها وبين الموظفين العموميين. كلها أمور تقف عائقاً ضد شيوع نظام حقوق الإنسان والتطور الديموقراطي السلمي في الدول العربية.
هناك تركيبات اجتماعية لا تزال تشكل عوائق ضد نظام حقوق الإنسان تحت دعاوى الخصوصية، لعل على رأسها مفاهيم الطائفة والعائلة والعشيرة والعصبيات المحلية –وأساطيرها المختلفة- والتي تتساند وتتفاعل في ديناميكية فريدة مع مفهوم الأبوية –البطريريكية- التقليدية، أو الحديثة الممثلة في الدولة وقائدها. ومثل هذه المفاهيم تتسم بالفاعلية، والرسوخ المستمد من طبيعة التطور الاجتماعي في العالم العربي والتشكيلات الاجتماعية والثقافية الأساسية والفرعية في هذه البلدان. هذه التركيبات الفسيفسائية، وأسسها العرقية والقومية والطائفية واللغوية والمللية والدينية، تمثل عقبات بنائية ضد نظام حقوق الإنسان بل أن العائلة الممتدة في مناطق عديدة، داخل هذه التركيبات لا تزال تمثل عقبة أخرى من العقبات.
ولعل أخطر هذه العقبات قاطبة هو سيادة العقل المغلق والسلفية الفكرية – لدى غالب القوى السياسية والثقافية والحزبية- حيث يعاد إنتاج مصادر الأفكار داخل كل جماعة، دونما تجديد أو اجتهاد، مما يعيد إنتاج الحدود بين المدارس الفكرية والسياسية والعملية في هذه المجموعة من الدول ومجتمعاتها. وتتفاقم مشكلات العقل المغلق مع انتشار موجة من العنف السياسي ذي الوجوه الدينية والطائفية. وانكسار الجسور بين مدارس الفكر والعمل كافة يزيد الأمر خطورة في ظل غياب التسامح الديني والفكري إزاء الأغيار بالمعنى الديني أو السياسي، ناهيك عن لجوء الأفراد والجماعات لممارسة الاغتيال المادي للمغايرين لهم فكرياً، بما يمثل تهديد للحقوق الأساسية للإنسان.
وتتزايد خطورة الأوضاع الراهنة، والانتهاكات التي تحفل بها تقارير المنظمات غير الحكومة العاملة في مجال حقوق الإنسان –بكل مواءاماتها- في ظل طرح إشكاليات الخصوصية والهوية إزاء الأطروحات الغربية لحقوق الإنسان.
إن الخصوصية تبدو في خطاباتها المتعددة- سواء من الدولة أو من القوى السياسية غير الحكومية- وكأنها دعاوى للدفاع عن انتهاكات الدولة، وأطراف غير حكومية، أو للتغطية على هذا النمط الفظ من الانتهاكات. وكأن الخصوصية تقتضي عدم احترام الإنسان.
ثمة تواطؤ ما بين قطاعات من المثقفين أشباه الحداثيين مع السلطة، جلباً للمنافع الذاتية، وتغاضيهم عن ظاهرة توحش قوة الدولة البوليسية، وآلاتها القمعية “المشروعة”! مما أدى ولا يزال إلى تآكل دولة القانون الحديث وسيادته. و مما زاد الأمر تعقيدا  تشكيك قوى سياسية، وفئات اجتماعية واسعة في مفاهيم سيادة القانون والقيمة التي يحملها خطاب الحداثة القانوني، وحقوق الإنسان. مثل هذه الممارسات ساهمت في تآكل وانهيار التقدم والحداثة وحقوق الإنسان في الدول العربية.
هناك عوامل أخرى تساهم في إعاقة وحجز دعاوى حقوق الإنسان منها ضعف المنظمات الوسيطة، وأزمة مؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان ذات الطابع النخبوي، وتحول الأطروحات السياسية والأيديولوجية المهزومة ودعاتها ومناصريها إلى مجال حقوق الإنسان.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 21 ديسمبر 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20101

إن الخلط الشائع بين الشريعة والدستور يثيرُ تساؤلاتٍ شتى على أكثر من مستوى تتعلق عادةً بمدى قدرة الشريعة على استيعاب الطفرات الهائلة التي تنمو باستمرار في عالم اليوم، وما إذا كان بإمكان جملة القواعد التشريعية التي كانت وليدة ظروفها التاريخية الخاصة أن تنتظم هذا الفضاء العام الذي يُعيدُ مرارا وتَكرارا هيكلة الأوضاع وفق أسس ومبادئ لم يعد حتى في الإمكان التنبؤ بها، وما إذا كان سيتم التعامل مع هذه الإحداثيات، والحالة هذه، وفق مبدأ “محدثات الأمور” وأن كل محدثة بدعة …إلخ، أم سيتم تقبلها بمرونة من خلال تقنينها دستوريا؟!.
إن الحل الأمثل لهذا الإشكال يتمثل في إرساء قواعد الممارسة الدستورية والتي تأخذ في الاعتبار الشريعة بإطارها المقاصدي (أينما تكون المصلحة فثم شرع الله) بدلا من القول بأبديتها، كما هي محددة بشكلٍ نهائيٍ في سياق الخطاب السياسيّ الإسلاميّ. أي أننا بحاجة ماسة إلى دستور ليبرالي إسلامي عبر إعمال المزيد من القواعد/الاجتهادات الجديدة والتي تتواءم مع معطيات العصر، إن لم تتجاوزه نحو مستقبلٍ أشد انفتاحاً وأكثر رحابة.
خاصة وأنه يتم اختزال الشريعة عادة في جانبها الجنائي فقط والذي لا يتعدى 2% منها (بواقع 4 آيات من أصل 220 آية تحدد أصولها في القرآن الكريم)، مما يعني أن ثمة 98% منها لا يزال مهملا وغير مطروح بتاتا، الأمر الذي من شأنه الإجحاف بحق منظومة الحقوق المدنية والسياسية وترجيح كفة الواجبات على حسابها.
أضف إلى ذلك، أن التنصيص على الشريعة كمصدر رئيس للتشريع داخل الدستور يفضي إلى إحداث تناقضات صارخة في التطبيقات العملية. فعلى سبيل المثال، لو قدِّرَ لمصرية تمتهن الرقص أن تحتكم إلى قانون الأحوال المدنية في شكواها المتعلقة برفض رئيسها صرف مستحقاتها المالية لصدر الحكم لصالحها استنادا إلى كونها تمارس عملا مشروعا بحكم القانون. لكن في الوقت ذاته لو أنها مثلت أمام قاض تابع للأحوال الشخصية في شكواها المتعلقة بانتزاع أطفالها لصالح زوجها لجاء الحكم في غير صالحها استنادا إلى كونها تمارس عملا غير مشروع بحكم الشريعة الإسلامية. وهكذا يبدو العمل مشروعا وغير مشروع في آن معا لاختلاف وتعدد المرجعية ما بين الدستور والشريعة الإسلامية، تبعا لاختلاف وتعدد المرجعية القانونية في الدستور الواحد.
لكن لا يُفهم مما سبق ضرورة توحيد المرجعية: إما الشريعة أو الدستور! نظرا لأن ذلك لا يحل الإشكال حتى من الناحية النظرية. وآية ذلك، أنه رُغم التنصيص صراحة على كون الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع في بعض الدساتير العربية، لا تزال هذه الدساتير تعاني هي الأخرى من مشكلات كبرى تتعلق غالبا بحجم الحرية الفردية التي تتيحها مثل هذه المنظومة التشريعية.
وفي المقابل، لا تزال الدول الإسلامية التي لا ينص دستورها صراحة على هذا الأمر تواجه تحديات مماثلة، سواء فيما يتعلق بطلب الاحتكام إلى الشريعة من قبل الحركات الإسلامية، أو فيما يتعلق بالشق القانونيّ الخاص بالأحوال الشخصيّة.
أيضا ينشأ عن هذه الصيغة الحاليّة مشكلتين رئيستين: الأولى واضحة بذاتها، وهي أن النص بصيغته يميز بين المواطنين على أساس الدين بمجرد إشارته إلى دين دون آخر. الثانية: فقدان الانسجام الدستوري بين النص على دين معين وشريعة بذاتها للدولة وبقية نصوص الدساتير العربية والتي ينهض أغلبها على فكرة الدولة المدنية الدستورية الحديثة.
فعلى سبيل المثال، تنص المادة الخامسة المُعدّلة حديثا من الدستور المصري على منع نشأة الأحزاب وفق أسس دينية الأمر الذي يتعارض بداهة مع نص المادة الثانية المتعلقة بكون “الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع” والذي يقنن تماما إمكانية نشوء الأحزاب على أساس ديني.
كما يمكننا أيضا أن نرى هذا التعارض الصارخ بين المادتين إذا نظرنا لإمكانية مخالفة نص المادة الثانية أو منازعتها. فلو قام حزب سياسي على أساس يعارض نص هذه المادة ويدعو مثلا لفصل الدين عن الدولة لصار هذا الحزب مناهضا لمبادئ الدستور منطقيا.
ونخلص مما سبق إلى أن نتيجة مؤداها أن الشريعة، وفق التصور السائد عنها لدى حركات الإسلام السياسي، تظل قاصرة عن اللحاق بالعصر، فضلا عن التحكم فيه، كما أنها تظل قاصرة أيضا مقارنة بالدستور وآليات اشتغاله في العالم المعاصر، وهو ما تعجز الجماعات المنادية بتطبيق الشريعة عن قبوله أو حتى تفهمه.
والحل الرئيسيُ في اعتقادنا يكمُن في تعديل هذه المواد إلى: “الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع إلى جانب الفقه الدستوري والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان”، فنضمن بذلك أن ننتصرَ ابتداءً للاجتهادات المستنيرة التي تفسرُ الشريعة تفسيراً يتوافقُ مع أرقى ما أنتجه العصر من معاييرَ أساسيّة في المجالين السياسيّ والمدنيّ ولا ترى تعارضا يُذكر بين الإسلام وحقوق الإنسان أو بينه وبين أي من مبادئ الليبرالية والديمقراطية الغربية.
وختاما، إن ما ندعو إليه ليس الاصطفاف مع أو ضد الشريعة وتبادل الاتهامات بالرجعية والقصور تارة أو بالعمالة والعلمنة تارة أخرى، وإنما ندعو إلى فتح حوار مشترك حول وضعية الشريعة في العصر ككل وفي الدستور بصفة خاصة. انطلاقا من أحقية كل إنسان يُطلب منه الاحتكام إلى الشريعة أن يجد إجابة شافية عن تلك التساؤلات المعقدة التي تثيرها هذه الوضعية الملتبسة وعلى رأسها: هل يعد الدين مصدرا للقيم أم مصدرا للسلطة، وكيف يكون مصدرا للقانون دون أن يكون مصدرا للسلطة؟!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 16 (ديسمبر) 2008.

عزيز مشواط11 نوفمبر، 20100

تاريخ الحركات الإسلامية في العالم العربي ينضح بالدم والعنف، لكن التجربة المغربية نجحت في ترويض جزء منها. فتحولت إلى فاعل سياسي عاد. نتج عن هذا التحول إسلام سياسي معتدل. إسلام ليس رسميا، وليس متطرفا . إنه إسلام ثالث يؤمن، على مستوى الخطاب على الأٌقل، بالقيم الديمقراطية، من الانتخابات إلى ترشيح المرأة وصولا إلى العمل النقابي وغيرها.
يتعلق الأمر بحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية الذي نجح قياديوه في الانتقال به من الفكر التكفيري الذي يتبنى العنف إلى مستوى التنظيم السياسي المشتغل في إطار القانون. كثيرون حاولوا تفسير هذا الصعود، لكن ومهما اختلفت التفسيرات فإن الإسلام السياسي أصبح يفرض نفسه بقوة. ورغم انحدار الحزب من رحم الإسلام المتطرف (الشبيبة الإسلامية التي تبنت العنف من أجل التغيير بقيادة عبد الكريم مطيع خلال ستينيات القرن الماضي)، فقد خضع لظروف جعلته يقبل باللعبة الديمقراطية. لكن مخاوف كثيرة تزعج المتتبعين، بسبب ماضي أعضاء الحزب الذين تكونوا في تنظيمات مارست العنف.
في الوقت الراهن، يشتغل حزب العدالة والتنمية كممثل للاتجاه الإسلامي في إطار الشرعية. فقد برهن عن قدرة كبيرة للتأقلم مع متغيرات العصر، بعد أن جدد هياكله وراجع خطابه. وتعزز ذلك بعد مؤتمره الأخير الذي عرف، بشهادة الأعداء والأصدقاء، مستوى كبيرا من النضج، وتداولا سلميا للقيادة بين زعيمه المغادر سعد الدين العثماني وقائده الجديد عبد الإله بنكيران، وبذلك صار نموذجا في الديمقراطية،على الأقل من حيث الشكل.
تعود قوة انتشار الحزب وسرعة صعوده، إلى قوة الإسلاميين في تعبئة الناس. إنهم يقدمون، لكل الأزمات حلولا بسيطة تبشر بالخلاص في الدنيا والآخرة. هذا البعد الساذج والبسيط، يجد قبولا كبيرا من طرف كل الفئات وخاصة المحرومة منها.
ومع ذلك لا تزال الحركة الإسلامية بالمغرب، حسب بعض منظريها، تعاني من بعض الضعف مقارنة بنظيرتيها الجزائرية والتونسية. يرجع ذلك بالخصوص إلى أصولية الدولة نفسها، بسبب احتكار الملك للحقل الديني باعتبار الدستور المغربي ينص على كون الملك “أمير المومنين وحامي حمى الملة والدين”، فالملك فاعل سياسي وزعيم ديني في الوقت ذاته.
يمنع في المغرب على غير المؤسسة الملكية التحدث باسم الدين، لكن إسلاميي المغرب يستغلون ذلك للتغلغل أكثر في الأوساط الاجتماعية المختلفة. إن الدولة، حسب تصورهم إسلامية من حيث المبدأ ، لذلك ينصب اهتمامهم نحو الضغط من أجل أسلمة المجتمع ومؤسساته. توجد إذن صعوبة في القول بضعف الحركة الإسلامية بالمغرب، كما أنه من غير الملائم حصر مكونات الحركة الإسلامية في حزب العدالة والتنمية. هناك مكونات أخرى تشتغل بقوة في السر، من قبيل جماعة العدل والإحسان الإسلامية التي ترفض الاعتراف بالنظام، وتتوفر على قاعدة شعبية جعلت الكثيرين يعتبرونها القوة السياسية الأولى في المغرب. بالإضافة إلى حركات جهادية لا يزال يلفها الغموض، ولا تزال تتبنى العنف، وتتهمها الدولة بالتورط في تفجيرات دموية، شهدتها مدينة الدار البيضاء عامي 2003 و 2007.
الأكيد أنه لا يمكن فصل توسع الإسلاميين بالمغرب، عن الحالة العربية عامة. فقد شكلت هزيمة العرب في يونيو من سنة 1967 أمام إسرائيل، صدمة للمشروع القومي. نتج عن ذلك إحباط عام بفعل نهاية أسطورة الوحدة العربية. فقد وجدت الحركات الإسلامية المتطرفة في الفراغ الذي خلفته هزيمة الناصرية وتراجع المد القومي مجالا خصبا، استثمرته لتحقيق التمرد الاجتماعي والسياسي.
بعض المتخصصين لا يوافقون على ذلك. ويعتبرون أن نشأة الحركة الإسلامية بالمغرب تعود، بالدرجة الأولى، إلى مناورة قلب نظام الحكم، وهو المسار الذي شجعته الملكية. شجعت الدولة هاته النشأة في سياق صراعها المرير ضد الحركات اليسارية والماركسية، التي عرفت أوج قوتها في الجامعات والمدارس الكبرى خلال ستينيات القرن الماضي.
لكن الإسلاميين الذين تقووا بدعم من الدولة سرعان ما اكتسبوا استقلاليتهم، فقطعوا كل صلة بها. بل صاروا يهددون النظام الذي قدم لهم العون، ليجدوا أنفسهم في مواجهة معه.اضطر النظام بعدها إلى احتواء التنظيمات المعارضة. فساعدها على الخروج من السر إلى العلن. هكذا تأسس حزب العدالة والتنمية، عبر وساطة الراحل عبد الكريم الخطيب، إحدى الشخصيات المقربة من القصر. سمحت هاته الوساطة باحتضان حزب الحركة الدستورية، الذي كان في حالة جمود، لجماعة من الإسلاميين يشكلون الآن حزب العدالة والتنمية، بأكثر من 44 ممثلا في البرلمان المغربي.
تختلف تجربة الإسلاميين المغاربة عن نظرائهم بكل من تونس والجزائر. لكن الحكم على هاته التجربة الآن، سابق لأوانه. فما بين الفينة والأخرى تخرج أصوات من داخل الإسلاميين المعتدلين أنفسهم تدافع عن العنف. قيادي سابق في صفوف العدالة والتنمية اعتبر أن “أكبر خطيئة وقعت فيها الحركة الإسلامية بالمغرب، هو اتخاذ “حزب سياسي”، ويقصد بذلك حزب “العدالة والتنمية” الذي يقوده عبد الإله بنكيران، ويقول بهذا الخصوص: “لقد صار الإسلاميون يشتغلون في الشك، وقد كانوا – من قبل – يشتغلون في اليقين! وكانوا إلى الإخلاص في الأعمال أقرب، ثم صاروا إلى خلط مبين!
الاعتدال والتسامح الذي تعول عليهما الدولة لم يكتملا بعد، بالرغم من نظرة الحزب الواقعية، وتطويره لغة سياسية جديدة من “قبيل التحجيم الذاتي” أي رفض الدخول في مواجهة مع الدولة ومع الخصوم السياسيين، ونبذ العنف، بل التحالف في بعض القضايا مع تيارات سياسية علمانية. لكن حوادث أخرى لا تدعو إلى الاطمئنان رغم أن التجربة تستحق المتابعة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 02 ديسمبر 2008.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018