نبيل علي صالح

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

العرب بين مطلب النهوض الحضاري وأزمة نظم الحكم وثقافة العصبية السائدة
تتراءى عند كتابة هذه الكلمات في الذكرى الثامنة لأحداث 11 أيلول 2001م– مجموعة من الصور السريعة المتعلقة بمجمل الأحداث السياسية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالعالم منذ ما جرى في ذلك اليوم العاصف، عندما تلاحقت تلك الوقائع بصورة دراماتيكية لتلهب العالم كله، ممتدةً في دوائرها وتأثيراتها السلبية على أكثر من مستوى في هذا الموقع أو ذاك.
في هذه الدراسة المقتضبة سنحاول تسليط الضوء الفكري على الأسباب الذاتية الكامنة وراء قيام شبان عرب مسلمون بتدبير وتنفيذ تلك الحادثة.. ونحن لن ندخل في سجال سياسي لتحميل النظام الأمريكي مسؤولية ما عن تلك الأحداث.. فكلنا يعلم بأن السياسة الخارجية الأمريكية تتدخل في شؤون العالم كله، مستفيدةً من قوتها وجبروتها الاقتصادي والعسكري والسياسي لفرض سياساتها على العالم بأجمعه.. وهي تمارس سياسات فوقية تسلطية بحقنا جميعاً (عرباً وغير عرب)، وهي سياسات مدانة ومستنكرة، ولها دور أساسي في زيادة الشرخ بين العوالم الدولية، وفي نشوء ردود أفعال غاضبة وسياسات عنفية مضادة في أكثر من موقع عربي أو دولي.. وإن كان من الأجدر بنا أن نواجهها بالعقل والعلم والمعرفة وتفعيل وجودنا الحضاري، وعدم تهيئة الأجواء والمواقع العربية الداخلية لها، لتعميق جراحنا، وزيادة حجم تدخلها المباشر وغير المباشر في كثير من شؤوننا السياسية وغير السياسية.. طبعاً هذا الواقع كله الذي فرضه النظام الأمريكي يشكل جزءاً أساسياً من المشكلة القائمة، لا تكتمل الصورة الفكرية التحليلية إلا بالإشارة إليه، منعاً للالتباس لدى الكثير من نخبنا ومفكرينا ومواطنينا..
ولكننا من جهة أخرى نجد أنفسنا ملزمين تماماً (كعرب ومسلمين) –في كل ما حدث من تحولات ومتغيرات مترافقة وناتجة عن تلك الحادثة– أن نقف، ونهدأ، ونتأمل قليلاً بحثاً عن حقائق الأمور وبواطن الأشياء، ونتساءل عن جملة الأسباب الداخلية (الذاتية) –قبل الأسباب الخارجية الموضوعية- الكامنة في داخل نسيجنا الاجتماعي والديني والسياسي التي تكرس وتثبّت -يوماً بعد يوم– وجود بنى ومظاهر وتشكيلات العنف الداخلي المتعددة، وتقوي مواقعه وامتداداته الدولية المنتشرة هنا وهناك؟! ولنكن أكثر دقة وموضوعية في طرحنا لسؤالنا السابق الذي قد يقول البعض بأنه نوع من جلد الذات وطلب الغفران، وهو ليس كذلك بالتأكيد، بل هو سؤال نقدي بامتياز ومحاولة بحث وتقصي معرفي عن أسباب حدوث تلك الواقعة الدامية عندنا قبل غيرنا:
ألسنا مسؤولين -بصورة مباشرة أو غير مباشرة– عن صنع العنف وتأصيل عقلية التعصب، وإنتاجه وتطويره وحتى تصدير بعضه (أو كثيره) للآخرين؟!.
ألا تتحمل النخب السياسية العربية والإسلامية المثقفة في السلطة والمعارضة -من اليمين واليسار على حد سواء- المسؤولية الذاتية المباشرة عن تطور (وتزايد وتضخم) الحجم المادي والكيفي للتيارات (والقوى والنخب) السياسية ذات التوجه الأصولي في داخل بلداننا ومجتمعاتنا؟!.
إننا نجزم هنا بأن كثيراً من النخب والنظم السياسية والفكرية العربية القائمة في عالمنا العربي والإسلامي عموماً تتحمل نسباً ومقادير نفسية ومادية عالية عن نمو بذور العنف الداخلي، وامتداده إلى مواقع الآخرين. ويبدو لنا أن لهذه النتيجة الحاسمة -التي وقفنا عليها هنا- مقدمات أساسية ارتُكز عليها للوصول إلى النتيجة الحاسمة السابقة.. فما هي هذه المقدمات؟!..
لا شك بأن هناك معاناة حقيقية شاملة، وتخلف سياسي واجتماعي عام يلف واقع العرب والمسلمين. ويظهر أمامنا حالياً كنتيجة طبيعية للسياسات العقيمة والفاشلة التي اتبعتها الحكومات والإدارات السياسية العربية –في كل مواقعها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية– منذ بداية عهود الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الغربي وحتى الآن، والتي أدت إلى إلحاق الضرر والخراب الكبير بحق أفراد مجتمعاتنا، وبحق ثرواتهم ومواردهم الطبيعية الهائلة التي أضحت في حالة يرثى لها نتيجة العشوائية وعدم التخطيط، وكذلك نتيجة النهب والفساد.
ومن المعروف –بالنسبة إلينا جميعاً– أنه لا توجد (في معظم البلدان العربية والإسلامية) حياةٌ ولا مظاهر سياسية حقيقية تقوم على احترام رأي الفرد-المواطن كأساس لبناء المجتمع الحي الحر والمسؤول، الأمر الذي يدفع تلك المجتمعات باتجاه سلوك طرق (واتباع وسائل) غير سلمية للتعبير عن حقوقهم ومعتقداتهم وآرائهم وثقافاتهم، خصوصاً أولئك الناقمين والساخطين والمتضررين مباشرة من هيمنة وتطبيق السياسات التسلطية القاهرة.
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أن سلوك طرق التعصب والعنف واستخدام الوسائل العنيفة –في التعبير عن الرأي، وممارسة السياسة– هو أمر مرفوض ومدان من قبل كل من يملك عقلاً حراً ووعياً إنسانياً متقدماً في الفكر والممارسة.. ولكن المسألة هي أن هناك من يدفع مجتمعاتنا دفعاً نحو تلك الطرق والوسائل العمياء غير المجدية والمرفوضة كلياً.. وعند البحث عمن يكمن وراء ذلك تجد أن الفضاء الثقافي المسيطر منذ قرون له دور، وسياسة الفشل الاقتصادي والاجتماعي المتبعة لها دور، والسلطات القائمة المشرفة والموجهة لها الدور الأهم، فهي التي تهيئ –في داخل استراتيجيتها السياسية– الأجواء المناسبة، وتخلق التربة الأخصب لنمو أفكار ومشاريع وسياسات العنف الداخلي، ومن ثم العنف الخارجي، وذلك من خلال منعها أبناء المجتمع من مزاولة النشاط الحياتي الطبيعي، واتباع الطرق والأدوات والمناهج السياسية السلمية.. ويشهد على ذلك واقع الحضارات والأمم في الماضي والحاضر، حيث نجد هناك أن النظم والحكومات المستبدة هي المتسبب و(الأم الحنون؟!) لتوليد (ورعاية) وتغذية حركات (وعناصر) العنف والإرهاب.
وبالإضافة إلى انعدام الحياة السياسية الطبيعية في معظم دولنا العربية والإسلامية، فإننا نجد أن هذه الدول لا تزال تشكو من تفاقم حالة المعاناة الاقتصادية والاجتماعية الشديدة نتيجة تطبيق (وفرض) سياسات تنموية قاصرة وعقيمة على شعوبها ومجتمعاتها.
كما أن لوجود وتجذر مرض الفساد العريض الدور الأكبر في الوصول إلى تلك النتائج المأساوية والخطيرة التي أفقدت مجتمعاتنا توازناتها وإيقاعاتها الداخلية، وخربت الإنسان -الذي هو أساس بناء الأوطان– من الداخل، وتركه حائراً من أمل بحياة شريفة، هادئة ومطمئنة.
وعندما تصل الأمور –على الصعيد الاقتصادي- إلى هذا المستوى الكارثي الخطير من التدهور والسوء والانحطاط -الذي يعبر عنه من خلال تفشي مظاهر اليأس والإحباط والقنوط والعدمية واللامبالاة – فإنه من الطبيعي جداً أن تتحول مجتمعاتنا إلى مواقع وبؤر توتر حقيقية لتفريخ الأصوليين والإرهابيين، ونمو بذور العنف الذي يمكن أن تتطاير شرره وشره إلى مسافات بعيدة ليصيب بلهيبه وشظاياه هذا البلد أو ذاك، ومن دون انتظار ومعرفة النتائج السلبية الخطيرة المترتبة على مثل هذه الأفعال الشنيعة.
من هنا نحن نعتقد أن صناعة الإرهاب وإنتاجه، وتوسيعه، وتركيز خطوطه –كقيمة عملية، لها أسسها، وقواعدها، وآليات عملها المباشرة وغير المباشرة في داخل المجتمعات المتخلفة والفقيرة على مستوى النخب السياسية والاجتماعية الحاكمة ككل- هو الذي يساهم في إعطاء الانطباع بأن العرب والمسلمين إرهابيون، وبالتالي يدفع باتجاه تكوين رأي عالمي موحد ضد العرب والمسلمين في كل مكان وزاوية من هذا العالم.. مع العلم أن للدول الغربية وغير الغربية الكبرى نصيباً وافراً في تعميق ثقافة الإرهاب وتوليد الإرهابيين وصناعة العنف والدم في داخل بلداننا ومجتمعاتنا من خلال تدخلاتها وغزواتها وحروبها الموجهة ضد عالمنا العربي والإسلامي في غير موقع هنا وهناك.
ولذلك فالمشكلة القائمة حالياً لا تقتصر فقط على وجود قوى ومنظمات وشخصيات تؤمن بالعنف، وتعتقد اعتقاداً يقينياً بأولوية الإرهاب والنشاط الجهادي المسلح على السياسة والسجال السلمي لأخذ الحقوق، وتعمل في السر أو العلن هنا وهناك، بل إنها تتعدى ذلك لتصل إلى مرحلة وجود مناخ أو جو عربي وإسلامي عام يتعامل –بصورة شبه طبيعية- مع قضية الإرهاب المحلي والدولي، وذلك كنتيجة منطقية لوجود نخب سياسية تُرعب وتُرهب ولا تهتم إلا بمصالحها الخاصة على حساب مصالح الأمة كلها..
ونحن بالرغم من عدم انسجامنا (أو اتفاقنا) مع السياسات العملية المطبقة في معظم البلاد العربية -التي تكرس ثقافة العنف– فإننا لا نزال نأمل وننتظر من تلك النظم القائمة أن تنطلق من لحظتها الراهنة –مستفيدة من تعاظم متغيرات العالم وتسارعاته الكبيرة– لإجراء إصلاحات سياسية جدية و تحرير القدرات من أجل تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية على مستوى جوهر الحكم وممارسات السلطة، وفي كل ما يتصل بضرورة مواكبة معايير ومبادئ التنظيم السياسي والاجتماعي الإنساني الحديث، ووضع حد نهائي لمناخ الكبت والرأي الواحد من خلال إشاعة جو الحرية والأمان الاجتماعي الحقيقي، لأن الحرية والأمان شرطان أساسيان لازمان لكل عمل خلاق ومبدع، حيث أنه لا تنمية حقيقية، ولا تحديث صحيح معافى (وليس التحديث الشكلي القشري الذي يقوم على استهلاك حضارة ومنتجات الآخرين بما يبقينا تابعين ومستلبين لهم) دون تمثل وتطبيق تلك التطلعات الكبرى.
وحتى لا نتهم بالنظر إلى نصف الكأس الفارغ فقط، نشير ونثني على ما قامت وتقوم به كثير من بلداننا العربية والإسلامية من جهود على صعيد محاولتها تحديث بنيتها السياسية، وتطوير مختلف هياكلها ومواقعها الاقتصادية العملية..
وحتى نتمثل تلك الطموحات العالية -ونتحرك في خط التنمية المطلوبة فردياً وجماعياً- لابد أن تحظى أنظمة الحكم القائمة في داخل اجتماعنا السياسي والديني (والتي تدير وتشرف وتنفذ السياسات العامة في المجالات كلها)بالحد الأدنى من القبول الطوعي (لا قسري) بين أبناء الأمة.
وهذه هي الإشكالية الأكبر التي لا نزال نعاني منها، ولا أعتقد بأننا سنخطو خطوة واحدة نحو الأمام من دون إيجاد حلول جذرية علمية وعملية لها. إنها إشكالية إحجام الناس عندنا، وعدم مشاركتهم بشكل فاعل ومنتج في مجمل النشاطات السياسية والاقتصادية العامة، وبالتالي عدم الاستفادة القصوى من كل الإمكانيات والطاقات والجهود  البشرية (والطبيعية) المتاحة أمامنا.
ونحن نعتبر أن تثمير جهود وقدرات أفراد الأمة في طريق العمل الخلاق والمبدع    -الذي نحن بأمس الحاجة إليه حالياً– لا يمكن أن يصل إلى نهايته السعيدة ما لم نوجد إطاراً ثقافياً ونفسياً حرا صحياً لعملية التنمية المطلوبة، يمكنه أن يدمج الأمة ضمنه لتتجاوب معه، بما يساعد على الشروع بتطبيق خطط اقتصادية وإدارية يشارك فيها كافة أفراد المجتمع، وتمهد لمعالجة حقيقية وجدية لآفة الفساد، وتساعد في خلق مناخ نقي وصحي جديد مشجع على العمل والإنتاج والاستثمار من أجل أن يتحرك الناس (كل الناس) على طريق إنجاح التنمية، وبناء المجتمع الحديث. حيث أن حركة الأمة والمجتمعات ككل تعبير عملي حر عن وجود إرادة حقيقية جامعة في التحرك والانطلاق -من خلال مواهب أفراد المجتمع الداخلية وطاقاتهم الكامنة- نحو المشاركة الفاعلة في عملية البناء والتنمية للثروة الخارجية من خلال تنمية ووعي الثروة الداخلية.
وبتعبير أكثر صراحة ووضوحاً وشفافية نحن نعتبر أن إطار التنمية الثقافي والنفسي الشامل السابق ينبغي أن يتأسس -في العمق الروحي والنفسي– على مناهج فكرية ومعرفية عملية لا تتعارض (ولا تتواجه ولا تتناقض) مع طبيعة التركيب النفسي والشعوري التاريخي المتركز داخل البنية النفسية والفكرية لأبناء الأمة.
لأن وجود التعارض والمواجهة مع طبيعة التركيب النفسي للأمة سينعكس حتماً بصورة سلبية خطيرة على واقع مجتمعاتنا في الحاضر والمستقبل، ويتمظهر-كما ذكرنا- من خلال امتناع أفراد الأمة عن المشاركة في صياغة ومناقشة القضايا الرئيسية، وممارسة رقابتهم على الأجهزة المختلفة للدولة.
لذلك -وحتى ينخرط الجميع في عملية بناء الوطن وتطوير المجتمعات من خلال تحقيق وإنجاز عملية التنمية المطلوبة لها- فإن الدولة يجب أن تكون تعبيراً حقيقياً عن إرادات الناس ومصالح المجتمع، وتجسيداً عملياً لقيمه الثقافية والتاريخية المنفتحة، في تقدير وجود الإنسان واحترامه، وتوفير العمل اللازم لمعيشته، ونمو وعيه.. وبذلك تثبت الدولة، وتستقر وتتطور قدماً نحو الأمام.
ولذلك نقول بأن افتقاد الأمة للمشاركة الشعبية الطوعية الواعية للجماهير الواسعة في عملية التنمية الذاتية، والتغلب على واقع التخلف، والخروج من أنفاق التبعية والارتهان، لا يمكن إلا أن يضعف الشأن العربي والإسلامي في قضاياه الإستراتيجية المصيرية، وبكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي: عندما نحقق مناخ الحرية، ونؤسس البناء السياسي الصحيح والمعافى، فإنه يحق لنا أن نتحدث هنا عن وجود قدرات أكبر وأوسع تسمح لنا بتوفير قاعدة مادية صلبة لمواجهة تحديات الخارج الاقتصادية والسياسية وغيرها.. حيث أن واقع هذه المواجهة (المؤكدة في المستقبل القريب أو البعيد) يزداد ضعفاً كلما زاد ابتعاد الحكام والزعماء عن هموم الشارع العام (أي عن متطلبات المواطن الأساسية)، وكلما فرض (هؤلاء الحكام) على الناس نموذجاً واحداً في الفكر أو الاعتقاد والعمل أو الممارسة.. وهذا ما يحدث حالياً في معظم بلداننا العربية والإسلامية بشكل واضح تماماً حيث تتصور الكثير من النخب السياسية أن الهيمنة على الشعب، والتحكم بمعتقداته وأفكاره ومعيشته وقدراته، وتفتيت قواه وثرواته، هي الوسائل الأسهل والمباشرة التي قد تمكنها من تنفيذ سياساتها الداخلية والخارجية بسهولة ويسر أكثر فأكثر.
ولكن الحقيقة هي أن هذا التصور المزعوم قد يصدق حيناً، ويسقط أحايين كثيرة أخرى. فالشعب يحتاج –بدايةً- من أنظمته الحاكمة إلى توفير أجواء ومناخات حرية دائمة تسمح بوجود حوار فكري متحرك ومفتوح، يشارك فيه الجميع، وتتعمق من خلاله النقاشات الجادة والمثمرة، وتطرح فيه الرؤى والأفكار المتعددة التي تنصبّ أساساً على طريق بلورة الوعي القادر على محاصرة كل أنواع القهر والتخلف والتأخر في واقعنا، والمتمثلة -كما تحدثنا سابقاً- في التجزئة والاستلاب والارتهان والتشتت وفقدان إرادة التغيير الصحيح، وضعف (تضعيف) المؤسسات الدستورية، وهيمنة التدخلات الأجنبية على الداخل، والاستكثار منها تعويضاً عن غياب (أو تغييب) الإرادة العربية والإسلامية الجامعة (حيث أن العرب يجتمعون على أفكار الآخرين أكثر مما يجتمعون على قراراتهم هم).
..وأخيراً يجب الإشارة إلى نقطة ضرورية. وهي أننا كعالم عربي -نعيش في الحياة بين مجموعة من الأمم المتقدمة والمتخلفة- لا نزال نفكر فيها بعقلية البلدة والوطن الصغير.. ولم نعد نفكر بعقلية الأمة والوطن الكبير.. مع العلم أن كل المسؤوليات الخاصة والعامة (بما فيها مسؤوليتنا أمام المجتمع والأجيال المستقلية) قد ألزمتنا بضرورة أن نتضامن مع بعضنا البعض من أجل تحقيق هدف وجودنا الحضاري الأساسي في الحياة، كأمة لها رسالتها الإنسانية، ولها دورها المحوري الرائد بين أمم ورسالات العالم كله. وهذه هي الأمانة الحقيقية التي حُمّلنا إياها، أمانة بناء إنسان عاقل وسعيد ومفكر وواعي بنفسه وبعالمه.. فهل نحن مؤتمنون حقاً عليها؟!. وهل أدينا وعملنا على ما تستلزمه منا هذه الأمانة الثقيلة؟!.
إننا وقبل أن نبدأ بالإجابة على السؤالين السابقين، يجدر بنا أن نلتفت جيداً إلى واقعنا الراهن.. لأننا سنجد فيه ما يوفر علينا عناء التدقيق والتأمل في أسئلة باتت بلا معنى، والبحث عن إجابات وافية وشافية لأسئلة كثيرة لا تنتهي.. فنحن قوم لا نزال نتفيأ بظلال وأغاني وأناشيد الماضي، ونرفض الانهماك والاندماج في مسيرة الحضارية العالمية، ولا نحب العمل والكد في طرق ذات الشوكة، ولا نرغب بإجهاد أنفسنا وعقولنا في البحث والتنقيب هنا وهناك. وهذه هي للأسف أكبر مصيبة ابتلينا بها.. أن يفكر الآخرون بالنيابة عنا، فقد أعطينا عقولنا إجازة طويلة منذ زمن طويل.. طويل جداً.. وأعلنّا على الملأ الإفلاس والاستقالة العقلية والعملية من الحياة والوجود كله!.
© منبر الحرية، 13 سبتمبر/أيلول 2009

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

لا تزال أسئلة الحوار والنهضة العربية تفرض نفسها بقوة على ساحة الفكر والثقافة في داخل اجتماعنا السياسي والديني الراهن منذ أن انطلقت مفاعيلها الأولى في بداية القرن العشرين على شكل صياغات استفهامية: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟!..
ولعلنا لا نغالي كثيراً عندما نؤكد على أن مشهد الخوف والإحباط واليأس والظلم والاستضعاف هو من المشاهد الأكثر حضوراً وتأثيراً على حركة الإنسان العربي الذي مارست بحقه الدولة العربية الحديثة أفظع أنواع القسوة والعنف الموزع مادياً ورمزياً على معظم امتدادات ومواقع هذه الأمة البشرية والطبيعية..
ويبدو لنا هنا أن تعميق ثقافة الخوف والرعب والقلق السلبي الممتدة أفقياً وعمودياً في مجتمعاتنا منذ بداية أزمة الخلافة والحكم الإسلامي الأول، كان من الأهداف الرئيسية التي سعت دول الاستقلال الأولى (الوريثة الشرعية لأنظمة القمع والطغيان التاريخية) –وكل النظم السياسية (سلطات الهزيمة) التي جاءت بعدها، والتي ارتكزت سياساتها جميعاً على ثلاثية: القمع والإفقار والتجهيل، أقول: كانت قد سعت إلى تعميق تلك الثقافة بالقوة على أرض الواقع، من خلال عملها على صياغة (وقولبة) المواطن الضعيف والمفقّر والمحتاج إليها دائماً، كي تتمكن من إلحاقه بها والسيطرة عليه، والتحكم بوجوده، أو –على الأقل- احتواء مطاليبه، وتدجينه، وربطه بوعود وهمية، وشعارات فضفاضة لم تحقق لمواطنيها  المستضعفين إلا الدمار والخراب الروحي.. فكانت النتيجة النهائية لكل تلك المقدمات المأزومة أن الدولة العربية الحديثة:
1.    فشلت فشلاً ذريعاً في إيصال المجتمعات العربية والإسلامية إلى شاطئ وبر الأمان والاطمئنان الذي سبق أن وعدت الجماهير به.
2.    وتفرّغ القائمون عليها للتحكم بموارد الأمة، والسيطرة على مفاصل السلطة والثروة والقوة والمعرفة في كل مواقعها، محتكرين بذلك كل الرأسمال المادي والمعنوي المتبقي لأفراد المجتمع والأمة..
لأن الفقير لا يجرأ دائماً على رفع رأسه، كما أن الجائع لا يعرف السياسة، ولا وقت عنده للحديث والاستماع للسياسة والسياسيين، حيث أنه مشغول كلياً بتحصيل لقمة عيشه وكفافه اليومي.. وهكذا يبدأ هذا الفقير الجائع والمحروم –مع مرور الأيام- بفقدان إنسانيته، ونسيان ذاته وفاعليته الوجودية، ويُختصر إلى جملة من الغرائز والمكبوتات، بما يؤدي لاحقاً إلى تدمير القيم السامية والأخلاق الحميدة والمثل العليا التي طالما تفاخر بها، واعتز بانتمائه إليها.. وهكذا كانت النتيجة أيضاً أن وصلنا إلى حافة الهاوية على كل المستويات والأصعدة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والشيء الذي ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا هنا هو أن خطورة هذا الوضع المأساوي العام الذي يرزح تحته عالمنا العربي الآن يتزايد أكثر فأكثر يوماً بعد يوم على مستوى عدم استجابة معظم النخب العربية السياسية الحاكمة لاحتياجات الناس، ومتطلبات التنمية الاقتصادية والسياسية الحقيقية، وهذا ما يؤسس باستمرار لأجواء ضعف (أو عدم وجود) المساءلة والنزاهة والشفافية المطلوبة، والتي لا يمكن النهوض والارتقاء من دونها، مما يجعل من تلك المجتمعات مرتعاً خصباً لانعدام الفعالية والنشاط والكفاءة.. وهذا الأمر نجده يفرض ذاته بقوة علينا، خصوصاً بعد أن أخذت الولايات المتحدة الأمريكية زمام المبادرة والمبادأة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية في العالم كله.. مما يدعونا جميعاً لمواجهة هذا التحدي الكبير من خلال ضرورة انفتاح الأنظمة على شعوبها، واعترافها بالتقصير عن تحقيق أهدافها وتطلعاتها والتزاماتها التي سبق أن وعدت بها.. ولكننا لم نشهد ذلك حتى الآن.. حيث لا تزال الفجوة (بما فيها الكراهية والحقد المتبادل) قائمة بين الشعوب العربية والأنظمة الحاكمة، وهي تتسع وتتعمق يوماً بعد يوم.. في الوقت الذي يفترض أن تتوجه جهود أبناء مجتمعاتنا  كلهم –حكاماً ومحكومين- إلى تركيز الطاقات باتجاه العمل والتنمية والسعي للنهوض بواقع أمتهم في محاولتها الرامية لاستيعاب المعرفة بمختلف جوانبها، والعمل على اكتسابها، ونشرها، وتعميمها.. وذلك من أجل  للارتقاء بواقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مواجهة عالم كبير يتحكم فيه منطق القوة وغريزة القوة والمصالح الآنية الجزئية، وتستحوذ أميركا فيه على حصة الأسد من كل الثروات والمصالح والمتع.
طبعاً نحن لا نريد أبداً أن نصور أميركا والغرب عموماً وكأنهم قضاء وقدر حتمي مفروض على شعوب وحضارات العالم أجمع، ولكننا نريد أن نعطي للواقع العالمي الراهن صورته الواقعية الصحيحة لكي نتمكن من إنجاز شروط مواجهته بحسب المنطق العلمي والعقلي القائل بأن النتائج تأتي تبعاً لمقدماتها.. حيث أن مواجهة الحقائق الواقعية، وتقدير حجم وقوة العدو الحقيقية هي من أهم أسباب تحقيق النصر الحاسم في ساحة المعركة..
وبالاضافة إلى ذلك فنحن لا نريد الخضوع أو إيهام الناس بصحة وصوايبة “نظرية المؤامرة دائماً” وأن هناك من يقف أمام تقدمنا وتطورنا دائماً.. ولكننا نقصد أنه طالما أن الشعوب العربية تظن وتتصور أن هناك –وعلى الدوام- من يتربص بها الدوائر ويحيك لها المؤامرات ويريد أن يسرق خيراتها وثرواتها… أقول: طالما أن الأمر كذلك فلن نشهد نهضة عربية حقيقية في أي شكل من الأشكال. والذي يبدو أمامنا هنا أن الحكومات العربية والإسلامية عموماً تعمق هذا التصور المريض في داخل ذهنية أفراد مجتمعاتها، لتخفي من خلال ذلك نهبها لطاقات أوطانها، وزيادة سيطرتها على ثرواتها وموارد مواردها التي تشكل قاعدة النهوض والتطور والتنامي الفردي والجماعي.
ويجب ألا يغيب عن أذهاننا وتصوراتنا أننا نعيش حالياً في ظل حضارة عولمية وإنسانية واحدة بالإطار العام.. إنها حضارة عصر الإنترنيت وحقوق الإنسان والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وحضارة المؤسسات الحديثة الحقوقية والإنسانية والعلمية.. ولسوء حظنا لم نستفد كثيراً من مزايا تلك التطورات الهائلة، ولم نؤسس لتواصل هادف مع الآخر.. وما زال القمع والظلم سائداً وطاغياً في كل حياتنا السياسية والاجتماعية، وكذا والأمية والفقر تفتك بهذه البلاد..
وهذا الضغط للأسف قادنا إلى ما نحن عليه الآن من أن أغلبية العرب والمسلمين المحقونين بالشعارات الطنانة الرنانة آثرت القعود، والاستكانة للحل السلبي وهو العبث واللامبالاة، والامتناع عن ملاحقة ومتابعة متغيرات الواقع، أي الامتناع عن العيش في العصر.. إنه الموقف الهروبي من الواقع كله الذي لم يشارك مواطننا العربي في تمثله وصنعه، والذي لا يمتلك القدرة على التأثير فيه ولو بنسبة ضئيلة جداً.. والنتيجة الواقعية هي في تحول هذا الفرد إلى محصلة صفرية غير فاعلة تعيش ليومها من دون أدنى تفكير خلاق ومبدع بالغد والمستقبل.. ولسان حاله يقول: “اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا”..
وفي ظل هذا الوضع لا يمكن للفرد المصاب بالوهن النفسي والضعف الذاتي العضوي تحقيق الاستشفاء الذاتي لوحده, بل إنه بحاجة ماسة لمن يأخذ بيده قبل كل شيء, وبالمثل لا يمكن لبلداننا تحقيق بديهيات التنمية والتقدم بدون مساعدة عاجلة وسريعة من الحضارات الأخرى.
وشعوبنا العربية والإسلامية تواقة للإصلاح والتغيير بالدرجة التي قد تفرض عليها أن تغض النظر عن مصدر التغيير وآلياته وأساليبه.. ويبدو أن انعدام التغيير الداخلي وفقدان الثقة بالنظم والحكومات القائمة في العالمين العربي والإسلامي، هو الذي يدفع تلك الشعوب باتجاه قبول التغيير الخارجي حتى لو جاء بيد عمرو (الغرب وأمريكا).
والواضح أمامنا –في هذا الاتجاه- أن هناك حقيقتين يعايشهما الناس في مجتمعاتنا العربية، وقد انتقلت تأثيراتهما إلى البلدان الأخرى:
الأولى: الشعور العام المطبق بانعدام آفاق التغيير والإصلاح نتيجة السياسات الفوقية الظالمة التي طبقتها النخب السياسية والاقتصادية العربية والإسلامية الفاسدة عبر العقود الماضية، والتي كانت تحظى –حتى عهد قريب- برضى المصالح والسياسات الدولية المتصلة مع نظيرتها المحلية.
الثانية: استشراء واستشراس ثقافة العنف التي وجدت في التراث الإسلامي حاضنة لها مما ساهم في نمو حركات العنف والتدمير في مناخ الترهل والفساد والاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه اجتماعنا السياسي والديني.
ويبدو لي أن ضغط هاتين الحقيقتين على مختلف مواقع الفعل والتأثير السياسي والحضاري المعاصر محلياً ودولياً، سيدفع هؤلاء جميعاً للعمل من أجل التعاون المثمر والهادف إلى تحقيق مجتمع تسوده قيم الحرية و الحوار والعقل والعدل.. يحترم فيه الإنسان من حيث أنه سيد الوجود والحياة.. مجتمع يتحمل الناس فيه بعضهم البعض، وتسوده وجهات نظر مختلفة.. مجتمع يشعر فيه الإنسان عملياً بأنه سيد نفسه، ولا فرق بينه وبين قيادته إلا بتوزيع الأدوار وتعدد واختلاف المسؤوليات.. مجتمع يتبنى النقد والمحاسبة الذاتية الحضارية عنواناً لحركته وتطوره.
© منبر الحرية، 17 أغسطس/آب 2009

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

يمكن الاستنتاج مباشرة ومن دون أية مواربة أن الواقع العربي الراهن يعبر أصدق تعبير عن فشل العرب في تكوين دول مدنية حديثة بالمعنى الثقافي والسياسي العملي. فنحن لا نزال نعيش في ظل نظم “أهلية-قبلية” غير مدنية (بالمعنى السوسيولوجي العملي) بعيدة عن منطق العصر والتطور والحداثة المعرفية والعلمية، ولا مكان فيها لأي منهجية تفكير علمية رصينة، ولا يعلو فيها سوى صوت السلف بسيوفه وتروسه وصولجاناته التي انتقلت –بقوة الدين وسطوة الأعراف والتقاليد- من أيديهم إلى أيدي الخلف من النخب السياسية والقبلية الجديدة التي يحكمها قانون البقاء والمصلحة، ويتحكم بوجودها فكر ومناخ الاستبداد التاريخي.
وقد وصلت الأمور بتلك النخب القبلية العربية الحديثة -في سياق رفضها ومحاربتها للتغيير السياسي والاجتماعي الطبيعي استجابةً لمنطق تغير الحياة وتطور الإنسان، ومنعها لأية محاولة يمكن من خلالها تشييد البنى الأساسية لإقامة مجتمع مدني متطور- أنها تقف بقوة حتى في وجه أي عامل تقدم علمي أو تقني، وتمنعه من النفاذ أو الدخول إلى المجتمعات إذا كان يمكن أن يشتم من دخوله أية رائحة للتغيير أو أي حراك بسيط قد يفضي إلى حرف للأوضاع القائمة، أو تغيير بالأفكار ومن أي نوع كان، في العقلية أو السلوك أو التوازنات الاجتماعية أو السياسية.
ولا تزال تلك النخب القائمة تعمل –في سياق إحكام سيطرتها على مجمل الحياة العمومية العربية- على تكريس ثقافة الفساد والإفساد كجزء من سياسة المواجهة بينها وبين بعض الطبقات والفئات الاجتماعية المتضررة والمختنقة الساعية بأي ثمن للتغيير والضاغطة بشدة على النظام، مما يجعلها تخصص قسماً كبيراً من موارد وإمكانات المجتمع المادية والمالية والبشرية لحماية مصالحها وضمان بقائها واستدامة سطوتها وانفلاتها من عقال القانون والمحاسبة والمساءلة، وفرض الاستقرار بالقوة (أي فرض الثبات والموت) ومنع حدوث أية قلاقل أو اضطرابات. وهكذا لم يبقَ هناك، في معظم البلاد العربية والإسلامية، أي هامش للاستثمار الحاضر والمستقبل.
من هذا المنطلق فإن الأمل بحدوث تطورات حقيقية سياسية واجتماعية وعلمية وصناعية في مجتمعاتنا العربية تستجيب لتحديات الحياة في الوجود المؤثر والفاعل، مرهون -ليس فقط بمدى قدرتنا الفكرية والعملية على الاستجابة الفاعلة لتلك التطورات- وإنما مرهون، أيضاً وبشكل أساسي، إلى ضرورة إحداث تغييرات هائلة على صعيد الحكم وإشكاليات السلطة والمشاركة والحرية .. الخ. لأن الأصل في القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة المسؤولة والمعبرة عن طموحات الناس والمنسجمة مع تطورات وتغييرات الحياة الدولية.. وهذا التغيير المطلوب لن يتحقق لوحده بقدرة سماوية، بل لا بد من إرادة جماعية فاعلة لتحقيقه، حيث أن النخب الحاكمة في مجتمعاتنا العربية عموماً ليست لها أية مصلحة في الإصلاح، فضلاً عن كونها أصلاً غير قادرة عليه، ولا تمتلك الحد الأدنى من الإرادة الجدية والفاعلية العملية لإحداث التغيير أو الإصلاح المنشود، بسبب انغلاقها ومركزيتها وتغييب قوى التأثير عليها من خلال ما قامت به –وعلى مدى العقود الماضية- من سحق للمجتمعات، وتحطيم منظم للموادر والقدرات والطاقات.
من هنا فإن استثمار تطورات الحياة والاستفادة المثلى من أي تقدم علمي يمكن أن توفره الحضارة الحديثة لن يكون متاحاً أمام مجتمعاتنا وأفرادنا إلا إذا ساهمنا وشاركنا جميعاً –بصورة وبأخرى- في إنتاجه وإبداعه وتمثله عملياً، ومن باب أولى فهمه ووعيه. ونحن لا يمكن أن نطور العلم وننتج منجزاته الحديثة مع وجود واتساع عقلية القبيلة المنزرعة فينا والمتحكمة بوجودنا والتي يعمل أصحابها على تدمير أي فرصة لربط   -مجرد ربط- البلاد العربية بتيارات التقدم العلمي والتقني. بل، على العكس من ذلك، إنها تعمل على ترسيخ كيانها الذاتي، وحفظ بقاء نظام قائم على مفاهيم القمع والضبط والردع عبر تمويل ودعم أسباب بقائها ونموها من خلال نهب أموال الناس، وسرقة ثروات الأمة النفطية وغيرها. والمجتمعات العربية بالنتيجة هي التي تدفع الثمن الباهظ لتلك السياسات الفاشلة للنظم السياسية العقيمة والضعيفة الأفق التي تقوم على تعقيم الإنسان العربي وشل قدراته وسحق طاقاته، والتي ليس لها مبرر وجود سوى خدمة مصالح الفئات والطبقات التي تسيطر عليها.
ونحن نعتقد أنه عندما تفشل الدولة في كسب ثقة أفرادها ومواطنيها، ومد جسور التعاون معهم، والعمل المستمر على تحقيق مصالحهم وطموحاتهم وتطلعاتهم من خلال اعتماد مشروع استنهاض سياسي واجتماعي يعبر عن آمالهم ووجودهم الحي الفاعل والمسؤول، ويحفزهم للمشاركة الشاملة في عملية التنمية الفردية والجماعية.. أقول : إن عدم تحقيق كل تلك الآمال التي تتناقض مع مصالح النخبة السياسية الحاكمة العاملة على أهداف ذاتية معاكسة تماماً لأهداف المجتمع، هو الذي ساهم إلى تحويل الدولة العربية الحديثة -عندما قامت وعملت على ترسيخ شعاراتها ووجودها- إلى مجموعة إقطاعات ومافيات لها أفرادها وأزلامها الدائرين في فلكها، وعندئذ لاحظنا كيف تطفو على السطح ظواهر قديمة-جديدة من التشبيح السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي التي لها أفكارها ودعائمها ورموزها ونخبها الذين يعملون باستمرار على تحويل تلك الدولة إلى مجموعة مزارع واستثمارات ربحية نفعية خاصة بهذا الطرف أو ذاك.
طبعاً نحن عندما نحمل معظم النخب السياسية العربية التقليدية الحاكمة مسؤولية هذا التردي والضعف والانقسام والهوان الذي نقبع في داخله حالياً، لا ينبغي أن ننسى أن العلة وجذر العطالة قائم أساساً في طبيعة المناخ الثقافي المسيطر علينا منذ قرون وقرون، وأعني به أن الخلل ثقافي معرفي بامتياز فبل أن يكون أي شيء آخر، والمسؤولية ليست فقط محصورة في هؤلاء الحكام والزعامات القائمة، فهؤلاء نتيجة لثقافة مجتمعاتنا.. ولذلك فالخلل مركوز في صلب البنية السياسية العربية المستغلِة للدين وليس الدين، حيث يحاول الكثيرون الإشارة إلى الدين كمعطى ثقافي قديم انتهى دوره، وتم تجاوز قيمه وأفكاره بحكم التطور والتقدم التاريخي.
ولكننا نتصور أن السلطات السياسية الشمولية القبلية هي التي عملت على فرض رؤية أحادية سلبية للدين في أذهان الناس. ثم انطلقت لتحاسب الشعب عن هذه الرؤية التي كونتها هي عن الدين، ما يعني أن تحقيق الشروط الأولى لعملية التقدم والتجديد ليس مرهوناً بتهديم البنى التقليدية (الدينية تحديداً) في المجتمع التي يمكن استثمارها واستخدامها إيجابياً بشكل مثالي ضمن عملية استنهاض المجتمع ككل. والدليل على ذلك أن حداثتنا العسكرية والمدنية قد هدمت، باسم العلمانية ، كل الركائز والمؤسسات التقليدية التي كانت قائمة في المجتمع، وصار الفرد يقف وحيداً أمام سلطانات قبلية فردية مطلقة، لا يجرؤ أحد على منازعتها سلطانها ومصالحها.. فماذا كانت النتيجة؟!.. كانت أن مشاريع التحديث والحداثة والتقدم قد فشلت فشلاً ذريعاً في معظم مجتمعاتنا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بعد أن أعادت إنتاج صيغ حديثة شكلاً لا مضموناً من مجتمعات أهلية متخلفة تم تركيبه من قبل أجهزة الدولة العربية المستوردة الحديثة.
وفي ظني أنه لا حل عملياً في المدى المنظور لتلك الإشكالية القائمة.. نعم هناك مشاريع وأفكار ومبادئ وأسس نظرية مهمة ورائعة وعظيمة، ولكن العبرة في التطبيق والممارسة الجماعية على الأرض.. فهناك –على سبيل المثال- الطرح الفكري الذي يدعو إلى تعميق قيم المجتمع المدني –الذي يقوم على أساس القانون والنظام العادل – في تربة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث يعتقد أتباع هذا الطرح بأنه كفيل ببناء دولة المؤسسات الحديثة التي يريدها الجميع، وذلك لأن هذا الفكر -الذي تقوم عليه مدنية المجتمع العربي والإسلامي- المناهض والمناقض لأسس المجتمع القبلي (القائم حالياً)- يمتلك معايير وضوابط وآليات عامة هي من صلب الحياة والفكر والتراث الإسلامي الأصيل، ويستطيع أن يؤمن -بالحد الأدنى- مشاركة كثيفة للناس والمبدعين في عملية الإنتاج والإثمار الحضاري المنشودة. لذلك من الضروري جداً الإيمان بأن بناء وتأسيس مجتمع مدني في العالم الإسلامي -له قواعده الثابتة وأسسه القوية الواضحة- لا يمكن أن يتم من دون وعي التراث الإسلامي وعياً إيجابياً من الداخل، ومحاولة دراسة وتفكيك وتحليل مضامينه المعرفية والفكرية والعقائدية وصياغة مقولاته وأفكاره بما يتناسب والحاجات الاجتماعية والسياسية الضرورية في عصرنا الحاضر.
وإذا كانت العملية التطورية للفكر والثقافة والتراث المعرفي الغربي قد أفرزت النمط الحديث المعروف للمجتمع المدني في الغرب، فإنه يجب العمل بالمقابل -من خلال فكرنا وثقافتنا- على إيجاد نواة حقيقية لبناء نمط اجتماعي آخر من صلب مبادئنا وتراثنا العربي والإسلامي لأن الناس لن تشرك في التغيير والبناء والتنمية مالم تقتنع بأن الفكر الإصلاحي لا يتناقض مع ثقافتها ونسيجها التاريخي العقائدي.
من هذا المنظور يؤكد أصحاب هذه الأفكار المدنية الحداثية المستقاة من التجديد الديني المنفتح على الحياة والعصر والتطورات الوجودية، على أن آلية العمل المؤسساتي المدني بصيغته الإسلامية المتطورة تفترض –مبدئياً- الارتكاز على ما يلي:
1-بما أن موضوعة “السلطة والحكم” قد تحولت إلى ما يشبه الهاجس الجنوني الذي تعيشه أغلب فئات وطبقات مجتمعاتنا، حيث قامت السلطات الحاكمة بمحورة ومركزة وجودها على هاجس الحكم والبقاء في السلطة مهما كانت الظروف والأحوال.. فلا بد من وجود إطار فكري يعمل على عقلنه السلطة، وجعلها شأناً بشرياً نسبياً، واستبدل البنى والسلطات التقليدية والعائلية بسلطة القانون الاجتماعي المدني -إذا صح التعبير- المتفق عليه في المجتمع.
2-تركيز القناعة بأن أي تحول أو تغيير في الحياة لن يكون له أية أو تأثير إلا إذا استند على قاعدة إنسانية شاملة، مشاركة واعية وواسعة للبسر في الحكم السياسي، لأن التنافس السياسي السلمي هو المقوم الفعلي للحياة المدنية الحديثة.
3-الإيمان بوجود المعارضة السلمية وحقها في التعبير والشرعية المقننة.
4-مراعاة رأي الأغلبية في البلاد والاحتكام إليها في اللحظات الحرجة والضرورية.
5-ضرورة وجود فكر حي وفاعل ومتفاعل ومتطور في داخل الأمة يجعل من حضور الإنسان -في كل مجالات وآفاق الحياة، ومشاركته الحرة في العمل المجتمعي- شرطاً ضرورياً في عملية التغيير والتقدم.
6-الضغط المتواصل باتجاه تعميق وتوسيع مساحة ثقافة الحرية في المجتمعات العربية كشرط أساسي مسبق لحدوث أي تحول إيجابي فيها، باعتبار أنَّ وجود فكر مستقل وفاعل لا يمكن أن يتحقق، أو يكون له أي معنى، إلا في إطار الحرية المنظمة والواعية.. حرية الفكر وحرية التعبير، وحرية الاجتماع والتنظيم السياسي، وحرية محاسبة الحكومات ومساءلتها.
وهذه الأمور المهمة لتطور ونهضة مجتمعاتنا لا يمكن تحققها إلا من خلال وعي وتطبيق الديمقراطية كآلية لإدارة شؤون الناس والمجتمع بصورة مؤسساتية عادلة وصحيحة.
وتبعاً لذلك ينتج عن الديمقراطية مجموعة من المعايير والقيم من أبرزها:
1-المشاركة العامة في اتخاذ القرار وضمان حرية الأفراد .
2-مسؤولية الفرد عن أفعاله.
3- تحقيق العدالة والمساواة بين الناس.
4-العناية الفائقة بحقوق الإنسان.
© منبر الحرية، 06 أغسطس/آب 2009

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

تعد قضية التقارب والوحدة العربية والإسلامية من أهم القضايا التي انشغل بها التفكير الإحيائي العربي والإسلامي منذ بداية القرن العشرين، وقد تم التركيز على هذه الفكرة كهدف كبير يسعى إليه العرب والمسلمون في كثير من الدراسات والكتب والمؤتمرات التي جرى (ويجري) التأكيد فيها باستمرار على أن التقارب بين المذاهب الإسلامية ضرورة وواجب ديني ودنيوي استناداً إلى النص المقدس وسيرة الأصحاب والفقهاء والعلماء، كما وتم اعتمادها أولوية (وثابتة) فكرية لدى معظم الحركات والتيارات والجماعات الإسلامية في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي. ‏
ولكن الذي حدث –في سياق التحولات الهائلة- هو أن البناء النظري لهيكلية الدعوة إلى تحقيق هدف الوحدة بقي مستغرقاً في الجانب الذاتي الشعوري الذي يحشد الخطابات الانفعالية، ويثير الحماس اللاعقلاني، ويهيج العواطف الجياشة.. ولكن من دون وجود أي فعل عملي مؤثر، الأمر الذي انعكس عجزاً كاملاً عن تحقيق أية وحدة على أرض الواقع (إسلامية كانت أم علمانية)..
وبالإضافة إلى ذلك كانت خطابات دعاة الوحدة في ذلك الوقت -ويبدو أنها لا تزال بمعظمها كذلك- تركز على إثارة المشاعر العروبية والإسلامية في مواجهة قضية المصير المشترك والعدو المشترك الذي يتمثل في ضرورة إسقاط الصهيونية والاستكبار العالمي.. بحيث يظهر الأمر في الواقع وكأن خطاب الأيديولوجيا العروبية والإسلامية –كغيره من الخطابات الأيديولوجية- لا ينبني ولا يكتمل عوده إلا في أجواء التوتر والتناقض والقلق والعف الدائم.. وهنا تبدأ عملية حشد النصوص والأدلة التي تثبت صحة وجهة نظرهم هذه.. وهي أدلة معروفة للجميع على كل حال.. ولكن المسألة هي أننا في الوقت الذي لا نقلل فيه من حجم التحديات الخارجية التي يتعرض لها العرب والمسلمون، وضرورة لمّ شملهم في مواجهتها، لا نريد لهم أن يبالغوا (إلى درجة المزايدة وممارسة التضليل وتزييف الوعي وزيادة جرعات الاستقطابات الأيديولوجية الحادة) في طرح شعاراتهم وأهدافهم في واقع كوني صعب ومعقد ومتشابك.. بحيث أنهم إذا عجزوا عن تحقيقها من أول مواجهة استنكفوا عنها وتركوها (بعد دفع التكلفة الباهظة طبعاً) بحجة قوة تلك التحديات وأنهم لم يحسبوا حسابها من قبل.. حيث أن المواجهة تحتاج إلى نفس طويل وبعد نظر ووعي دقيق في تقدير حجم الهدف المطروح والمطلوب تحقيقه.. وهدف الوحدة لا يزال للأسف -في خطابات أكثر التجمعات والنخب والتيارات الإسلامية- فارغاً من مضمونه الواقعي العملي، ولا يستند إلى مشروع نهضوي عام، ركيزته العقل والعلم والتفكير الدائم الذي يقوم على دراسة متغيرات الزمان وتحليل جغرافيات الواقع السياسي والإنساني العالمي، ومعرفة طبيعة ما يدور في عالم اليوم والغد.
من هنا نحن نعتقد بأن العرب والمسلمين لا يمكن أن يتحركوا خطوة واحدة لا في طريق التضامن ولا في طريق الوحدة ما لم يطرحوا على أنفسهم أسئلة إشكالية هامة أسميها أسئلة الوعي الأساسية، ويحاولوا الإجابة عليها عملياً، وهذه الأسئلة هي:
-كيف يمكن تحقيق التضامن والتلاقي والتكامل السياسي والاقتصادي في ظل سيطرة أجواء ومناخات التخلف الفكري والتعصب الثقافي والتفكك السياسي والتبعية الحضارية العلمية الكاملة على واقعنا المعاصر الذي يمكن اعتباره أسوأ ما وصل إليه العرب في تاريخهم القديم والحديث، بحيث بات من شبه المستحيل لمجتمعاتنا اليوم أن تحل أبسط الخلافات وأتفه المشكلات بالأساليب العقلانية السلمية أبداً، بل أصبح استخدام القوة وتكريس وسائل العنف المختلفة هو الحكم والفيصل بينهم؟!..
-وهل يمكن للعرب والمسلمين الآن تحقيق تلك الوحدة المنشودة (عربية أم إسلامية، دينية أم علمانية)، وهم لم يستطيعوا بعدُ إنجاز استقلالهم السياسي والاقتصادي الحقيقي عبر البدء الفوري والعاجل بإصلاحات سياسية وثقافية واقتصادية تغير واقع الحال السائد كشرط أساسي لا بد منه للسير على طريق تلك الوحدة المزعومة؟!.
ثم –في الأصل، وفي الأساس- ما هو المبرر الفكري والعملي للحديث الراهن عن قضية الوحدة (أو مجرد اتحاد أو تكامل العرب والمسلمين مع بعضهم لتحقيق بعض مصالحهم هنا وهناك) في مواجهة عالم كوني معولم لا نزال بعيدين عن تحقيق أدنى تأثير في صنع وبرمجة بعض سياساته واتجاهاته التي تسيطر عليها مؤسسات سياسية واقتصادية دولية عملاقة ونافذة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية وتحالف الدول الصناعية السبع وو.. غيرها؟!.
إن المسألة الكبرى التي عجزنا حتى الآن عن فهمها وتمثلها هي أنه لا يمكن تحقيق أي عمل أو هدف نرغب به من دون إنجاز وبناء شروطه ومتطلباته الرئيسية ولبناته الأساسية الداخلية في كل بلد من البلدان العربية والإسلامية حيث أن لكل بلد مشاكله والتزاماته وعلاقاته وتعقيداته وأزماته الخاصة والعامة.
وأنا هنا لا أريد أن أجعل القارئ محبطاً ومتشائماً.. ولكن القضية هي أنه قلّ –في كل واقعنا التاريخي الفائت والحاضر- أن واجهنا قضايانا والتزاماتنا بعقول باردة قلوب واعية شفافة تعترف بالأخطاء وتدقق بالتفاصيل، وتنزع إلى دراسة الجزئيات والتأسيس عليها بهدوء وشجاعة ومسؤولية جزئية أوكاملة.. فنحن نظهر غالباً ووربما دائماً –في عالمنا العربي والإسلامي- انفعاليين وفوضويين (فوضى الأيديولوجيا، والسياسة، وفوضى الاجتماع والاقتصاد، وفوضى القرار والاستراتيجيا)، نضع أنفسنا في مواجهة شعارات وطموحات وأهداف كبيرة وواسعة الآفاق تستلزم إمكانيات ميدانية وإجرائية ضخمة قد لا تكون متوافرة لدينا مباشرةً.. أي أننا لم نعمل أبداً على قطع خطوات عملية حقيقية تناسب حجم الهدف في بعده العملي الممكن التحقق والانجاز.. والنتيجة الحتمية لذلك هي الفشل الذريع في كل شيء والبدء بموشحات توجيه اللوم والسب واللعن للأعداء، وتوزيع الاتهامات الجاهزة على الآخرين هنا وهناك.. ومن النادر أن نجد –في اجتماعنا الديني العربي والإسلامي- من يوجه اللوم لنفسه، ويمارس النقد لواقعنا الداخلي، ويحمله مسؤولية الفشل الكبير في تحقيق الهدف، مع العلم أن إحداث أي تجديد أو تطوير في داخل الفكر الإسلامي يحتاج إلى مراجعة نقدية شاملة..
وبالنظر إلى ذلك أستطيع أن أقول بأننا لا نمتلك أسس واضحة نستطيع تمثلها والسير عليها للوصول إلى تحقيق أي هدف من أهدافنا (ومن بينها هدف الوحدة المزعومة)، والدليل على صحة هذا الزعم هو وجود كل هذا المناخ العام الضاغط من اليأس والكسل والتعب الذي تعاني منه شعوبنا نتيجة انعدام أي فرصة أمامها لتحقيق التغيير الحقيقي المنشود.. وهذا ما يدفعني إلى التساؤل: إلى متى ستبقى الأجيال المتلاحقة تدفع الأثمان الباهظة لأهداف لم تتحقق، ومقاصد لن تنجز بالاشتراطات السائدة والمناخات والرموز القائمة حالياً التي كلفت الأمة كثيراً من الدماء والدموع؟!!.
إنه سؤال إشكالي خطير ومأساوي، يضعنا أمام حقائق واقعنا المعقد، ومشاهد الدمار الهائلة التي نراها تتكرر فصولاً أمام أعيننا وبصورة شبه يومية، والتي نعتقد بأنه من المستحيل الوقوف في وجهها والبدء الجدي في تفكيك عراها من دون أن ننجح في بلورة مشروع التغيير الداخلي العربي الداخلي، من حيث هو رؤية فكرية وسياسية واضحة المعالم والأساليب.. ومن حيث هو قوة منظمة وواسعة الانتشار قادرة على قيادة عملية تحويل حقيقي للعالم العربي في اتجاه تحرير المجتمعات من العوائق الفكرية والسياسية والاقتصادية والقانونية التي تكبلها وتشل نشاطها وتفاعل أبنائها مع أنفسهم ومع الآخرين.. أي في اتجاه التنمية النشطة والتعددية السياسية واحترام حرية  الإنسان كموجود فاعل ومؤثر.
© منبر الحرية، 23 أبريل 2009

نبيل علي صالح17 نوفمبر، 20100

في كل مرة أزور فيها مدينة اسطنبول التركية، أحد أهم وأبرز عواصم وحواضر الشرق، شرق الثقافة والحضارة والمجد التاريخي. أرى وأشاهد فيها أشياء ومعالم جديدة وجميلة تنعش الروح والفؤاد وتضفي البهجة والسعادة في النفس. وهذه الأشياء الجديدة ربما لا تكون جديدة بالشكل والمظهر والموقع، بل قد تكون جديدة بالروح الداخلية النشطة والفعالة التي تسري فيها وتحركها وتجعلها مادة خصبة غنية بمعاني التاريخ، وحافلة بحكاياه وأحداثه الكثيرة التي مرت عليها وأكسبتها فرادةً –مضافةً إلى موقعها الجغرافي المميز والرائع-، من حيث قوة حضور الماضي التاريخي بألقه وتألقه في الراهن والمعاصر، ومن خلال هذه الروح الحضارية المهيمنة عليها وفيها والتي يمكن للزائر معاينتها ومعايشتها حيثما حل في أرض اسطنبول.
اسطنبول سحر الشرق القادم من عبق التاريخ، لا تكل ولا تمل ولا تنام ولا تهدأ. تستقبل زواها من كل الدنيا، وتفتح ذراعيها لهم للتمتع بجمالها وسحرها الشرقي العتيق المندمج بانسابية وتلقائية ممتنعة مع الحداثة والعصرنة التي تبهر الأنظار والألباب.
لقد كانت الآستانة التي فتحها السلطان محمد الفاتح منذ حوالي ستمائة سنة تقريباً، أحد مراكز التجارة والاقتصاد والممرات الإستراتيجية في عالم الشرق القديم بحكم الموقع الفريد أولاً، وطبيعة الإرادة والتصميم على الإنجاز التي توفرت للقائمين عليها سابقاً. وقد حافظت هذه المدينة الكبيرة على هذه المكانة والدور التاريخي، بل وأضافت لها في العصور المتتالية إضافات نوعية مهمة على مستوى العمارة والفن والحداثة العملية حيث قام المشرفون عليها بالإبداع في تطويرها وتنميتها، مما أهلها لتكون عاصمة لتلاقح الحضارات وحوار الثقافات، وجعلها ملتقى للناس من كافة أرجاء المعمورة. وهذه لعمري ناحية مهمة جداً، وهي أن توفر وتبني وتصنع وتخلق كافة الظروف والمناخات والأجواء النفسية والعملية ليكون بلدك موقعاً للقاء والتعارف والحوار والزيارة والسياحة. طبعاً نؤكد هنا أنه لولا وجود الموقع الجغرافي الفريد والرائع والهائل الذي يأخذ بالألباب لمدينة اسطنبول ما كنا رأينا ولاحظنا وعاينا هذه المجاميع البشرية الهائلة تهيم في طرق وساحات وفنادق ومطاعم وآثارات ومزارات وكازينوهات ومولات ومعارض ومتاحف اسطنبول.
وهذا التطور الكبير الذي تلاحقت فصوله في اسطنبول خلال السنوات العشر الأخيرة ما كان ليحصل أيضاُ، لولا وجود مواطن يحب ويعشق بلده ومدينته، ويعمل على الحفاظ عليها ورعايتها بأجفان عيونه. وما كان ليحصل أيضاً لولا مرونة القوانين والأنظمة البلدية وغير البلدية، لأن جمود وبيروقراطية النص القانوني مدخل وسبيل ودافع ومحرض كبير للفوضى والكسل والترهل والفساد، وهو أكبر عائق للتطور والحداثة ومواكبة الحياة والعصر.
وهذه اسطنبول التي قال عنها نابليون بونابرت ذات مرة: “لو خيرت في وضع عاصمة للعالم كله لاخترت اسطنبول عاصمة له”. تعشق الحياة والمستقبل. شوارعها نظيفة، ومحالها وساحاتها تفوح منها رائحة العطر والعبق التاريخي الحاضر بقوة في كل المواقع والأمكنة والامتدادات.
وبعد ذلك كله، ليس من محل أو مكان للاستغراب والاستعجاب من هذا الرقم المعروف والمتداول حول أعداد السياح والزائرين لاسطنبول سنوياً، والذي يصل إلى حوالي 26 مليون إنسان، بينهم 3 مليون يومياً يزورون شارع الاستقلال في حي وجادة تقسيم. أفبعد هذا الحديث حديث.
المعادلة باختصار: محبة وطن وإرادة عمل وقانون عصري حديث. وقبل ذلك وجود نظام سياسي ديمقراطي عادل غير مستبد يعمل لصالح خدمة الناس والمجتمع، لا أن يكون الناس خداماً وحواشي له، مع حريات سياسية، وحرية سوق وتداول السلع.
بالفعل أعط بلدك تعطيك. وابخل عليها تبخل عليك.
العمل ثم العمل يا شباب.

نبيل علي صالح17 نوفمبر، 20100

ذكرى اا أيلول أو ما سمي بـ”غزوة منهاتن!”
العرب وواجب إعادة رسم صورة جديدة للإسلام الحضاري المستنير
أتت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 على ما تبقى من صورة جميلة باقية للعرب والمسلمين لدى العالم الغربي، وثبتت في ذهنية المجتمعات الغربية صورة نمطية سبق لهم أن عرفوها عن الإسلام وخلاصتها أنه دين إرهابي متعصب يستقوي بالعنف، ويتوسل بوسائل الإكراه والقوة العارية للوصول إلى تحقيق مقاصده وغاياته في التبشير وأسلمة العالم.
ولم تتمكن مئات الندوات الحوارية والمؤتمرات الحضارية التي تبنتها وأقامتها كثير من المواقع والنخب والتيارات والأحزاب والجهات العربية والإسلامية، وحتى الدولية في تبديل أو زحزحة موضع تلك الصورة القاتمة والسوداء حتى الآن.
وهانحن اليوم نمر بالذكرى التاسعة لتلك الأحداث المأساوية التي راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء الذين لم يكن لهم أي ذنب، سوى أنهم ولسوء الحظ تواجدوا في تلك اللحظة في أماكن ومواقع التفجيرات الإرهابية التي عبر منفذوها –بصورة من الصور- عن حقد أعمى وكراهية سوداء لكل ما هو جميل وإنساني في هذا العالم.
ولا شك أنه قد مرت بنا منذ ذلك التاريخ وحتى الآن كثير من الأحداث السياسية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالعالم، عندما تلاحقت تلك الوقائع بصورة دراماتيكية لتلهب العالم كله، ممتدة في دوائرها وتأثيراتها السلبية على أكثر من مستوى في هذا الموقع أو ذاك.
ولكننا نجد أنفسنا–في كل ما حدث من تحولات ومتغيرات– ملزمين تماماً (كعرب ومسلمين) أن نقف، ونهدأ، ونتأمل قليلاً بحثاً عن حقائق الأمور وبواطن الأشياء، ونتساءل عن جملة الأسباب الداخلية (الذاتية) –قبل الأسباب الخارجية الموضوعية الكامنة في داخل نسيجنا الاجتماعي والديني والسياسي التي تكرس -يوماً بعد يوم– جذور ومظاهر العنف الداخلي، وتقوي مواقعه وامتداداته الدولية المنتشرة هنا وهناك؟! ولنكن أكثر دقة وموضوعية في طرحنا لسؤالنا السابق : ألسنا مسؤولين -بصورة مباشرة أو غير مباشرة– عن صنع الإرهاب، وإنتاجه، وتطويره، وحتى تصدير بعضه (أو كثيره) للآخرين؟!.
ألا تتحمل النخب السياسية العربية والإسلامية المثقفة في السلطة والمعارضة المسؤولية الذاتية المباشرة عن تطور (وتزايد وتضخم) الحجم المادي والكيفي للتيارات (والقوى والنخب) السياسية ذات التوجه الأصولي في داخل بلداننا ومجتمعاتنا؟!.
إننا نجزم هنا بأن معظم الحكومات والنظم العربية والإسلامية القائمة عندنا تتحمل المسؤولية النفسية والمادية الكاملة عن نمو بذور العنف الداخلي، وامتداده إلى مواقع الآخرين. ويبدو لنا أن لهذه النتيجة الحاسمة -التي وقفنا عليها هنا- مقدمات أساسية ارتُكز عليها للوصول إلى النتيجة الحاسمة السابقة.. فما هي هذه المقدمات؟!..
نستطرد هنا ونفتح هلالين قبل الحديث عن تلك المقدمات لنؤكد –وهذه من دون شك من البديهيات السياسية في علم التاريخ السياسي لمنطقتنا- أن للتاريخ الاستعماري الطويل الذي شمل معظم أوطاننا العربية والإسلامية الدور الأكبر والأبرز في تكريس نزعة العنف والعدوان في بيئتنا ومجتمعاتنا، كما كان لوجود إسرائيل غير الشرعي على أرض فلسطين المدعوم كليةً من الغرب دوراً مهماً في تعميق ثقافة الإرهاب والعنف، حيث أن العنف يستولد عنفاً والإرهاب يستولد إرهاباً، والاحتلال يستدعي مقاومةً وعنفاً مضاداً.
طبعاً، لا شك بأن هناك معاناة حقيقية شاملة، وتخلف سياسي واجتماعي عام يلف واقع العرب والمسلمين. ويظهر أمامنا حالياً كنتيجة طبيعية للسياسات العقيمة والفاشلة التي اتبعتها الحكومات والإدارات السياسية العربية –في كل مواقعها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية– منذ بداية عهود الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الغربي وحتى الآن، والتي أدت إلى إلحاق الضرر والخراب الكبير بحق أبناء مجتمعاتنا، وبحق ثرواتهم، ومواردهم الطبيعية الهائلة التي أضحت نهباً ومشاعاً للدول الكبرى المرتبطة كلياً بوكلائها ومعتمديها المحليين في هذا البلد أو ذاك.
ومن المعروف –بالنسبة إلينا جميعاً– أنه لا توجد (في معظم البلدان العربية والإسلامية) حياةٌ سياسية حقيقية. حيث أنه ليس مسموحاً أبداً للشعب -في داخل الحياة السياسية العربية– لا بالتعبير عن آرائه، ولا بالتظاهر، ولا بممارسة النقد، ولا بالإضراب، ولا بالتنظيم السياسي، ولا بإقامة الانتخابات الحرة، ولا بالإعلام الحر والنزيه، …الخ. أي أن هذه السياسة الشمولية المركزية تدفع المجتمع كله باتجاه سلوك طرق (واتباع وسائل) غير سلمية للتعبير عن حقوقهم ومعتقداتهم وآرائهم وثقافاتهم، خصوصاً أولئك الناقمين والساخطين والمتضررين مباشرة من هيمنة تلك السياسة التسلطية القاهرة.
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أن سلوك طرق العنف واستخدام الوسائل العنيفة –في التعبير عن الرأي، وممارسة السياسة– هو أمر مرفوض من قبل كل من يملك عقلاً حراً ووعياً إنسانياً متقدماً في الفكر والممارسة، ولكن المسألة هي أن هناك من يدفع مجتمعاتنا دفعاً نحو تلك الطرق والوسائل العمياء غير المجدية والمرفوضة كلياً، وعند البحث عمن يكمن وراء ذلك تجد أن الفضاء الثقافي الديني المهيمن على العقول والواقع العام له دور رئيسي في ذلك، وسياسة إلغاء الحقل السياسي العام المتبعة في كثير من البلدان لها دور، والسلطات القائمة المشرفة والموجهة لها الدور الأهم أيضاً، فهي التي تهيئ –في داخل إستراتيجيتها السياسية– الأجواء المناسبة، وتخلق التربة الأخصب لنمو أفكار ومشاريع وسياسات العنف الداخلي، ومن ثم العنف الخارجي، وذلك من خلال منعها أبناء المجتمع من مزاولة النشاط الحياتي الطبيعي، وإتباع الطرق والأدوات والمناهج السياسية السلمية.. ويشهد على ذلك واقع الحضارات والأمم في الماضي والحاضر، حيث نجد هناك أن النظم والحكومات المستبدة هي المتسبب و(الأم الحنون؟!) لتوليد (ورعاية) وتغذية حركات (وعناصر) العنف والإرهاب.
وبالإضافة إلى انعدام الحياة السياسية الطبيعية في معظم دولنا العربية والإسلامية، فإننا نجد أن هذه الدول تعاني معاناة اقتصادية واجتماعية شديدة نتيجة تطبيق (وفرض) سياسات تنموية قاصرة وعقيمة على شعوبها ومجتمعاتها.
كما أن للفساد العريض –الذي يلف أركان تلك البلدان- الدور الأكبر في الوصول إلى تلك النتائج المأساوية والخطيرة التي أفقدت مجتمعاتنا توازناتها وإيقاعاتها الداخلية، وخربت الإنسان -الذي هو أساس بناء الأوطان– من الداخل، وتركه حائراً من أمل بحياة شريفة، هادئة ومطمئنة.
وعندما تصل الأمور –على الصعيد الاقتصادي- إلى هذا المستوى الكارثي الخطير من التدهور والسوء والانحطاط -الذي يعبر عنه من خلال تفشي مظاهر اليأس والإحباط والقنوط والعدمية واللا إبالية- فإنه من الطبيعي جداً أن تتحول مجتمعاتنا إلى مواقع وبؤر توتر حقيقية لتفريخ الإرهابيين، ونمو بذور العنف الذي يمكن أن تتطاير شرره وشره إلى مسافات بعيدة ليصيب بلهيبه وشظاياه هذا البلد أو ذاك، ومن دون انتظار ومعرفة النتائج السلبية الخطيرة المترتبة على مثل هذه الأفعال الشنيعة.
من هنا نحن نعتقد أن صناعة الإرهاب وإنتاجه، وتوسيعه، وتركيز خطوطه (المتبادلة بين الداخل المتورط والمرتكب والخارج المتآمر) –كقيمة عملية، لها أسسها، وقواعدها، وآليات عملها المباشرة وغير المباشرة في داخل المجتمعات المتخلفة والفقيرة على مستوى النخب السياسية والاجتماعية الحاكمة ككل- هو الذي يساهم في جعل كل هذا الإرهاب الدولي (المتحرك حالياً) إرهاباً عربياً وإسلامياً فقط، وبالتالي يدفع باتجاه تكوين رأي عالمي موحد ضد العرب والمسلمين في كل مكان وزاوية من هذا العالم، مع العلم أن للدول الكبرى نصيباً وافراً في تعميق ثقافة الإرهاب وتوليد الإرهابيين وصناعة العنف والدم في داخل بلداننا ومجتمعاتنا التي عانت معظمها من التدخلات الدموية للكثير من سطوة وقوة وهيمنة القوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا.
ولذلك فالمشكلة القائمة حالياً لا تقتصر فقط على وجود قوى ومنظمات وشخصيات تؤمن بالعنف وتعتقد اعتقاداً جذرياً بأولوية الإرهاب والنشاط الجهادي (نذكر هنا أن الإسلام كدين ميز بين نوعين من الجهاد، الأول: الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس.. والثاني: الجهاد الأصغر، وهو جهاد العدو.. وفضل الأكبر على الأصغر لأنه أساسه ومعياره وناظمه العملي) المسلح على السياسة والسجال السلمي لأخذ الحقوق، وتعمل في السر أو العلن هنا وهناك، بل إنها تتعدى ذلك لتصل إلى مرحلة وجود مناخ أو جو عربي وإسلامي عام يتعامل –بصورة شبه طبيعية- مع قضية الإرهاب المحلي والدولي، وذلك كنتيجة منطقية لوجود نظم ونخب سياسية تُرعب، وتُرهب، ولا تهتم إلا بمصالحها ومواقعها الخاصة على حساب مصالح الأمة كلها.
والقوى والنخب الوطنية الحرة الحية في المجتمعات العربية الحية لا تزال، بالرغم من عدم انسجامها (أو اتفاقها) ورفضها لمجمل السياسات العملية المطبقة في معظم البلاد العربية -التي تكرس الإرهاب والتسلط والاستقالة الشاملة من المستقبل الحضاري المتطور والمنشود– تأمل وتنتظر من تلك النظم القائمة أن تنطلق من لحظتها الراهنة –مستفيدة من تعاظم متغيرات العالم وتسارعاته الكبيرة– لإجراء إصلاحات سياسية جدية وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية على مستوى منطق الحكم وممارسات السلطة ومجمل آليات العمل الاجتماعي والسياسي، وفي كل ما يتصل بضرورة مواكبة معايير ومبادئ التنظيم السياسي والاجتماعي الإنساني الحديث، في قضايا: التعددية، وحقوق الإنسان، وحرية الفكر والتعبير، وإلغاء قوانين الطوارئ والاستثناء، ووضع حد نهائي لمناخ القمع والرعب والاضطهاد السائد (الذي تمثله تلك الأنظمة الشمولية)، والمبادرة الفورية إلى إعلان عهد الحريات والأمان العام في كل البلاد، لأن الحرية والأمان شرطان أساسيان لازمان لكل عمل خلاق ومبدع، حيث أنه لا تنمية حقيقية، ولا تحديث صحيح معافى (وليس التحديث الشكلي القشري الذي يقوم على استهلاك حضارة ومنتجات الآخرين بما يبقينا تابعين ومستلبين لهم) دون تمثل وتطبيق تلك التطلعات الكبرى.
وحتى نتمثل تلك الطموحات العالية -ونتحرك في خط التنمية المطلوبة فردياً وجماعياً- لابد أن تكون أنظمة الحكم القائمة في داخل اجتماعنا السياسي والديني العربي والإسلامي (والتي تدير وتشرف وتنفذ السياسات العامة في المجالات كلها) شرعية في فكرها ووجودها وامتدادها. أي أن تحظى بقبول طوعي (لا قسري) بين أبناء الأمة والمجتمع.
وهذه هي الإشكالية الأكبر التي لا نزال نعاني منها، ولا أعتقد بأننا سنخطو خطوة واحدة نحو الأمام من دون إيجاد حلول جذرية علمية وعملية لها. إنها إشكالية إحجام الناس عندنا، وعدم مشاركتهم بشكل فاعل ومنتج في مجمل النشاطات السياسية والاقتصادية العامة، وبالتالي عدم الاستفادة القصوى من كل الإمكانيات والطاقات والجهود البشرية (والطبيعية) المتاحة أمامنا.
ونحن نعتبر أن تثمير جهود وقدرات أفراد الأمة في طريق العمل الخلاق والمبدع    -الذي نحن بأمس الحاجة إليه حالياً– لا يمكن أن يصل إلى نهايته السعيدة ما لم نوجد إطاراً ثقافياً ونفسياً صحياً لعملية التنمية المطلوبة، يمكنه أن يدمج الأمة ضمنه لتتجاوب معه، بما يساعد على الشروع بتطبيق خطة اقتصادية وإدارية يشارك فيها الشعب كله، وتمهد للقضاء على مواقع الفساد، وتساعد في خلق مناخ نقي وصحي جديد مشجع على العمل والإنتاج والاستثمار من أجل أن تتحرك الأمة (كل الأمة) على طريق إنجاح التنمية، وبناء المجتمع الحديث. حيث أن حركة الأمة ككل تعبير حر عن إرادتها، وعن نمو وعيها، وانطلاق مواهبها الداخلية وطاقاتها الكامنة نحو المشاركة الفاعلة لأبنائها في عملية البناء والتنمية للثروة الخارجية من خلال تنمية ووعي الثروة الداخلية.
وبتعبير أكثر صراحة نحن نعتبر أن إطار التنمية الثقافي والنفسي الشامل السابق ينبغي أن يتأسس -في العمق الروحي والنفسي– على مناهج فكرية ومعرفية عملية لا تتعارض (ولا تتواجه ولا تتناقض) مع طبيعة التركيب النفسي والشعوري التاريخي المتركز داخل البنية النفسية والفكرية لأبناء الأمة. أي لا تتعارض مع الإسلام كفكر حي متحرك ومنفتح على الحياة والإنسانية جمعاء.
لأن وجود التعارض والمواجهة مع التركيب النفسي للأمة (مع الإسلام كاعتقاد ورسالة دينية روحية) سينعكس حتماً بصورة سلبية خطيرة على واقع مجتمعاتنا في الحاضر والمستقبل، ويتمظهر-كما ذكرنا- من خلال امتناع أفراد الأمة عن المشاركة في صياغة ومناقشة القضايا الرئيسية، وممارسة رقابتهم على الأجهزة المختلفة للدولة.
لذلك -وحتى ينخرط الجميع في عملية بناء الوطن وتطوير المجتمعات من خلال تحقيق وإنجاز عملية التنمية المطلوبة لها- فإن الدولة يجب أن تكون تعبيراً حقيقياً عن إرادات الناس ومصالح المجتمع، وتجسيداً عملياً لقيمه الثقافية والتاريخية الأصيلة المنفتحة، في تقدير وجود الإنسان واحترامه، وتوفير العمل اللازم لمعيشته، ونمو وعيه وبذلك تثبت الدولة، وتستقر وتتطور قدماً نحو الأمام.
ولذلك نقول بأن افتقاد الأمة للمشاركة الشعبية الطوعية الواعية للجماهير الواسعة في عملية التنمية الذاتية، والتغلب على واقع التخلف، والخروج من أنفاق التبعية والارتهان للخارج، لا يمكن إلا أن يضعف الشأن العربي والإسلامي في قضاياه الإستراتيجية المصيرية، وبكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي: عندما نحقق مناخ الحرية، ونؤسس الديمقراطية الصحيحة فإنه يحق لنا أن نتحدث هنا عن وجود قدرات أكبر وأوسع تسمح لنا بتوفير قاعدة مادية صلبة لمواجهة العدو الإسرائيلي وغيره ممن يتربصون بنا الدوائر ويخططون ويتآمرون علينا، حيث أن واقع هذه المواجهة (المؤكدة في المستقبل القريب أو البعيد) يزداد ضعفاً كلما زاد ابتعاد الحكام عن هموم الشارع العام (أي عن متطلبات المواطن الأساسية)، وكلما فرض (هؤلاء الحكام) على الناس نموذجاً واحداً في الفكر أو الاعتقاد والعمل أو الممارسة، وهذا ما يحدث حالياً في بلداننا العربية والإسلامية بشكل واضح تماماً حيث تتصور الكثير من النخب السياسية أن الهيمنة على الشعب، والتحكم بمعتقداته وأفكاره ومعيشته وقدراته، وتفتيت قواه وثرواته، هي الوسائل الأسهل والمباشرة التي قد تمكنها من تنفيذ سياساتها الداخلية والخارجية بسهولة ويسر أكثر فأكثر.
ولكن الحقيقة هي أن هذا التصور المزعوم قد يصدق حيناً، ويسقط أحايين كثيرة أخرى. فالشعب يحتاج –بدايةً- من أنظمته الحاكمة إلى توفير أجواء ومناخات حرية دائمة تسمح بوجود حوار فكري متحرك ومفتوح، يشارك فيه الجميع، وتتعمق من خلاله النقاشات الجادة والمثمرة، وتطرح فيه الرؤى والأفكار المتعددة التي تنصبّ أساساً على طريق بلورة الوعي القادر على محاصرة كل أنواع القهر والتخلف والتأخر في واقعنا، والمتمثلة -كما تحدثنا سابقاً-في التجزئة، والاستلاب، والارتهان والتشتت واتباع الأهواء وفقدان إرادة التغيير الصحيح، وضعف (تضعيف) المؤسسات الدستورية، وهيمنة التدخلات الأجنبية على الداخل، والاستكثار منها تعويضاً عن غياب (أو تغييب) الإرادة العربية والإسلامية الجامعة (حيث أن العرب يجتمعون على أفكار الآخرين أكثر مما يجتمعون على قراراتهم هم).
وهذا الأمر (أي الوعي بالواقع والتأسيس الجدي لمواجهة الخارج من خلال الانفتاح على الداخل بتنفيذ سياسات إصلاح جدية وحقيقية غير ديكورية وغير مزيفة) ليس متوفراً للأسف حالياً. لأن النظم والنخب مهتمة ومهجوسة بأولوية الحكم والسلطة، وهي لا تريد –كما يظهر في سلوكها وممارساتها الفردية العنيفة- فتح باب الحوار الهادئ والعقلاني المتوازن، وهي أصلاً لا ترغب به، لأنها تشعر بأن فيه –في حال تحققه جزئياً أو كلياً– ما يهدد سلطتها الشاملة وهيمنتها وسطوتها المطلقة التي لا تنتهي على الثروة والسلطة والبلاد والعباد.
طبعاً نحن عندما نتحدث عن أولوية الحرية والتعددية من زاوية ضرورة وضع الحل للواقع المأزوم القائم، لا نتحدث عن وصفة جاهزة لمرض طويل، وإنما الحل عبارة عن ممارسة قانونية واعية لعملية التداول السلمي للسلطة، ولا تنحصر فقط في قضية مواجهة الاستبداد والفساد إذ أن مواجهة فكر وثقافة الاستبداد لها الأولوية، وهذه تجربة وسلوك حضاري معرفي ثقافي طويل الأمد، وليست مجرد تجربة أو وصفة دواء جاهزة سريعة تؤخذ عند الطلب.
أخيراً أحب أن أشير إلى نقطة أراها ضرورية لاستكمال هذه الكلمات، وهي أننا كعالم عربي وإسلامي -نعيش في الحياة بين مجموعة من الأمم المتقدمة والمتخلفة- لا نزال نفكر فيها بعقلية البلدة والوطن الصغير، ولم نعد نفكر بعقلية الأمة والوطن الكبير مع العلم أن كل المسؤوليات الخاصة والعامة (بما فيها مسؤوليتنا أمام المجتمع والأجيال وأمام الله) قد ألزمتنا بضرورة أن نتضامن ونتوحد أمتياً-إذا صح التعبير- مع بعضنا البعض من أجل تحقيق هدف وجودنا الحضاري الأساسي في الحياة، كأمة لها رسالتها الإنسانية، ولها دورها المحوري الرائد بين أمم ورسالات العالم كله. وهذه هي الأمانة الحقيقية التي حُمّلنا إياها، أمانة بناء إنسان عاقل وسعيد ومفكر وواعي بنفسه وبعالمه. فهل نحن مؤتمنون حقاً عليها؟!. وهل أدينا وعملنا على ما تستلزمه منا هذه الأمانة الثقيلة؟!.
إننا وقبل أن نبدأ بالإجابة على السؤالين السابقين، يجدر بنا أن نلتفت جيداً إلى واقعنا الراهن. لأننا سنجد فيه ما يوفر علينا عناء التدقيق والتأمل في أسئلة باتت بلا معنى، والبحث عن إجابات وافية وشافية لأسئلة كثيرة لا تنتهي. فنحن قوم لا نحب العمل والكد في طرق ذات الشوكة، ولا نرغب بإجهاد أنفسنا وعقولنا في البحث والتنقيب هنا وهناك. وهذه هي للأسف أكبر مصيبة ابتلينا بها. أن يفكر الآخرون بالنيابة عنا، فقد أعطينا عقولنا إجازة طويلة منذ زمن طويل.. طويل جداً.. وأعلنّا على الملأ الإفلاس والاستقالة العقلية والعملية من الحياة والوجود كله!.
© منبر الحرية،11 شتنبر/سبتمبر 2010

نبيل علي صالح17 نوفمبر، 20100

بدأت نهائيات كأس العالم الجارية حالياً في جنوب أفريقيا –والتي ستصل خلال أسبوع إلى مرحلتها النهائية- تتجه نحو مزيد من التشويق والإثارة، بعد انتهاء مباريات الدور الأول والثاني الذي ترافق مع خروج دراماتيكي مؤثر لدول كبرى ذات ماض عريق وتاريخ حافل بالإنجازات في عالم كرة القدم.. مثل البرازيل وفرنسا وإيطاليا وانجلترا..، وصعود نجم فرق جديدة من قارات لم يكن يحسب لها أي حساب في عالم كرة القدم كالفريق الغاني الذي نال إعجاب الجمهور والنقاد والمراقبين..
وقد ظهر جلياً المدى الذي بلغه تأثير كرة القدم على البشر جميعاً، ومدى انشداد الناس واهتمامهم في كل الأنحاء بهذه اللعبة العجيبة التي استطاعت أن تجعل أعضاء الجماعة البشرية بأكملهم –وعلى اختلافهم وتنوع مشاربهم وانتماءاتهم ومستوياتهم ومذاهبهم وألوانهم- يتسمرون أمام شاشات التلفاز لمشاهدة المباريات والتنافس الحضاري السلمي أو يسافرون إلى جنوب أفريقيا لتشجيع فرقهم المتأهلة للنهائيات.
بالفعل نحن أمام حالة أشبه ما تكون بالوحدة الإنسانية، حيث استطاعت هذه الكرة أن تفعل ما عجزت عنه السياسة والاقتصاد في تركيز انتباه الناس إلى كرة صغيرة يتنافس اللاعبون لإدخالها في مرمى على مدى 90 دقيقة بهدف تحقيق فوز من هنا وآخر من هناك قد يسمح لفريق من الفرق بنيل هذا اللقب العالمي الذي تتمنى كل دولة أن تحظى بشرف نيله.
والمونديال ليس فقط حالة تنافس كروي شريف بين مجموعة فرق تمثل بلداناً من مختلف القارات سينال منها فريق واحد كأس البطولة العالمية لمدة أربع سنوات، وإنما هي أيضاً مجال سياحي وثقافي وحضاري واسع للدولة المضيفة في أن تستثمر كل ما تمتلكه من إمكانات وطاقات ومؤهلات في تلك المجالات السياحية وغير السياحية لزيادة دخلها الوطني، واستغلال وجود ملايين السياح القادمين مع منتخباتهم للتمتع بقضاء إجازاتهم السنوية في ربوع الدولة المضيفة.
والواضح أن قطاع الرياضة أضحى اليوم حقلاً واسعاً وقطاعاً مزدهراً، ومن أهم قطاعات الحياة البشرية المتحركة والمنتجة والفاعلة في كثير من البلدان، بما يشتمل عليه من صناعات وأدوات ورموز وثروات وأدوات ونجوم، وهذا الحقل الاقتصادي أصبح له طريقاً صلبة يسير عليها، وهو يساهم من خلال أدواته في صناعة العالم الراهن، لا بل أضحى ينافس ويتفوق على قطاع الثقافة والكتاب والمفكرين، بجاذبيته وفاعليته وحضوره الآسر الممتع، وبات عالم كرة القدم أكثر مقبوليةً من أي حقل أو قطاع حياتي آخر، وربما بات ملاذاً آمناً وأكثر مؤانسةً وراحة للناس من معارك الثقافة والسياسة، ومجتمع المثقفين والساسة التي تقوم عندنا –في عالمنا العربي والإسلامي- على قاعدة الغلبة والتغلب، وتسود فيها قيم الاستبعاد والإلغاء والحصرية بأعلى صورها وعناوينها وتعابيرها خاصةً في ظل المناخ الثقافي والسياسي المهيمن عندنا، والذي تعبر عنه هذه العقول المغلقة والأيديولوجيات والعقائد الاصطفائية والشمولية ونزعات التعصب الدينية وغير الدينية التي تزعم وتدعي القبض على ناصية الحقيقة المقدسة، بينما تسود في عالم كرة القدم قيم التبادلية وعقلية المشاركة والجماعة والتنافس الحر السلمي الديمقراطي التداولي، وإدارة الشؤون بطريقة حضارية تشاركية مفتوحة متنوعة ومتعددة، بعيداً عن هيمنة منطق القسر والقهر والإلغاء.. وحيث أيضاً المران والتعب والجهد والمثابرة والخبرة والمهارة.. وحيث أيضاً لغة الابتكار وخلق وقائع جمالية جديدة غير منتظرة وغير متوقعة على عكس السياسة الرثة والبالية والمحافظة والتي يتعاطى منتجوها مع الواقع الحياتي القائم بعقول مقفلة وعقائد طوطمية سحرية قائمة على إقفال العقل عن التفكير والإبداع، ونهائية التفكير وتمامية النتائج.
إنها بالفعل عولمة كروية وساحة عرض كبرى لثقافات وعادات وتقاليد حضارات إنسانية متعددة، وهي أيضاً ظاهرة عالمية تتداخل فيها قضايا الاقتصاد والتجارة والسياسة والإعلام، لذلك تجد الكثير من المفارقات في هذا الحدث الذي يوفر للعالم فرصة واستراحة لمدة شهر للهروب من أزماته وتعقيداته الاقتصادية والاجتماعية.
© منبر الحرية،07 تموز/يوليو  2010

نبيل علي صالح17 نوفمبر، 20100

يبدو الوضع السياسي والجيواستراتيجي الحالي في المنطقة العربية ملتبساً وغير واضح المعالم، وذلك بالرغم من اعتماد القوى الدولية الكبرى –الأكثر فاعلية في خارطة التغيير ورسم السياسات- لخطط وتوجهات سياسية (تقول أنها جديدة) خاصة بالمنطقة، وتتعلق بطبيعة مقاربتها للملفات الشائكة في أكثر من موقع هنا وهناك.. خصوصاً بعد وصول إدارة سياسية جديدة إلى البيت الأبيض، يبدو همّها الأساسي منصباً على مخالفة معظم التوجهات السياسية التي كانت تعتمدها الإدارة الجمهورية السابقة، أكثر من اهتمامها ببناء سياسات واضحة ومعروفة.
وفي ظل تضارب مصالح معظم دول المنطقة والإقليم، وتعارض سياساتها إلى درجة التناقض الجوهري فيما بينها من جهة وبينها وبين القوى الدولية الكبرى من جهة ثانية، تحاول بعض دول منطقتنا –وعلى رأسها تركيا- التعاطي مع مجمل التعقيدات القائمة بهدوء وعقلانية.. يمكن ملاحظتها ومتابعتها خلال السنوات القليلة الماضية، وبخاصة بعد استلام حزب العدالة والتنمية للسلطة فيها.
فهذه الدولة التي تشغل مساحة جغرافية وحيز استراتيجي نوعي مهم ومؤثر، لا تزال تشهد منذ وصول حزب العدالة والتنمية –ذي التوجه الإسلامي المعتدل- إلى السلطة في 2002م تحولات مفصلية متسارعة على صعيدها الداخلي والخارجي.
وهي تحاول استعادة بعض أو كل مكانتها التاريخية شبه المفقودة والضائعة بين إغراءات الدخول إلى النادي السياسي والاقتصادي الأوروبي والحصول على مقعد فيه، وبين العودة إلى أعماق التاريخ “العصملي” البهي والمتألق الذي كانت لتركيا فيه موقع القلب من الجسد، لتستعيد مكانتها “القديمة-الجديدة” ومقعدها المخصص لها وحدها، والذي لا نعتقد أنه يمكن لبعض الدول الأخرى (كإيران مثلاً) أن تحتله نظراً للعمق التاريخي والثقل الجيواستراتيجي السياسي والثقافي والديني الذي تحوزه تركيا في المنطقة العربية، والذي لن تجد أمام تحققه على الأرض أية عقبات تذكر.. على عكس إيران التي تتوجس منها شراً كثير من الحكومات والشعوب العربية، بسبب تدخلاتها المتكررة في الشؤون الداخلية لبعض تلك الدول، وبسببٍ من تضخم تطلعاتها المرتكزة على تصدير مبادئ ثورتها الدينية الشيعية ذات التوجه والنزعة الرفضية الجذرية، وربطها المصلحي النفعي بين الدين والسياسة، وطغيان نزعتها القومية وحضورها التاريخي على مجمل سياساتها الخارجية (قومنة التشيع).
ولكن تركيا تبدو أكثر قدرةً من إيران على القيام بدور أساسي في مجمل السياسات الإستراتيجية المتعلقة بالمنطقة، ليس فقط لأنها دولة كبيرة مترامية الأطراف، تمتلك من الثروات والموارد والطاقات والمزايا الأخرى الشيء الكثير، بل لأنها أيضاً على علاقة جيدة وطيبة مع معظم الدول، مما يمكنها من الحديث مع الجميع ومن دون مواربة حول أكثر من ملف معقد وشائك، والتحول إلى مركز تواصل أساسي في السياسة الإقليمية والدولية. خصوصاً بعد أن تبنت تركيا –بقيادتها الجديدة- ثابتة إستراتيجية في سياستها الخارجية وهي ضرورة التعدد في العلاقات، وعدم حصرها في خط أو مستوى واحد.
لقد ارتكزت القيادة التركية الجديدة على قاعدة شعبية عريضة وواسعة للمضي قدماً في تنفيذ سياستها الخارجية (الهادئة والعقلانية والنشطة)، بعد تحقيقها لنجاحات اقتصادية داخلية ملفتة جعلت من تركيا إحدى أهم دول العالم في رفع مستويات التنمية الداخلية، وتخفيض العجز المالي، وزيادة حجم الميزانية القومية. وهذا ما يمكن ملاحظته ومتابعته من قبل الجميع، وبخاصة لمن يزور هذا البلد، ويقوم بجولات ميدانية في بعض مدنها الصناعية والتجارية الهامة، ليقف عن كثب على مصداقية الأرقام المتعلقة بالتنمية الاقتصادية ونهوض الاقتصاد التركي التي تقدمها مختلف الأوساط والمنظمات الاقتصادية الدولية بخصوص قوة وتطور الاقتصاد التركي.
وباعتقادي أنه لو لم تتمكن قيادة أردوغان –القادم من زخم تحقيق نجاحات باهرة في استانبول- من بناء الداخل على أسس اقتصادية صحيحة ومتينة، لبقيت محصلة المعادلة التركية الخارجية –في دورها ومكانتها وتأثيرها- صفراً، كما كانت عليها في السابق عندما كانت تركيا إحدى مصادر أو مواقع الإثارة والتوتير في المنطقة.
لقد أدرك القادة الأتراك الجدد بأن الفرصة واللحظة الإستراتيجية القائمة حالياً –والناتجة بالطبع عن أخطاء الآخرين، وفشل سياساتهم الخاصة بالمنطقة، الأمر الذي أوقعها في حالة فراغ استراتيجي- أدركوا أن الفرصة سنحت لإعادة موضعة سياساتهم الخارجية، واستغلال اللحظة الحرجة (لحظة الفراغ والالتباس التاريخي) التي قد لا تتوفر لهم مرة أخرى، فانطلقوا في اتجاه بناء سياسات جديدة، تتداخل فيها عوامل جذب واستقطاب مختلفة ومتعددة ما كان من الممكن تصورها سابقاً..
وكانت قاعدة هذا التصور الجديد تقوم على أن تركيا دولة محورية في الشرق ليس فقط لنفسها ولجوارها وامتدادها الجغرافي الشرقي والجنوبي، وإنما هي كذلك للأوروبيين أيضاً الباحثين دوماً عن استقرار المنطقة (جوارهم الجنوبي والجنوبي الشرقي الدائم)، والذين كان عليهم أن يدركوا بأنه لا بد أن تمر سياساتهم في المنطقة العربية –المثقلة بالهموم والأزمات- عبر الأتراك قبل غيرهم، لأنهم مهيئون تاريخياً وحضارياً وجاهزون دينياً وجغرافياً للتحدث بعمق وصراحة مع كل دول المنطقة، وحول كل قضايا وشؤون وشجون دول الإقليم، بما فيها إسرائيل..
ولهذا رأينا تركيا تتوسط في المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، وتحاول حالياً التوسط بين إيران وأمريكا، كما رأيناها تعمل على وقف غزو إسرائيل لقطاع غزة، مع تحميل إسرائيل كامل المسؤولية عن ذلك العدوان.
إن التصور السياسي التركي الجديد للمنطقة يحاول مقاربة الأمور من زاوية الضرورة الحيوية لتحقق السلام في المنطقة، والتفرغ لبناء أسس ومقومات الحكم الصالح في داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تشهد وعياً متزايداً بأهمية الترابط بين الأمان والسلام الداخلي والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان..
وقناعة الأتراك بهذه المقاربة حقيقة، وليست ناتجة عن أية مراوغة تكتيكية، باعتبار أن تركيا نفسها ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه -من مكانة ودور- لولا إدراك قادتها الجدد لأهمية البعد المؤسسي للدولة المرتكز على قاعدة ديمقراطية واسعة مدعومة من الشعب الذي تزداد عملية انخراطه في ممارسة السياسة والسلطة بمقدار ما تزداد عوامل الجذب والإغراء الاقتصادي والحريات العامة التي توفرها له الدولة.
إننا نعتقد أن لتركيا موقعها السياسي ودورها النوعي المؤثر في معظم القضايا والتحديات التي تلف منطقتنا العربية والإسلامية، والواضح أمامنا أن تركيا لم تحصل على هذا الدور هديةً من أحد، بل رسمت له وخططت للحصول عليه بوعي منها ومن تلقاء نفسها، نتيجة عقلانية سياستها الخارجية وسرعة تحركها وروح المبادرة الفعالة التي تمتلكها..
وقد أثبتت الأحداث السياسية والأمنية والعسكرية التي حدثت خلال السنوات الأربع الماضية الأخيرة أن تركيا لاعب محوري وأساسي في معظم المعادلات السياسية القديمة والجديدة للمنطقة، مما يحتم ويجبر الدول والقوى الكبرى على الحديث وفتح القنوات السياسية وغير السياسية بالكامل معها وباستمرار.
وهذا ما يجب على العرب أن يتنبهوا له بعد أن غابوا وغيبوا أنفسهم طويلاً عن بناء علاقات طيبة ومتينة مع الأتراك.. بالرغم أن ما يجمعهم بتركيا أكثر بكثير مما يفرقهم عنها..
© منبر الحرية ،يونيو / حزيران 2010

نبيل علي صالح16 نوفمبر، 20100

يتحدثون ويقولون –وهم في ذلك مستمرون منذ عقود وعقود- بأن أمريكا الامبريالية هي سبب بلاء الأمم والشعوب، وأن الغرب استعماري حقود ذو نزعة افتراسية في القيمة والمبدأ، وهو قد دمر وقتل أجمل ما في حضاراتنا الشرقية من قيم ومبادئ وأخلاق، أي أنه هو المسؤول الأول والأخير عن كل تلك المشاهد المأساوية التي نراها أمامنا والتي يختصرها هذا الخراب الروحي والمادي الذي يلف مجتمعاتنا ويضرب ساحاتنا ومواقعنا العربية..
ويقولون لنا –وهم لا زالوا يقولون ويؤكدون ويحلفون ويقسمون- بأن إسرائيل كيان محتل غاصب دموي، وهو كيان وهمي ومصطنع يجب أن يزول ويرمى في البحر بأيدي أبناء ومجاهدي العروبة والإسلام.. ويقولون بأن الصهيونية والماسونية تتحكمان بالحضارات والشعوب الإنسانية منذ فجر التاريخ الذي وطأت على أرضه أقدام أبينا آدم وأمنا حواء بعد خروجهما الميمون من الجنة السماوية، ويتحدثون عن أن التعاليم التلمودية والتخيلات التوراتية المؤسطرة هي التي تتحكم بعقول وسلوكيات دول وسياسيين وأحزاب كبرى في العالم، وتؤثر في وعي كل تلك القوى الامبريالية والغربية والرجعية والمتأمركة والمتصهينة عربية كانت أم غير عربية.
ويبشرونك ويقولون بأن زوال إسرائيل من الوجود –ومعها حاضنها وراعيها الامبريالي- قادم لا محالة، وهو أمر تكويني اعتقادي إلهي (ناموس كوني) سيأتي في مقبل الأيام على أيادي وسواعد جنود الله في الأرض ممن أخلصوا لله حق إخلاصه، وعبدوه حق عبادته، وجعلوه نصب عيونهم وعقولهم وأفئدتهم ليلاً ونهاراً..
هكذا قالوا ويقولون ويحللون ويفككون ويركبون منذ عقود وعقود، ولم يتغير شيء في الواقع العملي المعاش، أو على صعيد وعي ضرورات وجودنا وتطور مجتمعاتنا، حيث أننا ما نزال نعاني من الاستبداد والقهر والفقر والحرمان والتخلف وإعادة اجترار ثقافة التخلف، كما ولا تزال تسيطر علينا مفاهيم التدين الشعبي بمفرداته ومفاهيمه العصبوية الغيبية التي تربط الفرد بالمطلق وتوعده بالجنة، وتحثه على رفض واقعه القائم ليعيش حالة الانفصام النفسي بين ما يفكر فيه ويعتقد من جهة، وبين ما هو قائم بين ظهرانيه من جهة ثانية..
ولا شك أن أولئك المفكرين والسياسيين محقون في كثير مما يقولونه ويفكرون فيه، لأن الواقع يشهد على ذلك، حيث أنه (أي الواقع) مصنوع لدى مراكز القرار الدولي هنا وهناك… ولكن الحقيقة المرة الساطعة مثل نور الشمس في كبد السماء، والسؤال الكبير الذي يتهرب منه أتباع تلك العقلية الدوغمائية والوعي الوثوقي الزائف هو: ماذا فعلتم وقدمتم من عمل لمواجهة كل مقتضيات ونتائج هذه التحديات الخطيرة التي سنسلم جدلاً بحقيقة وجودها كلها؟!.. هل استطعتم بناء إنسان عربي واعي واثق منتج فاعل شجاع غير خاضع وغير ذليل، يفكر بعقله وليس بقلبه؟! وهل قمتم ببناء مجتمعات عربية قوية قادرة على التأسيس الصحيح للتعامل مع الآخر…
أين يكمن الخلل إذاً؟!!.. في الذات، في الفكر، أم في الواقع والممارسات السياسية والاقتصادية للنخب العربية الاستبداية التي لا تزال مسيطرة على اجتماعنا الديني والسياسي العربي والإسلامي منذ تحويل معاوية الخلافة إلى ملك عضوض (حيث المقولة الشهيرة لأحد عماله على المدينة: أمير المؤمنين هذا “أشار إلى معاوية”، ومن بعده هذا “وأشار إلى ابنه يزيد” فمن أبى فهذا، “وأشار إلى السيف الذي يحمله”)، وما رافقها من حروب وفتن واضطرابات وأحقاد وأزمات ودماء ودموع.. إنه سؤال إشكالي يكاد يكون –على صعيدنا العربي- سؤالاً وجودياً في العمق والجوهر.. لا يزال المفكرون والنهضويون العرب والمسلمون يجترحون الإجابة عليه منذ عقود طويلة في محاولة منهم لتقديم حلول جدية وعقلانية عملية رصينة لاستنهاض واقعنا المتخلف على كل الوجوه والأصعدة.
وفي إطار محاولاتهم تلك يكاد مثقفونا يجمعون على أن الأزمة القائمة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية لها جذر ثقافي ومعرفي بامتياز. وهي تعود –بالدرجة الأولى- إلى سيطرة المفاهيم والاعتقادت الدينية البدائية على البنية الثقافية والنفسية السوسيولوجية لأفرادنا ومجتمعاتنا. بحيث باتت مرجعيات السلف وفقهاء الوعظ المسجدي العتيق هي المتحكمة والمهيمنة على عقول وأفئدة الناس، وهي صاحبة الحق والصلاحية المعتمدة لتصدير فتاوى الحق والباطل ونشرها هنا وهناك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بمعرفة أو بدون معرفة.
وقد كان من الطبيعي جداً أن تنمو تلك العقليات وتكبر تلك المرجعيات العصبوية في داخل واقعنا العربي، وذلك بسبب الغياب أو التغييب القسري لأية حركة نهوض عقلية تنويرية حقيقية في عالمنا العربي والإسلامي، وأيضاً بسبب الدعم الكبير المعنوي والمادي الذي تتلقاه تلك المرجعيات من كثير من السلطات العربية الحاكمة، ومحدثي النعمة (حيتان الاقتصاد الجدد) ممن أثروا بصورة غير شرعية على حساب مصالح المجتمع وحقوق الناس.
من هنا ينبغي التأكيد والإصرار دائماً على أن معادلة التقدم والنهضة المنشودة تبدأ من الداخل الفكري والاجتماعي والسياسي العربي، أي أنها تنطلق من البحث الجدي عن مظاهر الخلل القائمة، وهي قائمة بدايةً في الفكر والثقافة لتنتهي في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
ولهذا نقول بأن شرط التقدم الصحيح كامن في بناء الداخل على أسس متينة وصحيحة من الوعي والمعرفة والتنمية السياسية والاقتصادية للفرد والأمة ككل. لأن المجتمع المريض المثقل بالعلل والأمراض والتشوهات غير قادر على تبني خيار النهضة والسير في طريقها، وتحمل تبعاتها، وهو بذلك قد يتمكن من إحداث خلل ما في معادلة النهضة التي لا تزال الدول المتقدمة التي وضعت الإنسان في موضع القلب من تفكيرها وممارساتها، تمتلك وتقبض على نواصيها بالعلم والعقل.
من هنا نعتقد بأن الفرد المعافى في عقله ووعيه، والمجتمع القوي بحرية أبنائه ونظمهم لأمورهم الداخلية على قاعدة تداول السلطة، وحرية تشكيل الأحزاب، وإطلاق الحريات العامة، وحرية الإعلام والنقد العلمي الموضوعي.. هو الكفيل بتأمين المناخ اللازم لقلب وتغيير المعادلة القائمة حالياً. وما عدا ذلك هو مجرد كلام وتأجيل للملفات، ورمي للمشاكل التي تثيرها إلى قادم الأيام.
لقد أضحى العالم قرية صغيرة، وهو يموج يومياً بمتغيرات هائلة، ونحن نعيش في قلب أحداثه ووقائعه، ولذلك ينبغي على دعاة وأتباع عقلية المواجهة –من النخب الأيديولوجية المغرقة في مفاهيم السحق والمحق والإلغاء والإخصاء- أن تدرك العالم على حقيقته، وكما هو موجود في الخارج، وليس كما تتصوره وتتخيله هي، وتقرأه في الكتب الصفراء القديمة.. صحيح أن المؤامرات قائمة والدسائس تحاك ليلاً ونهاراً، ولكنها جزء لا يتجزأ من سياسات واستراتيجيات كل الدول بما فيها بلداننا العربية التي تزعم العمل بميزان الدين والحق والعدل.. ومعظم –إن لم نقل كل- الدول الكبرى ليست جمعيات خيرية توزع الأموال هنا وهناك بالمجان، ومن دون مواقف ومصالح متبادلة. فهذه هي حالة السياسة منذ بداية التاريخ، أخذ ورد، خذ وهات وطالب. ولكن السؤال هو: ماذا أنتجنا حتى الآن لنقدم؟!.. وهذا ليس تجريح أو جلد للذات بمقدار ما هو نقد لها، وتحريض على العمل والعلم والمعرفة.
ولذلك على سياسيينا ومفكرينا أن يدركوا بأن عليهم تغيير نظرتهم ووعيهم عن ذواتهم وعن العالم المعاش من حولهم، لأن الرهان معقود هنا على ناصية المعرفة النقدية، في الوعي والإدراك وحسم قضية التغيير المطلوب على صعيد الفكر والذات الحضارية العربية والإسلامية.
© منبر الحرية، 06 يونيو/حزيران 2009

نبيل علي صالح16 نوفمبر، 20100

بالفعل، يستحق الشعب الأميركي كل التهنئة على ما أنجزه من تغيير سياسي وانتقال ديمقراطي هادئ للسلطة، قلّ نظيره حتى في العالم الغربي الذي يتباهى بأبهى صور الديمقراطية والحرية.. ومرةً أخرى أثبت الأميركيون أنهم أمة حرة قادرة على التمييز وحسن الاختيار المسؤول، وذلك بقطع النظر عن لوبيات الضغط الإعلامي والسياسي، ومراكز القوى الاقتصادية والعسكرية، ومؤسسات التمويل والدعم المالي التي سيكثر الحديث عنها في الأيام المقبلة خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي حيث العقل المريض بالأوهام والترهات والأساطير، وحيث الانتشار الواسع لنظرية المؤامرة التي تريحنا عن ممارسة التفكير والتحليل، وتشل العقل عن تقبل التطور والتغير، وحيث الوجود العريض لأساطين التخطيط والتفكير المؤامراتي الاستراتيجي مما لا نجد لهم نظيراً في العالم كله..
أجل لقد قال الأميركيون كلمتهم الهادرة، وصرخوا بأعلى أصواتهم عبر صناديق الاقتراع الخشبية والإلكترونية: إنه زمن التغيير المنشود، تغيير وجه أميركا الداخلي والخارجي.. هذا الوجه الذي تشوهت معالمه وملامحه في السنوات الماضية نتيجة القرارات الخاطئة التي اتخذتها الإدارة الجمهورية البوشية المغادرة ذات النزعة الرسولية والمسحة التطهرية، والتي ظنت – في وقت من الأوقات-  أن التغيير والإصلاح يمكن أن يحدث في أي مجتمع عن طريق الفرض “بالريموت كونترول”، أي بمجرد اتخاذ قرار التغيير من القيادات العليا.
طبعاً الكلام سيكثر والتحليلات ستزداد، وسيسيل حبرٌ غزير – من الآن وحتى ما بعد انتقال السلطة للإدارة الجديدة- للحديث عن هذا الانتصار المدوي الذي حققته أمريكا أولاً والسناتور أوباما ثانياً، ولكن “السؤال-الأسئلة” الذي نجد أنفسنا – نحن العرب- ضرورةً ملحةً في طرحه بهذه المناسبة هو:
-أين هو دور وموقع العرب من خارطة التغيير العالمية، وقانون التغير هو الثابت الوحيد في هذا العالم؟!!..
-وما هو موقف شعوب المنطقة العربية من هذا الحدث الكوني، وهم يرون ويتابعون بأم أعينهم مشهد التغيير السلمي الديمقراطي (وليس العسكري أو الديني) الذي حدث هناك تحت ضغط وتأثير وعي وقدرة وإرادة وحيوية المجتمع الأمريكي والناخب الأمريكي وليس بقوة الثورات والهيجانات الانقلابية العاصفة التي حدثت هنا وهناك في أكثر من مكان من منطقتنا والتي دفع سكانها كثيراً من الدماء والدموع ثمناً لها؟!!..
ألا يسأل أبناء عروبتنا أنفسهم، وهم يتحسرون ويتألمون: لماذا نحن لا نساهم في صنع قرار بلداننا ومستقبل أجيالنا، ليكون لنا مسؤولية تطويرها والانتفاع بمواردها وطاقاتها الهائلة؟.. ولماذا لا يكون لنا صوت جرئ واضح وصريح في كل ما يجري عندنا؟!!
ثم هل نحن حالة خاصة من الأمم أو شعب مختلف عن باقي شعوب الأرض؟
أسئلة وإشكاليات كثيرة لا تنتهي تبقى حاضرة في الذهن، ويمكن طرحها باستمرار بعد كل تغيير أو تحول سياسي أو فكري ما يمكن أن يحصل في أي مجتمع من المجتمعات الغربية المتحضرة.
وبالمحصلة يمكنني القول هنا أن النسبة الغالبة من أفراد مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي يغلب عليها التفكير التقليدي والقناعات المذهبية و الفلسفية التي تحدد للفرد المؤمن بها مختلف مسارات العمل والحركة والالتزام الروحي والعملي في الحياة، وتجعله يشعر على الدوام بأنه ليس بحاجة إلا لهذا النوع من الأفكار الغيبية الكفيلة بتحقيق حلمه و بلوغ السعادة الأبدية. أقول: ربما تحسد تلك النسبة الأكبر من أبناء مجتمعاتنا في قرارة نفسها شعوب أمريكا على حيويتها وتجددها وقدرتها الفعالة على إحداث التغيير الذي تنشده تحقيقاً لمصالحها الوطنية العليا. وتلك النسبة ترغب في حدوث مثل هذه التغييرات المفصلية في مجتمعاتنا، ولكن من داخل شريعتها وقوانينها وأعرافها، أو ما تسميه نخبتها الفكرية والسياسية (من داخل نسيجنا وسياقنا الحضاري العربي والإسلامي!!).
من هنا جديرٌ بنا أن لا نكتفي نحن في عالمنا العربي بالإعجاب أو الاندهاش عند بداية أي حدث سياسي أو غير سياسي مما يتحرك به الواقع الغربي، بكل تطوراته وتغيراته الدائمة على أكثر من صعيد، بل ينبغي التأكيد على أن الأولوية التي تحظى باهتمامنا جميعاً –حيث أن التغيير السياسي لا بد وأن يسبقه تحول وتجديد ثقافي معرفي بامتياز- هي أن نعمل على تأسيس وبناء ثقافة عربية إسلامية مختلفة تماماً عما نعيشه اليوم من حالة “اهتراء ثقافي ومعرفي” تفتقد فيه الثقافة العربية المعاصرة –كامتداد لثقافة الأمس في اليوم- قيم العقلانية والموضوعية والوعي الجمالي. فنحن بحاجة ماسة للتغيير السياسي والاجتماعي، ولكننا بحاجة أكثر قبل ذلك للبدء الجدي بإحداث تغييرات فكرية مطلوبة في عقول الناس وطريقة وعيها للحياة والفكر والعمل والممارسة… أي أننا بحاجة لثقافة تبني العقل –عند الفرد والجماعة – على حجج وأسس منطقية إقناعية (إذا صح التعبير)، ثقافة تتمثل (وتستوعب وتمارس) خطاب المحاكمة العقلية والعلمية الذي لا تزال تفصلنا عنه مسافات زمنية هائلة (هل يعقل أن تكون فتوى رجل الدين عندنا أهم وأعلى شأناً من، ومقدَمة على، رأي علمي قاطع أو حقيقة علمية).
ونحن عندما نستخدم هنا مصطلح العقلانية (الذي لا نعني به الطريقة العقلية التي تقف في مقابل الطريقة التجريبية، بل نعني به حصراً أن تلتقي العقلانية مع التجريبية، لأن العقل يستنطق التجربة ويقتحم عناصرها الداخلية من أجل أن يخرج منها بفكرة أو نظرية عامة)، فإننا نريد به الطريقة الموضوعية في التفكير والوعي الثقافي، التي تعمل على أساس دراسة وتحليل أية قضية أو فكرة (أو أي واقع) من خلال عناصرها الذاتية، وخصائصها الموضوعية في ما يحيط بها من أجواء، وما يتحرك في آفاقها من ظروف. وعلى هذا الأساس تقف العقلانية في مواجهة الانفعالية، أو الحماسية، أو العاطفية التي ترتكز –في مواجهة القضايا القديمة والمستجدة، والتعامل مع الواقع– على العنصر الشعوري الطارئ.
وهذه هي – للأسف- الثقافة السائدة حالياً، أعني بها ثقافة التدين والتشنج والتعصب وثقافة “الانفجار الاجتماعي” التي حكمت كثيراً من مناهج التفكير عند الأقدمين، ولا تزال تهيمن على مساحات واسعة من ذهنيتنا المعاصرة، ومفرداتنا الفكرية والعملية.
إنّ كل ذلك يفرض تجديداً في بنية هذه الثقافة، وبحثاً علمياً عن معالجات وحلول فورية متنوعة من أجل أن تعيش (تلك الثقافة) في داخل عصرها لتفهم أدواته وعلاقاته ومفاتيحه، ولتواكبه بكل أحداثه ومستجداته وتعقيداته وتشابكاته، ولا تكتفي بتبني خيار الهروب إلى الأمام واتخاذ موقف الانغلاق والرفض لمنطق التطور والنقد.
إن المطلوب –في هذا السياق– أن نعمل على تحليل ودراسة قضايا وإشكاليات ثقافتنا وأفكارنا (التي طالها اليأس والخراب وباتت تشكل عبئاً حقيقياً على أصحابها وعلى العالم) بكثير من المسؤولية والوعي والاتزان العلمي والموضوعي، والإيمان بأن الثقافة التاريخية القديمة لا يمكن أن تعيش لتؤثر في هذا العصر وفي العصور اللاحقة. لأن التاريخ الماضي، زمن مضى ولن يعود، وقد كانت له أفكاره ورموزه وشخوصه ومواقعه وأحداثه وتطوراته التي لا يبقى منها إلا الأثر والدرس والعبرة. وإذا أردنا أن نجعل لثقافتنا التاريخية الإسلامية مجالاً معيناً من الحركة والامتداد والتأثير في ساحة الحياة المعاصرة، فيجب علينا أنْ نعرّي تاريخنا من كل ألوان الوهم والدعاية والزهو الفارغ والاستغراق في الخيالات والأحلام الوردية، وضرورة ملاحظته كمادة قابلة للدراسة والتنقيب والنقد بطريقة منهجية علمية واضحة ومحددة وصريحة ليس فيها لف أو دوران. وهو ما يعني أن نقف أمام تاريخنا وجهاً لوجه لنحلله في بنية عناصره ومعطياته وآثاره، وننفذ بعمق إلى داخل جذوره. لأن ذلك يفتح لنا المجال من أجل الوقوف أمام الفكر التاريخي والمشكلة التاريخية كما هي في واقعنا الحالي، على اعتبار أن التاريخ لم يعد –من خلال هذه النظرة– مجرد تسجيل حرفي، وسرد قصصي لأحداث أو قضايا من الماضي، بل من الممكن أن يكون له دور ما للعبرة والتحليل والدرس الموضوعي.
وهذه المحاولة الفكرية المنهجية تعني –فيما تعنيه- أننا نريد من مجتمعاتنا الراهنة أن تملك القدرة على الخروج من دهاليز وأنفاق التاريخ الماضي، وأن تعمل على اجتراح “معجزة” بناء وصياغة تاريخ جديد متطور وفاعل، من خلال مواقع الحاضر بالانخراط في عالم اليوم والمستقبل.. تاريخ العقل والوعي والانفتاح الديني والثقافي.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 19 ديسمبر 2008.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018