المثقف والاشتراكية

cubex14 مايو، 20120

المثقف والاشتراكية
(1)
في كافة الدول الديمقراطية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، تجد اعتقادا قويا سائدا مفاده أن للمثقف تأثيرا على السياسة لا يمكن إنكاره. وهو اعتقاد لا شك في صحته إذا كان يتعلق باقتدار المثقف على جعل آرائه في قضايا الساعة تؤثر في الميدان السياسي إلى المدى الذي تستطيع فيه أن تقود صوت الناخب إلى جهة تختلف عما ترتئيه الآراء السائدة لدى الجماهير، لكن النظر بعين تهتم بتاريخ هذه الظاهرة في العصور الغابرة التي استغرقت آجالا تتجاوز عمر عصرنا الحالي، يصل بنا إلى الاستنتاج بأن المثقفين ربما لم يتمتعوا أبدا بمثل هذا التأثير الكبير الذي نلاحظه في أيامنا هذه في الدول الديمقراطية، وهي القوة التي يمتلكونها بفعل قدرتهم على تشكيل الرأي العام.
على ضوء أحداث التاريخ المعاصر يبدو من المثير للفضول نوعا ما أن لا نجد حتى الآن اعترافا عاما بوجود هذه القوة الحاسمة في أيدي مجموعة من المحترفين بالتداول الثانوي بالأفكار؛ والتطور السياسي للعالم الغربي خلال مئة عام مضت يرسم لنا أوضح صورة عن واقع الحال؛ فالاشتراكية لم تكن في بدايتها حركة في صفوف الطبقة العاملة في أي مكان أو زمان؛ إذ لا تقدم بأي شكل من الأشكال علاجا واضحا لأي مفسدة واضحة تجاوبا مع حاجة ملحة تقتضيها مصالح تلك الطبقة، وإنما هي بنية شيّدتها أفكار استمدها المنظرون من توجهات محددة للفكر المجرد الذي ظل لمدة طويلة منحصرا باهتمام المثقف فحسب، وتطلبت هذه البنية جهودا مديدة من المثقفين قبل أن تقتنع الطبقات العاملة بتبنيها كبرنامج عمل.
في جميع الدول التي اتبعت المسار الاشتراكي، كانت هنالك مرحلة تسبق بسنوات عديدة مرحلة التطورات التي جعلت الاشتراكية عاملا حاسما في العملية السياسية، وهي مرحلة هيمنت فيها القيم الاشتراكية العليا على تفكير أكثر المثقفين نشاطا؛ ويمكن القول بأن ألمانيا وصلت إلى هذه المرحلة في نهاية القرن التاسع عشر، ووصلت بريطانيا وفرنسا إليها إبان الحرب العالمية الأولى تقريبا. ويمكن للمتتبع العادي أن يرى في المشهد الحالي للولايات المتحدة وكأنها قد وصلت إلى هذه المرحلة بعد الحرب العالمية الثانية وأن جاذبية النظام الاقتصادي الذي يخضع للتخطيط والتوجيه تتمتع في الوقت الراهن بقوة في صفوف المثقفين الأمريكيين تضاهي في شدتها أقصى ما وصلت إليه بين أقرانهم الألمان أو الانجليز. إن الخبرة تقول بأن بلوغ هذه المرحلة يعني أن الزمن لوحده هو الذي يفصلها عن مرحلة تحول الآراء التي يعتقد بها سياسيو اليوم إلى قوة سياسية مهيمنة غدا.
إن طابع العملية التي يجري وفقها تأثير المثقف على سياسة الغد يتصف، لذلك، بأنه أكثر من مصلحة أكاديمية، فسواء أكان ذلك يتعلق بمجرد رغبتنا لتوقع حدوث تأثير ما في مجرى الأحداث، أو محاولة إيقاع هذا التأثير، فإنه يعد عاملا ذا أهمية تتجاوز بكثير المستوى الذي يتبوؤه ضمن الفهم المعهود؛ فما يبدو للمراقب المعاصر في وقتنا هذا كمعركة بين المصالح المتضاربة ليس في حقيقته إلا أمرا يتقرر في العادة قبل أمد بعيد من انحصار صراع الأفكار في دوائر ضيقة. ومع ذلك فإن تناقضا شديدا يكمن في موقف أحزاب اليسار بشكل عام، والتي قامت فعلا ببذل أقصى جهودها لنشر اعتقاد مفاده بأنها كانت القوة البشرية الداعمة للمصالح المادية المعارضة التي فرضت رأيها في القضايا السياسية، ولكن الواقع يشهد بأن هذه الأحزاب نفسها عملت بصورة منتظمة وناجحة وكأنها تفهم المكانة الجوهرية للمثقف. وسواء أكان ذلك ناتجا عن تخطيط مسبق أم عن انسياق مع وطأة الظروف المحيطة، فقد استطاعت تلك الأحزاب دائما أن توجه جهدها الرئيسي في اتجاه الحصول على دعم هذه «النخبة»، بينما عملت المجموعات الأكثر محافظية، وبالانتظام نفسه دون إحراز نجاح مماثل، وفق منظور أكثر سذاجة عن الديمقراطية الجماهيرية، وحاولت، بشكل مباشر عادة ودون جدوى، أن تصل إلى الناخب كفرد وتحاول إقناعه بطروحاتها.
(2)
بالرغم مما سبق، فإن مصطلح «المثقف» لا يقدم بشكل مباشر صورة حقيقية للفئة الواسعة التي نشير إليها بهذا المصطلح، كما إن حقيقة عدم توفر مصطلح أفضل للإشارة إلى ما دعوناه «التداول الثانوي بالأفكار» لا ترقى أبدا لمنزلة أسباب عدم القدرة على فهم سلطة المثقف بشكل أفضل. وحتى من يستخدم مصطلح «المثقف» بشكل خاطئ فإنه يميل إلى الامتناع عن استخدامه للإشارة إلى من يؤدي دون شك الوظيفة النمطية «للمثقف»، أي: المفكر الأصلي أو العالم أو الخبير بحقل خاص من حقول الفكر؛ فالمثقف النمطي لا ينبغي عليه أن يكون أيا منهما: فلا حاجة لامتلاكه معرفة خاصة بأي حقل معين، كما لا حاجة لأن يكون ذكيا بشكل خاص، وذلك كي يؤدي دوره كوسيط في عملية نشر الأفكار؛ فما يؤهله لوظيفته هو المدى الواسع من الموضوعات التي يمكنه الحديث أو الكتابة عنها مباشرة، بالإضافة إلى موقع أو عادات يصبح من خلالها قادرا على الإلمام بأفكار جديدة قبل أولئك الذين يقدم لهم نفسه.
قبل أن نتمكن من سرد كافة المهن والنشاطات التي تندرج ضمن هذا التصنيف، فمن الصعب أن ندرك ضخامته، وكيف يتوسع مداه باستمرار في المجتمع الحديث، وكيف أصبحنا جميعنا معتمدين عليه. إن هذا التصنيف لا يتكون فحسب من محامين أو معلمين أو رجال دين أو محاضرين أو إعلاميين أو محللين إخباريين أو روائيين أو رسامي كاريكاتير أو فنانين، فكل منهم قادر على أن يبرع في تقنية نقل الأفكار ولكنه في العادة من الهواة عندما يتعلق الأمر بماهية المادة المنقولة. كما إن هذا التصنيف يتضمن الكثير من المحترفين والتقنيين، كالعلماء والأطباء، والذين يصبحون من خلال تعاملهم اليومي مع الكلمة المكتوبة حملة لأفكار جديدة خارج حقولهم الخاصة بهم، والذين تصغي لهم معظم الآذان بفضل معارفهم الخبيرة بحقول اختصاصهم. إن الإنسان العادي في وقتنا هذا يكاد لا يعلم إلا القليل عن الأحداث أو الأفكار من أوساط أخرى غير هذه الفئة؛ وبهذا نكاد نكون جميعا وفق هذا الاعتبار أناسا عاديين عندما يتعلق الأمر بما هو خارج اختصاصات عملنا، ونعتمد في استحصال المعلومات والإرشادات على من يجعل وظيفته مواكبة آخر مستجدات الآراء. وبهذا المعنى يكون المثقف هو الذي يقرر أي الآراء التي ينبغي أن تصلنا، وأي الحقائق التي تكون مهمة بما يكفي ليتم إخبارنا بها، وبأي شكل ومن أية زاوية يجب عرضها؛ أما العلم بنتائج عمل الخبير أو المفكر الأصلي الذي أنتج الأفكار فهو خيار يعتمد أساسا على قرار هذا الشخص.
ربما لا يكون الفرد العادي ملما تماما بالحد الذي يمكن لهذه الفئة أن تصل إليه في الترويج لسمعة شخص ما على المستوى الشعبي، حتى إن كان هذا الشخص عالما أو خبيرا؛ وهو يقع حتما فريسة لآثار آرائها في موضوعات ليس لها إلا صلة ضئيلة بفوائد الإنجازات الحقيقية. ومن المهم في هذا المجال خصوصا أن نشير إلى أن كل عالم من العلماء قادر على أن يعدد في حقل اختصاصه عدة أسماء لأشخاص حازوا على سمعة شعبية كعلماء عظام دون أن يكونوا جديرين بها إلا في أعين المثقفين الذين أنزلوهم هذه المنزلة أساسا بسبب امتلاكهم لما اعتبروه آراء سياسية «تقدمية»؛ ورغم ذلك فإنني سأقدم مثالا واحدا عن سمعة علمية مزيفة حازها لأسباب سياسية عالم ذو ميول أكثر محافظية. إن عملية (صناعة السمعة) هذه التي يقوم بها المثقف ذات أهمية خاصة في المجالات التي لا تكون فيها نتائج دراسات الخبراء مخصصة للاستخدام من قبل خبراء آخرين، وإنما تعتمد على القرار السياسي الشعبي على المدى الأوسع. وليس هنالك من صورة أوضح لهذه الظاهرة من الموقف الذي اتخذه خبراء الاقتصاد أمام نمو معتقدات بعينها كالاشتراكية أو الحمائية؛ إذ ربما لم تظهر أبدا في السابق أغلبية من الاقتصاديين، والذين يعترف بهم زملاؤهم كاقتصاديين، تؤيد الاشتراكية (أو الحمائية وفق هذا الاعتبار) كما يحصل الآن، كما يمكن القول بثقة تامة أيضا أننا لم نشهد من قبل أبدا مثل هذه النسبة الكبيرة أيضا من الطلاب الذين يعارضون الاشتراكية (أو الحمائية) كقرار واع. ويتبوأ هذا الأمر أهمية كبرى في يومنا هذا لأن من المحتمل جدا أن تكون مصالح المخططات الاشتراكية قد انتبهت إلى أن الرغبة في الإصلاح تقود المرء إلى أن يتخذ الاقتصاد مادة للاختصاص. ومع ذلك فإن ما يسود اليوم من آراء ليس من نتاج الخبراء، وإنما أنتجته أقلية ليست ذات قدم ثابتة في هذا الاختصاص، ولكن المثقفين تبنوا آراءها وعملوا على نشرها.
إن التأثير الكبير الذي يمتلكه المثقف في كافة أرجاء المجتمع المعاصر يتلقى قوة إضافية بفضل الأهمية المتنامية «للتنظيم». ومن الاعتقادات الشائعة، وربما الباطلة، أن زيادة التنظيم تؤدي إلى زيادة تأثير الخبير أو المختص؛ إذ قد يكون هذا الاعتقاد صحيحا إذا كان المدير أو من يقوم على عملية التنظيم من الخبراء (في حال وجوده أصلا)، ولكنه لا يكاد يصح عن الخبراء في أي مجال معين من مجالات المعرفة. فضلا عن ذلك، فإن زيادة التنظيم تؤدي إلى زيادة تأثير الشخص الذي يفترض بمستواه المعرفي العام أن يؤهله لتقدير رأي الخبير، والتحكيم بين الخبراء في المجالات المختلفة. لكن النقطة المهمة هاهنا تتمثل في أن العالم الذي يصبح رئيسا للجامعة، أو مسؤولا عن إدارة معهد أو مؤسسة، أو ناشطا في الترويج لمنظمة ذات هدف خاص، تجده يتوقف حينها سريعا عن كونه عالما أو خبيرا ليصبح (مثقفا) بالمعنى الذي أوردناه: شخصا يحكم على الأمور كلها لا من منطلق مزايا محددة، وإنما بحسب الطبيعة النمطية للمثقف، أي بالاعتماد أساسا على مجموعة محددة من الأفكار العامة الرائجة في وقتها. إن عدد أمثال هذه المؤسسات التي تنتج هؤلاء المثقفين وتزيد من عددهم وقوتهم في تكاثر مستمر؛ إذ يكاد يكون جميع «الخبراء» بمجرد تقنية الحصول على المعلومات، وذلك بحسب الموضوع التي تتعلق به هذه المعلومات، هم من المثقفين، لا من الخبراء.
بحسب المفهوم الذي طرحناه للمثقف في بحثنا هذا، يكون (المثقف) في حقيقته ظاهرة جديدة تماما في مجرى التاريخ؛ فعلى الرغم من أنك لا تجد أحدا يأسف على الأيام التي كان فيها التعليم حكرا على الطبقات الغنية، فإن هنالك أمرين يعرضهما لنا الواقع ويحتلان أهمية لفهم دور المثقف، وهما: أن الطبقات الغنية لم تعد الأفضل من الناحية التعليمية، وأن العدد الكبير ممن يدينون بمواقعهم للتعليم العام لا يمتلكون خبرة تشغيل النظام الاقتصادي التي تتأتى من خلال إدارة الملكية. فالبروفيسور شومبيتر، والذي خصص فصلا جليا من كتابه (الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية) لمناقشة بعض أوجه قضيتنا مدار البحث، لم يخرج عن الإنصاف عندما شدد على الفارق الذي يميز المثقف النمطي عن باقي الناس الذين يمتلكون أيضا قوة الكلمة المسموعة والمكتوبة، وهو غياب المسؤولية المباشرة عن الشؤون العملية وما يتلو ذلك من غياب (التداول الأولي للمعرفة). لكن من المستبعد هنا أن نصل إلى تناول قضية تطور هذه الطبقة ومناقشة الادعاء الذي تقدم به أحد منظريها مؤخرا ومفاده أن هذه الطبقة كانت الوحيدة التي لم تتعمد تأثر آرائها بمصالحها الاقتصادية. وإنما سيكون من النقاط المهمة التي نحللها في مثل هذا البحث: تقصي المدى الذي بلغه نمو هذه الطبقة كنتيجة للمحفز المصطنع الذي وفرته قوانين حماية الملكية الأدبية.(1)
1.قد يكون من المثير للاهتمام أن نكتشف المدى الذي تصل إليه الآراء الجادة الناقدة للمنافع التي يعود بها هذا القانون على المجتمع، أو الإفصاح عن الشكوك في المصلحة العامة من وجود طبقة تعتاش من تأليف الكتب، وذلك في حجم الفرص المتاحة لها في مجال التعبير عنها في مجتمع يهيمن على قنوات التعبير فيه أناس لهم مصلحة شخصية في الوضع القائم.(الكاتب)
(3)
ليس من المفاجئ أن نرى الازدراء الذي يشعر به العالم الحقيقي أو الخبير الحقيقي أو من يتداول مع شؤون الحياة بواقعية إزاء المثقف، وعدم استعدادهم للاعتراف بسلطته، واستياءهم عند اكتشافها؛ فكل واحد منهم ينظر إلى المثقف في معظم الأحيان على أنه الشخص الذي لا يفهم أي شيء لوحده على نحو جيد، ولا يبدي علامات الحكمة الخاصة عندما يقدر الأمور التي يفهمونها. ولكن الحط من سلطة المثقفين على هذا الأساس يعد خطأ قاتلا؛ فحتى وإن كانت معارفهم سطحية وذكاؤهم محدودا في الغالب، فإن هذا لا يغير شيئا من حقيقة مفادها أن تقديرهم للأمور هو الذي يهيمن بشكل رئيسي على تحديد الرؤى التي سيتصرف المجتمع على أساسها بعد أمد غير بعيد. وليس من المبالغة القول بأنه ما أن يتحول الجزء الأكثر نشاطا من المثقفين إلى اعتناق مجموعة من المعتقدات فإن العملية التي يتم من خلالها قبول هذه المعتقدات على المستوى العام لا تكاد تلقى أي مقاومة وتمضي في سيرها بشكل آلي. إن هؤلاء المثقفين هم الأعضاء التي طورها المجتمع الحديث لنشر المعرفة والأفكار، ومعتقداتهم وآراؤهم هي التي تعمل كجهاز تصفية يجب أن تمر عليه كافة المفاهيم الجديدة قبل أن تجد طريقها إلى الجماهير.
إن من طبيعة وظيفة المثقف أنه يجب عليه استخدام معارفه ومعتقداته الخاصة في أداء مهمته اليومية. إنه يحتل موقعه لأنه يمتلك المعرفة التي لا يمتلكها رئيسه في العمل، أو لأنه يتوجب عليه التعامل يوميا مع هذه المعرفة، ولهذا يمكن لنشاطاته أن تنقاد للتوجيه إلى مدى محدود فقط. ولمجرد أن المثقفين في الغالب منصفون فكريا، فمما لا شك فيه أنهم سوف يتبعون ما تمليه عليهم معتقداتهم متى ما حصلوا على الصلاحيات اللازمة وأنهم سوف يحرفون كل ما يقع في أيديهم بما يتماشى مع هذه المعتقدات. وحتى وإن كان اتجاه السياسة المتبعة في قبضة مجموعة ذات ميول مختلفة، فإن تنفيذ هذه السياسة سوف يقع عموما في أيدي المثقفين، وفي كثير من الأحوال تتحدد النتيجة النهائية للعمل بحسب القرارات المتعلقة بتفاصيله. إننا نكاد نجد هذه الظاهرة بادية للعيان في كافة مجالات المجتمع المعاصر؛ حيث ترى صحفا يملكها «الرأسماليون»، وجامعات تديرها مجالس «رجعية»، وأجهزة إعلامية تمتلكها دول محافظية، وقد عرف عنها تأثيرها على الرأي العام باتجاه الاشتراكية، وذلك لأن الاشتراكية هي المبدأ الذي يعتقده العاملون في هذه المؤسسات. لقد حدثت هذه الظاهرة على الرغم من محاولات إدارات هذه المؤسسات أن تتحكم بالآراء وتفرض المبادئ المتشددة، وربما كانت هذه الممارسات سببا في حدوث الظاهرة أصلا.
إن الجماهير لوحدها ليست المتأثر الوحيد أبدا بعملية (التصفية) تلك التي تجري وفق معتقدات فئة تميل مبدئيا إلى آراء محددة؛ فالخبير لا يقل عنها اعتمادا على المثقفين في ما يقع خارج حقل اختصاصه ونادرا ما يكون أقل تأثرا باختياراتهم، وينتج عن هذا أنك ترى اليوم في معظم أرجاء العالم الغربي أشد معارضي الاشتراكية وهم يستمدون معارفهم من مصادر اشتراكية في معظم المجالات التي لا يمتلكون فيها معلومات أصيلة. إن العديد من المبادئ العامة للفكر الاشتراكي لا تبدو بالوضوح الفوري ذاته عندما تكون على صورة مقترحات عملية، ونتيجة لذلك تجد العديد ممن يرون في أنفسهم معارضين صلبين للاشتراكية وقد تحولوا في الواقع إلى مروجين لأفكارها. ومن منا لم يصادف شخصا عمليا يشجب الاشتراكية في ميدان عمله باعتبارها «العفن الفتاك»، وعندما يتجاوز هذا الميدان تجده يثرثر عنها دون توقف كأي صحفي يساري؟!
لا يمكنك أن تجد ميدانا تحس فيه بقوة هيمنة تأثير المثقفين الاشتراكيين كما حصل في التلاقي ما بين الحضارات القومية المختلفة خلال السنوات المئة الماضية. وقد نخرج عن مجال بحثنا إذا رغبنا بتقصي أسباب وأهمية الحقيقة التي تطرح نفسها بقوة ومفادها أن المثقفين يكادون يطرحون في العالم الحديث الأسلوب الوحيد للتعامل مع المجتمع الدولي. إن هذا الأمر يفسر المشهد الغريب الذي يبدو فيه الغرب «الرأسمالي» وهو يقدم الدعم المادي والمعنوي لوحده تقريبا إلى الحركات الايديولوجية في دول شرق أوروبا والتي تهدف إلى تدمير الحضارة الغربية، وكذلك تجد في الوقت نفسه عموم الغربيين يستمدون معلوماتهم عن أحداث أوروبا الوسطى والشرقية بعد أن تتعرض حتما لتأثير الانحياز إلى الاشتراكية؛ وهنالك أمثلة معاصرة واضحة عن هذا الميل في العديد من الأنشطة «التثقيفية» للقوات الأمريكية في ألمانيا.
(4)
بعد ما أوردناه تتبين لنا الأهمية القصوى للحصول على فهم جيد للأسباب التي يبدو أنها تقف خلف ميل هذا العدد الكبير من المثقفين إلى الاشتراكية. وأول نقطة يلاحظها بوضوح أولئك الذين لا يتشاركون الميل الاشتراكي تتمثل في أن هؤلاء المثقفين لم يتحركوا نحو الاشتراكية بسبب مصالح أنانية أو نوايا شريرة، بل تندرج معظم دوافعهم في خانة المعتقدات المخلصة والنوايا الخيّرة التي تحدد آراءهم. وفي الحقيقة، من الضروري الاعتراف بشكل مجمل بأن المثقف النمطي في هذه الأيام يميل أكثر إلى أن يكون اشتراكيا كلما كانت تقوده النوايا الطيبة والذكاء، وإذا ناقشنا القضية من مستوى نقاش المثقف المجرد فإنه سيكون قادرا في العموم على صياغة حجج تخدم طروحاته بما يتفوق على مثيلاتها لدى أغلبية معارضيه الذين ينتمون إلى الطبقة نفسها (المثقفين). وإذا استمرت تخطئتنا لهذا المثقف، فينبغي علينا أن نعترف بأن هنالك خطأ جوهريا ربما أدى إلى توجيه أشخاص أذكياء ذوي نوايا حسنة وفي مواقع مهمة اجتماعيا إلى نشر أفكار تبدو لنا كخطر يتهدد حضارتنا.(2) ولا يمكن لأي شيء أن يكون أكثر أهمية من محاولة فهم مصدر هذا الخطأ كي نكون قادرين على مواجهته، ولكن الذين يُعتبرون ممثلي النظام القائم ويعتقدون بأنهم يستوعبون مخاطر الاشتراكية تجدهم دائما بعيدين جدا عن حيازة هذا الفهم؛ وإنما يميلون إلى اعتبار المثقفين الاشتراكيين مجرد حفنة خبيثة من المتشددين ذوي الاطلاع الكبير دون تقدير حجم نفوذهم، ويتجهون إلى دفعهم أكثر في صفوف معارضة النظام القائم بسبب موقفهم هذا.
2.ولهذا السبب رأى البروفيسور شومبيتر في عرضه لكتابي (الطريق إلى العبودية) أن أهمية هذا الطرح هي التي دفعتني إلى أن أكاد لا أعزو لمن يعارضني غير (أخطاء المثقفين)، دون أن يكون ذلك ناتجا عن تأدبا مني تجاه هذه الأخطاء.(الكاتب)
إذا أردنا استيعاب هذا الانحياز الخاص بين جزء كبير من المثقفين ينبغي علينا أن نمتلك فهما واضحا لنقطتين اثنتين: الأولى هي أنهم يحكمون على كل القضايا التخصصية بشكل عام من منطلق منحصر بأفكار عامة ذات صبغة محددة، والثاني أن الأخطاء النمطية لكل عصر كثيرا ما تكون مشتقة من بعض الأفكار الأصيلة الجديدة التي تكتشف فيه، بالإضافة إلى تطبيقات خاطئة لتعميمات جديدة أثبتت قيمتها في مجالات أخرى. إن الاستنتاج الذي ينبغي أن نصل إليه بعد الاستيعاب الكامل لهذه القضايا يتمثل في أن تفنيد مثل هذه الأخطاء كثيرا ما يتطلب تقدما فكريا أكبر، وغالبا ما يكون هذا التقدم في نقاط شديدة التجريد وتبدو كثيرة البعد عن الشؤون العملية.
ربما تتمثل أهم المميزات الشخصية للمثقف في أنه يحكم على الأفكار الجديدة لا من خلال قيم محددة وإنما من خلال مدى استعداد هذه القيم للتلاؤم مع مقاسات مفاهيمه العامة، وذلك ضمن صورة للعالم الذي يعتبره حديثا أو متقدما. إن قوة أفكار الخير والشر تنمو لديه من خلال تأثيرها عليه وعلى ما يختاره من آراء في قضايا محددة وذلك بالتناسب مع ما بها من تعميم وتجريد وغموض. وبما أنه يعلم القليل عن كل قضية على حدة، فإن معاييره في التعامل معها سوف تنسجم مع آرائه الأخرى وملاءمتها للانضمام إلى صورة متكاملة عن العالم. ولكن هذا الاختيار الذي يرتئيه من بين مجموعة من الأفكار الجديدة التي تواجهه في كل لحظة من لحظات الحياة يخلق مناخا نمطيا من الآراء، أو ما يدعى بـ(الرؤية الشاملة) في كل حقبة زمنية، والتي تؤدي إلى توفير الأجواء التي تشجع على استقبال أفكار بعينها دون غيرها مما يجعل المثقف مستعدا لقبول استنتاج بعينه ورفض آخر دون أن يكون على فهم حقيقي للقضية المطروحة.
بالنظر إلى بعض الاعتبارات يكون المثقف في الواقع أقرب إلى الفيلسوف من أي اختصاص آخر، كما إن الفيلسوف يتبوأ منزلة الأمير بين المثقفين بأكثر من وجه، وعلى الرغم من أن تأثيره أبعد عن الشؤون الحياتية من المثقف العادي، وبالتالي فهو أبطأ منه وأصعب في العثور عليه وتمييزه من بين الآخرين، فإنهما يتشابهان على المدى البعيد وربما يكون تأثير الفيلسوف حينها أشد من تأثير المثقف. إنهما يخوضان الرحلة ذاتها، وإن كان أحدهما يستخدم منهجية بحثية أدق تجاه الحصول على التقييم المصطنع نفسه حول آراء معينة ما دام ذلك يتلاءم مع منظومة فكرية عامة، وليس قيما محددة يعتنقها، وذلك ضمن السعي نفسه نحو (رؤية شاملة) متماسكة تشكل لكليهما قاعدة أساسية لقبول الأفكار أو رفضها. ولهذا السبب تجد أن الفيلسوف قد يمتلك تأثيرا أكبر على المثقفين بالمقارنة مع أي عالم أو مختص آخر، وهو يقوم أكثر من أي شخص آخر بتحديد النمط الذي يمارس المثقفون من خلاله وظيفة الرقابة. ولا يمكن للتأثير الشعبي للمختص في أحد مجالات العلوم أن يبدأ بمنافسة تأثير الفيلسوف إلا حينما يتوقف هذا المختص عن كونه مختصا ويبدأ بالتفلسف حول تقدم مادة تخصصه، وفي العادة لا يكون ذلك إلا عندما يلتف حوله المثقفون لأسباب ليس لها إلا علاقة ضئيلة بمكانته العلمية.
إن «مناخ الآراء» في أية حقبة زمنية هو بالضرورة، بحسب ما سبق، مجموعة من التصورات المسبقة التي يستخدمها المثقف في تقييم أهمية الحقائق والآراء الجديدة. وهذه (التصورات المسبقة) هي في الأساس تطبيقات لما يبدو له من أهم جوانب الإنجازات العلمية، وهو الانتقال إلى مجالات أخرى تطال أعمال المختصين التي تركت فيه انطباعا خاصا. ويمكننا هنا أن نورد قائمة طويلة بالممارسات والعبارات الشائعة التي هيمنت على تفكير المثقفين طيلة جيلين أو ثلاثة؛ ويدخل في هذه القائمة: «المقاربة التاريخية»، ونظرية التطور، ونظرية الحتمية في القرن التاسع عشر، والإيمان بالتأثير المهيمن للبيئة مقابل تأثير الوراثة، ونظرية النسبية، والإيمان بقوة اللاوعي… كل واحد من هذه المفاهيم العامة أصبح حينها معيارا تقارن به الإبداعات الجديدة في مختلف المجالات. ويبدو هنا أن هذه الأفكار كلما كانت أقل تحديدا أو دقة (أو أقل فهما) زاد تأثيرها، وفي بعض الأحيان تجد تأثيرا كبيرا ينبع عن مجرد انطباع غامض، وبهذه الطريقة تأثرت عملية التطور السياسي تأثرا فادحا بفعل أفكار من أمثال: أن التحكم القصدي أو التنظيم الواعي يمكنه أن يتفوق في الشؤون الاجتماعية على نتائج العمليات التلقائية التي لا يوجهها العقل البشري، أو أن أي نظام يتأسس على خطة مرسومة مسبقا يجب أن يكون أفضل من أي نظام ينتج عن موازنة القوى المتضادة.
ليس هنالك إلا اختلاف شكلي في دور المثقف عندما يتعلق الأمر بعملية تطوير أفكار اجتماعية أكثر اكتمالا؛ فهنا تعبر ميولهم الخاصة بهم عن نفسها في التشدق بعبارات إلهائية، وعقلنة طموحات معينة تنشأ من التصرفات البشرية الطبيعية وإيصالها إلى حالة متطرفة. وبما أن الديمقراطية أمر جيد، فكلما أمكن الدفع بعجلة المبدأ الديمقراطي كلما كان ذلك أفضل في نظرهم. إن أقوى هذه الأفكار العامة التي طبعت التطورات السياسية المعاصرة بطابعها الخاص هي دون شك فكرة السعي إلى المساواة المادية، وهي فكرة تتميز بأنها ليست من المعتقدات الأخلاقية التي نمت تلقائيا بعد تطبيقها أولا على العلاقات التي تربط أفرادا بعينهم، ولكنها بنية فكرية نشأت من مفاهيم مجردة ويشوبها الغموض من ناحيتي معناها وأمثلة تطبيقها في حالات خاصة؛ ومع ذلك تجدها اليوم وقد فعلت فعلها بقوة على أساس أنها مبدأ تم اختياره من بين عدة مناهج بديلة في السياسة الاجتماعية، لتمارس ضغطا مستمرا تجاه ترتيب الشؤون الاجتماعية على نحو لا يمتلك أحد رؤية واضحة له. وإذا كان هنالك إجراء يبدي علامات تحقيق قدر أكبر من المساواة فهذا يعني أنه يتبوأ منزلة التوصية الأولى التي لا يكاد يلقى لغيرها أي بال. وبما أن كل القضايا أصبح ينظر إليها من هذا الجانب من قبل القائمين على توجيه الرأي العام، تمكنت فكرة المساواة من تحديد مسار التغيير الاجتماعي، حتى أنها بلغت من القوة في ذلك حدا تجاوز ما خطط له الداعون إليها.
إن القيم الأخلاقية ليست وحدها في التصرف وفق هذا المسلك؛ إذ نجد أحيانا أن مواقف المثقفين تجاه مشاكل النظام الاجتماعي تتولد من الاكتشافات العلمية الجديدة لوحدها، وفي هذا الحال يكون للآراء الخاطئة في قضايا وأوقات معينة ما يبدو أنه المكانة المرموقة للإنجازات العلمية الأخيرة التي سبقتها. وليس من المدهش في حد ذاته أن نجد إنجازا علميا أصيلا قد تحول بهذه الطريقة إلى مصدر يتولد منه خطأ جديد. وإذا لم تتولد استنتاجات خاطئة من تعميمات جديدة فعندها تكون حقائق نهائية لا تحتاج لأي مراجعة أبدا. وعلى الرغم من أن القاعدة تقول بأن أمثال هذه التعميمات الجديدة سوف تكتفي بتقاسم العواقب الخاطئة التي يمكن أن تتولد منها مع الآراء التي كان يعتقد بها سابقا، وهكذا فإنها لا تؤدي إلى خطأ جديد، فمن المحتمل بشدة أن تقوم النظرية الجديدة، وبنفس الطريقة التي تتضح فيها قيمتها بما تقدمه من استنتاجات جديدة مقبولة، بإنتاج استنتاجات منطقية أخرى تؤدي الإنجازات العلمية التالية إلى كشف بطلانها، ولكن هذا الحال سيكشف عن وجود معتقد خاطئ يظهر مترافقا مع المكانة المرموقة للمعرفة العلمية الأخيرة التي تدعمه، حتى وإن كان المجال التخصصي الذي يستند إليه هذا المعتقد متناقضا معه، فهو يظهر كرأي ليس له مثيل في توافقه مع روح العصر إذا خضع لتقييم محكمة المثقفين والأفكار التي تتحكم بتفكيرهم. وهكذا فإن الخبراء الذين سيفوزون بالشعبية بين الناس والتأثير الواسع عليهم لن يكونوا ممن يحوز على اعتراف أقرانهم بمكانتهم هذه، وإنما سيظلون دائما من الذين ينعتهم الخبراء بصفات من قبيل: غريبي الأطوار أو الهواة أو المزيفين، ولكنهم سيصبحون في أعين الناس أفضل الخبراء في مجالاتهم.
يمكن أن يكون هنالك بشكل خاص قليل من الشك حول ما إذا كانت الطريقة التي تعلم الإنسان استخدامها خلال السنوات المئة الماضية لتنظيم قوى الطبيعة قد أسهمت بشكل كبير في نشوء اعتقاد مفاده أن مثل هذه السيطرة في مجال القوى الاجتماعية يمكنها أن تؤدي إلى إدخال تحسينات مشابهة على حياة الإنسان؛ وإذا أضفنا إلى ذلك تطبيق تقنيات الهندسة، فسيكون من المفترض وفق هذا الطرح أن يؤدي توجيه كافة أوجه النشاط البشري وفق خطة متماسكة واحدة إلى تحقيق النجاح في المجتمع بمثل ما يكون عليه النجاح الذي يحققه ما لا يحصى من المشاريع الهندسية، وهو استنتاج شديد الخداع يستدرج أولئك الذين تبهرهم إنجازات العلوم الطبيعية. هنا يجب علينا أن نعترف بأمرين اثنين: أن مواجهة الافتراض القوي الذي يدعم هذا الاستنتاج تحتاج إلى حجج متينة، وأن هذه الحجج لم يتم التعبير عنها حتى اليوم بما يكفي، إذ لا يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى عيوب طرح معين بالاستناد على هذا النوع من المحاججة العقلية، فالحجة لن تخسر قوتها حتى يكون هنالك عرض حاسم للأسباب التي تجعل ما شهد الواقع بنجاحه المؤزر في إنتاج الإنجازات أمرا يتطلب وضع حدود لنفعه في كثير من المجالات، ويفرز ضررا واقعا إذا ما تعدى هذه الحدود. إن هذه مهمة لم تُنجَز حتى الآن بالشكل الكافي، وسيكون من اللازم إنجازها قبل أن تخمد الحركة الحالية المناوئة للاشتراكية.
إن ما طرحته لا يمثل دون شك غير مثال واحد من أمثلة كثيرة عن الحاجة إلى تقدم فكري إذا ما رغبنا في دحض الأفكار الضارة التي تبرز في يومنا هذا، وهي تبين لنا أن البداية المثلى لمهمتنا تكمن في مناقشة قضايا شديدة التجريد. ولا يكفي لمن تهمه شؤون الساعة أن يكون واثقا، وذلك بفضل معرفته الصميمية بمجال معين، بأن الزمن كفيل بإثبات عدم جدوى نظريات الاشتراكية المشتقة من أفكار أكثر تعميما؛ فقد يكون محقا تماما في ذلك، ولكن مقاومته سوف تطغى عليها التحديات وستحدث كافة العواقب السيئة التي تنبأ بحدوثها إذا لم يكن مدعوما بحجج متينة لدحض (الأفكار الأم)، وما دام المثقف قادرا على هزيمة الحجج العامة، فإن أمتن الاعتراضات التي يواجهها في قضية معينة لن تجد من يلقي لها أي بال.
(5)
إن ما طرحناه في ما سبق لا يستوفي كافة مناحي القضية موضوع البحث؛ فالقوى التي تؤثر على عملية تحشيد الناس للانضمام إلى صفوف المثقفين تعمل على النحو ذاته في توضيح سبب ميل هذا العدد الكبير من البارزين فيهم إلى الاشتراكية. ولا شك في أن هنالك الكثير من الاختلاف في الرأي بين المثقفين بالقدر ذاته الذي يوجد في الفئات الأخرى من الناس، ولكن يبدو من الصواب أن نقول إجمالا بأن أكثر المثقفين نشاطا وذكاء وأصالة هم الأكثر ميلا إلى الاشتراكية، أما أعداؤها فيغلب عليهم انتماؤهم إلى منزلة أدنى، وهذا يصح بالأخص خلال المراحل الأولى من تغلغل الأفكار الاشتراكية، أما في ما بعد فعلى الرغم من أن المرء خارج حلقات المثقفين قد يحتاج إلى الشجاعة ليجهر بمعتقداته الاشتراكية، فإن التأثير الضاغط لآراء المثقفين المؤيدة للاشتراكية يصل في الغالب إلى حد من الشدة يجعل المرء بحاجة إلى قدر أكبر من القوة والاستقلالية ليعارض هذه الآراء ولا ينضم إلى ما يعتبره زملاؤه آراء حديثة. وعلى سبيل المثال، لا يمكن لأحد من الملمين بالعدد الكبير من الكليات في الجامعات (بهذا الاعتبار ربما ينبغي علينا أن نصنف الأساتذة الجامعيين كمثقفين لا كخبراء) أن يتجاهل حقيقة مفادها أن أكثر الأساتذة ذكاء ونجاحا في يومنا هذا هم من الاشتراكيين، أما من يعتنقون آراء سياسية أكثر محافظية فيغلب عليهم تواضع المستوى؛ وهذه الظاهرة تكفي لوحدها في قيادة الجيل الشاب إلى معسكر الاشتراكية.
لا شك في أن الإرادة الاشتراكية لا ترى في هذا إلا دليلا على أنه كلما زاد الإنسان ذكاء في يومنا هذا كلما ازداد ارتباطه بالاشتراكية، ولكن هذا الطرح لا يرقى إلى أن يقدم قاعدة راسخة أو شرحا ممكنا؛ فالسبب الرئيسي الذي يكمن خلف هذه الظاهرة قد يتمثل في وجود العديد من الطرق المتاحة للوصول إلى النفوذ والسلطة أمام الشخص القادر استثنائيا على تقبل النظام الاجتماعي الراهن، أما المتذمر والساخط فتمثل له مكانة المثقف الطريق الأمثل للوصول إلى النفوذ والقوة اللذين يساهمان في تحقيق أهدافه العليا. وعلاوة على ذلك: فإن من يكون أكثر محافظية ويتمتع بقدرات متميزة يقوم على الأعم باختيار عمل فكري (وما يستتبع ذلك من تضحية بالعوائد المادية) لمجرد ما به من متعة في حد ذاته، ومن شأن ذلك أن يجعل منه عالما خبيرا وليس مثقفا (بالمعنى الخاص لهذه الكلمة)؛ أما ذوو العقول المتشددة فيغلب عليهم تبوؤهم لمنزلة المثقف باعتبارها وسيلة لا غاية، وطريقا يوصلهم إلى النفوذ الواسع نفسه الذي يتمتع به المثقف المحترف. وهنا قد تكون الحقيقة كما يلي: ليس أغلب الأذكياء هم من الاشتراكيين على الأعم، وإنما توجد نسبة كبيرة من الاشتراكيين ضمن الأذكياء ممن يحشدون جهودهم لمسعى فكري يمنحهم في المجتمع الحديث نفوذا ذا تأثير حاسم على الراي العام.(3)
3.يتصل بهذا الشأن ظاهرة مألوفة أخرى: فليس من المعقول أن نصدق بندرة وجود قدرة فكرية ممتازة لإنتاج أعمال أصيلة لدى غير اليهود مقارنة باليهود؛ بينما لا يوجد شك في أن اليهود يشكلون في كل مكان نسبة لا تضاهى من المثقفين بحسب المعنى الذي أوردناه، أي في منزلة المفسر المحترف للأفكار، وقد يكون ذلك من مواهبهم المميزة، وبالأخص في الدول التي تضع عراقيل تمييزية تمنع مساهمتهم في المجالات الأخرى؛ ومن المرجح أن نسبتهم الكبيرة في صفوف المثقفين ساهمت أكثر من أي سبب آخر في استعدادهم أكثر من غيرهم لتقبل الأفكار الاشتراكية.(الكاتب)
إن اتخاذ القرار بالانضمام إلى المثقفين يرتبط ارتباطا وثيقا بالمصلحة الغالبة التي يظهرونها إزاء الأفكار العامة والمجردة؛ فالأفكار التي تدور حول إمكانية إعادة بناء المجتمع بشكل كامل تقدم للمثقف غذاء يستهويه أكثر من الاعتبارات العملية قصيرة المدى التي يحملها أولئك الذين يسعون إلى تحسين النظام القائم بصورة تدريجية. وبالأخص، تدين الاشتراكية بالفضل في اجتذابها للشباب إلى طابعها الحالم، ومجرد شجاعتها في الانغماس في الفكر الطوباوي يكون بهذا الاعتبار مصدر قوة للاشتراكية تفتقر إليه الليبرالية التقليدية، وهو اختلاف يصب في مصلحة الاشتراكية، وذلك ليس لأن التفكر في المبادئ العامة يوفر فرصة يسرح فيها خيال أولئك الذين لا تنشغل أذهانهم بكثير من معارف الحياة المعاصرة فحسب، وإنما يعود ذلك أيضا إلى أن هذا التفكر يرضي رغبة مشروعة بفهم الأساس العقلاني لأي نظام اجتماعي ويفتح مجالا لممارسة هذه الغريزة البناءة التي لم تدع لها الليبرالية إلا متنفسا ضيقا بعد أن حققت انتصاراتها الكبيرة. وهذه النزعة تجعل المثقف غير عابئ بالتفاصيل التقنية أو الصعوبات العملية، فما يجذبه هو الصورة الكبيرة والاستيعاب الزائف للنظام الاجتماعي ككل وفق ما تعده به المنظومات المخطط لها مسبقا.
إن الحقيقة القائلة بأن أذواق المثقفين أكثر تقبلا لطروحات الاشتراكيين أدت إلى ضرر فتاك على نفوذ الأفكار الليبرالية؛ فعندما ظهر بأن المطالب الأساسية للبرامج الليبرالية قد تمت تلبيتها، توجه المفكرون الليبراليون إلى معالجة مشكلات تفصيلية ونزعوا إلى إهمال تطوير الفلسفة العامة لليبرالية، والتي توقفت بسبب ذلك عن أن تكون قضية حية تقدم مجالا للتنظير العام، وهكذا ظل الاشتراكيون طيلة أكثر من نصف قرن وهم يقدمون لوحدهم ما يشبه برنامجا واضحا للتطور الاجتماعي، وصورة لمجتمع المستقبل الذي يهدفون إليه، ومجموعة من المبادئ العامة التي تقود القرار في مسائل معينة. ولو صح زعمي فإن ما تعانيه مثلهم العليا من تناقضات جوهرية، وفشل أي محاولة لتطبيقها على أرض الواقع في الخروج بنتيجة لا تختلف عن توقعاتهم، لا يغير من حقيقة مفادها أن برنامجهم للتغيير هو البرنامج الوحيد الذي أثر بحق على تطور المؤسسات الاجتماعية. فبما أنهم كانوا من قدم الفلسفة العامة الواضحة الوحيدة للسياسة الاجتماعية التي تعتنقها جماعة كبيرة، والمنظومة أو النظرية الوحيدة التي تسلط الضوء على مشكلات جديدة وتفتح آفاقا جديدة، تمكنوا من النجاح في إلهام مخيلة المثقفين.
إن التقدم الحقيقي للمجتمع خلال تلك الحقبة لم يتقرر على أساس معركة بين القيم العليا المتضاربة، وإنما بالتضاد بين واقع معاش ومثل أعلى يسعى إلى مجتمع مستقبلي احتمالي لا يقدمه للناس غير الاشتراكيين، ولم يكن هنالك إلا القليل جدا من البرامج الأخرى التي قدمت نفسها كبدائل فريدة من نوعها، ذلك أن معظمها لم يكن غير تسويات أو خلائط متناقضة تجمع بين النظام الراهن وأشد حالات الاشتراكية تطرفا. ولم يكن يلزم لإظهار أي طرح اشتراكي بمظهر معقول أمام تلك العقول «الحصيفة» المقتنعة بطبعها بأن الحقيقة يجب أن تكون دائما في الوسط بين الطرفين، غير النصح باتباع طرح أكثر تطرفا. وبدا كما لو أن هنالك جهة واحدة يمكن المضي فيها، وسؤالا واحدا قابلا للطرح، وهو: ما هي سرعة هذه الحركة وإلى أين يمكنها أن تتمادى؟
(6)
يمكن توضيح أهمية ما يمنحه الطابع الاستشرافي للاشتراكية من جاذبية خاصة لها في نظر المثقفين إذا تمكنا من الاستغراق أكثر في مقارنة موقع المنظر الاشتراكي مع ندّه الذي يكون ليبراليا وفق المعنى القديم لمصطلح الليبرالية. وتفيدنا هذه المقارنة أيضا بالحصول على ما يمكن من الدروس التي يحصل عليها من يقوم بتقييم كاف للقوى الفكرية التي تدمر أسس أي مجتمع حر.
وثمة تناقض كبير في أن نرى أحد المعوقات التي تحرم المفكر الليبرالي من النفوذ الشعبي وهو يتصل اتصالا وثيقا مع حقيقة مفادها أن بعده عن الاشتراكية يعطيه فرصة أكبر للتأثير المباشر على قرارات السياسة الراهنة، وبالتالي فهو لا يكون منجذبا فحسب نحو الاستشراف بعيد المدى الذي يمثل مصدر قوة الاشتراكيين، وإنما لا يتشجع لسلوك هذا الدرب الذي يؤدي في العادة إلى تقليص مجال النفع المباشر الذي يمكنه القيام به. إن القوة التي يمتلكها للتأثير على القرارات العملية تتعلق بموقعه ضمن ممثلي النظام القائم، وهذا الموقع يتعرض للخطر إذا كرس جهده للاستشرافات التي تجتذب المثقفين ويمكنه من خلالها أن يتسبب بتطورات في مدد زمنية طويلة. ولكي يستطيع التأثير على القوى الموجودة يجب عليه أن يكون «عمليا» و»عقلانيا» و»واقعيا»؛ فما دام منخرطا بالقضايا الراهنة يمنحه ذلك النفوذ والنجاح المادي والشعبية مع الذين الذي يتشاطرون معه نظرته العامة نوعا ما؛ لكن هؤلاء ليس لديهم إلا القليل من الاحترام للاستشرافات حول المبادئ العامة التي تشكل المناخ الفكري؛ وفي الواقع، إذا أقدم المفكر على الانخراط بجدية في الاستشرافات بعيدة المدى فسيجعله ذلك ميالا إلى اكتساب صيت «فقدان متانة الرؤية» أو أنه شبه اشتراكي، وذلك لأنه غير عازم على ربط النظام الراهن بالمنظومة الحرة التي يسعى إليها.(4)
4.أكثر الأمثلة الراهنة وضوحا عن مثل هذه الإدانة لكتاب ليبرالي نوعا ما بوصمه بالاشتراكية يمكن العثور عليها في بعض التعليقات التي طالت كتاب (السياسة الاقتصادية في مجتمع حر) الذي صدر عام 1948 للكاتب الراحل هنري سيمون. إذ قد لا يتفق القارئ مع الكتاب بالمجمل وربما يعتبر بعض اقتراحاته لا تتوافق مع المجتمع الحر، ولكنه لا بد أن يعترف بأنه من أهم المساهمات الحديثة في موضوعنا وأنه الكتاب الذي نحتاجه تماما لبدء النقاش حول القضايا الرئيسية. وحتى هؤلاء الذي يختلفون بقوة مع بعض طروحاته يجب عليهم أن يستقبلوه كمساهمة تطرح المشكلات المركزية في وقتنا الراهن بوضوح وشجاعة.(الكاتب)
وإذا استمرت جهود المفكر في اتجاه الاستشرافات العامة بالرغم من كل ما أسلفناه، فسيكتشف عاجلا وجود مخاطرة في الارتباط الوثيق جدا بمن يبدو عليهم أنهم يتشاطرون معتقداته، مما يلقيه سريعا في هاوية الانعزال. وفي الواقع لا يمكن أن يوجد الكثير من المهمات التي لا تلاقي التقدير المناسب كما يحصل مع المهمة الضرورية التي تتمثل في تهيئة الأساس الفلسفي الذي يجب أن يبنى عليه تطور أي مجتمع حر. وبما أن من يضع على عاتقه تنفيذ هذه المهمة يتوجب عليه أن يتقبل كثيرا من جوانب الإطار العام للنظام القائم، فإنه سيبدو بذلك أمام الكثيرين من المثقفين الأكثر ميلا إلى الاستشراف وكأنه مجرد تبريري جبان يلتمس الأعذار لبقاء الأمور كما هي؛ وسيتعرض في الوقت نفسه للطرد من القائمين على الأمور لاعتباره منظّرا غير عملي؛ فهو ليس ثوريا بما يكفي لإرضاء أذواق من يفهمون العالم على أساس أن «الأفكار المختلفة يمكنها أن تتعايش بسلام»، ولأنه ثوري جدا في أعين من لا يرون سوى «الصراع العنيف للأشياء في الحيز الواحد». فإذا استغل الدعم الذي يمكنه الحصول عليه من القائمين على الأمور فسيجعله ذلك دون مصداقية أمام الذين يعتمد عليهم لنشر أفكاره؛ وفي الوقت نفسه سيحتاج إلى الحذر الشدبد كي يتفادى كل ما يجعله مثالا للغلو أو المبالغة. وبينما لا يوجد بين المنظرين الاشتراكيين من تسبب بفقدان مصداقيته بين زملائه ولو تفوه بأتفه الطروحات، فإن الليبرالي (من النمط القديم) سيتعرض للعار والبوار إذا قدم اقتراحا غير قابل للتطبيق. ولكنه إذا امتنع عن هذه المحظورات فسيظل أمام المثقفين في منزلة من لا يمتلك ما يكفي من القدرة على الاستشراف أو المغامرة، وسينظرون إلى ما يقترحه من تغيير أو تحسين للبنية الاجتماعية على أنها محدودة بالمقارنة مع ما يمكن أن يتولد عن مخيلتهم الأقل قيودا.
إن البرنامج الليبرالي ليس له أن يتمتع بجاذبية الاختراع الجديد ما لم يكن، على الأقل، ضمن مجتمع توفرت فيه المتطلبات الأساسية للحرية وأصبحت فيه التحسينات الإضافية أمرا يبعث على الاهتمام بنقاط لها قدر مشابه من التفاصيل. إن إدراك قيمة هذه التحسينات التي يجب أن يقدمها هذا البرنامج يتطلب معرفة بآليات عمل المجتمع القائم أكثر مما يمتلكه المثقف العادي. كما إن مناقشة هذه التحسينات ينبغي أن تجري في مستوى أكثر واقعية مما هو موجود في البرامج الأكثر ثورية، مما ينتج خليطا لا يجذب المثقف إلا قليلا ويميل إلى استحضار عناصر يشعر تجاهها بالضدية المباشرة. إن أكثر الناس اطلاعا على آليات عمل المجتمع الراهن يكون مهتما في العادة بالمحافظة على مزايا معينة للمجتمع ربما لا يمكن الدفاع عنها ضمن إطار المبادئ العامة؛ فبخلاف من يسعى إلى نظام مستقبلي جديد تماما ويرجع إلى المنظّر بشكل طبيعي طلبا للتوجيه، يفكر من يعتقد بالنظام القائم عادة بأنه يفهم هذا النظام على نحو أفضل بكثير من أي منظّر، ويميل بالتالي إلى رفض ما يعتبره تنظيريا أو غير مألوف بحسب رأيه.
إن صعوبة العثور على دعم أصيل وموضوعي لسياسة منهجية للحرية ليست بالأمر الجديد. فقد كتب اللورد اكتون منذ أمد بعيد فقرة تذكرني دائما بالكيفية التي تم بها استقبال أحد الكتب التي ألفتها، حيث قال:
لقد كان أصدقاء الحرية المخلصون من الأمور النادرة في جميع العصور، وما حققَتْه الحرية من انتصارات كان بفضل أقليات انتصرت بتضافر جهودها مع عناصر مساعدة اختلفت أهدافها عن أهدافهم؛ وهذا التضافر، وهو خطير دائما، كانت له نتائج مدمرة أحيانا، وذلك من خلال منح الأعداء أرضية عادلة يمارسون عليها معارضتهم…(5)
5.اللورد اكتون: تاريخ الحرية (لندن، 1922).
وفي عصر أحدث اشتكى بالطريقة ذاتها أحد الاقتصاديين الأمريكيين المرموقين من أن المهمة الأساسية لمن يؤمن بالمبادئ الأساسية للنظام الرأسمالي كثيرا ما تتمثل في الدفاع عن هذا النظام ضد الرأسماليين؛ وهذه حقيقة كان يعلمها الاقتصاديون الليبراليون العظام من آدم سميث حتى وقتنا هذا.
إن العقبة الأكثر خطرا التي تفصل الشخص العملي الذي يحمل راية الحرية في قلبه بأصالة عن هذه القوى التي تقوم في مجال الأفكار بتقرير مسار التطور تتمثل في ما يحمله من ارتياب عميق تجاه الاستشراف التنظيري وميله إلى التشدد؛ وهذا، أكثر من غيره، يخلق حاجزا لا يمكن اختراقه بينه وبين المثقف الذي يكرس نفسه للهدف ذاته، ويكون العون الذي يقدمه أمرا لا يستغنى عنه إذا كان يؤمل للمسعى أن ينتصر. وبالرغم من أن هذا الميل قد يكون طبيعيا عند من يدافع عن نظام ما لأنه أثبت رجاحته بالممارسة، وعند من يبدو لهم تبريره الفكري غير ممكن ماديا، فإنه عنصر فتاك يكبح استمرارية النظام لأنه يجرده من الدعم الذي يحتاجه. إن التشدد بكافة أنواعه، وأي تظاهر بأن أي منظومة أفكار هي نهائية وينبغي قبولها بالمجمل، هو الرأي الذي يتعارض حتما مع كل المثقفين مهما كانت آراؤهم حول القضايا المطروحة. إن أي نظام يقيّم الناس من خلال إتمامهم عملية التلاؤم مع مجموعة ثابتة من الآراء، ومن خلال «متانة» موقفهم أو مدى إمكانية الاعتماد عليهم للتمسك بكافة نقاط الرؤى التي يوافق عليها، يجرد نفسه من الدعم الذي لا يمكن أن تتخلى عنه أي مجموعة من الأفكار إذا أرادت استمرار تأثيرها في المجتمع الحديث. إن إمكانية انتقاد الرؤى المقبولة، واستكشاف آفاق جديدة، وتجربة مفاهيم جديدة، تخلق جوا لا يمكن للمثقف أن يتنفس بدونه؛ وإذا كان المسعى لا تتوفر فيه مثل هذه الصفات فلا يمكنه أن يحصل على دعم المثقف ويبوء بالخسران في أي مجتمع يعتمد على خدماته كما هو حال مجتمعاتنا.
(7)
ربما يكون من طبيعة المجتمع الحر كما نعرفه أنه يحمل قوى تدميره بنفسه، ذلك أن الحرية ما أن تتحقق حتى يتوقف الإحساس بقيمتها حتما، وأن نمو الأفكار التي تشكل جوهر المجتمع الحر يحمل معه انهدام الأسس التي يعتمد عليها. ويكاد لا يكون هنالك شك في أن بعض الدول من أمثال الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت فيها قيمة الحرية ذات جاذبية أقل في أذهان الشباب بالمقارنة مع الدول التي تعلمت معنى خسارة الحرية. ومن جهة أخرى، هنالك مؤشرات كثيرة في ألمانيا وغيرها على أن الشباب الذي لم يعرف العيش ضمن مجتمع حر يرى مهمة بناء المجتمع الحر ذات متعة وإبهار كما في أي مخطط اشتراكي ظهر خلال السنوات المئة الماضية. وهنالك حقيقة غير طبيعية لاحظها الكثير ممن زاروا ألمانيا، حيث أن الحديث مع الطلبة الألمان حول مبادئ المجتمع الحر تثير قدرا أكبر من الاستجابة والحماس بالمقارنة مع ما يأمل المرء أن يلاقيه في أي دولة أخرى من الدول الديمقراطية الغربية. وكذلك يمكننا أن نلاحظ في بريطانيا ظهور حالة من الاهتمام في صفوف الشباب بمبادئ الليبرالية الحقيقية، وهو ما لم يكن موجودا قبل سنوات قليلة.
هل يعني هذا بأن الشعور بقيمة الحرية لا يكون إلا حين فقدانها، وأن كل دول العالم ينبغي أن تعايش مرحلة مظلمة في ظل الشمولية الاشتراكية قبل أن تتمكن قوى الحرية من امتلاك القوة مرة أخرى؟ ربما يكون ذلك صحيحا، ولكنني آمل أن لا يتوجب علينا ذلك. ولكن ما دام هؤلاء الذين يمتلكون ناصية القرار الشعبي خلال مدد زمنية طويلة مستمرين في انجذابهم إلى المثل العليا للاشتراكية، فإن ذلك المسار سيتكرر. أما إذا أردنا أن لا تتطور الأمور كذلك، فينبغي علينا أن نقدم برنامجا ليبراليا جديدا يجذب خيال الناس. يجب علينا أن نجعل عملية بناء المجتمع الحر مرة أخرى مغامرة فكرية وتصرفا شجاعا. إن ما ينقصنا هو يوتوبيا ليبرالية: برنامج لا يبدو كمجرد دفاع عن بقاء الأمور كما هي ولا كنوع مخفف من الاشتراكية، وإنما كتشدد ليبرالي حقيقي لا يحتوي نقاط ضعف البنى الكبرى (بما فيها النقابات)، وليس عمليا بإفراط، ولا يحصر جهوده في ما يعتبر اليوم ممكنا من الناحية السياسية. إننا بحاجة إلى قادة ذوي فكر واستعداد لمقاومة إغراءات السلطة والنفوذ، وعازمين على العمل في سبيل مثل عليا مهما تضاءلت إمكانية تحقيقها في أولى مراحلها. إن هؤلاء القادة ينبغي أن يتحلوا بالالتزام بالمبادئ والنضال في سبيل تحقيقها بشكل كامل مهما كان ذلك بعيد المنال، أما التسويات العملية فهي مهمة ينبغي أن يتركوها إلى السياسيين. إن التجارة الحرة وحرية اقتناص الفرص هي قيم عليا ربما لا تزال حية في أذهان الكثيرين، ولكن مجرد «قدر معقول من حرية التجارة» أو مجرد «تخفيف القيود» ليس من الأمور المقبولة فكريا كما إنها قد لا تؤدي إلى إثارة أية حماسة.
إن الدرس الأساسي الذي يجب على الليبرالي الحقيقي أن يتعلمه من نجاح الاشتراكيين يتمثل في أن شجاعتهم في أن يكونوا طوباويين هي التي منحتهم دعم المثقفين، وتمكنوا بالتالي من التأثير على الرأي العام اليومي فأصبح من الممكن إنجاز ما كان يعتبر في الأمس القريب أمرا بعيدا تماما عن إمكانية الإنجاز. أما من حصروا اهتمامهم مع ما بدا ممكنا إنجازه في الحالة الراهنة للرأي العام فقد دأبوا على اكتشاف أن حتى هذا المجال يصبح سريعا من المستحيلات السياسية نتيجة لتغيرات الرأي العام الذي لم يقوموا بأي شيء لتوجيهه. إننا ما لم نجعل من الأسس الفلسفية للمجتمع الحر مسألة فكرية أكثر إلحاحا، وتطبيقها مهمة تتحدى عبقرية وخيال أمهر العقول فحينها ستبدو آفاق الحرية مظلمة، أما إذا تمكنا من استرجاع إيماننا بقوة الأفكار التي كانت علامة الليبرالية في أفضل مراحلها، فحينها لن نخسر المعركة. إن عملية الإحياء الفكري لليبرالية تجري الآن في عدد من أنحاء العالم، فهل ستكتمل في الوقت المناسب؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018