حقوق الإنسان و المؤسسات والمجتمع المدني

نبيل علي صالح16 نوفمبر، 20100

قدم العلم الحديث للإنسان فرصاً واسعة وإمكانات قصوى في حصوله على المعلومة والمعرفة، وبات يعيش في عصر الثقافات الفكرية والعلمية العابرة للقارات، وعصر التواصل والتبادل والتشابك في المصالح والمصائر، وهو أشبه ما يكون بسوق –نعم سوق- معلوماتي افتراضي وواقعي واسع لتداول الأفكار وتبادل المعارف ونمو ما يسمى باقتصاد المعرفة، ولدى قيامي بتصفح كثير من مواقع النشر الإلكترونية، ألاحظ باستمرار وجود عدد لا يستهان به من المقالات والآراء العائدة لبعض رموز ونخب المعارضات السياسية العربية التي تعيش خارج بلدانها بسبب ما تعتبره عدم وجود مناخ حرية حقيقي تستطيع من خلاله الدعوة إلى أفكارها والتعبير عن طموحاتها الفكرية والسياسية في داخل أوطانها الأصلية.
وقد لفتني منذ فترة إمعان بعض تلك الأسماء في استخدام كثير من مصطلحات الشتم وألفاظ السب بحق ناسها ومجتمعها وبلدها، ووصْفِهم جميعاً بأقذع النعوت، بما لا يوفّر فيهم كبيراً ولا صغيراً كما يقولون. طبعاً ليس هذا محل استغراب مني كمثقف نقدي يشتغل على إشكاليات الثقافة العربية، ويقوم بعمليات التحليل والاستنتاج ووصف العلاجات، إذ أنه من حق أيٍ كان أن يعبر عن أفكاره واعتقاداته بالطريقة وبالأسلوب الذي يريد.
ولكنني –في الوقت الذي أدعو فيه إلى تمثل قيمة الحرية بكل معانيها- أعتقد أن الحرية لا تعني الفوضى، بل أن تعطي كلمتك، وتعطي موقفك، وتؤكد موقعك بعد دراسة من خلال مسؤوليتك، وأن تفسح المجال للآخر في مناقشتك وفي نقدك. والحرية لا بد وأن تكون مقرونة بالمسؤولية، والمسؤولية تفترض بدورها وجود عقول حوارية واعية، خصبة ومنتجة للتسامح والسلام الاجتماعي، لا عقول إقصائية إلغائية تمارس الحرية بطريقة وصائية بعيدة عن أدنى حالات التخلق بالقيم الوطنية الجامعة لكل مكونات المجتمع وتنوعاته الثقافية والاثنية والأقوامية. كما تفعل بعض شخصيات تلك المعارضات الخارجية التي سبق أن ألغت من قاموسها السياسي والفكري حسابات ومصالح الوطن، وهي تحاول –على الدوام- تعميم الخطاب السلبي السوداوي عن وطنها الأم، وبالذات حول بعض مكوناتنا الثقافية والدينية التاريخية.
ونحن من موقعنا كمثقفين مهتمين بعملية النقد الهادف إلى تطوير بلداننا ومجتمعاتنا العربية، نعمل –مثل أي مواطن حر آخر- من داخل الوطن وليس من خارجه، ونمارس عملية النقد البنّاء والموضوعي الناظر إلى غد أفضل مشرق تنطلق فيه نهضة المجتمعات المنشودة على كل الميادين ومن دون وجود أية موانع مستحيلة أو معقدة تذكر. طبعاً هذه أمنية كبيرة ولا شك، فالواقع لا يخلو من وجود صعوبات وضغوطات هنا وهناك (وهذا أمر ينبغي فهمه ووعيه واحتواؤه، وهو موجود في كل الدول وحتى في بلدان كثيرة)، ولكننا نأمل ونتمنى ونعمل على الدوام لكي تصبح مجتمعاتنا في أرقى مواقع المدنية والتحضر والتقدم الفكري والسياسي.
ويبدو لي أن المعيار الحقيقي الناظم لحركة الحرية هو في كونها محددة بقيد الحرية ذاتها، ولكن ليست الحرية المنفلتة من عقال محبة الوطن والمجتمع (والناس المكوّنين له) بقطع النظر عن معايير وضوابط وآليات السياسة التي تحكم وتدير وتنظم مختلف مواقع هذا البد أو ذاك، وبغض النظر عن مشارب هؤلاء الناس المنتمين للوطن على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم الفكرية والدينية والأقوامية، فللحرية محددات وانتظامات تتركز أساساً في عدم إثارة دواخل ومشاعر الآخرين، وتقصُّد الإساءة إلى قناعاتهم ومعتقداتهم بقطع النظر عن صحتها وحقانيتها وفاعليتها الحضارية، ثم إن النقد لا يكون بإتباع طرق وأساليب العنف الرمزي الفكري التشهيري والإقصائي المتعمد –في أحايين كثيرة- بحق بعض التكوينات الدينية والتاريخية الحضارية الأساسية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، الذي يضم بين جناحيه أدياناً ومذاهب وطوائف وقوميات واثنيات متعددة يراد لها أن تستظل بظل الوحدة الوطنية الطبيعية الطوعية –لا القسرية- لينعم مواطنونا فيها بقيم المحبة والتسامح والإخاء والتعاون لما فيه مصالح الأوطان والشعوب بكل تنوعاتها وتعددياتها.
ولا شك أن بلداننا تعمل –بكافة مؤسساتها وأجهزتها ومواقعها- لتأمين متطلبات المجتمع، وخلق فرص عمل للشباب، واستصدار قوانين وتشريعات لفتح أبواب الاستثمار الاقتصادي على مصراعيه، على مستوى تحديث النظم والقوانين، وهيكلة الاقتصاد، وتطوير الواقع السياسي. وعلينا ألا ننسى هنا أن ضغوطات الخارج وتحديات التسارع العالمي –منضافاً إليها عدم السيطرة كثيراً على مارد الفساد والمفسدين في الداخل- تلعب دوراً كبيراً في تأجيل –وأحياناً إيقاف- كثير من خطوط الإصلاح الاقتصادي والسياسي وتأخير إقلاع عملية التنمية البشرية.
طبعاً أتمنى ألا يفهم من تحليلنا السابق أننا نجمّل أوضاعنا الداخلية، ونقدم صوراً ناصعة عن واقع مجتمعاتنا، وكأننا نعيش في جنان أرضية تحكمها ملائكة من السماء، بل نحن مجتمعات أرضية نسبية في فكرها وسلوكها، ونعترف فيها بالقصور القائم، كما أننا لا نزال نعاني من وجود أخطاء وتحديات داخلية على شتى الصعد والمستويات، ونماذج أو تكوينات “السياسة-الاجتماعية” التي يعيش في ظلها أفراد مجتمعاتنا ليست الأفضل والأحسن، ولكنها -برأينا المتواضع- مناسبة حتى الآن للبنية الفكرية والسوسيولوجية التاريخية المشكِّلة لمجتمعاتنا، وهي ملائمة أيضاً لطبيعة التواجد الجيواستراتيجي لتلك البلدان الغائرة في خضم جغرافية هلامية وتوازنات مخلخلة ومناخات دولية عاصفة باستمرار.
ونحن حقيقةً نحاول بهدوء وروية وعقلانية وتدرجية –وبالتعاون المثمر والتفاعل البناء بين الدولة والمجتمع- الدعوة إلى تطوير النموذج السياسي الحاكم على مجتمعاتنا من دون أي تدخلات أو اختراقات من هذا الجانب أو ذاك، وهذا لا يعني أن نبقى معزولين عن العالم، أو نغلق علينا أبواب الانفتاح والتنفس في الهواء الطلق والاستفادة من تجارب وتراكمات الخبرة لدى الآخرين.
وكلنا يعلم بأن المريض المزمن في مرضه –إذا سلّمنا جدلاً بأننا فعلاً نعاني من أمراض مستعصية على الحل! (وأنا لست من أنصار التشاؤم والسلبية بل من أنصار أن تشعل شمعة خير وأبقى من أن تلعن الظلام)- لا يأخذ الدواء دفعة واحدة، بل يتناول الدواء والعلاج على مراحل وفترات وبانتظام وفي أوقات زمنية محددة حتى يتمكن من تهيئة جسده لتقبل الوصفة الطبية ليشفى ويتعافى لاحقاً.
ثم إن الإصلاح والتغيير مطلوب بصورة دائمة في أي مجتمع يريد أن يكون له حضور نوعي منتج ومؤثر في عالم اليوم والغد، لأن التطور ناموس كوني وقانون طبيعي، والمتغير هو الثابت الوحيد في هذا الكون،ولكن ينبغي أن يكون الإصلاح تدريجياً وداخلياً ليكون مؤثراً ومستمراً وناجعاً. وقد أثبتت كل تجارب الشعوب والأمم والحضارات أن الإصلاح الفوقي المفروض بالقوة (وبالريموت كونترول) مرفوض ومدان وضعيف التأثير .
إن قيم الإصلاح والديمقراطية (ومجمل مبادئ المدنية الحديثة، وقيم العلمنة الراقية)، هي –في الأساس- ثقافةٌ وتربية وتهيئة نفسية مستمرة ومتواصلة منذ الصغر، وجهد داخلي فعال لاستنباتها في تربة المجتمعات العربية بما يتلاءم مع فكرها وثقافتها وحضارتها، قبل أن تكون معادلة ولها مقاييس وموازين مادية. ومجتمعاتنا العربية عموماً –لاشك- متعبة ومنهكة، وظروفها وأحوالها المختلفة ليست على ما يرام بالتأكيد، وهي تنشد أفضل أساليب الحكم والإدارة في السياسة والاقتصاد وغيرها، ولكن ذلك لا يحدث بصورة تلقائية (كن فيكون)، بل يحتاج لعقود طويلة من تربية الناس على قيم الحداثة والاستنارة العقلية والمادية.
من هنا مطلوب منا جميعاً –كل بحسب موقعه وجهده وقدرته- أن نساهم في إصلاح وبناء مجتمعاتنا وبلداننا. وهذه المهمة بالذات لها خطورتها وحيويتها لدى جمهور المثقفين المتنورين خصوصاً أولئك الذين لم يوجهوا سهام النقد الشخصي الجارح والهدام واللامسؤول إلى قلب الوطن، ولم ينخرطوا في لعبة السياسات الدولية التي تعمل ليلاً ونهاراً لتقويض مندرجاتنا الاجتماعية وتكوينات وحدتنا الوطنية التي نأمل تطويرها وتعزيزها.
© منبر الحرية ، 26 ماي /أيار2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

في الساعات الأولى من صباح أول اثنين من شهر مايو غادرنا مبدع فوق العادة، فجر خلال حياته الفكرية الصاخبة جدالات ونقاشات لم يخمد فتيلها بعد، وهوى بمعاول النقد على “العقل العربي المستقيل” دون كلل أو ملل. رحل الابن الشرعي لواحات فكيك في أقاصي المغرب الشقي عن عمر يناهز 75 عاما، بعدما أدمن الكتابة لدرجة الهوس في محاولة جادة لتأسيس عقل عربي جديد من داخل تراثه بأدوات عقلانية مأخوذة من الثقافة الإنسانية.
رحل ابن رشد العصر الحديث بعد صراع مع المرض، الذي لم يوهن من عزيمته وعمله الدءوب إلى آخر لحظة من حياته، تاركا الساحة فارغة لوعاظ السلاطين الذين يحرجهم كلما ردد على مسامعهم شعاره “خبز وزيتون ورحمة من رب العالمين”.
وعاظ ما انفكوا يتبارون في رثائه ويتفجعون على رحيله في مقام العزاء هذا، بعدما اقتعد الرجل كرسي الغياب، وهم من هم، إلا خصوم و رفاق الأمس ممن كانوا يتمنون موته بسبب التزامه بالبحث والتنقيب في غيابات الأسئلة الكبرى قاطعا الطريق أمام الردود السريعة التي تزلف بها هؤلاء وأولئك مقابل التعيش من موائد أصحاب السلطة والمال والنفوذ، مفضلا الوفاء لمشروعه الانكتابي المتعدد الجبهات على الانصياع لإغراءات المناصب والجوائز والهرولة خلفها.
جبهات أربع تلك التي تتقاطب لتشغل مسار حياة ديكارت العرب في سعي متواصل لرؤية ما لا نراه، في الحياة الفكرية والاجتماعية السياسة وحتى في الناس، والتعبير عن كل هذه الأمور بلغة العلم، مستثمرا أحدث المنهجيات التي وصل إليها المجهود الإنساني.
ولعل أولى تلك الجبهات كانت حين كتابته عن التراث وقراءته التي تعد رباعية عن العقل العربي (تكوين العقل العربي/ بنية العقل العربي/ العقل السياسي العربي/ العقل الأخلاقي العربي) الذي يعد قطب الرحى فيها إلى جانب كتاب “نحن والتراث”. أما ثانيها فعن الخطاب العربي الحديث و المعاصر الذي صاغ خطوطه العريضة في مؤلفي “الخطاب العربي المعاصر” و “إشكاليات الفكر العربي المعاصر” اللذين يعدان محورا لجميع أبحاثه في هذا المجال. وفي الجبهة الثالثة عانق الرجل إشكاليات الفكر العالمي المعاصر على الواجهتين العلمية والفلسفية مخلفا عنها منجزا أصيلا بعناوين متباينة من قبيل “التفكير العلمي” و”مدخل إلى فلسفة العلوم”ـ حقول تستدعي الموسوعية قصد تحريك كرة الثلج المعرفية هذه التي تكبر بعد كل منجز جديد للراحل، والتي لم تنهه عن فتح جبهة رابعة وأخيرة حول الشأن المغربي موظفا ثمار الحقول الثلاثة في قراءة وتحليل هذا الواقع. بإخضاع أحداث ساخنة إلى دراسة تاريخية، مع المواظبة علىتتبع مجريات الأحداث مترفعا عن قراءتها قراءة ساخنة، مما خلف ودون شك أثرا في المشهد الثقافي رغم انتمائه لمدرسة سياسية بعينها، خصائص نجدها في العديد من العناوين التي جاءت في سياق هذا الحقل مثل “المغرب المعاصر” و”في نقد الحاجة إلى الإصلاح”.
في سياق انشغاله داخل نسق فكري واضح المعالم والطروحات مع مرور الأعوام، أصبحت سهام النقد والتجريح تتوالى على صاحب مفردة “العقل العربي المستقيل” باحتجاجات أسماء محسوبة على التيار العلماني، وتكفيره من قبل جهات دينية. في حين فضل التنقيب على آليات صناعة الأسئلة اللامتناهية قبل التفكير في إيجاد أجوبة، مقدما بذلك الدليل على مسؤولية “ال نحن” في إنضاج وبلورة المشاريع الفكرية لا وأدها وإقبارها من قبل “الأنا”.
نعم، فعشاق ثقافة التصنيف بدا لبعضهم ماركسيا، في حين يراه آخرون قوميا، وبينهما يبدو إسلاميا في من وجهة نظر ثالثة. بيد أنه لا يلبث أن يجيب كلما سمحت له بالفرصة بذلك على أنه لا شيء من هذا إطلاقا، وفي الآن نفسه كل هذا مادام ينطلق من واقع عربي خصب يضم كل هذه التوجهات، موظفا دوره المزدوج كسياسي ومثقف في إنتاج وتكريس ثقافة الخلاف والاختلاف.
مع توالي السنين تحركت الأقلام النقدية ضد الجابري، مما يؤكد متانة مشروعه وعدم قابليته للمقاربات الجاهزة والسريعة من جهة، ومن أخرى تقديمه الدليل على المساحة و المجال اللذين استولى عليهما في العقول.
كغيره من مدمني الأسئلة الكبرى يؤمن الجابري بأن التأسيس في عالم الفكر يكون جماعيا لا فرديا، ما ساهم في استفزاز العديد من النقاد في دوائر عدة، كانت أولها “البيت التنظيم” للراحل أي قبيلته الحزبية، ثم في دائرة ثانية على صعيد المشهد الثقافي المغربي ( يمينا ويسارا وإسلاميين) وأخيرا على امتداد الدائرة العربية في العالم العربي.
نقد كشف عن تمكن الجابري من زمام مشروعه الانكتابي بأسلوب بسيط بعيد عن التعقيد، بساطة لا تبسيط فهي إبداع وتميز نابع من التمكن من الأفكار وصياغتها بشكل واضح يفضي بالقارئ إلى التفاعل مع النص. كما قدمت هذه الانتقادات التي جاءت بأقلام رواد الفكر بالعالم العربي أمثال “حسن حنفي” و “طه عبد الرحمان” و “كمال عبد اللطيف” و”علي حرب” و “جورج طرابشي” و “إدريس هاني” و “بنسالم حميش”… في عناوين من قبيل “نقد العقل أم عقل التوافق” و “معهم حيث هم” و “نقد نقد العقل العربي” و”نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر” و “محنة التراث الآخر ” … الدليل تلو الآخر على قدرة هذا الهرم الفكري تحريك المياه الفكرية الآسنة على امتداد الدوائر الثلاثة، التي إن لم تدن بشيء له فيكفيه استفزازهم للكتابة والتأليف بغض الطرف عن قيمة من جرهم لذلك.
بعيدا عن الثقافة قريبا من السياسة، التي غادر الجابري معتركها، بعدما أدرك زيف المصالحة وعسر الانتقال والولادة القيصرية التي عرفتها الديمقراطية على يد رفاقه في القبيلة الحزبية. ما دفعه إلى تجميد جميع أنشطته داخلها، رغم أن أدبيات الحزب وهويته لا تخلو من فكره وبصمته.
لقد كان الراحل يعتصر ألم العقل العربي المستقيل في صمت، وفي زمن ازدادت الحاجة فيه لأمثاله، لفك طلاسيم هذا الواقع الملغز الذي صارت فيه القاعدة استثنائيا والاستثناء قاعدة في كل شيء. مقدما البرهان على الالتزام في سبيل قضايا وأفكار زاهدا في كثير مما يتسابق صغار النفوس لبلوغه، مخلفا إرثا مهما كحجة دامغة للجاحدين على أصالة منجزه وإبداعية المائزة. ولعل أفضل تكريم يحضى به الراحل هو استمرار الجهد الفكري المبدع والعمل النقدي البناء والروح الأخلاقية السامية عند طلابه ورفاقه في مدرسة القلق والسؤال…
© منبر الحرية ، 8 ماي /أيار2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20105

هل هنالك فكر عربي معاصر خالص,لا ينتسب إلا لنفسه, لجهة الأسئلة والمشكلات النظرية, وكذلك لجهة المفاهيم والبناء والتنظيم الداخليين؟ وهل هو مستقل عن الخطاب الفلسفي الحديث والمعاصر؟ وهل ثمة أصالة حقيقية في سماته وأطاريحه؟ وفي الأصل يجدر بنا التساؤل هل هنالك فلسفة عربية معاصرة تشكل إطاراً نظرياً شاملاً للفكر العربي, ويعدّ الأخير نسقاً إيديولوجيا من أنساقه؟
يبدي العديد من المفكرين العرب ومؤرخي الفلسفة حماسة للقول بوجود فلسفة عربية معاصرة. ويلجأ هؤلاء إلى نوع من التحقيب التاريخي لها, أو نمط من المركزية والمركزية المضادة. وهذا ما يتعارض تماماً مع الوعي الفلسفي بصفته وعياً تاريخياً كليّاً بالعالم وبمشكلات الوجود, ويتعارض مع غاياته. فالمبدأ الرئيس هو أن الفلسفة واحدة في حقيقتها, وغاياتُها أعمق وأشمل من أن يتمّ حصرها في هوية تاريخية أو أيديولوجية معينة. وهذا يعني أن السؤال الفلسفي لا يكون كذلك ما لم يَتسِم, من حيث النشأة والديمومة, بالشمولية والكونية. وهذا المبدأ ليس تعميماً مجرداً أو شكلياً فحسب, وإنما يغدو واقعاً ملموساً حينما يتم الشروع في البحث التاريخي للفلسفة وفي تخصيصها وتعيينها.
إذاً, كيف نؤرخ للفلسفة؟  وما معنى الحاجة إليها, وكيف تنشأ الأخيرة؟ وهل ثمة تجربة فلسفية أصيلة يمكن تسميتها بالفلسفة العربية المعاصرة؟ بقول آخر, هل أنتج التاريخ الحديث والمعاصر للعرب رجالاً هم حقاً وفعلاً أهل للقب الفلاسفة؟ ثمّ هل أبدع هؤلاء, بدورهم, أنساقاً فكرية ترقى إلى مستوى القول: إنها تشكل خطاباً فلسفياً أصيلاً ومعاصراً؟ أيّ سؤال فلسفي شغل وعي هؤلاء وهيمن على تفكيرهم؟ وما هي المشكلات النظرية التي شغلت فلسفاتهم؟ هل هي أسئلة التاريخ المتخمة بالمطالب الأيديولوجية العملية, أم أنها أسئلة نظرية مجردة ليست نائية عن الفضاء الميتافيزيقي؟ وهل السؤال الفلسفي لديهم أصيل ومبتكر, ومتقدم بالمعنى الكوني؟ ما علاقة هؤلاء مع الفلسفة الإسلامية ومع تاريخهم؟ وما أثر الإسلام والخطاب الإسلامي في تجاربهم النظرية؟ ثم ما طبيعة علاقاتهم مع الفلسفات الحديثة والمعاصرة, بصفتها فلسفات عالمية, وتجارب أصيلة؟
الحق أن بداهة هذه الأسئلة وغيرها تفرض نفسها على وعي كلي منشغل بتاريخ الفلسفة. وتثير معها حزمة مشكلات تتصل بتعريف الفلسفة وطبيعة موضوعاتها ومناهجها وتاريخها.
إن التعارض الرئيس الذي ينبثق عن محاولة التأريخ للفلسفة, هو ذاك الذي يتم بين غاية الفلسفة, ونعني بها معرفة الكلي, الدائم والخالد, وبين رغبة تحقيبها في سياق تاريخي أو ثقافي نسبي ومحدد. فهل الحقيقة الكلية والمطلقة تدخل في دائرة التاريخ النسبي وتتحدد به؟
من غير المنطقي الادعاء أن هنالك جوهراً ثابتاً للفلسفة, أو أن الحقيقية الفلسفية راسخة منذ الأزل, معطاة ومنجزة على نحو تام. فالإرث الفلسفي الذي بات مألوفاً لدينا, وفي متناول يدنا, لم يأت عفوياً, ولم يخرج فقط للتو, وإنما هو نتاج ومحصلة كدح جميع الأجيال السابقة من الجنس البشري. حيث ندين بما نحن عليه, الواقع الراهن للفلسفة, إلى ذلك الإرث التاريخي الذي يتخطى كلّ ما هو عابر ومحدد, أو منجز. وهو لم يكن قط في يوم من الأيام إرثاً ثابتاً, في الكم والنوع. وإنما كان إرثاً يزداد ويكبر كنهر جارف بقدر ابتعاده عن مصدره أو رحمه الأصل. ولم يكن كذلك تمثالاً حجرياً, صلباً وجامداً, كما كان هيغل يقول, ولكنه كان كائناً حياً ينمو ويتشكل ويتضخم.
لهذا يمكن القول إن الحقيقة الفلسفية لها أن تتعين في سياق تاريخي معين, دون أن تفقد طابعها الكلي أو الشمولي, أو أن تحصر مصيرها به أو تنسب إليه فحسب. والتاريخ يعلمنا أن ثقافة ما لأمة بعينها يعتريها الجمود في برهة من تاريخها, فيبارحها الروح الحية اليقظة للتفكير الفلسفي لأمد غير قصير, كما كان حال الأوروبيين في العصور الوسطى قبل أن يصبحوا أوصياء على التفكير الفلسفي الحديث والمعاصر. فهذه الروح لا تمكث على حال في هذا السكون أو الغياب المطلقين. والتاريخ ذاته يظهر لنا أن الفلسفة لا بدّ لها أن تثبت حضورها كونياً في سياق زمكاني آخر. حتى تحقق صيرورتها وتستمر. إذاً ليس ثمة انقطاع على الصعيد العالمي في فعالية الفلسفة, ذلك أن غواية التقدم هي التي تدفعها إلى الالتصاق بالتاريخ والبشر أو الأمم الأكثر تقدماً ويقظة ونشاطاً.
إن ما نفترضه هنا هو أن الفلسفة لا تكترث كثيراً بالتباين في الدور الحضاري لأمة ما, أو بين الأمم في زمن ما, أو بالصدوع والتفاوتات التي تحدث هنا أو هناك, إلا بالقدر الذي تستجيب لنزوعها إلى تجاوز ذاتها, وتوقها إلى تخطي منزلتها القائمة, ويتوافق مع سيرورتها بصفتها وعياً كونياً بالعالم, وتحقق انتظامها الشامل.
الفرض الآخر, الذي نسارع إلى طرحه في هذا السياق, هو إن وجدت فلسفات شتى, تعيّنت على أنحاء متنوعة, فإن الفلسفة تظلّ واحدة في سيرورتها, وهي تشكل فلسفة واحدة في تواصلها. ويمكنها بمعنى ما أن تكون هي الفلسفة الحقيقية في وحدتها بصفتها تعبيراً عن حضور الوعي الإنساني الكلي. وهي وإن أكدت ذاتها وبرهنت على انتماء ما لبرهة تاريخية معينة, وعرّفناها على هذا الأساس, إنما تظلّ فلسفة وتشكل معرفة فلسفية واحدة. ومن المهم أن نعرف ماذا يعني هذا التنوع في المنظومات الفلسفية؟ وما دلالات هذا التحقق في الزمان والمكان المعينين؟  ثم ما هي طبيعة علاقة مضمون فلسفة ما بتعيّنها التاريخي؟
تهتم الفلسفة بالوحدة المطلقة للتنوع القائم في العالم, وهي تبرهن على هذه الحقيقة العامة في كل ما هو خاص ومتعيّن. حينما تتماهى مع واقع متقدّم وتنتسب إلى تاريخه, وتكون الفلسفة أكثر كمالاً في تطورها كلما كانت أشدّ التصاقاً بتاريخها.
فالفلسفة نظام واحد وشامل من حيث نموُّها وسيرورتها الداخلية, لكنها تغدو حقيقة خاصة, ملموسة ومتعينة, لجهة تحققها الخارجي وانتمائها ظاهرياً إلى التاريخ. ونعني من منظور تطورها كظاهرة في الزمن, ويكون لها تاريخها الخاص.
إن هذا الوجود في الزمان المحدد, مستلهماً عبارات هيغل, ليس سوى برهة متناهية من سيرورة دائمة ولامتناهية, ولحظة من لحظات وعيها التاريخي بالتقدم, حيث تتخارج الفلسفة في دوائر الفكر و في ثقافة شعب أو أمة قادرة على أن تحقق في ذاتها شمولية التقدم التاريخي حتى هذا الوقت, وتعبر في ذاتها عن التقدم المتنامي للواقع الإنساني في شموليته. وبمعنى من المعاني تغدو الأمة منتسبة إلى الفلسفة, لا العكس, ومنتمية إليها ومحددة تقدمها بتقدم الفلسفة. لأن الأمة في هذه الحالة لا تستطيع أن تفصح عن شمولية وعيها وتقدمها إلا من خلال هذا الشكل وحده, ونعني الوعي الفلسفي. هكذا استطاع الإغريق أن يثبتوا حضورهم الشامل على صعيد التاريخ العالمي, لا من خلال العمل العسكري وانتصارات المقدوني بقدر ما أنجزوا ذلك من خلال منطق أرسطو وفتوحاته الفلسفية التي كانت أكثر عمقاً ودواماً وشمولية من سواها.
لا مناص إذاً لدى عرض تاريخ الفلسفة في الزمان من كشف صلتها بالظروف التاريخية وعلاقتها الحميمة إذ تتعين في ثقافة شعب ما, وفي فكره وفنونه وأعرافه.  فالشكل المتحقق لفلسفة ما يكون معاصراً لنمط متحقق ومحدد من الشعوب, يعكس روح هذا الشعب, وتنظيم حياته, والجوانب المتنوعة لإبداعاته المادية والنظرية. إن روح شعب ما وعصره يكون قائماً في الفلسفة, بصفتها البؤرة التي تكثف في ذاتها فكره ووعيه بذاته. وهي تعكس تفتح هذا الشعب وتقدمه ودرجة وعيه بذاته ومصيره في التاريخ.
في ضوء ما سبق, يغدو الحديث عن فلسفة عربية معاصرة ادعاءًا لا يخلو من المجازفة المعرفية والمنهجية. مثلما يكون الكلام عن فكر عربي خالص أو محض, نظير الكلام عن الاشتراكية العربية, والإنسان العربي, والرسالة الخالدة للأمة العربية, كلامٌ يدعو للسأم والقنوط الفكريين ولا يستثير تفاؤل العقل.
لقد اشتغل شطر كبير من منظري العروبة ومفكريها بالفلسفة, ومن هذا الموقع استعان هؤلاء بالخطاب الفلسفي لدى التصدي لأسئلة التاريخ والهوية والمصير. وهؤلاء وإن برزت لديهم قراءات فلسفية مائزة وتجارب, إلا أن تلك القراءات لم ترقى إلى مستوى القول الفلسفي المتماسك, ولم تكتمل لديهم إلى مستوى الأنساق الفلسفية أو المذاهب المتكاملة, سواء من جهة المفاهيم أو الرؤى, أو من جهة المناهج. هكذا غدت التيارات الفلسفية ومذاهبها الحديثة والمعاصرة مصادراً رئيسة للوعي الفلسفي العربي المعاصرة, وأخذ المفكر العربي يجتهد في ضوء مفاهيمها و أوالياتها النظرية ومناهجها. فقد استلهمالأرسوزي و ميشيل عفلق الفلسفة الألمانية في نسقها الفيشتي لدى مواجهة مشكلة حرية الأمة والتأسيس لمفهومها. واستعان طه حسين بالشكّ الديكارتي في منهجية بحثه, ومثله أيضاًقسطنطين زريق, وكذلك الأمر مع أهمية الديكارتية لدى عثمان أمين. وكان حضور راسل و رايشنباخو كارناب صارخاً في وضعية زكي نجيب محمود المنطقية. إذ مضى صاحب كتاب( خرافة الميتافيزيقا, أو الموقف من الميتافيزيقا) في مواجهة تخلف الواقع العربي يبشر بالروح العلمية كسبب رئيس لنهضة الأمة. واتكئ فؤاد زكريا في كتابه( اسبينوزا و التفكير العلمي) على عقلانية ديكارت و اسبينوزا ليبشّر بقيم التسامح والعقلانية في مواجهة التعصب الديني. وكان هيديغر و سارتر و يسبرز حاضراً بقوة في وعيعبد الرحمن البدوي الوجودي, وكانت التومائية حاضرة في كتابات يوسف كرم وشروحاته الفلسفية, و تمتعت البرجسونية بذات الأهمية والمكانة في وعيّ بديع الكسم. وأخذ المغربي الحبابي بشخصانيةإيمانويل مونييه. وحضرت فينومينولوجيا هوسرل بقوة في تفلسف حسن حنفي الباكر, ولدى نازليإسماعيل التي ترجمت لـ هوسرل (تأملات ديكارتية). وتجلّت أخيراً تفكيكية جاك دريدا في كتاباتعلي حرب. وطغت بنيوية التوسير الماركسية و بولانتزاس على كتابات مهدي عامل. ولم يكن المفكرون العرب بمنأى عن تأثير الماركسية العميق, التي كان لأعلامها (ماركس, جورج لوكاتش, غرامشي) تأثيراً بالغاً عليهم, أمثال سمير أمين, الياس مرقص, ياسين حافظ, صادق جلال العظم, طيب تيزيني, أحمد برقاوي حسين مروةعبدالله العروي… وغيرهم.
وتبدو مرجعية المنظرين الإسلاميين العرب( سيد قطب, مالك بن نبي, عبدالله عبد الدايم, خالد محمد خالد, محمد عمارة, وسواهم) الذين لم ينزاحوا كثيراً عن النسق الأيديولوجي العروبي, أكثر تعقيداً وتركيباً نظراً لعلاقتهم الملتبسة بالتاريخ والعقيدة من جهة أولى وبالقراءات الأخرى من جهة ثانية.
إن غياب الحدود الفاصلة بين التفلسف والأيديولوجية, بين العلم والسياسة, كان سمة بارزة للأنساق الفكرية العربية. وقد طرح المفكرون العرب أسئلتهم المصيرية انطلاقاً من هذه المصادرة القبْلية, ومن هنا انهمكوا بمشكلات التاريخ والأمة والمصير بصورة عملية.  وعليه فقد طبعت صفة المفكر هؤلاء أكثر من كونهم فلاسفة كما يشير البرقاوي, إذ أمست الفلسفة الغربية في الأنساق الفكرية العربية ميتودولوجيا توجه رؤاهم وتحفّز أسئلتهم, ناهيكم عن كونها مصدراً ثرّياً لأجوبتهم الفكرية عن قضايا التحرر والتقدم والمصير.
© منبر الحرية ، 5 ماي /أيار2010

عزيز مشواط16 نوفمبر، 20100

رحل عنا المفكر المغربي محمد عابد الجابري يوم الاثنين 3 مايو 2010 بعد 75 عاما من حياة فكرية صاخبة، فجر فيها جدالات ونقاشات كبيرة، وأعمل معاول النقد في “العقل العربي المستقيل”، دون كلل أوملل.
حملته عصاميته الفريدة والمثيرة للإعجاب، من واحات مدينة “فكيك” المنسية على حدود المغرب الشرقية، إلى مدينة الدار البيضاء، حاضرة المغرب الاقتصادية، بداية الخمسينيات من القرن الماضي، يقوده طموح اكتساب المعرفة.
إنه الطموح نفسه الذي حوله من معلم بالصف الابتدائي في الخمسينيات من القرن الماضي، إلى أستاذ للفلسفة بالجامعة المغربية، وصولا إلى احتلال قمة الهرم الفكري العربي، والتي جعلت البعض يشبهه بابن رشد العصر الحديث أو ديكارت العربي.
وما بين التسميتين، ظل الجابري  يرى ما لا نراه، في الحياة الفكرية والاجتماعية السياسة وحتى في الناس، ويعبر عن كل هذه الأمور بلغة العلم، مستعملا أحدث المنهجيات التي وصل إليها المجهود الإنساني.
لن نقول بأن العقل العربي بعد الجابري بقي يتيما، لكن إسهامات الرجل وقوة الإنجاز العلمي التي مارسها كشفت للعالم العربي، الذي جعل من “عقله” موضوعا لدراسته، أن بنياتنا الذهنية والسلوكية والعقلية تحتاج إلى تشريح خاص.
لقد خاض الجابري مغامرته في تشريح العقل العربي ممتطيا أحدث وسائل الإبستيمولوجيا الحديثة، وعاد إلى عصر التدوين وعصر حروب الخلافة، ونزول القرآن، ونشأة الدولة الإسلامية وغيرها. لقد جعل  نقد العقل العربي مشروعه الفكري الرئيسي. و استطاع الراحل عبر سلسلة “نقد العقل العربي” القيام بتحليل العقل العربي عبر دراسة المكونات والبنى الثقافية واللغوية التي بدأت من عصر التدوين، ثم انتقل إلى دراسة العقل السياسي ثم الأخلاقي.
اتضحت معالم المشروع الفكري للراحل منذ صدور كتابه “نحن والتراث : قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي” (1980)، حيث سيتعرف العالم العربي على “الجابري” المثير للأسئلة الوجودية الكبرى للإنسان العربي. وسيتعرفون على وجه المثقف العربي القادم من أقصى المغرب.
من العسير جدا اختزال السيرة الفكرية والسياسية والحياتية للجابري في ورقة كهذه، لكن إقامة  الجابري الأكاديمية في المشرق العربي، وتحديدا في سورية، أثرت كثيرا على تصوراته، في زمن المد العروبي والقومي على يد  نجم ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشل عفلق  .
ومع أن الجابري ظل وفيا لمجموعة من مبادئ المرحلة، إلا أنه  لم يكن مجرد صدى أو ناقل لأطروحات غيره، بل حافظ على صفاء وعيه  النقدي والوضوح في شرح الأفكار وتقريبها من ذهن المتلقي، قارئا كان أو مناضلا حزبيا، في قالب لغوي سلس تجنب دائما الحذلقة والغموض المفتعل.
لم يمر المشروع الفكري للجابري في العالم العربي دون “مشاحنات” واعتراضات. فقد كفرته أكثر من جهة دينية واحتج عليه أكثر من إسم محسوب على العلمانية. أما هو فقد التزم الصمت في انتظار نهاية مشروعه الفكري.
الاعتراضات التي قدمها منتقدو الجابري ظلت عند مستوى الجزئيات دون أن تستطيع هدم دعائم مشروعه الفكري. وهكذا انتقد فتحي التريكي فكرة وجود عقل عربي وآخر غربي، التي قال بها الجابري. وتوقف علي حرب عند بعض القضايا الاصطلاحية أهمها تفضيل “حرب” استخدام مصطلح الفكر على مصطلح العقل،لأن العقل واحد وإن اختلفت آلياته ومناهجه وتجلياته، كما يؤثره على مصطلح التراث. أما جورج طرابيشي فقد خصص جزءا كبيرا من إنتاجاته للتعليق والتعقيب على أفكار الجابري.
أكيد أن الوسط الثقافي العربي يتحسر على تغييب الموت لشخصية فكرية من حجم الجابري. أما في المغرب  فإن أكثر من متابع للحياة الثقافية والسياسية المغربية  يعترف أن “الجابري” سيظل حاضرا في المتن الفكري والسياسي المغربي كأحد الرموز التي لا يمكن تجاوزها.
صحيح أن “الجابري” استقال من موقعه في المكتب السياسي لقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان أحد المعارضين الأقوياء لنظام الملك الراحل الحسن الثاني، لكن ذلك  لم يمنعه من أن يظل مؤثرا، ليس فقط من خلال إسهاماته التنظيرية، بل بالمساهمة الفعلية في الحياة السياسية لبلاده. لقد ساند التوافقات التي أوصلت صديقه الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي إلى الوزارة الأولى، فيما يطلق عليه في المغرب بالتناوب التوافقي، الذي حكم فيه الاشتراكيون المغرب، بتسوية مدعومة من الملك الراحل الحسن الثاني.
لقد غادر الجابري  معترك السياسة المغربية بمعناها الشائع والبسيط، ليحلق بعيد عن الممارسة الحزبية حين استقال من حزب الاتحاد الاشتراكي وجمد جميع أنشطته السياسية فيه، رغم أن أدبيات الحزب وهويته لا تخلو من فكر الجابري وبصمته.
وقريبا من السياسة المغربية أيضا، انتبه الجابري مبكرا إلى تقليد سيء عانى منه المثقفون والسياسيون العرب والمغاربة بسبب عزوفهم عن تسجيل مذكراتهم وتجاربهم، فدون شريط حياته الفكرية والسياسية وخاصة تجربته في الخضم الحزبي.
وليس من المبالغة القول إن الجابري قد شق في ممارسته الثقافية هذه طريقا جديدة وبلور رؤية أصيلة لدور المثقف في عصرنا الراهن، عصر الاندماج العالمي وتحول العالم إلى قرية صغيرة • وقد جعل هذا من الجابري المثقف العربي بامتياز وأحد كبار رواد الثقافة العالمية الحرة.
تحية إلى الجابري في حياته وفي مماته هو الذي نقش اسمه بدأبه واجتهاده بين النابغين، حيث يسر للعرب كثيرا من المعارف الغربية التي يعتبر أحد القلائل الذين تمكنوا من استدماجها في فكره، دون أن تتمكن من ابتلاع خصوصيته النقدية وشخصيته الفكرية المستقلة.كما يحسب له نبشه في عدد من المواضيع التي ظلت من طابوهات العقل العربي المستقيل بلغة الجابري.
وداعا إذن، لأحد كبار رواد العقل العربي، لأن أمثاله هم الأقدر على وضع العرب على سكة التنمية الفكرية والسياسية السليمة، بعيدا عن الظلامية والتعصب.
© منبر الحرية، 4 ماي /أيار 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

يتسم (إعلان مبادئ التسامح) الذي أعلنته منظمة اليونسكو( موسكو-1995) بأنه يتخطى الدلالة الدينية المألوفة أو الأخلاقية لمفهوم التسامح. إذ لم يعد التسامح مجرد التزام أخلاقي فحسب, وإنما حاجة سياسية وحقوقية تهدف إلى الاعتراف بالحقوق العالمية للإنسان وإلى ضمان الحريات الأساسية للآخر.
لقد غدا الوضع الإنساني المعاصر, عموماً, محكوماً بالتعايش والنزاع في الوقت نفسه, وهو الوضع الذي يقتضي مقداراً كبيراً من التسامح. ففي المجتمعات المتعددة الثقافات, التي تحفل بالاختلاف في أنماط المعيشة والتفكير, وتنطوي على تنوع كبير في الآراء والعقائد, يحتل مفهوم التسامح أهمية مركزية. إذ لامعنى للتسامح في أوضاع المماثلة والنمطية في الأفكار والعقائد. من هنا يؤكد راينر فورست في كتابه( التسامح في النزاع) على الارتباط العضوي بين التسامح  والتنازع, مشيراً إلى أن التسامح ينبثق عن التنازع ويولد من رحم النزاعات البشرية.
لا يمكن عدّ التسامح قيمة أخلاقية مجردة ومطلقة, منفصلة عن التاريخ والتطور. وهو ليس مجرد مبدأ يرنو من خلاله الإنسان إلى التعالي على تناقضات الواقع القائم، وإنما يتوقف معناه على ثقافة العصر السائدة, وعلى علاقاته الفعلية. وإذا ما فصلنا مفهوم التسامح عن سياقه التاريخي وعزونا إليه وجوداً مستقلاً عن التاريخ فإن من شأن ذلك أن يفقده كل قيمة إنسانية وعملية.
لم يرقَ مفهوم التسامح إلى مستوى المفاهيم الفلسفية المتماسكة إلا في إطار الصراع بين فكر الأنوار والكنيسة المسيحية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولكنه قبل هذا الزمن بكثير كان موضوعاً للتأملات الفلسفية والوصايا الدينية والأخلاقية. إن مقولة سقراط الذائعة (إني أعرف شيئاً واحداً هو أني لا أعرف شيئاً) تكرّس لوعي التسامح عبر إقرار عميق بالتواضع العقلي, الذي يحتمل القبول برأي الآخر والاختلاف معه في آن. وكذلك الأمر مع الإمام الشافعي الذي شاع عنه قوله (رأيي صواب يحتمل الخطأ, ورأيك خطأ يحتمل الصواب) لكن الأكثر جرأة ووضوحاً هو قولٌ ينسب إلى الإمام جعفر الصادق يرفض فيه التعصب بحسم  أخلاقي ومعرفي لامتناه, يقول: (التعصب حتى للحق خطيئة). في الخطاب الفلسفي المعاصر رسخ كارل بوبر مبدأ ( اللاعصمة من الخطأ) الذي أكدّ من خلاله على نسبية الحقيقة من وجهة نظر أبستيمية. ومن منظور أخلاقي أقرّ بضرورة الاختلاف ومشروعيته.
مجّد فولتير الاختلاف والتسامح من خلال جملته المشهورة (قد لا أتفق معك, ولكني سوف أدفع دمي ثمناً لحقك في الكلام) وبخلاف الأخير تحدّث الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط عن الوقع المتعجرف لكلمة( التسامح). وبالمثل كان غوته يعدّ التسامح مهانة. ويرى أن التسامح ينبغي أن يكون مؤقتاً وإلى حين, وأن يؤدي إلى الاعتراف في نهاية المطاف.
كان الألماني الأشد راديكالية فريدريك نيتشه يرى أن غاية الإنسان في الحياة هو السعي إلى امتلاك القدرة والقوة. ومن ثم فإن مطلب التسامح لا يعدو أن يكون سوى عقيدة للعبيد والضعفاء, الذين يفتقرون إلى الإرادة والقدرة على الانتقام. إن التسامح, من وجهة نظره, هو مؤشر على العجز والانحطاط, ومظهر من مظاهر الخنوع والترويض والاستكانة, علاوة على أنه ينطوي على مقدار كبير من المهانة والاحتقار للكرامة الإنسانية. ولم يجد الماركسي الروسي ليون تروتسكي بدّاً من التشكيك في جدوى التسامح قائلاً: لقد مضى ألفا عام تقريباً مذ أن قيل (أحبّ أعداءَك) و( أدر خدك الأيمن…) ومع ذلك حتى الأب الروماني المقدس لم ينجح في تحرير نفسه من كراهية أعدائه. ويبقى لاعتراف المهاتما غاندي, قديس اللاعنف, أهمية استثنائية على هذا الصعيد حين قال ( لا أحب التسامح, ولكني لا أجد أفضل منه) فقد وجد نفسه مرغماً على الاعتراف بأن شيئاً ما مكروهاً هو الأفضل بين الأشياء التي يراها وهو الأنفع.
خلاصة القول, يؤشر التسامح على الموقف من آراء الآخرين وعقائدهم ومصالحهم. كما يعكس مقدرة المرء على التعايش مع عاداتهم وأنماط السلوك لديهم. وتبرز الحاجة إلى التسامح بهدف الوصول إلى التفاهم والاتفاق حول المسائل الخلافية ووجهات النظر المتباينة, وبغرض الخروج على المصالح المتعارضة دون اللجوء إلى القسوة أو العنف أو الإقصاء. لكن السؤال الذي يظل قائماً هو: هل التسامح يعني أن نتسامح مع غير المتسامحين؟؟
*جامعي و كاتب سوري
© منبر الحرية، 26 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

لازال العالم العربي، يحاول جاهدا ان يقول لنفسه و للعالم بأن الاسلام دين حريه واستسلام لله. لكن الكثير من المظاهر التي يمارسها مسلمون عرب تتناقض وهذه الاطروحة الاسلامية: فسلوكيات التدخل بالحريات الشخصية، وبخصوصيات الناس وحرية المعرفة واللباس يتناقض والسماحة والتسامح. ان دعوات القتل والاعدام والتكفير المستمرة في العالم العربي هي الاخرى تتناقض والسماحة. اننا نعيش في حلقة مفرغة تساهم في صراعات جديدة لا حد لها ولا اخر، وتساهم في الشحن الطائفي والفئوي القاتل الذي لم تعرفه الاجيال السابقة.
أن مواجهة التطرف لا يمكن ان تتحقق في اطار الوضع القائم في معظم البلاد العربية. ورغم محاولات عدة للتعامل مع التطرف من خلال الدعوة للوسطية وانطلاقا من ان الاسلام دين وسط وان التطرف غريب عليه الا ان الوسطية لم تنجح. فالاطروحات الوسطية مالت للتطرف حول المرأة والحجاب والشيعة والسنة والغرب والاختلاف. هكذا اصبح تفسير الاقلية السلفية هو التفسير السائد بينما تم ضرب وازاحة التفسير الاسلامي التقليدي الوسطي الازهري.
ان البديل للتطرف في المجتمعات العربية هو في بناء مساحة حرة للجميع بما في ذلك المعارضة السياسية التي تعيش في المنافي بين لندن وعواصم العالم. يتطلب الامر زيادة كبيرة في مساحة الحرية الثقافية والسياسية والانسانية في المجتمع. ان المساحة العامة في البلاد يجب ان تكون لكل انسان ولكل فرد ولكل زائر للبلاد العربية مهما كان لونه ودينه وايمانه في اطار قانون ينظم هذه المساحة. ان المساحة العامة يجب ان تكون مساحة محايدة لقطاعات المجتمع كافة بحيث يجد كل فرد وانسان عندما يخرج من منزله ان حريته تتساوى وحريات الاخرين. ان بناء المساحة العامة المحايدة تمثل وسيلة لمواجهة التطرف وطريقة لبناء مجتمع حضاري.
لكن لتنجح المجتمعات العربية بالتحديد في تحقيق سلام داخلي لا بد من اعادة النظر بدور الدولة تجاه المجتمع. فالدولة هي الجهة الرئيسية التي بإمكانها تشجيع قيم الحرية والدستورية والديمقراطية والمساواة امام القانون وحقوق الانسان وهي التي بأمكانها الانقلاب على الدستور والمساواة والعدالة فتساهم في تعميق التفكك الداخلي والغضب اليومي. الدولة اساسية في مشروع الاتزان والاصلاح في جميع البلاد العربية وهي المسـؤولة عن التفكك الوطني في كل مكان عندما تتخلى عن مشروع الاصلاح. الدولة ان ارادت قامت بمحاربة الثقافة كما تفعل في دول عربية عديدة، وهي التي ان ارادت شجعت ثقافة الحرية. الدولة في معظم الاطر العربية الرسمية تشجع الاصولية على حساب الحريات عبر منع الكتب وممارسة الرقابة وتهميش المجتمع المدني. بأمكان الدولة ان تكون في خدمة التنوير والتقدم، و بأمكانها ان تكون على النقيض. يبقى السؤال: اي دول سنكون في السنوات القليلة القادمة؟ سيقرر هذا الامر طبيعة الازمات التي سيواجهها العالم العربي في المدى المنظور.
المصدر: الاوان ١٥ فبراير.
© منبر الحرية، 16 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

مازلنا غير قادرين على البوح، بصوت عال، بآرائنا ورغباتنا، مازلنا لا نستطيع كشف ذواتنا أمام الآخرين بحرية، فهواجس الخوف والريبة تجاه الآخر تستحوذ على مشاعرنا، فتكتم افواهنا، إلا إلى الذين نعرفهم ونطمئن اليهم، وهم قلة، وليست هذه حرية نتمتع بها، والحرية المضمونة في الدستور لا تهديء من قلقي حين أرغب بالتعبير عن رأيي أمام الآخرين لكنني أخشى أن يكون احدهم مختلفا عني، يختلف معي في الرأي، في العقيدة، في المذهب، بل حتى في المذهب نفسه ثمة مخاوف لانه لم يعد مذهبا موحدا، فللاختلاف في العراق ضريبة قاسية جدا، تسلب حياتك منك لانك مختلف، لأن لك هوية أخرى حتى وإن كنت قد ورثتها عن  آبائك، أو كنت رافضا لها.
لم يعد اختلافنا رحمة، كما كان يتباهى الرسول العربي بأمته التي تختلف، فيكون اختلافها رحمة، لكنه بات علينا نقمة، هنا في العراق، نحن امة تعلمت كيف تختلف لتدمن القتل على مذبح النقاء المزيف والفرقة الناجية ووهم الانتماء والهوية المقدسة، لكنها نست أو تناست بتعمد غريب جدا، إن الدين جاء من أجل الإنسان، من أجل حياته، من أجل كرامته وحريته، وليس من أجل بضعة أوهام، تمسخ العقول وتفسد الأخلاق، فتجعل من القتل طقسا للتقرب منها.
ليس الاختلاف في الدين وحده، يمثل أزمتنا الوحيدة، فثمة الاختلاف في السياسة، فقد تطبعت أحزابنا وميليشياتنا بطابع الصراع الطائفي والفرقي، وانتقلت عدوى الاختلاف إليها، والمشكلة ليست في التعددية ذاتها، لا في تعدد الفرق والطوائف دينيا، ولا في تعدد الأحزاب والميليشيات سياسيا، إنما في تقبلها وتعايشها، أحدها للآخر، وليس في صراعها ورفض بعضها البعض، فيما ندفع نحن ثمن صراعين مريرين هما؛ الصراع الديني من جهة والصراع السياسي من جهة اخرى، وقد خطت دماؤنا التي سفكت باسميهما اللافتات والشعارات التي يكتبونها أو ينادون بها.
نحن بلا حرية، والسقوط الذي مثل عهدا جديدا، ما زال تاريخا للسقوط وليس النهوض، فالحرية لا تعيش مع المخاوف، ونحن مازلنا خائفين، لأننا ما زلنا ندفع ثمن اختلافاتنا، ولم نتعلم كيف نختلف دون ان نشعر برغبة في القتل او الانتقام، أن نتعلم كيف نتعايش مع اختلافاتنا، أن نحتفي بهذه الاختلافات، لأنها ستمنحنا الحرية والنهوض لعهد جديد.
© منبر الحرية، 13 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

إن للثقافة بعدين،أحدهما المجتمع الذي تشكل ثقافته، وماهيته وشخصيته تلك الثقافة. واحترام الثقافة يعني احترام حق المجتمع بثقافته، واحترام ماهية تلك الثقافة وشخصيتها. ولكل من صيغتي الاحترام أسس مختلفة، إذ يتوجب علينا احترام حق المجتمع بثقافته لأن للبشر الحرية في تقرير طريقة حياتهم، ولأن ثقافتهم مرتبطة بتاريخهم وهويتهم، ولأنها تعني الكثير بالنسبة لهم، ولأسباب أخرى عديدة، من هذه الناحية لكل مجتمع حق متساو في تبني ثقافته، وليس ثمة أسس منطقية لعدم التساوي.
إن النظرة الأحادية والموقف المتكبر يرفضان الاعتراف بثقافة الآخر وشخصيته وحضارته…،‏ وأن عدم الاعتراف بالآخر وبثقافته يفضي إلي إقصاءه و تهميشه‏,‏ وهذا شكل من أشكال التمييز التي تؤجج مشاعر الكراهية التي هي فتيل للصراع والصدام‏.‏ فالتعالي والتكبر السياسي والثقافي والحضاري، هو الدافع إلى النزاع والصراع بين الحضارات، والصدام بين الثقافات وزعزعة أمن واستقرار المجتمعات الإنسانية‏، ولذلك كان الاعتراف بثقافة الآخر‏,‏ الخطوة الأولى نحو تعزيز الحوار بين الحضارات والثقافات‏,‏ تمهيدا لإقامة جسور التواصل فيما بينها‏، وهذا هو الهدف النبيل الذي  تسعى لتحقيقه بعض المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام بقضايا الحوار بين الحضارات والثقافات‏.
يجادل بعض الكتاب في أن كل البشر متجذرون ثقافياً ولهم حق التمتع بثقافتهم الخاصة، وبالتالي يشكل التنوع الثقافي نتيجة حتمية وشرعية لممارسة ذلك الحق، لذلك لا يكفي منح الأفراد الحق الرسمي بثقافتهم، بل يتوجب على المجتمع خلق الظروف المساعدة على ممارسة ذلك الحق، كتقبل واحترام الاختلافات، وتنمية ثقة الأقليات بنفسها، وتوفير الموارد الإضافية للمحتاجين. ولا يود المجتمع الأعم أن يتكبد أعباء التكاليف التي يقتضيها ذلك، أو تقبل التغييرات الضرورية في مؤسساته عن طيب خاطر، أو كبت نزعته التمثيلية، ما لم يتم إقناعه بأن التنوع الثقافي يصب في مصلحته أو أنه قيمة تستحق التمسك بها ورعايتها.
وإن التنوع الثقافي هو مصدر من مصادر إثراء للثقافات، وتعزيز لقدراتها، وإعطاءها أبعاداً إنسانية، وإطلاق العنان لآفاقها الإبداعية الخلاقة.
إذ ليس للثقافة سلطة عدا تلك المستمدة من ولاء أبنائها ورغبتهم بالانتماء إليها، لذلك يستحيل الحفاظ على أية ثقافة بالقوة أو اللجوء إلى وسائل وأساليب اصطناعية.
أما بالنسبة للثقافة ذاتها فإن احترامنا لها يعتمد على تقييمنا لماهيتها أو نوعية الحياة التي توفرها لأفرادها، ولأن كل ثقافة تعطي استقرارا ومعنى للحياة الإنسانية، وتضم أفرادها معاً في مجتمع متماسك، وتبرز طاقات إنسانية خلاقة، وما إلى ذلك، فإن كلا منها تستحق الاحترام.
وان قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضرورة الاقتناع بها، إنما هو إقرار بوجود الاختلاف معها وبوجود هذه الثقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثقافة مبنية على حساب حقوق الأخر أو وجوده، كما ويجب النظر إلى الآخر المختلف من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أي سبب آخر، وطالما أن الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فرد مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكل طبيعي بما تنسجم مع واقعنا ومتطلباته.
إن احترام الآخرين يتضمن حكما احترام استقلاليتهم الذاتية، بما فيها حقهم في إدارة شؤون حياتهم بالطريقة التي يفضلون، مع أن ذلك لا يمنعنا من تقييم وانتقاد خياراتهم وطرق حياتهم. ويبدو جليا أن أحكامنا يجب أن تنبني على تفهم ودي يتعاطف مع عالمهم ويتفهمه من الداخل، وإلا ظلمناهم وأسأنا الحكم على تلك الخيارات.
أما إذا استمعنا إلى دفاعهم عن وجهات نظرهم، ومنحناهم ما يكفي من الاهتمام والدراسة المتأنية، ووجدنا بعد ذلك أن خياراتهم لا تمنح مجالا لحريات الأفراد والضوابط المجتمعية المتفق عليها طوعا، فلا يترتب علينا واجب احترامها بل واجب عدم احترامها.
وبدون أدنى شك فإن الحوار الثقافي بين الدول والشعوب هو بديل عن وسائل العنف والتطرف، فليس هناك من وجه مقارنة بين حوار السلاح وحوار العقول.
© منبر الحرية، 27 يناير/كانون الثاني2010

إدريس لكريني16 نوفمبر، 20100

تنامت ظاهرة التدوين بشكل مكثف ولافت في السنوات الأخيرة؛ بالموازاة مع التطورات التي طالت مجال التكنولوجيا الحديثة عموما وحقل “الإنترنت” على وجه الخصوص؛ وأضحت هذه المنابر تتطور بصورة متسارعة دخلت من خلالها عالم المنافسة إلى جانب مختلف القنوات الفكرية والثقافية والإعلامية.. التقليدية.
وقد أسهم توافر مجموعة من العوامل والشروط في هذا التصاعد والتطور؛ فعلاوة عن وجود قوالب جاهزة تقدمها بعض المواقع المهتمة بهذا الشأن لمرتاديها؛ فإن إطلاق المدونة هي عملية سهلة ولا تتطلب وقتا أو جهدا كبيرا؛ كما أنها لا تحتاج إلى مستوى تعليم جامعي أو إلى دبلوم معين أو إلى تصاريح إدارية أو رساميل أو موظفين أو موزعين؛ بالإضافة إلى إمكانية فتحها بأسماء مستعارة تسمح بمقاربة المواضيع ونشر الأفكار بجرأة؛ بعيدا عن أي إكراه أو ضغط موضوعي أو نفسي..
ولا تقتصر المدونة على نشر النصوص والمقالات والمعلومات؛ بل تجاوزتها إلى تقديم معطيات وأحداث بالصورة والصوت والفيديو(التدوين المرئي)؛ الأمر الذي يجعلها محط اهتمام جمهور عريض من المتتبعين.
وضمن هذا السياق؛ أصبحت شبكة “الإنترنت” تزخر بعدد من المدونات المتباينة في جنسيات أصحابها واهتماماتها..
نظرا لحيويته وأهميته؛ لقي التدوين الإلكتروني إقبالا واسعا في المنطقة العربية؛ حيث برزت العديد من المدونات التي تهتم بمختلف القضايا والشؤون (ثقافية، علمية، سياسية، اجتماعية، رياضية، فنية، بيئية؛ تاريخية؛ دينية؛ تربوية، شخصية، إبداعية..)؛ إلى الحد الذي اعتبر فيه البعض أن هذه الإمكانية انتقلت من مجرد هواية ظهرت لأول مرة بالولايات المتحدة في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم؛ إلى قوة ضغط حقيقية في السنوات الأخيرة.
وهكذا مكنت التطورات الحاصلة في مجال التدوين من تجاوز احتكار الدول بقنواتها الإعلامية والتربوية والثقافية للمعلومة والأخبار ووسائل التعبير بصفة عامة.. بل إنها أضحت في الواقع منافسا حقيقيا لهذه القنوات؛ وهو ما تؤكده نسبة التردد والمقروئية المتزايدة يوما بعد يوما لعدد من هذه المدونات؛ التي أتاحت إمكانيات فائقة في التواصل بين مختلف الأشخاص في مختلف المناطق؛ وتبادل الأفكار بصدد عدد من القضايا؛ بعدما أسهمت في تكسير الحدود الجغرافية والاجتماعية والسياسية بين الدول لتعزز تواصلا أكثر نجاعة وتطورا..
ولعل ما يمنح هذه المدونات مصداقية في نظر مرتاديها؛ هو استثمارها لهامش الحرية الذي تتيحه الشبكة العنكبوتية للمعلومات؛ وعدم الخشية من مقص الرقابة الحكومية الذي لم يعد قادرا على التحكم في هذا المجال المنفلت؛ مما يمكنها من طرح مواضيع وقضايا سياسية واجتماعية وشخصية.. جريئة؛ لا تجد طريقها للمتلقي عادة إلا من خلال هذه التقنية بأسلوب مبسط وساخر أحيانا؛ عكس التقنيات التقليدية التي طالما تغلق أبوابها أمام طرح عدد من هذه القضايا؛ أو تقاربها في أحسن الأحوال بنوع من التحفظ أو الانحراف أحيانا؛ بالنظر للرقابة الذاتية التي تفرضها على نفسها؛ أو بفعل ضيق هامش التعبير والحريات داخل معظم البلدان العربية..
إن ما يؤهل المدونات للقيام بأدوار طلائعية مستقبلا؛ ويسهم في ازدياد انتشارها وتأثيرها في المنطقة العربية؛ هو اهتزاز ثقة المواطن في مختلف المنابر الإعلامية التقليدية بشتى أشكالها المرئية والمكتوبة والمسموعة؛ المندرجة سواء ضمن القطاع الخاص أو العام.. التي لا تعبر بالضرورة عن همومه وانشغالاته الحقيقية؛ بحكم الضغوطات المختلفة التي تتعرض لها.. في الوقت الذي تستفحل فيه المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية بشكل ملحوظ داخل معظم الأقطار العربية..
فهي – المدونات – تسمح في جانب هام منها برواج مجموعة من الأفكار والمعلومات المتعلقة بقضايا قريبة من نبض المجتمع، وتعكس مشاكله الحقيقية بشكل غير منمق أو منحرف؛ مما يجعلها تصل بسرعة إلى المتلقي الذي يشعر من جانبه بمصداقيتها وجديتها..
كما أن الإمكانية التي تتيحها المدونات عادة؛ فيما يخص التعليق على الأخبار والمقالات والدراسات والإبداعات..؛ هي مدخل هام يمكن أن يسهم في تعزيز هذه التقنية؛ ويسمح ببلورة نقاشات فكرية جادة وعميقة تطرح الرأي والرأي الآخر بشكل أكثر وضوحا وجرأة وموضوعية.. ويتيح بذلك تكريس ثقافة الاختلاف وتطوير الأفكار على درب الخروج بخلاصات هامة؛ يمكن أن تسهم في حل عدد من الإشكلات والمعضلات بمختلف مظاهرها وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..
إن المتتبع لفضاء التدوين يكتشف أنه أضحى مجالا للنقاش والتواصل والحوار المستمر؛ كما أصبح يتسم بالجرأة؛ إلى الحد الذي جعل البعض يعتبره بمثابة طفرة تحررية نوعية بعد التحول الذي أحدثته القنوات الفضائية في المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة.
وهذا ما سمح لعدد من المدونين بتنظيم حملات تضامنية مع مختلف الشعوب المظلومة؛ ومع ضحايا الاستبداد والقمع في مختلف المناطق العربية وغيرها؛ وحملات تحسيسية أيضا مكنت من الوقوف على مجموعة من القضايا العادلة (حملات ضد تهويد القدس، حملات ضد الرسوم المسيئة للرسول(ص)..).. كما أسهمت العديد من المدونات في فضح عدد من مظاهر الفساد السياسي والتهميش الاجتماعي.. وأكدت نجاعتها في الوصول بتوصياتها ومطالبها وحملاتها إلى صانعي القرار على اختلاف مستوياتهم ومجالات اهتمامهم..
وقد حظيت قضايا عربية كبرى باهتمام المدونين من قبيل القضية الفلسطينية، والاحتلال الأمريكي للعراق، والتحولات السياسية في لبنان..
هذا بالإضافة إلى قضايا إقليمية ودولية حيوية كالملف النووي الإيراني، تداعيات أحداث 11 شتنبر 2001 والتحولات السياسية والاقتصادية في أوربا..
إن ما يعزز من مصداقية المدونات العربية ويفتح آفاق المراهنة عليها في عالم سمته التطور والتسارع؛ هو مدى قدرتها على استيعاب وفهم المحيط العربي بإمكانياته وتحدياته؛ وانفتاحها المستمر على المشاكل والقضايا الحقيقية للمجتمع والتفاعل معها بشكل إيجابي على طريق مواجهة العديد من الإكراهات المجتمعية..
وإذا استحضرنا الإمكانيات المذهلة التي يتيحها الإنترنت في النشر والتواصل بسرعة وبعيدا عن رقابة السلطات؛ وفي غياب قواعد قانونية كافية تؤطر عملياته التي تتطور باستمرار انسجاما مع التطورات التي تشهدها تقنيات الاتصال؛ فإن حقل المدونات يطرح الكثير من الإشكالات التي تقف حجر عثرة أمام تطوره وتنظيمه؛ وتؤثر في مصداقيته في أوساط المتعاملين.
ولذلك يعتبر وضع مبادئ واتفاقات عامة تنظم وتؤطر حقل التدوين الذي يزداد إشعاعا وإقبالا؛ على طريق التنسيق والتواصل والتعاون بين مختلف المدونين (باحثين، مفكرين، علماء، مبدعين، طلبة؛ مهنيين..) الذين يجمعهم هاجس التغيير.. أمرا ملحا وضروريا؛ لما يمكن أن يسهم به في تأسيس عمل تدويني جاد وملتزم بقضايا مجتمعه؛ وكفيل بتخليق هذا الفضاء الحيوي، وقادر على استثمار الإمكانيات الفعلية التي يتيحها؛ سواء في تأطير وتنشئة وتنوير المجتمع؛ أو الضغط على صانعي القرار باتجاه بلورة قرارات أكثر مصداقية وقربا من الشعوب..
ويكتسي هذا التنسيق والتعاون أهميته وضرورته بالنظر لعدد من الاعتبارات؛ فالتدوين يفتح آفاقا مذهله ومتسارعة على مستوى التطور والابتكار..؛ مما يحتم وضع عدد من الضوابط والمبادئ التي تمنع من تحوله إلى سلاح عكسي؛ يكرس الفوضى والصراع والميوعة والسرقات الفكرية والتعتيم والاعتداء على حريات وحرمات الآخرين..
وضمن هذا السياق؛ يطرح مضمون ومحتوى المدونات مجموعة من التساؤلات فيما يتعلق بصحة ومصداقية ما يتضمنه من معطيات وأخبار ومعلومات..، ومدى انتسابها بالفعل لأصحاب المدونات التي تنشرها، ومدى التزام هؤلاء بأصول الأمانة العلمية والإعلامية في نقل الأخبار والمعلومات بالدقة المطلوبة والالتزام بذكر مصادرها..
ومما يؤكد حيوية وملحاحية التنسيق والتعاون في هذا الشأن؛ هو أن عددا من المدونين تعرضوا بفعل مقاربتهم بشجاعة لملفات حساسة مرتبطة بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والحقوقية.. ببلدانهم إلى عدد من التضييقات؛ بلغت إلى حد شطب المدونات وتعريض أصحابها للمتابعة القضائية والسجن (المغرب؛ تونس؛ مصر؛ الإمارات العربية؛ البحرين..).
ولعل العمل على إحداث مدونات عربية بلغات أخرى(الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية..)؛ يمكن أن يسهم في فضح الأوضاع التي ترزح تحتها الشعوب العربية داخليا وخارجيا.. ويتيح إمكانية التواصل مع مختلف الثقافات والشعوب الأخرى وتصحيح الصورة القاتمة التي يحاول البعض تقديمها عن العرب والمسلمين..
وعلى العموم، فالحضور الذي ميز المدونات العربية في السنوات الأربع الأخيرة لا زال بحاجة إلى مزيد من التطور والعطاء؛ انسجاما مع حجم التحديات العربية المطروحة والإمكانات والفرص اللامحدودة التي تتيحها شبكة الأنترنت في وقتنا الراهن.
© منبر الحرية، 22 يناير/كانون الثاني2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

يعرّف ستيوارت مِلْ الحرية الفردية في كتابه عن الحرية : “إنها حق الكيان الأخلاقي في أن يطوّر نفسه بطريقته الخاصة” (23)، وهو يهدف من وراء بحثه الشهيرتبيان القيمة الاجتماعية، التي تنجم عن تنمية الخصائص الفردية تنمية غنية وكامِلْة. وفي سبيل هذه الغاية يرى( مِلْ) أن الفرد يجب ألا يكون مقيداً بالاعتبارات الاجتماعية حين يعملْ على إنماء طبيعته العقلية والخلقية(24)، وعليه يدعو إلى أكبر قدر ممكن من تحرر الفرد من سلطة الجماعة على أن يكون هذا القدر متناسباً مع العيش  في مجتمع ما.(25)  من هنا يأتي دفاعه في مسألة حرية الرأي موجهاً ضد تدخل( السلطة الجماعية للرأي العام) في شؤون الأفراد التي لاتهمّ غيرهم من أعضاء المجتمع. فالنمو المحتم للمساواة الاجتماعية وسيطرة الرأي العام يقود، برأيه، إلى فرض نير ظالم من وحدة الرأي ووحدة العملْ على رقاب النوع الإنساني.  إن هاجسه الأساس نظير توكفيل، الذي كان يشعر أن المشكلة الأساسية في نظام مبني على حكم الشعب هي الحيلولة دون استبداد الطبقات العامة للشعب التي تؤلف الأكثرية- وهذه هي الطبقة غير المتعلمة التي تتألف من الجماعات العامِلْة- الحيلولة دون استبداد هذه الطبقة بالأقلية المؤلفة من الأفراد الممتازين (29)
كان أكثر الناس، برأي (مل)، ولا يزالون يخشون طغيان الأكثرية كما يخشون سائر أنواع الطغيان الأخرى، وذلك لأنه ينفذ في الغالب عن طريق إجراءات السلطات العامة. ولكن رجال الفكر يرون أن المجتمع حين يكون نفسه هو الطاغية-  أي حين يكون المجتمع بجمِلْته ضد الفرد-   فإن ذلك يعني أن أساليب طغيانه لا تنحصر بالإجراءات التي يمكن أن ينفذها عن طريق موظفيه السياسيين.(ص45) إن المجتمع قادر على إصدار الأوامر وعلى تنفيذها بنفسه. فإذا أصدر أوامر خاطئة بدلاً من الصحيحة، أو إن أصدر أوامر في شؤون يجب ألا يتدخل فيها، فإنه يمارس بذلك طغياناً اجتماعياً هو أ شد عتواً من كثير من ألوان الاضطهاد السياسي لأنه وإن لم تدعمه عادةً عقوبات شديدة، فإن وسائل النجاة التي يتركها قليلة، وهو ينفذ إلى الصميم في كثير من نواحي الحياة، ويستعبد الروح ذاتها. لهذا كان الاحتماء من طغيان الحكام غير كاف. وكان لا بد من حماية ضد طغيان الآراء و المشاعر الشائعة، وكان ميل ضد أن يفرض المجتمع  ( دون اللجوء إلى العقوبات المدنية) آراءه الخاصة وطقوسه كقواعد للسلوك، يفرضها حتى على أولئك الذين لا يوافقون عليها، ليكبل النمو و التطور، ويمنع إن أمكن تكوين أي شخصية فردية لا تكون منسجمة مع طرقه، ويجبر كل الطبائع على تكييف نفسها طبق أي نموذج من صنعه هو. إن هنالك حداّ للتدخل المشروع في استقلال الفرد من قبل الرأي الجماعي. وإن إيجاد ذلك الحدّ وصيانته من التجاوز أو الاعتداء عليه لازم لحسن سلامة شؤون الناس لزوم الاحتماء من الاستبداد السياسي.من هنا يوضح( مل) أن غرضه من  هذا البحث ليس الحرية التي تسمى حرية الإرادة والتي تقابل ما يسمى خطأ بالضرورة الفلسفية، وإنما موضوعه الحرية المدنية أو الاجتماعية، وطبيعة السلطة التي يمارسها المجتمع على الأفراد، وحدودها. (39)
السؤال الذي ينشأ، ويعدّه( مل) السؤال العملي والمباشر هو: أين يجب وضع الحدّ وكيف يمكن تحقيق التوفيق المناسب بين الاستقلال الفردي و السيطرة الاجتماعية..؟هذا السؤال يبقى الموضوع الذي عليه يتوقف كل شيء تقريباً.( 47) لا يعتبر مل أن حرية السلوك الذي يمس الغير غاية في ذاتها. فهو يشدد على قيمة الحرية و يلحّ على الاعتراف بها، ولكنه لا يدعي  أن أي حرية هي مطلقة. إن حرية الفرد مبررة  لأنها-  كما يرى-   تسهم في الصالح العام، وهي وسيلة قيمة لغاية أعلى منها هي( التقدم  الاجتماعي) الذي يهم كل عضو في المجتمع. ويعتقد مِلْ أن مبدأه يقدم مقياساً علمياً للتمييز بين تلك الأفعال التي تساعد التقدم وبين تلك التي تعرقله. فالأفعال الأولى يجب تشجيعها في الحياة العمِلْية أما الأخرى فيمكن تقييدها. هكذا يعتقد مِلْ أنه حل المشكلة في العلاقة بين الحرية و السلطة.
وبرأيه، فإن الغاية الوحيدة التي تجيز للبشر، أفراداً كانوا أم جماعة، أن يتدخلوا في حرية أفعال أي واحد منهم  إنما هي حماية الذات. أي أن الغرض الوحيد الذي من أجله يمكن ممارسة السلطة في أي مجتمع متمدن على عضو منه رغم إرادته إنما هو دفع للأذى عن الغير.فلا يكفي أن  يكون الهدف الخير الخاص للعضو، مادياً كان هذا الخير أم معنوياً. لا يجوز عدلاً إرغامه على القيام بأمر أو الامتناع عنه لأن ذلك خيراً له، أو لأن ذلك يجعله أسعد حالاً، أو لأن الآخرين يرون أن من الحكمة و الصواب فعل ذلك..( 55)  إذن الحالة الوحيدة التي تجيز إخضاع الفعل العفوي الفردي للقيد الخارجي هي حين تكون أفعال الفرد ماسة بمصالح الآخرين فإذا أتى امرؤ ما فعلاً يؤذي الغير فإن هناك وضع واضح يدفع إلى معاقبته عن طريق القانون أو بوساطة الاستنكار العام حين يتعذر تطبيق العقوبات القانونية بأمان. ولكن الشخص قد يسيء  إلى الغير لا بما يفعل فحسب ولكن بامتناعه أحياناً عن الفعل أيضاً وهو في كلتا الحالتين مسؤول أمام الغير عن الضرر.
ويشير( مل) إلى أن هنالك دائرة للأفعال، إن كان للمجتمع المتميز بجمِلْته عن الفرد مصلحة فيها فإنما هي مصلحة غير مباشرة، وتشمِلْ هذه الدائرة ذلك الجزء من حياة الفرد وسلوكه الذي لا يمس إلا شخصه وحده أو إن مسّ غيره من الناس فيكون ذلك بمحض إرادتهم، وموافقتهم التي لا خداع فيها،واشتراكهم. وهذا هو  نطاق الحرية البشرية الخاص بها. إنه يشمِلْ أولاً ممِلْكة الوعي الداخلية التي تتطلب حرية الضمير بأوسع معانيها وحرية الفكر والشعور، و الحرية المطلقة للرأي و العاطفة في كل المواضيع العلمية أو النظرية العلمية أو الأخلاقية أو الدينية……وثانياً يتطلب مبدأ حرية التذوق و المشارب، و حرية تصميم خطة لحياتنا توافق طبعنا، و حرية العمِلْ وفق ما نحب ونرغب…. وثالثاً، من هذه الحرية لكل فرد تنشأ ضمن الشروط نفسها حرية التكتل بين الأفراد،  حرية الإتحاد و التضامن في سبيل أي هدف لا ينطوي على إيذاء الغير….( 60) وكل مجتمع لا تحترم فيه هذه الحريات عموما ًلا يكون حرّاً مهما كان شكل حكومته، ولا يكون أي مجتمع حرّ حرّية تامّة إن لم تكن فيه هذه الحريات مطلقة و كامِلْة الشروط. و الحرية الوحيدة الجديرة بهذا الاسم هي حريتنا في أن ننشد خيرنا بطريقتنا الخاصة ما دمنا لا نحاول حرمان الغير من خيراتهم ولا نعرقل جهودهم في الحصول عليها.( 61)
ولكن وسائل الضغط المعنوي ضد الانحراف عن الرأي السائد قد استعملت هنا بشدة أعظم في المسائل التي تمس الفرد مما في المسائل الاجتماعية. ويعتبر(مل) هذا  الاستبداد أقسى بشكل يفوق ما فكر به أشد الفلاسفة القدماء صلفاً في تفكيرهم السياسي. وينكر(مل) على الأغلبية ممارسة حق الضغط والإكراه، سواء أكانت تمارس ذلك مباشرة أو عن طريق حكومتها الممثلة لها. ولو أجمع البشر كلهم على رأي وشذّ واحد بمفرده عنهم لما جاز لهم إسكاته، كما أنه هو، لو أوتي القوة، ولا يجوز له إسكاتهم…..ولكن الشر الخاص في إخماد التعبير عن الرأي أنه سرقة: أنه سرقة تقع على العرق الإنساني في الأجيال الحاضرة وفي الأجيال المقبلة، وتقع على مخالفي الرأي كما تصيب معتنقيه. فإن كان الرأي صحيحا حرموا فرصة استبدال الباطل(67) بالحقّ وان كان خاطئا خسروا فائدة كبيرة هي حصحصة الحق وظهوره جلياً واضحا بعد مقارعته بالباطل.( 68) إذ أن هناك، برأيه، بون شاسع بين افتراض صحة الرأي الذي يكون قد صمد في كل المناقشات ولم يدحض، وبين فرض صحة الرأي بغية عدم السماح بدحضه. والحرية التامة التي يتمتع بها كل إنسان في معارضة آرائنا ودحضها هي الشرط الأساسي الذي يبرر موقفنا في افتراض صحتها والعمِلْ بموجبها. وبدون هذا الشرط لا يستطيع أي مخلوق يحمِلْ معه المِلْكات الإنسانية أن يصل إلى ضمانة معقولة أنه على حق. ـ إن الميل القتّال إلى  إهمال التفكير والمناقشة في أمر لم يعد مشكوكاً فيه إنما هو سبب نصف أخطاء البشر ولقد أجاد احد الكتاب المعاصرين حين تحدث عن السبات العميق لرأي مقبول مقرر (114)
ويخلص ( مل) إلى البرهان على ضرورة النقد والتفكير والمناقشة  وحرية الرأي  استنادا إلى أربعة أسس هي :
أولاً: إذا أرغم رأي ما على السكوت، فمن الممكن أن يكون ذلك الرأي صحيحا وإنكار ذلك ادعاء منّا بالعصمة.
ثانياً: إذا كان ذلك الرأي الذي أخمد خاطئاً، فمن الممكن أن يحتوي على جزء من الحقيقة، وكثيراً ما يحدث ذلك. وبما أن الرأي العام أو الشائع في أي موضوع لا يكون كل الحقيقة، أو يندر أن يكون كذلك فلا أملَ في تأمين الجزء الباقي من الحقيقة إلا عن طريق احتكاك الآراء المتضادة .
ثالثاً: إذا كان الرأي المسلم به صحيحاً ويتضمن كل الحقيقة، فإنه، إذا لم يناقش بعزم وإخلاص، يبقى مجرد تحيز لدى معظم الذين يسلمون به، ثم إنهم لا يدركون إلا اليسر من أسسه المعقولة. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ وحده، بل وهنا يجب أن نضيف :
رابعاً: إن  معنى المذهب نفسه يصبح مهددا بالضياع أو الضمور والهزال، ويفقد المذهب أثره الحيوي على الخلق والسلوك إذ يصبح المذهب المقرر مجرد  اعتراف شكلي لا خير(130) فيه يقف عثرة تحول دون نمو أي اقتناع حقيقي صميمي صادر عن العقل أو الخبرة الشخصية) 131)
في حدود سلطة المجتمع على الفرد يتساءل( مل) أخيراً ما هو الحدّ الشرعي لسيادة الفرد على نفسه؟ أين تبدأ سلطة المجتمع ؟ماذا يجب أن يعود للفردية من الحياة البشرية و ماذا يجب أن يعود للمجتمع؟ إن كلا منهما ينال حصته العادلة إذا هو احتفظ بما يخصه أو يعنيه. فيكون للفردية جزء  الحياة الذي يهم الفرد، وللمجتمع الجزء الذي يهم المجتمع.
إن من ينال حماية المجتمع، باعتقاد مل، يكون مديناً له مقابل ذلك، والعيش في المجتمع(167) يقتضي حتماً أن يتقيد كل فرد بخطة من السلوك تجاه الآخرين. يتألف هذا السلوك أولاً من عدم إضرار الواحد بمصالح الآخر، أو بالأحرى عدم الإضرار بتلك المصالح التي يجب أن تعتبر حقوقاً إما بموجب نص قانوني صريح أو بموجب تفاهم ضمني. ويتألف هذا السلوك ثانياً من تحمل كل فرد نصيبه( الذي يقرر وفق مبدأ منصف)مما تقتضيه صيانة المجتمع  أو أعضاءه من أتعاب وتضحيات. ويحق للمجتمع مهما كلف الأمر أن يفرض تحقيق هذين الشرطين على من يحاول الامتناع عن ذلك.( (168
ويعتبر الشخص هو صاحب الشأن الأول فيما يختص بخيره الذاتي، ولا يعتد  بشأن الآخرين فيه إلا في حالات العلاقة الشخصية القوية، وما شان المجتمع به كفرد إلا شان جزئي غير مباشر…. إن تدخل المجتمع  للتحكم في حكمه وأغراضه الخاصة به لا بدّ أن يقوم على افتراضات عامة قد تكون خاطئة، وان كانت صحيحة فقد يسيء تطبيقها على الحالات الفردية أناس يجهلون تلك الحالات كما يجهلها أولئك الذين ينظرون إليها من الخارج فقط. في هذه الدائرة من شؤون البشر يقع مجال عمل الفردية.( 170)  ويجزم ( مل) هنا بأن الضرر الذي يلحقه شخص بنفسه قد يكون ذا أثر خطير على الغير ممن لهم علاقة به، وبدرجة أقل على المجتمع عموما. فإذا قاد مثل هذا السلوك شخصاً إلى الإخلال بواجب واضح نحو الغير، فإن القضية تخرج عن نطاق الشؤون الذاتية وتصبح في متناول التنديد الأخلاقي بمعناه الصحيح. ( 178)
وباعتقاده، فإن أقوى حجة ضد تدخل المجتمع بشؤون الفرد الخاصة هي بأن تدخله غالبا ما يكون خاطئا وفي غير محله. إن رأي العموم، أي الأكثرية السائدة  في مسائل الأخلاق الاجتماعية والواجب نحو الغير كثيراً ما يكون خاطئاً، رغماً عن أنه كثيراً ما يظهر مصيباً  لأن المطلوب منه إذ ذاك أن يحكم في مصالح الأكثرية، وفي الطريقة التي يمكن أن يؤثر عليهم فيها نوع من السلوك قد يسمح بممارسته. أما فرض رأي الأكثرية  كقانون على الأقلية في شؤون السلوك الخاص، فإنه قد يكون خاطئاً بقدر ما يكون صائباً لأن الرأي العام في مثل هذه الحالات لا يعدو كونه  رأي بعض الناس فيما هو خير أو شر للغير، بينما هو كثيراً ما لا يعني حتى هذا، فتهمله العامة ولا تبالي بإرادة أصحابه ورضاهم ولا تهتم إلا بما تفضله.(182)
© منبر الحرية، 18 يناير/كانون الثاني2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018