حقوق الإنسان و المؤسسات والمجتمع المدني

منبر الحرية2 سبتمبر، 20110

انتشرت في الآونة الأخيرة مظاهر استثمار المال العربي في مجال الدراما والفن. حيث أصبحنا نرى ونشاهد كل من هب ودب من أصحاب الرساميل الكبرى يتنطع للدخول إلى دنيا وقطاع الفن والإنتاج الفني من أوسع أبوابه، في محاولة ربما من هؤلاء لإثبات ذواتهم وقدراتهم ومواهبهم (الخلاقة!) في عالم الفن والدراما والتمثيل إلى جانب مواهبهم وإبداعاتهم في مجالات العمل والاقتصاد الأخرى......

عصام العدوني14 أغسطس، 20111

قد تكون إحدى ابرز سمات الربع الأخير من القرن الماضي صعود مسالة الهويات والثقافات إلى الواجهة واحتلالها الصدارة في الخطاب السياسي والثقافي والإعلامي. وساهم في هذا الصعود توسيع مفهوم الثقافة الذي لم يعد منحصرا في طابعه النخبوي والأدبي لينحو نحو المضمون الانتروبولوجي الواسع والذي بمقتضاه تصبح بمثابة كل مركب يشمل عناصر الحياة المادية والتقنية والثقافية والرمزية والطقوسية. .....

منبر الحرية2 يوليو، 20110

لا بد من التأكيد بدايةً على أن ما يحدث في منطقتنا العربية من موجات ثورات حقيقية متصاعدة ومتنقلة من بلد إلى آخر، عمادها وعنوانها الرئيسي طاقات الشباب العربي الراغب بالعيش الحر الكريم بعيداً عن التعصب والاستبداد والقهر والفساد، وعقليات الإقصاء والتهميش، هو تحول تاريخي عميق جداً جاء بعد عهود مظلمة طويلة من الإقصاء والتهميش والاستبعاد السياسي...

peshwazarabic22 فبراير، 20110

لكل إنسان، لكل مجتمع هويته تعبر عن خصائصه مع ما يحمل من طابع الخصوصية لهذا الفرد أو المجتمع أو ذاك، وهذا الأمر سبق أن أكده ابن خلدون عندما يقول: (لكل شيء طبيعة تخصه) لكن ما ينبغي قوله هنا هو أن هذه الهويّة رغم خصوصيتها غير ثابتة، ولا تبقى على حال واحدة، فهي في تبدّل وتغيّر وتطوّر مستمر من مرحلة اجتماعية إلى مرحلة أخرى، والإنسان أكثر تطورا من سواه، فهو يختلف عن سائر الكائنات الأخرى على وجه البسيطة من نبات أو حيوان أو جماد في هذه المزية..فالإنسان هو سيرورة من التفاعلات الكثيرة من وعي وإرادة وثقافة وعلاقات وصراعات ومؤثرات كثيرة ..إلخ لهذا نقول هنا علينا أن نتفق أولا من إن الإنسان مخلوق اجتماعي يولد ويحيا في بيئة اجتماعية ما، فهويته بالتالي تتغير وتتطور بتغير وتطور المجتمعات تاريخيا، فليس هناك هوية ما دائمة وثابتة لا للفرد ولا للمجتمع، بل تكون هذه الهوية بطبيعتها الخاصة منفتحة لخصوصيات أخرى تغتني بها جراء التواصل والترابط والعلاقات وأيضا التلاقح معها، دون تغافل ربما عن عناصر أو عوامل أخرى تساهم بهذا القدر أو ذاك في بلورة الشخصية الفردية والمجتمعية، وبهذا فالشخصية الفردية والخصوصية المجتمعية في تغير وتجدد دائمين..
جاء البحث عن الهوية في أسئلة رواد النهضة، وما زال السؤال ذاته مطروحا إلى اليوم، وهذا دليل أكيد على أن الهوية كانت وما زالت تعيش حالة أزمة دون وضوح، فلم يزل المجتمع العربي يعاني من التمزق والتخلف، فلا ثقافة يمكن أن يتحصن خلفها المرء، ولا تنمية اجتماعية أو اقتصادية تذكر، وما زالت أحزمة الفقر تطوّق أعدادا هائلة من البشر، وهنا غير مجد المباهاة بالأجداد والغناء بالتراث، فهذي الحال كمن يقف على أطلال دارسة ينشد معلقة امرئ القيس (قفا نبك….)
إن الميراث القديم ينبغي أن يتم إشباعه فهما ودرسا ومن ثم البناء عليه بعقلانية ووعي وجسارة، دون اعتباره سقفا نتطلع عليه محسورين دون التفكير بتجاوزه، فالماضي المجيد لن يعود وبالتالي ينبغي أن يكون حافزا للاختراقات لا مثبطا للهمم، ومبعثا للبكاء، لا بد من الانفتاح لحاضرنا الضاج بمسائل عديدة، إننا اليوم بأمس الحاجة إلى فكر حر نقدي عقلاني تنويري، به نعالج الواقع، نعالج الأزمة، ونستشرف بالتالي المستقبل، لا بد من امتلاك المعرفة، لا بد من حرية في الفكر وقبول الاختلاف، لا بد من معركة تنوير العقل، وتحديث الواقع، لا بد لنا من تجاوز الأبنية المشيدة في الواقع العربي بمختلف المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية، وفي سائر المجالات أو المنظومات الأخرى من سياسة واقتصاد ومجتمع…
منذ حملة نابليون على مصر في أواخر القرن الثامن عشر، وإصلاحات محمد علي في القرن الذي تلاه، جاء الاحتكاك والصدمة بين الواقعين، العربي المتخلف، والغربي المتحضر، بين ثنائية التحضر بمنجزات علمية في المجتمع والاقتصاد والتقانة يضاف إليها الاستعمار الغربي، وبين التخلف والتبعية العربية.. حتى بعد أن تم التحرر وتحقق الاستقلال بقيت التبعية هي السارية للفروق الكبيرة بين العالمين الغربي والعربي..الفكر الغربي كما لاحظنا وتابعنا جمع بين، التقدم الحضاري والعدوانية، بهذا الصدد نقول وبصراحة، لا يمكن لنا المشاركة في معركة الحضارة إلا إذا ما تغلبنا على ترددنا وتقاعسنا وفكرنا الراهن، لابد أولا من وعي واقعنا ثم السعي الحثيث لتغييره وتطويره وتجاوزه نحو واقع أفضل..
بعد أن تم الجلاء وتحقق الاستقلال، جاءت الصدمة ثانية وهذه المرة من أنظمة وطنية استبدادية ذات الطابع المملوكي بتعبير المفكر محمود أمين العالم، حيث جاء التحرر لجما للتنمية المجتمعية، وهيمنة للفكر السلفي، وزعيقا للفكر القومي المفعم بالمشاعر الطفولية الجياشة، ومن خلفه اليسار بالطوق السوفييتي، لتنتهي هذه الهبّة السلفية والقومية بهزيمة حزيران..
لهذا جاء من يقول إن الفكر العربي المعاصر هو امتداد لأصول الفكر الفقهي، فقد تعددت أنماط الحكم، فأخذ الطابع الديني السطحي هنا، والقومي من حيث الشكل هناك، مع تلوينات يسارية، وأيضا الحكم مع نزوع طائفي، أو ربما راود بعضهم الشكل الخلافي (الخلافة) في الحكم الوراثي دون صحابة، مع جند من الموالاة والحجّاب، وثروة متدفقة معينها لا ينضب، وأفلح النظم من استمالة نخب ثقافية لتكون أبواقا تسوغ لها كل ارتكاباتها، وتشرعن للنظم ما هي عليها من أشكال الحكم، أي تضفي على الحكم طابع الشرعية، فظل النظام هنا يجتر ليعيد إنتاج الوعي السائد ويستمر الماضي في الحاضر، وفي هذا الإطار راحت النظم العربية المختلفة تعمد لفرض شكل من الفكر على الواقع العربي عبر الدولة، فهي كعادتها حكمت بالعسكر، وأخذت تسن قوانين وتشريعات تصب كلها في اتجاه حصر السلطة بأيدي حفنة صغيرة، ويقسر الناس على التعود وقبول هذا الشكل من الحكم أو التحكم، وأيضا استخدمت وسائط وأبواقا مختلفة من الإعلام ومناهج التعليم وسواها من وسائل المعرفة ..
تمّ عقد ندوات عديدة من قبل أهل الفكر للإجابة على السؤال عن أسباب التخلف، وهل ثمة أزمة، والدعوة لتجديد الفكر في الوقت ذاته، فمنهم من رأى أنها أزمة حضارة، فرد من يقول بأنها أزمة البرجوازية الحاكمة، ومن أن الحاضر هو استمرار للماضي، وأزمة البنية الأيديولوجية للفكر القومي، مع وضعف التواصل العربي العربي والعلاقات البينية، فحجم التبادل التجاري والاقتصادي فيما بينها لا يتجاوز ثمانية بالمائة، ناهيك عن مسائل أخرى كغياب الديمقراطية وفقدان الحريات والتعدي على حقوق الإنسان، انعكس علاوة على ما ذكرناه على النمو الفكري سلبا، ودفعه نحو تبعية دائمة، فالتنمية عادة تتم في نظم تبنى وتؤسس عادة بمشاركة ديمقراطية واسعة، وتتمثل بتيارات سياسية متعددة تتمثل في السلطة.. دون أن ننسى أن التنمية تتأثر أيضا بواقع العالم وانعكاساته على الواقع العربي، جاء هذا التأثير واضحا لاسيما بعد انهيار المنظومة السوفيتية، وما حصل من خلل في التوازن العالمي وهيمنة القطب الواحد الأمريكي بالتوازي مع ثورة التقانة لاسيما في مجال المعلومات والاتصالات، والسعي لتهميش العالم الثالث، وترسيخ تبعيته واعتباره عالما هامشيا ليس سوى امتداد للعالم الرأسمالي..
ما المطلوب منا إذن عمله في الحالة الراهنة على صعيد مختلف التيارات السياسية.؟ أرى لزاما على كافة هذه التيارات تقوية النقد والعقلانية، والدعوة إلى الديمقراطية وتنمية المجتمع المدني والنضال ما أمكن لتحقيق وتوسيع دائرة الحريات العامة ويكون هذا بمواجهة الدولة كما قلنا بثقافة نقدية تبين أن تردي أوضاع المحكومين هو مسؤولية الدولة، وتترتب بالتالي على النخب الثقافية مسؤولية إيجاد مخرج للخروج من الواقع الراهن المزري والمأزوم، لا بد من بناء كتلة ثقافية مخلصة واعية، فالشعوب العربية من حقها مجاوزة التخلف، فالتخلف ليس قدر هذه الشعوب، لا بد من مواصلة السير على طريق التقدم والحرية والديمقراطية، والتمتع بكنوز خيرات أوطانها، والمساهمة في مسيرة التقدم نحو عالم أرحب وحياة، أفضل، وإنسان أوفر علما ومعرفة وتقدما..
‎© منبر الحرية،20 فبراير/شباط 2011

peshwazarabic13 يناير، 20110

تشير الوقائع اليومية، إلى تدهور الحريات الشخصية في مجتمعاتنا، حيث لم تعد العملية تقتصر على حرمان الفرد من حقوقه الخاصة، بل بإجباره على تبني خيارات الآخرين، في ميدان العمل والثقافة والديانة والسياسة، ليحكموا عليه بالجمود، فيتم حرمان المجتمع من الاستفادة من طاقته الذهنية الخلاقة، حيث لا يمكن للفرد أن يكون منتجا، ما لم يكون حرا محبا لاختياراته.

اكرام عدنني12 يناير، 20115

تحتل الوظيفية مكانا مرموقا داخل النظريات السوسيولوجية المعاصرة، ولا نكاد نجد باحثا في علم الاجتماع والانتروبولوجيا إلا وظهرت في أعماله وتفسيراته ومنهجه خصائص الوظيفية، بل إنها من أوسع الاتجاهات انتشارا في دراسة الظواهر الاجتماعية.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20101

“جان جاك روسو”  من المفكرين الأحرار الأفذاذ دعاة الحق والعدالة وانتصار الحرية والمساواة والتآخي بين الشعوب.
يتوخى ” روسو” إرساء أسس الحياة السليمة التي تبنى عليها الأوضاع الاجتماعية في أي مجتمع ويستند في ذلك إلى قضية لا تخلو من خطورة وأهمية، فيرى أننا لا نستطيع أن نحدد طبيعة المجتمع إلا إذا تعمقنا في نظمه السياسية، فكأننا نستشف طبيعة الشعب من طبيعة نظام الحكم الذي ارتضاه. ويستبعد ” روسو ” من البداية قيام المجتمعات على أساس القوة والبطش، سواء اتخذ ذلك شكلا مسالما أم انبرى بحد السيف. ولئن قامت حكومات في غضون التاريخ على أساس القوة والعنف والبطش، ولئن كانت هنالك حكومات ما برحت مستندة إلى هذا الأساس، فإن هذا كله لا يبرر القوة ولا يصبغها بصبغة المشروعية. فالقوة لا يمكن أن تكون مصدرا للحق وإذا حدث وانبثق الحق من القوة فهو منعدم في عين اللحظة التي ينبثق فيها.
إننا لو تساءلنا من زاوية النظر الفلسفي البحت: هل يمكن أن تكون القوة دعامة للحق؟ وهل يلزم أن نسلم بذلك  تحت وطأة بعض الملابسات الواقعية، أم أن ننظر للأمن من زاوية الكرامة الإنسانية؟ إننا لو تساءلنا على هذا النحو لأتانا الجواب قاطعا حاسما: إن كرامة الإنسان في حريته، وفي قيام الحق على أساس القوة سلب لحرية الإنسان، وإهدار لكرامته. فثمة تنافر بالطبع بين الحق والقوة رغم قسوة التجارب التاريخية.
والتجربة التاريخية لا تعني “روسو” بقدر ما يعنيه إرساء الأساس الأخلاقي الراسخ للحياة الإنسانية. وهنا يمكننا أن نربط بين موقف “روسو ” من الحق، وبين موقف الفيلسوف الألماني “امانويل كانط ” من الواجب، فالواجب لذاته هو غاية الفعل الأخلاقي في نظر ” كانط “، وهو أمر عام مطلق لا يتعلق بغرض ولا يرتبط بمنفعة ولا يرتهن بملابسات قائمة بالفعل. والإنسان في أدائه للواجب يشرع لنفسه وللإنسانية قاطبة في آن واحد. كذلك ينظر “روسو”  للحق من حيث هو على إطلاقه، وعلى هذا فالمجتمع المدني ينهض على أساس الحق، فهو ثمرة التراضي الحر بين الناس. والناس في الحالة الطبيعية الأولى يستقل كل منهم بذاته ويعول عليها، فيكون هناك ذوات فردية لا تنصهر في ذات عامة، وحينئذ يبذل كل منهم جهودا مضنية لافتقاره للتعاون مع غيره. فهي حالة ميئوس منها والمصير الحتمي فيها للإنسان تبدد طاقاته وهلاكه. فنهضة المجتمع وتطوره مرهون بتضامن الأفراد وتكاملهم، وحينئذ يكفل المجتمع لأعضائه القدرة على مواجهة أعباء الحياة. فالمجتمع المدني شرط لابد منه لتحقيق السعادة والرفاهية.
ولما كان إحساس الفرد بالحرية شرطا أساسيا لسعادته، فكيف يمكن التوفيق بين أفراد تختلف ميولهم ومشاربهم، ورغباتهم، وتعدد آمالهم وتتنوع اهتماماتهم بحيث يجمعهم إطار واحد تتوالى عليهم فيه واجبات والتزامات لم يألفوها من قبل، وحتى تتناغم هذه الواجبات والالتزامات مع الحق الطبيعي لكل فرد في أن يعيش حرا، فالمشكلة الأولى في المجتمع السياسي هي مشكلة المواءمة بين الفرد من جانب والجماعة من جانب آخر .. فهناك – دون ما ريب – ارتباط بين السلطة الحاكمة وبين حرية الفرد. وعلى ضوء هذا الوضع للمشكلة  يتساءل “روسو”: كيف يمكن أن نصل إلى صورة من التوافق الاجتماعي تتكتل في إطارها قوى الجماعة من أجل حماية حقوق الأفراد وحقوق الجماعة معا وفي آن واحد، من حيث أن هذه الأخيرة تعكس الوعي العام المشترك بين أعضائها؟ بعبارة أخرى: كيف يمكن أن تذوب شخصية الفرد كفرد في شخصية الجماعة، بحيث يحس الفرد بأن حقوقه مصانة وحريته مكفولة؟ وإجابة “روسو”  على هذا واضحة: ليس في الوسع أن ينهض مجتمع في هذا الإطار إلا على أساس الرضى والقبول أعني أساس العقد الاجتماعي.
فالعقد الاجتماعي – وإن يكن فرضا نظريا بحتا – له دلالاته العميقة في تفسير الأساس الذي تنهض عليه العلاقات المعقدة بين الناس، فلابد أن يكون هذا الأساس تراضيا وقبولا، لا قسرا وقهرا، حقا لا قوة. فالعقد الاجتماعي هنا أشبه برمز يتوسل به   “روسو ” ليبرز التصور الأساسي الذي تنضج من خلاله طبيعة المجتمع المدني، من حيث كون هذا  المجتمع ثمرة إرادة أصحابه.
فلكي يكون هناك حكم يلزم أن يكون هناك قانون يطاع. ولكي يطاع القانون ينبغي أن يكون محققا لإرادة المجموع، ومعنى هذا أن يكون في طاعة الناس للقانون رضوخ لحكم إرادتهم. فالقانون من ثم يعزز الاختيار والحرية ويستنكر القوة والتعسف. إن القانون على هذا الاعتبار هو صوت الإرادة العامة. وهذه الإرادة العامة هي دعامة السيادة. إن لكل فرد من أفراد المجتمع إرادته وحريته وهم يختلفون ويتباينون ولكنهم يلتقون عند أمر واحد: فهم يودون جميعا أن يحكموا حكما عادلا يحقق لهم الكرامة ويكفل لهم العزة ويؤكد لهم المساواة. ولا يمكن أن يأتي الحكم على هذا الوجه إلا إذا كان وليد إرادة المجموع الحرة.
والسيادة هي ممارسة الإرادة العامة للحكم ورسم خطوطه العامة وتخطيط أهدافه وينجم عن ذلك نتيجتان متلازمتان: أولاهما: أن السيادة للشعب بأسره، فلا يمكن أن تكون لفرد أو جماعة بل تتمثل في الأمة كلها. وثانيهما: أن سلطة السيادة لا تختص برعايتها أشخاصا معينين بل تنصب عنايتها على المصلحة العامة التي تهم المواطنين جميعا.
ومشروعية السلطة السياسية مستمدة من كونها مستندة إلى قاعدة السيادة الشعبية. فمشروعية السلطة تنهض على انبثاقها من الشعب واستهدافها خيره وسعادته. ومن أجل إبراز هذه الفكرة كتب “روسو ” ما كتب فأرسى أساس الديمقراطية الصحيحة.
‎© منبر الحرية،29 أكتوبر/تشرين الأول 2010

حواس محمود16 نوفمبر، 20100

الدولة الأمنية تعبير دقيق عن حال الدولة الاستبدادية والدكتاتورية، وهي لا زالت موجودة وبخاصة في العالم العربي، رغم أن العالم قد مر بمراحل مفصلية هامة كالبيروسترويكا، التي اجتاحت الدول الاشتراكية وسقط على إثرها العديد من الدول الأمنية وجاءت الثورة المعرفية والتكنولوجية الكبرى، والتي أثرت على العديد من الدول بانفتاحها الديمقراطي على شعوبها. ولكن كل هذا لم يؤثر على  الدولة الأمنية في العالم العربي، يقول المفكر العربي طيب تيزيني أن مبدأ الدولة الأمنية هو: ” على الجميع أن يفسد الجميع حتى لا تبقى فئة  تكون الحامل الاجتماعي لعملية التغيير” وبحسب تعريف موسوعية ويكيبيديا الحرة: “هي  دولة تمارس فيها الحكومة إجراءات قمعية صارمة ضد المجتمع تتحكم من خلالها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشعب. وغالبا ما يتم ذلك من خلال شرطة سرية تعمل عادة خارج الحدود التي تفرضها الجمهورية الدستورية. الدولة الأمنية  عادة ما تظهر مظاهر الشمولية والرقابة الاجتماعية، وعادة ما لا يوجد ما يميز بين القانون وممارسة السلطة السياسية من جانب السلطة التنفيذية”(1).
وهي تمارس التقييد والتضييق والملاحقة بحق الأفراد والجماعات بحجج وذرائع  شتى، من قبيل أن الدولة  تواجه تحديات خارجية، أو أن الذي يطالب بالديمقراطية وإلغاء الاستبداد يضعف من هيبة الدولة أو الأمة، وأن الشعب يجب أن يخضع للأحكام العرفية وقوانين الطوارئ.
تمارس الدولة الأمنية ” التفكيك والفصل بين مكونات شعبها ومجتمعها، فهي  مؤسسة محاربة للاندماج، وكل جهدها يتجه إلى تضخيم مؤسساتها الأمنية والقمعية لاستمرار الأوضاع على ما هي عليه ولوأد أية حركة اجتماعية تطالب بالعدالة والإنصاف ” (2)   ” سكان الدولة الأمنية يعانون القيود المفروضة على التنقل، وعلى حرية التعبير عن  الآراء السياسية” (3)  والعمل والتجارة والتعليم والسفر (من خلال الترهيبات والمغريات)  والتي تخضع لمراقبة شديدة  أو قمع الشرطة والأمن. و”لعل بناء السجون والمعتقلات من أبرز سمة الدولة الأمنية  التي تولي لهذا الجانب اهتماما كبير كونه يمثل العصا الطولى في احتجاز وإبعاد من تريد إبعادهم عن ساحة الحياة السياسية أو الاجتماعية بأي سبب مختلق، حيث كشف فريق من خبراء حقوق الإنسان بالأمم المتحدة عن تزايد كبير في عدد المعتقلات السرية بمختلف أنحاء العالم وخصوصا في الدول المنتهجة للنظام الشمولي” (4)
ملامح الدولة الأمنية:
تتسم الدولة الأمنية بعدة ملامح تميزها عن الدولة  اللاأمنية أو الديمقراطية ويمكن أن نذكر هنا أهم ملامح الدولة الأمنية :
“أولا: رفض التداول السلمي للسلطة وجمع الصلاحيات في شخص فرد أو حزب واحد.”(5)
ثانيا:  تعتمد الدولة الأمنية أيديولوجية شمولية ذات طابع عقائدي دوغمائي إيديولوجي مغلق تستند إلى التحشيد والتجييش والتحميس وتبث ثقافة إيديولوجية عمادها التلقين والحفظ والببغائية والعدمية الفكرية والعقلية والنقدية لكي تستطيع أن تسود وتسيطر على مقدرات البلد والمجتمع.
“ثالثا: التركيز على (كاريزما) القائد الأوحد والحزب الواحد وعبارة (زعيم واحد) “(6) والقائد الملهم، ويتحول الحزب إلى رهينة بيد الرئيس فيأخذ الاهتمام الأوسع وبذلك تسهل عملية الاستبداد بالرأي والتصرف بمقدرات الدولة والمجتمع.
رابعا: السيطرة والاحتكار التام لوسائل الإعلام والصحافة والترويج للقائد وتلميع وجهه وترديد كلامه كمفكر وسياسي وداهية بالعلوم كافة، ويمنع  المجموع العام من التعبير عن رأيه بحرية، وإن تم إفساح المجال لمثقف أو سياسي من خارج دائرة السلطة، فإنه يجب أن يتحدث بايجابية عن الزعيم، وإلا فانه لا يسمح له بأي نقد للزعيم أو لسياسات الدولة الأمنية وتشتغل الأبواق الإعلامية لتبيان الدولة الاستبدادية وكأنها جنة الفردوس  على الأرض.
خامسا: ” إخضاع المؤسسة العسكرية ومفاصل القوة والدفاع، ومؤسسات المجتمع المدني إلى منهج الارتباط المباشر بشخصية الحاكم وترجمة سياساته عن طريق استخدام البطش والقسوة والتنكيل، ووضع قيادات مرتبطة بشخصيته مباشرةً وترهبه دون غيره، وتتملق للوصول إلى مرضاته بكل وسيلة. “(7)
سادسا: “الاقتصاد الموجه الذي يسيطر الحاكم به على مقدرات الشعب، ويتحكم بقوت الناس وأرزاقهم ليكون له اليد الطولى بزيادة العطاء لمن يواليه وتقليص وتضنيك متطلبات المعيشة لمن يغايره التفكير والتوجه. “(8)
سابعا: ” بناء مؤسسات شبه حكومية تابعة بشكل مباشر لشخص الحاكم ورأس الهرم السلطوي مهمتها تنفيذ الأجندة الخاصة للشخص المحرك لها حتى ضد الجهات الحكومية واستخدامها في حالات الضرورة أو في حال تراجع الجهات التنفيذية عن تنفيذ الأوامر غير القانونية. “(9)
ثامنا: “تطبيق المواد القانونية والدستورية بطريقة مسيسة، فتشدد في جانب وترتخي في جانب آخر وحسب أهواء السلطة”(10)،  والقيام بشراء ذمم المحامين والقضاة واستخدامهم في محاكمة الوطنيين والشرفاء لاستصدار أحكام جائرة بحقهم بموجب محاكمات شكلية وصورية.
تاسعا : تجيد الدولة الأمنية فن اللعب على الداخل والخارج، تبين دائما من خلال وسائل إعلامها وأبواقها المتعددة سواء هذه الأبواق مؤسسات أو  أشخاص من ضمن الدولة أو خارجيين (عرب أو أجانب)، تبين أن الخارج هو المهم أي توجيه الأنظار إلى الخارج وتحدياته، وهي تسيطر على مقدرات الشعب بشكل محكم،  وإذا وجد عدو خارجي فإن الدولة  الأمنية تقوم  بالتركيز (عندما يطالب الشعب بالتغيير) على أننا أي الدولة الأمنية  الشمولية مستهدفون، ونحن نواجه هجمة خارجية شرسة لذلك فان المطالب بالتغيير أو التنمية يوصم بالتواطؤ وخدمة الأعداء، وتحت هذه الحجة تم خنق المجتمع وأهملت التنمية وتخلفت المجتمعات  وزج بالعديد بالسجون والمعتقلات، وأعدم البعض بتهمة الجاسوسية لإسرائيل حتى أن الأمن يهدد بعض المعارضين بتدبير تهمة التعامل مع الأعداء، وتحت موجة العداء للعدو الخارجي تمارس شتى العقوبات ضد العديد من المناضلين من أجل التغيير والديمقراطية دون أن يحدثوا أي ضجة إعلامية لصالح الدفاع عنهم ومطالبة الدولة الأمنية بالإفراج عنهم، على العكس من ذلك يذهبون إلى سجونهم بتغطية إعلامية معادية لهم لأن السلطات تشتري الإعلام الخاص من خلال الرشاوى أو التهديد. أما الإعلام الحكومي فهو إعلام الدولة الأمنية طبعا يروج لهذه  ضد خصومها الديمقراطيين بالبلد.
الهوامش :
1- موسوعية ويكيبيديا الحرة.
2-  –  محمد محفوظ كتاب ” تحرير الديني ” اصدار دار الانتشار العربي – بيروت – لبنان  بيروت ص  111.
3- ويكيبيديا  الحرة مصدر سابق مذكور.
4- عدنان الصالحي ” الدولة البوليسية … بناء هش ونظام قلق ” عدنان الصالحي – صحيفة الأهالي البغدادية عدد 334  28-4- 2010 ص 7.
5-6-7-8-9 –  10 – صحيفة الأهالي البغدادية عدد 334  28-4- 2010 ص 7.
© منبر الحرية،18 أكتوبر/تشرين الأول 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20102

ليس هناك ثمة شك في أن بغداد قد بنيت لتكون مدينة، بل وعاصمة، بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما أرادها الخليفة المنصور العباسي، وتنطبق ذات الحال على القاهرة كما أرادها الخلفاء الفاطميون. بغداد مدينة والقاهرة مدينة، ولكن الكوفة والبصرة (الإبلة في الأصل) لم تكن مدناً بالمعنى الحقيقي للكلمة ذلك أن عدداً كبيراً من المدن العربية العريقة بنيت كمعسكرات. هذه الحال تنطبق على الكوفة والبصرة، بكل تأكيد، وهي تنطبق كذلك على سامراء (سُرّ من رأى)، إذ يتحول المعسكر إلى نواة للمدينة كي تتضخم وتتوسع حتى تدخل إليها الأسواق والحواري والأحياء، ثم ليتبع ذلك موجات الهجرات من الريف إلى المدينة كي تختلط الدماء كما تختلط الثقافات والعادات والتقاليد. من هنا يتوجب علينا أن نناقش موضوعاً مهماً سبق وأن طرح من قبل أذكى العقول العربية المعاصرة، وهو موضوع مفتوح للجميع ممن يودون المساهمة في أنشطة تبادل الرأي حوله، الموضوع، باختصار هو: لماذا لا نملك في العالم العربي مدناً أو حواضراً بالمعنى الدقيق للفظين، أي مدناً مثل لندن أو نيويورك حيث يشعر المرء أنه في ظل حضارة مدنية بالمعنى الصحيح؟ ثمة شعور بالانغمار في أجواء المدينة يعتريك وأنت تتمشى بين أنواع مختلفة من المارة في شوارع مونامارتر أو في سوهو: هل تكتسب المدينة صفتها “المدينية” من سكانها، أم مما يحملوه في دواخلهم من أخلاقيات وقيم إجتماعية؟ وهل هذا قد تحقق في أية مدينة عربية سابقاً كي ندّعي بأن لنا مدناً يمكن أن تقارن بالمدن الأوربية أو الأميركية؟ بلى، حاولت بيروت ما قبل 1973 أن تبلور صورة لمدينة عربية، شرق أوسطية يمكن أن تقارن شوارعها (الحمرا خاصة) بشوارع ومقاهي مدن أوربية جميلة.
هذا سؤال يستدعي الكثير من المناقشات والجدل الذي يمكن أن يقودنا، من منظور أول، إلى نظرية الفيلسوف الاجتماعي العراقي، علي الوردي، الذي لاحظ “ازدواجية الشخصية العراقية”، بمعنى الشرخ المؤلم الذي تعانيه وتئن تحت وطأته بين الانتماء للمدينة من ناحية، وبين الولاء لقيم البداوة من الناحية الثانية. أهمية هذه النظرية الوردية، برأيي، لا تنطلق من رصد الشخصية المدينية العراقية فقط، إذ أن الازدواج لا يتحدد بابن بغداد أو الموصل فقط، لأنه ينطبق كذلك على أبناء دمشق وعمّان والقاهرة وبيروت من بين سواها من المدن العربية التي لم تفلح الحياة في دواخلها من تنقية الإنسان المديني العربي من قيم البداوة المختفية في أعماق أعماقها. إن الأدلة على ما نذهب إليه اليوم من توسيع وتعميم لنظرية الوردي على جميع دول الشرق الأوسط تأخذ مدياتها كاملة في حنو الإنسان المديني في أغلب المدن العربية لأخلاقيات الصحراء، وتسييده لها بدلاً من تسييد قيم الحاضرة والمدينة. هذه القيم الصحراوية الجرداء تتجسد، ليس فقط في الاعتزاز والتباهي الذي يعكسه الإنسان المديني العربي بانتسابه للصحراء، بل كذلك في الاهتمام الذي يخص به سكان المدن العربية الألقاب العشائرية والقبلية، وهي من بقايا سيادة روح القبيلة في البادية وعصبياتها، الأمر الذي يدل، كما أرى، أن البادية هي التي تحكم المدينة في العالم العربي، ولذا كانت قيم الثأر والانتقام وغسل العار والاستخدام القسري المهين للمرأة كـ”ديّة” أو كأداة لتصفية النزاعات القبلية ولتسوية الخلافات العشائرية والعائلية!
لاحظ، في هذا السياق، دموية طرائق تسوية الحسابات في المدن العربية، ولاحظ كذلك رفع الكلفة مع القانون وأدوات تنفيذه كالشرطة والجيش والدرك. الإنسان المديني العربي يفضل تصفية حساباته بنفسه لأنه لم يزل يشعر بحماية الجار وابن العم، وهي الأهم من حماية القانون والجيش والشرطة بالنسبة له، ولا داعي للرجوع إلى عدد كبير من الأحداث الدموية التي عصفت بمدن عربية بسبب تفضيل الإنسان العربي، بغض النظر عن دينه أو ولائه المذهبي، وأدواته الخاصة لتصفية الحسابات. هذه عدالة البادية المستوحاة من خلو البادية من السلطة المركزية.
إذا كانت هذه هي الآفاق الواسعة التي قد يقودنا إليها عقل الوردي الذكي (لاحظ تعدد الدهاليز والمنعطفات الفكرية التي يمكن أن تظهر لنا)، فإن علينا أن نرد معضلة هيمنة القرية أو سيادتها على المدينة العربية إلى أصل آخر، وهو: أن الغالبية العظمى من المدن العربية إنما كانت قرى لم تلبث وأن تضخمت على حساب جوارها الريفي لتضم الريفيين وقيمهم إلى دواخلها، كي تخرج من ناحية ثانية “قرية متوسعة”، قرية  يفضل سكانها تربية الخيول والأبقار والنعاج على التعامل مع السيارة ووسائل النقل العام، من الطائرة إلى القاطرة والترمواي، بينما يستبدلون الديوانيات بالمقاهي وألعابها.
أعتقد أن علينا جميعاً ونحن نقود سياراتنا في شوارع مدن زاهرة كمسقط أو دبي أو الرياض، أقول علينا أن نعيد تقييم الذات، ليس فقط في قوة وسيادة قيم القرية وأنماطها السلوكية (وهي قيم وأنماط طالما تبخترنا بالمحافظة عليها تحت عناوين من نوع “نظرية التراث”!). هي أنماط سلوكية يمكن أن يحسدنا عليها أهل البادية بسبب تفوقها على أنماط السلوك البدوي في القفار حيث الأرض اليباب التي لا تتيح لساكنها شيئاً قط سوى الإستذكارات والتأمل والشعر المتناغم مع ذبذبة حركة الجمل.
هذه أسئلة تقودنا كذلك إلى سؤال أكثر أهمية، وهو: هل المدينة العربية تحكم نفسها بنفسها، أم أن القرية أو البادية هي التي تحكمها؟ هل أن الأنظمة السائدة في هذه المدن يقودها “مدنيون” بالمعنى الصحيح للكلمة، من نواحي القيم المستنيرة في دواخلهم ومن نواحي آفاقهم الفكرية والثقافية؟، أم أن اغلب هؤلاء يحتفظون بقيم لا مدنية؟، بل قروية غير قادرة على تحمل التوسع المدني أو المديني الذي يطرأ على العقليات قبل أن يتجسد في بناء  الجامعات الكبيرة والأبراج العالية، من بين سواها من مشتملات المدن الغربية، كالمراقص والنوادي الليلية وكظواهر الإختلاط في جميع نواحي الحياة. هي أسئلة تستحق التأمل والإرتدادات الفكرية الذكية.
‎© منبر الحرية،11 غشت/آب 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

من الثمار المرّة التي طرحتها وتطرحها شجرة الحياة في بلادنا، ذلك التأصيل العنفي/الإرهابي، والإصرار المميت على رعاية وسقاية التخلف المعرفي الشامل، عبر معاداة سلطة العقل والعقلانية، والعلم والعلمانية، وكأن هذه الأقانيم “عمل من رجس الشيطان”، وبالتالي لا يصح للإنسان مقاربتها أو تأصيلها في حياته. لهذا شكل ويشكل الانتقال من أرض المجتمعات التقليدية، إلى أرض مجتمعات الحداثة ودولها/الأمم، العديد من نقاط السلب والإيجاب الكاشفة راهنا، كما وعبر التاريخ، في استظهار لذاك الاختلاف البيّن والجوهري بين “المسلم العادي” والآخر “المتضلّع فقهيا”، حيث تبدو المسألة مختلفة  في الشكل فقط بين هذا وذاك، وأولئك “الجهاديين” حملة السواطير والسكاكين والأحزمة الناسفة، لكنهم في الجوهر، كلهم في العداء سواء أكان اتجاه الحداثة وكامل منتجاتها، أو اتجاه العلم والعلمانيين، ولو لم يقرّوا علنا باستفادتهم الكبرى من منتجات الحداثة واستخدام بعضها لمصلحة مشاريعهم الآنية والمستقبلية.
وهكذا يجري استغلال وجود الحرية في الغرب من جانب هؤلاء، لصالح أهداف عقائدية تهدف لإعادة انتظام البشر وسلوكياتهم، في أنساق من العبودية والقنانة التي أضحت تنتظم في إطارات حلقيّة أو تجمعات أو تيارات أو أحزاب دينية ذات طابع سياسوي أكثر أدلجة، لا تراعي بل تعادي قيما كونية أساسية عدة، في سياق استمالة أعضائها نحو تلك القيم الإخضاعية التي تُعدّ شرطا لازما من شروط “الإيمان الديني”، كما أمسى يحددها البشر في سياق سلوكهم وممارساتهم الحياتية اليومية، بعيدا عن رعاية ورقابة النصوص المؤسسة التي تباعدت في سلوكها وممارستها العقدية، ولم تعد ملزمة لأحد في “أرض الجور والتخلف”، فما بالنا ونحن نتحدث ونعني أرض الحداثة كمرسى وميناء أخير لمسلكيات تبدو هجينة من ناحية، و”ملتزمة” من ناحية أخرى، حسب الناظر إليها من موقعه الديني العقائدي أو السياسوي المؤدلج، أو اللاديني.
في هذا السياق المحدّد، تبدو الانتهازية واضحة وضوح الشمس، في سلوك أولئك الذين يعتبرون وجودهم في أرض مجتمعات الحداثة ودولها، ضريبة “الجزية الدينية” المفروضة على أهل البلاد، حيث يجري التعاطي معهم كـ “ذميين”. هذه المفارقة التاريخية غير المسبوقة، لا تتم للأسف في سياق إعادة اعتبار للعقل، أو إعمالا لفكر نقدي، لكنها للأسف تُعيد الاعتبار لإعمال بعض من النصوص المؤسسة، وإسقاطها إسقاطا متعسفا على واقع لا ينتمي إليه هؤلاء، قدر ما يريدون استعادة الهيمنة عليه “فقهيا”، بادعاء “أحقيتهم اللاهوتية” لفرض جوهر أيديولوجي مضاد للعقل، ومعاد للفكر، ومغاير للنقد ومسؤولية الفرد عن ذاته، وما يصدر عن هذه الذات من تصرفات وأعمال، هي في المآل الأخير لها وعليها في نفس الوقت.
هذا يضع “الإسلام” في الغرب على تماس مباشر مع الحداثة، تماس تناقضي يُباعد بين الفرد/الإنسان والمجتمع، وبين “المجتمعات الميكروية الصغيرة” المتديّنة.. والحرية، وبين الحرية والاستقلالية الفردية والمجتمعية، كما تمارسها المجتمعات الحداثية، وتلك التي تجور على أفرادها، فتبقيهم أسرى الأنساق السلفية/الماضوية التي يُعاد تكرارها واجترارها، رغم ما أسفرت عنه من براهين ودلالات حملت معاني الإخفاق والفشل، وما أقيم بموجبها من مبان متصدعة ومتداعية، هي إلى الانهيار أقرب، وهي تغرق في جمودها  وتكلسها، ما قاد إلى خلق أبعاد تناقضية جديدة/ أو متجددة، بين القيم الدينية المعزولة أو ذات الطابع الانعزالي، وبين الحواضن المجتمعية الأصولية، كما عاشها “مسلمو الغرب” في بلدانهم الأصلية التي نشأوا وتربوا فيها، وتلك الحواضن الجديدة في بلاد الحداثة، حيث التناقض على أشدّه، في اعتمال لمسلسل من الصراعات العنيفة “المكبوتة” إلى حد ما، وسلسلة الحروب الأهلية، وهي تؤسس لتنافر شديد الوقع، يخفّف منه استيعاب الحداثة لطرائق المتدينين في التعاطي معها كونها دريئة هروب ولجوء، وعزلة وانعزال، مع ما يحمله هؤلاء من مخاطر إنشاء وإفشاء منطق صدامي، كنوع من أنواع الحروب الأهلية التي سبق للحداثة وأن تجاوزتها وطوتها تاريخيا، وأقلمت مجتمعاتها على نسق من التعايش والاندماج في داخلها. وذلك حين جرى ويجري استبعاد كامل عناصر التفجير، عبر التأسيس لحياة ديمقراطية أتاحت وتتيح تداولا سلميا للسلطة، وقد أثبتت أنها الأجدى والأنفع لسلوك دروب السياسة وإحيائها بعد موات، والحفاظ على مفهوم المواطنة في العقد السياسي والاجتماعي الذي ينظم حياة الناس، في بلاد تحترم حريات وإرادات الناس لذاتهم، لا لمصالح فردية منفعية ومصلحية وفئوية زبائنية، كما هو حال بلاد الجور والتخلف، وكما هو حال تفكير الهاربين منها إلى بلاد قدمت الحداثة لهم فرصة الحياة المدنية، لكنهم للأسف استمرأوا ويستمرئون “خياراتهم التكليفية والخلاصية”، كي يستمروا عالة على غيرهم، وعالة على دينهم حتى، وعلى بلادهم كذلك، تحت دعاوى الجزية والحسبة والغزو والفتح والاستعلاء المرضي، وإلى ما هنالك من دعاوى فصامية.
بين انفجار الهويات الدينية والقومية وفق أبرز تجلياتها الأيديولوجية الزائفة، وتصادمها ذاتيا وبينيا، وبين ادعاء الطهارة والقداسة الأيديولوجية للأصوليات الدينية، ومزايداتها كل في مواجهة الأخرى، تكمن مسيرة طويلة من سرديات الادعاء والتعالي والصلف والغرور الممزوجة بقدر عال من الفصام والأيديولوجيا المريضة، فأي ادعاء لـ “المسلمين” في الغرب عن طبيعة مجتمعاتهم ودولهم، البعيدة عن شوائب المجتمعات الغربية، تفضحها تلك الممارسات والسلوكيات التصادمية والانتحارية للفرد وللجماعة الدينية في “الفضاء الإسلامي”، حيث تحولت المجتمعات والدول إلى أشتات متواجهة ومتناحرة، في خلاف يستعيد إرث الماضي كله، بسردياته الخرافية والأسطورية، وتبجيلية ذاك التراث “المنتقى” و”المصفّى” الذي لم يجر الحفاظ إلاّ على سيمائه وسماته التقليدية، كمرتع للخلاف والاختلاف، وعدم الاتفاق إلاّ على أقل القليل من العبادات والتشريعات والطقوس التي تحولت هي الأخرى إلى عناوين رمزية، وكمؤشر لتصادم الذات مع ذاتها، والذوات المتشابهة مع المتشابه والمتنافر من الذوات ذاتها والذوات الأخرى، حتى بلغت الحروب الأهلية أمداء لم يعد معها من مجال لأي إصلاح، لا للنصوص الدينية ولا للبشر، فأي أمل باستعادة ألق الوحدة السياسية أو المجتمعية أو الأهلية في بلاد أسس الدين الواحد بطوائفه ومذاهبه لانقساماتها، وللفتن المتناسلة من فرقها وتياراتها وأحزابها التي لم تنجُ من التمزيق البيني الداخلي، استنادا إلى تأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، ومنها من صارت بقوة القائلين بالتأويل الإسنادي /العنعني هي السلطان.
لهذا.. قلنا ونقول أن الإنسان منذور للانتصار لقيم العقل والتنوير والاستنهاض، أي لقيم العقل والعلم التي لا يمكنها الوقوع في حبائل الأصوليات المتناحرة والمتقاتلة في داخلها وفيما بينها، تلك القيم ليست قمينة بسلوك طرق الاستتباع للآخر، أو الخضوع لمنطق رفض العلمانية من قبل أعدائها المتسربلين بالدين وبأقنعة المقاومة، على ما صارت تجارة بعض متدينينا، وهم يلبسون ألبسة غير ألبستهم، فالمقاومة والإرهاب لا يمكن أن يلتقيا أو يتعايشا فوق سطح واحد، كما أن الحداثة بقيمها الكونية لا يمكن إخضاعها لإحالات ومجالات التفكير الخرافي أو الأسطوري، على أن المقاومة إما أن تكون وطنية بالضرورة، أو أن فئويتها والذهاب للأقاصي المذهبية، لن تكرّس سوى الاحتلالات الأجنبية، مضافا إليها تلك الاحتلالات المكشوفة للفضاء العام، واستبعاد السياسة، وإقصاء المختلفين، واستبعاد الحوار، وترذيل قيم التسامح، وجماع هذا كله تلك الوصفة المؤكدة لتخليق واقع تعصّبي تُدميه الحروب الأهلية، وتملأ فضاؤه العام معطيات صراع الهويات القاتلة المتذابحة والمتحاربة، من أجل إحلال الرموز التقليدية، بديلا لقيم الحياة المتجددة الأكثر حداثة، في مواجهة “الموات العظيم”، ذاك الذي أفشته وأشاعته البنى الخرافية وأساطيرها المؤسسة، في بنية مجتمعاتنا وسلطاتنا “الدولتية” الاستبدادية.
© منبر الحرية ، 27 ماي /أيار2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018