نبيل علي صالح

نبيل علي صالح21 نوفمبر، 20100

لا أدري إن كان طرح السؤال الوارد أعلاه كعنوان لهذا المقال صحيحاً من الناحية
المعرفية بالصورة التي صيغ بها.. إذ هل من الممكن والصحيح (أو حتى المعقول) –بالمعنى الموضوعي- أن تمتلك جملة من الطروحات المفاهيمية والاعتقادات الروحية الغيبية (أو ما اصطلح على تسميتها بالثقافة الإسلامية) القدرة على التأثير والفعل المباشر في عالم كبير متحول ومتغير؟ عالم لم يعد يقيم وزناً للروحانيات والأديان ومختلف الافتراضات الوهمية اللامنظورة بقطع النظر عن أمكنة إنتاجها وانتشارها وتواجدها في الماضي أو في الحاضر أو حتى في المستقبل؟!!.
وإذا كان طرحنا وتساؤلنا السابق صحيحاً –إذ من حق المثقف النقدي طرح الإشكالية ومحاولة الإجابة عليها- نعود لنسأل مجدداً عن ماهية تلك القدرات والمعايير والأسس التي يختزنها الإسلام –كدين حاكم على القلوب ومهيمن على الأفئدة في عالمنا العربي والإسلامي- في داخل منظومته الفكرية الاعتقادية لكي يتمكن من خلالها من الانسجام مع العصر الراهن، والتكيف مع عمعايير ومقتضيات الحداثة، وضرورة الانخراط الجدي العملي في عملية الإصلاح الديني والثقافي والسياسي في عالمنا العربي والإسلامي؟!…
في الواقع نحن –بمعنى من المعاني- لسنا خارج العصر، ولا يمكننا الانغلاق على ذاتنا، كما أنه لا يمكن إلا أن نتواجد في صلب حركية الحياة الهادرة، بصورة وبأخرى، مهما رفضنا وكابرنا ثقافياً وحضارياً، فنحن نعيش حالياً في مجتمعاتنا حياة حديثة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى من حيث التعامل الشكلي والمظهري مع مقتضيات (ونتاجات) الحداثة والثقافة الغربية التي ينبغي على العرب والمسلمين –بادئ ذي البدء- الاعتراف بعلو كعبها، وبقدرتها وفاعليتها، وأخيراً الإقرار الكامل غير الناقص بانتصارها (ثقافةً وحضارةً وأدوات) على كل الحضارات والثقافات الأخرى.. فنحن نتعامل بالانترنت، ونسافر بالطائرات، ونعمل وفقاً للكثير من المعايير والقوانين الإدارية والاقتصادية الحديثة التي أبدعتها الثقافة الغربية، ونتواصل تفاعلياً وتبادلياً مع مختلف بقاع الأرض، وتخضع كثير من حكوماتنا ونظمنا السياسية لمؤسسات وهيئات ومنظمات دولية اقتصادية وسياسية وثقافية متعددة نشأت وصيغت في الغرب الذي نكرهه ونذمه ونشتمه على منابرنا الدينية والسياسية ليلاً ونهاراً.. الخ.. إذاً نحن لسنا متخلفين في أساليب الحداثة ووسائلها وطرقها.. ومجتمعاتنا العربية لا تعيش حياة القرون الوسطى بل هي مجتمعات خاضعة بشكل أو بآخر لقوانين ونظم الحداثة العالمية ذاتها.. ولكن الخطر والخطأ في الموضوع هو أننا فهمنا الحداثة مجرد نقل لمنجزات الآخر وتقنياته واختراعاته الكبيرة، لا صنعاً واستنباتاً لها في تربتنا المحلية، وإنما استهلاكاً وشراءً.. وهذا لاشك أمر مهم وعظيم، ولكنه غير كاف لاستنبات وخلق وصنع الحضارة والحداثة العلمية.. وهذا ما ندعوه بالحداثة القشرية أو الحداثة الكسيحة التي تقوم على استهلاك متزايد لمنتجات وثمار الحداثة الناشئة والمتطورة والمزدهرة خارجها دائرتنا الحضارية العربية على الرغم من أننا ساهمنا في الماضي في التأسيس لها بصورة وبأخرى كما يزهو ويتباكى على أطلالها كثير من عتاة الأصوليين (من المتدينين وغير المتدينين). كما أننا عجزنا حتى الآن عن زرع شجرة الحداثة عندنا وبما يناسب “مجالنا وسياقنا الحضاري الإسلامي” على حد تعبير بعض الإسلاميين المعتدلين. فلم نفتح ورشات لها خاصة بنا وبشروط وجودنا، لا ورشات المعرفة الزمنية، المدنية، الإنسانية، ولا مواقع البحث العلمي والتطور الفكري الحر. ولا ورشة الدولة الحديثة (دولة الحق والقانون) التي وعدنا الناس بتحقيقها فكانت النتيجة أن أنشأنا –عوضاً عنها- دولة التعسف والإكراه والغلبة.
إذاً نحن لا زلنا مجتمعات حديثة (بالمعنى الظاهري إلى حد ما)، تخضع لسلطة الأعيان والأتباع وكل مظاهر العشائرية والقبلية البغيضة. ولم نطور أيضاً بما فيه الكفاية ربما مسألة الفرد كذات، أو الفردية الحرة والمسؤولة.. وهنا قد يسأل أحدهم عن تحديد مسؤولية ذلك التأخر والتقهقر؟!.
في الحقيقة وعلى الرغم من التسليم بدور ومسؤولية العامل الخارجي في ما وصل إليه حال العالم العربي من تخلف وانحطاط سياسي واجتماعي واقتصادي (بالرغم من وجود بعض المواقع والنقاط الإيجابية المضيئة هنا وهناك)، إلا أن هناك وعياً متزايداً بأن الكوارث التي يعيشها ليست كلها ناجمة عن المخططات والمؤامرات والأطماع والتدخلات الأجنبية وحدها (مع العلم أن لغة المصالح وسياسة المناورات وحبك المؤامرات هي القانون الحاكم في العلاقات بين الدول والسياسات الدولية في كل زمان ومكان)، وأن الكثير منها يعود إلى عجز النخب السياسية الحاكمة عن إيجاد الحلول الملائمة لتناقضات مزمنة كامنة في بنية وثقافة المجتمعات ونظم الحكم العربية.. وترتب على إهمالها وتراكمها نجاح القوى الخارجية في تعميقها واستغلالها إلى أن وصلت الأمور إلى نقطة الانفجار أو أنها انفجرت بالفعل كما هو الحال في دول عربية كثيرة.. فالبطالة (والعطالة العقلية) وتعثر الإصلاح السياسي والخلل الرهيب في توزيع الثروة والمداخيل تحولت إلى أمراض مستوطنة في جسدنا، وراحت تنخر في عظام معظم دولنا العربية لتشكل قنابل موقوتة قابلة للانفجار في جسدها في أية لحظة.
من هنا وبالنظر إلى ما تقدم من تحليل، نؤكد على مجموعة الملاحظات الفكرية التالية في سياق ضرورة قبولنا وتبنينا لأفكار الحداثة التي نعتقد أن الإسلاميين –على وجه الخصوص- لن يقبلوها بسهولة ويسر وهدوء قد توفرها الدعوة المستمرة لاعتماد الحوار العقلاني في قبول الآخر والوصول معه إلى القناعات الوطنية السلمية المشتركة التي نتمنى أن تسود بين كل فئات وتيارات المجتمع العربي:
1- إن المؤسسة الدينية الرسمية وغير الرسمية المسيطرة –ظاهراً أم باطناً- على كثير من مناخات العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي في العالمين العربي والإسلامي هي أصل الداء وجذر العطالة، باعتبارها توفر القاعدة الفكرية والحاضنة الدعوتية ومن ثم الملاذات الآمنة لكل قوى الموت في كل دعاويها وأفكارها التي تهدف من خلالها إلى سحق الآخر، والانقضاض على مجمل الأفكار الحداثوية النيرة التي تطالب باعتمادها وتطبيقها مختلف الحركات والنخب العقلانية المنتشرة بكثرة في عالمنا العربي والإسلامي أو في خارجهما.. ولذلك فإن تلك المؤسسات الرثة والبالية مطالبة قبل غيرها -أكثر من أي وقت مضى- بأن تنفض عنها غبار التخلف (أو تسمح لغيرها بنفض الغبار عنها، وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة المقدسة المتعالية والمفارقة للزمان والمكان) وادعاء التمسكن والعفة الفكرية والعملية من فورها، وأن تبادر مباشرةً للخروج من كهوف الماضي ومغاور التاريخ القديم الذي تعشش فيه خفافيش الفكر، وتنفتح على الحياة والعصر بأن تخرج إلى ضوء الشمس وتتنفس الهواء الطلق والنقي في ساحة الحياة الرحبة والواسعة من دون حواجز ومغاليق فكرية وفتاوى دينية من هنا وهناك، وأن تعترف بحاكمية العقل (لا حاكمية الفتوى والنص) والحوار والانفتاح على الآخر، وإطلاق خطاب ديني عصري واضح يعتمد على عنصر النقد الفاعل البناء وليس التلقي والقبول والتسليم والإذعان الكامل لترهات وأباطيل أتباع الوعظ المسجدي والكنسي العتيق.
2- إن الإصلاح المطلوب تطبيقه والسير به داخلياً القائم على رؤى حداثية مستنيرة، والمنطلق من ترتيب أوضاع بيوتنا الداخلية أفضل وأقوى وأمتن من أي إصلاح خارجي مفروض لن يأتي إلينا إلا نتيجة الغياب المتعمد لانطلاقة مناخ الإصلاح الطبيعي في المجتمعات والشعوب بما ينبع منها ويتفق مع تقاليدها ويرتبط بهويتها التاريخية التي نعتقد باستحالة انسجامها مع العصر، ما لم تبنى –من جديد- على رؤية متحركة وفاعلة غير جامدة ومعبرة عن نبض العصر وتسارع الحياة.
3- الإصلاح الحقيقي المطلوب الذي يستمر ويبقى هو فقط الإصلاح الذي يتم بالطرق السلمية الديمقراطية مع رفض كامل لمنطق الثورة في العملية السياسية الإصلاحية، لأن مفاجآتها كثيرة وردود فعلها معقدة ونتائجها غير مضمونة.. بينما الإصلاح التدريجي الثقافي والتربوي الفردي والاجتماعي المدروس وفقاً لخطة زمنية معلنة هو السبيل الأفضل للانتقال نحو الغايات والتطلعات الكبرى للأمم والشعوب. وتستطيع نظم عربية كثيرة أن تتواءم مع التطورات المقبلة بشرط أن تستوعب حقائق العصر وأن تمضي نحو المستقبل بخطى ثابتة، بدلاً من اجترار وترديد شعارات خادعة مزيفة صالحة فقط –إلى حد ما- للاستهلاك المحلي بهدف المماطلة والتسويف ومحاولة إلغاء التغيير وإجهاض الإصلاح بالرغم من كونهما سنة وقانون وناموس كوني (التغيير أو الحركة هو الثابت الوحيد في الحياة).
4- نحن عندما نؤكد على ضرورة سلوك طريق الحداثة واعتماد قيم التنوير العقلي للخروج من الأزمات الراهنة، فإننا لا نعفي الحداثة نفسها –كما تبنتها ونقلتها نخبنا السياسية والفكرية السلطوية إلى بلداننا العربية، وفرضتها بالقسر والإكراه على مجتمعاتنا القديمة- من مسؤولية الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية. مما يستدعي –بعد وصول مشروع الحداثة العربية ذاتها إلى طريق مسدود- إعادة دراسة ونقد هذه الحداثة بذاتها، وتقييم مفهومها (وما آلت إليه نتائجها وتطبيقاتها) حتى يمكن إعادة إطلاق مسارها من جديد بشكل أكثر قوة وديناميكية وتأثيراً.. لأن عملية النقد هذه ستؤدي بالضرورة لفهم حقيقة انتشار المد الديني الأصولي من حيث هو نتيجة طبيعية لفشل مشروع الحداثة العربية ذاتها قبل غيرها (فشل التحديث العربي).
5- إذا وصلنا –في سياق نقد الحداثة والتحديث العربي- إلى مرحلة نقد التراث بمختلف عناوينه وتراكماته الفكرية التاريخية، نتساءل: كيف يمكن الاتفاق في هذه الحال على مسألة نقد هذا الكم الهائل من مختلف إشكاليات النصوص والتأويلات الدينية الخاصة بها والهادفة إلى تجديد الفكر والهوية لتصبح منفتحة مستوعبة تواصلية مع الذات ومع الآخر، من دون الاتفاق حول الغايات والقيم الأساسية التي سوف تحكم إعادة بناء المجتمعات العربية المفككة أو اجتماعاتها السياسية؟!.
لقد انطلقت الثورة التقنية والصناعية (وما رافقها من إنجازات علمية هائلة) نتيجة انبثاق وتفجر بركان معرفي وثقافي تنويري كبير –كما ذكرنا– قادته مجموعة كبيرة من النخب والمفكرين والفلاسفة والمجددين الكبار، ولئن حدث هذا التحول الذي عرفته مجتمعات الغرب الأوروبي بفضل ذلك المناخ الثقافي التنويري فإننا نسأل: هل يمكن لثقافتنا العربية الدينية أن تتمثل (وتستفيد وتستثمر) بما أنجزته الثقافة الأوروبية الحديثة حتى تتمكن من إحداث النقلة النوعية المتوخاة داخل المجتمعات العربية والإسلامية؟!! وإذا كان لكل أمة ثقافتها الخاصة فلا يعني هذا أن مستوى الثقافة واحد لكل الشعوب، لكن هذا المستوى يختلف من شعب إلى آخر بسبب تنوع وتعدد درجات الثقافة ومستويات الوعي في مراتب الرقي والتكامل.
ومن المعروف سابقاً أنه قد شاع على صعيدنا العربي –في بعض المفاصل الزمنية القليلة– تأويل منفتح ومتسامح (عقلاني) للدين، منسجم مع ذاته، ومتفاعل مع الحضارات الكونية الأخرى، انطلق أساساً من خلال بعض اللمحات واللفتات والرؤى العقلانية القليلة والبسيطة غير المتجذرة، ولكن المهمة والمؤثرة التي أبدعها بعض حكمائنا وفلاسفتنا القدامى نتيجة انفتاحهم وتفاعلهم الخلاق مع بعض الثقافات الأخرى التي كانت سائدة آنذاك.. ولكن بدءاً من عصر الانحطاط أخذ يسود التأويل الظلامي الجامد والمنغلق والمتعصب للدين والتأويل الديني، فأنتج هذا الفهم التأويلي كماً كبيراً من الأفكار والكتب والمراجعات الفكرية لا تزال تأثيراتها واضحة وجلية حتى الآن. وغني عن القول هنا أن الثقافة العربية هي بطبيعتها ثقافة تأصيلية، فيها إمكانات هائلة للنظر والوعي والنقد والبناء المعرفي الحضاري، إلا أن حاجتها للتجدد في عالم التحول والتغير والتنوّر يفرض عليها مزيداً من المساهمة الفاعلة لتتمكن من أداء دور صحيح وسليم ومعافى بما يكفل لها الارتقاء في سلم الرقي والتقدم كباقي حضارات وثقافات الشعوب والأمم.. طبعاً نحن ومن باب الرجاء والأمل نحاول البناء والتأسيس، ولكن الواقع القائم صعب ومعقد، ولذلك لا يكفي أن نأمل ونرجو بأن تمتلك ثقافتنا نظرياً القدرة على البناء والنمو والتصاعد بل لا بد من الاعتقاد أن شرط النمو هنا هو في مدى قدرة ثقافتنا على الدخول في حوار ونقد مع مسببات أزمة وجودنا الراهنة مع أنفسنا أولاً قبل الآخر.
إذ لم يعد مقبولاً أبداً اليوم أن تراوح هذه الثقافة العربية الإسلامية في مكانها ليجتر أصحابها مقولات ومفاهيم خارج نطاق الحياة والعصر.. أو أن تكتفي بترداد أغاني الماضي التليد وانجازات العصور القديمة، بل عليها أن تواكب حركات التقدم الذي وصلت إليه الثقافات الأخرى وأن تتفاعل بشكل خلاق ومبدع مع كل الانجازات العلمية والفكرية التي ساهم بها مثقفو الأمم الأخرى.
وهنا نؤكد دائماً على أن تجاوز هذه الإشكالية قائم على مسألة نظرية بسيطة لكن معقدة وهي: أن نعمل على الاستفادة من ثقافتنا وحضارتنا العربية بما يتلاءم ويتناسب مع حاجات مجتمعاتنا الراهنة المتغيرة ومن دون أن نكون أسرى لقيم الماضي، ومستغرقين في مناخاته القديمة، وأن نأخذ بمعطيات الحاضر ونساهم في تطويره بما يمكننا من استشراف المستقبل.
ويبدو لي أن أهم ما نحتاج إليه في هذا الطريق الطويل هو الثقافة التنويرية، ثقافة العقل والعلم والوعي الحضاري.. حيث لم يعد مقبولاً الاكتفاء بالنشاطات الثقافية الشكلية التي لا تمت إلى الجوهر بل علينا أن نساهم في عملية البناء الفكري الصحيح والمتين الذي يصوب سهامه إلى مكامن الجهل في زوايا مجتمعاتنا المتعطشة إلى نور العلم والمعرفة وهذا ما يتطلب توفير كل المقومات والإمكانات عن طريق إيجاد مناخ يكفل حرية البحث العلمي والإنتاج الأدبي والنقد السياسي، بما يؤهل مجتمعاتنا لأن تكون رائدة في ثقافتها منسجمة مع ماضيها مترقبة لمستقبلها الواعد..
وتلك هي مسيرة الثقافات عبر التاريخ وخلال العصور فالتواصل الثقافي بين الأمم أشبه بسلسلة ذات قنوات متداخلة كل قناة تأخذ مما قبلها وتعطي ما بعدها، هكذا كان حال ثقافات الأمم الغابرة من مصرية ورومانية وفارسية ويونانية وعربية إسلامية مروراً بثقافة أوروبا في عصر النهضة والتنوير وانتهاء بالثقافة المعاصرة التي نعيش في رحاب نتاجها الذي يرفد الإنسانية بعوامل الرقي والإبداع لما فيه خير البشرية جمعاء.
إننا نعتقد ونؤكد –في اعتقادنا- على أن لا بديل لنا كعرب عن الانخراط في الواقع المعاصر، والاهتمام بكل أحداثه ووقائعه وشؤونه المختلفة.. وهذا يتطلب البحث الجدي منا عن مضامين معرفية جديدة، بما يؤهلنا للانخراط الجدي والحقيقي في مقتضيات عصرنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يقلل من الخسائر التي علينا دفع أثمنتها نتيجة فواتنا التاريخي، ريثما تتوفر شروط عامة للتحرر والانعتاق في المستقبل.
فنحن لسنا وحدنا في هذا العالم، كما أننا لسنا مركزه، أو غايته، أو منتهاه.. بل نحن أمة مثل باقي الأمم والحضارات.. لها ما لها وعليها ما عليها.. إننا أمة من جملة أمم وثقافات، لا يمكن أن نتكور على أنفسنا ونتقوقع ونعيش من دون جيران وأصدقاء ومصالح وتوترات ومناخات باردة أو ساخنة وغيره كما ذكرنا آنفاً.. ولا نستطيع أن ننعزل عن أية تأثيرات وتطورات قد تحدث في العالم الذي نعيش فيه.
ومن أجل ذلك، تظهر أهمية الإصلاح والتجديد الديني والثقافي، وتهيئة الأرضية المناسبة لنمو بذرة الديمقراطية السياسية والاجتماعية والفكرية –إذا صح التعبير- كمهمة عاجلة وفورية تأتي في رأس أولويات التجديد الحضاري السليم.. فمسألة التقدم تستدعي مقولات جديدة: المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة، وهذا كله يمكن اختصاره بمقولة واحدة هي: الحكم الصالح. وتبدو أهمية ذلك إذا أدركنا أننا، بشكل عام، لا نملك لغة سياسية حديثة، منظمة ومؤسسة، في بنانا السياسية والثقافية، إذا بقينا خارج تسلسل وتاريخ الأحداث والتغيرات التي تعصف بالعالم المعاصر.
إننا نعتقد أن الدور الأساسي منوط بالفاعل الفردي في كل تلك الأحداث والتطورات المفروضة أو المرغوبة مستقبلاً، وهو دور يقتضي الارتقاء بشروط حياة الإنسان وثقافته وفكره وشعوره الأخلاقي القيمي، باعتبار أن ذلك هو القضية الرئيسية التي تستحق بذل العرق والجهد، في ما وراء الانتماءات القومية والاعتقادات المذهبية والولاءات الجماعية والمناطقية والجهوية. والمدخل الرئيسي لتجديد الفلسفة الإنسانية، هو باب الحرية، والحرية فقط، بالمعنى الفردي والاجتماعي والسياسي.
© منبر الحرية، 12 فبراير 2009

نبيل علي صالح19 نوفمبر، 20100

إن تطورات العصر والحياة تقتضي البحث عن بدائل للأفكار العقيمة غير المنتجة، وإبداع أفكار وأدوات جديدة تحظى بقبول عامة الناس قبل أن تحظى بقبول نخبة الأمة، لأن الطريق إلى العقل والتطبيق يمر بالقلب أولاً وأخيراً. وولاية الفقيه فكرة دينية تاريخية من جملة أفكار مطروحة ومتداولة، ولا يمكن اعتبارها عقيدة دينية مقدسة، بل هي رؤية ظنية قابلة للطرح والنقاش والحوار بشأنها بين المفكرين والعلماء سيما أن هناك مراجع كبار سبق أن رفضوها وامتنعوا عن تأييدها ووجهوا لها سيوف النقد الإسلامي العلمي من أمثال العلامة الراحل محمد مهدي شمس الدين والمرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله والمرجع السيد علي السيستاني الذي يؤمن بولاية الأمة على نفسها وليس بولاية الفقيه على الأمة، حيث أنه –في هذه الحالة- تصبح الولاية الدينية للمرجع نوعاً من الاستبداد الفكري والسياسي المؤدي حتماً إلى ممارسة مختلف طرق ووسائل الضغط والقسر والظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تحت زعم حماية الحقيقة والعقيدة المقدسة و”الحفاظ على بيضة الإسلام”.
وهذا النوع من الاستبداد الديني أشد خطورة من أي نوع آخر، لأنه استبداد يغلف نفسه بستار الدين والنصوص الدينية المقدسة التي يؤمن بها الناس، وتلهب مشاعرهم، وهنا تكمن الخطورة في أن يتحول الدين إلى مجرد قناع أو غطاء لممارسة شتى ألوان الكذب والنفاق والقسر والإكراه ومن دون وجود أي رادع من أخلاق أو قيم أو قانون.
إن الدعوة الملحة لقادة الجمهورية الإسلامية الكبار إلى الخروج من الفتنة الداخلية أولاً، ومن ثم التواصل مع الأجيال الطالعة، ومحاولة فهم طبيعة تفكيرها ونظرتها للأمور، والوقوف عند مطالبها وهواجسها وأسئلتها الهائلة المطروحة أمامها، فجيل الثورة يختلف عن جيل وأجيال ما بعد الثورة، واستعمال وسائل الضغط والقسر لا ينفع دائماً مع جيل الشباب الطامح والمتمرد والراغب في التغيير، والباحث عن العمل والمستقبل.. كما ونطالبهم بإعادة الاشتغال على تصويب ونقد الأفكار والنظريات السياسية و”الفكرية-الدينية” السائدة عندهم، والتي سبق أن حذر من عدم الوقوف أمام أسئلتها الملحة قادة كبار من الجيل المؤسس للثورة من أمثال الإمام الخميني نفسه والشيخ مطهري والدكتور بهشتي (اللذين استشهدا في بداية الثورة، وكانا يحذران دوماً من تلطي علماء ورجالات الدين وراء العمامة والجبة والنص).. بالإضافة إلى خاتمي وكروبي ورفسنجاني وكثير من علماء ومراجع الحوزة العلمية في إيران، وفي خارج إيران.
إن كل منظومة فكرية عقائدية تحتاج على الدوام -مع تغير الأيام والظروف وتحول الأدوار والمواقع (اختلاف الأزمنة والأمكنة)- إلى إصلاح وتجديد وتطوير متواصل يحفظ لها الأصل، ويجدد لها الإطار بما يتناسب مع المستجد المتغير.
من هنا يأتي تأكيدنا الدائم في هذا السياق، على أنّ أي مسعى للخروج من الأزمات العميقة المستديمة والمقيمة منذ أمد التي تعاني منها إيران وباقي مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً (والتي نعتقد بضرورة انخراط مفكري ومثقفي إيران أكثر في إبداء‌ الرأي النقدي حولها) بما فيها أزمة عدم وجود قاعدة نقدية موضوعية هادفة كبيرة تحظى بتأييد جماهيري واع واسع, أقول: أي مسعى للخروج من المشاكل والأزمات والتحديات القائمة والمستمرة لابد وأن يبدأ بإصلاح واقعنا المعيشي، وقبله نظرتنا إلى السياسة بحد ذاتها. أي أن نعمل على تطوير أدائنا وممارستنا السياسية الجماعية من خلال توفير الأجواء المناسبة لإعطاء فرص المبادرة والمساعدة المشتركة لجميع الناس في المشروع النهضوي الكبير لإعادة الاعتماد على قدرات إنساننا الذي يشكل ركن وقاعدة وهدفية النهوض والبناء.
والنصوص الدينية والحضارية مليئة –كما نعلم جميعاً- بالأفكار والطروحات المهمة التي تحض وتدعو وتؤكد على أن الإنسان هو غاية الوجود، وهو خليفة الله في الأرض، وبالتالي فلا بد من الإنصات إلى مطالب وآراء وهموم وطموحات وتطلعات هذا الإنسان، والعمل الدائم على إعطائه حقوقه الإنسانية الطبيعية كاملةً، لكي يتمكن من تمثُّل دوره الاستخلافي الحقيقي على الأرض، ويجترح معجزة النهوض والإثمار الحضاري، حيث أنه لا يمكن ولا يعقل أصلاً أن يدعو الله –كما جاء في كل الأديان منذ فجر التاريخ والخليقة وحتى الآن- الإنسان ليكون خليفةً له من دون وجود وسائل وأدوات وأفكار تلبي طموحاته وتستثمر طاقاته وتنمي مواهبه بالصورة الأجمل والأكثر قدرة على الفعل والإنتاج، بعد أن تحرض أجمل ما فيه من قيم ومشاعر وأحاسيس خلاقة ومبدعة.
.. من هنا –وانطلاقاً مما تقدم- يبدو لزاماً على القيادة في إيران القيام بمراجعات نقدية صارمة وشاملة ليس فقط للمسالك العملية والممارسات والسبل التي سلكتها الثورة وأبناؤها، ولكن أيضاً للأفكار والشعارات الثورية ذاتها بعد مرور حوالي ثلاثة عقود على اندلاع الثورة، لأن المراجعة والنقد عنصران أساسيان للنمو والتطور والامتداد وتحقق الآمال والغايات النبيلة، وإلا فإن احتمال تزايد الضغوط الشعبية الداخلية قبل الخارجية (وبالتالي زيادة معاناة المجتمع والناس هناك) كبير نسبياً، وهذا سيؤدي بالنتيجة وبالضرورة إلى تحول شعارات الثورة والجمهورية الإسلامية إلى عبء حقيقي يقض مضاجع الشعب الإيراني.. بحيث أن إيران (كدولة ونظام وحكم إسلامي جمهوري) بدل أن توظف كل طاقاتها في بناء الداخل ومواجهة مشاريع الدول الخارجية –من موقع القوة لا الضعف- تضطر إلى الدخول في مواجهات غير محسوبة النتائج مع شعبها الذي وقف مع الثورة ودافع عنها وناضل طويلاً في سبيل الحفاظ عليها وتجديدها قبل أن يعتريها اليأس وتعلوها علامات الشيخوخة.
إن قوة الثورة –بغض النظر عن شعاراتها وغاياتها- هي في مقدار ما يمتلكه رجالاتها وقادتها من فعالية عقلية تجديدية واستعداد نفسي لتقبل التغيير والتكيف مع مستجدات الواقع وتطورات الحياة والوجود ولزوميات العيش الزماني والمكاني في الحياة.. وبالتالي الاستجابة لحاجات الناس والمجتمع الجديدة المتنوعة والكثيرة.. وهنا بالذات تكتسب الثورات قوتها ودلالاتها الحقيقية على مستوى العمل والإصلاح وإنجاز الأهداف وتحقيق الطموحات والانفتاح على الحياة والواقع والناس.. أي من خلال تحولها (أي الثورات) إلى نظم للحكم المؤسساتي والإداري المدني المتصالح مع الناس والعصر..
وأخيرا نكرر ونؤكد على أن نظم الحكم الحقيقية الصالحة للحياة لا يمكن أن تكتسب فعاليتها –بدورها- إلا من خلال ما تمتلكه من قدرات ذاتية وموضوعية تؤهلها وتجعلها قابلة ومستعدة عملية –ومن دون خسائر تذكر- للانسجام مع الواقع والتكيف مع المطالب المتجددة والتحديات المتسارعة الهائلة.
© منبر الحرية، 25 يونيو/حزيران 2009

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

يعتبر بعض المثقفين والنخب الفكرية والسياسية أنّ الأديان والطوائف والعشائر والقبائل –بفكرها وأعرافها وأنماطها السلوكية- تقف على تضاد (وطرفي نقيض) مع صيغة الدولة الحديثة باعتبارها مؤسسة متكاملة الأبعاد والجوانب. وتبعاً لذلك فإن هذه الانتماءات ما قبل الوطنية والقومية (والتي ترتد بحسب زعمهم إلى منطقة القاع الحضاري الماضوي الجامد للأمة) تشكل –بمجملها- حواجز ومعيقات عملية تحول دون الانتقال إلى المجتمع المدني وحكم دولة القانون والمؤسسات التي تشكل غاية الاجتماع المدني الإنساني، حيث ستصر تلك الانتماءات على التمظهر –الإرادي أو القسري- في داخل ثنايا مؤسسات هذا المجتمع، بما يمكّنها من الظهور والحضور المتواصل في مختلف جوانبه وامتداداته، وبالتالي ستؤول إليها في النهاية دفة السيطرة على الدولة الناظمة لحركية المجتمع بمختلف مواقعه ومؤسساته وهيئاته.
والأمر الذي نستغربه كثيراً في طبيعة هذا الطرح -وغيره من الطروحات المتماهية فيه أو المتوازية معه- هو إصراره الشديد على الخلط وعدم التمييز والتفريق بين الدين كحالة حضارية، وتجربة إنسانية لها مكوناتها الروحية -بالغة الرقي والتكامل- في الفكر والإحساس والممارسة، وبين الطائفية (والقبلية و…) كحالة عشائرية ليست من الدين في شيء. فالدين له مضمون ثقافي وروحي واجتماعي يتصل بالحياة وبالتحديات والمخاطر المتنوعة التي تواجه الإنسان فيها في قضايا الوعي والمسؤولية، والحرية والحق والباطل، والظلم والعدل، وما إلى ذلك. ويوجد لهذا المضمون خطاب عملي يريد من خلاله أتباع هذا الدين -وهذا من حقهم بالطبيعة والفطرة- تحشيد الناس حول فكرته الحضارية في سياق عملية الإصلاح والتغيير. تماماً مثل أي فكر أو تيار آخر يريد أن يدعو إلى مبادئه وطروحاته، ويخاطب الجمهور عارضاً عليه أفكاره ومفاهيمه التي ينبغي ألا تتناقض لدى الجميع (من أتباع الحركات العلمانية أو الدينية) –في العمق الفكري والعملي- مع صيغة الدولة الحديثة (القائمة على العلمنة والحرية والمسؤولية وتداول السلطة والدعوة السلمية الحضارية)، باعتبارها (أي الدولة) أهم ظاهرة اكتشفها أو توصل إليها الإنسان في سياق سيرورته التطورية ووعيه لوجوده الذاتي والموضوعي.
وهنا نلاحظ أن كل خطاب تغييري (أو إصلاحي) لابد أن ينطلق في الحياة من خلال وجود قواعد ومرتكزات ثقافية حياتية إنسانية، الأمر الذي يلزمه -بحكم ضرورة امتداده إلى الساحة الحياتية العامة- بأن يأخذ ببعض الأساليب والأجواء السياسية والاجتماعية، عندما تتصل قضية السياسة بقضية المصير الإنساني. أما الحديث عن ماضوية وجمود الانتماء والخطاب الديني عند بعض المثقفين فإنه يشبه تماماً الحديث عن ماضوية وجمود الخطاب السياسي والاجتماعي المعبّر عن مضمون ثقافي معين خاص بهذا الطرف أو ذاك، ألا يمكننا الحديث مثلاً عن جمود وماضوية الخطاب الفكري عن الحركات والتيارات التي تتبع المنهج والأيدولوجيا المادية الديالكتيكية التي مضى عليها أكثر من مائة عام، خصوصاً وأن تطبيقاتها على الأرض ألحقت دماراً هائلاً بالإنسان والواقع، وكلفت البشرية كثيراً من الدماء والدموع، ثم إن الماضي -أساساً- هو تجربة أناس عاشوا قبلنا فانطلقوا من خلال ظروفهم الموضوعية الثقافية والبيئية، وأوضاعهم الخاصة والعامة ليكسبوا فكراً وعلماً وتاريخاً. أي ليكون لهم حضور ودور معين بين باقي الأمم والحضارات، ولذلك فإن الماضي شأنهم هم وليس شأننا، إلاّ بمقدار ما يحتاجه الحاضر من الماضي، باعتبار أن الماضي قد يختزن في داخله بعض القضايا المهمة والأفكار الحقيقية التي تتصل بالحياة، وبأساس وجود الإنسان فيها. لأنها من خصوصيات الحياة، وليستْ من خصوصيات الزمن في عناصره الذاتية الضيقة والمحدودة. فالحياة تحتاج إلى أن تعطى بعض الأفكار في جميع مراحلها. ولذلك فإننا لا نستطيع أن نعتبر فكر المفكرين وثقافة المثقفين الذين قدموا لها تلك الأفكار فكراً وثقافةً ماضية، لأنه توجد أفكار من الماضي يمكن أن تكون صالحة للحياة في مدى الزمن كله، بحيث يكون الماضي مجرد حينٍ أو ظرف لها. فقيم ومبادئ العدل والحرية والعلم والتطور والتنمية، قيم ثابتة، ولكن مفاعيلها متغيرة وهي تكاد تكون هوية ثابتة في أي مجتمع حديث ومتطور.
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أنّ هناك معارف وأفكاراً تنطلق من خصوصيات زمانية ومكانية. أي أنها تخص الذين سبقونا في فكرهم وحياتهم وتجاربهم وخبراتهم بما يجعل إعادة إنتاجها أمراً مستحيلاً. ولكن تتم إعادة درسها وتحليلها وتفكيكها من باب التذكرة وأخذ الدروس والعبر التي يمكن أن تقدمها لإغناء تجارب الحاضر. أي أن نجعل من الماضي ساحة للدرس والاعتبار على المستويين السلبي والإيجابي، وهو مجرد إطار للفكرة وللحركة في الواقع.
وهذا الوعي الفعال بمكتسبات وأعمال الماضي لا يمكن أن يقودنا إلى تقديس أفكاره بما يحتويه من عناصر القداسة التي لا تتصل بزمن معين، ولكنها تتصل -كما ذكرنا- بالحياة. فأفكار “الحرية” و”العدالة” و”التقدم” هي قيم ثابتة ومقدسة في كل طور ودور.
من هذا المنطلق نحن نؤكد على أن تلك الانتماءات التي تعتبر -على حد زعم تلك النخب- “ماضوية” و “ما قبل وطنية أو قومية”، يمكن أن تكون سبباً وجيهاً للتوحد والتنوع الإيجابي المثمر، بما يغني المشروع الاجتماعي والثقافي لمجتمعاتنا العربية الغنية بالتنوعات الفكرية والاثنيات والقوميات والأديان والمذاهب المتعددة، مثل الحديقة الغناء الممتلئة بكل أنواع الزهور والرياحين والورود. وبما يزوده بالكثير من عوامل استمراره. ويوجد في داخل تاريخنا الحضاري العربي ما يعزّز بالوقائع هذا الاعتقاد.
وهذا الأمر لا يقتصر-في اعتقادي- على عالمنا العربي، إذ أنّ الأمم جميعاً مكونة من أقوام وشعوب وقبائل ذات منظومات قيم وثقافات ومذاهب دينية وانتماءات قبلية متباينة جداً، ومع ذلك فقد استطاعت تلك الأمم بناء مراكز إشعاع حضارية إنسانية، على ما هي عليه من طوائف وقبائل ومذاهب، تماماً كما تمكن العرب من ذلك في العصر الوسيط.
ولذلك فقد آن الأوان كي تتخلص تلك النخب الثقافية –التي ليس لها جذور حقيقية في داخل تربة وكيان الأمة الثقافي والاجتماعي- من هاجسها وعقدتها النفسية التي تستمر من خلالها في تخويف المجتمع والناس عموماً من (الخطر الشديد؟!) الكامن وراء تلك الانتماءات المتهمة دائماً في نظرها. وكذلك عليها أن تدرك معنا حقيقة أساسية، وهي أن التعدد أمر طبيعي في داخل التركيب والتكوين الاجتماعي، ويمكن أن يكون حالة إثراء وغنى روحي وثقافي للمجتمع، وهو –بالتالي- لا يمكن أن ينتج الانقسام وينذر بكارثة التفكك إلا إذا تمّ توظيفه سياسياً من قبل بعض الأطراف من هنا وهناك، وخصوصاً طرف النظم والسلطات الحاكمة التي نشأت أصلاً على قاعدة تمكين العصبيات المحلية -على مستوى الطائفة والقبيلة والعشيرة- من كيان سياسي تتوسع وتمتد به حدود سيطرتها وتحكمها إلى كامل المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وقد أفضى ذلك إلى تشكيل أنظمة سياسية تأخذ “بالديكور” و”الموزاييك” السياسي الحديث مع إبقائها ومحافظتها -ضمنياً، وفي العمق- على مصالح المشايخ والزعماء والعشائر والقبائل.
ويبدو لنا أن حلّ هذه الإشكالية لا يكمن في تطبيق الحالة الاندماجية والتجانسية الواحدة -إذا صح التعبير- باعتبارها تفتقر للأساس الموضوعي في المقدمة والنتيجة. بل في البدء الفوري بإجراءات تحويل السلطة إلى ملكية عامة من حق المواطنين جميعاً، وإعادة السياسة إلى موقعها الحقيقي في المجتمع، و بحيث تكون (هذه السلطة) قابلة للتداول السلمي فيما بين أبنائه، و من دون وجود عراقيل أو خطوط حمراء قد تتستر وراء شعارات المحافظة، والانغلاق، و..الخ، بما يؤدي إلى تفكيك حالة التعبئة النفسية والاحتقان العصبوي في داخل المجتمع الأهلي، من خلال فسح المجال لها لتعبر عن ذاتها بالحوار الواعي والعقلاني البعيد عن أدنى حالات الخوف أو التخويف من الآخر. باعتبار أن السبب الجوهري الذي أدى إلى نشوء العصبيات -وتوظيفها سياسياً- يتحدد من خلال قيام نظام السلطة الحاكمة في اجتماعنا السياسي العربي والإسلامي (منذ التاريخ الباكر) بالهيمنة والتسلط، واستخدامه لأدوات القمع والفرض المختلفة، واستبعاده للجماعات الاجتماعية الأخرى. الأمر الذي يولّد لدى هذه الجماعات -المقصيّة والمحرومة من حق المشاركة في صنع السياسة وتداول السلطة– شعور بالقهر والظلم في توزيع السلطة، والاستفادة منها، مما يدفعها للانكفاء، والانعزال، والتفكير بالعمل تحت الأرض، أو على الأقل التقوقع على همومها، وعصائبها الذاتية، وهواجسها المرضية، بما يضمن لها الدفاع –بالحد الأدنى– عن وجودها.
ولاشك بأن إفلاس الفكر السياسي العربي المعاصر-تحديداً فكر النخب السياسية وكثير من المواقع الثقافية المرتكز أساساً على ثقافة سياسية مضى زمنها، وأصبحت عبئاً ثقيلاً على الواقع- هو السبب الكامن وراء إعادة إنتاج وصياغة أمثال تلك الأزمات والكوارث التي لاتزال تستنزف الجسد العربي. ولذلك لابد من البدء الفوري بإنتاج ثقافة سياسية جديدة تبنى على معايير وأسس واقعية وإنسانية، تضمن للفرد حرياته الفكرية والسياسية كاملة، وتضع الشروط المعنوية والنفسية والسياسية التي تحمي هذا الفرد المستقل، وتقوم عليها فكرة المواطنة والحكم الصالح. ومالم تبدأ الدولة العربية السير على هذا الطريق الواضح والصريح فإن أزمتها -التي تمثلت في إرادتها القسرية الهادفة لبناء مواطن مستقل ومتحرر من ضغط المجتمعات المتخلفة والعصبيات الجزئية المتحكمة– ستستمر وتتوالد ذاتياً بمظاهر وألوان جديدة متنوعة تقف على رأسها أزمة التطرف والعنف الرمزي والمادي التي ستزداد من جانب بعض الحركات الدينية أو من جانب بعض الحركات العلمانية، لأن العنف يستولد العنف، والظلم ينبئ بفيض من الكوارث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
© منبر الحرية، 8 أكتوبر/تشرين الأول 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

لم تتمكن تجليات الروح المتسامحة والعقلية الحضارية المنفتحة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي عند بعض حركات التنوير العقلي من التغلب والانتصار على روح “الملك العضوض” ومشروع “الدولة-القبيلة” التي كانت –على ما ظهر لاحقاً في أحداث وتواريخ ومشاكل وتحديات عصفت بعالم الإسلام والمسلمين- متأصلةً في النفوس والأرواح وعصيةً على التغيير والإصلاح الحقيقي، والتي مثّلتها كثير من زعامات الحكم الإسلامي على طول مسيرة التاريخ الإسلامي.
وقد قامت “الدولة-القبيلة” التي أسستها روح القهر والطغيان وعقلية التغلّب والغصب في عالمنا العربي والإسلامي –والمازالت مستمرة بصور وأشكال شتى حتى عصرنا الراهن- بتحقيق كثير من المنجزات (العظيمة!!)، نذكر منها هنا:
1-بناء دولة الفرد وليس دولة الأمة، والعمل على إحداث قطيعة شبه كاملة بين الدولة والمجتمع ككل، الأمر الذي حول الدولة العربية الإسلامية (التاريخية والراهنة) إلى دولة نخبوية فوقية تخص النخبة السياسية الحاكمة، في تأمين متطلبات وجودها واستمرارها، بعد أن فشلت في مجرد التحول –استجابة لتغيرات الواقع- إلى دولة مواطنيها الأحرار الشرفاء، بل بقيت –بالنظر لبنيتها المؤسساتية الهشة- عاجزة كلياً عن إقامة دولة العدل والمؤسسات والدستور، أي أنها لا تزال دولة منفصلة كلياً عن المجتمع المهمّش والمدمر والمقصي والمستبعد كلياً عن ساحة الفعل والإبداع والإنتاج والتشارك الحضاري، والدليل على ذلك: انتشار مختلف مظاهر الاهتراء السياسي والاقتصادي والأخلاقي والديني الواسع في كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية الحديثة، نتيجة هيمنة واقع الحطام واليأس وانسداد آفاق الإصلاح ونفاذ الطاقات، وتعاظم المشاكل، واشتداد التوترات، وضعف إمكانيات التقدم والتراكم الأمر الذي أدى إلى استمرار المشكلات البنيوية وبقاء الأزمات، وتنامي آلية العنف المادي والرمزي.
2-عجز الدولة العربية عن إقامة علاقات قانونية وطبيعية متوازنة مع الناس وعموم الجماهير الواسعة المستبعدة والموجودة خارج دائرة السلطة أو الحكم.
وقد قاد هذا النزوع السلطوي المجنون للنخب الحاكمة -في رغبتها العارمة البقاء في الحكم واستمراريتها على رأس السلطة وتحكمها بمفاصل القرار من أقصاه إلى أقصاه- إلى تزايد الرغبة الشعبية في تدمير البنى الوطنية نتيجة انعدام حس المسؤولية تجاه الوطن والقانون والنظام الاجتماعي ككل، ويبدو لي أن السبب الأساسي وراء هذا التوجه اللامسؤول لدى قطاعات واسعة من الناس يعود إلى نزع السياسة من المجتمع باعتبارها فاعلية اجتماعية ومجتمعية حرة، ومجالاً عمومياً للمجتمع، وهي أحد أرقى الأشكال التنظيمية لوحدة المجتمع، الأمر الذي أدى إلى تغييب قسري كامل لدور هؤلاء الناس في بناء مجتمعاتهم والمشاركة في تحمل مسؤوليات هذا البناء.
3-انعكاس البنية الدولتية الهشة على الحراك السياسي الخارجي لتلك الدول حيث تتجه الأمور على هذا الصعيد –وكنتيجة لعدم شرعية النخب- إلى مزيد من الانكسارات والهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى فساد التخطيط السياسي العام والخاص، وعقم الممارسة السياسية العملية، وسوء استخدام العمل الإداري اليومي (تفشي الفساد الإداري). وبناء حداثة ديكتاتورية غير عقلانية مستهلكة، وغير قادرة على النمو أو الإنتاج.
4-ضعف إمكانيات الإصلاح والتطوير ذاتياً وموضوعياً، بما فيها عدم وجود رغبة حقيقية لدى تلك النخب القبلية الحاكمة لتغيير أو إصلاح الواقع بنيوياً، بل وعملها الدؤوب على مواجهة أي تغيير سياسي أو ثقافي يمكن أن يفكر فيه أبناء المجتمع ونخبته المفكرة.
والسؤال المطروح الآن: طالما أن ممكنات التغيير وآفاق الإصلاح السياسي العربي الراهن صعب ومعقد وشبه مستحيل، أليـس من الأجدى والأكثر فائدة الاشـتغال على بناء ثقافة الإصلاح والوعي الوطني الحقيقي المسؤول بين الناس؟!! أي إعادة الاعتبار لمفهوم حب الوطن وتعميق الحس الوطني المسؤول بين الناس قبل النخب الحاكمة؟!! فالناس تغيرت سلباً من حيث طبيعة استجابتها للعمل الوطني، وأضحت –نتيجة هيمنة قرون طويلة من الاستبداد السياسي والثقافي والمجتمعي- مستنكفة عن ممارسة السياسة وضعيفة الصلة والارتباط الحي بمعايير الفعل الوطني، وبالتالي غير قادرة على إحداث أي تأثير في السياسات القائمة والمطروحة والمفروضة عليها التي تخصها.
إنني أعتقد -إتماماً للحديث السابق- أن الذي يعيق المسيرة عن التقدم في هذا الاتجاه حالياً، ويقف في وجه حدوث كل تلك الطموحات والآمال الواسعة في ولوج العالم العربي والإسلامي العصر الحديث -علمياً وحضارياً وتقنياً- لا يقتصر على بعد أو مستوى واحد، بل يتعداه إلى جملة مسببات خاصة وعامة، ففي المجال الأول يمكن العثور في كثير من زوايا ثقافتنا الدينية والاجتماعية الموروثة على كم كبير من الأنماط الفكرية والأنساق التعبيرية العملية التقليدية، التي تحولت إلى دين قائم بحد ذاته يعاند ويواجه قيم الدين الحقيقية على مستوى الفكرة والسلوك والتطبيق. وهذا النوع من حالة اللا توافق الثقافي ولّدت في داخل الأفراد المؤمنين بها والمنتمين إليها نوعاً من التناقض اللامنظور بين الأعراف والعادات (التي أضحت نوعاً من النصوص الدينية بحكم العادة والألفة والممارسة)، وبين الواقع الخارجي المختلف كلياً أو جزئياً عن تصورات الذات الفردية. وهذا بحد ذاته سيؤثر سلباً على حركية الفرد، ويعطل عنده حركة العقل والتفكير والإبداع، وسيحوله إلى مجرد آلة منفعلة غير فاعلة على الإطلاق.
وبالتالي لا نستطيع أن نحمل النخب الحاكمة مسؤولية كاملة على هذا الصعيد، وبالطبع هي ليست حزينة على ضياع مجتمعاتها وبقائها في حالة من اللامستقبل واللاوعي، لأنها مستفيدة من بقاء هكذا أمور على ما هي عليه.
ولا شك أنها تعمل على تعميق تلك المشاكل والأزمات التي تواجه مجتمعاتها، حيث أن من يفكر بذاته وينعزل عن الناس وينغلق على همومه وامتيازاته ومكاسبه الخاصة، لا يمكن أن يفكر مطلقاً بهموم وحاجات المجتمع إلا بالحد الأدنى الذي يحافظ من خلاله على وجوده، واستتباب المواقع، وثبات الأحوال على ما هي عليه.
من هنا تأتي مسؤولية المثقف في أن يقوم بدور حامل المصباح الدال به على طريق الخلاص الفردي والجماعي، وذلك من خلال عمله على تنوير الرأي العام بكل ما من شأنه أن يساهم في بناء الوعي الفعال لدى أفراد الأمة لمواجهة وإسقاط ثقافة القطيع والامعية وتفكيك العقليات القبلية التي تسببت في تفشيل التنمية والتقدم، وتصحيح المفاهيم الخاطئة المتداولة عن السلطة وتوزيع الثروة والأموال، والمساهمة الفعالة في تمكين الأمة من ممارسة حق النقد البناء، ومواجهة محاولات تزييف الوعي الفعال بالحياة والواقع.
بهذا الوعي يمكن بناء نهضة حقيقية تسعى إلى التنوير والإصلاح، وتقوم أساساً على فهم الدين فهماً صحيحاً يتوافق مع العقل الحاضر، ويكون لعنصري الزمان والمكان حضوراً أساسياً في مجمل اجتهاداته وتأويلاته. وبما يتناقض كلياً مع ما نراه ونعاينه في عالمنا العربي والإسلامي حالياً، من انتشار أفكار الشعوذة والعادات والتقاليد والخرافة والأساطير، واعتبارها من صلب رسالة الإسلام، وهي ليست من الدين في شيء.
إن النهضة تقوم وتنبثق من خلال وجود رؤى فكرية للواقع القائم مع أفعال وإجراءات ميدانية لاستدراك سلبياته وبناء مواقعه المستقبلية، والمثقف هنا تكون وظيفته مثل الطبيب (طبيب حضارات)، وعليه واجب تشخيص العلة، وهي واضحة ومكشوفة كما أسلفنا سابقاً، ويمكن التعبير عنها مجدداً من حيث أنها أزمة ثقافية ومعرفية بامتياز قبل أن تكون أي شيء آخر، وبمقدار ما يكون تشخيص أسباب المرض عميقاً وصحيحاً، بمقدار ما يكون وصف الدواء المناسب سهلاً وناجحاً، وبمقدار ما يكون الشفاء منه أمراً ممكناً.
© منبر الحرية،30 غشت/آب 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

لاشك بأن تحديد مسؤوليات واقع التردي والضياع والتخلف العربي القائم حالياً، ليست من المهام الصعبة والشائكة في ظل توافر إمكانات الرصد والمتابعة والوعي الدقيق لمجمل مشاكلنا الداخلية والخارجية الراهنة التي باتت –بالرغم من تحديدنا لها- عصية على الإصلاح والتغيير..
ويمكن الاستنتاج مباشرة ومن دون أية مواربة أو أدنى شكوك –حيث أن الوقائع والدلائل والشواهد العملية في عالمنا العربي والإسلامي أبلغ وأوضح من أية محاولة لحجبها- إن العرب لم يتمكنوا بعد من تكوين وإقامة دول مؤسساتية ونظم حكم قانونية حقيقية بالمعنى العملي والاصطلاحي للكلمة، وأن الواقع الراهن عندنا يعبر أصدق تعبير عن فشل نخبنا السياسية الحاكمة في الوصول إلى بناء هيكلية عملية واضحة عن مفهوم الدول المدنية الحديثة بالمعنى الثقافي والسياسي العملي.
..ويبدو أن لهذا الاستنتاج ما يؤيده في واقعنا العربي، فنحن لا نزال نعيش في ظل نظم “أهلية-قبلية” عتيقة غير مدنية (بالمعنى السوسيولوجي)، يمارس فيها الحاكم “الأعلى-الفرد” حكماً شبه مطلق، بعيد عن منطق العصر والتطور والحداثة السياسية وغير السياسية، ولا مكان فيه لأية منهجية تفكير علمية رصينة، ولا يعلو فيه سوى صوت الماضي والسلف بقرقعات سيوفه وتروسه التي انتقلت –بفعل قوة حضور وسطوة الأعراف والتقاليد والقيم المحافظة- من أيدي الزعامات القبلية القديمة إلى أيدي الخلف من النخب السياسية التقليدية والقبلية الجديدة التي يحكمها قانون البقاء والمصلحة والنزوع السلطوي الدفن، ويتحكم بوجودها فكر ومناخ الاستبداد التاريخي المقيم.
وفي سياق رفض تلك النخب القبلية العربية لمنطق وقانون التغير ومحاربتها لسنة التحول والتداول السياسي والاجتماعي الطبيعي -استجابةً لمنطق تغير الحياة وتطور الإنسان، ومنعها لأية محاولة يمكن من خلالها تشييد البنى الأساسية لإقامة مجتمع مدني متطور- فقد وصلت بها الأمور أن تقف بقوة حتى في وجه أي عامل تقدم علمي أو تقني (وليس سياسياً فقط)، وتمنعه من النفاذ أو الدخول إلى المجتمعات إذا كان يمكن أن يشتم من دخوله أية رائحة للتغيير أو أي حراك بسيط قد يفضي إلى حرف للأوضاع القائمة، أو تغيير بالأفكار ومن أي نوع كان، في العقلية أو السلوك أو التوازنات الاجتماعية أو السياسية.
ولا تزال تلك النخب القائمة تعمل –في سياق إحكام قبضتها على مجمل الحياة العامة في معظم البلاد العربية، وإسقاط أية محاولة لتغيير أو إصلاح الوضع العام على أي مستوى من المستويات التي تهم واقع وحياة ومعيشة مواطنيها ومجتمعاتها- على تكريس ثقافة الفساد والإفساد كجزء من سياسة المواجهة بينها وبين بعض مختلف الفئات الاجتماعية المتضررة والمختنقة الساعية بأي ثمن للتغيير والضاغطة بشدة على النظام، مما يجعلها تخصص قسماً كبيراً من موارد الدولة وإمكانات المجتمع المادية والمالية والبشرية الهائلة المتوافرة من أجل تكريس وجودها، وحماية مصالحها وصون امتيازاتها، وضمان بقائها واستدامة سطوتها وانفلاتها من عقال القانون والمحاسبة والمساءلة، وقيامها بفرض حال الاستقرار والثبات (أي فرض الثبات والموت) بالقوة المادية العارية أو بقوة الأمر الواقع والعنف الرمزي، وسد كل منافذ التغيير، وإحباط أي أمل بإصلاح الحال المعقد القائم..
وهكذا لم يبقَ هناك، في معظم البلاد العربية والإسلامية، أي هامش لتحقيق أي لون من ألوان الاستثمار الحاضر والمستقبل في مجمل الرأسمال الروحي والمادي لمجتمعاتنا، لا في الإنسان (من خلال فكره وعقله وطاقاته ومواهبه) ولا في الواقع والطبيعة (إبداعات واكتشافات وإنتاجات مختلفة). لأن الإنسان العربي منكفئ عن ساحة العمل والإنتاج والإبداع، ومستغرق في هموم معيشته وتأمين متطلبات وجوده الأساسية من مأكل وملبس ومشرب، ولا يهمه أي شيء آخر سوى تأمين لقمة الأكل لأسرته وأبنائه (اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا).. وهذا هو ما أوصلته إليه قرون طويلة من ممارسة الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وسياسة التهميش وإلغاء الآخر.
من هذا المنطلق فإن الأمل بحدوث تطورات حقيقية سياسية واجتماعية وعلمية وصناعية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً، يمكن أن تستجيب لتحديات الحياة في الوجود المؤثر والفاعل،مرهون -ليس فقط بمدى قدرتنا الفكرية والعملية على الاستجابة الفاعلة لتلك التطورات- وإنما مرهون، أيضاً وبشكل أساسي، إلى ضرورة إحداث تغييرات هائلة على صعيد الحكم وإشكاليات السلطة والمشاركة والحرية .. الخ. لأن الأصل في إحداث أي تغيير حقيقي هو في امتلاك القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة المسؤولة والمعبرة عن طموحات الناس والمنسجمة مع تطورات وتغييرات الحياة الدولية.. وهذا التغيير المطلوب لن يتحقق لوحده بقدرة سماوية، بل لا بد من إرادة جماعية فاعلة لتحقيقه، حيث أن النخب الحاكمة –على وجه العموم- ليست لها أية مصلحة في عملية الإصلاح، فضلاً عن كونها أصلاً نظماً محافظة وتقليدية وغير قادرة على مجرد التفكير بالتغيير، ولا تمتلك الحد الأدنى من الإرادة الجدية والفاعلية العملية لإحداث التغيير أو الإصلاح المنشود، بسبب انغلاقها ومركزيتها وتغييب قوى التأثير عليها من خلال ما قامت به –وعلى مدى العقود الماضية- من سحق للمجتمعات، وتحطيم منظم للموارد والقدرات والطاقات.
من هنا فإن استثمار تطورات الحياة والاستفادة المثلى من أي تقدم علمي يمكن أن توفره الحضارة الحديثة لن يكون متاحاً أمام مجتمعاتنا وأفرادنا إلا إذا ساهمنا وشاركنا جميعاً –بصورة وبأخرى- في إنتاجه وإبداعه وتمثله عملياً، ومن باب أولى فهمه ووعيه على المستوى المعرفي والثقافي.
وأما على صعيدنا نحن كمجتمعات عربية هشة ومخلخلة المكونات والبنى التحتية، فإنه لا يمكن أن نطور العلم وننتج منجزاته الحديثة، في ظل تحكم سطوة العرف والتقليد الأعمى لسنة الآباء والأجداد، واتساع عقلية القبيلة المنزرعة فينا والمتحكمة بوجودنا ومصائرنا، والتي يعمل أصحابها على تدمير أي فرصة لربط -مجرد ربط- البلاد العربية والمسلمة عموماً بتيارات التقدم العلمي والتقني.. بل على العكس من ذلك، إنها تعمل على ترسيخ كيانها الذاتي البدائي، وتكريس طبيعة نموذجها السياسي الثابت وعديم الفائدة والجدوى والهدف، وحفظ بقاء النظم ولو كان ذلك على حساب مجتمع أو أمة بأكملها.
وبالنتيجة تكون المجتمعات العربية هي التي تدفع الثمن والتكلفة الباهظة التي تترتب على سلوك تلك السياسات الفاشلة والعقيمة للنظم السياسية الضعيفة الأفق القائمة، والتي تستمر في وجودها على قاعدة تعقيم الإنسان العربي وشل قدراته وسحق طاقاته، والتي ليس لها مبرر وجود سوى خدمة مصالح الفئات والطبقات والأفراد والنخب العصبوية التي تسيطر عليها وتتحكم بمقدراتها.
..ولا شك بأننا عندما نضع السلطات السياسية الشمولية القبلية في موضع المسبب الرئيسي لأزمة الوجود العربي المتخلف الراهن –والتي تتوالد عنها مشاكل وتحديات متلاحقة باستمرار- فإننا لا نعفي ثقافتنا السائدة حالياً –باعتبارها امتداد لثقافة الأمس إلى اليوم- من المشاركة في تلك المسؤولية.. فالحكام هم جزء من مجمل المشهد العام لمجتمعاتنا وحضارتنا وثقافتنا، كما أنهم صورة عنا في مواقع الحكم والقرار الأعلى. وإذا ما افترضنا وصول أي حزب آخر معارض إلى سدة الحكم في عالمنا العربي والإسلامي، فهل ستختلف النتائج التي سيحققها، عما هو سائد حالياً من كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية في ظل هيمنة الثقافة التاريخية المتخلفة ذاتها، وفي ظل سيطرة عقلية التقليد والإتباع والامعية نفسها؟!!..
© منبر الحرية ، 30 يونيو / حزيران 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

عند مراجعة  عدد من كتب التراث تطالع الباحث باستمرار أحاديث وسير وروايات غير قليلة تتناول أهمية النقد وضرورة حساب الذات والنفس قبل حساب الواقع والحياة.. وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر من تلك الأحاديث: “ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم.. “.
إنَّ دراسة هذا النص تجعلنا نلقي الضوء على نظرة بعض رموز الإسلاميين المنفتحين والمتنورين لقضية المحاسبة والنقد الفكري، وذلك من خلال التأكيد على ضرورة تعميق الروح النقدية في مفاصل اجتماعنا السياسي والمدني الحالي، وإعلاء كلمة العقل، وترسيخ مبدأ العقلانية الواقعية، والعمل على إيجاد تربته المناسبة. وذلك من أجل الكشف عن حقيقة أزمات الواقع المعاصر الذي نحياه ونعايشه بإيجابياته وسلبياته، وتحليل ظروفه وأحواله المختلفة، وأخذ العبر والدروس منه، بحيث يقودنا ذلك إلى ضرورة تجديد الروح الإسلامية والعقل الإسلامي، والانفتاح على العالم والحياة، واعتماد مبدأ الاجتهاد والتجديد والروح العلمية المجردة، والرؤية الموضوعية للذات والإنسان وللعالم بشكل دائم.
وقد يظن البعض أن هذا الحديث محصور بالجانب العاطفي الوجداني (النفسي) من حياة الإنسان، لأنه يحضه على ضرورة التزام النقد والمحاسبة على صعيده الذاتي فقط، ولكن المسألة هنا هي أنَّ ذاتية الإنسان غير منفصلة بالمطلق عن خارجيته، إذ إننا نجد أن حركة الإنسان وفعالياته ونشاطاته مرهونة ومعلولة بمعظمها لطبيعة تصوره ومفهومه عن الحياة والوجود كله، مما يعني أن وعي الإنسان وإدراكه لواقعه الخارجي هو -في الإجمال- وعيٌ لذاته، وإدراكٌ لمفاهيمه ولأفكاره وتكيفٌ مع الواقع الخارجي.. وإلا فإنه سيصبح عاجزاً تماماً عن السير من حالة إلى أخرى أكثر تطوراً وكمالاً في حركة الحياة.. وربما يكون مصيره الانقراض الوجودي –إذا جاز التعبير- عندما يعجز عن تلبية احتياجات التطور الكوني والوجودي المستمر والمتواصل.
من هنا بالذات كان اهتمام وتركيز الإسلام –كدين مدرحي (مادي، روحي)- منصباً على فكرة التربية، أي الحض على ممارسة الفرد لمختلف أساليب وطرائق الإعداد الروحي والبناء الأخلاقي المتين، وتوعيته على حقائق الحياة والوجود، كجزء أساسي من مسيرته التكاملية نحو تمثل قيم العدل والتوازن والمساواة في السياسة والاجتماع والاقتصاد و.. الخ.
وقد استفاض العلماء والمفكرون في الشرح والحديث عن أهمية بناء النفس وتنمية الروح (والأخلاق المعنوية الذاتية) كمقدمة وأساس لبناء وتنمية الواقع الخارجي، ليكون بالتالي تغيير ما بالنفس هو الأساس لتغيير ما بالواقع.
ومن هنا جاء تركيز الإسلام على ضرورة تعميق منهج وخط الإعداد الروحي عند الإنسان المسلم (الجهاد الأكبر) ليكون ذلك مقدمة لازمة حيوية لتغيير الحياة والواقع في الاتجاه الذي يحقق كرامة الإنسان وعدالة الحياة والوجود.
ولعل من أبرز تجليات هذا التوجه في طبيعة العمل التغييري الخارجي هو في سلوك وممارسة حق النقد والرفض والمعارضة العلنية والتدخل، والأمر بالمعروف (والمعروف هنا يشتمل على كل معاني الخير والنفع العام)، ومعارضة السلطة الظالمة، ومواجهة السلطان الجائر والفاسد.
وهذه من الواجبات الأساسية التي يجب –على المثقفين ودعاة الدين المنفتحين- العمل على تعزيزها وتركيزها في واقع الأمة من أجل فصم عرى مشروع الدولة الشمولية وسلطتها المستقلة والمنفصلة عن المجتمع والأمة. ونعني بالدولة “الشمولية” هنا، الدولة المشخصنة التي تقوم على نفي حرية الفرد، ومصادرة وجود الناس، ورهن إرادتهم لها، وإلغاء أي دور لأفراد المجتمع في تداول السلطة، وعدم اعتبار الأمة مصدراً للحكم والسلطة، مما يفقد هذه السلطة شرعية الوجود في الوجدان المجتمعي الشعبي.
إن السلطة القائمة (أية سلطة) لا تصبح شرعية في وجودها وعملها (وتحظى برضا الأمة والشعب) إلا عندما تقوم على احترام حق المجتمع في معارضة توجهاتها المختلفة، ونقد سياساتها العملية، بحيث يكون هذا الحق سلطة قانونية موازية لسلطة الدولة نفسها.
ويبدو لنا أنَّ سيطرة العقلية القبلية على قطاعات واسعة من أجهزة الحكم السياسي العربي والإسلامي بكل أجوائه وامتداداته، تشكل إحدى أهم المسببات الرئيسية لأزمات واقعنا المتلاحقة التي تكبله وتمنعه من الانطلاق نحو مواقع العمل والإنتاج، وترهن وجوده لصالح نزعات طغيانية ذاتية ليس لأصحابها من هم سوى تكريس مصالحهم وأهوائهم، على حساب الدولة والأمة كله.
وقد أدى استمرار وجود ظاهرة الاستبداد والطغيان في عالمنا العربي والإسلامي، إلى بناء حداثة عربية مشوهة ورثة، قامت على شراء منتجات الغرب من دون أن يعي ويستوعب ويتمثل أصحابها ودعاتها معنى الثقافة والفلسفة التي أنتجتها وأبدعتها، فكانت النتيجة أننا نعايش حالياً ازدواجية وتناقضات فكرية وعملية صارخة إزاء فكرة الحداثة والتنوير والتنمية وكل ما يتصل بها من مفردات وصيغ ونتاجات فكرية ومادية.
ولذلك ليس هناك من أمل للخروج من هذه الأزمة العميقة (وحداثتها المزيفة الكسيحة) إلا بتوجيه سهام النقد الموضوعي إلى الجذور النفسية والفكرية التي أنتجت وولدت هذه الحداثة، وتهيئة شروط جديدة لتجاوزها، والخروج من أخطارها العقيمة.
وحتى تسترجع مجتمعاتنا صدقيتها الداخلية والخارجية –على صعيد بناء وجودها العملي الفاعل والمؤثر- ليس لها من سبيل سوى ارتفاع نخبها الفكرية والسياسية إلى مستوى المرحلة والتحديات الكونية الهائلة، واستعادتها لمعاني المسؤولية الوطنية، وإظهار قدرتها على إحداث تغيير حقيقي جذري في أساليب الحكم والإدارة وفي نوعية السياسات والاستراتيجيات (التي سبق أن رسمت في ظروف ومواقع وأدوار مختلفة كلياً عن الراهن والتي قادتنا جميعاً إلى حالة انسداد الآفاق، وتفجر الأزمات) والعودة إلى اعتماد طريق الإدارة الحديثة القائمة على معايير الكفاءة والنزاهة والقانون والنقد الموضوعي وتكافؤ الفرص، بدل معايير الزبونية والمحسوبية والعلاقات ما قبل وطنية.
© منبر الحرية، 24 فبراير/شباط 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

فقد العربُ في الفترات التاريخية الأخيرة –وبالتحديد منذ بداية عهد السيطرة الغربية/العربية على بلادهم- السيطرةَ على وجودهم، وتحكم الآخرون بمصائرهم وثرواتهم، مما أدى إلى تعميق إحساسهم بالمذلة والخسارة، وفَشَلهم في تسيير شؤون مجتمعاتهم، وفقدانهم لإرادة التأثير النوعي الفاعل –أو على الأقل التبادل الندي- مع الآخرين.
وقد ساهم هذا الانكشاف الخطير في الممارسة العملية لمنعكسات المفاهيم والأفكار التي اعتقد بها العرب، ساهم في تحويل كثير من عناصر ثقافتهم الدينية –بمختلف مفرداتها وعناوينها- إلى مجرد حالة تقليدية جامدة يلفها رداء التقديس التاريخي المزيف، وتضج برواسب التخلف والتحجر والسكون، ولا توحي بأي معنى من معاني الحيوية والتفاعلية والتبادلية والتأثير العملي في واقع الحياة والعصر. وكان أعظم ما توصلوا إليه من التزام هو أن يبقوا محافظين على ممارسة شعائرهم الدينية وطقوسهم التقليدية من دون أن يكون لها أية صلة –مباشرة أو غير مباشرة– بقضايا الحياة المصيرية التي ترتبط مباشرة بوجودهم وتطورهم ونهوضهم الحضاري المنشود كالحرية والاستقلال والعدل والتنمية والوحدة.. الخ..
هذا وقد حاول العرب إقامة تجارب وتجليات عملية لقضايا الحق والعدل والحرية والوحدة في بلدانهم، ولكن محاولتهم تلك لم تنجح عموماً بالرغم مما وفروه لها من قاعدة نظرية واسعة الطيف والامتداد.. فمثلاً على صعيد الوحدة، قدم لنا التاريخ العربي الحديث نماذج عديدة لتجارب وحدوية فاشلة تتأكد من خلالها حقيقة أن الوحدة لا تعني التوحد القسري القائم على نفي كل أشكال التعدد الطبيعية والتاريخية المتوفرة في المجتمعات العربية والإسلامية. لذلك فقد استخدمت هذه المدارس كل ترسانتها وإمكاناتها النظرية والعملية في سبيل محاربة تلك الحقائق وإقصائها من الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي.
ولكن وبعد حدوث تطورات عديدة شهدها العالم عموماً وجدنا بأن كل الوسائل والأساليب المستخدمة من قبل تلك المدارس لتذويب هذه الحقائق ونفيها من الخريطة العربية باءت بالفشل والإخفاق، ولم تستطع هذه المدارس أن تحقق مفهومها للوحدة القائم على القسر والنفي والإلغاء، بل أوجدت أثراً عكسياً في الواقع العربي، حيث ازدادت الكيانات الصغيرة التي تعمل على الحفاظ على هويتها الخاصة وعوامل تميزها أو اختلافها التاريخي أو الطبيعي.
وبهذا نستطيع أن نقول، بأن الوحدة والتكاملية لا تعني التطابق التام في وجهات النظر ومشروعات العمل أو أولوياته أو في طرق التفكير والتخطيط..، وإنما تعني ابتداءًا احترام الحقائق والوقائع التاريخية والطبيعية، والعمل بشكل وحدوي على ضوء تلك الحقائق والوقائع، وعدم نفي الخصوصيات وإقصاء حالات التنوع على الأصعدة التاريخية والثقافية والسياسية.
فالالتزام السياسي بمفهوم الوحدة، لا يقضي بأن يكون الجميع محل اتفاق حول كل المسائل. لهذا فإن الإصرار على صهر التكوينات والتعدديات والمذاهب في بوتقة أو مذهب واحد، هو بحد ذاته إصرار على زيادة وتوسيع رقعة وجغرافية الانقسام والتفكك العربي، لأن في هذا الإصرار دعوة إلى عدم التعاون والتآلف فيما بينهم، ومحاولة لوضع المسائل الثانوية (الفرعية) مكان المسائل الجوهرية.
من هنا لابد من القول والتأكيد على أن البذرة والنواة الأولى اللازمة لتشكيل وصياغة مشروع التكامل العربي، هي في تعميق جميع القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية، وفسح المجال لجميع المؤسسات والأطر، التي تأخذ على عاتقها نشر قيم احترام التعدد والتنوع ونسبية الحقيقة وإشاعة الانفتاح والتسامح. لأنه في مثل هذه الأجواء، تتبلور قيم التكامل الحقيقية وسبلها الحضارية. وبدون هذا العمل سيبقى شعار التكامل والتوحد العربي خال من أي مضامين عملية، ويبدو أشبه ما يكون بالطبل الأجوف، ضوضاء وصخب من دون فعل حقيقي.. صراخ يثير خوف الآخرين، ويزيد من هواجسهم الأمنية والسياسية، ولكن بدون أن يتحول هذا الشعار إلى حقائق ووقائع تملأ كل أوطان العرب وبلدانهم.
ومن المعروف لنا جميعاً –في التاريخ السياسي العربي- أن العرب حاولوا مد جسور التقارب بين مختلف مذاهبهم وتياراتهم الفكرية والدينية كخطوة أولى على طريق الوحدة الكبرى، ولكن كانت هناك ثمة عوامل داخلية ذاتية، حالت دون نجاح محاولات التقريب المتعاقبة، وسوف تقف موانع وعوائق دون إدراك المراد ما لم تعالَج، وأهمها:
1. سيادة عقلية الاستبداد والسيطرة وكاريزما القيادة المعصومة على مناهج وثقافات العرب بصورة عامة.
2. تغييب إرادة العمل السياسي الجماعية، وتكريس عقلية وإرادة العمل الفردي المشخصن الذي يختصر ويختزل الأمة كلها في شخصية الحاكم الفرد.
3. عدم وجود قاعدة فكرية ومفاهيمية واضحة لدى كل الفرقاء تؤسس لإرادة الاجتماع، وهو ما يتجلى لنا أكثر من خلال غياب الإرادة القانونية والتشريعية، حيث أن كل فرقة (دينية أم سياسية) تتغنى بأمجادها وثقافاتها الخاصة، وتدعي لنفسها النجاة والخلاص الفردي لا الجماعي.
من هنا اعتقادنا ورؤيتنا أن الدعوة إلى المشروع العربي التكاملي في ظل واقعنا المأزوم الراهن، والذي تتزايد وتائر الحديث عنها في أوقات المحن والقلق السلبي، كما هو حاصل حالياً في حروبنا وغزواتنا الصغيرة والكبيرة هنا وهناك من عالمنا العربي، لا بد وأن تأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
أولاً: الحاجة الماسة إلى إعادة صياغة وبناء وإنتاج الشخصية العربية المتوازنة، بحيث يشعر العرب –في هذا العالم المفكك والمضطرب– بالصفة العملية الواقعية في كل مواقع وجودهم وانتماءاتهم باعتبار أنهم يمثلون حضارة إنسانية مميزة في أفكارها ومفاهيمها وانفتاحها على باقي الأمم والحضارات، مما يفرض عليهم العمل على تحقيق التكامل السياسي والاقتصادي، من خلال التأكيد على عناصر هذا التكامل الفكري والمنهجي في كل الواقع العربي بما يضمن تحريك وتوجيه مشاعر العرب باتجاه تكاملهم وتوحدهم أعلى المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية ضمن دائرة التنوع الحضاري..
ثانياً- السعي الدؤوب باتجاه صنع وإنتاج القوة على المستوى الفكري والسياسي من خلال إعداد خطط عملية خاصة بتنمية الطاقات الكثيرة المتنوعة الموجودة في عالمنا العربي في داخل الأرض وخارجها، وتحويلها إلى عنصر مساهم –بكل قدراته– في بناء الذات العربية، وصنع قوتها الحضارية على أساس التكامل والتوازن والوعي للواقع.
وهناك نقطة مهمة لا بد من طرحها دائماً وهي أن سنة الله في خلقه لا تعني ثبات الأحوال، وبقاء المواقع على ما هي عليه. فالوجود متحرك من واقع إلى آخر، ولا يهدأ على حال من الأحوال، والمتغير هو الثابت الكوني الوحيد.
ويبدو لنا أن هذا الأمر يشكل القاعدة الأساسية في تكوين وبناء الحركية التاريخية القادرة على تحديد أهداف –وبلورة استراتيجيات- الدخول إلى أجواء التنافس أو التفاهم مع الأطراف الدولية الأخرى. أي المنافسة على القدرة والمبادرة والفعل، وبالتالي انتزاع اعتراف الآخرين بقدرة العرب على النهوض والارتقاء والمنافسة الندية.
ثالثاً- ضرورة أن يتحمل المثقف العربي المسلم مسؤولياته الفكرية النقدية كاملة، ويراجع تعبيراته ومشاريعه والتزاماته، في أن يبتعد قليلاً عن أجواء السجال والميدان السياسي اليومي للحدث فقط، فيما تكمن الأزمة –جوهرياً– في كيان الأمة الثقافي والمعرفي بامتياز. وهذا الأمر يحتم على المثقف العضوي النقدي أن يحول عمله وإنتاجه إلى قرار وسلوك وعمل وأخلاقيات تعامل في ممارسته لسلوكية الحوار الشامل والسجال النقدي الموضوعي في جدية طرحه لأسئلة النهضة والتقدم.
© منبر الحرية، 30 يناير/كانون الثاني2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

لم تتمكن تجليات الروح المتسامحة والعقلية الحضارية المنفتحة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي عند بعض حركات التنوير العقلي من التغلب والانتصار على روح “الملك العضوض” ومشروع “الدولة-القبيلة” التي كانت –،على ما ظهر لاحقاً في أحداث وتواريخ ومشاكل وتحديات عصفت بعالم الإسلام والمسلمين- متأصلةً في النفوس والأرواح وعصيةً على التغيير والإصلاح الحقيقي، والتي مثّلتها كثير من زعامات الحكم الإسلامي على طول مسيرة التاريخ الإسلامي.
وقد قامت “الدولة-القبيلة” التي أسستها روح القهر والطغيان وعقلية التغلّب والغصب في عالمنا العربي والإسلامي –والتي مازالت مستمرة بصور وأشكال شتى حتى عصرنا الراهن- بتحقيق كثير من المنجزات (العظيمة!!)، نذكر منها هنا:
1-بناء دولة الفرد وليس دولة الأمة، والعمل على إحداث قطيعة شبه كاملة بين الدولة والمجتمع ككل، الأمر الذي حول الدولة العربية الإسلامية (التاريخية والراهنة) إلى دولة نخبوية فوقية تخص النخبة السياسية الحاكمة، في تأمين متطلبات وجودها واستمرارها، بعد أن فشلت في مجرد التحول –استجابة لتغيرات الواقع- إلى دولة مواطنيها الأحرار الشرفاء، بل بقيت –بالنظر لبنيتها المؤسساتية الهشة- عاجزة كلياً عن إقامة دولة العدل والمؤسسات والدستور..، أي أنها لا تزال دولة منفصلة كلياً عن المجتمع المهمّش، والمدمر، والمقصي، والمستبعد كلياً عن ساحة الفعل والإبداع والإنتاج والتشارك الحضاري، والدليل على ذلك: انتشار مختلف مظاهر الاهتراء السياسي والاقتصادي والأخلاقي والديني الواسع في كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية الحديثة، نتيجة هيمنة واقع الحطام واليأس وانسداد آفاق الإصلاح ونفاذ الطاقات، وتعاظم المشاكل، واشتداد التوترات، وضعف إمكانيات التقدم والتراكم الأمر الذي أدى إلى استمرار المشكلات البنيوية وبقاء الأزمات، وتنامي آلية العنف المادي والرمزي.
2-عجز الدولة العربية عن إقامة علاقات قانونية وطبيعية متوازنة مع الناس وعموم الجماهير الواسعة المستبعدة والموجودة خارج دائرة السلطة أو الحكم.
وقد قاد هذا النزوع السلطوي المجنون للنخب الحاكمة -في رغبتها العارمة البقاء في الحكم واستمراريتها على رأس السلطة وتحكمها بمفاصل القرار من أقصاه إلى أقصاه- إلى تزايد الرغبة الشعبية في تدمير البنى الوطنية نتيجة انعدام حس المسؤولية تجاه الوطن والقانون والنظام الاجتماعي ككل..، ويبدو لي أن السبب الأساسي وراء هذا التوجه اللامسؤول لدى قطاعات واسعة من الناس يعود إلى نزع السياسة من المجتمع باعتبارها فاعلية اجتماعية ومجتمعية حرة، ومجالاً عمومياً للمجتمع، وهي أحد أرقى الأشكال التنظيمية لوحدة المجتمع، الأمر الذي أدى إلى تغييب قسري كامل لدور هؤلاء الناس في بناء مجتمعاتهم والمشاركة في تحمل مسؤوليات هذا البناء.
3-انعكاس البنية الدولتية الهشة على الحراك السياسي الخارجي لتلك الدول حيث تتجه الأمور على هذا الصعيد –وكنتيجة لعدم شرعية النخب- إلى مزيد من الانكسارات والهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مستوى فساد التخطيط السياسي العام والخاص، وعقم الممارسة السياسية العملية، وسوء استخدام العمل الإداري اليومي (تفشي الفساد الإداري). وبناء حداثة ديكتاتورية غير عقلانية مستهلكة، وغير قادرة على النمو أو الإنتاج.
4-ضعف إمكانيات الإصلاح والتطوير ذاتياً وموضوعياً، بما فيها عدم وجود رغبة حقيقية لدى تلك النخب القبلية الحاكمة لتغيير أو إصلاح الواقع بنيوياً، بل وعملها الدؤوب على مواجهة أي تغيير سياسي أو ثقافي يمكن أن يفكر فيه أبناء المجتمع ونخبته المفكرة..
والسؤال المطروح الآن: طالما أن ممكنات التغيير وآفاق الإصلاح السياسي العربي الراهن صعب ومعقد وشبه مستحيل..، أليـس من الأجدى والأكثر فائدة الاشـتغال على بناء ثقافة الإصلاح والوعي الوطني الحقيقي المسؤول بين الناس؟!! أي إعادة الاعتبار لمفهوم حب الوطن وتعميق الحس الوطني المسؤول بين الناس قبل النخب الحاكمة؟!! فالناس تغيرت سلباً من حيث طبيعة استجابتها للعمل الوطني، وأضحت –نتيجة هيمنة قرون طويلة من الاستبداد السياسي والثقافي والمجتمعي- مستنكفة عن ممارسة السياسة وضعيفة الصلة والارتباط الحي بمعايير الفعل الوطني، وبالتالي غير قادرة على إحداث أي تأثير في السياسات القائمة والمطروحة والمفروضة عليها التي تخصها.
إنني أعتقد -إتماماً للحديث السابق- أن الذي يعيق المسيرة عن التقدم في هذا الاتجاه حالياً، ويقف في وجه حدوث كل تلك الطموحات والآمال الواسعة في ولوج العالم العربي والإسلامي العصر الحديث -علمياً وحضارياً وتقنياً- لا يقتصر على بعد أو مستوى واحد، بل يتعداه إلى جملة مسببات خاصة وعامة..، ففي المجال الأول يمكن العثور في كثير من زوايا ثقافتنا الدينية والاجتماعية الموروثة على كم كبير من الأنماط الفكرية والأنساق التعبيرية العملية التقليدية التي تحولت إلى دين قائم بحد ذاته يعاند ويواجه قيم الدين الحقيقية على مستوى الفكرة والسلوك والتطبيق. وهذا النوع من حالة اللا توافق الثقافي ولّدت في داخل الأفراد المؤمنين بها والمنتمين إليها نوعاً من التناقض اللامنظور بين الأعراف والعادات (التي أضحت نوعاً من النصوص الدينية بحكم العادة والألفة والممارسة) وبين الواقع الخارجي المختلف كلياً أو جزئياً عن تصورات الذات الفردية. وهذا بحد ذاته سيؤثر سلباً على حركية الفرد، ويعطل عنده حركة العقل والتفكير والإبداع، وسيحوله إلى مجرد آلة منفعلة غير فاعلة على الإطلاق.
وبالتالي لا نستطيع أن نحمل النخب الحاكمة مسؤولية كاملة على هذا الصعيد.. وبالطبع هي ليست حزينة على ضياع مجتمعاتها وبقائها في حالة من اللامستقبل واللاوعي، لأنها مستفيدة من بقاء هكذا أمور على ما هي عليه.
ولا شك أنها تعمل على تعميق تلك المشاكل والأزمات التي تواجه مجتمعاتها، حيث أن من يفكر بذاته وينعزل عن الناس وينغلق على همومه وامتيازاته ومكاسبه الخاصة، لا يمكن أن يفكر مطلقاً بهموم وحاجات المجتمع إلا بالحد الأدنى الذي يحافظ من خلاله على وجوده، واستتباب المواقع، وثبات الأحوال على ما هي عليه.
من هنا تأتي مسؤولية المثقف في أن يقوم بدور حامل المصباح الدال به على طريق الخلاص الفردي والجماعي، وذلك من خلال عمله على تنوير الرأي العام بكل ما من شأنه أن يساهم في بناء الوعي الفعال لدى أفراد الأمة لمواجهة وإسقاط ثقافة القطيع والامعية وتفكيك العقليات القبلية التي تسببت في تفشيل التنمية والتقدم، وتصحيح المفاهيم الخاطئة المتداولة عن السلطة وتوزيع الثروة والأموال، والمساهمة الفعالة في تمكين الأمة من ممارسة حق النقد البناء، ومواجهة محاولات تزييف الوعي الفعال بالحياة والواقع.
بهذا الوعي يمكن بناء نهضة حقيقية تسعى إلى التنوير والإصلاح، وتقوم أساساً على فهم الدين فهماً صحيحاً يتوافق مع العقل الحاضر، ويكون لعنصري الزمان والمكان حضوراً أساسياً في مجمل اجتهاداته وتأويلاته. وبما يتناقض كلياً مع ما نراه ونعاينه في عالمنا العربي والإسلامي حالياً، من انتشار أفكار الشعوذة والعادات والتقاليد والخرافة والأساطير، واعتبارها من صلب رسالة الإسلام، وهي ليست من الدين في شيء.
إن النهضة تقوم وتنبثق من خلال وجود رؤى فكرية للواقع القائم مع أفعال وإجراءات ميدانية لاستدراك سلبياته وبناء مواقعه المستقبلية..، والمثقف هنا تكون وظيفته مثل الطبيب (طبيب حضارات).. وعليه واجب تشخيص العلة، وهي واضحة ومكشوفة كما أسلفنا سابقاً، ويمكن التعبير عنها مجدداً من حيث أنها أزمة ثقافية ومعرفية بامتياز قبل أن تكون أي شيء آخر..، وبمقدار ما يكون تشخيص أسباب المرض عميقاً وصحيحاً، بمقدار ما يكون وصف الدواء المناسب سهلاً وناجحاً، وبمقدار ما يكون الشفاء منه أمراً ممكناً.
© منبر الحرية، 24 يناير/كانون الثاني 2010

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

كيف يمكن للمثقف والسياسي الأصولي بمختلف أشكاله وصوره المتناحرة والمتناقضة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين (والذي يؤمن إيماناً راسخاً بحتمياته ورواسخه الدينية أو القومية أو الماركسية) أن يتحدث عن الحريات والحقوق الفردية، ويطالب بتأسيس دولة القانون والمؤسسات، وهو لا يزال يعيش داخل دهاليز نضالاته الوهمية التي لا يفهمها إلا بلغته وأدواته القديمة البالية؟!.
ثم كيف يمكننا تصديق أقوال الداعية الأصولي الذي حمل السلاح في وجه أبناء المجتمع، ومارس الإقصاء الدموي ضد خيرة أبناء المجتمع، ومسؤولييه عن الديمقراطية، رافضاً حق جميع القوى والتيارات في تداول السلطة والحكم، وو…الخ؟!. وهو نفسه أقام وجوده الفكري والعملي على المطلقات التاريخية والعقائدية المقدسة التي تنفي –بمعظمها- الآخر من جذوره، وتستبعده كلياً من ساحة الحياة إلى حفرة القبر.
إنهما مشهدان يختصران مواقع الثقافة والسياسة في عالمنا العربي، ويقدمان صورة حية عن أيديولوجية الدمار والموت التي تتستر بالعقائد لتبرير عنفها ودمويتها وشبقها الأعمى للتعصب والقتل.
وهذا ما يلزمنا بضرورة تبني العقلانية في الفكر والوعي والممارسة. وأنه يجب على الكل مسامحة الكل إلا من ثبت تورطه في ممارسة القتل الرمزي والدموي بحق الناس والمجتمع)، لأن الكل (وهذه حقيقة صعبة وجارحة قد تصدم الكثيرين) متورط في ممارسة “الزنا السياسي والثقافي” –إذا صح التعبير- من ألفه إلى يائه.
ومن هنا ينبغي على هؤلاء جميعاً أن يقفوا أمام مجتمعاتهم كلها ليقروا ويعترفوا اعتراف المخطئ بكل الأعمال الظالمة والممارسات الشنيعة التي ارتكبوها بحق المجتمع والناس المستضعفين. ومن ثم يطلبوا الصفح والعفو الصريح والحقيقي من الشعوب التي عانت (ولا تزال تعاني) وتتحمل الكثير الكثير من نتائج عقم وسوء الاستراتيجيات وجملة الخيارات السياسية والتنموية والاقتصادية التي تبنتها ومارستها تلك النخب السياسية والفكرية.
ونحن عندما نتطلع إلى ضرورة أن يتقدم هؤلاء (من المثقفين والحكام) لطلب الغفران من الشعب، فإن ذلك لابد وأن يكون مبنياً على قواعد ومنظومات عمل جديدة في العمل السياسي والثقافي، تضمن عدم تكرار مثل تلك الممارسات والسياسات الخاطئة، وتمنع حدوثها مرة أخرى بضمانات الدولة المؤسساتية العادلة.
وإننا إذ نطالب بالسعي الجدي لتحقيق ذلك، فإننا لا نعتقد باستحالة حدوثه، ولا نطالب هؤلاء باجتراح المعجزات بالرغم من أنهم اجترحوا سابقاً معجزة وصولهم إلى دفة القيادة والحكم من دون أن تنتخبهم الجماهير بإرادتها الطوعية لا القسرية، الأمر الذي تسبب أساساً في إفشال كل خطط التنمية السياسة والاقتصادية العربية على مدار العقود الماضية، حيث أن الحكام الذين كانوا يأتون إلى السلطة كانوا يفتقدون على الدوام مفردة الشرعية الحقيقية، ولهذا كانوا عديمي الفاعلية والجدوى تقريباً في مجريات الأحداث، والتأثير في الواقع والشأن العام لمصلحة الناس عموماً.
ويبدو أن هذا التخلف الفكري والأيديولوجي المقيم عندنا –والمنطلق من خلال تعامل كثير من قياداتنا العربية مع شعاراتهم وقضاياهم ومع الواقع بعقليات طوطمية سحرية- هو الذي يملي عليهم نقصاً حاداً في الوعي تجاه مفهوم السلطة والحكم والحرية، وأساليب ممارسة الفكرة في الواقع.
فهم لا يزالون يؤمنون –بالرغم من ادعائهم الظاهري الإيمان بالعملية الديمقراطية- بأن عملية التغيير والتطوير (باتجاه قيم التعددية السياسية والفكرية، وفسح المجال الواسع أمام جماهير الأمة لتمارس حرياتها العامة، وتعبر عن آرائها في كل ما يتصل بمصائر عالمنا العربي) ستنطلق من فورها بقدرة قادر أو بسحر ساحر. أي بمجرد أن نصرح عن تلك القيم، أو نصدر صحيفة هنا، ونكتب مقالاً نقدياً هناك.
وتاريخنا المعاصر –الذي كتبت للأسف تلك النخب السياسية والفكرية الجزء الأكبر منه- مليء بكل ما يناقض ما كتبه أدعياء التغيير والتطور عن ضرورة التغيير، وضرورة الحرية والديمقراطية والتقدم.
من هنا نحن نعتقد بأن مشوار التغيير الحقيقي في مجتمعاتنا المتخلفة لا يزال طويلاً وهو لا يعني أن مجيء تيار ما إلى السلطة، يحمل أفكاراً معينة هو الحل، وهو المنقذ لهذا المجتمع الذي يرزح تحت أعباء التخلف والظلم السياسي والاجتماعي، بل إنه يعني أن مجيء بنية جديدة ونظام جديد وتصور جديد لمفهوم بنية الحكم والسلطة هو المنقذ لأشكال التأخر التي نعيشها (وربما يتعيش كثيرون عليها).
ويجب ألا ننسى هنا أن تراثنا السياسي فقير جداً في موضوع البنية التشريعية التي تتناول مفهوم السلطة. كما أن فكرنا الحضاري الإسلامي –الذي كانت له الريادة في مجالات العلوم الإنسانية (كالفلسفة، والاجتماع، والآداب، و..الخ)- يفتقر كثيراً للعلوم السياسية، ولا توجد فيه أية إنجازات تذكر على هذا الصعيد. الأمر الذي أثر سلباً على مستوى عدم إنضاج تجارب حقيقية لدى الأجيال اللاحقة فيما يخص عملية اجتراح بنية جديدة للسلطة، وإحداث التغييرات الكمية والنوعية الحقيقية في نواة الحكم.
ولذلك فإننا نعتقد –وننصح هؤلاء المثقفين والسياسيين ممن جربوا ودفعوا الأثمان الباهظة للنضالات القومية والماركسية والدينية الفاشلة من حاضر ومستقبل شعوبهم ومجتمعاتهم- أن الأمر الذي يمكن أن يُحدث تلك التغييرات الكمية والنوعية المطلوبة في طبيعة السلطة التي نبحث عنها، هو تقديم رؤى وأفكار جديدة لمفهوم السلطة والحكم، تتناول -في الأساس، وقبل أي شيء- شرعية السلطة، وامتدادها الاجتماعي، ورضى الناس الطوعي الحقيقي عنها.
فشرعية السلطة–أية سلطة- أهم بكثير من صبغتها ولونها وتركيبتها المعرفية، سواء كانت دينية أو ماركسية أو قومية أو حتى ليبرالية. وعلى الذين يريدون المساهمة الفاعلة في تطوير الواقع، وتغيير آليات العمل السياسية للمجتمع ككل، عليهم:
أولاً: عدم ممارسة دور القيمومة والوصاية الأبوية على معارفهم، والتخلي عن حراسة أفكارهم ومقولاتهم العاجزة عن مواجهة الواقع والتطورات السريعة والمتلاحقة فيه.
وثانياً: المصالحة الحقيقية العقلانية مع الذات بنقدها وتعرية نقائصها وسلبياتها، ووعي الواقع والحياة المعاصرة.
وثالثاً: الانكباب على إحداث التغييرات النوعية انطلاقاً من الواقع، وليس انطلاقاً من الأفكار المسبقة المعلبة والمتخشبة العاجزة عن قراءة ذاتها قبل قراءة الآخرين.. لأن العلة ليست في الواقع دائماً، أو في توجيه اللوم والاتهامات الاعتباطية للآخر، بل هي  –كما يؤكد علي حرب- في الأفكار المتحجرة والمفاهيم البائدة والنصوص المغلقة والقراءات الموقوتة والعقول القاصرة حيث أن هؤلاء يؤمنون بأن العلة في الواقع وليس في الفكرة والنظرية. ولذلك فهم يسعون دوماً –وهنا أصل الداء، وجذر العطالة- إلى محاولة كسر وتجيير الواقع ومطابقة وقائعه المتغيرة باستمرار مع مقولاتهم المتكلسة البائدة ومفاهيمهم العقيمة غير المنتجة، الأمر الذي سيؤدي –كما أدى سابقاً ويؤدي حالياً- إلى أن يصبح المثقف (وكذلك السياسي) ضحية أفكاره و(دونكيشوتاته) النضالية الفاشلة بحيث يظهر عملياً في الواقع، وهو يعمل ضد مبادئه وأهدافه المحملة بحمولات أيديولوجية شعاراتية ضخمة كلفته –وكلفت مجتمعه- كثيراً من الدماء والدموع. أي يظهر أمامنا حارس القيمة قاتلها، وفق مبدأ “حاميها حراميها”.
وعندما نبدأ جميعاً –كمثقفين وسياسيين- بالتحرك على طريق الإصلاح والتجديد الفكري والعقلي والديني، يمكن أن نصدق أفكارنا، ونصدق بعضنا البعض.. بعيداً عن النفاقية والتكاذب والتكاذب المضاد.
© منبر الحرية، 16 نوفمبر/تشرين الثاني2009

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

تعاني مجتمعاتنا العربية حالياً من مجموعة أزمات تتصل بملفات شائكة، تنتقل من عام إلى آخر من دون البحث الجدي عن حلول جدية ودائمة لها.
وإذا ما أردنا أن نكون أكثر دقة في توصيف المأزق الراهن الذي نعانيه، فإنه يمكننا تحديده في الأمور التالية:
1.    تغييب الثقافة النقدية التي يمكن من خلالها تسليط الضوء على مواقع الخلل والاهتراء في جسم الأمة.
2.    عدم فهم الناس عندنا لمختلف أنماط وصور ومفاهيم الاستبداد الظاهرة والمخفية.
3.    فقدان الإرادة السياسية والكتلة الجماعية (النوعية المؤثرة) التي تهدف إلى إصلاح وتغيير أرضية وقواعد العمل السياسي نفسه، وإلى تكوين تاريخ سياسي وثقافي جديد تتفتح فيه كل ألوان الحياة، وتجف معه كل منابع الاستبداد.
وقد أدت تلك العوامل المسيطرة على مجتمعاتنا إلى مسخ هوية الإنسان وتقزيم وجوده المادي والمعنوي، وتدمير الأخلاق العملية، وقتل العلم وخنق الإبداع. الأمر الذي أدى بدوره إلى تأخر نمو تلك المجتمعات قياساً بالمجتمعات المشابهة لها، وليس قياساً بالمجتمعات والدول المتقدمة..
إذاً نحن نقف في مواجهة “أم الازمات” العربية، والرهانُ على التخلص منها وجوديٌ بامتياز.. إذ هل يعقل –ونحن نعيش في عصر الحريات العامة والحداثة والتطور والانفتاح والثقافات العابرة والمصائر الواحدة- أن تبقى الشعوب العربية بعيدة عن ذلك كله، وعرضةً -على مدار تاريخها السياسي الحديث- لهيمنة أفكار وثقافة الاستبداد والرأي الواحد الذي يختزل الأمة كلها في شخص الحاكم المتفرد؟!!..
وللوقوف على الأسباب التي أدت إلى تركيز فكرة الاستبداد في الواقع العربي الحديث، ومن ثم وعي الأساليب التي يمكن من خلالها تعرية وكشف أسسها وركائزها، لا بد من معرفة عوامل بقاء ومظاهر استمرارية الاستبداد التي يتم اللجوء إليها بهدف إعادة إنتاجها باستمرار في مجتمعاتنا.. مع العلم أن لاستمرارية الاستبداد حالياً خلفية ثقافية تاريخية قديمة تمتد على طول مسيرة هذه الأمة منذ بدايات الدعوة الإسلامية، وانفجار الخلافات والانقسامات السياسية والفكرية الأفقية والعمودية في جسم الأمة التي كانت تشتد وتائرها وتضعف بحسب الوقود المستخدم هنا وهناك.. ولكننا بالإجمال العام لن نتطرق إلى هذه الخلفية في هذا المقال المقتضب على أن نعود إلى معالجته في دراسات ومقالات لاحقة..
ولكننا الآن سنحاول فهم العوامل المهيأة لنمو بذور الاستبداد في اجتماعنا الديني العربي والإسلامي حالياًً، وهي:
1- عدم قناعة النخب الحاكمة في مجتمعاتنا أصلاً بفكرة التغيير السلمي والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. حيث أنه من المعروف أن الأصل في الدولة أن تكون محايدة ومستقلة كرابطة مدنية تحترم استقلالية الفرد الحر المتساوي مع غيره، والقادر على تسيير أموره بنفسه، وتحديد أهدافه العليا بإرادته. وأن الحكومات يجب أن تخضع للمراقبة والمساءلة، وأن الحكام بدورهم يجب أن يخضعوا للقانون والمحاسبة المستمرة، وأن الأمة هي مصدر السلطات (وهي ولية على نفسها) وليس الفرد الحاكم بمزاجه وجشعه وتكالبه على الكرسي والسلطة والثروة.
2- العمل على تفتيت وإذابة ما تبقى من علاقات اجتماعية إيجابية قائمة بين الناس، كالعلاقات الأسريّة، وعلاقات التآلف والتعاضد والتعاون والتكافل الاجتماعي التي قدمتها مختلف الثقافات والحضارات والأديان للإنسان، وحضته على تعزيزها وترسيخها في أنظمة سلوكه الفردي والاجتماعي.
3- وجود إعلام رسمي كثيف دعائي وغوغائي (وحالياً غير رسمي، إذ أصبحث كثير من وسائل إعلامنا العربية الخاصة مرتبطة بهذه الجهة أو تلك) تنحصر مهمته الرئيسية في التطبيل والتزمير لنخب الحكم، والتعبئة لأفكارهم وقناعاته، وتزييف عقول الناس وحجب الحقائق عنهم، وتسمية الأسماء بغير مسمياتها الحقيقية..
4- التضييق على الأحزاب وباقي مؤسسات وبنى المجتمع الأهلي والمدني (وأحياناً إلغاؤها بالكامل) التي يفترض أن تكون شبه مستقلة عن الدولة. والعمل على استبدالها بعلاقات مصلحية انتهازية لا يمكن أن تقود إلا إلى تعميق النوازع الفردية الأنانية على حساب مصلحة الجماعة والمجتمع..
5- تمييع وتغييب القوانين والمؤسسات السياسية والاقتصادية كلها، وتبديلها عملياً بقانون واحد هو قانون الاستثناء والطوارئ الذي يقوم على قاعدة سوفياتية قديمة وهي: “يجب أن يفسد من لم يفسد بعد ليكون الجميع مداناً تحت الطلب”، وبخاصة إفساد الجهاز القضائي والتعليمي التربوي.
6- إن نظام الاستبداد ينصّب من نفسه وصياً على مصالح الناس والأوطان، ويقدم لهم نموذجه الفريد في الوطنية وخدمة المجتمع وهذا النموذج هو الولاء الأعمى والطاعة الكاملة للحاكم الفرد، بحيث يتمكن دائماً من سحق وتفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية، بدعوى أنها تهدد أمن المجتمع وتضعفه في مواجهة قوى الخارج التي تريد نهب أوطاننا وغزو بلداننا وانتهاك كراماتنا ومقدساتنا..
وفي محصلة إجمالية لما آلت إليه النتائج المباشرة لتطبيق تلك السياسات الاستبدادية في مجتمعاتنا العربية، فقد وجدنا أنفسنا جميعاً أمام واقع مدمر ومحطم نفسياً ومادياً (عنف رمزي وعضوي)، وانتقالات سريعة من أزمات إلى أخرى، مما قاد إلى ما نحن عليه اليوم من انسداد كل أفق ممكن لإيجاد حلول ومعالجات ناجعة. خصوصاً وأن الوقت يمضي مسرعاًَ، ولا يرحم ولا ينتظر أحداً، وهو ليس في مصلحة القاعدين والمتقاعسين والمنهمكين في حرتقات وهلوسات داخلية هنا وهناك تشتت القوى وتبعثر الطاقات وتبددها عن الهدف الكبير..
وحتى الآن ليس معلوماً متى سينطلق العرب والمسلمون بجدية شاملة نحو الإصلاح الكلي الشامل المرتكز على مشروع نهضوي حقيقي قبل فوات الأوان، وقبل أن يواجهوا أوضاعاً أكثر سوءاً من الأوضاع السيئة والمزرية التي يعيشونها حالياً قد يتعرضوا من خلالها لخطر الانقراض الفردي والمجتمعي، إذا لم يستدركوا ويقف بقوة لمعالجة مهمات ثقيلة بانتظار مجتمعاتهم وشعوبهم، تنوء تحت حملها الجبال كما يقال، وهي:
–    ملف بناء الدولة من الداخل قبل الحديث عن الخارج ومخططاته ومؤامراته. أي تفعيل التغيير السياسي المتمحور حول إعادة السياسة وإدارة الشأن العام إلى حضن المجتمع، وتمكين الشعوب من المشاركة المنتجة في صناعة قراراتها وتقرير مصيرها وصناعة وجودها.
–    ملف الانقسامات الداخلية بين الدول العربية.
–    النزاعات المتفجرة في الداخل بين الدول والشعوب.
–    ملف الأمن الإقليمي وأمن كل شعب من شعوب المنطقة.
–    ملف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
ولا شك أن هذه المسؤوليات الكبيرة تتطلب قيادات نوعية أخلاقية مضحية ومؤمنة عملاً لا قولاً بمسؤولياتها، تعمل بوحي مبادئ وقيم وغايات إنسانية لا مصلحية نفعية.
وهذا التاريخ كله يشهد على أنه لم تنطلق أمة أو شعب من سباته من دون وجود مثل هذه الطبقة القيادية المضحية والمنكرة لذاتها في سبيل بناء الصالح العام والحفاظ عليه وتطويره.
والأمر الذي تنعقد عليه الآمال –في هذا المجال- يكمن في دفع القوى الحية والجماهير الواسعة (صاحبة المصلحة الحقيقية في الإصلاح والتغيير السلمي الديمقراطي) إلى أن تؤمن بأن الهدف الكبير دونه أثمان وتكاليف وتضحيات جسام.. وما أعنيه هنا هو ثمن الحرية حتماً.
© منبر الحرية، 03 نوفمبر/تشرين الأول 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018