عزيز مشواط

عزيز مشواط21 نوفمبر، 20100

تشكل شعوب العالم العربي الاسلامي في الوقت الراهن احدى الشعوب الاكثر التصاقا بماضيها، في نفس الوقت الذي تواجه فيه تحدي التحديث والتقدم والذي يمثل الغرب نموذجهما. يقول عبد الله العروي في كتابه (الإيديولوجيا العربية المعاصرة): “منذ 75 سنة والعرب يطرحون نفس السؤال: من هو الآخر؟ ومن هو الأنا؟” وإذا كان صاحب مفهوم العقل قد طرح السؤال أواخر الستينيات، فإن الملاحِظ لحركية المشهد العربي الفكري والثقافي لا بد أن يكتشف استمرار حضور نفس الهواجس وإن اختلفت صيغها، ما بين حافر في العقل العربي وناقد له.

يقدم العالم العربي للملاحِظ الأجنبي صورة حية لمجموعة من التناقضات أمام عنف التغيير المفروض بقوة تكنولوجية وحضارية واقتصادية تروج لنموذج النجاح الغربي المدعوم بايمان عميق بالتفوق. ولعل مأثورة عصام العطار التالية خير معبر عن هواجس جيل بأكمله. يقول “كيف نقبل الجمود، بل كيف يمكن الجمود في عالم تتجدد معلوماته ومعطياته ومطالبه ووسائله… باستمرار لا بد لنا من التجدد الدائم والإبداع المتواصل والجهاد المضني في كل مجال… وإلا فقدنا حياتنا ووجودنا الفاعل المؤثر وأزاحنا الركب البشري عن طريقه وقذف بنا إلى هامش الهامش أو هوة التاريخ. فذهبنا جفاء كما يذهب الزبد وغثاء السيل ومحينا من لوحة الحاضر والمستقبل وتحولنا إلى ذكرى من ذكريات الماضي البعيد”. فما بين انجذاب كلي الى ماض مجيد ورهانات التحديث تختلط الدعوات بالصراخ، بالعواطف اللاعقلانية وغليان اجتماعي وسياسي. إنها ملامح أزمة هوية عميقة.

لا بد من العودة إلى الانفجار الحداثي الذي رافق الاستعمار ابتداء من القرن التاسع عشر حيث واجه المسلمون أسئلة هوياتية عميقة. فأصبح  مفهوم الخصوصية المؤسس على قدسية اللغة والتاريخ والدين المشتركين موضع نقاش منذ النصف الثاني من القرن وتعمم بعد ذلك على امتداد العالم العربي الاسلامي. وقد أفرز هذا الاختلال مجموعة من الاستتباعات أهمها على الاطلاق العداء الذي انتصب بين الوطنيين والاسلاميين عند بداية القرن العشرين حيث اعتبرت النزعة الوطنية نقيضا لروح الدين، ولم تتردد في وصفها بالمؤامرة الغربية التي تمس وحدة الأمة. غير أن المسافة الموضوعية بين المثالي والواقعي افرزت فكرة الاصلاح. ومن ثم دعا مفكرو الاصلاح الى العودة الى السلف الصالح والى التقاليد الصافية للدين.

كما لم يحدث قط على امتداد تاريخ الدولة الاسلامية، تطبيق الليبرالية السياسية حيث ظلت السلطة تقريبا في يد حاكم مطلق وهو ما يناقض جذريا الصورة المثالية لأسطورة دين يدعو إلى العدالة والمساواة. وحيث ما وجدت مصلحة الجماعة فثمة شرع الله. والمسلمون باجمعهم لم يستطيعوا التخلص من ذلك.

أما الملاحظة الثالثة فهي غرابة مدى الحيوية الحاسمة للانتماء الى الأمة الاسلامية المتصورة كوحدة في حين أن الحقيقة التاريخية تكذب هذه الاطروحة بشكل سافر. مبدئيا كل المسلمين اخوة في الدين، مهما كان انتماؤهم الاثني، لان منهج الاسلام العالمي يتجاهل الحدود الوطنية.

ولحماية الذات من كل تشرذم وانقسامات طالما لجأت الادبيات الإسلامية إلى اتهام الغير للرد على الواقع المتشرذم للامة الاسلامية، فتعزى الانقسامات الى عدو محتمل يكون سبب المؤامرة المحبوكة (الأعداء-الكفار) الذين يرمون إلى تقزيم الدين من الداخل، وهذا ما يمكن أن يفسر الحذر الذي تقابل به أية محاولة تجديدية، لأن “الاسلام فقد ثقافته الأصلية الى حد بعيد بفعل الافتراءات الكاذبة ذات الأصول الخارجية”.

ومن أجل الهدف نفسه، أي حماية الذات، يعتبر وضع وحدة الأمة في خطر خطيئة كبرى لا يمكن التساهل فيها، ويرمى هذا بالضرورة الى الحفاظ على الانسجام الاجتماعي، حيث يحتل العنصر العربي في الايديولوجية الاسلامية وضعية خاصة في العالم الاسلامي، فالخليفة يجب أن يكون عربيا، واللغة العربية تبقى مقدسة، لأنها لغة الوحي الذي لا يمكن قراءته في غير لغته الأصلية؛ إنها اللغة التي اختارها الله لمخاطبة الجنس البشري.

صحيح ان الساسة الليبراليين حاولوا أمام عجز الاصلاح الذي قاده رواد التقليدية ملئ الفراغ، حيث شكلوا المؤسسين الفعليين لاستقلال الدول العربية، فمزجوا بين ثنائية العروبة والاسلام مستعيرين جهازا مفاهيميا مستمدا من التراث، غير أن نموذجهم السياسي والاجتماعي ظل مستمدا من  النزعة اللائكية والعقلانية الاوروبية.

إلا ان الاضطرابات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، والحرب العربية الاسرائيلية اسهمت في إحداث تغيرات فجائية وجذرية في انبثاق حركات التحرر حيث شكل مفهوم الثورة إحدى المفاهيم العامة التي طبعت المرحلة.

وقد طرحت على النزعة العروبية مجموعة من التحديات تمثلت في هذا التحدي المزدوج الذي يمثله الغرب من جهة والبنيات التقليدية المهيمنة من جهة اخرى. فسادت نزعة مناوئة للنموذج الغربي باسم الأصالة والخصوصية والقيم المسماة أصيلة، كما شهدت المرحلة نوعا من التماهي بين العروبة والاسلام. وهو اتجاه شمل حتى بعض المنظرين المسيحيين الذين أكدوا على الأبعاد الاسلامية للشخصية العربية معتبرين بانها موروث مشترك بين افراد الامة.

يعرف العالم العربي الاسلامي حاليا العديد من التغيرات تمس العقلية السائدة يرافقها قلق حاسم ناتج عن تعدد الاجابات المقترحة للرد على اكراهات وضعية فقدان الهوية، ويمكن تلخيص ذلك في التناقض بين الاصالة والمعاصرة الثورية. ولقد حاول التيار الاصولي تحقيق هذه الاجابة من خلال الدعوة الى عودة الامة العربية الى تطبيق الشرع الاسلامي مستمدا من السلف الصالح نموذج العمل والتأهيل.

تلك هي بعض سمات المجتمعات العربية الاسلامية الباحثة عن استقرار هوياتي تأوي اليه عندما تضيع كل النماذج المسماة مرجعية وهي السمات التي لا يمكن فهمها في انفصال عن بنية شديدة التعقيد من العوامل التاريخية والسياسية والدينية.

© منبرالحرية، 4 أيلول 2008.

عزيز مشواط19 نوفمبر، 20100

تفجرت في الأشهر الأخيرة أزمة حادة بين إيران والمغرب انتهت بقطع البلدين لعلاقتهما الدبلوماسية، على خلفية مساندة المغرب للبحرين وإدانته لتصريحات مسؤولين إيرانيين اعتبروا البحريين محافظة إيرانية. ساند المغرب برسالة ملكية قوية مملكة البحرين، وهي المساندة التي جاءت على غرار مساندة مجموعة من الدول العربية للإمارة الخليجية. لم تحتج إيران على باقي الدول العربية، واستدعت خصيصا السفير المغربي بطهران وأبلغته احتجاجها، مما اعتبره المغرب إهانة له. لكن بعيدا عن هذه الأسباب المباشرة تختبئ علامات استفهام كبيرة من قبيل: هل يتعلق الأمر بمجرد توتر دبلوماسي عادي كغيره من الأزمات التي تشهدها العلاقات الدولية في أكثر من مناسبة، أم أن الأزمة المغربية- الإيرانية دليل على دخول إيران مرحلة التجسيد الفعلي لدور دركي منطقة الشرق الأوسط ؟
لتبرير قطع علاقاته مع إيران أكد المغرب أن” نشاطات ثابتة للسلطات الإيرانية وبخاصة من طرف البعثة الدبلوماسية بالرباط تستهدف الإساءة للمقومات الدينية الجوهرية للمملكة والمس بالهوية الراسخة للشعب المغربي ووحدة عقيدته ومذهبه السني المالكي”، فانتهت الأمور إلى قطع العلاقة الدبلوماسية بين البلدين.
يعرف كل المتتبعين أن العلاقات الإيرانية -المغربية منذ 1979، لم تكن على ما يُـرام، فالملك الراحل الحسن الثاني استضاف الشّـاه بعد الثورة على نظامه، كما أخذت إيران على المغرب فتوى كان العلماء المغاربة قد أصدروها تقضي بتكفِـير آية الله الخميني. فيما ظلت العلاقات الدبلوماسية متوجسة رغم  إعادة ربطها في سنة 1991.
هذا التوجس المغربي من التمدد الشيعي تقوى بفعل النوايا الإيرانية المعلنة من أجل تصدير الثورة ونشر مذهبِـها الشيعي. وجد المغرب إذن، الفرصة المواتية لإعلان استيائه من التدخل الإيراني في شؤونه الداخلية، لكن الأمر لا يقتصر فقط على المغرب لأن الأثر الإيراني بدأ يتمدد في كافة المنطقة العربية، بل إن الأذرع الشيعية “للأخطبوط الملالي” صار على مقربة من حدود دول عربية ظلت إلى عهد قريب بعيدة عن الاهتمام الشيعي.
تعززت هذه المعطيات بصراع هوية مذهبية، تمظهرت في ما تعرفه الساحة العربية واللبنانية خصوصا من صراعات طاحنة بين شيعة حزب الله وغيرهم من أتباع إيران من جهة، وموالاة السعودية من جهة ثانية، فلم تكن الأزمة الأخيرة سوى مظهر من مظاهر التدخل الإيراني على أساس مذهبي في المنطقة. لقد أدخلت إيران المنطقة العربية عامة في أزمة هوية صارخة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، لأنها شكلت نموذجا شاذا في التاريخ المعاصر، إذ لم تكن ثورة الخميني عام 1979مجرد انقلاب أنهى الحكم السياسي للشاه، بل إن الأمر كان أعمق من ذلك بكثير مادامت الثورة الإسلامية الإيرانية، قدمت نموذجا مخالفا في الوقت ذاته للغرب وقيمه، كما هددت جيرانها العرب حينما تبنت شعار تصدير الثورة إلى الخارج.
وعلى هذا الأساس يمكن قراءة ردة الفعل المغربية، إذ لم تكن سوى انتفاضة لدق ناقوس الخطر، بعد أن قوت إيران نفوذها في كل بؤر التوتر التي تعاني من اللا استقرار. ففي العراق مثلا لا تخفي تنظيمات أساسية ولاءها للمرجع الأعلى في إيران. أما في لبنان وفلسطين فقد عملت إيران، عندما فشلت في استمالة الحكومات، على إحاطة نفسها بعدد من التنظيمات الجيدة التنظيم، من أجل تثبيت النفوذ وحماية نفسها من كل ضربة محتملة. وهكذا صار لها حلفاء ناطقين باسم مرشد الجمهورية الإيرانية في كل المنطقة، من قبيل حزب الله وبعض الأطراف العراقية وتنظيمات فلسطينية لا تخفي تبعيتها.
مؤشرات كثيرة تزكي خوفا كبيرا لدى الأوساط السياسية العربية من الخطر الشيعي القادم من بلاد فارس. فعلى خلفية الأزمة الأخيرة بين المغرب وإيران تحدثت الأوساط الأمنية المغربية أن هناك أكثر من 3000 مواطن مغربي اعتنقوا المذهَـب الشِّـيعي، مما جعل السلطات المغربية تنظُـر بكثير من القلق إلى النشاطات الإيرانية في أوساط الجالية المغربية في أوروبا واعتناق الآلاف منهم للمذهب الشيعي.
العديد من المهتمين رأوا في القلق المغربي وحدة التصريحات التي صدرت عن المسؤولين المغاربة تجسيدا لخوف كبير من تفكك الهوية وذوبانها بفعل الاختراق الشيعي المختلف الأشكال، وهو خوف لا يهم المغرب لوحده، بل ينسحب على مجموعة من الحالات المماثلة كمصر والسعودية والأردن ودول خليجية أخرى.
ويبدو أن إيران في أزمتها الأخيرة مع المغرب قد كشفت عن استرتيجية جديدة للتمدد، فبعد تقوية نفوذها بلبنان وفلسطين والعراق، تسعى إيران إلى توسيع نفوذها بكل الوسائل. ولم يكن قرار تصعيدها المواجهة مع المغرب سوى شكل من أشكال استعراض قوتها.
لتحقيق هذا التوسع وتثبيت نفوذها تعمد إيران إلى ثلاث تقنيات: أولا باستعراضها المستمر لقوتها من خلال الترويج الإعلامي لترسانتها النووية والصاروخية، لإرهاب الخصوم. وثانيا استغلال الصراعات والمآسي العربية للعب على حبل المشاعر الشعبية المعادية لإسرائيل والترويج لها بشكل واسع، من خلال ترسانة إعلامية تقوت كثيرا في السنين الأخيرة. أما المستوى الثالث، فيعتمد على ترويج التشيع ليس بمعناه الديني لكن في بعده الثقافي. ويشكل المستوى الأخير منفذا نبهت إليه أكثر من جهة، حيث تختفي وراء الأنشطة الجمعوية والخيرية الإيرانية مشاريع لاستقطاب الشباب ودعم تنظيمات طلابية ومدنية للتأسيس لأرضية التوغل الشيعي.
ضد هذه السياسة يمكن فهم الحركة المضادة التي قام بها المغرب من خلال قطع علاقاته مع الجمهورية الإسلامية الشيعية، رغم الخطورة التي تشكلها على قضاياه المصيرية، إذ لا يستبعد أن تلجأ إيران إلى معاودة دعمها لجبهة البوليساريو في قضية الصحراء. إن محاولة المغرب الوقوف في وجه الاختراق السياسي والرمزي والثقافي لإيران الشيعية يجب أن يقرأ من عدة زوايا. لكن الزاوية الجوهرية في الحادث كونه تنبيه جدي إلى خطورة التمدد الشيعي الذي وصل إلى حد لافت.
أثبتت إيران من خلال الأزمة الأخيرة مع المغرب كما في مناسبات أخرى أنها غير قادرة على نسيان “مجدها” الفارسي، وهو “المجد” الذي صار أكثر عنفا عندما تسلح بعقيدة شيعية. فمن احتلال الجزر الإماراتية، إلى التدخل الإيراني في العراق ولبنان وفلسطين، وصولا إلى الأزمة الأخيرة مع البحرين وما أعقبها من تطورات وصلت حد قطع المغرب علاقاته الدبلوماسية مع طهران، يختفي جبل من “أحلام توسعية” قد تدخل المنطقة في صراعات طاحنة بين الفرس الشيعة وأتباعهم من جهة من والعرب السنة من جهة أخرى حول هوية الخليج وهوية الشرق الأوسط عموما.
© منبر الحرية، 27 مايو 2009

عزيز مشواط19 نوفمبر، 20100

أفادت دراسة تحليلية لانتماءات منفذي الهجمات على أهداف مختلفة في مجموعة من الدول الأوروبية والآسيوية أن المنفذين يتوفرون على الخصائص التالية: كلهم يتجاوزون الحدود الوطنية، ولا يعيشون في البلد الذي ولدوا فيه، بل لهم في بعض الأحيان جنسيات مختلفة، وكلهم قاموا بدراسات حديثة في الغالب من مستوى عال، وينتمون في معظمهم إلى مستوى اجتماعي متوسط، وعاشوا مرحلة الشباب على النمط الغربي، وكلهم قطعوا الصلة مع عائلتهم، قبل أن يتحولوا إلى قنابل بشرية تصرخ ” الدين..الدين…يا عباد الله” ! هل يتعلق الأمر بمجرد عمليات تخدير شديدة المفعول تعرضوا لها، أم أن الأزمة أعمق من ذلك، وترتبط بطبيعة الثقافة الرائجة في مجتمعات الانتحاريين؟
يتأرجح الانتحاريون بين ثقافتين مزدوجتين، ثقافة المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، حيث الحرية حق مقدس، وثقافتهم الأصلية حيث انعدام الحرية والديمقراطية، وانتشار البؤس. ينشأ عن هاته الازدواجية فراغ قاتل يستغله محترفو صناعة الموت لـ”زراعة” العنف والتطرف الناتج عن ضيق الأفق، إذ الانتحاريين، سواء عاشوا في مجتمعاتهم الأصلية أو الغربية، يرتبطون ارتباطا وثيقا بسلوكيات تعتبر فيها الطاعة هي القاعدة وما عداها استثناء.
نقصد بصناعة الطاعة، تلك الوسائل والأدوات المستعملة التي تسحق الفرد وتحوله إلى مجرد تابع، تحدد الجماعة مصيره على الرغم منه. إن ملاحظة بسيطة لثقافة المجتمعات العربية والإسلامية تجعلنا نستنتج اشتراكها في “صناعة الطاعة”، لأنها، تاريخيا على الأقل، لم تعرف المطلب الديمقراطي، ولم تتحول الحرية على امتداد تاريخنا الطويل إلى قيمة سامية، وبقيت حتى الآن عند مستوى الشعارات السياسية والخطب الرنانة. وكلما ارتفعت أصوات المنادين بها، إلا وتعرضت للتهميش والإقصاء، بل للإبادة بالعنف والقوة.
رغم اختلاف وسائل صناعة هاته الطاعة والحفاظ عليها، فإن استغلال الدين لتحقيق هذا الهدف يبقى واضحا. أما مصير الحركات التي تريد الخروج عن الطاعة، فغالبا ما انتهى إلى التنكيل والقتل وإحراق كتب الداعين إليها وتهجيرهم. لم تستطع كل محاولات الفلاسفة والمفكرين، عبر التاريخ زعزعة “نسق الطاعة”، حيث تواجههم دائما اتهامات جاهزة، أقلها الزندقة وإفساد عقول الناس.
ما تعرض له بن رشد في الماضي من تنكيل، وما يتعرض له نصر حامد أبو زيد، وسعد الدين إبراهيم من مضايقات في الوقت الراهن، شاهد على مصير دعاة التنوير في مجتمعات الطاعة. ويشترك في هذا المتطرفون الإسلاميون، كما بعض الأنظمة الأصولية، في قمع كل محاولة تحررية. أما الهدف المشترك وغير المعلن، فهو تكريس مفاهيم الطاعة العمياء في صفوف الأتباع بطرق ثقافية مختلفة وملتوية.
يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه «وعّاظ السلاطين» : «كان كل سلطان جائر يجد دائماً من يدعو له بالتوفيق في جوره». في الوقت الراهن تستمر ممارسات “الوعاظ”، لكن هاته المرة باستخدام تقنيات أشد تأثيرا، حيث تصطف آلات إعلامية ضخمة وإمكانيات تربوية هائلة، ومؤسسات ثقافية بتمويلات خيالية من أجل هدف واحد : تكريس مجتمعات الطاعة، وتخدير الفرد بقتل روحه الإبداعية وتحويله إلى آلة صماء، تستجيب لنداء العاطفة الديني.
إن نسق الطاعة هذا يجعل من استقطاب الانتحاريين عملية بسيطة. وهكذا حينما يهتف “بن لادن” إلى الأمام، لا يتردد العشرات من المغفلين في الاستجابة الفورية، رغم أنهم بفعلتهم هاته، يرجعون بمجتمعاتهم مئات السنين إلى الوراء. إنهم مادة خام “قابلة للاشتعال” في كل وقت وحين، تقودهم فكرة لا تتوقف المواقع الالكترونية والفضائيات والكتب الرخيصة عن ترويجها. إنها ضرورة العودة إلى المنبع الصافي للحضارة العربية الإسلامية للإجابة عن كل أسئلة الحاضر.
تقوم صناعة الموت في مجتمعات الطاعة على تمجيد الماضي، والتضحية بالنفس من أجل استعادته. وهكذا كلما عرض حادث جديد أو قضية مستحدثة، يعود الإسلاميون المتطرفون إلى النص الديني (القرآن أو السنة) للإجابة عنه، بل إن كل أسئلة الحاضر تجد لها في الماضي السحيق جوابا مثاليا. إنهم يستعيرون كلمات الماضي لوصف أحداث الحاضر. وهكذا يصبح تفجير برجي التجارة العالمية “غزوة” وقتل الأبرياء في “مومباي” عمليات جهادية في “دار الكفار”. إنه سفر إلى الماضي بحثا عن أجوبة حاضر مأزوم.
يعود السبب الرئيسي لفشل المجتمعات العربية الإسلامية في تكسير سلوكيات الطاعة، إلى ذلك الإسلام كما تفهمه هاته الحركات، إسلام يقفل باب الاجتهاد، وينطلق من قراءة متزمتة وحرفية للرسالة القرآنية تعتمد على عنصرين:إغلاق باب الاجتهاد ومعاداة الغرب. وهكذا، يرجع المتطرفون كل شئ إلى القرآن وإلى الرسول وإلى الشريعة، كما تمت قراءتها في العصور الأولى للإسلام. وعلى هذا الأساس يتم رفض كل مظاهر الحداثة، فتصبح النقابة بدعة، والحزب ضرب من أعمال الشيطان، والديمقراطية مؤامرة غربية وجب محاربتها.
إن صناعة الموت وإنتاج الانتحاريين نتاج لنسق الطاعة والولاء الأعمى للماضي السحيق. من هنا، وجاهة طرح مشاريع تربوية وإعلامية وتثقيفية تجعل من الديمقراطية والحرية ثقافة يومية وليس مجرد شعارات للاستهلاك. إن الديمقراطية والحرية مطلبين متلازمين، مهمتهما الأساس تشجيع الحوار بين الثقافات المختلفة، لإعطاء أهمية أكبر للاعتراف بالآخر، وتكريس ثقافة تنطلق بالأساس من ” أومن بالاختلاف، إذن أنا موجود”
© منبر الحرية، 18 فبراير 2009

عزيز مشواط18 نوفمبر، 20101

بادرني صديقي ونحن نهم بالخروج من إحدى الندوات الفكرية : لماذا يحتكر الغرب الفلسفة والعلم ونكتفي نحن منذ أزيد من مائة سنة بطرح الأسئلة المكرورة ذاتها : قضايا المرأة، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفصل الدين عن الدولة؟ ومضى صديقي في طرح السؤال: لماذا ندور في الحلقة المفرغة ذاتها و لماذا لم نستطع أن نحول كل الكلام الجميل عن الحرية والتقدم والحداثة إلى حقيقة؟
المنهج والظلمة
وفيما يشبه اليقين التام الذي لا يدخله الشك لا من داخله ولا من باطنه أسترسل صاحبي بوثوق عقائدي بالغ: إن السبب في ذلك هو ابتعادنا عن تعاليم ديننا الحنيف. كانت المحاضرة التي حركت هذه البركة الآسنة من الأسئلة تدور حول فلسفة ديكارت، وتأثيرها على المنتوج الفلسفي الغربي. سؤال المحاضرة الرئيسي انصب حول إمكانية استعادة روح المنهج الديكارتي بعد كل النقد الذي تعرض له بفعل موضات الحداثة وما بعد الحداثة.
حاولت جاهدا أن أتجاوز الإجابات التبريرية، لأني أعرف، على رأي حسن حنفي، أن الفلسفة ٍ تموت حين تصبح وظيفتها هي تبرير المعطيات سواء كانت دينية أو سياسية، والدفاع عنها دون أن تقوم بوظيفتها في التحليل والفهم، ثم النقد. وهنا عدت لصديقي قائلا بأن أبسط أبجديات الدرس الفلسفي الأول قالت لنا “إن طريقة وضع السؤال أهم من الإجابة عن السؤال”. وليس السؤال في الأصل سوى  ذلك البحث الدؤوب عن المنهج لأن التاريخ يعلمنا أن العقل يدخل في االظلمة عندما يغيب المنهج، ويتحول إلى معارف موروثة يتراكم بعضها فوق بعض دون طريقة للوصول إليها.
وجدت نفسي، مرغما على الخوض في وظيفة الفلسفة فقلت لصديقي المتحمس لأفكاره أن مواقفه تحكمها بنية ذهنية لم تستطع الانفكاك من تمجيد الماضي والعداء لكل جديد ومتجدد. ولأن قدر العقل عبر التاريخ أن يخضع باستمرار، ثراءا أو ضعفا، لوضعية الفلسفة ومكانتها، فإننا يمكن أن  نقول أن الفلسفة مرت بظروف صعبة عبر تاريخها بل إنها ماتت مرتين: الأولى في العصر الوسيط الأوروبي عندما تحولت إلى مجرد معارف موسوعية مخزنة في خزائن النخبة. وماتت مرة ثانية في تراثنا القديم، عندما صارت مجرد موسوعات ضخمة يغيب عنها المنهج. الفارق ما بين الحالتين نهوض الفلسفة الأوروبية من سباتها واستنهاضها لهمم العقل منذ ديكارت، واستمرار الفلسفة والعقل العربيين في الاستقالة منذ قرون عديدة.
العقل المستقيل…الحاجة إلى ديكارت.
ضرب صديقي يده كفا بكف وكأنه وجد السر المكنون متهما إياي بالتنقيص من قيمة التراث الفلسفي العربي الإسلامي، أما التهمة الجاهزة فهي “الارتماء في أحضان الغرب”. لا يهم كثيرا العودة هذه المرة للحديث عن نظرية المؤامرة وأصولها في الذهنية العربية، لكن ما يهم حقيقة أن الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط سرعان ما عادت إليها روحها المبادرة مع عصر النهضة ورواد الفلسفة الحديثة وخاصة مع روني ديكارت، في حين طال أمد حالة الصقيع في المنهج والرؤية بالنسبة لحالتنا، لأن العقل العربي الذي نجهد أنفسنا في البحث عن علاته صار خاضعا بفعل شروط موضوعية ما، إلى ما سماه الدكتور محمد عابد الجابري بالعقل المستقيل الذي مازال يخيم بظلاله على كثير من أنماط فكرنا ومسلكياتنا.
لقد افتقد العقل العربي المنهج فافتقد البوصلة التي توجهه نحو مسيرة التقدم الإنساني. فكيف يمكننا تحويل المنهج الديكارتي إلى أداة رئيسية للتغيير؟ وكيف يمكننا، انطلاقا من ذلك، إعادة صياغة النظام المعرفي للمجتمع بشكل يتجاوز المناهج الحالية؟ وكيف بالإمكان تحويل الشك إلى ممارسة نقدية بما ينسجم والرغبة في تأسيس نظام جديد للتفكير؟ هذان هما السؤالان الكبيران اللذان يجب أن تنبني عليهما كل قراءة جديدة للفكر العربي الإسلامي.
وبهذا المعنى أزعم أن العودة إلى روح الكوجيطو الديكارتي ما تزال تتوفر على شرعية عربية قوية. تنبع هذه الشرعية من  أن “أنا أفكر إذن أنا موجود” التي خلص إليها رائد الفلسفة الحديثة روني ديكارت في القرن السادس عشر، لم تتجسد كحقيقة في الواقع العربي رغم كل المحاولات الحثيثة التي قام بها رواد النهضة.
إن روح الفلسفة الديكارتية لا تزال غائبة عن الفكر العربي الإسلامي. إن جوهرها يتمثل في ربط الوجود بالفكر، إذ “متى انقطعت عن التفكير انقطعت عن الوجود” يقول ديكارت. لكن غالبا ما نتعاطى مع هذه المقولة الشهيرة بالكوجيطو بنوع من الاختزالية والسطحية تفرغها من دلالاتها المعرفية وعمقها المنهجي، رغم أن المقولة شكلت ثورة إنسانية شاملة بكل المقاييس.
سلطة العقل …سلطة الخرافة.
فعلا أسس ديكارت من خلال هذه الخلاصة وغيرها من تأملاته الفلسفية الأسس الصلبة لما ستعرفه الإنسانية من تحولات فكرية وسياسية وثقافية. كلمتان أساسيتان يقوم عليهما الكوجيطو الديكارتي…إنهما الأنا والفكر (العقل)…فتصبح الأنا المفكرة هي الحجر الأساس في هذه المقولة. إن حقيقة الذات المفكرة هي الحقيقة الوحيدة التي لم يستطع الشك أن يتسرب إليها بعد أن شك ديكارت في كل شئ.
صحيح أن الشك الديكارتي شك منهجي، وصحيح أيضا أنه شك قصدي، وصحيح أيضا أن نتيجته معروفة سلفا. لكن رغم الانتقادات الموجهة إليه يبقى  لحظة مفصلية في تاريخ الإنسانية ككل والغرب خصوصا. إن أهمية هذه اللحظة نابعة من استتباعاتها، ذلك أنها ستعمد إلى تأسيس الوجود الإنساني انطلاقا من “الأنا المفكرة” في استقلال عن أي تبعية، إذ لم يعد الوجود الإنساني تابعا لا لله ولا للكنيسة ولا لأي سلطة أخرى غير سلطة العقل.
ما يهمني كثيرا، هو تلك القدرة التي استطاع بواستطها الشك الديكارتي على تنحية العقل القروسطي. وبالمقابل ساعد ديكارت العقل الإنساني على الوصول إلى أقصى طاقاته لتقبل العلم واستخراج منطقه العام، فارتفع منسوب العقلنة والتنظيم في كل ما يحيط بالإنسان.
ديكارت…تمارين شاقة للعقل.
نعم لقد ربط ديكارت الوجود بالفكر واعتبره الشرط الوحيد لإنسانية الإنسان. إنها نقلة نوعية لعدة أسباب. أبرزها أن الشك الذي اعتمده ديكارت..كان هدفه الأول القضاء على كل تبعية، والبحث عن استقلالية الإنسان، عن سلطة الكنيسة أولا، وكل ما يتعلق بالميتافيزيقا والكهنوت، والأسطورة…لقد رفع ديكارت من خلال مقولته الشهيرة بالكوجيطو “أنا أفكر إذن أنا موجود” من شأن العقل والمواطن الحر في مقابل القدرة الإلهية ورجالات الدين.
لكن ومع ذلك، لا يجب  نسيان ربط أهمية الشك الديكارتي ودوره التاريخيّ بسياق تحوّل مجتمعيّ أوربي وعالميّ.  وبالتالي لا يمكن الانطلاق من فهم سبب التخلف أو التقدم للعقل أو لدولة ما أو لاتجاهات فكرية ما، من بنية العقل فقط، مع أهمية ذلك.
إن الوقوف عند هذه الملاحظة يحفظنا من الانزلاق عند مناقشة العقل العربي الذي لم يستطع حتى الآن التخلص من عباءة الرؤية الدينية، وتحديداً ما أسس له الغزالي. وابن تيمية، وصولاً إلى ابن حنبل، وبعدهما بمئات السنين محمد بن عبد الوهاب وانتهاء بفكر القاعدة وطالبان.
في ظل سيطرة هذه النظم المعرفية على عقل العرب في كل العالم العربي والإسلامي، بفعل مساهمتها في تشكيل الواقع الراهن منذ أربعينات القرن الماضي على أقل تقدير، فإن تفعيل الشك  الديكارتي إزاء هذه الحتميات تمرين عقلي شاق وصعب لتجدر المسلمات والبديهيات والأفكار القبلية. هنا نتسائل هل نستطيع كعرب تفعيل هذا الكوجيطو بكل ما نرزح تحته من تراكمات قهرية تعمل على تحويل كل خرافة أو أسطورة إلى حقيقة مقدسة تنتهك كل مجالات الوجود سواء الفردي أم الاجتماعي بكل ما نتمسك به من أوهام نعبدها وندافع عنها وننافح عن شرعنة وجودها واستمراريتها؟
بمعنى آخر هل نحن مؤهلون لولادة عقلانية جديدة؟هذا في نظري هو رهاننا أثناء مساءلة الطرح الديكارتي.
تشخيص العطب…
عودة إلى العقل المستقيل الذي تحدث عنه الدكتور محمد عابد الجابري، يمكن أن نسجل ذلك الهوس المنتشر بين مجموعة من أدعياء الثقافة العربية. أقول أدعياء لأنهم يتصيدون فرص الهجوم على كل فكر غربي بغض النظر عن وجاهته أو قيمته. لكن وبفعل الافتقاد إلى الإبداع يعمدون إلى اتباع أحدث الصيحات الانتقادية الصادرة من الغرب نفسه. فبخصوص ديكارت لن نعدم كتابات عربية تصرح جهرا بأن ديكارت تجاوزته النظريات الفلسفية المعاصرة وصار جزءا من الماضي..ولن نعدم أيضا كتابات تستعير كل العتاد النظري الغربي لتثبت تحول العقل الغربي إلى أداة مدمرة للإنسانية..يستشهدون بما أفرزه هذا العقل من تقدم أدى إلى كوارث إنسانية وإلى قيام حربين عالميتين وإلى صناعة القنبلة النووية وتدمير هيروشيما وناكازاكي وغيرها من الحجاج…
ليس هناك اختلاف على هذا التشخيص الإنساني لوضعية عقل يشتغل بمنطقه الخاص، لكن المسخرة تصير من طبيعة متضخمة حينما نتخذ هذه الذرائع لرفض كل ماهو عقلاني وغربي …باعتباره عنوان الفشل..ومن ثمة فإن الرجوع إلى قيمنا الدينية وإلى منهجنا في الاتباع كفيل، حسب هؤلاء الأدعياء، بتخليص الإنسانية من كل “أمراضها”..ليست هذه المنهجية العرجاء سوى دليل آخر على العجز عن الابتكار، خاصة وأن كل الانتقادات التي يتم استجلابها صاغها باستمرار العقل الغربي. إنه عقل قادر في كل مرة على إعادة النظر في نفسه وإعادة النظر في مسلماته. وكانت ولاتزال إحدى نقاط قوته الأساسية محاولة تجاوزه لكل الحتميات التي تأسس عليها. إن الفكر الديكارتي المقدس للعقل والمؤمن بإمكانيات العقل المطلقة لم يلبث أن تعرض لمجموعة من الهزات، بدأت من كانط الذي حصر حدود المعرفة العقلية في المعرفة العلمية وصولا إلى كل موجات الحداثة وما بعد الحداثة التي طالبت بعقل جديد متوائم مع التطورات الإنسانية وآمالها، وفيه يتصالح الإنسان مع الطبيعة، ولا يصير مسخرا لها فقط وإنما جزءا منها، لأنها جزء منه، كما يعلن في غير ما مرة المفكر الفرنسي إدغار موران..
يمكن أن نفهم هذه الانتقادات الغربية للعقل الغربي باعتبارها دينامية داخلية ودليل حيوية، أما أن يتم التعامل معها بانتقائية لاستعمالها كتهمة لمواجهة الآخر والطعن فيه والتنقيص من قيمته بل وإقصائه، فالأمر لا يعدو أن يكون محاولة انتقائية وتلفيقية تثبت العجز عن الإبداع، وتنتظر إنتاجات الآخر الفلسفية والنظرية والتعامل معها بانتقائية للتعويض، مما يثبت بالمنطق النفسي عجزا معرفيا وحضاريا صارخا…وعوض البحث عن السبل الكفيلة بإعادة تشغيل هذا العقل في انسجام مع المعطيات الإنسانية الجديدة والتركيز على روح الإبداع يتم التنحي جانبا والتقوقع بعيدا عن كل القيم الإنسانية..أما السلاح الأمضى في ذلك فهو الإتباع وتلك الذهنية التي لا تؤمن سوى بـ”لا وجود لأفضل مما كان”.
© منبر الحرية، 17 فبراير/شباط 2010

عزيز مشواط18 نوفمبر، 20100

لا يمكن للحرب الكروية التي اندلعت بين الجزائر ومصر على خلفية مباراة التصفيات النهائية لكأس العالم،  أن تمر دون أن تترك علامات استفهام واضحة حول دور كرة القدم في تجييش الجماهير وتعبئتها. لكن بعيدا عن هذه المناولات الصحفية العاطفية والسياسية، من هذا الجانب أو ذاك، دعنا نطرح سؤالا سوسيولوجيا يتجاوز البنية السطحية للظاهرة إلى مستوى أكثر عمقا، بهدف البحث عن البنيات الأشد خفاء بتعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو.
ألا يمكن أن نتحدث عن كرة القدم، كما فعل السوسيولوجي بورديو نفسه، باعتبارها دينا جديدا له رسله وأنبياؤه وتعاليمه الجديدة؟ ألا تشبه حروب كرة القدم، في درجة العنف والتعصب الذي تنتجه، الحروب العقائدية والدينية التي يطلب فيها المرء الشهادة في سبيل فكرة التفوق على الأعداء والخصوم(الكفار)؟
إن المحلل اليقظ والملاحظ الدقيق للسلوك الشعبي والجماهيري على هامش المباراة سيكتشف أن الجميع انخرط بشكل عفوي في انفعالات وإحساسات متماثلة. فبين مثقف مشهور وصانع أحذية جزائري أومصري، توجد ربما هوة عميقة من حيث العلاقة الفكرية، ولكن الفرق بينهما صار منعدما أو ضئيلا بشكل كبير فيما يخص المزاج العام والانفعالات التي أعقبت المباراة.
إن الانخراط الجزائري المصري، الشعبي والرسمي، في لعبة شد الحبل وتبادل الاتهامات نتج بالأساس عن أفق التوقع الذي رسمه الإعلام. لقد صارت مباراة كرة القدم هاجسا مصيريا لشعبين، استطاعت مباراة لكرة القدم أن توحد جميع فئاتهما. يفيد هذا الانخراط أن اللعبة صارت فعلا ظاهرة اجتماعية بكل مواصفاتها السوسيولوجية وبكل خصائصها.
في سنة   1982 كتب عالم الإثنولوجيا  الفرنسي مارك أوجي Marc Augé في مقال معنون بـ ” كرة القدم من التاريخ الاجتماعي إلى الأنتروبولوجيا الدينية”  يقول “تشكل كرة القدم فعلا اجتماعيا شموليا، إنها تجمع كل شتات المجتمع وتتضمن ثنائية الممارسة والفرجة.وهي أيضا ممارسة واسعة الانتشار، الأمر الذي يجعل من وصفها ظاهرة اجتماعية أمرا ممكنا”
لقد ساهمت جماهيرية كرة القدم، الناتجة عن جذب اللعبة لعدد متزايد من الجمهور بفعل بساطة قواعدها وعدم نخبيوتها، في تعقيد المشكل بين الجزائر ومصر. إن هذه الجماهيرية دفعت السياسيين، ومن دون تردد، إلى الركوب على موجة العاطفة الشعبية لتحقيق مكاسب آنية.
إن العنف المتبادل بين جماهير البلدين يجعلنا نقف على بعض الملاحظات التي طورها مارك أوجي في هذا الصدد، إذ يعتبر أن ظاهرة كرة القدم صارت بالفعل ظاهرة اجتماعية شديدة التعقيد. إنها حسب نفس الكاتب شبيهة بالظواهر الدينية التي لا يمكن اختزالها إلى عدد من الأفكار والتمظهرات والتفسيرات البسيطة. إنها تشكل بالنسبة للبعض أفيونا جديدا للشعوب للتحريك والتجييش والتعبئة. غير أنها بالنسبة لكاتبنا تتجاوز ذلك بكثير. إنها تعبير عن علاقات اجتماعية ناتجة عن الطلب الاجتماعي المتزايد على الفرجة.
وبفعل هذه الحاجات الاجتماعية اتخذ الهوس صبغة جماعية تشابه في تمظهراتها كل أفراد المجتمع. انخرط الجزائريون والمصريون في ما يشبه هستيريا جماعية، فأصبحت الهوة ضئيلة جدا بين عامة الناس(الرأي الشائع) والمثقفين والكتاب والصحفيين، مع بعض الاستثناءات طبعا.
لقد  خلق الإعلام في البلدين حالة استهلاكية ابتلعها الجميع مع قهوته الصباحية، وهو يمسي ويصبح على آلة إعلامية تنفخ في جروح العزة والنصر والشجاعة كصفات تتميز بها الذات، في حين يتم أبلسة الآخر وتجريمه ودفعه إلى هاوية اعتباره جحيما. ولم تستطع “الأصوات المتعقلة” المنبعثة من هذا الطرف أو ذاك أن تصمد أمام قوة التدفق الإعلامي التهويلي. لم تستطع كل “النزعات العلمية” أن تقف في وجه  تسونامي الاستهلاك الإعلامي التحريضي، فصار ابتلاع  الكليشيهات الجاهزة فطيرا يوميا لشعبين ينتميان إلى مجال سياسي واقتصادي وثقافي متشابه.
لقد ابتلع الجميع منتوجا إعلاميا، ضخم بشكل كبير  صورة الشر في الآخر. لكن هذا الابتلاع صار غير قابل للكبح، لأنه مدفوع بكل الخيبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها الشعبان. إن حالة الهياج الشديد التي أعقبت المباراة صارت غير قابلة للكبح لأنها مبنية على الحرمان. وهكذا صار التأهل إلى المونديال نوعا من الاستيهام الذي  تم إعداده إعلاميا من خلال اختراق الحقل العاطفي الاجتماعي بشكل مباشر.
وهنا لعبت كرة القدم دورا رمزيا في توحيد ما لا يوحد واقعيا. ففي المجتمعات التي تعاني تفاوتا صارخا بين المستويات المعيشية للساكنة، بين المهمشين المحرومين والممتلكين لوسائل الثراء، تشكل كرة القدم متنفسا اجتماعيا ونفسيا. إن سبب الفرجة التي تخلقها مباراة لكرة القدم ناتجة عن وجود فريقين متصارعين على رقعة الملعب يتوفران على “نفس الأسلحة” والوسائل. لكن كيف تحولت الفرجة المرجوة إلى عنف بين المشجعين، ثم إلى أزمة ديبلوماسية؟
إن درجة التعصب التي أعقبت المباراة تذكرنا بذلك السؤال السوسيولوجي الذي انتشر في الغرب خلال سنوات الثمانينات : هل تعتبر كرة القدم دينا جديدا؟ لقد استمد هذا السؤال مشروعيته من موجة الطوائف الدينية التي انتشرت بشكل كبير مطلع ثمانينيات القرن الماضي. لكن هذا التعميم يحتاج من الناحية الاجتماعية إلى الكثير من التريث في حالة المجتمعات الإسلامية المتخمة بالطقوس الدينية. إن هذا التريث ناتج بالأساس عن مفهوم الطقس الديني. هل في كرة القدم نحن بإزاء طقوس دينية؟ وهل أثر ذلك على درجة العنف التي سادت سواء رمزيا أو ماديا على خلفية مباراة الجزائر ومصر؟
بالتأكيد تجتمع العديد من العوامل و الخصائص لتجعل من كرة القدم شبيهة بطقس ديني. يجتمع العديد من الناس في نفس الفضاء الواحد بعيدا عن الروتين اليومي، من أجل ممارسة تخضع لبعض القواعد والرموز والإشارات وتراتيل/أناشيد حماسية ينخرط فيها الجميع بدون تفرقة بين الغني والفقير، الصغير والكبير، الذكر والأنثى…
في حالة مباراة الجزائر ومصر اجتمعت حزمة من العوامل لتشكل برميل بارود ملئ بالألغام. لقد اخترقت السياسة الحقل الاجتماعي وحاولت اللعب على الأشكال الأكثر قمعا واحتقانا، من خلال الاقتراب من المزاج العام للشعب، بل إن السياسي في البلدين اخضع المباراة لتفسير واحد هو: ضرورة إشباع الرغبات الوهمية في النصر. لكن هل يمكن أن نطمئن إلى هذا التفسير المنبني على اتهام الإعلامي والسياسي بالمسؤولية؟ ألا تعتبر العودة إلى ظاهرة كرة القدم كظاهرة اجتماعية خالصة، مقاربة يمكن أن تقدم بعض الإضاءة ؟
إن ظاهرة كرة القدم صارت بالفعل ظاهرة اجتماعية شديدة التعقيد. وليست تفاعلات مباراة الجزائر ومصر والمنحى الذي اتخذته سوى جبل الجليد الذي يخفي نزوعا مستمرا نحو الإقصاء. لقد صارت فعلا شبيهة بالظواهر الدينية، حيث يتجاور المادي والرمزي، الذاتي والموضوعي، السياسي والاقتصادي، الوهم والحقيقة، الفرجة والمتعة والاستغلال الإيديولوجي. صحيح قد تشكل بالنسبة للبعض أفيونا جديدا للشعوب للتحريك والتجييش والتعبئة. لكنها تبقى في نهاية المطاف تعبيرا عن حاجات اجتماعية خاضعة لقانون إنتاج الظاهرة الاجتماعية بكل تعقيداتها، وخاضعة لقانون العرض والطلب الاجتماعيين. وإذا كانت في الغرب تخضع باستمرار للمساءلة العلمية، كغيرها من الظواهر الاجتماعية،فإنها تظل خاضعة للتفسير العاطفي في المجتمعات الثالثية عموما والعربية خصوصا، مما يهدد في المستقبل بتحول فرجة كرة القدم إلى مآسي وكوارث قد تندلع على إثرها حروب طاحنة، تنضاف إلى كوارث الأمية والفقر والتخلف.
© منبر الحرية، 02 دجنبر/كانون الأول2009

عزيز مشواط16 نوفمبر، 20100

رحل عنا المفكر المغربي محمد عابد الجابري يوم الاثنين 3 مايو 2010 بعد 75 عاما من حياة فكرية صاخبة، فجر فيها جدالات ونقاشات كبيرة، وأعمل معاول النقد في “العقل العربي المستقيل”، دون كلل أوملل.
حملته عصاميته الفريدة والمثيرة للإعجاب، من واحات مدينة “فكيك” المنسية على حدود المغرب الشرقية، إلى مدينة الدار البيضاء، حاضرة المغرب الاقتصادية، بداية الخمسينيات من القرن الماضي، يقوده طموح اكتساب المعرفة.
إنه الطموح نفسه الذي حوله من معلم بالصف الابتدائي في الخمسينيات من القرن الماضي، إلى أستاذ للفلسفة بالجامعة المغربية، وصولا إلى احتلال قمة الهرم الفكري العربي، والتي جعلت البعض يشبهه بابن رشد العصر الحديث أو ديكارت العربي.
وما بين التسميتين، ظل الجابري  يرى ما لا نراه، في الحياة الفكرية والاجتماعية السياسة وحتى في الناس، ويعبر عن كل هذه الأمور بلغة العلم، مستعملا أحدث المنهجيات التي وصل إليها المجهود الإنساني.
لن نقول بأن العقل العربي بعد الجابري بقي يتيما، لكن إسهامات الرجل وقوة الإنجاز العلمي التي مارسها كشفت للعالم العربي، الذي جعل من “عقله” موضوعا لدراسته، أن بنياتنا الذهنية والسلوكية والعقلية تحتاج إلى تشريح خاص.
لقد خاض الجابري مغامرته في تشريح العقل العربي ممتطيا أحدث وسائل الإبستيمولوجيا الحديثة، وعاد إلى عصر التدوين وعصر حروب الخلافة، ونزول القرآن، ونشأة الدولة الإسلامية وغيرها. لقد جعل  نقد العقل العربي مشروعه الفكري الرئيسي. و استطاع الراحل عبر سلسلة “نقد العقل العربي” القيام بتحليل العقل العربي عبر دراسة المكونات والبنى الثقافية واللغوية التي بدأت من عصر التدوين، ثم انتقل إلى دراسة العقل السياسي ثم الأخلاقي.
اتضحت معالم المشروع الفكري للراحل منذ صدور كتابه “نحن والتراث : قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي” (1980)، حيث سيتعرف العالم العربي على “الجابري” المثير للأسئلة الوجودية الكبرى للإنسان العربي. وسيتعرفون على وجه المثقف العربي القادم من أقصى المغرب.
من العسير جدا اختزال السيرة الفكرية والسياسية والحياتية للجابري في ورقة كهذه، لكن إقامة  الجابري الأكاديمية في المشرق العربي، وتحديدا في سورية، أثرت كثيرا على تصوراته، في زمن المد العروبي والقومي على يد  نجم ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشل عفلق  .
ومع أن الجابري ظل وفيا لمجموعة من مبادئ المرحلة، إلا أنه  لم يكن مجرد صدى أو ناقل لأطروحات غيره، بل حافظ على صفاء وعيه  النقدي والوضوح في شرح الأفكار وتقريبها من ذهن المتلقي، قارئا كان أو مناضلا حزبيا، في قالب لغوي سلس تجنب دائما الحذلقة والغموض المفتعل.
لم يمر المشروع الفكري للجابري في العالم العربي دون “مشاحنات” واعتراضات. فقد كفرته أكثر من جهة دينية واحتج عليه أكثر من إسم محسوب على العلمانية. أما هو فقد التزم الصمت في انتظار نهاية مشروعه الفكري.
الاعتراضات التي قدمها منتقدو الجابري ظلت عند مستوى الجزئيات دون أن تستطيع هدم دعائم مشروعه الفكري. وهكذا انتقد فتحي التريكي فكرة وجود عقل عربي وآخر غربي، التي قال بها الجابري. وتوقف علي حرب عند بعض القضايا الاصطلاحية أهمها تفضيل “حرب” استخدام مصطلح الفكر على مصطلح العقل،لأن العقل واحد وإن اختلفت آلياته ومناهجه وتجلياته، كما يؤثره على مصطلح التراث. أما جورج طرابيشي فقد خصص جزءا كبيرا من إنتاجاته للتعليق والتعقيب على أفكار الجابري.
أكيد أن الوسط الثقافي العربي يتحسر على تغييب الموت لشخصية فكرية من حجم الجابري. أما في المغرب  فإن أكثر من متابع للحياة الثقافية والسياسية المغربية  يعترف أن “الجابري” سيظل حاضرا في المتن الفكري والسياسي المغربي كأحد الرموز التي لا يمكن تجاوزها.
صحيح أن “الجابري” استقال من موقعه في المكتب السياسي لقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان أحد المعارضين الأقوياء لنظام الملك الراحل الحسن الثاني، لكن ذلك  لم يمنعه من أن يظل مؤثرا، ليس فقط من خلال إسهاماته التنظيرية، بل بالمساهمة الفعلية في الحياة السياسية لبلاده. لقد ساند التوافقات التي أوصلت صديقه الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي إلى الوزارة الأولى، فيما يطلق عليه في المغرب بالتناوب التوافقي، الذي حكم فيه الاشتراكيون المغرب، بتسوية مدعومة من الملك الراحل الحسن الثاني.
لقد غادر الجابري  معترك السياسة المغربية بمعناها الشائع والبسيط، ليحلق بعيد عن الممارسة الحزبية حين استقال من حزب الاتحاد الاشتراكي وجمد جميع أنشطته السياسية فيه، رغم أن أدبيات الحزب وهويته لا تخلو من فكر الجابري وبصمته.
وقريبا من السياسة المغربية أيضا، انتبه الجابري مبكرا إلى تقليد سيء عانى منه المثقفون والسياسيون العرب والمغاربة بسبب عزوفهم عن تسجيل مذكراتهم وتجاربهم، فدون شريط حياته الفكرية والسياسية وخاصة تجربته في الخضم الحزبي.
وليس من المبالغة القول إن الجابري قد شق في ممارسته الثقافية هذه طريقا جديدة وبلور رؤية أصيلة لدور المثقف في عصرنا الراهن، عصر الاندماج العالمي وتحول العالم إلى قرية صغيرة • وقد جعل هذا من الجابري المثقف العربي بامتياز وأحد كبار رواد الثقافة العالمية الحرة.
تحية إلى الجابري في حياته وفي مماته هو الذي نقش اسمه بدأبه واجتهاده بين النابغين، حيث يسر للعرب كثيرا من المعارف الغربية التي يعتبر أحد القلائل الذين تمكنوا من استدماجها في فكره، دون أن تتمكن من ابتلاع خصوصيته النقدية وشخصيته الفكرية المستقلة.كما يحسب له نبشه في عدد من المواضيع التي ظلت من طابوهات العقل العربي المستقيل بلغة الجابري.
وداعا إذن، لأحد كبار رواد العقل العربي، لأن أمثاله هم الأقدر على وضع العرب على سكة التنمية الفكرية والسياسية السليمة، بعيدا عن الظلامية والتعصب.
© منبر الحرية، 4 ماي /أيار 2010

عزيز مشواط15 نوفمبر، 20100

عشرات الكتب، ومئات المقالات، وعدد لا متناه من المحاضرات والمقابلات التلفزية والإذاعية، وتجربة تربوية في كبريات الجامعات العالمية كانت كفيلة بأن يسطع  نجم آخر من شمال إفريقيا في سماء الفلسفة العربية والإنسانية. إنه محمد أركون ابن منطقة القبائل الجزائرية الذي غادرنا أمس الثلاثاء عن سن يناهز 82 عاما بعد مرض عضال، كما يحلو لوسائل الإعلام أن تقول، مع وفاة كل قامة علمية شامخة.
محمد أركون الجزائري الولادة والفرنسي الجنسية انضاف أمس الثلاثاء  في العاصمة الفرنسية باريس  إلى قائمة التنويريين الذين غيبهم الموت في أقل من سنة. فبعد الخطيبي ومحمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، هاهو مبدع المفاهيم الأصيلة يغادر ساحة الفكر العربي، ليقل ماء التنوير القليل أصلا. فعلا يستحق الراحل لقب مبدع المفاهيم الأصيلة. فمن الجهل المؤسس، إلى الجهل المقدس، وصولا إلى نقد العقل الشرعي والسياجات الدوغمائية، ظل أركون وفيا لآرائه غير المهادنة وهو يعيد قراءة التراث العربي الإسلامي.
وإذ كان انتماؤه إلى حقل الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانية العربية قد شكل إضافة نوعية، فإن اجتراحه لمفاهيم جديدة بوأته مكانة خاصة ضمن صناع المفاهيم ومستحدثيها المبدعين، وتبقى دعوته لإعادة قراءة القرآن برؤية عصرية وتجريده من القداسة التي تعيق دراسته النقطة الفاصلة في مسار باحث لم يعرف المهادنة العلمية قط، وهو ما جعله عرضة لانتقادات التيارات الأصولية المتشدّدة.
لقد أعمل أركون معاول الهدم في بنية العقل العربي الإسلامي، مسلحا بمناهج علمية أمضى أكثر من أربعين سنة في اختبارها، جاعلا من حقل الإسلاميات حقل اشتغاله الأول، اشتغال جلب لأركون العديد من الأعداء على امتداد أكثر من أربعة عقود.
لقد تعرض لغارات الأصوليين بمختلف توجهاتهم الشرقية والغربية، فاتهمه أصوليو بني جلدته أنه مجرد صدى للمستشرقين، وأنه معادٍ في العمق للفكر الإسلامي بصورته المعروفة. وفي الجهة المقابلة هاجمه الغربيون بدعوى أنه مجرد مفكر إصلاحي لا أكثر، أو لنقل أنه مفكر وسطي، أو توفيقي يحاول التوفيق بين الدين والعقل، تماماً كما حاول الفلاسفة المسلمون من قبل.
يقول مترجمه خالد هاشم في هذا الصدد “بعد أن تركت محمد أركون رحت أفكر فـي حجم المعركة التي يخوضها بكل ملابساتها وتفاعلاتها، وهالني الأمر فكلما توهمت أن حدودها قد أصبحت واضحة محصورة، كلـما اكتشفت أنها متشابكة معقدة، شبه لا نهائية. هناك شيء واحد مؤكد على أي حال : هو أن محمد أركون يخوض المعركة على جبهتين جبهة الداخل، وجبهة الخارج، جبهة أًصوليي المسلمين، وجبهة أصوليي المستشرقين”
الأكيد أن لائحة الاتهامات التي تعرض لها أركون ثقيلة ومتعددة، لكن وبرغم كل ما قيل عنه وما سيقال سلباً أوإيجاباً سيبقى محمد أركون اسماً مرادفاً للقضايا التي أخذته إلى العالمية. وبعيدا عن تطرف أصوليي الداخل والخارج، رسم أركون لنفسه مسارا متميزا يتأسس على البحث المنهجي بأحدث ما وصلته العلوم الإنسانية من مناهج، ولم يقطع نهائيا مع الأسس الحداثية للتفكير، بل استخدم مقولاتها دون أن ينتهي إلى إقصاء الماضي. وبذلك ظل هدفه تنقية هذا الماضي من شوائب التخلف والأساطير والخرافة لملاءمته مع العصر دون تهميش نصوصه.
لقد أهله موقعه النقدي والعقلاني ليحتل موقعا هاما في تاريخ الفكر العربي إلى جانب الرواد الأوائل من قبيل محمد عبده وفرح أنطون وشبلي الشميل والأفغاني والكواكبي وطه حسين وصادق جلال العظم وعبدالكبير الخطيبي ومحمد عابد الحابري وناصر حامد أبو زيد.
إن إنسانية المذهب الذي انتمى إليه أركون، وعشقه للفلسفة وللفكر الإسلامي، جعلا منه مثيرا لزوابع فكرية صاخبة لن تهدأ طبعا بوفاته، مما جعله مؤهلا ليكون في مرمى سهام كل الأصوليين بمختلف مشاربهم الشرقية والغربية، غير أن هذه السهام انكسرت، بفعل استيعاب أركون للتراث بشكل استثنائي دون اغترابه عن الحضارات الحديثة.
صحيح أن الموت حتمية لابد منها، لكن بن القبائل على غرار كل المفكرين الكبار، لم يمض دون أن يترك أثره الواضح في الفكر العربي والإنساني المعاصر، بعد أن فرض على العالم إسما قادما من العالم الإسلامي، لكن بمرجعية علمية جعلته محترما في جميع الأوساط المستشرفة للمستقبل، احترام لم يصله جزافا، بل بالمكتبة الثرية من المؤلفات والكتب التي تركها.
إن أصالة الفقيد الحقيقية لا تكمن فقط في ثراء إنتاجه، وإنما تكمن أيضا في  قدرته على ابتكار مفاهيم ذات طبيعة إنسانية كونية، ولم يكن كتابه الأخير “الإنسانية والإسلام” سوى خاتمة رحلة إنتاجية جاوزت الأربعين سنة من الحفر في “ملامح الفكر الإسلامي” الكلاسيكي”، مرورا ب”دراسات الفكر الإسلامي”، ووصولا إلى” الإسلام أمس وغدا” ثم” من أجل نقد للعقل الإسلامي”، و”الإسلام أصالة وممارسة”، و”الفكر الإسلامي: قراءة علمية- الإسلام: الأخلاق والسياسة- الفكر الإسلامي: نقد وإجتهاد- العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب- من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي- من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر- الإسلامي المعاصر؟- الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة.- نزعة الأنسنة في الفكر العربي- قضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الإسلام اليوم؟- الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي- معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية… وغيرها.
هكذا برحيل محمد أركون يكون الموت قد غيب رابع مرجع فكري عربي من القامات الشامخة في سماء الفكر الإنساني، في أقل من أربعة أشهر. كما يصدق وصف  سنة2010 بسنة اختطاف الموت لرموز التنوير العربي. فبعد الخطيبي ومحمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد يرحل أركون ليترك تجويفا آخر في الفراغات الكبيرة للفكر العربي الإسلامي، لتنضاف إلى الفراغات الجوفاء المتعصبة الدينية والطائفية، ليس في العالم العربي فحسب بل في العالم بأسره، وهنا لا يمكن سوى التحسر على فقدان شخصية علمية فذة، وبخاصة إذا استحضرنا مقولة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الذي يقول  في عبارات لاذعة: “كلما توفي مفكر عظيم، إلا وارتاح الأغبياء”.
© منبر الحرية،16 شتنبر/سبتمبر 2010

عزيز مشواط11 نوفمبر، 20101

“حاجتنا أكيدة إلى عقلانية بن رشد” و”عقلانية بن رشد مفقودة” و” أضعنا فكر بن رشد، فتخلفنا” مقولات لا يكف المثقفون والمفكرون العرب عن ترديدها بمناسبة أو بدونها. ولم يخرج لقاء ثقافي نظمته إحدى المنظمات الثقافية بالدار البيضاء المغربية حول فكر بن رشد عن المشهد نفسه، إذ بعد ترديد المقولات الجاهزة السالفة، انخرطت أصوات عديدة أخرى فيما يشبه جلد الذات التي فرطت في “عقلانية ما أحوجنا إليها اليوم”، قبل أن ينخرط الجميع في الإشادة بهذا الفيلسوف العظيم الذي ظلمه التطرف، فضاع بين دهاليز السياسة والمكر، قبل أن تتلقفه الأرض الأخرى فيزهر عقلانية غربية، أفرزت علما وحضارة و تنويرا .
من فرح أنطوان إلى عاطف العراقي مرورا بعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وصولا إلى محمد عابد الجابري وغيرهم، يجري التأكيد على حاجتنا اليوم إلى روح العقل التي تختزنها فلسفة بن رشد. ورغم اختلاف المنطلقات والمرجعيات بين كل هؤلاء المفكرين، نكاد نجزم أنهم يشتركون، حين الحديث عن بن رشد، في ذلك الحنين المأساوي نحو “ماضينا المشرق” الذي تجسده عقلانيته الفذة. وهنا نتساءل هل فعلا بن رشد منتوج عربي مسلم، أم أن انتماءه لهذه الحضارة مجرد انتماء بيولوجي فيما انتماؤه الحقيقي إلى الحضارة التي تبنته وعانقت أفكاره؟ ثم لماذا لم تستطع كل هاته الدعوات المرتفعة من كل حدب وصوب المشيدة  بعقلانية بن رشد،  في استنبات عقلانية عربية يكون جذرها الأصيل بن رشد، الذي انتمى في تاريخ ما إلى هذه التربة؟
في العالم الإسلامي تعرض بن رشد للتكفير وحوكم وأحرقت مؤلفاته ونفي، بينما ترجمت أوروبا مؤلفاته ودارت معارك فلسفية حول آرائه، وانقسم الفلاسفة في أوروبا إلى فريقين: فريق مؤيد، وفريق معارض، وفي النهاية انتصر الفريق المؤيد لعقلانية بن رشد وسار في الطريق العقلاني لتأسيس التنوير.
إن هذا التمايز بين العالم الغربي والعالم الإسلامي في تبنى عقلانية بن رشد وترجتمها، سينتج نموذجين ثقافيين بمسارين مختلفين. الآخر الغربي منتج عصر النهضة وعصر التنوير اللذين يمثلان الأساس الثقافي الذي أفضى إلى بزوغ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والتي بدورها أفرزت الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين، والعالم العربي الإسلامي الذي نفى بن رشد ويستمر في رفض المشاركة في المسيرة التي مثلت النهضة والتنوير منتوجهما.
لا شك أن هذه ملاحظة على قدر كبير من الأهمية، خاصة وأن  أعداء العقلانية الذين يرفضون مبدأ نسبية الحقيقة وتعددها،  فيما يختص بالاجتهادات البشرية في فهم النص الديني، والمتشبثون بحرفية النص الديني يستمرون في الوقت الحاضر في إدارة دفة
الأمور في اتجاه مزيد من التردي.
هناك نقطة أخرى لا تقل أهمية ينبهنا إليها التاريخ. لقد اتهم بن رشد بالزندقة والكفر وحاكمه الخليفة الموحدي علنا في جامع قرطبة، ولعنه الحاضرون، وأخرج مهانا وجمعت كتبه وأحرقت ووضعت قراءتها تحت طائلة العقاب الصارم. وبعد وفاته دفن في مراكش. وبعد أشهر ثلاثة نقل رفاته إلى مقبرة أجداده بقرطبة.
الوقوف على مشهد طرد جثة بن رشد إلى “الضفة الأخرى” يحمل أكثر من دلالة.  إنه مأساة حقيقية، إذ لم يكن مجرد جنازة معزولة لفيلسوف عاش مضايقات فكرية ومعاناة كبيرة، بل كانت الجنازة لموكب الفلسفة العقلانية المهزومة في ديارها والمطرودة إلى الضفة الشمالية. رمزية المشهد المأساوي تتمثل في طرد جثمان الفلسفة العقلانية العربية وتوجهها غربا إلى البر الأوروبي حيث سيوارى التراب، قبل أن يزهر بعد أن تلقفته الجامعات الغربية نقدا وتمحيصا وشرحا.
كل المؤشرات إذن تفيد أن بن رشد يشكل أرقى ما وصلته الحضارة العربية الإسلامية”، لكن انتماءه الحقيقي يظل محل ريب. إنه ينتمي بيولوجيا إلى هذا العالم العربي الإسلامي، في حين يعود انتماؤه الثقافي إلى الغرب الذي ترعرعت فيه عقلانيته بعد أن تم طرده حقيقة ورمزا من سياقنا الثقافي والحضاري.ولكن إذا وافقنا على هذه التشخيص، ألا يطرح هذا إشكال حلقة جلد الذات المفرغة التي لا فكاك منها؟
الاعتراف في بعض الحالات يشكل نصف العلاج. أما الواقع فيعلمنا أن الموت الذي أصاب العقلانية العربية وحرية الفكر والنظر العقلي لا تزال تبعاته تشد أعناقنا لحد الآن وترخي بظلالها على اللحظة الراهنة، إذ تستمر آثارها ونتائجها السلبية في الفكر والسياسة والاجتماع.
مأزق العقلانية في العالم العربي الإسلامي ناتج في جزء كبير منه عن هذا الطرد الذي تعرض له “أرقى ما وصلته الحضارة العربية الإسلامية،” مما أفرز في الوقت الراهن تفاوتا شديدا بين نخبة مثقفة تحاول استعادة العقلانية المطرودة، ومجتمعات أكثر من نصفها أمي، ناهيك عن بؤس الناس وفقرها الشديد وتفشي الجهل، مما يسهل اختراقها وانجرافها مع توجهات قيم التطرف التي دفعت إلى طرد بن رشد .
هذه الازدواجية في المجتمعات العربية، تؤشر على وجود أزمة معنى مستفحلة. أزمة استفحلت في السنين الأخيرة ووصلت ذروتها مع تحول أحلام النهضة إلى انحطاط وتطرف ولاعقلانية تكاد تطيح بكل شئ، إذ تصطدم الدعوات إلى العقلانية بكثير من الأوهام العربية المسنودة بالأصوليات الحاضرة.
إن الرسالة الأساسية الكامنة وراء تذكر محنة عقلانية بن رشد يجب أن ترتكز على سبل استعادته من غربته القسرية، وسبل إعادة توطين فكره، ليس كما أنتجه إبان حياته فقط، بل كما طورته الإنسانية، بعيدا عن  قيود الفكر المتطرف الذي لم يكتف فقط بالتضييق على عقلانيته المتنورة، ولكن طرد حتى جثته في اتجاه الغرب، وحكم عليه بالمنفى فانحدر الوضع إلى استنبات تيارات متطرفة تستمر في إدارة العجلة إلى الخلف.
© منبر الحرية، 19 سبتمبر/أيلول 2009

عزيز مشواط11 نوفمبر، 20100

لا صوت يعلو من الجهات الأربع لهذا المسمى وطنا عربيا غير صوت الإذعان والخضوع. يقول محترفو الدين “لا تفكروا لأن العقل محدود” و” ارضوا دون أن تفهموا”، ويستلون سيف الفتوى مهددين بقطع رأس كل من تجرأ على استخدام عقله. أما رجل السياسة فلا يتردد في الإعلان عن هدر دم الجميع، إن لم ينظموا إلى حزبه ويبايعوه زعيما واحدا أوحدا. في حين ينفذ العسكر هواياتهم المفضلة ويأمرون “أطيعوا والتزموا بالأوامر”.
رجل الدين المتطرف ورجل السياسة المتزمت والعسكري المتسلط أعداء ثلاثة يقفون بالمرصاد أمام إحداث التغيير المنشود وانبثاق المجتمع الحر. لكن أين باقي القوى الحية في المجتمع وخاصة “قبيلة” المثقفين؟ وهل يلعب المثقف العربي دوره كاملا؟
لست من أصحاب البكاء على الماضي، ولست من الذين يعتبرون أنه ليس بالإمكان أن يكون أفضل مما كان، لكن ينبغي أن نسائل المثقفين رواد ومنتجي الأفكار، عن دورهم في إنجاز مهام التنوير والتحرر. بل هل يوجد لدينا مثقف بالأصل؟ أليس إما متمسحا بأعتاب السلطة الحاكمة وإما منعزلا ومحاصرا في برجه العاجي بعيدا عن قضايا الناس؟
يتحمل المثقف العربي جزءا كبيرا من المسؤولية عن غياب الحرية بفعل عدم قدرته على المشاكسة والنقد، وتمسح أغلب المشتغلين بالثقافة بالبحث عن الامتيازات الصغيرة، أو تطييب خاطر العامة خوفا من تكسير اليقينيات وما يجلبه من غضب.
لن نبالغ إذا اعتبرنا أن لفظ المثقف في عالمنا العربي مجرد وهم أو مجرد مجاز لفظي لايمت للحقيقة بصلة، إذ يعيش بين نارين حين تحرص الدولة على تحويله إلى بوق شرعيتها، وتطلب منه الجماهير مسايرة ميولاتها وعواطفها، وعندما يستسلم لضغوطات أحد الطرفين يفقد صوته أي تأثير ويفقد مكانته الاعتبارية.
المثقفون العرب مصابون بأنفلونزا التملق المزمن، لذلك فهم لا يخرجون عن صنفين : صنف يتملق للسلطة صاحبة “الولائم الكريمة” وصنف متملق لعواطف الجماهير مهما كانت خاطئة ومجانبة للصواب. ومن نجا من هذا التصنيف منعزل في خطابات بعيدة عن قضايا الواقع. في حين تبقى قلة قليلة غير قادرة على تقديم خطابات لا تعتمد على مداهنة هذا الطرف أو ذاك.
لقد فشل “المثقفون” العرب في التعاطي مع المتغيرات والوقائع الجديدة بفعل، إما الوقوف الطويل أمام أبواب السلطة لحراسة شرعيتها، أو نتيجة التحول إلى مجرد حرس للأفكار الميتة المسايرة لعواطف الناس بحثا عن شعبية وهمية. وضعية تحول المثقففين إلى كائنات كاريكاتورية تثير الشفقة، يصدق فيها وصف علي حرب، الذي أطلق عليهم تسمية “أهل الكهف”، نظرا لعجزهم عن التكيف مع المتغيرات الجديدة في عالم متغير.
شهدت أوروبا في القرن الثامن عشر نموذجا للمثقفين الطلائعيين، مثقفون أدانوا الظلم وجلبوا التنوير. دافعوا عن الحرية وواجهوا سلطة رجال الدين. نشروا العلم وواجهوا الاعتقال. لقد أسهموا حقيقة في التحولات الكبيرة التي عاشتها مجتمعاتهم.
نماذج كثيرة لصلابة موقف المثقف شهدها العالم الغربي. ومن غاليلي إلى سارتر، ومن اسبينوزا إلى بييربورديو ومن إيميل زولا إلى ألبر كامو، ظل المثقف صوت من لاصوت لهم رغم الحصار ورغم العنف والتهديد. خاطر المثقف الغربي بحياته لكي يظل ضميرا في كامل اليقظة. وسواء تذكرنا قولة غاليلي الشهيرة “ومع ذلك تدور” وهو يقاد إلى مقصلة الكنيسة أومواقف سارتر المناهضة لمواقف بلاده من حرب الجزائر، فإن المبدأ ذاته ظل منتصبا وهو: استقلالية الموقف.
هل حدث شيء من ذلك في وطننا؟ بالتأكيد لا. لأن مجاملة الحكومات واستدرار عواطف الناس أفقد صوت المثقف مصداقيته… ومع كل ذلك يبقى الرهان ملحا على ولادة جيل جديد قادر على ممارسة دوره الخلاق، لأن حاجتنا اليوم ماسة، إلى مثقف يضطلع بدوره كاملا في النقد البناء، لكي يعلن متى لزم الأمر”ثورته” الهادئة على كل أعداء الحرية، سواء لبسوا معطف الدين أو قبعة سلطة الدولة، أو ركبوا على مشاعر الناس العاطفية والدينية.
إن ممارسة المثقف نقده البناء يعني أن يقول “لا” كلما لزم الأمر.”لا” لكل الذين يصادرون الحرية تحت أي شكل من المبررات، لا لكل الذين يمارسون القمع باسم المصلحة الوطنية، و”لا” لكل الذين يستغلون الدين للحفاظ على امتيازات أنانية، و”لا” لكل المستبدين مهما كانت مبرراتهم دينية أو قومية أو سياسية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 30 ديسمبر 2008.

عزيز مشواط11 نوفمبر، 20100

تاريخ الحركات الإسلامية في العالم العربي ينضح بالدم والعنف، لكن التجربة المغربية نجحت في ترويض جزء منها. فتحولت إلى فاعل سياسي عاد. نتج عن هذا التحول إسلام سياسي معتدل. إسلام ليس رسميا، وليس متطرفا . إنه إسلام ثالث يؤمن، على مستوى الخطاب على الأٌقل، بالقيم الديمقراطية، من الانتخابات إلى ترشيح المرأة وصولا إلى العمل النقابي وغيرها.
يتعلق الأمر بحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية الذي نجح قياديوه في الانتقال به من الفكر التكفيري الذي يتبنى العنف إلى مستوى التنظيم السياسي المشتغل في إطار القانون. كثيرون حاولوا تفسير هذا الصعود، لكن ومهما اختلفت التفسيرات فإن الإسلام السياسي أصبح يفرض نفسه بقوة. ورغم انحدار الحزب من رحم الإسلام المتطرف (الشبيبة الإسلامية التي تبنت العنف من أجل التغيير بقيادة عبد الكريم مطيع خلال ستينيات القرن الماضي)، فقد خضع لظروف جعلته يقبل باللعبة الديمقراطية. لكن مخاوف كثيرة تزعج المتتبعين، بسبب ماضي أعضاء الحزب الذين تكونوا في تنظيمات مارست العنف.
في الوقت الراهن، يشتغل حزب العدالة والتنمية كممثل للاتجاه الإسلامي في إطار الشرعية. فقد برهن عن قدرة كبيرة للتأقلم مع متغيرات العصر، بعد أن جدد هياكله وراجع خطابه. وتعزز ذلك بعد مؤتمره الأخير الذي عرف، بشهادة الأعداء والأصدقاء، مستوى كبيرا من النضج، وتداولا سلميا للقيادة بين زعيمه المغادر سعد الدين العثماني وقائده الجديد عبد الإله بنكيران، وبذلك صار نموذجا في الديمقراطية،على الأقل من حيث الشكل.
تعود قوة انتشار الحزب وسرعة صعوده، إلى قوة الإسلاميين في تعبئة الناس. إنهم يقدمون، لكل الأزمات حلولا بسيطة تبشر بالخلاص في الدنيا والآخرة. هذا البعد الساذج والبسيط، يجد قبولا كبيرا من طرف كل الفئات وخاصة المحرومة منها.
ومع ذلك لا تزال الحركة الإسلامية بالمغرب، حسب بعض منظريها، تعاني من بعض الضعف مقارنة بنظيرتيها الجزائرية والتونسية. يرجع ذلك بالخصوص إلى أصولية الدولة نفسها، بسبب احتكار الملك للحقل الديني باعتبار الدستور المغربي ينص على كون الملك “أمير المومنين وحامي حمى الملة والدين”، فالملك فاعل سياسي وزعيم ديني في الوقت ذاته.
يمنع في المغرب على غير المؤسسة الملكية التحدث باسم الدين، لكن إسلاميي المغرب يستغلون ذلك للتغلغل أكثر في الأوساط الاجتماعية المختلفة. إن الدولة، حسب تصورهم إسلامية من حيث المبدأ ، لذلك ينصب اهتمامهم نحو الضغط من أجل أسلمة المجتمع ومؤسساته. توجد إذن صعوبة في القول بضعف الحركة الإسلامية بالمغرب، كما أنه من غير الملائم حصر مكونات الحركة الإسلامية في حزب العدالة والتنمية. هناك مكونات أخرى تشتغل بقوة في السر، من قبيل جماعة العدل والإحسان الإسلامية التي ترفض الاعتراف بالنظام، وتتوفر على قاعدة شعبية جعلت الكثيرين يعتبرونها القوة السياسية الأولى في المغرب. بالإضافة إلى حركات جهادية لا يزال يلفها الغموض، ولا تزال تتبنى العنف، وتتهمها الدولة بالتورط في تفجيرات دموية، شهدتها مدينة الدار البيضاء عامي 2003 و 2007.
الأكيد أنه لا يمكن فصل توسع الإسلاميين بالمغرب، عن الحالة العربية عامة. فقد شكلت هزيمة العرب في يونيو من سنة 1967 أمام إسرائيل، صدمة للمشروع القومي. نتج عن ذلك إحباط عام بفعل نهاية أسطورة الوحدة العربية. فقد وجدت الحركات الإسلامية المتطرفة في الفراغ الذي خلفته هزيمة الناصرية وتراجع المد القومي مجالا خصبا، استثمرته لتحقيق التمرد الاجتماعي والسياسي.
بعض المتخصصين لا يوافقون على ذلك. ويعتبرون أن نشأة الحركة الإسلامية بالمغرب تعود، بالدرجة الأولى، إلى مناورة قلب نظام الحكم، وهو المسار الذي شجعته الملكية. شجعت الدولة هاته النشأة في سياق صراعها المرير ضد الحركات اليسارية والماركسية، التي عرفت أوج قوتها في الجامعات والمدارس الكبرى خلال ستينيات القرن الماضي.
لكن الإسلاميين الذين تقووا بدعم من الدولة سرعان ما اكتسبوا استقلاليتهم، فقطعوا كل صلة بها. بل صاروا يهددون النظام الذي قدم لهم العون، ليجدوا أنفسهم في مواجهة معه.اضطر النظام بعدها إلى احتواء التنظيمات المعارضة. فساعدها على الخروج من السر إلى العلن. هكذا تأسس حزب العدالة والتنمية، عبر وساطة الراحل عبد الكريم الخطيب، إحدى الشخصيات المقربة من القصر. سمحت هاته الوساطة باحتضان حزب الحركة الدستورية، الذي كان في حالة جمود، لجماعة من الإسلاميين يشكلون الآن حزب العدالة والتنمية، بأكثر من 44 ممثلا في البرلمان المغربي.
تختلف تجربة الإسلاميين المغاربة عن نظرائهم بكل من تونس والجزائر. لكن الحكم على هاته التجربة الآن، سابق لأوانه. فما بين الفينة والأخرى تخرج أصوات من داخل الإسلاميين المعتدلين أنفسهم تدافع عن العنف. قيادي سابق في صفوف العدالة والتنمية اعتبر أن “أكبر خطيئة وقعت فيها الحركة الإسلامية بالمغرب، هو اتخاذ “حزب سياسي”، ويقصد بذلك حزب “العدالة والتنمية” الذي يقوده عبد الإله بنكيران، ويقول بهذا الخصوص: “لقد صار الإسلاميون يشتغلون في الشك، وقد كانوا – من قبل – يشتغلون في اليقين! وكانوا إلى الإخلاص في الأعمال أقرب، ثم صاروا إلى خلط مبين!
الاعتدال والتسامح الذي تعول عليهما الدولة لم يكتملا بعد، بالرغم من نظرة الحزب الواقعية، وتطويره لغة سياسية جديدة من “قبيل التحجيم الذاتي” أي رفض الدخول في مواجهة مع الدولة ومع الخصوم السياسيين، ونبذ العنف، بل التحالف في بعض القضايا مع تيارات سياسية علمانية. لكن حوادث أخرى لا تدعو إلى الاطمئنان رغم أن التجربة تستحق المتابعة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 02 ديسمبر 2008.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018