نبيل علي صالح

نبيل علي صالح16 نوفمبر، 20100

قدم العلم الحديث للإنسان فرصاً واسعة وإمكانات قصوى في حصوله على المعلومة والمعرفة، وبات يعيش في عصر الثقافات الفكرية والعلمية العابرة للقارات، وعصر التواصل والتبادل والتشابك في المصالح والمصائر، وهو أشبه ما يكون بسوق –نعم سوق- معلوماتي افتراضي وواقعي واسع لتداول الأفكار وتبادل المعارف ونمو ما يسمى باقتصاد المعرفة، ولدى قيامي بتصفح كثير من مواقع النشر الإلكترونية، ألاحظ باستمرار وجود عدد لا يستهان به من المقالات والآراء العائدة لبعض رموز ونخب المعارضات السياسية العربية التي تعيش خارج بلدانها بسبب ما تعتبره عدم وجود مناخ حرية حقيقي تستطيع من خلاله الدعوة إلى أفكارها والتعبير عن طموحاتها الفكرية والسياسية في داخل أوطانها الأصلية.
وقد لفتني منذ فترة إمعان بعض تلك الأسماء في استخدام كثير من مصطلحات الشتم وألفاظ السب بحق ناسها ومجتمعها وبلدها، ووصْفِهم جميعاً بأقذع النعوت، بما لا يوفّر فيهم كبيراً ولا صغيراً كما يقولون. طبعاً ليس هذا محل استغراب مني كمثقف نقدي يشتغل على إشكاليات الثقافة العربية، ويقوم بعمليات التحليل والاستنتاج ووصف العلاجات، إذ أنه من حق أيٍ كان أن يعبر عن أفكاره واعتقاداته بالطريقة وبالأسلوب الذي يريد.
ولكنني –في الوقت الذي أدعو فيه إلى تمثل قيمة الحرية بكل معانيها- أعتقد أن الحرية لا تعني الفوضى، بل أن تعطي كلمتك، وتعطي موقفك، وتؤكد موقعك بعد دراسة من خلال مسؤوليتك، وأن تفسح المجال للآخر في مناقشتك وفي نقدك. والحرية لا بد وأن تكون مقرونة بالمسؤولية، والمسؤولية تفترض بدورها وجود عقول حوارية واعية، خصبة ومنتجة للتسامح والسلام الاجتماعي، لا عقول إقصائية إلغائية تمارس الحرية بطريقة وصائية بعيدة عن أدنى حالات التخلق بالقيم الوطنية الجامعة لكل مكونات المجتمع وتنوعاته الثقافية والاثنية والأقوامية. كما تفعل بعض شخصيات تلك المعارضات الخارجية التي سبق أن ألغت من قاموسها السياسي والفكري حسابات ومصالح الوطن، وهي تحاول –على الدوام- تعميم الخطاب السلبي السوداوي عن وطنها الأم، وبالذات حول بعض مكوناتنا الثقافية والدينية التاريخية.
ونحن من موقعنا كمثقفين مهتمين بعملية النقد الهادف إلى تطوير بلداننا ومجتمعاتنا العربية، نعمل –مثل أي مواطن حر آخر- من داخل الوطن وليس من خارجه، ونمارس عملية النقد البنّاء والموضوعي الناظر إلى غد أفضل مشرق تنطلق فيه نهضة المجتمعات المنشودة على كل الميادين ومن دون وجود أية موانع مستحيلة أو معقدة تذكر. طبعاً هذه أمنية كبيرة ولا شك، فالواقع لا يخلو من وجود صعوبات وضغوطات هنا وهناك (وهذا أمر ينبغي فهمه ووعيه واحتواؤه، وهو موجود في كل الدول وحتى في بلدان كثيرة)، ولكننا نأمل ونتمنى ونعمل على الدوام لكي تصبح مجتمعاتنا في أرقى مواقع المدنية والتحضر والتقدم الفكري والسياسي.
ويبدو لي أن المعيار الحقيقي الناظم لحركة الحرية هو في كونها محددة بقيد الحرية ذاتها، ولكن ليست الحرية المنفلتة من عقال محبة الوطن والمجتمع (والناس المكوّنين له) بقطع النظر عن معايير وضوابط وآليات السياسة التي تحكم وتدير وتنظم مختلف مواقع هذا البد أو ذاك، وبغض النظر عن مشارب هؤلاء الناس المنتمين للوطن على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم الفكرية والدينية والأقوامية، فللحرية محددات وانتظامات تتركز أساساً في عدم إثارة دواخل ومشاعر الآخرين، وتقصُّد الإساءة إلى قناعاتهم ومعتقداتهم بقطع النظر عن صحتها وحقانيتها وفاعليتها الحضارية، ثم إن النقد لا يكون بإتباع طرق وأساليب العنف الرمزي الفكري التشهيري والإقصائي المتعمد –في أحايين كثيرة- بحق بعض التكوينات الدينية والتاريخية الحضارية الأساسية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، الذي يضم بين جناحيه أدياناً ومذاهب وطوائف وقوميات واثنيات متعددة يراد لها أن تستظل بظل الوحدة الوطنية الطبيعية الطوعية –لا القسرية- لينعم مواطنونا فيها بقيم المحبة والتسامح والإخاء والتعاون لما فيه مصالح الأوطان والشعوب بكل تنوعاتها وتعددياتها.
ولا شك أن بلداننا تعمل –بكافة مؤسساتها وأجهزتها ومواقعها- لتأمين متطلبات المجتمع، وخلق فرص عمل للشباب، واستصدار قوانين وتشريعات لفتح أبواب الاستثمار الاقتصادي على مصراعيه، على مستوى تحديث النظم والقوانين، وهيكلة الاقتصاد، وتطوير الواقع السياسي. وعلينا ألا ننسى هنا أن ضغوطات الخارج وتحديات التسارع العالمي –منضافاً إليها عدم السيطرة كثيراً على مارد الفساد والمفسدين في الداخل- تلعب دوراً كبيراً في تأجيل –وأحياناً إيقاف- كثير من خطوط الإصلاح الاقتصادي والسياسي وتأخير إقلاع عملية التنمية البشرية.
طبعاً أتمنى ألا يفهم من تحليلنا السابق أننا نجمّل أوضاعنا الداخلية، ونقدم صوراً ناصعة عن واقع مجتمعاتنا، وكأننا نعيش في جنان أرضية تحكمها ملائكة من السماء، بل نحن مجتمعات أرضية نسبية في فكرها وسلوكها، ونعترف فيها بالقصور القائم، كما أننا لا نزال نعاني من وجود أخطاء وتحديات داخلية على شتى الصعد والمستويات، ونماذج أو تكوينات “السياسة-الاجتماعية” التي يعيش في ظلها أفراد مجتمعاتنا ليست الأفضل والأحسن، ولكنها -برأينا المتواضع- مناسبة حتى الآن للبنية الفكرية والسوسيولوجية التاريخية المشكِّلة لمجتمعاتنا، وهي ملائمة أيضاً لطبيعة التواجد الجيواستراتيجي لتلك البلدان الغائرة في خضم جغرافية هلامية وتوازنات مخلخلة ومناخات دولية عاصفة باستمرار.
ونحن حقيقةً نحاول بهدوء وروية وعقلانية وتدرجية –وبالتعاون المثمر والتفاعل البناء بين الدولة والمجتمع- الدعوة إلى تطوير النموذج السياسي الحاكم على مجتمعاتنا من دون أي تدخلات أو اختراقات من هذا الجانب أو ذاك، وهذا لا يعني أن نبقى معزولين عن العالم، أو نغلق علينا أبواب الانفتاح والتنفس في الهواء الطلق والاستفادة من تجارب وتراكمات الخبرة لدى الآخرين.
وكلنا يعلم بأن المريض المزمن في مرضه –إذا سلّمنا جدلاً بأننا فعلاً نعاني من أمراض مستعصية على الحل! (وأنا لست من أنصار التشاؤم والسلبية بل من أنصار أن تشعل شمعة خير وأبقى من أن تلعن الظلام)- لا يأخذ الدواء دفعة واحدة، بل يتناول الدواء والعلاج على مراحل وفترات وبانتظام وفي أوقات زمنية محددة حتى يتمكن من تهيئة جسده لتقبل الوصفة الطبية ليشفى ويتعافى لاحقاً.
ثم إن الإصلاح والتغيير مطلوب بصورة دائمة في أي مجتمع يريد أن يكون له حضور نوعي منتج ومؤثر في عالم اليوم والغد، لأن التطور ناموس كوني وقانون طبيعي، والمتغير هو الثابت الوحيد في هذا الكون،ولكن ينبغي أن يكون الإصلاح تدريجياً وداخلياً ليكون مؤثراً ومستمراً وناجعاً. وقد أثبتت كل تجارب الشعوب والأمم والحضارات أن الإصلاح الفوقي المفروض بالقوة (وبالريموت كونترول) مرفوض ومدان وضعيف التأثير .
إن قيم الإصلاح والديمقراطية (ومجمل مبادئ المدنية الحديثة، وقيم العلمنة الراقية)، هي –في الأساس- ثقافةٌ وتربية وتهيئة نفسية مستمرة ومتواصلة منذ الصغر، وجهد داخلي فعال لاستنباتها في تربة المجتمعات العربية بما يتلاءم مع فكرها وثقافتها وحضارتها، قبل أن تكون معادلة ولها مقاييس وموازين مادية. ومجتمعاتنا العربية عموماً –لاشك- متعبة ومنهكة، وظروفها وأحوالها المختلفة ليست على ما يرام بالتأكيد، وهي تنشد أفضل أساليب الحكم والإدارة في السياسة والاقتصاد وغيرها، ولكن ذلك لا يحدث بصورة تلقائية (كن فيكون)، بل يحتاج لعقود طويلة من تربية الناس على قيم الحداثة والاستنارة العقلية والمادية.
من هنا مطلوب منا جميعاً –كل بحسب موقعه وجهده وقدرته- أن نساهم في إصلاح وبناء مجتمعاتنا وبلداننا. وهذه المهمة بالذات لها خطورتها وحيويتها لدى جمهور المثقفين المتنورين خصوصاً أولئك الذين لم يوجهوا سهام النقد الشخصي الجارح والهدام واللامسؤول إلى قلب الوطن، ولم ينخرطوا في لعبة السياسات الدولية التي تعمل ليلاً ونهاراً لتقويض مندرجاتنا الاجتماعية وتكوينات وحدتنا الوطنية التي نأمل تطويرها وتعزيزها.
© منبر الحرية ، 26 ماي /أيار2010

نبيل علي صالح15 نوفمبر، 20100

لا يزال يسيطر على مختلف مواقعنا السياسية والفكرية العربية مناخ ثقافي وسياسي عام يقوم على فكرة الربط بين متطلبات التنمية الداخلية واستحقاقات المواجهة الخارجية مع المحاور والقوى الإقليمية والدولية الكبرى.. وذلك لجهة تأجيل استحقاقات البناء والتنمية الداخلية ريثما يتم الانتهاء من إيجاد حول ناجعة لمجمل أزمات الخارج وتحدياته المفصلية، ومنها تحدي الصراع “العربي-الإسرائيلي”.
وقد وجدنا سابقاً كيف نجحت الدول العربية الحديثة المتشكلة بعد عهود الاستقلال قبل حوالي ستين سنة، في استغلال وتوظيف الصراع مع إسرائيل للتغطية على فشلها في تحقيق أي تقدم مهم في مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والحياة السياسية.
ولدى البحث في مسبببات هذا الفشل التاريخي الكبير، قدم مفكرون كبار إجابات فكرية ومعرفية على شكل رؤى ومشاريع نهضوية متعددة ومتناقضة أحياناً، قد نتفق معها أو نختلف، ولكننا بالنتيجة لا نرغب في تثوير الواقع وتجييش المشاعر وتسخين المواقف، ولسنا في وارد توزيع الاتهامات على أحد.. لا على الحكام ولا على المحكومين، إذ أنه من الطبيعي جداً التأكيد هنا على أن معظم الزعامات والقيادات العربية التي وصلت إلى مواقع الحكم والقيادة بالطرق المعروفة، لا تتحمل وحدها فقط مسؤولية تردي أوضاعنا، بالرغم من أن هذه القيادات هي التي حكمت وخططت، ولكن هؤلاء الحكام هم  جزء من تراثنا وثقافتنا، ولم ينزلوا إلينا من كوكب آخر، فقد ولدوا في أحضان مجتمعاتنا التي تحكمها نظم وتقاليد فكرية وسلوكية محددة، كما أنهم تربوا على عادات وأنماط ثقافتنا ومناخاتنا الفكرية والسياسية المهيمنة منذ قرون.. وبالتالي فهم –بمعنى من المعاني- صورة لنا، يعكسون طبيعة الثقافة التقليدية السائدة، ويشكلون قطعة أو جزء من صورة وضعنا العام الذي تشكل منذ فترة طويلة في هذا العالم المشرقي.
من هنا ليس من المنطق أن نوجه اللوم فقط لحكامنا ونخبنا السياسية، بل ينبغي علينا الوقوف ملياً ومطولاً أمام طبيعة البيئة والبنية “الثقافية-النفسية-السياسية” السائدة التي تهيمن على وعي الناس عندنا، وتوجه مساراتهم، وتحدد اختياراتهم القيمية والعملية.
وحالياً لا تبدو ولا تلوح في أفق هذه الأمة الغائم والعاصف بالتحديات والمتغيرات الكبيرة أية إمكانية أو فرصة حقيقية للخروج من مأزقها الوجودي المقيم الذي تسببت به تلك البنية المترهلة، حيث أنه طالما هناك هزيمة داخلية للفرد العربي في داخل مجتمعاته وأوطانه، وطالما أنه فاقد للثقة بسياسييه وسياساته، وطالما أنه غير قادر على تحصيل معاشه اليومي بشكل طبيعي من دون ذل أو مهانة، وطالما لا يشعر بالحرية الحقيقة في التعبير عن رأيه وتقرير مصيره، وطالما أن تنميته الداخلية مقرونة –أولاً وأخيراً- بحل كامل للصراع مع إسرائيل، فإنه لن يكون هناك أي أمل واقعي في تحسن الأمور وتطور البلاد ونهضة العرب على الإطلاق.
ثم إنه وبعد صراع طويل مكلف مع إسرائيل لم يجد العرب من طريق لاسترجاع أرضهم المحتلة سوى طريق السلام مقابل الأرض (أو بعض الأرض مقابل السلام، ولا أدري لماذا لم يطرح العرب عودة باقي أراضيهم المحتلة الأخرى هنا وهناك؟!!) وطرحوا مبادرتهم الشهيرة بهذا الخصوص (السلام خيارنا الاستراتيجي-والسلام مقابل الأرض)، وذلك بعد حدوث جملة متغيرات استراتيجية إقليمية ودولية على الصعيد السياسي والاقتصادي، أثرت آنذاك على الموقف العربي من قضية فلسطين.
وهنا نفتح هلالين لنقول (بأن هذا الصراع سيبقى قائماً ولفترة زمنية طويلة، في موقعه الهام والمصيري، وسيأخذ أبعاداً وتطورات جديدة طالما أن منطق القسر والظلم هو المنطق السائد حالياً في معالجة كل مشاكل الساحة الراهنة المتعددة والمتفرعة من المشكلة الأم، وأعني بها مشكلة “الصراع العربي الإسرائيلي”).
ويجب ألا يغيب عن أذهان العرب أن مجتمعاتهم قد وصلت إلى أدنى حالات السوء من تخلف وفقر وأمية حضارية، وشارفت درجة الغليان من الإحباط والاحتقان الكلي الشامل نتيجة انعدام أملها ونفاذ صبرها في تحسن الأمور وتغير الأوضاع واليأس شبه الكامل من قصة هذا الصراع الطويل والمكلف مع إسرائيل، ودفعهم لفواتير وأثمان باهظة من دمهم وعرقهم وأموالهم ومواردهم وثرواتهم.. الأمر الذي يحتم على كل القوى والتيارات والنخب الحية الفاعلة في السلطة وفي المعارضة العربية –على حد سواء- أن لا يتناسوا أبداً حاجتهم الملحة لإعادة التوجه نحو داخل بلدانهم بما يسمح لهم بإعادة النظر في أسس تنظيماتهم السياسية والمدنية التي أصابها العطب في الصميم نتيجة لتاريخ طويل من تفشي الفساد والإفساد والقهر والتسلط والظلم في كل مواقعها وامتداداتها، فأصبحت تعاني من القصور والشلل وانعدام الفاعلية الحضارة.
وبالنتيجة نقول إن معادلة التعامل مع الآخر لا يمكن أن تكون منتجة وفاعلة ومؤثرة في عالم اليوم والغد إلا بتغيير مقدماتها الأساسية والتي تتمثل أساساً في تأمين شروط النهضة العربية المنشودة بما يؤدي إلى تغيير موازين القوى الداخلية، ويقود مباشرة إلى إحداث تغير (واختراق) نوعي كبير في الاستراتيجية  التي اعتمدتها النظم العربية في تعاملها مع الآخرين في مجمل ملفات الأزمات القائمة. والأولوية في تلك المعادلة هي لإصلاح وجودنا الهش المبعثر، وليس للمتاجرة بالعروبة وفلسطين في ساحات وبازارات السياسة الإقليمية والدولية. وأول إصلاح الوجود يكمن أساساً وجوهرياً في إصلاح السياسة والدولة كما ذكرنا، أي إعادة السياسة إلى حضن المجتمع، وأنسنة السياسة والدولة. بما يتطلبه ذلك من بناء للدولة العادلة القادرة، وتمكين الحريات للمواطن الحر..
وهذا ما يعني إعادة الاعتبار القوي للمجتمع في مشاركته الحقيقية في العملية التنموية الشاملة.. أي نزع القيود عن مشاركة الناس في الحركة الوطنية العامة، والتعاطي معهم كأفراد يحتاجون إلى الاحترام والتقدير والشعور بالحرية والثقة بالنفس.
ونحن نجزم هنا بأن مجتمعاتنا وشعوبنا العربية عموماً كانت تقف على الدوام في موقع التضحية والبذل والعطاء، وهي لا تزال مستعدة الآن وفي المستقبل أيضاً لتقديم المزيد من التضحيات والعطاءات في سبيل الخروج من نفق الانهيار الوطني العام، شرط أن تكون هناك نتائج حقيقية مضمونة لتضحياتها على صعيد العمل والإنتاج والتطوير والازدهار المجتمعي، خصوصاً إذا شعر –أبناء مجتمعاتنا- أن النوايا طيبة وصادقة، والعمل الجدي الصحيح يسير على طريق الحرية و الإصلاح والتغيير الحقيقي. وإلا فإن المصائر المجهولة تتهددنا، وسنواجه لا محالة واقع الإفلاس والهامشية الحضارية، ولن ينفع عندها الندم ولطم الصدور والبكاء على الأطلال!!..
© منبر الحرية، 18مايو 2009

نبيل علي صالح15 نوفمبر، 20100

كيف يمكن للمثقف والسياسي الأصولي بمختلف أشكاله وصوره المتناحرة والمتناقضة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين (والذي يؤمن إيماناً راسخاً بحتمياته ورواسخه الدينية أو القومية أو الماركسية) أن يتحدث عن الحريات والحقوق الفردية، ويطالب بتأسيس دولة القانون والمؤسسات، وهو لا يزال يعيش داخل دهاليز نضالاته الوهمية التي لا يفهمها إلا بلغته وأدواته القديمة البالية؟!.
ثم كيف يمكننا تصديق أقوال الداعية الأصولي الذي حمل السلاح في وجه أبناء المجتمع، ومارس الإقصاء الدموي ضد خيرة أبناء المجتمع، ومسؤولييه عن الديمقراطية، رافضاً حق جميع القوى والتيارات في تداول السلطة والحكم، وو…الخ؟!. وهو نفسه أقام وجوده الفكري والعملي على المطلقات التاريخية والعقائدية المقدسة التي تنفي –بمعظمها- الآخر من جذوره، وتستبعده كلياً من ساحة الحياة إلى حفرة القبر.
إنهما مشهدان يختصران مواقع الثقافة والسياسة في عالمنا العربي، ويقدمان صورة حية عن أيديولوجية الدمار والموت التي تتستر بالعقائد لتبرير عنفها ودمويتها وشبقها الأعمى للتعصب والقتل.
وهذا ما يلزمنا بضرورة تبني العقلانية في الفكر والوعي والممارسة. وأنه يجب على الكل مسامحة الكل إلا من ثبت تورطه في ممارسة القتل الرمزي والدموي بحق الناس والمجتمع)، لأن الكل (وهذه حقيقة صعبة وجارحة قد تصدم الكثيرين) متورط في ممارسة “الزنا السياسي والثقافي” –إذا صح التعبير- من ألفه إلى يائه.
ومن هنا ينبغي على هؤلاء جميعاً أن يقفوا أمام مجتمعاتهم كلها ليقروا ويعترفوا اعتراف المخطئ بكل الأعمال الظالمة والممارسات الشنيعة التي ارتكبوها بحق المجتمع والناس المستضعفين. ومن ثم يطلبوا الصفح والعفو الصريح والحقيقي من الشعوب التي عانت (ولا تزال تعاني) وتتحمل الكثير الكثير من نتائج عقم وسوء الاستراتيجيات وجملة الخيارات السياسية والتنموية والاقتصادية التي تبنتها ومارستها تلك النخب السياسية والفكرية.
ونحن عندما نتطلع إلى ضرورة أن يتقدم هؤلاء (من المثقفين والحكام) لطلب الغفران من الشعب، فإن ذلك لابد وأن يكون مبنياً على قواعد ومنظومات عمل جديدة في العمل السياسي والثقافي، تضمن عدم تكرار مثل تلك الممارسات والسياسات الخاطئة، وتمنع حدوثها مرة أخرى بضمانات الدولة المؤسساتية العادلة.
وإننا إذ نطالب بالسعي الجدي لتحقيق ذلك، فإننا لا نعتقد باستحالة حدوثه، ولا نطالب هؤلاء باجتراح المعجزات بالرغم من أنهم اجترحوا سابقاً معجزة وصولهم إلى دفة القيادة والحكم من دون أن تنتخبهم الجماهير بإرادتها الطوعية لا القسرية، الأمر الذي تسبب أساساً في إفشال كل خطط التنمية السياسة والاقتصادية العربية على مدار العقود الماضية، حيث أن الحكام الذين كانوا يأتون إلى السلطة كانوا يفتقدون على الدوام مفردة الشرعية الحقيقية، ولهذا كانوا عديمي الفاعلية والجدوى تقريباً في مجريات الأحداث، والتأثير في الواقع والشأن العام لمصلحة الناس عموماً.
ويبدو أن هذا التخلف الفكري والأيديولوجي المقيم عندنا –والمنطلق من خلال تعامل كثير من قياداتنا العربية مع شعاراتهم وقضاياهم ومع الواقع بعقليات طوطمية سحرية- هو الذي يملي عليهم نقصاً حاداً في الوعي تجاه مفهوم السلطة والحكم والحرية، وأساليب ممارسة الفكرة في الواقع.
فهم لا يزالون يؤمنون –بالرغم من ادعائهم الظاهري الإيمان بالعملية الديمقراطية- بأن عملية التغيير والتطوير (باتجاه قيم التعددية السياسية والفكرية، وفسح المجال الواسع أمام جماهير الأمة لتمارس حرياتها العامة، وتعبر عن آرائها في كل ما يتصل بمصائر عالمنا العربي) ستنطلق من فورها بقدرة قادر أو بسحر ساحر. أي بمجرد أن نصرح عن تلك القيم، أو نصدر صحيفة هنا، ونكتب مقالاً نقدياً هناك.
وتاريخنا المعاصر –الذي كتبت للأسف تلك النخب السياسية والفكرية الجزء الأكبر منه- مليء بكل ما يناقض ما كتبه أدعياء التغيير والتطور عن ضرورة التغيير، وضرورة الحرية والديمقراطية والتقدم.
من هنا نحن نعتقد بأن مشوار التغيير الحقيقي في مجتمعاتنا المتخلفة لا يزال طويلاً وهو لا يعني أن مجيء تيار ما إلى السلطة، يحمل أفكاراً معينة هو الحل، وهو المنقذ لهذا المجتمع الذي يرزح تحت أعباء التخلف والظلم السياسي والاجتماعي، بل إنه يعني أن مجيء بنية جديدة ونظام جديد وتصور جديد لمفهوم بنية الحكم والسلطة هو المنقذ لأشكال التأخر التي نعيشها (وربما يتعيش كثيرون عليها).
ويجب ألا ننسى هنا أن تراثنا السياسي فقير جداً في موضوع البنية التشريعية التي تتناول مفهوم السلطة. كما أن فكرنا الحضاري الإسلامي –الذي كانت له الريادة في مجالات العلوم الإنسانية (كالفلسفة، والاجتماع، والآداب، و..الخ)- يفتقر كثيراً للعلوم السياسية، ولا توجد فيه أية إنجازات تذكر على هذا الصعيد. الأمر الذي أثر سلباً على مستوى عدم إنضاج تجارب حقيقية لدى الأجيال اللاحقة فيما يخص عملية اجتراح بنية جديدة للسلطة، وإحداث التغييرات الكمية والنوعية الحقيقية في نواة الحكم.
ولذلك فإننا نعتقد –وننصح هؤلاء المثقفين والسياسيين ممن جربوا ودفعوا الأثمان الباهظة للنضالات القومية والماركسية والدينية الفاشلة من حاضر ومستقبل شعوبهم ومجتمعاتهم- أن الأمر الذي يمكن أن يُحدث تلك التغييرات الكمية والنوعية المطلوبة في طبيعة السلطة التي نبحث عنها، هو تقديم رؤى وأفكار جديدة لمفهوم السلطة والحكم، تتناول -في الأساس، وقبل أي شيء- شرعية السلطة، وامتدادها الاجتماعي، ورضى الناس الطوعي الحقيقي عنها.
فشرعية السلطة–أية سلطة- أهم بكثير من صبغتها ولونها وتركيبتها المعرفية، سواء كانت دينية أو ماركسية أو قومية أو حتى ليبرالية. وعلى الذين يريدون المساهمة الفاعلة في تطوير الواقع، وتغيير آليات العمل السياسية للمجتمع ككل، عليهم:
أولاً: عدم ممارسة دور القيمومة والوصاية الأبوية على معارفهم، والتخلي عن حراسة أفكارهم ومقولاتهم العاجزة عن مواجهة الواقع والتطورات السريعة والمتلاحقة فيه.
وثانياً: المصالحة الحقيقية العقلانية مع الذات بنقدها وتعرية نقائصها وسلبياتها، ووعي الواقع والحياة المعاصرة.
وثالثاً: الانكباب على إحداث التغييرات النوعية انطلاقاً من الواقع، وليس انطلاقاً من الأفكار المسبقة المعلبة والمتخشبة العاجزة عن قراءة ذاتها قبل قراءة الآخرين.. لأن العلة ليست في الواقع دائماً، أو في توجيه اللوم والاتهامات الاعتباطية للآخر، بل هي  –كما يؤكد علي حرب- في الأفكار المتحجرة والمفاهيم البائدة والنصوص المغلقة والقراءات الموقوتة والعقول القاصرة حيث أن هؤلاء يؤمنون بأن العلة في الواقع وليس في الفكرة والنظرية. ولذلك فهم يسعون دوماً –وهنا أصل الداء، وجذر العطالة- إلى محاولة كسر وتجيير الواقع ومطابقة وقائعه المتغيرة باستمرار مع مقولاتهم المتكلسة البائدة ومفاهيمهم العقيمة غير المنتجة، الأمر الذي سيؤدي –كما أدى سابقاً ويؤدي حالياً- إلى أن يصبح المثقف (وكذلك السياسي) ضحية أفكاره و(دونكيشوتاته) النضالية الفاشلة بحيث يظهر عملياً في الواقع، وهو يعمل ضد مبادئه وأهدافه المحملة بحمولات أيديولوجية شعاراتية ضخمة كلفته –وكلفت مجتمعه- كثيراً من الدماء والدموع. أي يظهر أمامنا حارس القيمة قاتلها، وفق مبدأ “حاميها حراميها”.
وعندما نبدأ جميعاً –كمثقفين وسياسيين- بالتحرك على طريق الإصلاح والتجديد الفكري والعقلي والديني، يمكن أن نصدق أفكارنا، ونصدق بعضنا البعض.. بعيداً عن النفاقية والتكاذب والتكاذب المضاد.
© منبر الحرية، 30 أبريل 2009

نبيل علي صالح11 نوفمبر، 20100

أغنياء زاهدون في الثروة وآخرون يتاجرون بتبرعاتهم للمحتاجين!!
نقل موقع الجزيرة نت خبراً مفاده أن كلاً من بل غيتس (مؤسس شركة مايكروسوفت العالمية المشهورة)، و وارن بافيت (الملياردير والمستثمر المعروف)، يتزعمان حملة لإقناع أثرياء آخرين (من أميركا على وجه الخصوص) بالتبرع بنصف ثرواتهم على الأقل لمؤسسات خيرية وعلمية تعنى بشؤون البحث العلمي الخاصة بأبحاث السرطان وغيره من الأمراض المستعصية، وأطلق غيتس وبافيت على حملتهما اسم “عهد العطاء”.
ويطلب الرجلان -اللذان تجمعهما الصداقة والأعمال الخيرية- من الأثرياء الآخرين التبرع خلال حياتهم، أو أن يوصوا بتنفيذ ذلك عند موتهم.
ويهدف بافيت إلى تقسيم أسهمه في المؤسسة بين خمس مؤسسات خيرية وعلمية، ويذهب النصيب الأكبر منها إلى مؤسسة غيتس الخيرية.
كما يعتزم التبرع بجزء من الأسهم لمؤسسة سوزان تومبسون بافيت التي أسسها مع زوجته الأولى المتوفاة، وإلى ثلاث مؤسسات أخرى يقوم على رعايتها أبناؤه الثلاثة. كما سيتبرع بأسهم بقيمة 8 مليارات دولار من نصيبه (لاحظوا الرقم!!) في شركته بيركشاير هاثاواي لأعمال خيرية أخرى لم يسمها.
وقام بل غيتس وزوجته ميلندا بتعهد مماثل عن طريق إنشاء مؤسستهما الخيرية في سياتل بولاية واشنطن.
ويطلب غيتس وبافيت من الأثرياء التعهد علنا بالتبرع بجزء من الثروة للأعمال الخيرية وكتابة ذلك في رسالة تشرح هذا التعهد.
ويوضح غيتس وبافيت أن التعهد هو عبارة عن التزام أخلاقي وأدبي وليس عقداً قانونياً. كما أنه لا يهدف إلى جمع الأموال أو دعم مجموعة معينة من القضايا أو المنظمات.
طبعاً نحن لا نريد من ذكر الخبر السابق والتعليق عليه في مقالنا هذا المقارنة بين أغنياء الدول الأخرى وبين أغنيائنا العرب من حيث حجم التبرعات وضخامة قيمتها، كما لا نهدف إلى التشهير بأغنيائنا (حماهم الله ورعاهم من كل سوء أو حسد)، أو لا سمح الله التهكم عليهم باعتبارهم من أصحاب الأطيان والملايين والمليارات من الدولارات وليس الليرات.. حيث أننا نعتقد بأن عدداً منهم يمول مشاريع خيرية لغايات إنسانية نبيلة، ويتبرع بعضهم الآخر بمقدار أو بآخر من أموالهم ومدخراتهم لصالح هذه الجمعية الخيرية أو تلك، أو يزكي نفقة جارية عن أمواله هنا وهناك.. أو ينشئ جمعيات خاصة لعلاج المرضى من ذوي الحاجة الماسة.. هؤلاء نحن لا نعنيهم ولا نتحدث عنهم، ولكن تعليقنا هنا يتركز على نوعية أخرى من الأغنياء ممن لا يحسنون التصرف بتبرعاتهم، حيث يمكن طرح أكثر من سؤال حول كيفية ومناخ ومعايير تبرع هذه الشريحة من الناس لجزء من أموالها، وعلى ماذا تصرف تلك الأموال، هل تصرف في محلها أم في غير محلها؟!!..
طبعاً ما نقوله هنا هو مجرد وجهة نظر قد تخطئ وقد تصيب، فالغني حر التصرف بأرزاقه وثرواته وأمواله المنقولة وغير المنقولة التي كسبها ويكسبها ويربحها من مشاريعه واستثماراته المتعددة والمتنوعة، وهو لا شك يساهم بشكل أو بآخر في نهضة البلد وفي بنائه وإعماره وتحضره، كما أنه حر أيضاً في إيجاد سبل وآليات ومواقع تبرعه بجزء من تلك الأموال التي تدخل إلى خزنته على أعمال الخير والبر والإحسان –أو غير ذلك- لدواع دينية أو إنسانية أو غيرها.
ولكن السؤال هنا: هو لماذا لا تصرف نسب من أموال التبرع عندنا لغايات التطوير والبحث والتنمية الإنسانية أسوة أو اقتداءً أو حتى تقليدياً –فما المانع- بما يجري ويحدث لدى جهات أخرى في بعض الدول التي ذكرناها في مطلع المقال؟!! ولماذا لا يتبرع الغني في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً مثلاً لغايات النهوض بواقع البحث العلمي والتقني البنيوي في جامعاتنا العربية التي تعاني من ضيق ذات اليد معنوياً ومادياً، وفق آليات وضوابط محددة من أجل المساهمة في نهضة بلدانهم ككل؟!!.. هل السبب أن الغني لا يثق بإمكانيات وخبرات بلده، ولا يقيم لهم وزناً باعتبارهم لم يحصلوا على شهاداتهم العلمية بصورة صحيحة؟!! أم أن السبب يعود –في جانب آخر- إلى أن رأسمالنا الخاص طفيلي غير منتج، وهو أيضاً –كما يقال ويحلل في الفكر الاقتصادي- رأسمال جبان غير مغامر يضع في حسبانه فقط القيام بالمشاريع المضمونة والسهلة والمربحة والقريبة زمنياً ذات الصلة بالاستهلاك والادخار والتراكم التقليدي الآني وليس المستقبلي التراكمي الصناعي؟!!
حقيقةً، ليس أجمل من أن يتبرع غني لمحتاج، فرداً كان أم جمعية، ولكن الأجمل أن يتبرع لمؤسسات تعنى بشؤون البحث العلمي.
وجميل أيضاً أن يدفع الغني فواتير نفقات طبابة لهذا الفرد أو تلك الجمعية الخيرية، ولكن الأجمل والضروري أكثر أن يقدم جزءاً من أمواله للمساهمة في تكوين بنية تحتية بحثية علمية قوية ومتينة في داخل بلده.. وأن توضع أسس ومحددات مؤسساتية مؤثرة ومنتجة تضبط هذا الجانب المهم والمصيري والحيوي، خاصةً وأننا نعلم أن نهضة كثير من الدول الكبرى المتقدمة في الشرق والغرب لم تبدأ ولم تجد طريقها على سكة النجاح والازدهار الحضاري العلمي والاجتماعي والاقتصادي إلا بعد مساهمة مؤسسات أصحاب الرساميل الخاصة الكبرى في عجلة تطور مجتمعاتها.
فهل يفعلها أغنياؤنا المحترمون في عالمنا العربي؟ وهل يجازفوا قليلاً –باعتبار أن البحث والتطوير العلمي نوع من المغامرة والمجازفة غير المحسوبة النتائج بنسبة كبيرة طبعاً- في دعم مراكز البحوث العلمية العديدة في بلادنا؟!! حيث أنه وبدلاً من أن يذهب بعض المختصين عندنا في البحث العلمي –إذا افترضنا وجودهم عندنا أصلاً- إلى الخارج للدراسة والبحث والتطوير العلمي في جامعات الدول الغربية، فليبقى قسم منهم في داخل البلد على مرأى ومسمع مؤسساتهم هنا بحيث يتم تأسيس بنية متينة لهذا الموضوع الحيوي والمصيري والمرتبط ببقاء الدول وتطورها وازدهارها.
‎© منبر الحرية،4 نونبر/تشرين الثاني 2010

نبيل علي صالح11 نوفمبر، 20100

لا شك أن لإيران موقعاً حيوياً واستراتيجياً في مجمل الخريطة الجغرافية والسياسية للمنطقة العربية والإقليمية المجاورة لها.. وهذا ما يدفعها باستمرار إلى محاولة لعب أدوار متعددة ومتنوعة ومتداخلة وأحياناً متناقضة (كما ظهر في تأييدها للأرمن على حساب شيعة أذربيجان) من حيث المحتوى والهدف والوسائل والأهمية في كل ما يتصل بسياسات وأحداث وتفاعلات المنطقة.. في وقت يتطلع جيران إيران إلى الأهمية الكبرى للأخذ بأسباب الحوار والتفاهم والتكامل بينهم وبين إيران، وخصوصاً منهم تلك الدول العربية المطلة على الخليج العربي.
أما في العصر الحاضر فقد تبوأت إيران هذا الموقع السياسي والديني المتقدم بعد اندلاع الثورة الإسلامية واستلام التيار الإسلامي الشيعي دفة القيادة منذ العام 1979م، من خلال هذا الزخم المعنوي الهائل الذي حظيت به قيادة ونهج قائد الثورة أية الله الخميني، والتفاف الشعوب الإيرانية حوله (على اختلاف مذاهبها واعتقاداتها وتنوعها الحضاري والأقوامي).
وقد حاولت الدول والقوى الكبرى بعد ذلك احتواء وإشغال تلك الثورة الفتية بحرب عبثية طويلة الأمد، ولكن إيران تمكنت في النهاية من الالتفاف على الظروف الدولية المحيطة لتحقق مستوى مهماً من الاستقرار والنمو والانفتاح السياسي عبر بناء شبكة علاقات خارجية وحياة سياسية واقتصادية مقبولة.

نبيل علي صالح10 نوفمبر، 20100

درج استخدام مفهوم التنمية بصورة مكثفة منذ عدة عقود، ويقصد به –على نحو الإجمال لا التخصيص- رفع مستوى الدخل القومي بزيادة متوسط إنتاج الفرد من خلال تهيئة وبناء مختلف قطاعات الدولة لخدمة وإنجاز ذلك الهدف.
وبما أن الفرد السليم والمعافى هو الأساس في عملية البناء الوطني، وزيادة الدخل القومي للدول، فلا بد إذاً من البدء بتنمية قدرات وإمكانات هذا الفرد الذاتية والتوجه العلمي الصريح والواضح لتهيئته نفسياً وعقلانياً وعملياً (على مستوى العلم والمهارات التطبيقية).
وحتى تنمو مواهب الأفراد وتنمو مقدراتهم وقابلياتهم الذاتية، لابد من وجود مناخ اجتماعي وثقافي وسياسي مناسب يشكل حاضنة ملائمة لنمو وبروز واستثمار تلك الاستعدادات والقابليات الفردية، وهذا بدوره يحتم توفر فضاء سياسي قانوني دستوري يمارس الناس فيه حقوقهم في التعبير عن معتقداتهم وآرائهم وقناعاتهم السياسية والثقافية والمعتقدية بصورة صحية وسلمية تداولية، يكون فيها المشترك العام هو خدمة الناس والأفراد تحت سقف القانون والنظام العام الذي يتفق عليه كل أفراد المجتمع ضمن آليات ديمقراطية سلمية بعيداً عن توسل واستخدام أدوات العنف الرمزي والمادي.
وحتى يحدث في أي مجتمع نوع من التشارك والاندفاع الجماعي الحقيقي المؤثر في اتجاه خدمة عملية التنمية الهادفة إلى تطوير واقع الفرد والمجتمع على مستوى بناء أسس ومعايير اقتصادية صحيحة تساهم في زيادة الإنتاج والدخل الفردي والوطني، لابد من تعميم ثقافة التنمية بين جميع مكونات المجتمع، وعلى مختلف المستويات، بدءاً من أصحاب القرار، إلى مختلف البنى الاجتماعية والاقتصادية البشرية، حيث أن التنمية المنظمة والشاملة، التي تشارك فيها كل المؤسسات والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويساهم فيها الجميع طوعياً لا قسرياً هي الشرط اللازم الحقيقي للنهوض الذي لا يمكن أن يتحقق فجأة، وإنما عبر سلوك طريق طويل منظم من العمل والتعب والجهد والمثابرة والكدح والإيمان بأن الوطن لا يقوم إلا بمحبة كافة أبنائه له، وبمشاركتهم الفاعلة والمنتجة في العمل الميداني المسؤول.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن عملية التنمية باتت حالياً ثقافة عمومية ومسؤولية عامة، لا تختص بفئة أو شريحة معينة، كما أنها لم تعد حصراً وحكراً على نخب اقتصادية أو غير اقتصادية بذاتها، لأنه إذا كان مطلوباً رفع وزيادة دخل الفرد، فلابد من رفع إنتاجيته وفاعليته عبر توفير المناخ السياسي والاجتماعي الأنسب والأفضل لتبلور طاقاته ومواهبه كما ذكرنا، وهذا المناخ الصحي التداولي التشاركي هو الذي يمكن أن يسمح للفرد ذاته بالمشاركة المبدعة في عملية التنمية وعياً وثقافة وعملاً..
وفي اعتقادي أن أحد أهم أسباب الفشل الذريع الذي لحق بكل مشاريع التنمية في عالمنا العربي حتى الآن، يكمن في ابتعاد الفرد وتغييبه قسرياً –بالرغم من كونه أساس ولب وجوهر عملية التنمية- عن المشاركة الواعية والفاعلة في العملية التنموية الفردية والمجتمعية.
من هنا نعتقد بضرورة تهيئة الأجواء الثقافية والإعلامية والاجتماعية المناسبة لإطلاق المبادرات الجادة الهادفة إلى دفع الفرد باتجاه الانخراط الجدي والحقيقي في مختلف مشروعات التنمية، وذلك عبر التوجيه الصحيح الدائم، والاستمرارية في العمل الدؤوب والصادق. لأن الواقع العربي العام صعب ومعقد وينذر كوارث حتمية أكثر مما هو قائم حالياً على مستوى السياسة من خلال سيطرة الاستبداد ونزع ممارسة السياسة –وما ينتج عنها من حقوق وواجبات وحريات فردية وعامة مسؤولة- من المجتمع، وعلى مستوى الاقتصاد من خلال وجود ما يزيد على 140 مليون مواطن عربي يعيشون تحت خط الفقر المدقع، ارتفاع معدلات البطالة حيث تصل نسبة الشباب العاطل عن العمل إلى ما يزيد على 50% من السكان بالنسبة لمعظم الدول العربية مما يجعل معدل البطالة بين الشباب في الدول العربية الأعلى في العالم كله. وهنا يتمثل التحدي العربي الأكبر –كما تؤكده كل تقارير التنمية- في ضرورة توفير 51 مليون فرصة عمل جديدة خلال السنوات العشر القادمة أي بحلول عام 2020م.
© منبر الحرية،26 تموز/يوليو  2010

نبيل علي صالح10 نوفمبر، 20100

أجريت منذ حوالي عشر سنوات تحقيقاً صحفياً ميدانياً عن “البحث العلمي في سوريا-جامعة تشرين نموذجاً” لصالح صحيفة الثورة السورية التي نشرته في حينه مع ما تضمنه من أرقام وإحصائيات وشواهد وقرائن ولقاءات دلت بمجملها على الحالة المأساوية التي بلغها واقع العلم في مجتمعاتنا العربية، وحجم الخطورة الكبيرة لما يمكن تسميته تجاوزاً “بحث علمي عربي”.. ويومها طرحنا السؤال التالي باستنكار واستهجان شديدين: هل هناك بحث علمي حقيقي في بلداننا العربية؟!..
وقد عدت منذ فترة قصيرة -وعلى نطاق أوسع- لمتابعة واستكمال بعض الأسئلة والمضامين العملية التي طرحناها في سياق إعدادنا لهذا التحقيق، وذلك عندما اطلعت على بعض الأرقام والإحصائيات العربية والدولية التي تحدثت عن أنه ومن أصل حوالي 400 جامعة مرموقة ورفيعة المستوى ومعروفة دولياً لا يوجد اسم لأي جامعة عربية على الإطلاق في مقابل وجود أكثر من جامعة إسرائيلية ضمن التصنيف ذاته.. وهذا ما يجعلنا نستنتج بأن إسرائيل تقوم على العلم والمنطق البحثي العلمي، وليس على الجهل والتخلف، أي أنه ينطبق عليها وصف مجتمع المعرفة بامتياز، بقطع النظر عن توجهات أفرادها ومعتقداتهم المتعصبة وقناعاتهم الأسطورية ، وبصرف النظر عن سياساتها ضد العرب والمسلمين غير المبررة بأي منطق أخلاقي أو علمي أو إنساني..
ونعني هنا بمجتمع المعرفة امتلاك المقدرة الفكرية والعملية على استعمال واستثمار قيم العلم والمعرفة العلمية من أجل إدارة مختلف شؤون وموارد وطاقات المجتمع، واتخاذ القرارات السليمة والرشيدة لتنمية معارف ومهارات الأفراد كقاعدة لعملية التنمية الإنسانية الشاملة، وذلك بالاستفادة من منظومات وحقائق ونظريات العلم المتعددة، ومنها عملية إنتاج المعلومة لمعرفة خلفيات وأبعاد الأمور بمختلف أنواعها.
وقد دفعني ذلك كله إلى توسيع مضمون تحقيقي الصحفي السابق، ومحاولة التقصي عن طبيعة المعرفة البحثية العلمية العربية، وتقديم دراسة فكرية حول واقع البحث العلمي العربي..
ولا بد في البداية من الإشارة إلى أن موضوع مجتمع المعرفة والبحث العلمي ترتبط بالنسبة إلينا –كعالم عربي يقف أمام متغيرات وتحولات سياسية واقتصادية ومعرفية هائلة على بداية القرن الواحد والعشرين- ارتباطاً وثيقاً بتقديم رؤية إجمالية موضوعية عامة عن طبيعة الوضع العربي والدولي وظروفه ومستجداته المتعددة في الحقبة الراهنة التي أصبحنا نتعامل معها من منظور مصطلحات فكرية وعملية جديدة فرضت نفسها على واقعنا بقوة ومن دون استئذان.. الأمر الذي يلزمنا -كنخب مثقفة تبحث عن أيسر وأنجع السبل للبدء بتطبيق مشروع النهوض الفكري والعلمي في عالمنا العربي- بضرورة تحليل ودراسة الاستجابات وردود الأفعال “السياسية-المجتمعية” العربية المتحركة في سياق تكتيكات واستراتيجيات مختلفة تحاول بلورة مواقف وفتح إمكانات عملية متعددة للرد العملي المتوازن والمدروس على تلك المتغيرات والتحديات الخطيرة التي تثيرها تلك الأوضاع والمتغيرات, وذلك بهدف تأمين موقع آمن ومأمون، وبلورة دور فاعل للعرب في المعادلة الكونية والدولية المستجدة والسائدة في عالم اليوم، أو تلك التي يمكن أن تقوم في عالم الغد..
ومن الواضح هنا أننا عندما نتحدث عن قضية الاستجابة أو رد الفعل الجماعي تجاه متغيرات العصر, فإننا نقصد بها -تحديداً- حركية الفعل السياسي العملي.. أي مجموعة السياسات التطبيقية المختصة بإيجاد أنساق ومجالات عمل, وبلورة مواقف مجتمعية وتعزيزها وتطويرها من خلال خلق واستحداث آليات جديدة للعمل تؤمن إرادة جمعية عامة يمكن أن تعمل -في إطار تفعيل تلك الاستجابات- على تقدم المجتمع العربي نحو أهدافه وتطلعاته ومستلزمات وجوده الأساسية في الحياة.
من هذا المنطلق نجد ضرورة ملحة في ترسيم حدود حقيقية وواقعية للوضع العربي المستجد, ودراسة طبيعة التقلبات السائدة على الساحة العالمية كلها بعيداً طبعاً عن المجاملات والرغبويات والظنيات.. على اعتبار أن الانطلاق الفاعل نحو بناء المستقبل والتحكم ببعض مساراته مرهون -إلى حد كبير- بدراسة ظروف وملابسات الواقع الراهن السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وبالنظر إلى الحجم الهائل لهذا العمل الفكري، وتعدد عناوينه الثقافية والاجتماعية، وتنوع مواضيعه المعرفية ومساراته العملية، وسعة الأفكار والطروحات المتشعبة التي يمكن معالجتها في سياق طرح مفاهيمي ناقد حر يأخذ فقط بالرقم والقرينة والإحصائية ليبني عليها رأياً وموقفاً نقدياً, فإننا سنكتفي بدراسة الجانب العلمي التخصصي من هذه المسألة المعرفية الواسعة أي من زاوية (البحث العلمي والتقني العربي الحالي)، وذلك من خلال إجراء مراجعة بسيطة لبعض الأرقام والإحصائيات القائمة في بعض مؤسسات ومراكز البحث العلمي العربي التي يمكن أن تعطينا رؤية واقعية عن طبيعة هذا البحث السائد في بلداننا.. ومن ثم سنحاول تحليل تلك الأرقام، واستخلاص العبر والدروس من خلالها, على ضوء مستجداتنا المعاصرة.. لنصل في النهاية إلى التساؤلات الاستنتاجية التالية, ومحاولة الإجابة عليها وفق الإمكانات والمقدمات العملية المتاحة أمامنا.
ونبدأ بطرح الأسئلة المحورية التالية:
–    هل تتوافر لدينا الإمكانيات المادية والمعنوية الواسعة والقواعد العملية والمنهجية المحددة التي يمكن أن نرتكز عليها، ونتحرك على طريقها باتجاه بناء حاضر صاعد ومستقبل واعد.. قبل أن ندرس كيفية تشييد وبناء (هذا المستقبل) والإمساك بناصيته؟!..
–    ثم كيف يمكن أن تعمل أمة من الأمم على امتلاك المستقبل إذا لم تستطع أن تنهض بأعباء ومتطلبات الحاضر الذي يجب أن يشكل -بحد ذاته- قاعدة أساسية لبناء ذلك المستقبل؟!
–    وما هي الاستراتيجيات التي وضعتها أمتنا في لحظتها الراهنة -بما تحمله في داخلها من عوامل الضعف والتخلف والتبعية العلمية- لمواجهة تحديات قيام حاضرها قبل أن تبدأ بالسيطرة على مستقبلها؟!..
– استراتيجية العرب العلمية:
يظهر للمتأمل في واقع الفعل “السياسي-المجتمعي” العربي الراهن, أن ردود فعل الدول العربية عموماً على مخاطر وتحديات العصر المتنوعة والمتسعة والمتحولة, تتسم بالإخفاق والفشل في فهم وإدراك حجم التطورات السياسية والاجتماعية العالمية.. وهذا ما يتجلى بصورة أكبر في فقدان الشعور العملي بضرورة الإسراع في تأمين استجابة الهياكل الوطنية المحلية في عالمنا العربي للحجم الواسع لمجمل تلك التطورات التي قد تظهر في الحاضر أو في المستقبل.. ولا تعني هذه النتيجة (أو هذا الحكم شبه المعياري) أن الوطن العربي قد بقى خارج نطاق دائرة التأثر بتلك الأحداث الكونية الجسام، لكنه بدأ بالعمل, جدياً, على مستوى تطبيق سياسات جديدة في شتى ميادين العمل اليومي كله.. لكننا نجد أن معظم تلك السياسات -التي مثلتها مسيرة الإصلاح في معظم الدول العربية- مليئة بالتعثر والتخبط والتشتت, ولم تعط النتائج المطلوبة منها حتى الآن. فمثلاً على صعيد البحث العلمي والتقني (وهو موضوعنا الأساسي هنا) لاحظنا على الدوام –من خلال استقرائنا لمجموعة البيانات والاستبيانات المسجلة والمتوفرة حول هذا الموضوع- أن هناك أزمة علمية واضحة تظهر في غياب منظومة عربية متكاملة لنقل المعرفة والخبرات, واستغلالها في ميدان التنمية الفردية والاجتماعية وفي مجال التطوير التقني والتكنولوجي.
وعندما نراجع كل أدبيات العمل البحث العلمي العربي في الوقت الحاضر -الخاصة بدراسة مشاكل البحث العلمي وتحليل واقعه القائم حالياً- نلاحظ أن تلك الأدبيات تكاد تجمع في تقاريرها الخاصة والعامة على خمسة أمور أساسية، هي:
الأول: انخفاض عدد الباحثين العلميين الحقيقيين المشتغلين بالبحوث العلمية العربية بالمقارنة مع الدول المتقدمة ومع المعدل الوسطي العالمي نفسه.
الثاني: هشاشة وضعف البنية المؤسساتية والعلمية العربية بصورة عامة، وعدم قدرتها العملية على تحقيق أدنى معدلات الاستجابة الفاعلة والمؤثرة للتحديات التقنية الهائلة.
الثالث: ضعف المستويات الأكاديمية على صعيد قبول الطلاب في الجامعات, وضعف مستويات الترقية بالنسبة لأعضاء الهيئة التدريسية، وعدم موضوعيتها، وقلة المشاركة المنتجة في المؤتمرات الدولية من أجل الاستفادة وتبادل الخبرات والنتائج العلمية، وسرعة تطبيق الاستخلاصات والاستنتاجات والانتفاع بها.
الرابع: نقص مردودية الباحث العربي، وتخاذله عن البحث والعمل نظراً لقلة تعويضه وحافزه المادي والمعنوي، حيث أن الكثير من هؤلاء الباحثين –إن لم نقل كلهم- ينظرون إلى البحث العلمي من زاوية أنه فرصة لتحسين أحوالهم المعيشية وتأمين متطلباتهم الحياتية، وهذا من حقهم طبعاً، ولكن بشرط أن تكون لبحوثهم نتائج ميدانية عامة على صعيد خدمة مجتمعاتهم.
الخامس: سيطرة الشكليات والبيروقراطية، وانتشار الفساد في داخل الجسم العلمي العربي كنتيجة طبيعية للفساد العريض والشامل الذي يضرب أطنابه في داخل البنية السياسية والاقتصادية الحيوية لبلداننا العربية. ومن أبرز مظاهره الواضحة والصريحة هي في إيفاد كثير من الباحثين غير المؤهلين وممن لا تنطبق عليهم أدنى شروط الإيفاد العلمية إلى المؤتمرات والندوات وورشات العمل التي تنظمها كثير من الدول المتقدمة، ليس من أجل تقديم بحوث علمية جديدة، أو الاحتكاك بالتجارب العلمية الخارجية للاستفادة منها في الداخل، وإنما يكون الهدف من تلك الإيفادات الحصول على المخصصات المالية، والسياحة في بلدان جديدة على نفقة الدولة.
أرقام وإحصائيات:
قدر بعض الباحثين عدد العاملين في مؤسسات البحث العلمي العربية عام 1984 بـ(31118) باحثاً.. وإذا أضفنا إليهم عدد الباحثين من الجامعيين ويقدر عددهم بـ (10) بالمائة من عدد العاملين في سلك التعليم العالي, حصلنا على 81113 باحثاً وهو ما يعطي نسبة 2.7 باحث لكل عشرة آلاف من اليد العاملة. وهي نسبة ضئيلة إذا ما قوبلت بمثيلتها في الولايات المتحدة وهي 66% واليابان 58% وبريطانيا 36% وهي تمثل 44.6 عالماً لكل مليون نسمة من السكان.. ويبدو هذا الانخفاض في عدد الباحثين العلميين عندنا واضحاً إذا نظرنا إلى توزيع القوة البحثية العالمية.. فهي تتوزع على ميادين خمسة رئيسية: 36% للعلوم الطبية, 24% للعلوم الزراعية, 22% للعلوم الهندسية, 8% للاقتصاد والتجارة, ومن خلال هذه النسب نجد أن هناك غياباً كبيراً, ونقصاً واضحاً للعمل البحثي في ميادين العلوم الأخرى وبخاصة العلوم الاجتماعية والإنسانية (الأنثروبولوجية).
إننا نلاحظ في هذا المجال (فيما يتعلق بنوعية مؤسسات البحوث العلمية الموزعة في الجامعات العربية المختلفة) أنه على الرغم من المحاولات الجادة والخطوات الحثيثة التي قامت بها بعض البلدان العربية لدعم إنشاء وتوسيع وتطوير مراكز ومؤسسات التقنيات العلمية البحثية الحديثة, لا تزال تلك المؤسسات تعاني أشد المعاناة وتعصف بها الأزمات تلو الأزمات، وتواجه مشاكل وتعقيدات نظرية وتطبيقية كبيرة في شتى المواقع تتكدس بمجملها في وجه تقدم إنتاجيتها العلمية والاجتماعية, وتمنعها من الانطلاق المثمر والعمل المنتج والمؤثر على مستوى ضرورة وجود انعكاسات اجتماعية عملية للبحث العلمي تساهم بقوة في بناء المجتمع وتطوره وتقدمه نحو الأمام.
– معوقات البحث العلمي العربي:
بالنظر إلى ما تقدم من أرقام وتحليلات، نتساءل عن حجم تلك المشاكل والمعوقات التي تواجه مسيرة البحث العلمي العربي؟! وبالتالي ما هي مقومات ومستلزمات قيام بحث علمي عربي متكامل؟!..
في الواقع يمكننا أن نتحدث عن أهم تلك المشاكل والتحديات في النقاط التالية:
1-    غياب سياسة علمية واضحة ومتوازنة ومتسقة يمكن أن تنظم عملية البحث العلمي لتركز الأولويات، وتوجه الموارد, وتستثمر الطاقات والقدرات المتاحة والمتوافرة حسب سلم الأولويات الموضوع.. إذ انه لا يكفي أن تخصص الدول العربية جزءاً محدداً من موارد إنفاقها الأساسي (في ميزانياتها السنوية التي تضعها في نهاية كل عام عن العام الذي يليه) للقيام باستثمارات علمية في ميدان البحث العلمي فقط، ولكن لابد من دراسة ومعرفة أفضل الأساليب وأنجع الطرق للاستفادة من هذه الاستثمارات في شروطنا ومناخاتنا السياسية والاجتماعية السائدة بين ظهرانينا.. وطبعاً نحن يجب أن نبحث باستمرار, لكن ذلك مرتبط بسؤال أساسي وجوهري هو : لماذا نبحث, ولمن نبحث, وما هي أسس وركائز هذا البحث؟! ويبدو واضحاً أمامنا هنا أن السياسات العلمية لمعظم الدول العربية غير قادرة -في كثير من الأحيان- على إعطاء إجابات مقنعة على ذلك السؤال أو تحديد أهداف وغايات واضحة ومجدية للبحث العلمي بشكل عام, وفي مختلف المجالات والميادين.. كما أنها (تلك الدول) لا تزال شبه عاجزة –بالرغم من كل التقدم الحاصل في هذا الملف الخطير- عن تحديد أساليب ووسائل وآليات عمل مناسبة لبناء الأداة والقاعدة البشرية والصناعية لتحقيق تلك الأهداف والطموحات الكبيرة (وفي مقدمتها بناء مستقبل وجيل علمي عربي قادر على تلبية احتياجات وجوده الحيوي، والإيفاء بمتطلبات الحياة المتسارعة والمتطورة).. لذلك من الطبيعي جداً -والحال هذه- أن يسود الوسط البحثي العلمي العربي جو انعدام الوزن والتخبط والفوضى, والتردد, والافتقار للتراكم والتقدم والتطور والوعي.
2-    ضحالة الموارد ونقص الإمكانيات المخصصة للقيام بالبحوث العلمية.. حيث تشير آخر الأرقام والإحصاءات المتوافرة في هذا المجال إلى أن حجم الإنفاق العربي العام على بحوث التطوير العلمي والتقني قد بلغ عام 1992 (800) مليون دولار, وهذا المبلغ لا يزيد على 0.016 من الناتج القومي الإجمالي, وهو أدنى المعدلات في العالم الثالث كله. وتبلغ هذه النسبة حوالي 1.05% في البلدان النامية عموماً و3.4% في البلدان التابعة لبعض المنظمات العالمية.. أما الولايات المتحدة, وبحسب تقرير المؤتمر القومي السابع, فإنها تخصص أكثر من 225 مليار دولار للبحث والتطوير.. أي نحو 300 ضعف ما تخصصه البلدان العربية مجتمعة على أساس نصيب الفرد الواحد. كما وتخصص إسرائيل ما مجموعه 6 مليارات دولار للبحث العلمي سنوياً في جامعاتها ومراكز بحوثها العلمية.
3-    وهن (و ضعف) استراتيجيات التحديث العربية, وعدم توازنها وعدم فاعليتها واتساقها.. لأن الأصل في التحديث والتطور العلمي أو الحداثة العلمية هو في بناء استراتيجية حقيقية ناجحة تعظم من الاستثمارات العلمية المفيدة في كل ميدان: (تكوين رأس المال الاقتصادي والعلمي والتقني والفكري والروحي والاجتماعي، وتحرير الشعوب والجماعات والأمة من الخوف والاستلاب والجمود والامعية والاقتداء والاستزلام والمحسوبية والشعور بالضعف والنقص والدونية).. وهذا الأمر يتناقض تماماً مع الواقع القائم في المجتمعات العربية حالياً.
ولا يخفى أن نشير هنا إلى أن سيطرة هذا المناخ السلبي المناقض لبديهيات شروط نمو ونشوء البحث العلمي, قد أدى -وسيؤدي في المستقبل أيضاً- إلى هدر وخسارة مبالغ طائلة وإساءة استخدام واستثمار الأموال العربية التي ازدادت في الآونة الأخيرة نتيجة زيادة أسعار النفط ووصوله إلى حدود قياسية.. فقد قدرت دراسة حجم الإنفاق المالي على الخدمات الاستشارية التي قدمتها المكاتب والشركات الأجنبية للدول العربية بنحو 23 مليار دولار في عام واحد هو 1979.. (راجع تقرير لجنة استراتيجية تطوير العلوم والثقافة في الوطن العربي) (ص 129-130)، وقد ازدادت هذه النسبة أخيراً بشكل كبير ملفت نتيجة الاعتماد الكلي على التقنيات والبحوث العلمية المستوردة من الدول الأخرى.
4-    انعدام الحريات الأكاديمية والفكرية العامة في المجتمعات العربية, وعدم توفر المناخ السياسي الملائم للإبداع والحداثة العلمية والاقتصادية بإطلاق حريات الأفراد وتوفير إمكانيات المشاركة الفعلية أمامهم سواء من النخب العلمية أو من مختلف قطاعات الشعب الأخرى, لان ملاحم التقدم والازدهار العلمي والتقدم التقني وامتلاك المستقبل ترتبط حلقاتها وتتسع -في كل التاريخ البشري- لجهود الجميع في مناخ من المساواة والحرية والعدل والأمان الجماعي والحس الوطني الواعي والهادف.
5-    عدم وجود سياسات تربوية علمية فعالة وناجحة تقوم بتنشئة الأجيال على مقدمات ومعطيات البحث والتدقيق والاهتمام.. لأن نشوء وقيام وازدهار بحث علمي حقيقي في مستقبل الأمة -أية أمة- مرتبط أشد الارتباط بطبيعة التنشئة الاجتماعية لأجيال تلك الأمة. وفي هذا الإطار يجب أن تؤدي الأسرة دوراً فاعلاً في تنشيط الطاقات الإبداعية والإنتاجية لدى أبنائها وتوجيهها الوجهة العلمية السليمة على صعيد الاهتمام الجدي المسؤول بروحية العلم والبحث العلمي ودوره الهام في الحياة الإنسانية. ولكن أين نحن من هذا الهدف الكبير طالما أن الأسر عندنا مهمومة ومشغولة بتأمين أدنى متطلبات وجودها الآدمي (من مأكل ومشرب وملبس ومسكن).
6-    ضعف وتفكك المجتمع العلمي والتقني العربي وفي أحيان كثيرة عزلته عن النشاط الوطني العام, وضعف مراكز المعلومات وخدمات التوثيق والمكتبات, وعدم توافر المناخ الملائم للعمل البحثي, وانتشار البيروقراطية, وقلة الحوافز المادية, والتبعية العلمية والتقنية للخارج, وضعف البنيات الأساسية للحراك الاجتماعي والاقتصادي العربي الذي يفترض أن يشكل -من حيث المبدأ- القاعدة الصلبة لقيام البحوث العلمية.
وهذا الواقع السيئ والمأساوي سيفضي لا محالة إلى استنكاف الباحثين عن العمل وبالتالي حدوث نقص كبير في الإنتاج العملي من حيث المردود النوعي والكمي معاًُ, حيث نلاحظ -في هذا المجال- أن إنتاج العلماء العرب يقف عند حد 0.4 بحث في العام.. أما فيما يتعلق بالإنتاجية العربية مقارنة مع الكيان الصهيوني (التي تبلغ ميزانية البحث العلمي لديها حوالي 6.5 مليار دولار سنوياً) والدول المتقدمة الأخرى, لا يزيد الناتج العربي على 0.9 بالمائة من الناتج الإسرائيلي، وأقل من ذلك -بالتأكيد- بالنسبة للدول المتقدمة الأخرى.
وتشير إحصائيات اليونيسكو إلى توفر حوالي تسعة  آلاف عالم وفني في ميدان البحوث والإنماء في الوطن العربي في عام 1973, وكان على هؤلاء أن ينشروا -إذا استخدمنا المقاييس الدولية للأداء- ما بين 4000 و8000 بحث سنوياً, بينما لم ينشر الباحثون العرب إلا 847 بحث أي بمعدل إنتاجية أقل من 10% من المعدل الدولي.. وهذا يعني أن هناك حاجة لعشرة باحثين عرباً في المتوسط لإنتاج ما ينتجه باحث واحد في المتوسط الدولي.
وبالنظر إلى ذلك فإننا نؤكد أن هناك هوة واسعة –تتزايد يوماً بعد يوم، حيث الآخر يتقدم بسرعة، ونحن نراوح مكاننا أو نتقدم أحياناً ببطء شديد- بين العمل الجدي الحقيقي المنتج والمطلوب وبين ما هو منتظر من الإمكانات والمواهب البشرية العاملة في ميدان البحث والتطوير من العلماء والأكاديميين الباحثين في المؤسسات العلمية العربية.
ولذلك إذا أرادت مجتمعاتنا العربية –والقيمين عليها من القادة والنخب- أن تفتح مسارات وطرقاً واسعة لها باتجاه امتلاك زمام المبادرة الحضارية في المستقبل        -وبالتالي المساهمة الفعالة في بناء وتطوير الحضارة الإنسانية- فعلى نخبها وقياداتها (من مفكرين وسياسيين وعلماء دين) أن تعيد الاعتبار مباشرةً للعمل المؤسساتي, ولدولة القانون والعدل.. دولة الموازنات والخطط التنموية الشاملة التي ترعى -بصدق ومسؤولية- العلم والعلماء، وتتيح عملية المشاركة في صنع القرار، وتقوم بتنمية الثروة بالإدارة العلمية الكفية, وتجعل من العلم والبحث العلمي المبدع رافعة للدولة والمجتمع على أساس أولوية العلم على المال، والوعي على تكديس المال والثروة, وذلك باعتبار أن هناك طاقة وقيمة حضارية مختزنة في ذات العلم تضع المال والثروة في خدمة هذا العلم الذي يخطط بطاقته, ثروة ومال الأمة.
إن التحديات والأخطار القائمة حالياً كبيرة جداً, وهي ستزداد في مقبل الأيام، ولا سبيل إلى فهمها ومواجهتها –الآن وفي المستقبل- إلا بانتهاج طريق العلم والمعرفة العلمية المتوازنة التي يجب أن تدفعنا جميعاً -بحكم ضعفنا وانهيار مناعتنا الذاتية- إلى إعطاء القيمة الكبرى للعلم والبحث العلمي، وما يستحقه من عناية واهتمام، وبناء الإدارة العلمية الأخلاقية، وابتكار أساليب جديدة لتنشئة الأجيال العربية على عشق العلم الهادف، وتنمية حس المبادأة، وروح المبادرة والبحث والتنقيب والسؤال لديها.
إننا نعتقد أن البحث العلمي العربي المنشود هو أحد العناوين المشرقة التي يمكن أن تمنحنا -من خلال تفعيل أدائها ودعمها وفتح المجالات أمام خبراتها للانطلاق والمساهمة في بناء الإنسان وتنمية المجتمع- القدرة على المضي قدماً في عملية النهوض الحضاري لعالمنا العربي، وامتلاك المستقبل بالارتكاز إلى رؤية حضارية علمية تعتمد على إعادة النظر في تنظيم آليات الانبعاث, وأنماط الإيقاظ المستمرة لفكر الإنسان العربي, وتعميق إدراكه ووعيه بطبيعة التغيرات الكبيرة الحاصلة في العالم, وتهيئته لها نفسياً ومادياً, وهذا الأمر يتطلب التركيز الدائم على إجراء البحوث الاجتماعية الإنسانية نفسها, لأنها القادرة على كشف ذات الإنسان ومحتواه الداخلي وفهم تشكيلاته وأبنيته الاجتماعية, وبالتالي تربية الأجيال الشابة وإعدادها للمستقبل من خلال توفير مناهج علمية (تربط العلم بالأخلاق الإنسانية) وتأمين وسائل علمية متطورة.
والأمة التي تريد أن تنتج أو تبدع شيئاً جديداً أو تضيف عناصر جديدة مفيدة للحياة والإنسان، هي الأمة التي تحترم شعبها وجماهيرها وتقدر كفاءاتهم ومواهبهم وإبداعاتهم الفكرية والعلمية.. إنها الأمة التي تعي حقيقة مقدراتها وثرواتها الطبيعية والبشرية، وتقوم بتوجيهها الوجهة الصحيحة على صعيد العمل والممارسة الإبداعية وربط الأهداف بالنتائج المثمرة، وبما يخدم تطلعاتها وأهدافها العالية والطموحة في قيام الإنسان الذي هو أساس الحياة ومنطلق الوجود.
إنني أرى أن مستقبلنا هو رهن لفعلنا وعملنا في الحاضر.. إنه ثمرة أعمالنا وحصاد ما نزرعه في لحظتنا الراهنة التي يجب أن نعمل فيها على تغيير أوضاعنا من الداخل، وتحسين مواقعنا ومضاعفة جهودنا, وفهم دورنا في العالم, وتكثيف مساهمتنا في المسيرة الإنسانية العالمية, وانفتاحنا على الآخرين بوعي وثقة ليكون لنا موقع ودور في الحضارة الحديثة وذلك من خلال ضرورة الوقوف المتأمل أمام الثوابت الفكرية والمعرفية للأمة والاهتمام النقدي الصحيح بنسيجها وبنيانها التاريخي الحيوي.
ومن خلال ذلك يمكن أن تحدث عندنا يقظة حضارية أو انبعاث حضاري عربي حقيقي مثمر قد نمتلك عبره بعض معالم السيطرة على المستقبل. ولاشك أن ذلك يمر في طريق ممارسة النقد والمراجعة لكثير من حساباتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية كما ذكرنا, بحيث يؤهلنا -هذا النهوض أو الانبعاث الحضاري المستقبلي- أن نكون (كأمة تملك موارد ومواهب وطاقات وافرة) معادلة متوازنة ومتكاملة في وجودها مع المعادلات الأخرى.. ولاشك أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو تغيير ما بالنفس كأساس لتغيير ما بالواقع.
© منبر الحرية، 13 دجنبر/كانون الأول2009

نبيل علي صالح10 نوفمبر، 20100

لا أتصور أن الإشارة إلى حالة اهتراء واضحة في واقعنا، أو توصيف حالة سلبية قائمة في أي مكان أو زاوية من مواقع حياتنا بالأمر الصعب، ليس فقط بسبب كثرة السلبيات والمشاكل والتحديات المثارة هنا وهناك، وإنما أيضاً بسبب استمرار واستدامة وجودها، وعدم وجود إرادة حقيقية وسعي جدي حثيث لدى المسؤولين وأصحاب القرار وصناع السياسات العرب لتداركها ومحاولة احتواء نتائجها وتداعياتها ومخاطرها المستقبلية على أكثر من صعيد، ولذلك من الطبيعي جداً أن يعاد تسليط الضوء النقدي عليها بشكل وبآخر وبين الفينة والأخرى..
مناسبة هذا الحديث هو خبر تناقلته وكالات الأنباء حول إعلان جوائز نوبل للفيزياء والكيمياء الحيوية و الاقتصاد و غيرها ، والتي كانت نتائجها –كما درجت العادة- تصب في خانة وصالح الباحثين والعلماء والجامعات الغربية عموماً في كل من أمريكا وأوروبا..
والسؤال النقدي المطروح هنا، الذي قد يظنه البعض نوعاً من الجلد غير المبرر للذات الجماعية: لماذا هذا الغياب العربي الكامل عن المواقع العلمية الدولية؟!.. وأين يكمن جذر العطالة في تراجعنا وانكفائنا عن سيرورة التحولات البحثية العلمية الدولية؟.. هل السبب ثقافي عميق أم سياسي طارئ؟! أما أن السبب يكمن في سيطرة الثقافة المتعصبة على عقول أفرادنا ومجتمعاتنا ودفعها لهم باتجاه تبني خيارات أقصوية حادة فكراً وممارسةً؟!
إنها أسئلة إشكالية كبيرة تمس صلب معاناتنا ومشاكلنا اليومية العربية، وينبغي على الدوام إعادة طرحها والتأكيد عليها، ومحاولة تقصي جذورها الفكرية والميدانية، واستخلاص العبر والدروس.. ليس بسبب عدم حصول أسماء عربية (نشأةً وتعليماً) على أية جائزة دولية خاصة بالبحث العلمي من نوبل ومن غير نوبل (ونحن لا نعيش عقدة نوبل ولا عقدة غير نوبل، حيث سبق للعاِلم العربي أحمد زويل الذي دَرَسَ ودرّس في جامعات أمريكا منذ الستينات أن حاز على هذه الجائزة عن جدارة واستحقاق)، وإنما خطورة السؤال تنطلق من عدم وجود أجواء علم وبحث علمي صحيح في عالمنا العربي المثقل بالانكسارات والهزائم، ومن عدم وجود قاعدة بحثية أو تقاليد علمية عربية صلبة ومتماسكة حتى الآن، ومن عدم وجود تنسيق عربي علمي فعال حتى الآن، ومن عدم وجود إرادة علمية عربية جدية حتى الآن، ومن عدم وجود استراتيجية علمية عربية واضحة المعالم حتى الآن، ومن هشاشة وضعف البنية المؤسساتية والعلمية العربية، وعدم قدرتها العملية على تحقيق أدنى معدلات الاستجابة الفاعلة والمؤثرة للتحديات التقنية الهائلة، ومن نقص مردودية الباحث العربي، وتخاذله عن البحث والعمل العلمي الدقيق، نظراً لقلة تعويضه وحافزه المادي والمعنوي، وقلة المشاركة المنتجة في المؤتمرات الدولية من أجل الاستفادة وتبادل الخبرات والنتائج العلمية، وسرعة تطبيق الاستخلاصات والانتفاع بها.
فالكل عندنا –في عالمنا العربي، للأسف- يستهلك وقته في السياسة العربية الرثة والمتخلفة والبدائية بتياراتها وشجونها وتعقيداتها وإشكالاتها وتقلباتها وحرتقاتها التي لا تنتهي، وأما الآخر (غير العربي)  فتراه يفكر ويعمل ويتحرك وينطلق ويؤسس ويبني ويحقق نتائج ميدانية مفيدة ملموسة (سياسية وغير سياسية) تزيد من قدرة البشرية على تطوير وجودها النوعي العملي في هذه الحياة، حياة اليوم وحياة الغد.
من هنا اعتقادنا بأن ضخامة تلك السلبيات القائمة والمفضية إلى تدني الحالة العلمية العربية عموماً، بالرغم من وجود نتائج طيبة على أكثر من صعيد تظهر فقط عندما يذهب الباحث العربي ليدرس ويبحث في الجامعات الغربية، ليحقق حضوراً قوياً منتجاً.. أقول إن كثرة تلك السلبيات التي نحاول تناولها من زاوية النقد، والإشارة المباشرة إلى حجم الأخطاء التي يمكن أن تنتج عنها وتتفشى من خلالها في غير موقع من حياتنا الاجتماعية والعملية والفكرية، ينبغي ألا يجعلنا ندخل في دائرة الإحباط واليأس، بل من المهم دائماً لفت النظر إليها والتأكيد على أنه ليس لنا من غاية من طرحها سوى إظهار مدى خطورتها المستقبلية على حياتنا، والمساهمة –مع من هم في سدة القرار والمسؤولية العملية- في إيجاد حلول عملية واقعية لها.. فالتبرير ليس من شيمنا، كما أن جلد الذات ليس من أهدافنا.
© منبر الحرية، 28 أكتوبر/تشرين الأول2009

نبيل علي صالح10 نوفمبر، 20100

لا شك بأن لظاهرة الفساد المتفشية على نطاق واسع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أسباباً موضوعية ضاربة الجذور في داخل بنيتها الثقافية والتاريخية. حيث لعبت “الثقافة المخفية” –كمؤسسة غير شكلية- دوراً بارزاً على صعيد تكريس معادلات وأنظمة تفكير وسلوكيات عمل مهدت الطريق أمام نمو مارد الفساد في تلك المجتمعات. وقد كانت لمؤسسات الحكم العربية المتلاحقة الدور الحيوي المكمل لدور الثقافة المخفية في زيادة مساحة الفساد والمفسدين من خلال تبنيها لمختلف المناخات والأجواء الفكرية والاجتماعية القديمة التي تدعو (وتمارس) ثقافة الفساد كآلية شبه (قانونية!) تريد من خلالها الحفاظ على التوازنات التقليدية المسيطرة في المجتمع، بما يسمح لها (لمؤسسة الحكم العربية) الإبقاء الدائم على وجودها على رأس سلطة الحكم بما لا يزعزع بنيانها، ولا يؤثر سلباً على امتيازاتها.
وبالنتيجة فقد أدت السياسات الفوقية القسرية التي طبقتها تلك المؤسسة (ممثلة بالنخب السياسية الحاكمة) –وعلى مدى زمني طويل نسبياً- إلى توسيع رقعة الفساد، خصوصاً مع تصاعد سياسات الانفتاح الاقتصادي، وفتح الأسواق المحلية أمام الرساميل الأجنبية الذي التزمت به تلك النخب تحت شعار ظاهري هو تنمية مجتمعاتها وتطوير بلدانها في ظل هيمنة كاملة لمؤسسات إدارية وسياسية مترهلة وفاسدة وغير مهيكلة اقتصادياً بما يتناسب مع ضرورات التحفيز الاقتصادي وعوامل الجذب الاستثماري.

نبيل علي صالح10 نوفمبر، 20100

إزاء المخاطر والتحديات المحدقة لا بد لدول الخليج من الاستجابة الفاعلة والتكيف الإيجابي مع هذه الأوضاع والمتغيرات الاقتصادية، ولا غنى لها عن تعديل مجمل الهياكل الاقتصادية القائمة في داخلها، بما يؤهلها لاتخاذ الإجراءات والسياسات الاقتصادية اللازمة لمواكبة المنافسة المنتظرة.
كما أنه وفي ظل ارتفاع أسعار النفط وتراكم الوفورات النفطية في الخزائن والبنوك والتي جعلت دول الخليج في وضع اقتصادي واجتماعي مريح عموماً (بالرغم من الهبوط الحاد لأسعار النفط منذ نهاية صيف 2008) فإن الخيار الوحيد أمام هذه الدول للتعامل مع مجمل الاتفاقيات الاقتصادية الدولية (كاتفاقية الجات ومنظمة التجارة العالمية ومختلف التكتلات الاقتصادية القائمة بين الدول والتي تعتمد على الجودة والإدارة ومنافسة الابتكار والتميز الصناعي) هو في وجود تكتل اقتصادي خليجي قوي وفعال كبداية لتكتل اقتصادي عربي موسع مشابه للتكتلات القائمة. ولكن السؤال المطروح هنا: هل أن وجود ثروة مادية كبيرة بيد الخليجيين كافٍ لإيجاد تنمية اقتصادية حقيقية في بلدانهم، بما يفضي إلى رفع مستويات المعيشة، وتحسين ظروف الحياة، وبحيث يدفعها ويوفر لها الإمكانية الفعلية لتعزيز القدرة على القيام بتكتل اقتصادي فيما بينها لاحقاً؟!
إن الإجابة العملية على هذا التساؤل تبرز الأهمية المعقودة على مجلس التعاون الخليجي لاتخاذ مزيد من الخطوات العملية السائرة نحو تحقيق التكامل الاقتصادي الخليجي.
ولعل من بديهيات هذا التكامل الاقتصادي المنشود بين دول الخليج هو في البدء بتطبيق عدة أمور:
الأول: تفعيل الواقع الاقتصادي وتحريره في داخل كل دولة من الدول الخليجية من القيود الداخلية السياسية والاقتصادية. وهذا يتطلب رفع كفاءة البشر في تلك البلدان حيث لا تزال الأنظمة التعليمية عاجزة عن توفير عمالة وطنية متمكنة من تحمل مسؤوليات الاقتصادات الوطنية. وهنا تؤكد المعلومات الإحصائية أن بلدان الخليج لا تزال فقيرة في مواردها البشرية، وفي الوقت ذاته يتم توظيف كثير من هذه الموارد على أسس غير رشيدة وغير محسوبة العواقب، وبداعي التنفيع والكسب الخاص، وليس بهدف بناء الخبرة المهنية، واكتساب المهارات النوعية، والتميز في الأداء الاقتصادي.
إضافةً إلى ذلك –وقبل ذلك- يجب الاهتمام الكافي بالجانب النظري التعليمي الخاص بتنشئة الأجيال وأسلوب تربيتها وتدريبها، على مستوى معالجة نظم التدريب من أجل تحسين مخرجات التعليم، وهذا يتطلب:
–    توفير المباني التعليمية المجهزة والمهيأة بشكل مناسب للعملية التعليمية.
–    تحسين المستويات العلمية والخبرات العملية للهيئات التدريسية.
–    استخدام مناهج علمية متطورة حديثة.
–    الابتعاد عن الأسلوب التلقيني في التعليم، والتركيز على الأسلوب التحليلي القائم على تحريض الطاقات وتحفيز المواهب والقدرات الذاتية للفرد، تفكيكاً وتحليلاً واستنتاجاً.
–    اعتماد كل الوسائل والأدوات التعليمية العصرية التي تعزز كفاءة الأفراد، وتعظيم مبادراتهم الذاتية، وصقل تجاربهم العملية.
الثاني: زيادة حجم المشاريع المشتركة بين تلك الدول (وضرورة السعي إلى توسيع رقعتها الجغرافية والمادية، بما يخلق قاعدة مادية عريضة لقيام وتطور الأشكال الأخرى للتعاون). حيث تمثل المشروعات المشتركة صيغة تنسيقية في المجال الإنتاجي لزيادة الاعتمادات المتبادلة بين اقتصاديات دول المجلس التعاون، مما يخلق حاجة موضوعية للتنسيق والتكامل فيما بينها. كما أن تلك الاعتمادات سوف تقلص من حجم انكشاف الاقتصاديات الخليجية على العالم الخارجي، وبالتالي سيكون ذلك تقليصاً للآثار السلبية لهذه الظاهرة مثل تقلبات أسعار الواردات والصرف ومعدلات التضخم.
الثالث: زيادة وتطوير الطاقة الإنتاجية كماً ونوعاً في البلدان الخليجية بما يجعلها مؤهلة لتلبية متطلبات السوق الأكبر من السوق المحلية (من مختلف السلع والمنتجات والبضائع)، ولكي يصار لاحقاً إلى البدء بتحرير التبادل التجاري بينهم.
الرابع: فسح المجال للتحرك والانتقال السلس والحر لعناصر الإنتاج، والاستثمار بين دول مجلس التعاون الخليجي. خصوصاً عندما توجد مجموعة مشاريع مشتركة بين تلك الدول، مما يقتضي زيادةً في التنسيق الصناعي والإنتاجي والاستثماري.
الخامس: تنسيق الخطط التنموية بين دول الخليج العربي في سياق رغبتها الملحّة بتحقيق التكامل الاقتصادي أو (على الأقل) في سياق
توجهها نحو التوحيد الاقتصادي والتوافق على السياسات الاقتصادية المتعددة والمتنوعة.
السادس: إذا كان الهدف هو الاستفادة من الأموال المتاحة لدى الحكومات والأفراد والمؤسسات الخاصة من أجل تنويع القاعدة الاقتصادية، فإنه من المفروض أن تسهل عملية الاستثمار، ويوضع حد للعراقيل التي تحول دون التملك في الأصول في بعض القطاعات والأنشطة لغير المواطنين المحليين.
السابع: إنّ التنسيق الاقتصادي بين دول مجلس التعاون الخليجي ينبغي أن يتم بالتوازي مع التنسيق السياسي والتنسيق العسكري فيما بينها، كما عبر عن ذلك الشيخ زايد، ولا يمكن لهذا التكامل الاقتصادي أن يتحقق من دون وجود أمن واستقرار حقيقي.. أي أن التنسيق والتكامل الاقتصادي يحتاج إلى حماية أمنية، كما أنها تشكل -في الوقت نفسه- دعماً كبيراً للخطط الأمنية، ويشكلان معها حلقات مترابطة تهدف في النهاية إلى تحقيق الرخاء والخير للمواطن في هذه المنطقة.
الثامن: البدء بتطبيق تداول العملة الخليجية الموحدة (نظرياً حدد الموعد في العام 2010).
وأخيراً فإننا نؤكد على أن ضرورات التنمية والاستجابة لمتطلبات التكتلات الاقتصادية الكبيرة والمتزايدة في هذا العالم (من التجمع الأوروبي الاقتصادي المشترك:EEC- إلى رابطة الدول الآسيوية المعروفة بمجموعة الآسيان- إلى التكتل الأمريكي الشمالي بين كل من الولايات المتحدة والمكسيك وكندا: NAFTA، وغيرها من الكتل الاقتصادية الإقليمية في أنحاء متفرقة من العالم)، إن ذلك كله يقتضي تفعيل وإغناء تجربة مجلس التعاون الخليجي، بما يساهم في إنجاز الأهداف والتطلعات الاقتصادية لشعوب المنطقة. وهذا يتطلب بدوره إعادة قراءة جديدة ومراجعة نقدية جادة لكل المرحلة السابقة من تجربة هذا المجلس على الصعيد الاقتصادي منذ قيامه وحتى الآن.. كما أن ذلك يلزم تلك المنظومة الخليجية بأمرين:
–    الأول: تفعيل وتعميق أواصر التعاون والتكامل بين دولها، وتحويل الاتفاقات الموقعة منذ فترة إلى واقع حي ملموس. ومن ثم تفعيل التعاون بين دول المجلس مجتمعة وبين تلك التكتلات بما يحقق تطوير المبادلات التجارية بين الطرفين والتغلب على العوائق التجارية.
–    الثاني: إعادة النظر بآليات رسم الاستراتيجيات الاقتصادية الخليجية بشكل ينعكس على الارتقاء بقدرتها التنافسية مع تلك التكتلات الاقتصادية.
وباعتقادي فإن التكتل الخليجي الاقتصادي الموحد المطلوب من قبل الجميع هناك، لن يصبح أمراً واقعاً، ما لم تلتزم دول الخليج بتنفيذ وتطبيق جميع البنود والنقاط الواردة ضمن الاتفاقية الاقتصادية الموحدة.
لكننا –وإن كنا ننظر إلى النواحي الإيجابية لمجمل النتائج المتوخاة من التكتل الاقتصادي لدول الخليج- فإن سلبيات عديدة تبرز أمامها، تجعلها تواجه عقبات اقتصادية في طريق التطبيق، يزداد وقعها سنة بعد أخرى، ويتسع نطاق انعكاساتها على جوانب الحياة المختلفة بوتيرة متسارعة حتى أوشكت تلك المعضلات أن تخلف وراءها سلسلة من التبعات الاجتماعية والسياسية لم يحسن الاقتصاد الخليجي في الجملة التعامل معها حتى الآن. بل إن بعض جوانب الاقتصاد الخليجي بات يتكامل مع الاقتصادي العولمي -بدليل اتفاقيات التجارة الحرة- بأسرع مما يتكامل ذاتياً.
© منبر الحرية، 10 مايو 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018